القبول يا رب - شباب الطريقة الختمية بدائرة ود ابراهيم بأم بدة

مجموعة مدائح ختمية.. شباب الطريقة الختمية بمسجد السيد علي الميرغني ببحري


غير مسجل أهلاً ومرحباً بكم

العودة   مُنتديات الختمية > الأقسام العامة > مكتبة الميرغني الإليكترونية
التسجيل التعليمات المجموعات التقويم مشاركات اليوم البحث

مكتبة الميرغني الإليكترونية خاصة بجميع مؤلفات السادة المراغنة

إهداءات ^^^ ترحيب ^^^ تهاني ^^^ تعازي ^^^ تعليقات ^^^ إعلانات

كتاب المنقذ من الضلال للامام الغزالى رضى الله عنه

مكتبة الميرغني الإليكترونية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-28-2013, 11:59 AM   #1
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب المنقذ من الضلال للامام الغزالى رضى الله عنه


أنا : حسن الخليفه احمد




- طُرُق الصُّوفِيَّة ثم إني ، لما فرغت من هذه العلوم ، أقبلت بهمتي علىطريق الصوفية وعلمت أنطريقتهم إنما تتم بعلم وعمل ؛ وكان حاصل علومهم قطع عقباتالنفس. والتنزه عن أخلاقهاالمذمومة وصفاتها الخبيثة ، حتى يتوصل ( بها ) إلى تخلية القلب عن غير الله ( تعالى ) وتحليته بذكر الله.
وكان العلم أيسر عليّ من العمل. فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعةكتبهم مثل: (( قوت القلوب )) لأبي طالب المكي ( رحمه الله ) وكتب (( الحارث المحاسبي )) ، والمتفرقات المأثورة عن ((الجنيد)) و (( الشبلي )) و (( أبي يزيد البسطامي )) [ قدس الله أرواحهم ] ، وغيرهم منالمشايخ ؛ حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية ، وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع. فظهر لي أن أخص خواصهم ، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكم من الفرق بين أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما ، وبين أن تكون صحيحاً وشبعان؟ وبين أن تعرف حد السكر ، وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر ، وبين أن تكون سكران! بل السكران لا يعرف حدّ السكر وعِلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء! والصَّاحي يعرف حدّ السُكر واركأنه ومَا معه من السكر شيء. والطبيب في حالة المرض يعرف حدّ الصحة وأسبابها وأدويتها ، وهو فاقد الصحة. فكذلك فرقٌ بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطهوأسبابه ، وبين أن تكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا!
فعلمت يقيناً أنهم أرباب الأحوال ، لا أصحاب الأقوال. وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته ، ولم يبقَ إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم ، بل بالذوق والسلوك. وكان ( قد ) حصل معي - من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها ، في التفتيش عن صنفي العلومالشرعية والعقلية- إيمانٌ يقينيٌ بالله تعالى ، وبالنبُوّة وباليوم الآخر.
فهذه الأصولالثلاثة من الإيمان كانت قد رسخت في نفسي ، لا بدليل معين محرر[92] بل بأسبابٍ وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلُها.
وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع ( لي ) في سعادةالآخرة إلا بالتقوى ،وكف النفس عن الهوى ، وأن رأس ذلك كله ، قطعُ علاقة القلب عنالدنيا بالتجافي عن دارالغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإقبال بكُنه الهمة على الله تعالى. وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال ، والهرب منالشواغل والعلائق.
ثم لاحظت أحوالي ؛ فإذا أنا منغمس في العلائق ، وقد أحدقت بي من الجوانب ؛ ولاحظت أعمالي – وأحسنها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبل علىعلوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة.
ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى ، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت ؛ فتيقنت أني على شفا جُرُف هار ، وأني قد أشفيتعلى النار ، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال.
فلم أزل أتفكر فيه مدة ، وأنا بعدُ على مقام الاختيار ، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً ، وأحل العزم يوماً ، وأقدم فيه رجلاً وأؤخر عنه أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة ، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيفترها عشية. فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام ، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل ، وبين يديك السفر الطويل ، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن [ هذه العلائق ] فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ، وينجزم العزم على الهرب والفرار.
ثم يعود الشيطان ويقول: (( هذه حال عارضة ، إياك أن تطاوعها ، فأنها سريعة الزوال ؛ فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض ، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص ، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم ، ربما التفتت إليه نفسك ، ولا يتيسر لك المعاودة. ))
فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ، ودواعي الآخرة ، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان[93] وثمانين وأربع مائة. وفي هذا الشهر[94] جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار ، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس ، فكنت أجاهدنفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة [ إلي ] ، فكان لاينطق لساني بكلمة [ واحدة ] ولا أستطيعها البتة ، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب ، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب: فكان لا ينساغ لي ثريد ، ولاتنهضم ( لي ) لقمة ؛ وتعدى إلى ضعف القوى ، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: (( هذاأمر نزل بالقلب ، ومنه سرى إلى المزاج ، فلا سبيل إليه بالعلاج ، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم )).
