القبول يا رب - شباب الطريقة الختمية بدائرة ود ابراهيم بأم بدة
مجموعة مدائح ختمية.. شباب الطريقة الختمية بمسجد السيد علي الميرغني ببحري
|
مكتبة الميرغني الإليكترونية خاصة بجميع مؤلفات السادة المراغنة |
إهداءات ^^^ ترحيب ^^^ تهاني ^^^ تعازي ^^^ تعليقات ^^^ إعلانات | |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
12-10-2012, 04:03 PM | #1 | |
|
فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم ملخص عن كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري ** لقد كان من أعظم كتب ابن حجر قدراً، وأعمقها علوماً، وأحظاها لدى المسلمين: شرحه على الجامع الصحيح – الذي اتفق المسلمون على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله – وهو صحيح الإمام البخاري (256)ه الذي سمَّاه "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" والذي يُعَّد بحق أحد دواوين الإسلام المعتبرة، ومصادره العلمية المهمة، فلا يستغني عنه طالب علم ولا فقيه؛ بل ولا مفتٍ ولا مجتهد، فجاء الشرح سفراً ضخماً جليلاً. أخذ في جمعه وتأليفه وإملائه وتنقيحه أكثر من خمس وعشرين سنة، حيث ابتدأه في أوائل سنة 817ه، وعمره آنذاك 44 سنة، وفرغ منه في غرة رجب من سنة 842ه فجمع فيه شروح من قبله على صحيح البخاري، باسطاً فيه إيضاح الصحيح وبيان مشكلاته، وحكاية مسائل الإجماع، وبسط الخلاف في الفقه والتصحيح والتضعيف واللغة والقراءات، مع العناية الواضحة بضبط الصحيح. صحيح البخاري ورواياته والتنويه على الفروق فيها، مع فوائد كثيرة وفرائد نادرة واستطرادات نافعة … إلخ حتى زادت موارد الحافظ فيه على (1200) كتاباً من مؤلفات السابقين له.كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ الامام ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه المؤلفون ابن حجر أحمد بن علي بن محمد بن حجر العسقلاني الكناني، شهاب الدين، أبو الفضل، من أئمة العلم والتاريخ. أصله من عسقلان بفلسطين، ولد بالقاهرة سنة (773ه) ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث، ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعلت له شهرة فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره، قال السخاوي: «انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر»، وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارفًا بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين، صبيح الوجه. وولي قضاء مصر مرات ثم اعتزل، توفي سنة (852ه). |
|
|
12-10-2012, 04:06 PM | #2 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
1*المجلد الأول *2*1-كتاب بدء الوحي
قال الشيخ الإمام الحافظ، أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، البخاري، رحمه الله تعالى آمين. (1/8) *3*1-كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله جل ذكره (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) الشرح: قال البخاري رحمه الله تعالى ورضي الله عنه: (بسم الله الرحمن الرحيم - كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا في رواية أبي ذر والأصيلي بغير " باب " وثبت في رواية غيرهما، فحكى عياض ومن تبعه فيه التنوين وتركه. وقال الكرماني: يجوز فيه الإسكان على سبيل التعداد للأبواب. فلا يكون له إعراب. وقد اعترض على المصنف لكونه لم يفتتح الكتاب بخطبة تنبئ عن مقصوده مفتتحة بالحمد والشهادة امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع"، وقوله "كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء". أخرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة. والجواب عن الأول: أن الخطبة لا يتحتم فيها سياق واحد يمتنع العدول عنه، بل الغرض منها الافتتاح بما يدل على المقصود، وقد صَدّرَ الكتاب بترجمة بدء الوحي، وبالحديث الدال على مقصوده، المشتمل على أن العمل دائر مع النية. فكأنه يقول: قصدت جمع وحي السنة المتلقَّى عن خير البرية على وجه سيظهر حسن عملي فيه من قصدي، وإنما لكل امرئ ما نوى، فاكتفى بالتلويح عن التصريح. وقد سلك هذه الطريقة في معظم تراجم هذا الكتاب على ما سيظهر بالاستقراء. والجواب عن الثاني: أن الحديثين ليسا على شرطه، بل في كل منهما مقال. سلمنا صلاحيتهما للحجة لكن ليس فيهما أن ذلك يتعين بالنطق والكتابة معا، فلعله حمد وتشهد نطقا عند وضع الكتاب، ولم يكتب ذلك اقتصارا على البسملة، لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله وقد حصل بها، ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن (اقرأ باسم ربك) فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها، لا سيما وحكاية ذلك من جملة ما تضمنه هذا الباب الأول، بل هو المقصود بالذات من أحاديثه. ويؤيده أيضا وقوع كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون حمدلة وغيرها، كما سيأتي في حديث أبي سفيان في قصة هرقل في هذا الباب، وكما سيأتي في حديث البراء في قصة سهيل ابن عمرو في صلح الحديبية، وغير ذلك من الأحاديث. وهذا يشعر بأن لفظ الحمد والشهادة، إنما يحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق، فكأن المصنف لما لم يفتتح كتابه بخطبة، أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم، لينتفعوا بما فيه تعلما وتعليما. وقد أجاب من شرح هذا الكتاب بأجوبة أخر فيها نظر، منها: أنه تعارض عنده الابتداء بالتسمية والحمدلة، فلو ابتدأ بالحمدلة لخالف العادة، أو بالتسمية لم يعد مبتدئا بالحمدلة فاكتفى بالتسمية. وتعقب بأنه لو جمع بينهما، لكان مبتدئا بالحمدلة بالنسبة إلى ما بعد التسمية، وهذه هي النكتة في حذف العاطف، فيكون أولى لموافقته الكتاب العزيز، فإن الصحابة افتتحوا كتابة الإمام الكبير بالتسمية والحمد وتلوها، وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار، من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة، ومن لا يقول ذلك. ومنها أنه راعى قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) فلم يقدم على كلام الله ورسوله شيئا، واكتفى بها عن كلام نفسه، وتعقب بأنه كان يمكنه أن يأتي بلفظ الحمد من كلام الله تعالى، وأيضا فقد قدم الترجمة وهي من كلامه على الآية، وكذا ساق السند قبل لفظ الحديث، والجواب عن ذلك: بأن الترجمة والسند وإن كانا متقدمين لفظا، لكنهما متأخران تقديرا فيه نظر. وأبعد من ذلك كله، قول من ادعى: أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة، فحذفها بعض من حمل عنه الكتاب.(1/9) وكأن قائل هذا ما رأى تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري، وشيوخ شيوخه وأهل عصره كمالك في الموطأ، وعبد الرزاق في المصنف، وأحمد في المسند، وأبي داود في السنن، إلى ما لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة، ولم يزد على التسمية، وهم الأكثر، والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة، أفيقال في كل من هؤلاء: إن الرواة عنه حذفوا ذلك؟ كلا، بل يحمل ذلك من صنيعهم، على أنهم حمدوا لفظا. ويؤيده ما رواه الخطيب في الجامع عن أحمد: أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب الحديث ولا يكتبها، والحامل له على ذلك إسراع أو غيره، أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصا بالخطب دون الكتب كما تقدم، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة، حمد وتشهد كما صنع مسلم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. وقد استقر عمل الأئمة المصنفين، افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا معظم كتب الرسائل، واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب كله شعرا، فجاء عن الشعبي منع ذلك، وعن الزهري قال: مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم، وعن سعيد بن جبير جواز ذلك، وتابعه على ذلك الجمهور. وقال الخطيب: هو المختار. قوله: (بدء الوحي) قال عياض: روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء، وبغير همز مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور. قلت: ولم أره مضبوطا في شيء من الروايات التي اتصلت لنا، إلا أنه وقع في بعضها " كيف كان ابتداء الوحي"، فهذا يرجح الأول، وهو الذي سمعناه من أفواه المشايخ. وقد استعمل المصنف هذه العبارة كثيرا، كبدء الحيض، وبدء الأذان، وبدء الخلق. والوحي لغة: الإعلام في خفاء، والوحي أيضا: الكتابة والمكتوب والبعث والإلهام والأمر والإيماء والإشارة والتصويت شيئا بعد شيء. وقيل: أصله التفهيم، وكل ما دللت به من كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة فهو وحي. وشرعا: الإعلام بالشرع. وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه أي الموحى، وهو: كلام الله المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اعترض محمد بن إسماعيل التيمي على هذه الترجمة، فقال: لو قال: كيف كان الوحي لكان أحسن، لأنه تعرض فيه لبيان كيفية الوحي، لا لبيان كيفية بدء الوحي فقط. وتعقب بأن المراد من بدء الوحي، حاله مع كل ما يتعلق بشأنه. أي تعلق كان. والله أعلم. قوله: (وقول الله) هو بالرفع على حذف الباب عطفا على الجملة، لأنها في محل رفع، وكذا على تنوين باب. وبالجر عطفا على كيف، وإثبات باب بغير تنوين، والتقدير باب معنى قول الله كذا، أو الاحتجاج بقول الله كذا، ولا يصح تقدير كيفية قول الله، لأن كلام الله لا يكيف قاله عياض، ويجوز رفع. وقول الله على القطع وغيره. قوله: (إنا أوحينا إليك.... الآية) قيل: قدم ذكر نوح فيها لأنه أول نبي أرسل، أو أول نبي عوقب قومه، فلا يرد كون آدم أول الأنبياء مطلقا، كما سيأتي بسط القول في ذلك في الكلام على حديث الشفاعة. ومناسبة الآية للترجمة واضح من جهة: أن صفة الوحي إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم -توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين، ومن جهة: أن أول أحوال النبيين في الوحي بالرؤيا، كما رواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد حسن عن علقمة بن قيس صاحب ابن مسعود قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد في اليقظة. |
12-10-2012, 04:08 PM | #3 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ..." الحديث:
-1-حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَقُولُ " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ". الشرح: (1/10) قوله: (حدثنا الحميدي) هو: أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى، منسوب إلى حميد بن أسامة، بطن من بني أسد بن عبد العزي بن قصي، رهط خديجة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- يجتمع معها في أسد، ويجتمع مع النبي -صلى الله عليه وسلم -في قصي. وهو إمام كبير مصنف، رافق الشافعي في الطلب عن ابن عيينة وطبقته، وأخذ عنه الفقه ورحل معه إلى مصر، ورجع بعد وفاته إلى مكة إلى أن مات بها سنة تسع عشرة ومائتين. فكأن البخاري امتثل قوله -صلى الله عليه وسلم -" قدموا قريشا " فافتتح كتابه بالرواية عن الحميدي، لكونه أفقه قرشي أخذ عنه. وله مناسبة أخرى: لأنه مكي كشيخه، فناسب أن يذكر في أول ترجمة بدء الوحي، لأن ابتداءه كان بمكة، ومن ثم ثنى بالرواية عن مالك، لأنه شيخ أهل المدينة، وهي تالية لمكة في نزول الوحي وفي جميع الفضل، ومالك وابن عيينة قرينان، قال الشافعي: لولاهما لذهب العلم من الحجاز. قوله: (حدثنا سفيان) هو: ابن عيينة بن أبي عمران الهلالي أبو محمد المكي، أصله ومولده الكوفة، وقد شارك مالكا في كثير من شيوخه، وعاش بعده عشرين سنة، وكان يذكر أنه سمع من سبعين من التابعين. قوله: (عن يحيى بن سعيد) في رواية غير أبي ذر: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري. اسم جده: قيس بن عمرو وهو صحابي، ويحيى من صغار التابعين، وشيخه محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي من أوساط التابعين، وشيخ محمد علقمة بن وقاص الليثي من كبارهم، ففي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق. وفي المعرفة لابن منده، ما ظاهره أن علقمة صحابي، فلو ثبت لكان فيه تابعيان وصحابيان، وعلى رواية أبي ذر يكون قد اجتمع في هذا الإسناد، أكثر الصيغ التي يستعملها المحدثون، وهي: التحديث والإخبار والسماع والعنعنة والله أعلم. وقد اعترض على المصنف في إدخاله حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي، وأنه لا تعلق له به أصلا، بحيث أن الخطابي في شرحه، والإسماعيلي في مستخرجه، أخرجاه قبل الترجمة، لاعتقادهما أنه: إنما أورده للتبرك به فقط، واستصوب أبو القاسم بن منده صنيع الإسماعيلي في ذلك. وقال ابن رشيد: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف، وقد تكلفت مناسبته للترجمة، فقال: كل بحسب ما ظهر له. انتهى. وقد قيل: إنه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب، لأن في سياقه أن عمر قاله على المنبر بمحضر الصحابة، فإذا صلح أن يكون في خطبة المنبر، صلح أن يكون في خطبة الكتب. وحكى المهلب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم -خطب به حين قدم المدينة مهاجرا، فناسب إيراده في بدء الوحي، لأن الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها، لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين، ويعقبه النصر والظفر والفتح انتهى. وهذا وجه حسن، إلا أنني لم أر ما ذكره - من كونه صلى الله عليه وسلم خطب به أول ما هاجر - منقولا. وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول - " يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية " الحديث، ففي هذا إيماء إلى أنه كان في حال الخطبة، أما كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة فلم أر ما يدل عليه، ولعل قائله استند إلى ما روي في قصة مهاجر أم قيس، قال ابن دقيق العيد: نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به، انتهى. وهذا لو صح لم يستلزم البداءة بذكره أول الهجرة النبوية. وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد من منصور قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: من هاجر يبتغي شيئا فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس فكان يقال له: مهاجر أم قيس. ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك. وأيضا فلو أراد البخاري إقامته مقام الخطبة فقط إذ الابتداء به تيمنا وترغيبا في الإخلاص، لكان سياقه قبل الترجمة كما قال الإسماعيلي وغيره. ونقل ابن بطال عن أبي عبد الله بن النجار قال: التبويب يتعلق بالآية والحديث معا، لأن الله تعالى أوحى إلى الأنبياء ثم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم -أن الأعمال بالنيات لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}.(1/11) وقال أبو العالية في قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} قال: وصاهم بالإخلاص في عبادته. وعن أبي عبد الملك البوني قال: مناسبة الحديث للترجمة أن بدء الوحي كان بالنية، لأن الله تعالى فطر محمدا على التوحيد، وبغض إليه الأوثان، ووهب له أول أسباب النبوة وهي الرؤيا الصالحة، فلما رأى ذلك أخلص إلى الله في ذلك، فكان يتعبد بغار حراء فقبل الله عمله وأتم له النعمة. وقال المهلب ما محصله: قصد البخاري الإخبار عن حال النبي -صلى الله عليه وسلم -في حال منشئه، وأن الله بغض إليه الأوثان وحبب إليه خلال الخير ولزوم الوحدة فرارا من قرناء السوء، فلما لزم ذلك أعطاه الله على قدر نيته، ووهب له النبوة، كما يقال: الفواتح عنوان الخواتم. ولخصه بنحو من هذا القاضي أبو بكر بن العربي. وقال ابن المنير في أول التراجم: كان مقدمة النبوة في حق النبي -صلى الله عليه وسلم -الهجرة إلى الله تعالى بالخلوة في غار حراء، فناسب الافتتاح بحديث الهجرة. ومن المناسبات البديعة الوجيزة ما تقدمت الإشارة إليه: أن الكتاب لما كان موضوعا لجمع وحي السنة صدره ببدء الوحي، ولما كان الوحي لبيان الأعمال الشرعية صدره بحديث الأعمال، ومع هذه المناسبات لا يليق الجزم بأنه لا تعلق له بالترجمة أصلا. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث: قال أبو عبد الله: ليس في أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم -شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث. واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي، فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني، على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال ربعه، واختلفوا في تعيين الباقي. وقال ابن مهدي أيضا: يدخل في ثلاثين بابا من العلم. وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابا، ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة. وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضا: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب. ووجه البيهقي كونه ثلث العلم، بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد: نية المؤمن خير من عمله، فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين. وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم، أنه أراد أحد القواعد الثلاثة التي ترد إليها جميع الأحكام عنده، وهي هذا و " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " و " الحلال بين والحرام بين " الحديث. ثم إن هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ، مغترا بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك. وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردودا لكونه فردا، لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد، وهو كما قال، فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد وتفرد به من فوقه، وبذلك جزم الترمذي والنسائي والبزار وابن السكن وحمزة بن محمد الكناني، وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال لكن بقيدين: أحدهما: الصحة لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن منده وغيرهما. ثانيهما: السياق لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم: " يبعثون على نياتهم"، وحديث ابن عباس: " ولكن جهاد ونية"، وحديث أبي موسى: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " متفق عليهما، وحديث ابن مسعود: " رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته " أخرجه أحمد، وحديث عبادة: " من غزا وهو لا ينوي إلا عقالا فله ما نوى " أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره، وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر، إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل. نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد: فحكى محمد بن علي بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفسا، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلاثمائة، وروى أبو موسى المديني عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى. قلت: وأنا أستبعد صحة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المائة، وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم، كما سيأتي مثال لذلك في الكلام على حديث ابن عمر في غسل الجمعة إن شاء الله تعالى.(1/12) قوله: (على المنبر) بكسر الميم، واللام للعهد، أي منبر المسجد النبوي، ووقع في رواية حماد بن زيد عن يحيى في ترك الحيل: سمعت عمر يخطب. قوله: (إنما الأعمال بالنيات) كذا أورد هنا، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، أي كل عمل بنيته. وقال الخوبي: كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتقاء لوعيده. ووقع في معظم الروايات بإفراد النية، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها. بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة فناسب جمعها، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص، وهو واحد للواحد الذي لا شريك له. ووقعت في صحيح ابن حبان بلفظ " الأعمال بالنيات " بحذف " إنما " وجمع الأعمال والنيات، وهي ما وقع في كتاب الشهاب للقضاعي، ووصله في مسنده كذلك، وأنكره أبو موسى المديني، كما نقله النووي وأقره، وهو متعقب برواية ابن حبان، بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ " الأعمال بالنية"، وكذا في العتق من رواية الثوري، وفي الهجرة من رواية حماد بن زيد، ووقع عنده في النكاح بلفظ " العمل بالنية " بإفراد كل منهما. والنية بكسر النون وتشديد التحتانية على المشهور، وفي بعض اللغات بتخفيفها. قال الكرماني: قوله " إنما الأعمال بالنيات " هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين، واختلف في وجه إفادته، فقيل: لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر، لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية، وقيل لأن إنما للحصر. وهل إفادتها له بالمنطوق أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع أو العرف، أو تفيده بالحقيقة أو بالمجاز؟ ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا، بل نقله شيخنا شيخ الإسلام عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل العربية، واحتج بعضهم بأنها لو كانت للحصر لما حسن "إنما قام زيد " في جواب "هل قام عمرو؟"، أجيب بأنه يصح أنه يقع في مثل هذا الجواب "ما قام إلا زيد "وهي للحصر اتفاقا. وقيل: لو كانت للحصر لاستوى "إنما قام زيد " مع "ما قام إلا زيد"، ولا تردد في أن الثاني أقوى من الأول، وأجيب بأنه لا يلزم من هذه القوة نفي الحصر، فقد يكون أحد اللفظين أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع، كسوف والسين. وقد وقع استعمال إنما موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى: (إنما تجزون ما كنتم تعملون) وكقوله: (وما تجزون إلا ما كنتم تعملون) وقوله: (إنما على رسولنا البلاغ المبين) وقوله: (ما على الرسول إلا البلاغ) . ومن شواهده قول الأعشى: ولست بالأكثر منهم حصى * وإنما العزة للكاثر يعني ما ثبتت العزة إلا لمن كان أكثر حصى. واختلفوا: هل هي بسيطة أو مركبة، فرجحوا الأول، وقد يرجح الثاني، ويجاب عما أورد عليه من قولهم إن " إن " للإثبات و " ما " للنفي فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد، بأن يقال مثلا: أصلهما كان للإثبات والنفي، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما، بل أفادا شيئا آخر، أشار إلى ذلك الكرماني قال: وأما قول من قال: إفادة هذا السياق للحصر، من جهة أن فيه تأكيدا بعد تأكيد، وهو المستفاد من "إنما " ومن الجمع. فمتعقب بأنه من باب إيهام العكس، لأن قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد، ظن أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر. وقال ابن دقيق العيد: استدل على إفادة "إنما " للحصر بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث " إنما الربا في النسيئة"، وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه، فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر. وتُعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزلا.(1/13) وأما من قال: يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله " لا ربا إلا في النسيئة " لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر، بل يقويه ويشعر بأن مفاد الصيغتين عندهم واحد، وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه. وأوضح من هذا حديث " إنما الماء من الماء " فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث " إذا التقى الختانان". وقال ابن عطية: إنما لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازا يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك، وأن أصل ورودها للحصر، لكن قد يكون في شيء مخصوص، كقوله تعالى: (إنما الله إله واحد) فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية، وإلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم والقدرة، وكقوله تعالى: (إنما أنت منذر) فإنه سيق باعتبار منكري الرسالة، وإلا فله - صلى الله عليه وسلم - صفات أخرى كالبشارة، إلى غير ذلك من الأمثلة. وهي - فيما يقال - السبب في قول من منع إفادتها للحصر مطلقا. (تكميل) : الأعمال تقتضي عاملين، والتقدير: الأعمال الصادرة من المكلفين، وعلى هذا هل تخرج أعمال الكفار؟ الظاهر الإخراج، لأن المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصح من الكافر، وإن كان مخاطبا بها معاقبا على تركها ولا يرد العتق والصدقة لأنهما بدليل آخر. قوله: (بالنيات) الباء للمصاحبة، ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى: أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في إيجاده، وعلى الأول فهي من نفس العمل فيشترط أن لا تتخلف عن أوله. قال النووي: النية: القصد، وهي: عزيمة القلب. وتعقبه الكرماني: بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد. واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط؟ والمرجح أن إيجادها ذكرا في أول العمل ركن، واستصحابها حكما بمعنى: أن لا يأتي بمناف شرعا شرط. ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فقيل: تعتبر، وقيل: تكمل، وقيل: تصح، وقيل: تحصل، وقيل: تستقر. قال الطيبي: كلام الشارع محمول على بيان الشرع، لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان، فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع، فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي. وقال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه. والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل، والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية، إذ التقدير: لا عمل إلا بالنية، فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح، وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة. وقال شيخنا شيخ الإسلام: الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية، لقوله في الحديث: " فمن كانت هجرته " إلى آخره. وعلى هذا يقدر المحذوف كونا مطلقا من اسم فاعل أو فعل. ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان فتدخل الأقوال. قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها. وأما التروك فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق عليها لفظ العمل. وقد تعقب على من يسمي القول عملا لكونه عمل اللسان، بأن من حلف لا يعمل عملا فقال قولا لا يحنث. وأجيب بأن مرجع اليمين إلى العرف، والقول لا يسمى عملا في العرف ولهذا يعطف عليه. والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازا، وكذا الفعل، لقوله تعالى (ولو شاء ربك ما فعلوه) بعد قوله: (زخرف القول) . وأما عمل القلب كالنية فلا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل، والمعرفة: وفي تناولها نظر، قال بعضهم: هو محال لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف فيلزم أن يكون عارفا قبل المعرفة. وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله: إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأن كل ذي عقل يشعر مثلا بأن له من يدبره، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالا. (1/ 14) وقال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال، والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال، ورجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى. وفي هذا الكلام إبهام أن بعض العلماء لا يرى باشتراط النية، وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الرسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء، وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا. نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل كما هو معروف في مبسوطات الفقه. (تكميل) : الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير، والتقدير الأعمال بنياتها، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلا صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضا أو نفلا، ظهرا مثلا أو عصرا، مقصورة أو غير مقصورة. وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث. والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر مثلا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم. قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) قال القرطبي: فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنها مؤكدة. وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأولى، لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك. والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه. وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئا يحصل له - يعنى إذا عمله بشرائطه - أو حال دون عمله له ما يعذر شرعا بعدم عمله، وكل ما لم ينوه لم يحصل له. ومراده بقوله ما لم ينوه أي: لا خصوصا ولا عموما، أما إذا لم ينو شيئا مخصوصا لكن كانت هناك نية عامة تشمله، فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء. ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى. وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلى الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد، فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها، لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة، فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح، لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلا بد فيه من القصد إليه، بخلاف تحية المسجد والله أعلم. وقال النووي: أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة، لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهرا مثلا أو عصرا، ولا يخفى أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة. وقال ابن السمعاني في أماليه: أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القربة، كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة. وقال غيره: أفادت أن النيابة لا تدخل في النية، فإن ذلك هو الأصل، فلا يرد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره، فإنها على خلاف الأصل. وقال ابن عبد السلام: الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها. وأفاد أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له، كالأذكار والأدعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة. ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا، ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقا، أي المجرد عن التفكر. قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب انتهى. ويؤيده قوله -صلى الله عليه وسلم -:" في بضع أحدكم صدقة " ثم قال في الجواب عن قولهم " أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ ": " أرأيت لو وضعها في حرام". وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح لأنه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده. وخص من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة، فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه كتحية المسجد كما تقدم، وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة فإن عدتها تنقضي، لأن المقصود حصول براءة الرحم وقد وجدت، ومن ثم لم يحتج المتروك إلى نية. ونازع الكرماني في إطلاق الشيخ محيي الدين كون المتروك لا يحتاج إلى نية: بأن الترك فعل وهو كف النفس، وبأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلا بد فيها من قصد الترك، وتعقب بأن قوله: " الترك فعل " مختلف فيه، ومن حق المستدل على المانع أن يأتي بأمر متفق عليه. (1/ 15) وأما استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها؟ والذي أورده استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها والذي أورده هل يحصل الثواب بدونها؟ والتفاوت بين المقامين ظاهر. والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلا ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفا من الله تعالى، فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه، لا الترك المجرد. والله أعلم. (تنبيه) : قال الكرماني: إذا قلنا: إن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله: " وإنما لكل امرئ ما نوى " نوعان من الحصر: قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لكل امرئ ما نواه، والتقديم المذكور. قوله: (فمن كانت هجرته إلى دنيا) كذا وقع في جميع الأصول التي اتصلت لنا عن البخاري بحذف أحد وجهي التقسيم وهو قوله: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله الخ " قال الخطابي: وقع هذا الحديث في روايتنا وجميع نسخ أصحابنا مخروما قد ذهب شطره، ولست أدري كيف وقع هذا الإغفال، ومن جهة من عرض من رواته؟ فقد ذكره البخاري من غير طريق الحميدي مستوفى، وقد رواه لنا الإثبات من طريق الحميدي تاما، ونقل ابن التين كلام الخطابي مختصرا. وفهم من قوله مخروما: أنه قد يربد أن في السند انقطاعا، فقال من قبل نفسه لأن البخاري لم يلق الحميدي، وهو مما يتعجب من إطلاقه مع قول البخاري: " حدثنا الحميدي " وتكرار ذلك منه في هذا الكتاب، وجزم كل من ترجمه بأن الحميدي من شيوخه في الفقه والحديث. وقال ابن العربي في مشيخته: لا عذر للبخاري في إسقاطه لأن الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام. قال: وذكر قوم أنه لعله استملاه من حفظ الحميدي فحدثه هكذا فحدث عنه كما سمع أو حدثه به تاما فسقط من حفظ البخاري. قال: وهو أمر مستبعد جدا عند من اطلع على أحوال القوم. وقال الداودي الشارح: الإسقاط فيه من البخاري، فوجوده في رواية شيخه وشيخ شيخه يدل على ذلك انتهى. وقد رويناه من طريق بشر بن موسى وأبي إسماعيل الترمذي وغير واحد عن الحميدي تاما، وهو في مصنف قاسم بن أصبغ ومستخرجي أبي نعيم، وصحيح أبي عوانة من طريق الحميدي، فإن كان الإسقاط من غير البخاري فقد يقال: لم اختار الابتداء بهذا السياق الناقص؟ والجواب قد تقدمت الإشارة إليه، وأنه اختار الحميدي لكونه أجل مشايخه المكيين إلى آخر ما تقدم في ذلك من المناسبة، وإن كان الإسقاط منه، فالجواب ما قاله أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الحافظ في أجوبة له على البخاري: إن أحسن ما يجاب به هنا أن يقال: لعل البخاري قصد أن يجعل لكتابه صدرا يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنه ابتدأ كتابه بنية رد علمها إلى الله، فإن علم منه أنه أراد الدنيا أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته. ونكب عن أحد وجهي التقسيم، مجانبة للتزكية التي لا يناسب ذكرها في ذلك المقام. انتهى ملخصا. وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصل القربة أو لا، فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث، حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة، فرارا من التزكية، وبقي الجملة المترددة المحتملة تفويضا للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازي له بمقتضى نيته. ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم، وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى والتدقيق في الاستنباط، وإيثار الأغمض على الأجلى، وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره، استعمل جميع ذلك في هذا الموضع بعبارة هذا الحديث متنا وإسنادا. وقد وقع في رواية حماد بن زيد، في باب الهجرة تأخر قوله: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله " عن قوله: " فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها"، فيحتمل أن تكون رواية الحميدي وقعت عند البخاري كذلك فتكون الجملة المحذوفة هي الأخيرة، كما جرت به عادة من يقتصر على بعض الحديث. (1/ 16) وعلى تقدير أن لا يكون ذلك فهو مصير من البخاري إلى جواز الاختصار في الحديث ولو من أثنائه. وهذا هو الراجح، والله أعلم. وقال الكرماني في غير هذا الموضع: إن كان الحديث عند البخاري تاما لم خرمه في صدر الكتاب، مع أن الخرم مختلف في جوازه؟ قلت: لا جزم بالخرم، لأن المقامات مختلفة، فلعله - في مقام بيان أن الإيمان بالنية واعتقاد القلب - سمع الحديث تاما، وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية سمع ذلك القدر الذي روي. ثم الخرم يحتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه، ثم إن كان منه فخرمه، ثم لأن المقصود يتم بذلك المقدار. فإن قلت: فكان المناسب أن يذكر عند الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده، وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله. قلت: لعله نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس. انتهى. وهو كلام من لم يطلع على شيء من أقوال من قدمت ذكره من الأئمة على هذا الحديث، ولا سيما كلام ابن العربي. وقال في موضع آخر: إن إيراد الحديث تاما تارة وغير تام تارة إنما هو اختلاف الرواة، فكل منهم قد روى ما سمعه فلا خرم من أحد، ولكن البخاري يذكرها في المواضع التي يناسب كلا منها بحسب الباب الذي يضعه ترجمة له، انتهى. وكأنه لم يطلع حديث أخرجه البخاري بسند واحد من ابتدائه إلى انتهائه، فساقه في موضع تاما وفي موضع مقتصرا على بعضه، وهو كثير جدا في الجامع الصحيح، فلا يرتاب من يكون الحديث صناعته أن ذلك من تصرفه، لأنه عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجهين، بل إن كان له أكثر من سند على شرطه ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني وهكذا ما بعده، وما لم يكن على شرطه يعلقه في الموضع الآخر تارة بالجزم إن كان صحيحا، وتارة بغيره إن كان فيه شيء، وما ليس له إلا سند واحد يتصرف في متنه بالاقتصار على بعضه بحسب ما يتفق، ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سندا ومتنا في موضعين أو أكثر إلا بادرا، فقد عنى بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعا. قوله: (هجرته) الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء: الانتقال إليه عن غيره. وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه. وقد وقعت في الإسلام على وجهين: الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة، الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي _صلى الله عليه وسلم _بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين. وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا. فإن قيل: الأصل تغاير الشرط والجزاء، فلا يقال مثلا: من أطاع أطاع وإنما يقال مثلا من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين، فالجواب أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق، ومن أمثلته قوله تعالى: (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس، كقولهم: أنت أنت أي: الصديق الخالص، وقولهم: هم هم أي: الذين لا يقدر قدرهم، وقول الشاعر: " أنا أبو النجم وشعري شعري"، أو هو مؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب. وقال ابن مالك: قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشهرة وعدم التغير فيتحد بالمبتدأ لفظا كقول الشاعر: خليلي خليلي دون ريب وربما * ألان امرؤ قولا فظن خليلا وقد يفعل مثل هدا بجواب الشرط كقولك: من قصدني فقد قصدني، أي فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده. وقال غيره: إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم وإما في التحقير. قوله: (إلى دنيا) بضم الدال، وحكى ابن قتيبة كسرها، وهي فعلى من الدنو أي: القرب، سميت بذلك لسبقها للأخرى. وقيل: سميت دنيا لدنوها إلى الزوال. واختلف في حقيقتها فقيل: ما على الأرض من الهواء والجو، وقيل: كل المخلوقات من الجواهر والأعراض، والأولى أولى. لكن يزاد فيه مما قبل قيام الساعة، ويطلق على كل جزء منها مجازا. (1/ 17) ثم إن لفظها مقصور غير منون، وحكى تنويها، وعزاه ابن دحية إلى رواية أبي الهيثم الكشميهني وضعفها، وحكي عن ابن مغور: أن أبا الهروي في آخر أمره كان يحذف كثيرا من رواية أبي الهيثم حيث ينفرد، لأنه لم يكن من أهل العلم. قلت: وهذا ليس على إطلاقه، فإن في رواية أبي الهيثم مواضع كثيرة أصوب من رواية غيره، كما سيأتي مبينا في مواضعه. وقال التيمي في شرحه: قوله دنيا هو تأنيث الأدنى ليس بمصروف، لاجتماع الوصفية ولزوم حرف التأنيث. وتعقب بأن لزوم التأنيث للألف المقصورة كاف في عدم الصرف، وأما الوصفية فقال ابن مالك: استعمال دنيا منكرا فيه إشكال لأنها أفعل التفضيل، فكان من حقها أن تستعمل باللام كالكبرى والحسنى، قال: إلا أنها خلعت عنها الوصفية أو أجريت مجرى ما لم يكن وصفا قط، ومثله قول الشاعر: وإن دعوت إلى جلي ومكرمة * يوما سراة كرام الناس فادعينا وقال الكرماني: قوله إلى يتعلق بالهجرة إن كان لفظ كانت تامة، أو هو خبر لكانت إن كانت ناقصة. ثم أورد ما محصله: إن لفظ كان إن كان للأمر الماضي فلا يعلم ما الحكم بعد صدور هذا القول في ذلك. وأجاب بأنه: يجوز أن يراد بلفظ كان الوجود من غير تقييد بزمان، أو يقاس المستقبل على الماضي، أو من جهة أن حكم المكلفين سواء. قوله: (يصيبها) أي: يحصلها، لأن تحصيلها كإصابة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصود. قوله: (أو امرأة) قيل: التنصيص عليها من الخاص بعد العام للاهتمام به. وتعقبه النووي بأن لفظ دنيا نكرة، وهي لا تعم في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها. وتعقب بكونها في سياق الشرط فتعم، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير، لأن الافتتان بها أشد. وقد تقدم النقل عمن حكى أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس ولم نقف على تسميته. ونقل ابن دحية أن اسمها قيلة بقاف مفتوحة ثم تحتانية ساكنة، وحكى ابن بطال عن ابن سراج: أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى العربية ويراعون الكفاءة في النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم، فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها من كان لا يصل إليها قبل ذلك انتهى. ويحتاج إلى نقل ثابت أن هذا المهاجر كان مولى وكانت المرأة عربية، وليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه بل قد زوج خلق كثير منهم جماعة من مواليهم وحلفائهم قبل الإسلام، وإطلاقه أن الإسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع. قوله: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يحتمل أن يكون ذكره بالضمير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها، وإنما أبرز الضمير في الجملة التي قبلها وهي المحذوفة لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما، بخلاف الدنيا والمرأة فإن السياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون قوله " إلى ما هاجر إليه " متعلقا بالهجرة، فيكون الخبر محذوفا والتقدير قبيحة أو غير صحيحة مثلا، ويحتمل أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت، انتهى. وهذا الثاني هو الراجح لأن الأول يقتضي أن تلك الهجرة مذمومة مطلقا، وليس كذلك، إلا أن حمل على تقدير شيء يقتضي التردد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى بهجرته مفارقة دار الكفر، وتزوج المرأة معا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يثاب على قصد الهجرة لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله، لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف. ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت تزوجتك. فأسلم فتزوجته.. وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية، أو بطوافه العبادة وملازمة الغريم. (1/ 18) واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر. وأما إذا نوى العبادة وخالطها بشيء مما يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء، فإن كان ابتداؤه لله خالصا لم يضمره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب أو غيره. والله أعلم. واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأن فيه العمل يكون منتفيا إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة الحكم، وعلى أن الغافل لا تكليف عليه، لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد، وعلى أن من صام تطوعا بنية قبل الزوال أن لا يحسب له إلا من وقت النية وهو مقتضى الحديث، لكن تمسك من قال بانعطافها بدليل آخر، ونظيره حديث: " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها " أي: أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى، وعلى أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة ثم ذكر عن ذلك المجلس شيئا لا يمكن غفلتهم عنه، ولم يذكره غيره أن ذلك لا يقدح في صدقه، خلافا لمن أعل بذلك، لأن علقمة ذكر أن عمر خطب به على المنبر، ثم لم يصح من جهة أحد عنه غير علقمة. واستدل بمفهومه على أن ما ليس بعمل لا تشترط النية فيه، ومن أمثلة ذلك: جمع التقديم، فإن الراجح من حيث النظر أنه لا يشترط له نية، بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام وقال: الجمع ليس بعمل، وإنما العمل الصلاة. ويقوي ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطا لأعلمهم به، واستدل به على أن العمل إذا كان مضافا إلى سبب ويجمع متعدده جنس أن نية الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره، لأن معنى الحديث: أن الأعمال بنياتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب، وعلى هذا لو كانت عليه كفارة - وشك في سببها - أجزأه إخراجها بغير تعيين. وفيه زيادة النص على السبب، لأن الحديث سيق في قصة المهاجر لتزويج المرأة، فذكر الدنيا القصة زيادة في التحذير والتنفير. وقال شيخنا شيخ الإسلام: فيه إطلاق العام وإن كان سببه خاصا، فيستنبط منه الإشارة إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسيأتي ذكر كثير من فوائد هذا الحديث في كتاب الإيمان حيث قال المصنف في الترجمة، فدخل فيه العبادات والأحكام إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق. |