ثم لما أحسست بعجزي ، وسقط بالكلية اختياري ، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له ، فأجابني الذي (( يجيب المضطر إذا دعاه )) ، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال (والأهل والولد والأصحاب) ، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبّر في نفسي سفر الشام حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي على المقام في الشام ؛ فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً. واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة ، إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون للإعراضعما كنت فيه سبب دينيّ ، إذ ظنواأن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين ، وكان ذلكمبلغهم من العلم.
ثم ارتبك الناس في الاستنباطات ، وظن من بعُد عن العراق ، أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة ؛ ( وأما من قرب من الولاة ) : كان يشاهد إلحاحهم في التعلق بي والانكباب عليَّ ، وإعراضي عنهم ، وعن الالتفات إلى قولهم ، فيقولون: (( هذا أمر سماوي ، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة أهل العلم )).
ففارقت بغداد ، وفرقت ما كان معي من المال ، ولم أدخر إلا قدر الكفاف ، وقوت الأطفال ، ترخصاً بأن مال العراق مرصد للمصالح ، ولكونه وقفاً على المسلمين. فلم أر في العالم مالاً يأخذه العالم لعياله أصلح منه.
ثم دخلت الشام ، وأقمت به قريباً من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة ؛ والرياضة والمجاهدة ، اشتغالاً بتزكية النفس ، وتهذيب الأخلاق ، وتصفية القلب لذكر الله ( تعالى ) ، كما كنت حصلته من كتب[95] الصوفية. فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق ، أصعد منارة المسجد طول النهار ، وأغلق بابها على نفسي.
ثم رحلت منها إلى بيت المقدس ، أدخل كل يوم الصخرة ، وأغلق بابها على نفسي.
ثم تحركت فيَّ داعية فريضة الحج ، والاستمداد من بركات مكة والمدينة. وزيارة رسول الله صلى اللهعليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله وسلامه عليه ؛ فسرت إلى الحجاز.
ثم جذبتني الهمم ، ودعوات الأطفال إلى الوطن ، فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوعإليه. فآثرت العزلة [ به ] أيضاً حرصاً على الخلوة ، وتصفية القلب للذكر.
وكانت حوادثالزمان ، ومهمات العيال ، وضرورات المعاش[96] ، تغير فيَّ وجه المراد ، وتشوش صفوة الخلوة. وكان لا يصفو [ لي ] الحال إلا في أقوات متفرقة. لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها ، فتدفعني عنها العوائق ، وأعود إليها.
ودمت على ذلك مقدار عشر سنين ؛ وانكشفتلي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها ، والقدر الذي أذكره لينتفع به: إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله ( تعالى ) خاصة ، وأن سيرتهم أحسن السير ، وطريقهم أصوب الطرق ، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جُمع عقل العقلاء ، وحكمة الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ، ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً. فإن جميع حركاتهم وسكناتهم ، في ظاهرهم وباطنهم ، مقتبسة من ( نور ) مشكاة النبوة ؛ وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.
وبالجملة ، فماذا يقول القائلون في طريقة ،طهارتها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله ( تعالى ) ، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة ، استغراق القلب بالكلية بذكر الله ، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟ وهذا آخرها بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها. وهي على التحقيق أول الطريقة ، وماقبل ذلك كالدهليز للسالك إليه.
ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات ( والمشاهدات ) ، حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة ، وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال ، إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق ، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه.
وعلى الجملة. ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول ، وطائفة الاتحاد ، وطائفة الوصول ، وكل ذلك خطأ. وقد بينا وجهالخطأ فيه في كتاب (( المقصد الأسنى )) ؛ بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول :
وكانما كان مما لستُ أذكره فظنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبرِ![97]
وبالجملة ، فمن لم يرزق منه شيئاً بالذوق ، فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم ، وكرامات الأولياء ، [ هي ] على التحقيق ، بدايات الأنبياء ، وكان ذلك أول حال رسول الله صلى اللهعليه وسلم ، حين أقبل إلى جبل (( حراء )) ، حيث كان يخلو فيه بربه ويتعبد ، حتى قالت العرب : (( إن محمداً عشق ربه!)).
وهذه حالة ، يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها. فمن لم يرزق الذوق ، فيتيقنها بالتجربة والتسامع ، إن أكثر معهم الصحبة ، حتى يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقيناً. ومن جالسهم ، استفاد منهم هذا الإيمان. فهم القوم لا يشقى جليسهم. ومن لم يرزق صحبتهم ، فليعلم إمكان ذلك يقيناً بشواهد البرهان ، على ما ذكرناه في كتاب (( عجائب القلب )) من كتب (( إحياء علوم الدين )).
والتحقيق بالبرهان علم ، وملابسة عين تلك الحالة ذوق ، والقبول من التسامع والتجربة بحسن الظن إيمان. فهذه ثلاث درجات :
(( يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجاتٍ )) (المجادلة: 58: 11)
ووراء هؤلاء قوم جهال ، هم المنكرون لأصل ذلك ، المتعجبون من هذا الكلام ، يستمعون ويسخرون ، ويقولون : العجب ! أنهم كيف يهذون ! وفهيم قال الله تعالى :
(( ومنهم من يستمع إليكَ حتى إذا خرجوا من عِندك قالوا للذين أُوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم )) ( فأصمهُم وأعمى أبصارهم ) (محمد : 47: 16)
ومما بان لي بالضرورة من ممارسة طريقتهم ، (( حقيقة النبوة وخاصيتها )). ولا بد من التنبيه[98] على أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها.