12-10-2012, 04:10 PM | #4 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*2أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ
الحديث: -2-حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا _أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ _ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا، فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ. قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. الشرح: (الحديث الثاني) من أحاديث بدء الوحي. قوله: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي، كان نزل تنيس من عمل مصر، وأصله دمشقي، وهو من أتقن الناس في الموطأ، كذا وصفه يحيى بن معين. قوله: (أم المؤمنين) هو مأخوذ من قوله تعالى: (وأزواجه أمهاتهم) أي: في الاحترام وتحريم نكاحهن لا في غير ذلك مما اختلف فيه على الراجح، وإنما قيل للواحدة منهن أم المؤمنين للتغليب، وإلا فلا مانع من أن يقال لها أم المؤمنات على الراجح. قوله: (أن الحارث بن هشام) هو المخزومي، أخو أبي جهل شقيقه، أسلم يوم الفتح، وكان من فضلاء الصحابة، واستشهد في فتوح الشام. قوله: (سأل) هكذا رواه أكثر الرواة عن هشام بن عروة، فيحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك، وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة. ويحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة، وهو محكوم بوصله عند الجمهور. وقد جاء ما يؤيد الثاني، ففي مسند أحمد ومعجم البغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث ابن هشام قال: سألت. وعامر فيه ضعف، لكن وجدت له متابعا عند ابن منده، والمشهور الأول. قوله: (كيف يأتيك الوحي) يحتمل أن يكون المسؤول عنه صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون صفة حامله أو ما هو أعم من ذلك، وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز، لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله. واعترض الإسماعيلي فقال: هذا الحديث لا يصلح لهذه الترجمة، وإنما المناسب لكيف بدء الوحي الحديث الذي بعده، وأما هذا فهو لكيفية إتيان الوحي لا لبدء الوحي ا ه. قال الكرماني: لعل المراد منه السؤال عن كيفية ابتداء الوحي، أو عن كيفية ظهور الوحي، فيوافق ترجمة الباب. قلت: سياقه يشعر بخلاف ذلك لإتيانه بصيغة المستقبل دون الماضي، لكن يمكن أن يقال إن المناسبة تظهر من الجواب، لأن فيه إشارة إلى انحصار صفة الوحي أو صفة حامله في الأمرين فيشمل حالة الابتداء، وأيضا فلا أثر للتقديم والتأخير هنا ولو لم تظهر المناسبة، فضلا عن أنا قدمنا أنه أراد البداءة بالتحديث عن إمامي الحجاز فبدأ بمكة ثم ثنى بالمدينة. وأيضا فلا يلزم أن تتعلق جميع أحاديث الباب ببدء الوحي، بل يكفي أن يتعلق بذلك وبما يتعلق به وبما يتعلق بالآية أيضا، وذلك أن أحاديث الباب تتعلق بلفظ الترجمة وبما اشتملت عليه، ولما كان في الآية أن الوحي إليه نظير الوحي إلى الأنبياء قبله، ناسب تقديم ما يتعلق بها، وهو صفة الوحي وصفة حامله إشارة إلى أن الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه، فحسن إيراد هذا الحديث عقب حديث الأعمال، الذي تقدم التقدير بأن تعلقه بالآية الكريمة أقوى تعلق، والله سبحانه وتعالى أعلم. قوله: (أحيانا) جمع حين، يطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتا يأتيني، وانتصب على الظرفية، وعامله " يأتيني " مؤخر عنه. وللمصنف من وجه آخر عن هشام في بدء الخلق قال: كل ذلك يأتي الملك، أي كل ذلك حالتان فذكرهما. وروى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون، أنه بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم -كان يقول: " كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه على كما يلقى الرجل على الرجل، فذاك ينفلت مني. ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني " وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك) كما سيأتي، فإن الملك قد تمثل رجلا في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية وفي صورة أعرابي، وغير ذلك وكلها في الصحيح. وأورد على ما اقتضاه الحديث - وهو أن الوحي منحصر في الحالتين - حالات أخرى: إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة. وإما من صفة حامل الوحي، كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق. والجواب: منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله. وأما فنون الوحي، فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين - كما في حديث عمر - يسمع عنده كدوي النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبهه هو -صلى الله عليه وسلم -بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه. وأما النفث في الروع، فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفس حينئذ في روعه. وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه، لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء. (1/ 20) وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد، لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس، لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره ا ه. والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك، ويحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة، أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له -صلى الله عليه وسلم -في المنام أيضا على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني: وفيه نظر. وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا - فذكرها - وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر، وحديث: " أن روح القدس نفث في روعي"، أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود. قوله: (مثل صلصلة الجرس) في رواية مسلم " في مثل صلصلة الجرس " والصلصلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة: في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل: هو صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة، والجرس الجلجل الذي يعلق في رءوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحس. وقال الكرماني: الجرس ناقوس صغير أو سطل في داخله قطعة نحاس يعلق منكوسا على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحصلت الصلصلة. ا ه. وهو تطويل للتعريف بما لا طائل تحته. وقوله: قطعة نحاس، معترض لا يختص به، وكذا البعير، وكذا قوله منكوسا، لأن تعليقه على تلك الصورة هو وضعه المستقيم له. فإن قيل: المحمود لا يشبه بالمذموم، إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، والمشبه الوحي وهو محمود، والمشبه به صوت الجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة كما أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟ والجواب: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما. فالمقصود هنا بيان الجنس، فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبا لأفهامهم. والحاصل أن الصوت له جهتان: جهة قوة وجهة طنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، ويحتمل أن يكون النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور وفيه نظر. قيل: والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي، قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل: بل هو صوت حفيف أجنحة الملك 0 والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره، ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من الآلات، وسيأتي كلام ابن بطال في هذا المقام في الكلام على حديث ابن عباس: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها " الحديث عند تفسير قوله: (حتى إذا فزع عن قلوبهم) في تفسير سورة سبأ إن شاء الله تعالى. قوله: (وهو أشده علي) يفهم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذه الصفة أشدها، وهو واضح، لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك. وقال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما سيأتي في حديث ابن عباس: " كان يعالج من التنزيل شدة " قال وقال بعضهم: وإنما كان شديدا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع. ا ه. وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد، وهذا فيه نظر، والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما سيأتي بيانه في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج، فإن فيه أنه: " رآه -صلى الله عليه وسلم -حال نزول الوحي عليه وإنه ليغط"، وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى، والدرجات. قوله: (فيفصم) بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة أي: يقلع ويتجلى ما يغشاني، ويروى بضم أوله من الرباعي. (1/21) وفي رواية لأبي ذر بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع، ومنه قوله تعالى: (لا انفصام لها) ، وقيل الفصم بالفاء: القطع بلا إبانة، وبالقاف: القطع بإبانة، فذكر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العلقة. قوله: (وقد وعيت عنه ما قال) أي: القول الذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عمن قال من الكفار: (إن هذا إلا قول البشر) لأنهم كانوا ينكرون الوحي، وينكرون مجيء الملك به. قوله: (يتمثل لي الملك رجلا) التمثل مشتق من المثل، أي: يتصور. واللام في الملك للعهد وهو: جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد المقدم ذكرها. وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر. قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية، و " رجلا " منصوب بالمصدرية، أي: يتمثل مثل رجل، أو بالتمييز، أو بالحال والتقدير هيئة رجل. قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بعد. وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حيا، لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه. ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة. وقال شيخنا شيخ الإسلام: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشا فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب، والحق أن تمثل الملك رجلا، ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أيضا أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط. والله أعلم. قوله: (فيكلمني) كذا للأكثر، ووقع في رواية البيهقي من طريق القعنبي عن مالك " فيعلمني " بالعين بدل الكاف، والظاهر أنه تصحيف، فقد وقع في الموطأ رواية القعنبي بالكاف، وكذا للدار قطني في حديث مالك من طريق القعنبي وغيره. قوله: (فأعي ما يقول) زاد أبو عوانة في صحيحه " وهو أهونه على". وقد وقع التغاير في الحالتين حيث قال في الأول: " وقد وعيت " بلفظ الماضي، وهنا " فأعي " بلفظ الاستقبال، لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم، وفي الثاني حصل حال المكالمة، أو أنه كان في الأول قد تلبس بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلية، كان حافظا لما قيل له فعبر عنه بالماضي، بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة. قوله: (قالت عائشة) هو بالإسناد الذي قبله، وإن كان بغير حرف العطف كما يستعمل المصنف وغيره كثيرا، وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف. وقد أخرجه الدارقطني في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك مفصولا عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام. ونكتة هذا الاقتطاع هنا اختلاف التحمل، لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدا للخبر الأول. قوله: (ليتفصد) بالفاء وتشديد المهملة، مأخوذ من الفصد وهو: قطع العرق لإسالة الدم، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق. وفي قولها: " في اليوم الشديد البرد " دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي، لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية. وقوله: " عرقا " بالنصب على التمييز، زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في الدلائل: " وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه". (تنبيه) : حكى العسكري في التصحيف عن بعض شيوخه أنه قرأ " ليتقصد " بالقاف، ثم قال العسكري: إن ثبت فهو من قولهم: تقصد الشيء إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده انتهى. وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر، فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء، قال: فأصر على القاف، وذكر الذهبي في ترجمة ابن طاهر عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف، قال: فكابرني. (1/ 22) قلت: ولعل ابن طاهر وجهها بما أشار إليه العسكري. والله أعلم. وفي حديث الباب من الفوائد - غير ما تقدم - إن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره، وأن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل. والله أعلم. |
12-10-2012, 04:11 PM | #5 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*3قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ
الحديث: -3 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ -أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ -اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى -ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ -وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ. فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ. -4- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ -وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ -فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: " بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ. فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ -إِلَى قَوْلِهِ -وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ". تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ، وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ " بَوَادِرُهُ". الشرح: قوله: (حدثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن بكير، نسبه إلى جده لشهرته بذلك، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبت الناس في الليث بن سعد الفهمي فقيه المصريين. وعقيل بالضم على التصغير، وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب، وهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه، نسب إلى جد جده لشهرته، الزهري نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أم النبي -صلى الله عليه وسلم-، على إتقانه وإمامته. (1/ 23) قوله: (من الوحي) يحتمل أن تكون " من " تبعيضية، أي: من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكون بيانية، ورجحه القزاز. قوله: (الرؤيا الصالحة) وقع في رواية معمر ويونس عند المصنف في التفسير " الصادقة " وهي التي ليس فيها ضغث، وبدئ بذلك ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة، ثم مهد له في اليقظة أيضا رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر. قوله: (في النوم) لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازا. قوله: (مثل فلق الصبح) بنصب مثل على الحال، أي مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف، أي جاءت مجيئا مثل فلق الصبح. والمراد بفلق الصبح: ضياؤه. وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه. قوله: (حبب) لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام. والخلاء بالمد: الخلوة، والسر فيه: أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له. وحراء بالمد وكسر أوله كذا في الرواية وهو صحيح. وفي رواية الأصيلي بالفتح والقصر وقد حكى أيضا، وحكى فيه غير ذلك جوازا لا رواية. هو جبل معروف بمكة. والغار: نقب في الجبل وجمعه غيران. قوله: (فيتحنث) هي بمعنى يتحنف، أي يتبع الحنفية وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم. وقد وقع في رواية ابن هشام في السيرة " يتحنف " بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويتحرج ونحوهما. قوله: (وهو التعبد) هذا مدرج في الخبر، وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله. نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراج. قوله: (الليالي ذوات العدد) يتعلق بقوله يتحنث، وإبهام العدد لاختلافه، كذا قيل. وهو بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهي شهر، وذلك الشهر كان رمضان، رواه ابن إسحاق. والليالي منصوبة على الظرف، وذوات منصوبة أيضا، وعلامة النصب فيه كسر التاء. وينزع بكسر الزاي أي: يرجع وزنا ومعنى، ورواه المؤلف بلفظه في التفسير. قوله: (لمثلها) أي: الليالي. والتزود استصحاب الزاد. ويتزود معطوف على يتحنث. وخديجة هي أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، تأتي أخبارها في مناقبها. قوله: (حتى جاءه الحق) أي: الأمر الحق، وفي التفسير: حتى فجئه الحق - بكسر الجيم - أي بغته. وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحي إليه بذلك في المنام أولا قبل اليقظة، أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عقب ما تقدم في المنام. وسمي حقا لأنه وحي من الله تعالى. وقد وقع في رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول شأنه يرى في المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد، صرخ جبريل: " يا محمد " فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا، فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال: " يا محمد، جبريل جبريل " فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئا، ثم خرج عنهم فناداه فهرب. ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، فذكر قصة إقرائه (اقرأ باسم ربك) ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر، وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود، وابن لهيعة ضعيف. وقد ثبت في صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا: " لم أره - يعني جبريل - على صورته التي خلق عليها إلا مرتين"، وبين أحمد في حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها، والثانية عند المعراج. وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة: " لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد " وهذا يقوي رواية ابن لهيعة، وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين، وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند الله تعالى. ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيمي فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم -في حراء وأقرأه (اقرأ باسم ربك) ثم انصرف، فبقي مترددا، فأتاه من أمامه في صورته فرأى أمرا عظيما. (1/24) قوله: (فجاءه) هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيبية، لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى تعقب به، بل هو نفسه، ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال، وغيره من جهة التفصيل. قوله: (ما أنا بقارئ) ثلاثا. " ما " نافية، إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء، وإن حكي عن الأخفش، جوازه فهو شاذ، والباء زائدة لتأكيد النفي، أي ما أحسن القراءة. فلما قال ذلك ثلاثا قيل له: (اقرأ باسم ربك) أي: لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته، فهو يعلمك، كما خلقك وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية، ذكره السهيلي. وقال غيره: إن هذا التركيب - وهو قوله ما أنا بقارئ - يفيد الاختصاص. ورده الطيبي بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد، والتقدير: لست بقارئ البتة. فإن قيل: لم كرر ذلك ثلاثا؟ أجاب أبو شامة: بأن يحمل قوله أولا: " ما أنا بقارئ " على الامتناع، وثانيا: على الإخبار بالنفي المحض، وثالثا: على الاستفهام. ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال: كيف أقرأ وفي رواية عبيد بن عمير عن ابن إسحاق: ماذا أقرأ؟ وفي مرسل الزهري في دلائل البيهقي: كيف أقرأ؟ كل ذلك يؤيد أنها استفهامية. والله أعلم. قوله: (فغطني) بغين معجمة وطاء مهملة. وفي رواية الطبري بتاء مثناة من فوق كأنه أراد ضمني وعصرني، والغط حبس النفس، ومنه غطه في الماء، أو أراد غمني ومنه الخنق. ولأبي داود الطيالسي في مسنده بسند حسن: فأخذ بحلقي. قوله: (حتى بلغ مني الجهد) روي بالفتح والنصب، أي: بلغ الغط مني غاية وسعي. وروي بالضم والرفع أي: بلغ مني الجهد مبلغه. وقوله: " أرسلني " أي أطلقني، ولم يذكر الجهد هنا في المرة الثالثة، وهو ثابت عند المؤلف في التفسير. قوله: (فرجع بها) أي: بالآيات أو بالقصة. قوله: (فزملوه) أي: لفوه. والروع بالفتح: الفزع. قوله: (لقد خشيت على نفسي) دل هذا مع قوله " يرجف فؤاده " على انفعال حصل له من مجيء الملك، ومن ثم قال: " زملوني". والخشية المذكورة اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولا: أولها: الجنون، وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة، جاء مصرحا به في عدة طرق، وأبطله أبو بكر بن العربي وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضروري له أن الذي جاءه ملك وأنه من عند الله تعالى. ثانيها: الهاجس، وهو باطل أيضا لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة. ثالثها: الموت من شدة الرعب. رابعها: المرض، وقد جزم به ابن أبي جمرة. خامسها: دوام المرض. سادسها: العجز عن حمل أعباء النبوة. سابعها: العجز عن النظر إلى الملك من الرعب. ثامنها: عدم الصبر على أذى قومه. تاسعها: أن يقتلوه. عاشرها: مفارقة الوطن. حادي عشرها: تكذيبهم إياه. ثاني عشرها: تعييرهم إياه. وأولى هذه الأقوال بالصواب وأسلمها من الارتياب الثالث واللذان بعده، وما عداها فهو معترض. والله الموفق. |
12-10-2012, 04:13 PM | #6 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
قوله: (فقالت خديجة: كلا) معناها: النفي والإبعاد، ويحزنك: بفتح أوله والحاء المهملة والزاي المضمومة والنون من الحزن.