حَقيقَة النُبُوَّة: واضطِرار كَافةِ الخَلق إليهَا
اعلم: أن جوهر الإنسان في أصل الفطرة ، خلق خالياً ساذجاً لا خبر معه من عوالم الله ( تعالى )! والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى كما قال:
(( وما يعلم جنودُ ربك إلا هو )) (المدثر : 74: 31)
وإنما خبره من العوالم بواسطة الإدراك ، وكل إدراك من الإدراكات خلق ليطلع الإنسان به على عالم من الموجودات ، ونعني بالعوالم ، أجناس الموجودات.
فأول ما يخلق في الإنسانحاسة اللمس ، فيدرك بها أجناساً من الموجودات: كالحرارة ، والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، واللين والخشونة ، وغيرها. واللمس قاصر عن الألوان والأصوات قطعاً ، بل هي كالمعدوم في حق اللمس.
ثم تخلق له [ حاسة ] البصر ، فيدرك بها الألوان والأشكال ، وهو أوسع عوالم المحسوسات.
ثم ينفخ فيه السمع ، فيسمع الأصوات والنغمات.
ثم يخلق له الذوق. وكذلك إلى أن يجاوز عالم المحسوسات ، فيخلق فيهالتمييز ، وهو قريب من سبع سنين ، وهو طور آخر من أطوار وجوده : فيدرك فيه أموراً زائدة على ( عالم ) المحسوسات ، لا يوجد منها شيء في عالم الحس.
ثم يترقى إلىطورآخر ، فيخلق له العقل ، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات ، وأموراً لا توجد في الأطوار التي قبله.
ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل ، وأموراً أُخر ، العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراكالمعقولات وكعزل قوة الحس عن مدركات التمييز. وكما أن المميز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها ، فكذلك بعض العقلاء أبوا مدركات النبوة واستبعدوها ، وذلك عين الجهل : إذ لا مستند لهم إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه ، فيظن أنه غير موجود في نفسه. والأكمه ، لو لم يعلم بالتواتر والتسامع الألوان والأشكال وحكي له ذلك ابتداءً ، لم يفهمها ولم يقرّ بها. وقد قرب الله تعالى على خلقه بأن أعطاهم نموذجاً[99] من خاصية النبوة ، وهو النوم : إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب ، إما صريحاً وإما في كسوة مثال يكشف عنه التعبير. وهذا لو لم يجربه الإنسان من نفسه - وقيل له: (( إن من الناس من يسقطمغشياً عليه كالميت ، ويزول ( عنه ) إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب. )) – لأنكره ، وأقام البرهان على استحالته ، وقال: (( القوى الحساسة أسباب الإدراك ، فمن لا يدرك الأشياء مع وجودها وحضورها ، فبأن لا يدرك مع ركودها أولى وأحق.)) وهذا نوع قياس يكذبهالوجود والمشاهدة. فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي ، يحصل فيه عين يبصر بها أنواعاً من المعقولات ، والحواس معزولة عنها ، فالنبوة أيضاً عبارة عن طور يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها الغيب ، وأمور لا يدركها العقل.
والشك في النبوة ، إما أن يقع: في إمكأنها ، أو في وجودها ووقوعها ، أو في حصولها لشخص معين.
ودليل إمكأنها وجودها. ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل ، كعلم الطب والنجوم ؛ فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلهي وتوفيق من جهة الله ( تعالى ) ، ولا سبيل إليها بالتجربة. فمن الأحكام النجومية ما لا يقع إلا في كل ألف سنة مرة ، فكيف ينال ذلك بالتجربة ؟ وكذلك خواص الأدوية. فتبين بهذا البرهان أن في الإمكان وجود طريق لإدراك هذه الأمور التي لا يدركها العقل - وهو المراد بالنبوة - لا أن النبوة عبارة عنها فقط ، بل إدراك هذا الجنس الخارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة ، ولها خواص كثيرة سواها. وما ذكرنا ، فقطرة من بحرها ؛ إنما ذكرناها لأن معك أُنموذجاً منها ، وهو مدركاتك في النوم ؛ ومعك علوم من جنسها في الطب والنجوم ، وهي معجزات الأنبياء ( عليهم الصلاة والسلام ) ، ولا سبيل إليها للعقلاء ببضاعة العقل أصلاً.
وأما ما عدا هذا من خواص النبوة ، فإنما يدرك بالذوق ، من سلوك طريق التصوف ؛ لأن هذا إنما فهمته بأنموذج رزقته وهو النوم ، ولولاه لما صدقت به. فإن كان للنبي خاصة ليس لك منها أنموذج ، ولا تفهمها أصلاً ، فكيف تصدق بها ؟ وإنما التصديق بعد الفهم: وذلك الأنموذج يحصل في أوائل طريق التصوف فيحصل به نوع من الذوق بالقدر الحاصل ونوع من التصديق بما لم يحصل بالقياس ( إليه ). فهذه الخاصية الواحدة تكفيك للإيمان بأصل النبوة.
فإن وقع لك الشك في شخص معين ، أنه نبي أم لا ، فلا يحصل اليقين إلا بمعرفة أحواله ، إما بالمشاهدة ، أو بالتواتر والتسامع ؛ فإنك إذا عرفت الطب والفقه ، يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم ، وسماع أقوالهم ، وإن لم تشاهدهم ؛ ولا تعجز أيضاً عن معرفة كون الشافعي ( رحمه الله ) فقيهاً ، وكون جالينوس طبيباً ، معرفة بالحقيقة لا بالتقليد عن الغير ، [ بل ] بأن تتعلم شيئاً من الفقه والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما ، فيحصل لك علم ضروري بحالهما. فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار ، يحصل لك العلم الضروري بكونه صلى الله عليه وسلم على أعلى درجات النبوة ، وأعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب ، وكيف صدق صلى الله عليه وسلم في قوله:
(( من عمل بما علم ورثهُ الله علم ما لم يعلم ))[100]
وكيف صدق في قوله:
(( من أعان ظالماً سلطهُ الله عليهِ ))[101]
وكيف صدق في قوله:
(( من اصبح وهُمُومُهُ همٌّ واحدٌ كفاه الله ( تعالى ) هُمُومَ الدنيا والآخرةِ ))[102].
فإذا جربت ذلك في ألف وألفين وآلاف ، حصل لك علم ضروري لا تتمارى فيه.
فمن هذا الطريق اطلب اليقين بالنبوة ، لا من قلب العصا ثعباناً ، وشق القمر ، فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده ، ولم تنضم إليه القرائن الكثيرة الخارجة عن الحصر ، وربما ظننت أنه سحر وتخييل ، وأنهمن الله تعالى إضلال فأنه
(( يُضِلُّ من يَشَاءُ ويَهدي من يشاءُ )) (فاطر:8).
وترد عليك أسئلة المعجزات ، فإذا كان مستند إيمانك إلى كلام منظوم في وجه دلالة المعجزة ، فينجزم إيمانك بكلام مرتب في وجه الإشكال والشبهة عليها ، فليكن مثل هذه الخوارق إحدى الدلائل والقرائن في جملة نظرك ، حتى يحصل لك علم ضروري لا يمكنك ذكر مستنده على التعيين كالذي يخبره جماعة بخبر متواتر لا يمكنه أن يذكر أن اليقين مستفاد من قول واحد معين ، بل من حيث لا يدري ، ولا يخرج عن جملة ذلك ولا بتعيين الآحاد. فهذا هو الإيمان القوي العلمي.
وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد ، ولا يوجد إلا في طريق الصوفية.
فهذا القدر من حقيقة النبوة ، كاف في الغرض الذي أقصده الآن ، وسأذكر وجه الحاجة إليه.


سَبَب نشر العِلْم بعَدْ الإعرَاضِ عَنه

ثم إني ، لما واظبت على العزلة والخلوة قريباً من عشر سنين ، بان لي في أثناء ذلك على الضرورة من أسباب لا أحصيها ، مرة بالذوق ، ومرة بالعلم البرهاني ، ومرة بالقبول الإيماني : أن الإنسان خلق من بدن وقلب[103] - وأعني بالقلب حقيقة روحه التي هي محل معرفة الله ، دون اللحم والدم الذي يشارك فيه الميت والبهيمة - ، وأن البدن له صحة بها سعادته ومرض فيه هلاكه ؛ وأن القلب كذلك له صحة وسلامة ، ولا ينجو (( إلا من أتى الله بقلب سليم )) (الشعراء:89) ؛ وله مرض فيه هلاكه الأبدي الأخروي ، كما قال تعالى : (( في قلوبهم مرضٌ ))[104] (البقرة:10) وأن الجهل بالله سم مهلك ؛ وأن معصية الله ، بمتابعة الهوى ، داؤه الممرض ، وأن معرفة الله تعالى ترياقه المحيي ، وطاعته بمخالفة الهوى ، دواؤه الشافي ؛ وأنه لاسبيل إلى معالجتة بازالة مرضه وكسب صحته ، الا بأدوية ؛ كما لا سبيل إلى معالجة البدن إلا بذلك. وكما أن أدوية البدنتؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها ، لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل ، بل يجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها من الأنبياء ، الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص الأشياء ، فكذلك بان لي ، على الضرورة ، بأن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدرة من جهة الأنبياء ، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء ، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة ، لا ببضاعة العقل. وكما أن الأدوية تركب من ( أخلاط مختلفة ) النوعوالمقدار وبعضها ضعف البعض فيالوزن والمقدار ، فلا يخلو اختلاف مقاديرها عن سر هو من قبيل الخواص ، فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب ، مركبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار ، حتى أن السجود ضعف الركوع ، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار ؛ ولا يخلو عن سر من الاسرار ، هو من قبيل الخواص التي لا يطلع عليها الا بنور النبوة. ولقد تحامق وتجاهل جداً من أراد أن يستنبط ، بطريق العقل ، لها حكمة ، أو ظن أنها ذكرت على الاتفاق ، لا عن سر إلهي فيها ، يقتضيها بطريق الخاصية. وكما أن في الأدوية أصولاً هي أركأنها ، وزوائد هي متمماتها ، لكل واحد منها خصوص تأثير في أعمال أصولها ، كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آثار أركان العبادات.
وعلى الجملة : فالأنبياء عليهم السلام أطباء أمراض القلوب ، وإنما فائدة العقل وتصرفه أن عرّفنا ذلك وشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز[105] عن درك ما يدرك بعين النبوة ، وأخذ بأيدينا وسلمنا ( إليها ) تسليم العميان إلى القائدين ، وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباءالمشفقين. فإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عما بعد ذلك ، إلا عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه.
فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة ، في مدة الخلوة والعزلة.
ثم رأينا فتور الاعتقادات في أصل النبوة ، ثم في حقيقة النبوة ، ثم في العمل بما شرحته النبوة ، وتحققنا شيوع ذلك بين الخلق ؛ فنظرت إلى أسباب فتور الخلق ، وضعف إيمأنهم ، فإذا هي أربعة :
1 - سبب من الخائضين في علم الفلسفة ؛
2 - وسببمن الخائضين في طريق التصوف ؛
3 - وسبب من المنتسبين الى دعوى التعليم ؛
4- وسبب من معاملة الموسومين بالعلم فيما بين الناس.
فإني تتبعت مدةً آحاد الخلق ، أسألُ من أن يقصر منهم في متابعة الشرع ( واسأله ) عن شبهته وأبحث عن عقيدته وسره وقلت له: (( ما لك تقصر فيها فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا ، فهذه حماقة! فإنك لا تبيع الاثنين بواحد ، فكيف تبيع ما لا نهاية له بأيام معدودة؟ وإن كنت لا تؤمن ، فأنت كافر! فدبر نفسك في طلب الإيمان ، وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطناً ، وهو سبب جرأتك ظاهراً ، وإن كنت لا تصرح به تجملاً بالإيمان وتشرفاً بذكر الشرع ! )).
فقائل يقول: (( إن هذاأمر لو وجبت المحافظة عليه ، لكان العلماء أجدر بذلك ؛ وفلان من المشاهير بين الفضلاء لا يصلي ، وفلان يشرب الخمر ، وفلان يأكل أموال الأوقاف وأموال اليتامى ، وفلان يأكل إدرار السلطان ولا يحترز عن الحرام ، وفلان يأخذ الرشوة على القضاءوالشهادة ! وهلم جراً إلى أمثاله. ))
وقائل ثان: يدعي ( علم ) التصوف ، ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقّى عن الحاجة إلى العبادة!.
وقائل ثالث: يتعللبشبهة أخرى من شبهات أهل الإباحة!