ولغير أبي ذر بضم أوله والخاء المعجمة والزاي المكسورة ثم الياء الساكنة من الخزي. ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدا بأمر استقرائي وصفته بأصول مكارم الأخلاق، لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإما بالبدن أو بالمال، وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل، وذلك كله مجموع فيما وصفته به. والكل بفتح الكاف: هو من لا يستقل بأمره كما قال الله تعالى: (وهو كل على مولاه) وقولها: " وتكسب المعدوم " في رواية الكشميهني وتكسب بضم أوله، وعليها قال الخطابي: الصواب المعدم بلا واو أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب. قلت: ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، والكسب هو الاستفادة. فكأنها قالت: إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودا رغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزا فتعاونه. وقال قاسم بن ثابت في الدلائل: قوله يكسب معناه: ما يعدمه غيره ويعجز عته يصيبه هو ويكسبه. (1/25) قال أعرابي يمدح إنسانا: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم وأنشد في وصف ذئب " كسوب كذا المعدوم من كسب واحد " أي: مما يكسبه وحده. انتهى. ولغير الكشميهني " وتكسب " بفتح أوله، قال عياض: وهذه الرواية أصح. قلت: قد وجهنا الأولى، وهذه الراجحة، ومعناها: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، ويقال: كسبت الرجل مالا وأكسبته بمعنى. وقيل: معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه مالا يصيب غيرك. وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم -قبل البعثة محظوظا في التجارة. وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به، من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت في المكرمات. وقولها: " وتعين على نوائب الحق " هي كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم. وفي رواية المصنف في التفسير من طريق يونس عن الزهري من الزيادة " وتصدق الحديث " وهي من أشرف الخصال. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة " وتؤدى الأمانة". وفي هذه القصة من الفوائد استحباب تأنيس من نزل به أمر، بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأن من نزلت به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه. قوله: (فانطلقت به) أي مضت معه، فالباء للمصاحبة. وورقة بفتح الراء. وقوله: " ابن عم خديجة " هو بنصب ابن ويكتب بالألف، وهو بدل من ورقة أو صفة أو بيان، ولا يجوز جره فإنه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، ولا كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين. قوله: (تنصر) أي: صار نصرانيا، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل، لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبي -صلى الله عليه وسلم -والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل. وأما زيد بن عمرو فسيأتي خبره في المناقب إن شاء الله تعالى. قوله: (فكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية) . وفي رواية يونس ومعمر: ويكتب من الإنجيل بالعربية. ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربي. والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي، لتمكنه من الكتابين واللسانين. ووقع لبعض الشراح هذا خبط فلا يعرج عليه. وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا، كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها " أناجيلها صدورها". قولها: " يا ابن عم " هذا النداء على حقيقته، ووقع في مسلم " يا عم " وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة. وإنما جوزنا ذلك فيما مضى في العبراني والعربي لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطرد في جميع ما أشبهه. وقالت في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-: اسمع من ابن أخيك. لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته. أو قالته على سبيل التوقير لسنه. وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة: " اسمع من ابن أخيك " أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي -صلى الله عليه وسلم -وذلك أبلغ في التعليم. قوله: (ماذا ترى؟) فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرح به في دلائل النبوة لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شداد في هذه القصة قال: فأتت به ورقة ابن عمها، فأخبرته بالذي رأى. قوله: (هذا الناموس الذي نزل الله على موسى) . وللكشميهني " أنزل الله"، وفي التفسير " أنزل " على البناء للمفعول وأشار بقوله: " هذا " إلى الملك الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم -في خبره، ونزله منزلة القريب لقرب ذكره. (1/26) والناموس: صاحب السر، كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء. وزعم ابن ظفر أن الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر. والأول: الصحيح الذي عليه الجمهور. وقد سوى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب. والمراد بالناموس هنا: جبريل -عليه السلام-. وقوله: " على موسى " ولم يقل: على عيسى مع كونه نصرانيا، لأن كتاب موسى -عليه السلام -مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى. وكذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-. أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى. كذلك وقعت النقمة على يد النبي -صلى الله عليه وسلم -بفرعون هذه الأمة وهو: أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر. أو قاله تحقيقا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته، وأما ما تمحل له السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال، لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمن بدل. على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى. والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف. نعم في دلائل النبوة لأبي نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة، أن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال: لئن كنت صدقتني، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم. فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة: ناموس عيسى وتارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- له قال له: ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح. والله سبحانه وتعالى أعلم. |
12-10-2012, 04:15 PM | #7 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
قوله: (يا ليتني فيها جذع) كذا في رواية الأصيلي، وعند الباقين: " يا ليتني فيها جذعا " بالنصب على أنه خبر كان المقدرة، قاله الخطابي، وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالى: (انتهوا خيرا لكم) .
وقال ابن بري: التقدير: يا ليتني جعلت فيها جذعا. وقيل: النصب على الحال، إذا جعلت فيها خبر ليت، والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار، قاله السهيلي. وضمير " فيها " يعود على أيام الدعوة. والجذع - بفتح الجيم والذال المعجمة - هو: الصغير من البهائم، كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سر وصفه بكونه كان كبيرا أعمى. قوله: (إذ يخرجك) قال ابن مالك: فيه استعمال " إذ " في المستقبل كإذا، وهو صحيح، وغفل عنه أكثر النحاة، وهو كقوله تعالى: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر) هكذا ذكره ابن مالك وأقره عليه غير واحد. وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام: بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير " حين يخرجك قومك " وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم أولى، لما ينبني عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضي، تحقيقا لوقوعه أو استحضارا للصورة الآتية في هذه دون تلك مع وجوده في أفصح الكلام، وكأنه أراد بمنع الورود ورودا محمولا على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال، وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شابا، هو مستحيل عادة. ويظهر لي أن التمني ليس مقصودا على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به. قوله: (أو مخرجي هم) بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج، فهم مبتدأ مؤخر، ومخرجي خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبي -صلى الله عليه وسلم -أن يخرجوه، لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها. وقد استدل ابن الدغنة بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يخرج. قوله: (إلا عودي) وفي رواية يونس في التفسير " إلا أوذي " فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من ثم، وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام. قوله: (إن يدركني يومك) إن شرطية، والذي بعدها مجزوم. (1/27) زاد في رواية يونس في التفسير: " حيا " ولابن إسحاق: " إن أدركت ذلك اليوم " يعني: يوم الإخراج. قوله: (مؤزرا) بهمزة أي: قويا، مأخوذ من الأزر، وهو القوة وأنكر القزاز أن يكون في اللغة مؤزر من الأزر. وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره في نصرته، قال الأخطل: " قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم " البيت. قوله: (ثم لم ينشب) بفتح الشين المعجمة أي: لم يلبث. وأصل النشوب التعلق، أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات. وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام. فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو في قوله: وفتر الوحي، ليست للترتيب، فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكرا بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع. وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان -صلى الله عليه وسلم -وجده من الورع، وليحصل له التشوف إلى العود، فقد روى المؤلف في التعبير من طريق معمر ما يدل على ذلك. (فائدة) : وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي، أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان. وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول " اقرأ " و " يا أيها المدثر " عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط. ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد، ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه. فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة. وأخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصرا عن داود بلفظ: بعث لأربعين، ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل. فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبت - الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل ثلاث عشرة، وقيل عشر، ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة، والله أعلم. وقد حكى ابن التين هذه القصة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل، وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل، انتهى. ولا يخفى ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم. وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه -صلى الله عليه وسلم -بمكة، فإنه قال: جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف. وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال: مكث عشر سنين، حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال: ثلاث عشرة، أضافهما. وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس: أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. (1/28) قوله: (قال ابن شهاب: أخبرني أبو سلمة) إنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال: أخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا. وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وأخطأ من زعم أن هذا معلق وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقدم شيء عطفته، وقد تقدم قوله: عن ابن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال: قال ابن شهاب - أي بالسند المذكور - وأخبرني أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا، ودل قوله عن فترة الوحي وقوله الملك الذي جاءني بحراء على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ، ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في التفسير عن أبي سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن (يا أيها المدثر) أول ما نزل، ورواية الزهري هذه الصحيحة ترفع هذا الإشكال، وسياق بسط القول في ذلك في تفسير سورة اقرأ. قوله: (فرعبت منه) بضم الراء وكسر العين، وللأصيلي بفتح الراء وضم العين، أي: فزعت، دل على بقية بقيت معه من الفزع الأول ثم زالت بالتدريج. قوله: (فقلت: زملوني زملوني) وفي رواية الأصيلي وكريمة زملوني مرة واحدة. وفي رواية يونس في التفسير فقلت دثروني فنزلت (يا أيها المدثر قم فأنذر) أي: حذر من العذاب من لم يؤمن بك (وربك فكبر) أي: عظم (وثيابك فطهر) أي: من النجاسة، وقيل: الثياب النفس، وتطهيرها اجتناب النقائص، والرجز هنا الأوثان كما سيأتي من تفسير الراوي عند المؤلف في التفسير، والرجز في اللغة: العذاب، وسمي الأوثان هنا رجزا لأنها سببه. قوله: (فحمى الوحي) أي جاء كثيرا، وفيه مطابقة لتعبيره عن تأخره بالفتور، إذ لم ينته إلى انقطاع كلي فيوصف بالضد وهو البرد. قوله: (وتتابع) تأكيد معنوي، ويحتمل أن يراد بحمي: قوي، وتتابع: تكاثر، وقد وقع في رواية الكشميهني وأبى الوقت " وتواتر"، والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير تخلل. (تنبيه) خرج المصنف بالإسناد في التاريخ حديث الباب عن عائشة، ثم عن جابر بالإسناد المذكور هنا فزاد فيه بعد قوله " تتابع ": قال عروة - يعني بالسند المذكور إليه - وماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: " رأيت لخديجة بيتا من قصب، لا صحب فيه ولا نصب " قال البخاري: يعني قصب اللؤلؤ. قلت: وسيأتي مزيد لهذا في مناقب خديجة إن شاء الله تعالى. قوله: (تابعه) الضمير يعود على يحيى بن بكير، ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف في قصة موسى. وفيه من اللطائف قوله عن الزهري: سمعت عروة. قوله: (وأبو صالح) هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد أكثر البخاري عنه من المعلقات، وعلق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبي صالح عنه. ورواية عبد الله بن صالح عن الليث لهذا الحديث أخرجها يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير، ووهم من زعم - كالدمياطي - أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحراني، فإنه لم يذكر من أسنده عن عبد الغفار وقد وجد في مسنده عن كاتب الليث. قوله: (وتابعه هلال بن رداد) بدالين مهملتين الأولى مثقلة، وحديثه في الزهريات للذهلي. قوله: (وقال يونس) يعني ابن يزيد الأيلي، ومعمر هو ابن راشد. (بوادره) يعني: أن يونس ومعمرا رويا هذا الحديث عن الزهري فوافقا عقيلا عليه، إلا أنهما قالا بدل قوله يرجف فؤاده ترجف بوادره، والبوادر: جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان، فالروايتان مستويتان في أصل المعنى لأن كلا منهما دال على الفزع، وقد بينا ما في رواية يونس ومعمر من المخالفة لرواية عقيل غير هذا في أثناء السياق، والله الموفق. وسيأتي بقية شرح هذا الحديث في تفسير سورة (اقرأ باسم ربك) إن شاء الله تعالى. |
12-10-2012, 04:16 PM | #8 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*4كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً
الحديث: -5 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُحَرِّكُهُمَا. وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا -فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ. (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كَمَا قَرَأَهُ. الشرح: قوله: (حدثنا موسى بن إسماعيل) هو أبو سلمة التبوذكي، وكان من حفاظ المصريين. قوله: (حدثنا أبو عوانة) هو الوضاح بن عبد الله اليشكري مولاهم البصري، كان كتابه في غاية الإتقان. وموسى بن أبي عائشة لا يعرف اسم أبيه، وقد تابعه على بعضه عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير. قوله: (كان مما يعالج) المعالجة محاولة الشيء بمشقة، أي: كان العلاج ناشئا من تحريك الشفتين، أي: مبدأ العلاج منه، أو " ما " موصولة وأطلقت على من يعقل مجازا، هكذا قرره الكرماني، وفيه نظر لأن الشدة حاصلة له قبل التحرك، والصواب ما قاله ثابت السرقسطي أن المراد كان كثيرا ما يفعل ذلك، وورودهما في هذا كثير ومنه حديث الرؤيا " كان مما يقول لأصحابه: من رأى منكم رؤيا "؟ ومنه قول الشاعر: وإنا لمما نضرب الكبش ضربة * على وجهه يلقى اللسان من الفم قلت: ويؤيده أن رواية المصنف في التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبي عائشة ولفظها " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إذا نزل جبريل بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه". فأتى بهذا اللفظ مجردا عن تقدم العلاج الذي قدره الكرماني، فظهر ما قال ثابت، ووجه ما قال غيره: إن " من " إذا وقع بعدها " ما " كانت بمعنى ربما، وهي تطلق على القليل والكثير. وفي كلام سيبويه مواضع من هذا منها قوله: اعلم أنهم مما يحذفون كذا. والله أعلم. ومنه حديث البراء: " كنا إذا صلينا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم -مما نحب أن نكون عن يمينه " الحديث، ومن حديث سمرة " كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه: من رأى منكم رؤيا". قوله: (فقال ابن عباس فأنا أحركهما) جملة معترضة بالفاء، وفائدة هذا زيادة البيان في الوصف على القول، وعبر في الأول بقوله " كان يحركهما " وفي الثاني برأيت، لأن ابن عباس لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم -في تلك الحالة، لأن سورة القيامة مكية باتفاق، بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر، وإلى هذا جنح البخاري في إيراده هذا الحديث في بدء الوحي، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك ولد، لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، لكن يجوز أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم -أخبره بذلك بعد، أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبي -صلى الله عليه وسلم -، الأول هو الصواب، فقد ثبت ذلك صريحا في مسند أبي داود الطيالسي قال: حدثنا أبو عوانة بسنده. وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع. قوله: (فحرك شفتيه) وقوله: فأنزل الله (لا تحرك به لسانك) لا تنافي بينهما، لأن تحريك الشفتين، بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان، (1/30) أو اكتفى بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل في النطق إذ الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين ناشئ عن ذلك، وقد مضى أن في رواية جرير في التفسير " يحرك به لسانه وشفتيه " فجمع بينهما، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم -في ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة، ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء، قاله الحسن وغيره. ووقع في رواية للترمذي " يحرك به لسانه يريد أن يحفظه"، وللنسائي " يعجل بقراءته ليحفظه"، ولابن أبي حاتم " يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره"، وفي رواية الطبري عن الشعبي " عجل يتكلم به من حبه إياه " وكلا الأمرين مراد، ولا تنافي بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك، فأمر بأن ينصت حتى يقضي إليه وحيه، ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره، ونحوه قوله تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه) أي: بالقراءة. قوله: (جمعه لك صدرك) كذا في أكثر الروايات وفيه إسناد الجمع إلى الصدر بالمجاز، كقوله: أنبت الربيع البقل، أي: أنبت الله في الربيع البقل، واللام في " لك " للتبيين أو للتعليل. وفي رواية كريمة والحموي " جمعه لك في صدرك " وهو توضيح للأول، وهذا من تفسير ابن عباس. وقال في تفسير (فاتبع) أي: فاستمع وأنصت، وفي تفسير (بيانه) أي: علينا أن تقرأه. ويحتمل أن يراد بالبيان بيان مجملاته وتوضيح مشكلاته، فيستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الصحيح في الأصول، والكلام في تفسير الآيات المذكورة أخرته إلى كتاب التفسير فهو موضعه. والله أعلم. *3*5كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ الحديث: -6- حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح و حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. الشرح: قوله: (حدثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان المروزي أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك أخبرنا يونس هو ابن يزيد الأيلي. قوله: (أخبرنا يونس ومعمر نحوه) أي: أن عبد الله بن المبارك حدث به عبدان عن يونس وحده، وحدث به بشر بن محمد عن يونس ومعمر معا، أما باللفظ فعن يونس وأما بالمعنى فعن معمر. قوله (عبيد الله) هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الآتي في الحديث الذي بعده. قوله: (أجود الناس) بنصب أجود لأنها خبر كان، وقدم ابن عباس هذه الجملة على ما بعدها - وإن كانت لا تتعلق بالقرآن - على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها. ومعنى أجود الناس: أكثر الناس جودا، والجود الكرم، وهو من الصفات المحمودة. وقد أخرج الترمذي من حديث سعد رفعه " إن الله جواد يحب الجود " الحديث. وله في حديث أنس رفعه " أنا أجود ولد آدم، وأجودهم بعدي رجل علم علما فنشر علمه، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله " وفي سنده مقال، وسيأتي في الصحيح من وجه آخر عن أنس " كان النبي -صلى الله عليه وسلم -أشجع الناس وأجود الناس". الحديث. قوله: (وكان أجود ما يكون) هو برفع أجود هكذا في أكثر الروايات، وأجود اسم كان وخبره محذوف، وهو نحو أخطب ما يكون الأمير في يوم الجمعة. أو هو مرفوع على أنه مبتدأ مضاف إلى المصدر وهو " ما يكون " وما مصدرية وخبره في رمضان، (1/31) والتقدير: أجود أكوان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -في رمضان، وإلى هذا جنح البخاري في تبويبه في كتاب الصيام إذ قال: " باب أجود ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم -يكون في رمضان". وفي رواية الأصيلي " أجود " بالنصب على أنه خبر كان، وتعقب بأنه يلزم منه أن يكون خبرها اسمها، وأجيب بجعل اسم كان ضمير النبي -صلى الله عليه وسلم -وأجود خبرها، والتقدير: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره، قال النووي: الرفع أشهر، والنصب جائز. وذكر أنه سأل ابن مالك عنه فخرج الرفع من ثلاثة أوجه والنصب من وجهين. وذكر ابن الحاجب في أماليه للرفع خمسة أوجه، توارد ابن مالك منها في وجهين وزاد ثلاثة ولم يعرج على النصب. قلت: ويرجح الرفع وروده بدون كان عند المؤلف في الصوم. قوله: (فيدارسه القرآن) قيل: الحكمة فيه أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود. والجود في الشرع: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة. وأيضا فرمضان موسم الخيرات، لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم -يؤثر متابعة سنة الله في عباده. فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود. والعلم عند الله تعالى. قوله: (فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم -) الفاء للسببية، واللام للابتداء وزيدت على المبتدأ تأكيدا، أو هي جواب قسم مقدر. والمرسلة أي: المطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه. ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث " لا يسأل شيئا إلا أعطاه " وثبتت هذه الزيادة في الصحيح من حديث جابر " ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -شيئا فقال لا". وقال النووي: في الحديث فوائد: منها الحث على الجود في كل وقت، ومنها الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح. وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير، وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإكثار من القراءة في رمضان وكونها أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعلاه. فإن قيل: المقصود تجويد الحفظ، قلنا الحفظ كان حاصلا، والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس، وأنه يجوز أن يقال رمضان من غير إضافة غير ذلك مما يظهر بالتأمل. قلت: وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان، لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث ابن عباس، فكان جبريل يتعاهده في كل سنة فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة -رضي الله عنها- وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب. والله أعلم بالصواب. |
12-10-2012, 04:18 PM | #9 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*6بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ
الحديث: -7- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ. ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا. (1/32) قالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ. وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ. وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ (وَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (1/33) قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا. فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ -صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ -سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ، أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاطورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ. وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَأَنَّهُ نَبِيٌّ. فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ. الشرح: قوله: (قال حدثنا أبو اليمان) في رواية الأصيلي وكريمة: حدثنا الحكم بن نافع، وهو هو، أخبرنا شعيب: هو ابن أبي حمزة دينار الحمصي، وهو من أثبات أصحاب الزهري. قوله: (أن أبا سفيان) هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. قوله: (هرقل) هو ملك الروم، وهرقل: اسمه، وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف، ولقبه قيصر، كما يلقب ملك الفرس: كسرى ونحوه. قوله: (في ركب) جمع راكب كصحب وصاحب، وهم: أولو الإبل، العشرة فما فوقها. والمعنى: أرسل إلى أبي سفيان حال كونه في جملة الركب، وذاك لأنه كان كبيرهم فلهذا خصه، وكان عدد الركب ثلاثين رجلا، رواه الحاكم في الإكليل. ولابن السكن: نحو من عشرين، وسمي منهم المغيرة بن شعبة في مصنف ابن أبي شيبة بسند مرسل، وفيه نظر، لأنه كان إذ ذاك مسلما. ويحتمل أن يكون رجع حينئذ إلى قيصر ثم قدم المدينة مسلما. وقد وقع ذكره أيضا في أثر آخر في كتاب السير لأبي إسحاق الفزاري، وكتاب الأموال لأبي عبيد من طريق سعيد بن المسيب قال: كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى كسرى وقيصر.. الحديث وفيه: فلما قرأ قيصر الكتاب قال: هذا كتاب لم أسمع بمثله. ودعا أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة وكانا تاجرين هناك، فسأل عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قوله: (وكانوا تجارا) بضم التاء وتشديد الجيم، أو كسرها والتخفيف، جمع تاجر. (1/34) قوله: (في المدة) يعني مدة الصلح بالحديبية، وسيأتي شرحها في المغازي، وكانت في سنة ست، وكانت مدتها عشر سنين كما في السيرة، وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر، ولأبي نعيم في مسند عبد الله ابن دينار: كانت أربع سنين، وكذا أخرجه الحاكم في البيوع من المستدرك، والأول أشهر. لكنهم نقضوا، فغزاهم سنة ثمان وفتح مكة. وكفار قريش بالنصب مفعول معه. قوله: (فأتوه) تقديره: أرسل إليهم في طلب إتيان الركب، فجاء الرسول يطلب إتيانهم فأتوه، كقوله تعالى: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت) أي: فضرب فانفجرت. ووقع عند المؤلف في الجهاد أن الرسول وجدهم ببعض الشام. وفي رواية لأبي نعيم في الدلائل تعيين الموضع وهو غزة. قال: وكانت وجه متجرهم. وكذا رواه ابن إسحاق في المغازي عن الزهري، وزاد في أوله عن أبي سفيان قال: كنا قوما تجارا، وكانت الحرب قد حصبتنا، فلما كانت الهدنة خرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا وقد حملني بضاعة. فذكره. |
12-10-2012, 04:19 PM | #10 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
وفيه: فقال هرقل لصاحب شرطته: قلب الشام ظهرا لبطن حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه.
فوالله إني وأصحابي بغزة، إذ هجم علينا فساقنا جميعا. قوله: (بإيلياء) بهمزة مكسورة بعدها ياء أخيرة ساكنة، ثم لام مكسورة ثم ياء أخيرة ثم ألف مهموزة، وحكى البكري فيها القصر، ويقال لها أيضا إليا بحذف الياء الأولى وسكون اللام حكاه البكري، وحكى النووي مثله لكن بتقديم الياء على اللام واستغربه، قيل: معناه بيت الله. وفي الجهاد عند المؤلف: أن هرقل لما كشف الله عنه جنود فارس، مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله. زاد ابن إسحاق عن الزهري: أنه كان تبسط له البسط وتوضع عليها الرياحين فيمشي عليها، ونحوه لأحمد من حديث ابن أخي الزهري عن عمه. وكان سبب ذلك ما رواه الطبري وابن عبد الحكم من طرق متعاضدة ملخصها: أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل، فخربوا كثيرا من بلاده، ثم استبطأ كسرى أميره فأراد قتله وتولية غيره، فاطلع أميره على ذلك فباطن هرقل، واصطلح معه على كسرى وانهزم عنه بجنود فارس، فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكرا لله تعالى على ذلك. واسم الأمير المذكور: شهر براز، واسم الغير الذي أراد كسرى تأميره فرحان. قوله: (فدعاهم في مجلسه) أي: في حال كونه في مجلسه، وللمصنف في الجهاد " فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج". قوله: (وحوله) بالنصب لأنه ظرف مكان. قوله: (عظماء) جمع عظيم. ولابن السكن: فأدخلنا عليه وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان والروم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم -عليهما السلام -على الصحيح، ودخل فيهم طوائف من العرب من تنوخ وبهراء وسليح وغيرهم من غسان كانوا سكانا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم، فاستوطنوها فاختلطت أنسابهم. قوله: (ثم دعاهم ودعا ترجمانه) وللمستملي " بالترجمان " مقتضاه: أنه أمر بإحضارهم، فلما حضروا استدناهم لأنه ذكر أنه دعاهم ثم دعاهم فينزل على هذا، ولم يقع تكرار ذلك إلا في هذه الرواية. والترجمان بفتح التاء المثناة وضم الجيم ورجحه النووي في شرح مسلم، ويجوز ضم التاء اتباعا، ويجوز فتح الجيم مع فتح أوله حكاه الجوهري، ولم يصرحوا بالرابعة وهي ضم أوله وفتح الجيم. وفي رواية الأصيلي وغيره " بترجمانه " يعني: أرسل إليه رسولا أحضره صحبته، والترجمان المعبر عن لغة بلغة، وهو معرب وقيل: عربي. قوله: (فقال: أيكم أقرب نسبا) أي قال الترجمان على لسان هرقل. قوله: (بهذا الرجل) زاد ابن السكن: الذي خرج بأرض العرب يزعم أنه نبي. قوله: (قلت أنا أقربهم نسبا) في رواية ابن السكن: فقالوا هذا أقربنا به نسبا، هو ابن عمه أخي أبيه. وإنما كان أبو سفيان أقرب لأنه من بني عبد مناف، وقد أوضح ذلك المصنف في الجهاد بقوله: قال ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي. قال أبو سفيان: ولم يكن في الركب من بني عبد مناف غيري ا ه. وعبد مناف الأب الرابع للنبي -صلى الله عليه وسلم -وكذا لأبي سفيان، وأطلق عليه ابن عم لأنه نزل كلا منهما منزلة جده، (1/35) فعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وعلى هذا ففيما أطلق في رواية ابن السكن تجوز، وإنما خص هرقل الأقرب لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره، ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب، وظهر ذلك في سؤاله بعد ذلك: كيف نسبه فيكم؟ وقوله: " بهذا الرجل " ضمن أقرب معنى أوصل فعداه بالباء، ووقع في رواية مسلم: " من هذا الرجل " وهو على الأصل. وقوله: " الذي يزعم " في رواية ابن إسحاق عن الزهري " يدعي". وزعم: قال الجوهري بمعنى قال، وحكاه أيضا ثعلب وجماعة كما سيأتي في قصة ضمام في كتاب العلم. قلت: وهو كثير ويأتي موضع الشك غالبا. قوله: (فاجعلوهم عند ظهره) أي: لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، وقد صرح بذلك الواقدي. وقوله: " إن كذبني " بتخفيف الذال أي: إن نقل إلي الكذب. قوله: (قال) أي: أبو سفيان. وسقط لفظ قال من رواية كريمة وأبي الوقت فأشكل ظاهره، وبإثباتها يزول الإشكال. قوله: (فوالله لولا الحياء من أن يأثروا) أي: ينقلوا على الكذب لكذبت عليه. وللأصيلي عنه أي: عن الإخبار بحاله. وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب إما بالأخذ عن الشرع السابق، أو بالعرف. وفي قوله: يأثروا دون قوله يكذبوا، دليل على أنه كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه ترك ذلك استحياء وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابا. وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك ولفظه " فوالله لو قد كذبت ما ردوا علي"، ولكني كنت امرءا سيدا أتكرم عن الكذب، وعلمت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عني ثم يتحدثوا به، فلم أكذبه. وزاد ابن إسحاق في روايته: قال أبو سفيان فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف، يعني: هرقل. قوله: (كان أول) هو بالنصب على الخبر، وبه جاءت الرواية، ويجوز رفعه على الاسمية. قوله: (كيف نسبه فيكم؟) أي: ما حال نسبه فيكم، أهو من أشرافكم أم لا؟ فقال: هو فينا ذو نسب. فالتنوين فيه للتعظيم، وأشكل هذا على بعض الشارحين، وهذا وجهه. قوله: (فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟) وللكشميهني والأصيلي بدل قبله " مثله " فقوله: منكم أي من قومكم يعني قريشا أو العرب. ويستفاد منه أن الشفاهي يعم، لأنه لم يرد المخاطبين فقط. وكذا قوله: فهل قاتلتموه؟ وقوله: بماذا يأمركم؟ واستعمل قط بغير أداة النفي وهو نادر، ومنه قول عمر: " صلينا أكثر ما كنا قط وآمنه ركعتين " ويحتمل أن يقال: إن النفي مضمن فيه كأنه قال: هل قال هذا القول أحد أو لم يقله أحد قط. قوله: (فهل كان من آبائه ملك؟) ولكريمة والأصيلي وأبي الوقت بزيادة " من " الجارة، ولابن عساكر بفتح من، وملك فعل ماض، والجارة أرجح لسقوطها من رواية أبي ذر، والمعنى في الثلاثة واحد. قوله: (فأشراف الناس اتبعوه) فيه إسقاط همزة الاستفهام وهو قليل، وقد ثبت للمصنف في التفسير ولفظه: أيتبعه أشراف الناس؟ والمراد بالأشراف هنا أهل النخوة والتكبر منهم، لا كل شريف، حتى لا يرد مثل أبي بكر وعمر وأمثالهما ممن أسلم قبل هذا السؤال. ووقع في رواية ابن إسحاق: تبعه منا الضعفاء والمساكين، فأما ذوو الأنساب والشرف فاتبعه منهم أحد. وهو محمول على الأكثر الأغلب. قوله: (سخطة) بضم أوله وفتحه. وأخرج بهذا من ارتد مكرها، أو لا لسخط لدين الإسلام بل لرغبة في غيره كحظ نفساني، كما وقع لعبيد الله بن جحش. |
12-10-2012, 04:20 PM | #11 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
قوله: (هل كنتم تتهمونه بالكذب؟) أي: على الناس، وإنما عدل إلى السؤال عن التهمة عن السؤال عن نفس الكذب، تقريرا لهم على صدقه، لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها، ولهذا عقبه بالسؤال عن الغدر.