وهؤلاء هم الذين ضلوا عن التصوف.
وقائل رابع لقي أهل التعليم فيقول: (( الحق مشكل ، والطريق إليه متعسر[106] ، والاختلاف فيه كثير ، وليس بعض المذاهبأولى من بعض ، وأدلة العقول متعارضة ، فلا ثقة برأي أهل الرأي ، والداعي إلى التعليم متحكم لا حجة له ، فكيف أدع اليقين بالشك ؟ )).
وقائل خامس يقول: (( لست أفعل هذا تقليداً ، ولكني قرأت علم الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة ، وإن حاصلها يرجع إلى الحكمة والمصلحة ، وأن المقصود من تعبداتها: ضبط عوام الخلق وتقييدهم عن التقاتل والتنازع والاسترسال في الشهوات ، فما أنا من العوام الجهال حتى أدخل في حجر التكليف ، وإنما أنا من الحكماء أتبع الحكمة وأنا بصير بها ، مستغن فيها عن التقليد ! )).
هذا منتهى إيمان من قرأ ( مذهب ) فلسفة الإلهيين منهم ؛ وتعلم ذلك من كتب ابن سينا وأبي نصر الفارابي. وهؤلاء همالمتجملونبالإسلام.
وربما ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ، ويحضر الجماعات والصلوات ، ويعظم الشريعة بلسأنه ، ولكنه مع ذلك لا يترك شرب الخمر ، وأنواعاً من الفسق والفجور! وإذا قيل له: ((إن كانت النبوة غير صحيحة ، فلم تصلي ؟ )) فربما يقول: (( لرياضة الجسد ، ولعادة أهل البلد ، وحفظ المال والولد! )). وربما قال: ((الشريعة صحيحة ، والنبوة حق! )) فيقال: (( فلمَ تشرب الخمر؟ )) فيقول: (( إنما نهي عن الخمر لأنها تورث العداوة والبغضاء ، وأنا بحكمتي محترز عن ذلك ، وإني أقصد به تشحيذ خاطري.)) حتى أن ابن سينا ذكر في وصية له كتب فيها: أنه عاهد الله تعالى على كذا وكذا ، وأن يعظم الأوضاعالشرعية ، ولا يقصر في العبادات الدينية ، ولا يشرب تلهياً بل تداوياً وتشافياً ؛ فكان منتهى حالته في صفاء الإيمان ، والتزام العبادات ، أن استثنى شرب الخمر لغرض التشافي.
فهذا إيمان من يدعي الإيمان منهم. وقد انخدع بهم جماعة ، وزادهم انخداعاً ضعف اعتراض المعترضين عليهم ، إذ اعترضوا بمجاهدة علم الهندسة والمنطق ، وغير ذلك مما هو ضروريلهم ، على ما بينا علته من قبل.
فلما رأيت أصناف الخلق قد ضعف إيمأنهم إلى هذا الحد بهذه الأسباب ، ورأيت نفسي ملبة بكشف هذه الشبهة ، حتى كان إفضاح هؤلاء أيسر عندي من شربة ماء ، لكثرة خوضي في علومهم [ وطرقهم ] - أعني [ طرق ] الصوفية والفلاسفة والتعليمية والمتوسمين من العلماء- ، انقدح في نفسي أن ذلك متعين في هذا الوقت ، محتوم. فماذا تغنيك الخلوة والعزلة ، وقد عم الداء ، ومرض الأطباء ، وأشرف الخلق على الهلاك؟ ثم قلت في نفسي: (( متى تشتغل أنت بكشف هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة ، والزمان زمان الفترة ، والدور دور الباطل ، ولو اشتغلت بدعوة الخلق ، عن طرقهم إلى الحق ، لعاداك أهل الزمان بأجمعهم ، وأنَّى تقاومهم فكيف تعايشهم ، ولا يتم ذلك إلا بزمان مساعد ، وسلطان متدين قاهر؟ ))
فترخصت بيني وبين الله تعالى بالاستمرار على العزلة تعللاً بالعجز عن إظهار الحق بالحجة. فقدر الله تعالى أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه ، لا بتحريك من خارج. فأمر أمر إلزام بالنهوض إلى نيسابور ، لتدارك هذه الفترة. وبلغ الإلزام حداً كان ينتهي ، لو أصررت على الخلاف ، إلى حد الوحشة. فخطر لي أن سبب الرخصة قد ضعف ، فلا ينبغي أن يكون باعثك على ملازمة العزلة الكسل والاستراحة ، وطلب عز النفس وصونها عن أذى الخلق ، ولم ترخص لنفسك عُسْرَ معاناة الخلق ، والله سبحأنه وتعالى يقول:
(( بسم الله الرحمن الرحيم: الم. أحَسِبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمناً وهم لا يُفَتَنونَ ولقد فتنّا الذينَ من قبلهم )) الآية (العنكبوت: 1-3 )
ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه:
(( ولقدَ كُذّبَتْ رُسلٌ من قبلكَ فصَبروا على ما كُذّبوا وأُوذوا ، حتى أتاهم نصرُنا ؛ ولا مبَدّلَ لكلماتِ الله ، ولقد جاءك من نبأ المرسلين )) ( الأنعام:34 )
ويقول عز وجل: (( بسم الله الرحمن الرحيم : يس والقرآن الحكيم... )) إلى قوله (( إنما تنذرُ من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيبِ )). ( يس:1-11 )