قوله: (ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا) أي: أنتقصه به، على أن التنقيص هنا أمر نسبي، وذلك أن من يقطع بعدم غدره أرفع رتبة ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة، وقد كان معروفا عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر. (1/36) ولما كان الأمر مغيبا - لأنه مستقبل - أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب، ولهذا أورده بالتردد، ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه. وقد صرح ابن إسحاق في روايته عن الزهري بذلك بقوله: " قال فوالله ما التفت إليها مني". ووقع في رواية أبي الأسود عن عروة مرسلا: " خرج أبو سفيان إلى الشام - فذكر الحديث، إلى أن قال - فقال أبو سفيان: هو ساحر كذاب. فقال هرقل: إني لا أريد شتمه، ولكن كيف نسبه - إلى أن قال - فهل يغدر إذا عاهد؟ قال: لا، إلا أن يغدر في هدنته هذه. فقال: وما يخاف من هذه؟ فقال: إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه. قال: إن كنتم بدأتم فأنتم أغدر". قوله: (سجال) بكسر أوله، أي: نوب، والسجل: الدلو، والحرب: اسم جنس، ولهذا جعل خبره اسم جمع. وينال أي: يصيب، فكأنه شبه المحاربين بالمستقيين: يستقي هذا دلوا وهذا دلوا. وأشار أبو سفيان بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أحد، وقد صرح بذلك أبو سفيان يوم أحد في قوله: " يوم بيوم بدر، والحرب سجال " ولم يرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم -ذلك بل نطق النبي -صلى الله عليه وسلم -بذلك في حديث أوس بن حذيفة الثقفي لما كان يحدث وفد ثقيف، أخرجه ابن ماجة وغيره. ووقع في مرسل عروة " قال أبو سفيان: غلبنا مرة يوم بدر وأنا غائب، ثم غزوتهم في بيوتهم ببقر البطون وجدع الآذان " وأشار بذلك إلى يوم أحد. قوله: (بماذا يأمركم) ؟ يدل على أن الرسول من شأنه أن يأمر قومه. قوله: (يقول اعبدوا الله وحده) فيه أن للأمر صيغة معروفة، لأنه أتى بقوله: " اعبدوا الله " في جواب ما يأمركم، وهو من أحسن الأدلة في هذه المسألة، لأن أبا سفيان من أهل اللسان، وكذلك الراوي عنه ابن عباس، بل هو من أفصحهم وقد رواه عنه مقرا له. قوله: (ولا تشركوا به شيئا) سقط من رواية المستملي الواو فيكون تأكيدا لقوله وحده. قوله: (واتركوا ما يقول آباؤكم) هي كلمة جامعة لترك ما كانوا عليه في الجاهلية، وإنما ذكر الآباء تنبيها على عذرهم في مخالفتهم له، لأن الآباء قدوة عند الفريقين، أي عبدة الأوثان والنصارى. قوله: (ويأمرنا بالصلاة والصدق) وللمصنف في رواية " الصدقة " بدل الصدق، ورجحها شيخنا شيخ الإسلام، ويقويها رواية المؤلف في التفسير " الزكاة " واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع، ويرجحها أيضا ما تقدم من أنهم كانوا يستقبحون الكذب فذكر ما لم يألفوه أولى. قلت: وفي الجملة ليس الأمر بذلك ممتنعا كما في أمرهم بوفاء العهد وأداء الأمانة، وقد كانا من مألوف عقلائهم، وقد ثبتا عند المؤلف في الجهاد من رواية أبي ذر عن شيخه الكشميهني والسرخسي، قال: " بالصلاة والصدق والصدقة " وفي قوله: يأمرنا بعد قوله يقول اعبدوا الله إشارة إلى أن المغايرة بين الأمرين لما يترتب على مخالفهما، إذ مخالف الأول كافر، والثاني ممن قبل الأول عاص. قوله: (فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها) الظاهر أن إخبار هرقل بذلك بالجزم كان عن العلم المقرر عنده في الكتب السالفة. قوله: (لقلت رجل تأسى بقول) كذا للكشميهني، ولغيره " يتأسى " بتقديم الياء المثناة من تحت، وإنما لم يقل هرقل: " فقلت " إلا في هذا وفي قوله: " هل كان من آبائه من ملك " لأن هذين المقامين مقام فكر ونظر، بخلاف غيرهما من الأسئلة فإنها مقام نقل. قوله: (فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه) هو بمعنى قول أبي سفيان ضعفاؤهم، ومثل ذلك يتسامح به لاتحاد المعنى. وقول هرقل: " وهم أتباع الرسل " معناه: أن أتباع الرسل في الغالب أهل الاستكانة لا أهل الاستكبار الذين أصروا على الشقاق بغيا وحسدا، كأبي جهل وأشياعه، إلى أن أهلكهم الله تعالى، وأنقذ بعد حين من أراد سعادته منهم. قوله (وكذلك الإيمان) أي: أمر الإيمان، لأنه يظهر نورا، ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وصيام وغيرها، ولهذا نزلت في آخر سني النبي -صلى الله عليه وسلم -: (اليوم أكملت لكلم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) ومنه: (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) وكذا جرى لأتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-: لم يزالوا في زيادة حتى كمل بهم ما أراد الله من إظهار دينه وتمام نعمته، فله الحمد والمنة. قوله: (حين يخالط بشاشة القلوب) . كذا روي بالنصب على المفعولية والقلوب مضاف إليه، أي: يخالط الإيمان انشراح الصدور، وروي: " بشاشة القلوب " بالضم والقلوب مفعول، أي يخالط بشاشة الإيمان وهو شرحه القلوب التي يدخل فيها. (1/37) زاد المصنف في الإيمان: " لا يسخطه أحد " كما تقدم. وزاد ابن السكن في روايته في معجم الصحابة: " يزداد به عجبا وفرحا". وفي رواية ابن إسحاق: " وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه". قوله: (وكذلك الرسل لا تغدر) لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر، بخلاف من طلب الآخرة. ولم يعرج هرقل على الدسيسة التي دسها أبو سفيان كما تقدم. وسقط من هذه الرواية إيراد تقدير السؤال العاشر والذي بعده وجوابه، وقد ثبت الجميع في رواية المؤلف التي في الجهاد وسيأتي الكلام عليه ثم، إن شاء الله تعالى. (فائدة) : قال المازني هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة، إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه لأنه قال بعد ذلك: قد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم. وما أورده احتمالا جزم به ابن بطال؛ وهو ظاهر. قوله: (فذكرت أنه يأمركم) ذكر ذلك بالاقتضاء، لأنه ليس في كلام أبي سفيان ذكر الأمر بل صيغته. وقوله: " وينهاكم عن عبادة الأوثان " مستفاد من قوله: " ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم " لأن مقولهم الأمر بعبادة الأوثان. قوله: (أخلص) بضم اللام أي: أصل، يقال خلص إلى كذا أي وصل. قوله: (لتجشمت) بالجيم والشين المعجمة، أي: تكلفت الوصول إليه. وهذا يدل على أنه كان يتحقق أنه لا يسلم من القتل إن هاجر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستفاد ذلك بالتجربة كما في قصة ضغاطر الذي أظهر لهم إسلامه فقتلوه. وللطبراني من طريق ضعيف عن عبد الله بن شداد عن دحية في هذه القصة مختصرا، فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم. وفي مرسل ابن إسحاق بعض أهل العلم أن هرقل قال: ويحك، والله إني لأعلم أنه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته. لكن لو تفطن هرقل لقوله -صلى الله عليه وسلم -في الكتاب الذي أرسل إليه " أسلم تسلم " وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة، لسلم لو أسلم من كل ما يخافه. ولكن التوفيق بيد الله تعالى. قوله: " لغسلت عن قدميه " مبالغة في العبودية له والخدمة. زاد عبد الله بن شداد عن أبي سفيان: " لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه " وهي تدل على أنه كان بقي عنده بعض شك. وزاد فيها: " ولقد رأيت جبهته تتحادر عرقا من كرب الصحيفة " يعني: لما قرئ عليه كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي اقتصاره على ذكر غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه - إذا وصل إليه سالما - لا ولاية ولا منصبا، وإنما يطلب ما تحصل له به البركة. وقوله: " وليبلغن ملكه ما تحت قدمي " أي: بيت المقدس، وكنى بذلك لأنه موضع استقراره. أو أراد الشام كله لأن دار مملكته كانت حمص. ومما يقوى أن هرقل آثر ملكه على الإيمان واستمر على الضلال، أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة بدون السنتين، ففي مغازي ابن إسحاق: وبلغ المسلمين لما نزلوا معان من أرض الشام، أن هرقل نزل في مائة ألف من المشركين، فحكى كيفية الوقعة. وكذا روى ابن حبان في صحيحه عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم -كتب إليه أيضا من تبوك يدعوه، وأنه قارب الإجابة، ولم يجب. فدل ظاهر ذلك على استمراره على الكفر، لكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه وخوفا من أن يقتله قومه. إلا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: إني مسلم. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: كذب، بل هو على نصرانيته. وفي كتاب الأموال لأبي عبيد بسند صحيح من مرسل بكر عبد الله المزني نحوه، ولفظه فقال: كذب عدو الله، ليس بمسلم. فعلى هذا إطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن - أي أظهر التصديق - لكنه لم يستمر عليه ويعمل بمقتضاه، بل شح بملكه وآثر الفانية على الباقية. والله الموفق. |
12-10-2012, 04:22 PM | #12 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
قوله: (ثم دعا) أي: من وكل ذلك إليه، ولهذا عدى إلى الكتاب بالباء.
والله أعلم. (1/38) قوله: (دحية) بكسر الدال، وحكى فتحها لغتان، ويقال إنه الرئيس بلغة أهل اليمن، وهو ابن خليفة الكلبي، صحابي جليل كان أحسن الناس وجها، وأسلم قديما، وبعثه النبي -صلى الله عليه وسلم - في آخر سنة ست بعد أن رجع من الحديبية بكتابه إلى هرقل، وكان وصوله إلى هرقل في المحرم سنة سبع، قاله الواقدي. ووقع في تاريخ خليفة أن إرسال الكتاب إلى هرقل كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبي سفيان بأن ذلك كان في مدة الهدنة، والهدنة كانت في آخر سنة ست اتفاقا، ومات دحية في خلافة معاوية. وبصري بضم أوله والقصر مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل هي حوران، وعظيمها هو الحارث بن أبي شمر الغساني. وفي الصحابة لابن السكن أنه أرسل بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم -إلى هرقل مع عدي بن حاتم، وكان عدي إذ ذاك نصرانيا، فوصل به هو ودحية معا، وكانت وفاة الحارث المذكور عام الفتح. قوله: (من محمد) فيه أن السنة أن يبدأ الكتاب بنفسه، وهو قول الجمهور، بل حكى فيه النحاس إجماع الصحابة. والحق إثبات الخلاف. وفيه أن " من " التي لابتداء الغاية تأتي من غير الزمان والمكان كذا قاله أبو حيان، والظاهر أنها هنا أيضا لم تخرج عن ذلك، لكن بارتكاب مجاز. زاد في حديث دحية: وعنده ابن أخ له أحمر أزرق سبط الرأس. وفيه: لما قرأ الكتاب سخر فقال: لا تقرأه، إنه بدأ بنفسه. فقال قيصر: لتقرأنه. فقرأه. وقد ذكر البزار في مسنده عن دحية الكلبي أنه هو ناول الكتاب لقيصر، ولفظه " بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بكتابه إلى قيصر فأعطيته الكتاب". قوله: (عظيم الروم) فيه عدول عن ذكره بالملك أو الإمرة، لأنه معزول بحكم الإسلام، لكنه لم يخله من إكرام لمصلحة التألف. وفي حديث دحية أن ابن أخي قيصر أنكر أيضا كونه لم يقل ملك الروم. قوله: (سلام على من اتبع الهدى) في رواية المصنف في الاستئذان " السلام " بالتعريف. وقد ذكرت في قصة موسى وهارون مع فرعون. وظاهر السياق يدل على أنه من جملة ما أمرا به أن يقولاه. فإن قيل: كيف يبدأ الكافر بالسلام؟ فالجواب أن المفسرين قالوا: ليس المراد من هذا التحية، إنما معناه سلم من عذاب الله من أسلم. ولهذا جاء بعده أن العذاب على من كذب وتولى. وكذا جاء في بقية هذا الكتاب " فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين". فمحصل الجواب أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدا وإن كان اللفظ يشعر به، لكنه لم يدخل في المراد لأنه ليس ممن اتبع الهدى فلم يسلم عليه. قوله: (أما بعد) في قوله " أما " معنى الشرط، وتستعمل لتفصيل ما يذكر بعدها غالبا، وقد ترد مستأنفة لا لتفصيل كالتي هنا، وللتفصيل والتقرير. وقال الكرماني: هي هنا للتفصيل وتقديره: أما الابتداء فهو اسم الله، وأما المكتوب فهو من محمد رسول الله الخ، كذا قال. ولفظة " بعد " مبنية على الضم، وكان الأصل أن تفتح لو استمرت على الإضافة، لكنها قطعت عن الإضافة فبنيت على الضم، وسيأتي مزيد في الكلام عليها في كتاب الجمعة. قوله: (بدعاية الإسلام) بكسر الدال، من قولك دعا يدعو دعاية نحو شكا يشكو شكاية. ولمسلم: " بداعية الإسلام " أي: بالكلمة الداعية إلى الإسلام، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والباء موضع إلى. وقوله: " أسلم تسلم " غاية في البلاغ، وفيه نوع من البديع وهو الجناس الاشتقاقي. قوله: (يؤتك) جواب ثان للأمر. وفي الجهاد للمؤلف " أسلم أسلم يؤتك " بتكرار أسلم، فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن يكون الأمر الأول للدخول في الإسلام والثاني للدوام عليه كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله) الآية. وهو موافق لقوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) الآية. وإعطاؤه الأجر مرتين لكونه كان مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه ومن جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه. وسيأتي التصريح بذلك في موضعه من حديث الشعبي من كتاب العلم إن شاء الله تعالى. واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذبائح، لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، وهم ممن دخل في النصرانية بعد التبديل. وقد قال له ولقومه: (يا أهل الكتاب) فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب (1/39) خلافا لمن خص ذلك بالإسرائيليين أو بمن علم أن سلفه ممن دخل في اليهودية أو النصرانية قبل التبديل. والله أعلم. قوله: (فإن توليت) أي: أعرضت عن الإجابة إلى الدخول في الإسلام. وحقيقة التولي إنما هو بالوجه، ثم استعمل مجازا في الإعراض عن الشيء، وهي استعارة تبعية. قوله: (الأريسيين) هو جمع أريسي، وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل، وقد تقلب همزته ياء كما جاءت به رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما هنا، قال ابن سيده: الأريس الأكار، أي: الفلاح عند ثعلب، وعند كراع: الأريس هو الأمير. وقال الجوهري: هي لغة شامية، وأنكر ابن فارس أن تكون عربية، وقيل في تفسيره غير ذلك لكن هذا هو الصحيح هنا، فقد جاء مصرحا به في رواية ابن إسحاق عن الزهري بلفظ " فإن عليك إثم الأكارين " زاد البرقاني في روايته: يعني الحراثين، ويؤيده أيضا ما في رواية المدائني من طريق مرسلة " فإن عليك إثم الفلاحين"، وكذا عند أبي عبيد في كتاب الأموال من مرسل عبد الله بن شداد " وإن لم تدخل في الإسلام فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام " قال أبو عبيدة: المراد بالفلاحين أهل مملكته، لأن كل من كان يزرع فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه أو بغيره. قال الخطابي: أراد أن عليك إثم الضعفاء والأتباع إذا لم يسلموا تقليدا له، لأن الأصاغر أتباع الأكابر. قلت: وفي الكلام حذف دل المعنى عليه وهو: فإن عليك مع إثمك إثم الأريسيين، لأنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى، وهذا يعد من مفهوم الموافقة، ولا يعارض بقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) لأن وزر الآثم لا يتحمله غيره، ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين جهة فعله وجهة تسببه. وقد ورد تفسير الأريسيين بمعنى آخر، فقال الليث بن سعد عن يونس فيما رواه الطبراني في الكبير من طريقه: الأريسيون العشارون يعني أهل المكس. والأول أظهر. وهذا إن صح أنه المراد، فالمعنى المبالغة في الإثم، ففي الصحيح في المرأة التي اعترفت بالزنا " لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت". قوله: (ويا أهل الكتاب الخ) هكذا وقع بإثبات الواو في أوله، وذكر القاضي عياض أن الواو ساقطة من رواية الأصيلي وأبي ذر، وعلى ثبوتها فهي داخلة على مقدر معطوف على قوله: " أدعوك"، فالتقدير: أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك امتثالا لقول الله تعالى: (يا أهل الكتاب) . ويحتمل أن تكون من كلام أبي سفيان لأنه لم يحفظ جميع ألفاظ الكتاب، فاستحضر منها أول الكتاب فذكره، وكذا الآية. وكأنه قال فيه: كان فيه كذا وكان فيه يا أهل الكتاب. فالواو من كلامه لا من نفس الكتاب، وقيل إن النبي -صلى الله عليه وسلم -كتب ذلك قبل نزول الآية فوافق لفظه لفظها لما نزلت، والسبب في هذا أن هذه الآية نزلت في قصة وفد نجران، وكانت قصتهم سنة الوفود سنة تسع، وقصة سفيان كانت قبل ذلك سنة ست، وسيأتي ذلك واضحا في المغازي، وقيل: بل نزلت سابقة في أوائل الهجرة، وإليه يومئ كلام ابن إسحاق. وقيل: نزلت في اليهود. وجوز بعضهم نزولها مرتين، وهو بعيد. (فائدة) : قيل في هذا دليل على جواز قراءة الجنب للآية أو الآيتين، وبإرسال بعض القرآن إلى أرض العدو وكذا بالسفر به. وأغرب ابن بطال فادعى أن ذلك نسخ بالنهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ويحتاج إلى إثبات التاريخ بذلك. ويحتمل أن يقال: إن المراد بالقرآن في حديث النهي عن السفر به أي المصحف، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه. وأما الجنب فيحتمل أن يقال إذا لم يقصد التلاوة جاز، على أن في الاستدلال بذلك من هذه القصة نظرا، فإنها واقعة عين لا عموم فيها، فيقيد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالإبلاغ والإنذار كما في هذه القصة، وأما الجواز مطلقا حيث لا ضرورة فلا يتجه، وسيأتي مزيدا لذلك في كتاب الطهارة إن شاء الله تعالى. وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمنها هذا الكتاب على الأمر بقوله: " أسلم " والترغيب بقوله: " تسلم ويؤتك " والزجر بقوله: " فإن توليت" (1/ 40) والترهيب بقوله: " فإن عليك " والدلالة بقوله: " يا أهل الكتاب " وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أوتي جوامع الكلم -صلى الله عليه وسلم-. قوله: (فلما قال ما قال) يحتمل أن يشير بذلك إلى الأسئلة والأجوبة، ويحتمل أن يشير بذلك إلى القصة التي ذكرها ابن الناطور بعد، والضمائر كلها تعود على هرقل. والصخب: اللغط، وهو اختلاط الأصوات في المخاصمة، زاد في الجهاد: فلا أدري ما قالوا. قوله: (فقلت لأصحابي) زاد في الجهاد: حين خلوت بهم. قوله: (أمر) هو بفتح الهمزة وكسر الميم أي: عظم، وسيأتي في تفسير سبحان. وابن أبي كبشة أراد به النبي -صلى الله عليه وسلم -لأن أبا كبشة أحد أجداده، وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض، قال أبو الحسن النسابة الجرجاني: هو جد وهب جد النبي -صلى الله عليه وسلم -لأمه. وهذا فيه نظر، لأن وهبا جد النبي -صلى الله عليه وسلم -اسم أمه عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، ولم يقل أحد من أهل النسب إن الأوقص يكنى أبا كبشة. وقيل: هو جد عبد المطلب لأمه، وفيه نظر أيضا لأن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجي، ولم يقل أحد من أهل النسب إن عمرو بن زيد يكنى أبا كبشة. ولكن ذكر ابن حبيب في المجتبي جماعة من أجداد النبي -صلى الله عليه وسلم -من قبل أبيه ومن قبل أمه كل واحد منهم يكنى أبا كبشة، وقيل هو أبوه من الرضاعة واسمه الحارث بن عبد العزي، قاله أبو الفتح الأزدي وابن ماكولا، وذكر يونس ابن بكير عن ابن إسحاق عن أبيه عن رجال من قومه أنه أسلم وكانت له بنت تسمى كبشة يكنى بها. وقال ابن قتيبة والخطابي والدارقطني: هو رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان فعبد الشعري فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة، وكذا قاله الزبير، قال: واسمه وجز بن عامر بن غالب. قوله: (إنه يخافه) هو بكسر الهمزة استئنافا تعليليا لا بفتحها ولثبوت اللام في " ليخافه " في رواية أخرى. قوله: (ملك بني الأصفر) هم الروم، ويقال إن جدهم روم بن عيص تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر، حكاه ابن الأنباري. وقال ابن هشام في التيجان: إنما لقب الأصفر لأن جدته سارة زوج إبراهيم حلته بالذهب. قوله: (فما زلت موقنا) زاد في حديث عبد الله بن شداد عن أبي سفيان " فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت " أخرجه الطبراني. |
12-10-2012, 04:23 PM | #13 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
قوله: (حتى أدخل الله على الإسلام) أي: فأظهرت ذلك اليقين، وليس المراد أن ذلك اليقين ارتفع.
قوله: (وكان ابن الناطور) هو بالطاء المهملة. وفي رواية الحموي بالظاء المعجمة، وهو بالعربية حارس البستان. ووقع في رواية الليث عن يونس " ابن ناطورا " بزيادة ألف في آخره. فعلى هذا هو اسم أعجمي. (تنبيه) : الواو في قوله: " وكان " عاطفة، والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله فذكر الحديث، ثم قال الزهري: وكان ابن الناطور يحدث فذكر هذه القصة، فهي موصولة إلى ابن الناطور لا معلقة كما زعم بعض من لا عناية له بهذا الشأن، وكذلك أغرب بعض المغاربة فزعم أن قصة ابن الناطور مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان عنه لأنه لما رآها لا تصريح فيها بالسماع حملها على ذلك، وقد بين أبو نعيم في دلائل النبوة أن الزهري قال: لقيته بدمشق في زمن عبد الملك بن مروان. وأظنه لم يتحمل عنه ذلك إلا بعد أن أسلم، وإنما وصفه بكونه كان سقفا لينبه على أنه كان مطلعا على أسرارهم عالما بحقائق أخبارهم، وكأن الذي جزم بأنه من رواية الزهري عن عبيد الله اعتمد على ما وقع في سيرة ابن إسحاق فإنه قدم قصة ابن الناطور هذه على حديث أبي سفيان، فعنده عن عبيد الله عن ابن عباس أن هرقل أصبح خبيث النفس، فذكر نحوه. وجزم الحفاظ بما ذكرته أولا، وهذا مما ينبغي أن يعد فيما وقع من الإدراج أول الخبر. والله أعلم. قوله: (صاحب إيلياء) أي: أميرها، هو منصوب على الاختصاص أو الحال، أو مرفوع على الصفة، وهي رواية أبي ذر، والإضافة التي فيه تقوم مقام التعريف. (1/ 41) وقول من زعم أنها في تقدير الانفصال في مقام المنع، وهرقل معطوف على إيلياء، وأطلق عليه الصحبة له إما بمعنى اتبع، وإما بمعنى الصداقة، وفيه استعمال صاحب في معنيين مجازي وحقيقي، لأنه بالنسبة إلى إيلياء أمير وذاك مجاز، وبالنسبة إلى هرقل تابع وذلك حقيقة. قال الكرماني: وإرادة المعنيين الحقيقي والمجازي من لفظ واحد جائز عند الشافعي، وعند غيره محمول على إرادة معنى شامل لهما وهذا يسمى عموم المجاز. وقوله: " سقفا " بضم السين والقاف كذا في رواية غير أبي ذر، وهو منصوب على أنه خبر كان، و " يحدث " خبر بعد خبر. وفي رواية الكشميهني سقف بكسر القاف على ما لم يسم فاعله. وفي رواية المستملي والسرخسي مثله لكن بزيادة ألف في أوله، والأسقف والسقف لفظ أعجمي ومعناه رئيس دين النصارى، وقيل: عربي وهو الطويل في انحناء، وقيل: ذلك للرئيس لأنه يتخاشع. وقال بعضهم: لا نظير له في وزنه إلا الأسرب وهو الرصاص، لكن حكى ابن سيده ثالثا وهو الأسكف للصانع، ولا يرد الأترج لأنه جمع والكلام إنما هو في المفرد، وعلى رواية أبي ذر يكون الخبر الجملة التي هي: " يحدث أن هرقل"، فالواو في قوله: "وكان "عاطفة والتقدير عن الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، فذكر حديث أبي سفيان بطوله ثم قال الزهري: وكان ابن الناطور يحدث. وهذا صورة الإرسال. قوله: (حين قدم إيلياء) يعني في هذه الأيام، وهي عند غلبة جنوده على جنود فارس وإخراجهم، وكان ذلك في السنة التي اعتمر فيها النبي -صلى الله عليه وسلم -عمرة الحديبية، وبلغ المسلمين نصرة الروم على فارس ففرحوا. وقد ذكر الترمذي وغيره القصة مستوفاة في تفسير قوله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) ، وفي أول الحديث في الجهاد عند المؤلف الإمارة إلى ذلك. قوله: (خبيث النفس) أي: رديء النفس غير طيبها، أي مهموما. وقد تستعمل في كسل النفس، وفي الصحيح: " لا يقولن أحدكم خبثت نفسي " كأنه كره اللفظ، والمراد بالخطاب المسلمون، وأما في حق هرقل فغير ممتنع. وصرح في رواية ابن إسحاق بقولهم له: " لقد أصبحت مهموما". والبطارقة: جمع بطريق بكسر أوله وهم خواص دولة الروم. قوله: (حزاء) بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة أي كاهنا، يقال حزا بالتخفيف يحزو حزوا أي تكهن، وقوله: " ينظر في النجوم " إن جعلتها خبرا ثانيا صح لأنه كان ينظر في الأمرين، وإن جعلتها تفسيرا للأول فالكهانة تارة تستند إلى إلقاء الشياطين وتارة تستفاد من أحكام النجوم، وكان كل من الأمرين في الجاهلية شائعا ذائعا، إلى أن أظهر الله الإسلام فانكسرت شوكتهم وأنكر الشرع الاعتماد عليهم، وكان ما اطلع عليه هرقل من ذلك بمقتضى حساب المنجمين، أنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقران العلويين ببرج العقرب، وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلا أن تستوفى المثلثة بروجها في ستين سنة، فكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القرآن المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل بالوحي، وعند تمام الثالثة فتح خيبر وعمرة القضية التي جرت فتح مكة وظهور الإسلام، وفي تلك الأيام رأى هرقل ما رأى. ومن جملة ما ذكروه أيضا أن برج العقرب مائي وهو دليل ملك القوم الذين يختتنون، فكان ذلك دليلا على انتقال الملك إلى العرب، وأما اليهود فليسوا مرادا هنا لأن هذا لمن ينقل إليه الملك لا لمن انقضى ملكه. فإن قيل: كيف ساغ للبخاري إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية أمر المنجمين والاعتماد على ما تدل عليه أحكامهم؟ فالجواب: أنه لم يقصد ذلك، بل قصد أن يبين أن الإشارات بالنبي -صلى الله عليه وسلم -جاءت من كل طريق وعلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم محق أو مبطل أنسي أو جني، وهذا من أبدع ما يشير إليه عالم أو يجنح إليه محتج. وقد قيل: إن الحزاء هو الذي ينظر في الأعضاء وفي خيلان الوجه فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة. وهذا إن ثبت فلا يلزم منه حصره في ذلك بل اللائق بالسياق في حق هرقل ما تقدم. (1/ 42) قوله: (ملك الختان) بضم الميم وإسكان اللام، وللكشميهني بفتح الميم وكسر اللام. قوله: (قد ظهر) أي: غلب، يعني دله نظره في حكم النجوم على أن ملك الختان قد غلب، وهو كما قال، لأن في تلك الأيام كان ابتداء ظهور النبي -صلى الله عليه وسلم -إذ صالح كفار مكة بالحديبية وأنزل الله تعالى عليه: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) إذ فتح مكة كان سببه نقض قريش العهد الذي كان بينهم بالحديبية، ومقدمة الظهور ظهور. قوله: (من هذه الأمة) أي: من أهل هذا العصر، وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز، وهذا بخلاف قوله: بعد هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، فإن مراده به العرب خاصة، والحصر في قولهم إلا اليهود هو بمقتضى علمهم، لأن اليهود كانوا بإيلياء وهي بيت المقدس كثيرين تحت الذلة مع الروم، بخلاف العرب فإنهم وإن كان منهم من هو تحت طاعة ملك الروم كآل غسان لكنهم كانوا ملوكا برأسهم. قوله: (فلا يهمنك) بضم أوله، من أهم: أثار الهم. وقوله: " شأنهم " أي: أمرهم. و " مدائن ": جمع مدينة قال أبو علي الفارسي: من جعله فعليه من قولك مدن بالمكان أي: أقام به، همزه كقبائل، ومن جعله مفعلة من قولك دين أي: ملك، لم يهمز كمعايش. انتهى. وما ذكره في معايش هو المشهور، وقد روى خارجة عن نافع القارئ الهمز في معايش. وقال القزاز: من همزها توهمها من فعيلة لشبهها بها في اللفظ. انتهى. قوله: (فبينما هم على أمرهم) أي: في هذه المشورة. قوله: (أتى هرقل برجل) لم يذكر من أحضره. وملك غسان هو صاحب بصرى الذي قدمنا ذكره، وأشرنا إلى أن ابن السكن روى أنه أرسل من عنده عدي بن حاتم، فيحتمل أن يكون هو المذكور. والله أعلم. قوله: (عن خبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -) فسر ذلك ابن إسحاق في روايته فقال: خرج من بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي، فقد اتبعه ناس، وخالفه ناس، فكانت بينهم ملاحم في مواطن، فتركتهم وهم على ذلك. فبين ما أجمل في حديث الباب لأنه يوهم أن ذلك كان في أوائل ما ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي رواية أنه قال: جردوه، فإذا هو مختتن، فقال: هذا والله الذي رأيته، أعطه ثوبه. قوله: (هم يختتنون) في رواية الأصيلي " هم مختتنون " بالميم والأول أفيد وأشمل. قوله: (هذا ملك هذه الأمة قد ظهر) كذا لأكثر الرواة بالضم ثم السكون، وللقابسي بالفتح ثم الكسر، ولأبي ذر عن الكشميهني وحده يملك فعل مضارع، قال القاضي: أظنها ضمة الميم اتصلت بها فتصحفت، ووجهه السهيلي في أماليه بأنه مبتدأ وخبر، أي هذا المذكور بملك هذه الأمة. وقيل يجوز أن يكون يملك نعتا، أي: هذا رجل بملك هذه الأمة. وقال شيخنا: يجوز أن يكون المحذوف هو الموصول على رأي الكوفيين، أي هذا الذي يملك، وهو نظير قوله: " وهذا تحملين طليق". على أن الكوفيين يجوزون استعمال اسم الإشارة بمعنى الاسم الموصول، فيكون التقدير: الذي يملك، من غير حذف، قلت: لكن اتفاق الرواة على حذف الياء في أوله دال على ما قال القاضي فيكون شاذا. على أنني رأيت في أصل معتمد وعليه علامة السرخسي بباء موحدة في أوله، وتوجيهها أقرب من توجيه الأول، لأنه حينئذ تكون الإشارة بهذا إلى ما ذكره من نظره في حكم النجوم، والباء متعلقة بظهر، أي هذا الحكم ظهر بملك هذه الأمة التي تختتن. قوله: (برومية) بالتخفيف، وهي مدينة معروفة للروم. وحمص مجرور بالفتحة منع صرفه للعلمية والتأنيث. ويحتمل أن يجوز صرفه. قوله: (فلم يرم) بفتح أوله وكسر الراء أي: لم يبرح من مكانه، هذا هو المعروف. وقال الداودي: لم يصل إلى حمص وزيفوه. قوله: (حتى أتاه كتاب من صاحبه) وفي حديث دحية الذي أشرت إليه قال: فلما خرجوا أدخلني عليه وأرسل إلي الأسقف وهو صاحب أمرهم فقال: هذا الذي كنا ننتظر، وبشرنا به عيسى، أما أنا فمصدقه ومتبعه. فقال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي، فذكر القصة، وفي آخره: فقال لي الأسقف: خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه السلام وأخبره أني أشهد أن لا إله إ لا الله وأن محمدا رسول الله، وأني قد آمنت به وصدقته، وأنهم قد أنكروا علي ذلك. (1/43) ثم خرج إليهم فقتلوه. وفي رواية ابن إسحاق أن هرقل أرسل دحية إلى ضغاطر الرومي وقال: إنه في الروم أجوز قولا مني، وإن ضغاطر المذكور أظهر إسلامه وألقى ثيابه التي كانت عليه ولبس ثيابا بيضا وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق، فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه. قال: فلما رجع دحية إلى هرقل قال له: قد قلت لك إنا نخافهم على أنفسنا، فضغاطر كان أعظم عندهم مني. قلت: فيحتمل أن يكون هو صاحب رومية الذي أبهم هنا، لكن يعكر عليه ما قيل: إن دحية لم يقدم على هرقل بهذا الكتاب المكتوب في سنة الحديبية، وإنما قدم عليه بالكتاب المكتوب في غزوة تبوك، فالراجح أن دحية قدم على هرقل أيضا في الأولى، فعلى هذا يحتمل أن تكون وقعت لكل من الأسقف ومن ضغاطر قصة قتل كل منهما بسببها، أو وقعت لضغاطر قصتان إحداهما التي ذكرها ابن الناطور وليس فيها أنه أسلم ولا أنه قتل، والثانية التي ذكرها ابن إسحاق فإن فيها قصته مع دحية وأنه أسلم وقتل. والله أعلم. |
12-10-2012, 04:23 PM | #14 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
قوله: (وسار هرقل إلى حمص) لأنها كانت دار ملكه كما قدمناه، وكانت في زمانهم أعظم من دمشق.