فشاورت في ذلك جماعة من أرباب القلوب والمشاهدات ، فاتفقوا على الإشارة بترك العزلة ، والخروج من الزاوية ؛ وانضاف إلى ذلك منامات من الصالحين كثيرة متواترة ، تشهد بأن هذه الحركة مبدأ خير ورشد قدّرها الله سبحأنه على رأس هذه المائة[107] ؛ فاستحكم الرجاء ، وغلب حسن الظنّ بسبب هذه الشهادات وقد وعد الله سبحأنه بإحياء دينه على رأس كل مائة. ويسّر الله تعالى الحركة إلى نيسابور ، للقيام بهذا المهم في ذي القعدة ، سن تسع وتسعين وأربع مائة. وكان الخروج من بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. وبلغت مدة العزلة إحدى عشر سنة. وهذه حركة قدّرها الله تعالى ، ( وهي ) من عجائب تقديراته التي لم يكن لها انقداح في القلب في هذه العزلة ، كما لم يكن الخروج من بغداد ، والنزوع عن تلك الأحوال مما خطر إمكأنه أصلاً بالبال ؛ والله تعالى مقلب القلوب والأحوال و (( قلب المؤمن بين إصبعين من أصابعِ الرحمن ))[108]. وأنا أعلم أني ، وإن رجعت إلى نشر العلم ، فما رجعت! فإن الرجوع عَودٌ إلى ما كان ، وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكتسب الجاه ، وأدعو إليه بقولي وعملي ، وكان ذلك قصدي ونيتي. وأما الآن فأدعو إلى العلم الذي به يُترك الجاه ، ويعرف به سقوط رتبة الجاه.
هذا هو الآن نيتي وقصدي وأمنيتي ؛ يعلم الله ذلك مني ؛ وأنا أبغي أن أصلح نفسي وغيري ، ولست أدري أأصِلمرادي أم أُخترم[109] دون غرضي؟ ولكني اؤمن إيمان يقين ومشاهدة أنه لا حول ولاقوة إلا بالله ( العلي العظيم ) ؛ وأني لم أتحرك ، لكنه حركني ؛ وإني لم أعمل ، لكنه استعملني ؛ فأسأله أن يصلحني أولاً ، ثم يُصلح بي ، ويهديني ، ثم يهدي بي ؛ وأن يريني الحق حقاً ، ويرزقنياتباعه ، ويريني الباطل باطلاً ، ويرزقني اجتنابه.
* * *
ونعود الآن إلى ما ذكرناه من أسباب ضعف الإيمان بذكر طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم:
أما الذين ادعوا الحيرة بما سمعوه من أهل التعليم ، فعلاجهم ما ذكرناه في كتاب (( القسطاس المستقيم )) ولا نطول بذكره ( في ) هذه الرسالة.
وأما ما توهمه أهل الإباحة ، فقد حصرنا شبههم في سبعة أنواع وكشفناها في كتاب (( كيمياء السعادة )).
وأما من فسد إيمأنه بطريق الفلسفة ، حتى أنكر أصل النبوة ، فقد ذكرنا حقيقة النبوة ووجودها بالضرورة ، بدليل وجود ( علم )خواص الأدوية والنجوم وغيرهما. وإنما قدمنا هذه المقدمة لأجل ذلك. وأنما أوردنا الدليل من خواص الطب والنجوم ، لأنه من نفس علمهم. ونحن نبين لكل عالم بفن من العلوم ، كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات[110] ، مثلاً من نفس علمه ، برهان النبوة.
وأما من أثبت النبوة بلسأنه ، وسوى أوضاع الشرع على الحكمة ، فهو على التحقيق كافر بالنبوة ، وإنما هو مؤمن بحكم له طالع مخصوص ، يقتضي طالعه أن يكون متبوعاً ؛ وليس هذا من النبوة في شيء. بل الإيمان بالنبوة: أن يقر بإثبات طور وراء العقل ، تنفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة ، والعقل معزول عنها ، كعزل السمع عن إدراك الألوان ، والبصر عن إدراك الأصوات ، وجميع الحواس عن إدراك المعقولات. فإن لم يجوّز هذا ، فقد أقمنا البرهان على إمكأنه ، بل على وجوده. وإن جوز هذا ، فقد أثبت ، أن ههنا أموراً تسمى خواص ، لا يدور تصرف العقل حواليها أصلاً ، بل يكاد العقل يكذبها ويقضي باستحالتها. فإن وزن دانق[111] من الأفيون ، سم قاتل لأنه يجمد الدم في العروق لفرط برودته. والذي يدعي علم الطبيعة ، يزعم أنه ما يبرد من المركبات ، إنما يبرد بعنصري الماء والتراب ؛ فهما العنصران الباردان. ومعلوم أن أرطالاً من الماء والتراب لا يبلغ تبريدها في الباطن إلى هذا الحد. فلو أخبر طبيعي بهذا ولم يجربه ، لقال: (( هذا محال ، والدليل على استحالته أن فيه نارية وهوائية ، والهوائية والنارية لا تزيدها برودة ؛ فنقدر الكل ماء وتراباً ، فلا يوجب هذا الإفراط في التبريد. فإن انضم إليه حارّان فبأن لا يوجب ذلك أولى. )) ويقدر هذا برهاناً! وأكثر براهين الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات ، مبني على هذا الجنس! فأنهم تصوروا الأمور على قدر ما وجدوه وعقلوه ، وما لم يألفوه قدروا استحالته ، ولو لم تكن الرُؤْيا الصادقة مألوفة ، وادعى مدعٍ ، أنه عند ركود الحواس ، يعلم الغيب ، لأنكره المتصفون بمثلهذه العقول. ولو قيل لواحد: هل يجوز أن يكون في الدنيا شيء ، هو بمقدار حبة ، يوضع في بلدة فيأكل تلك البلدة بجملتها ثم يأكل نفسه فلا يُبقي [ شيئاً ] من البلدة وما فيها ، ولا يبقى هو نفسه؟ )) لقال: (( هذا لمحال وهو من جملة الخرافات! )) وهذه حالة النار ، ينكرها من لم يرَ النار إذا سمعها. وأكثر [ إنكار ] عجائب الآخرة هو من هذا القبيل. فنقول للطبيعي: (( قداضطررت إلى أن تقول : في الأفيون خاصية في التبريد ، ليست على قياس المعقول بالطبيعة.فلمَ لا يجوز أن يكون في الأوضاع الشرعية من الخواص ، في مداواة القلوب وتصفيتها ، ما لا يدرك بالحكمة العقلية ، بل لا يبصر ذلك إلا بعين النبوة؟ )) بل قد اعترفوا بخواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه في كتبهم ، وهي من الخواص العجيبة المجربة في معالجة الحامل التيعسر عليها الطلق ، بهذا الشكل:
4
9
2
د
ط

ب
3
5
7
ج
ه
ز
8
1
6
ح
ا
و





يكتب على خرقتين لم يصبهما ماء ، وتنظر إليهما الحامل بعينها ، وتضعهما تحت قدميها ، فيسرع الولد في الحال إلى الخروج. وقد أقروا بإمكان ذلك وأوردوه في (( عجائب الخواص )) ؛ وهو شكل فيه تسعة بيوت ، يرقم فيها رقوم مخصوصة ، يكون مجموع ما في جدول واحد خمسة عشر ، قرأته في طول الشكل أو في عرضه أو على التأريب[112].
فيا ليت شعري! من يصدق بذلك ، ثم لا يتسع عقله للتصديق ، بأن تقدير صلاة الصبح بركعتين ، والظهر بأربع ، والمغرب بثلاث ، هو لخواص غير معلومة بنظر الحكمة؟ وسببها اختلاف هذه الأوقات. وإنما تدرك هذه الخواص بنور النبوة. والعجب أنَّا لو غيرنا العبارة إلى عبارة المنجمين ، لعقلوا اختلاف هذه الأوقات ، فنقول: (( أليس يختلف الحكم في الطالع ، بأن تكون الشمس في وسط السماء ، أو في الطالع ، أو في الغارب ، حتى يبنوا على هذا في تسييراتهم اختلاف العلاج ، وتفاوت الأعمار والآجال ، ولا فرق بين الزوال وبين كون الشمس في وسط السماء ، ولا بين المغرب وبين كون الشمس في الغارب ، فهل لتصديق ذلك سبب؟ )) إلا أن ذلك يسمعه بعبارة منجم ، لعله جرب كذبه مائة مرة. ولا يزال يعاود تصديقه ، حتى لو قال المنجم [ له ]: (( إذا كانت الشمس في وسط السماء ، ونظر إليها الكوكب الفلاني ، والطالع هو البرج الفلاني ، فلبست ثوباً جديداً في ذلك الوقت قتلت فيذلك الثوب! )) فأنه لا يلبس الثوب في ذلك الوقت ، وربما يقاسي فيه البرد الشديد ، وربماسمعه من منجم وقد عرف[113] كذبه مرات!.
فليت شعري! من يتسع عقله لقبول هذه البدائع ويضطر إلى الاعتراف بأنها خواص -معرفتها معجزة لبعض الأنبياء- فيكف ينكر مثل ذلك ، فيما يسمعه من قول نبي صادق مؤيد بالمعجزات ، لم يعرف قط بالكذب! ( ولم لا يتسع لإمكأنه! ).
فإن أنكر فلسفي إمكان هذه الخواص في أعداد الركعات ، ورمي الجمار ، وعدد أركان الحج ، وسائر تعبدات الشرع ، لم يجد بينها وبين خواص الأدوية والنجوم فرقاً أصلاً. فإن قال: (( قد جربت شيئاً من النجوم وشيئاً من الطب ، فوجدت بعضه صادقاً ، فانقدح في نفسي تصديقه وسقط من قلبي استبعاده ونفرته ؛ وهذا لم أجربه ، فبم أعلم وجوده وتحقيقه؟ )) وإن أقررت بإمكأنه ، فأقول: (( إنك لا تقتصر على تصديق ما جربته بل سمعت أخبار المجربين وقلدتهم ، فاسمع أقوال الأنبياء فقد جربوا وشاهدوا الحق في جميع ما ورد به الشرع ، واسلك سبيلهم تدرك بالمشاهدة بعض ذلك.))
على أني أقول: (( وإن لمتجربه ، فيقضي عقلك بوجوب التصديق والإتباع قطعاً. فإنا لو فرضنا رجلاً بلغ وعقل ولم يجرب ( المرض ) ، فمرض ، وله والد مشفق حاذق بالطب ، يسمع دعواه في معرفة الطب منذ عقل ، فعجن له والده دواء ، فقال: (( هذا يصلح لمرضك ويشفيك من سقمك. )) فماذايقتضيه عقله ، إن كان الدواء مراً كريه المذاق ، أن يتناول؟ أوَ يَكذب ويقول: (( أنا [ لا ] أعقل مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء ، ولم أجربه! )) فلا شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك! وكذلك يستحمقك أهل البصائر في توقفك! فإن قلت: (( فبَم أعرف شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفته بهذا الطب؟ )) فأقول: (( وبم عرفت [ شفقة أبيك ] وليس ذلك أمراً محسوساً؟ بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعماله في مصادره وموارده علماً ضرورياً لا تتمارى فيه. ))
ومن نظر في أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ورد من الأخبار في اهتمامه بإرشاد الخلق ، وتلطفه في جرّ الناس بأنواع الرفق[114] واللطف ، إلى تحسين الأخلاق وإصلاح ذات البين ، وبالجملة إلى ما يصلح به دينهم ودنياهم ، حصل له علم ضروري ، بأن شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده.
وإذا نظر إلىعجائب ما ظهر عليه من الأفعال ، وإلى عجائب الغيب الذي أخبر عنه القرآن على لسأنه وفي الأخبار ، وإلى ما ذكره في آخر الزمان ، فظهر ذلك كما ذكره ، علم علماً ضرورياً أنه بلغ الطور الذي وراء العقل ، وانفتحت له العين التي ينكشف منها الغيب الذي لا يدركهإلا الخواص ، والأمور التي لا يدركها العقل.
فهذا هو منهاج تحصيل العلم الضروري بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم . فجرب وتأمل القرآن وطالع الأخبار ، تعرف ذلك بالعيان.
وهذا القدر يكفي في تنبيه المتفلسفة ، ذكرناه لشدة الحاجة إليه في هذاالزمان.
وأما السبب الرابع - وهو ضعف الإيمان بسبب سيرة العلماء- فيداوي هذا المرض بثلاثة أمور:
أحدها: أن تقول: (( إن العالم الذي تزعم أنه يأكل الحرام ومعرفته بتحريم ذلك الحرام كمعرفتك بتحريم الخمر [ ولحم الخنزير ] والربا ، بل بتحريم الغيبة والكذبوالنميمة ، وأنت تعرف ذلك وتفعله ، لا لعدم إيمانك بأنه معصية ، بل لشهوتك الغالبة عليك ؛ فشهوته كشهوتك ، وقد غلبته كما غلبتك ، فعلمه بمسائل وراء هذا يتميز به عنك ، لا يناسب زيادة زجر عن هذا المحظور المعين.
(( وكم من مؤمن بالطب لا يصبر عن الفاكهة وعن الماء البارد ، وإن زجره الطبيب عنه! ولا يدل ذلك على أنه غير ضار ، أو على ان الإيمان بالطب غير صحيح ، فهذا محمل هفوات العلماء. ))
الثاني: أن يقال للعامي: (( ينبغي أن تعتقد أن العالم اتخذ علمه ذخراً لنفسه في الآخرة ، ويظن أن علمه ينجيه ، ويكون شفيعاً له حتى يتساهل معه في أعماله ، لفضيلة علمه. وإن جاز أن يكون زيادة حجة عليه ، فهو يجوز أن يكون زيادة درجة له ، وهو ممكن. فهو ، وإن ترك العمل ، يدلي بالعلم.وأما أنتأيها العامي! إذا نظرت إليه وتركت العمل وأنت عن العلم عاطل ، فتهلك بسوء عملك ولاشفيع لك! ))
الثالث: وهو الحقيقة ، أن العالم الحقيقي ، لا يقارف معصية إلا على سبيلالهفوة ، ولا يكون مصراً على المعاصي أصلاً. إذ العلم الحقيقي ما يعرّف أن المعصية سمٌ مهلك ، وأن الآخرة خير من الدنيا. ومن عرَف ذلك ، لا يبيع الخير بما هو أدنى [ منه ].
وهذا العلم لا يحصل بأنواع العلوم التي يشتغل بها أكثر الناس. فلذلك لا يزيدهم ذلك العلم إلا جرأة على معصية الله تعالى. وأما العلم الحقيقي ، فيزيد صاحبه خشية وخوفاً [ ورجاءً ] ، وذلك يحول بينه وبين المعاصي إلا الهفوات التي لا ينفك عنها البشر في الفترات ، وذلك لا يدل على ضعف الإيمان. فالمؤمن مفتنٌ توّابٌ ، وهو بعيدٌ عن الإصرار والإكباب.

* * *


هذا ما أردت أن أذكره في ذم الفلسفة والتعليم وآفاتهما وآفات من أنكرعليهما ، لا بطريقه.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن آثره واجتباه ، وأرشده إلى الحق وهداه ، وألهمه ذكره حتى لا ينساه ، وعصمه عن شر نفسه حتى لم يؤثر عليه سواه ، واستخلصهلنفسه حتى لا يعبد إلا إياه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
وبهذا تم كتاب المُنقِذُ مِنَ الضَّلال و الموُصِلُ اِلىَ ذِي العِزَّةِ وَالجَلاَل للأمام الغزالي رحمه الله تعالى واسكنه فسيح جناته
* * *

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً  
عزيزنا الزائر لن تتمكن من مشاهدة التوقيع إلاَّ بتسجيل دخولك
قم بتسجيل الدخول أو قم بالتسجيل من هنا
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)
كاتب الموضوع حسن الخليفه احمد مشاركات 6 المشاهدات 16608  مشاهدة صفحة طباعة الموضوع | أرسل هذا الموضوع إلى صديق | الاشتراك انشر الموضوع


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:43 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
::×:: هذا المُنتدى لا يمثل الموقع الرسمي للطريقة الختمية بل هُو تجمُّع فكري وثقافي لشباب الختمية::×::

تصميم: صبري طه