وكان فتحها على يد أبي عبيدة بن الجراح سنة ست عشرة بعد هذه القصة بعشر سنين. قوله: (وأنه نبي) يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، لكن هرقل كما ذكرنا لم يستمر على ذلك بخلاف صاحبه. قوله: (فأذن) هي: بالقصر من الإذن. وفي رواية المستملي وغيره بالمد ومعناه أعلم. و " الدسكرة " بسكون السين المهملة: القصر الذي حوله بيوت، وكأنه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت التي حوله وأذن للروم في دخولها ثم أغلقها ثم اطلع عليهم فخاطبهم، وإنما فعل ذلك خشية أن يثبوا به كما وثبوا بضغاطر. قوله: (والرشد) فتحتين (وأن يثبت ملككم) لأنهم إن تمادوا على الكفر كان سببا لذهاب ملكهم، كما عرف هو ذلك من الأخبار السابقة. قوله: (فتبايعوا) بمثناة ثم موحدة، وللكشميهني بمثناتين وموحدة، وللأصيلي " فنبايع " بنون وموحدة (لهذا النبي) كذا لأبي ذر وللباقين بحذف اللام. قوله: (فحاصوا) بمهملتين أي: نفروا، وشبههم بالوحوش لأن نفرتها أشد من نفرة البهائم الإنسية، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل وعدم الفطنة بل هم أضل. قوله: (وأيس) في رواية الكشميهني والأصيلي " ويئس " بيائين تحتانيتين وهما بمعنى قنط والأول مقلوب من الثاني. قوله: (من الإيمان) أي من إيمانهم لما أظهروه، ومن إيمانه لأنه شح بملكه كما قدمنا، وكان يحب أن يطيعوه فيستمر ملكه ويسلم ويسلموا بإسلامهم، فما أيس من الإيمان إلا بالشرط الذي أراده، وإلا فقد كان قادرا على أن يفر عنهم ويترك ملكه رغبة فيما عند الله والله الموفق. قوله: (آنفا) أي: قريبا، وهو منصوب على الحال. قوله: (فقد رأيت) زاد في التفسير: فقد رأيت منكم الذي أحببت. قوله: (فكان ذلك آخر شأن هرقل) أي: فيما يتعلق بهذه القصة المتعلقة بدعائه إلى الإيمان خاصة لأنه انقضى أمره حينئذ ومات، أو أنه أطلق الآخرية بالنسبة إلى ما في علمه، وهذا أوجه، لأن هرقل وقعت له قصص أخرى بعد ذلك، منها ما أشرنا إليه من تجهيزه الجيوش إلى مؤتة ومن تجهيزه الجيوش أيضا إلى تبوك، ومكاتبة النبي -صلى الله عليه وسلم -له ثانيا، وإرساله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -بذهب فقسمه بين أصحابه كما في رواية ابن حبان التي أشرنا إليها قبل وأبي عبيد، وفي المسند من طريق سعيد بن أبي راشد التنوخي رسول هرقل قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -تبوك فبعث دحية إلى هرقل، فلما جاءه الكتاب دعا قسيسي الروم وبطارقتها، فذكر الحديث، قال فتحيروا حتى إن بعضهم خرج من برنسه، فقال: اسكتوا، فإنما أردت أن أعلم تمسككم بدينكم. وروى ابن إسحاق عن خالد بن بشار عن رجل من قدماء الشام: أن هرقل لما أراد الخروج من الشام إلى القسطنطينية عرض على الروم أمورا: (1/44) إما الإسلام وإما الجزية، وإما أن يصالح النبي -صلى الله عليه وسلم -ويبقى لهم ما دون الدرب، فأبوا، وأنه انطلق حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام ثم قال: السلام عليك أرض سورية - يعني الشام - تسليم المودع، ثم ركض حتى دخل القسطنطينية. واختلف الإخباريون هل هو الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر أو ابنه؟ والأظهر أنه هو. والله أعلم. (تنبيه) لما كان أمر هرقل في الإيمان عند كثير من الناس مستبهما، لأنه يحتمل أن يكون عدم تصريحه بالإيمان للخوف على نفسه من القتل، ويحتمل أن يكون استمر على الشك حتى مات كافرا. وقال الراوي في آخر القصة: فكان ذلك آخر شأن هرقل، ختم به البخاري هذا الباب الذي استفتحه بحديث الأعمال بالنيات، كأنه قال إن صدقت نيته انتفع بها في الجملة، وإلا فقد خاب وخسر. فظهرت مناسبة إيراد قصة ابن الناطور في بدء الوحي لمناسبتها حديث الأعمال المصدر الباب به. ويؤخذ للمصنف من آخر لفظ في القصة براعة الاختتام، وهو واضح مما قررناه. فإن قيل: ما مناسبة حديث أبي سفيان في قصة هرقل ببدء الوحي؟ فالجواب أنها تضمنت كيفية حال الناس مع النبي -صلى الله عليه وسلم -في ذلك الابتداء، ولأن الآية المكتوبة إلى هرقل للدعاء إلى الإسلام ملتئمة مع الآية التي في الترجمة وهي قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح) الآية. وقال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) الآية، فبان أنه أوحى إليهم كلهم أن أقيموا الدين، وهو معنى قوله تعالى: (سواء بيننا وبينكم) الآية. (تكميل) ذكر السهيلي أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيما له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سبطه، فحدثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر وسأل أن يمكنه من تقبيله، فامتنع. قلت: وأنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي قال: حدثني سيف الدين فليح المنصوري قال: أرسلني الملك المنصور قلاوون إلى ملك الغرب بهدية، فأرسلني ملك الغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة فقبلها، وعرض علي الإقامة عنده فامتنعت، فقال لي: لأتحفنك بتحفة سنية، فأخرج لي صندوقا مصفحا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه وقد التصقت عليه خرقة حرير فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا. انتهى. ويؤيد هذا ما وقع في حديث سعيد بن أبي راشد الذي أشرت إليه آنفا أن النبي -صلى الله عليه وسلم -عرض على التنوخي رسول هرقل الإسلام فامتنع، فقال له: يا أخا تنوخ إني كتبت إلى ملككم بصحيفة فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير. وكذلك أخرج أبو عبيد في كتاب الأموال من مرسل عمير بن إسحاق قال: كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه ثم رفعه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية، ويؤيده ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم -لما جاءه جواب كسرى قال: مزق الله ملكه. ولما جاءه جواب هرقل قال: ثبت الله ملكه. والله أعلم. قوله: (رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري) قال الكرماني يحتمل ذلك وجهين: أن يروي البخاري عن الثلاثة بالإسناد المذكور كأنه قال: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الزهري، وأن يروي عنهم بطريق آخر. كما أن الزهري يحتمل أيضا في رواية الثلاثة أن يروى لهم عن عبيد الله عن ابن عباس، وأن يروى لهم عن غيره. هذا ما يحتمل اللفظ، وإن كان الظاهر الاتحاد. (1/45) قلت: هذا الظاهر كاف لمن شم أدنى رائحة من علم الإسناد. والاحتمالات العقلية المجردة لا مدخل لها في هذا الفن، وأما الاحتمال الأول فأشد بعدا لأن أبا اليمان لم يلحق صالح بن كيسان ولا سمع من يونس، وهذا أمر يتعلق بالنقل المحض فلا يلتفت إلى ما عداه، ولو كان من أهل النقل لاطلع على كيفية رواية الثلاثة لهذا الحديث بخصوصه فاستراح من هذا التردد، وقد أوضحت ذلك في كتابي تعليق التعليق وأشير هنا إليه إشارة مفهمة: فرواية صالح وهو ابن كيسان أخرجها المؤلف في كتاب الجهاد بتمامها، من طريق إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وفيها من الفوائد الزوائد ما أشرت إليه في أثناء الكلام على هذا الحديث من قبل، ولكنه انتهى حديثه عند قول أبي سفيان: " حتى أدخل الله على الإسلام " زاد هنا: " وأنا كاره " ولم يذكر قصة ابن الناطور. وكذا أخرجه مسلم بدونها من حديث إبراهيم المذكور، ورواية يونس أيضا عن الزهري بهذا الإسناد أخرجها المؤلف في الجهاد مختصرة من طريق الليث، وفي الاستئذان مختصرة أيضا من طريق ابن المبارك كلاهما عن يونس عن الزهري بسنده بعينه، ولم يسقه بتمامه، وقد ساقه بتمامه الطبراني من طريق عبد الله بن صالح عن الليث، وذكر فيه قصة ابن الناطور، ورواية معمر عن الزهري كذلك ساقها المؤلف بتمامها في التفسير، وقد أشرنا إلى بعض فوائد زائدة فيما مضى أيضا، وذكر فيه من قصة ابن الناطور قطعة مختصرة عن الزهري مرسلة. فقد ظهر لك أن أبا اليمان ما روى هذا الحديث عن واحد من الثلاثة، وأن الزهري إنما رواه لأصحابه بسند واحد عن شيخ واحد وهو عبيد الله بن عبد الله، وأن أحاديث الثلاثة عند المصنف عن غير أبي اليمان، ولو احتمل أن يرويه لهم أو لبعضهم عن شيخ آخر لكان ذلك اختلافا قد يفضي إلى الاضطراب الموجب للضعف، فلاح فساد ذلك الاحتمال، والله سبحانه وتعالى الموفق والهادي إلى الصواب لا إله إلا هو. |
12-10-2012, 04:29 PM | #15 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*2*2كِتَاب الْإِيمَانِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الشرح: قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب الإيمان) هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب الإيمان. وكتاب: مصدر، يقال: كتب يكتب كتابة وكتابا، ومادة كتب دالة على الجمع والضم، ومنها الكتيبة والكتابة، استعملوا ذلك فيما يجمع أشياء من الأبواب والفصول الجامعة للمسائل، والضم فيه بالنسبة إلى المكتوب من الحروف حقيقة وبالنسبة إلى المعاني المرادة منها مجاز، والباب موضوعه المدخل فاستعماله في المعاني مجاز. والإيمان لغة: التصديق. وشرعا: تصديق الرسول فيما جاء به عن ربه، وهذا القدر متفق عليه. ثم وقع الاختلاف: هل يشترط مع ذلك مزيد أمر من جهة إبداء هذا التصديق باللسان المعبر عما في القلب، إذ التصديق من أفعال القلوب؟ أو من جهة العمل بما صدق به من ذلك، كفعل المأمورات وترك المنتهيات كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. والإيمان فيما قيل مشتق من الأمن، وفيه نظر لتباين مدلولي الأمن والتصديق، إلا أن لوحظ فيه معنى مجازي فيقال: أمنه، إذا صدقه أي: أمنه التكذيب. ولم يستفتح المصنف بدء الوحي بكتاب، لأن المقدمة لا تستفتح بما يستفتح به غيرها، لأنها تنطوي على ما يتعلق بما بعدها، واختلفت الروايات في تقديم البسملة على كتاب أو تأخيرها ولكل وجه، الأول ظاهر، ووجه الثاني وعليه أكثر الروايات أنه جعل الترجمة قائمة مقام تسمية السورة، والأحاديث المذكورة بعد البسملة كالآيات مستفتحة بالبسملة. *3*1بَاب قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ" وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ. وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ -وَزِدْنَاهُمْ هُدًى -وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى -وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ - وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) وَقَوْلُهُ: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا). وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: (فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا). وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنْ الْإِيمَانِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، فَمَنْ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ الْإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). وَقَالَ مُعَاذُ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيَقِينُ الْإِيمَانُ كُلُّهُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ): أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) : سَبِيلًا وَسُنَّةً. دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) وَمَعْنَى الدُّعَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْإِيمَانُ. الشرح: قوله: (باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم -: بني الإسلام على خمس) ، سقط لفظ " باب " من رواية الأصيلي، وقد وصل الحديث بعد تاما، واقتصاره على طرفه فيه تسمية الشيء باسم بعضه، والمراد باب هذا الحديث. قوله: (وهو) أي: الإيمان (قول وفعل ويزيد وينقص) ، وفي رواية الكشميهني: " قول وعمل " وهو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك، ووهم ابن التين فظن أن قوله وهو إلى آخره مرفوع لما رآه معطوفا، وليس ذلك مراد المصنف، وإن كان ذلك ورد بإسناد ضعيف. والكلام هنا في مقامين: أحدهما: كونه قولا وعملا، والثاني: كونه يزيد وينقص. فأما القول: فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح، ليدخل الاعتقاد والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله. ومن هنا نشأ ثم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي. والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية قالوا: هو نطق فقط. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطا في صحته. والسلف جعلوها شرطا في كماله. وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى. أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفي عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته. وأثبتت المعتزلة الواسطة فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر. وأما المقام الثاني فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص. وأنكر ذلك أكثر المتكلمين وقالوا متى قبل ذلك كان شكا. قال الشيخ محيي الدين: والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا يعتريه الشبهة. ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقينا وإخلاصا وتوكلا منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. (1/47) وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه " تعظيم قدر الصلاة " عن جماعة من الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف صرح به عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم. وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في " كتاب السنة " عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة، وروى بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك، بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين. وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة. وقال الحاكم في مناقب الشافعي: حدثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من الحلية من وجه آخر عن الربيع وزاد: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ثم تلا: (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) الآية. ثم شرع المصنف يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة. قوله: (والحب في الله والبغض في الله من الإيمان) هو لفظ حديث أخرجه أبو داود من حديث أبي أمامة ومن حديث أبي ذر ولفظه: " أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله". ولفظ أبي أمامة: " من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان". وللترمذي من حديث معاذ بن أنس نحو حديث أبي أمامة وزاد أحمد فيه: " ونصح لله " وزاد في أخرى: " ويعمل لسانه في ذكر الله " وله عن عمرو بن الجموح بلفظ: " لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله " ولفظ البزار رفعه: " أوثق عرا الإيمان الحب في الله والبغض في الله". وسيأتي عند المصنف: " آية الإيمان حب الأنصار " واستدل بذلك على أن الإيمان يزيد وينقص، لأن الحب والبغض يتفاوتان. قوله: (وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي) أي: ابن عميرة الكندي، وهو تابعي من أولاد الصحابة، وكان عامل عمر بن عبد العزيز على الجزيرة فلذلك كتب إليه، والتعليق المذكور وصله أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة في كتاب الإيمان لهما من طريق عيس بن عاصم قال: حدثني عدي بن عدي قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز " أما بعد فإن للإيمان فرائض وشرائع " الخ. قوله: (إن للإيمان فرائض) كذا ثبت في معظم الروايات باللام، وفرائض بالنصب على أنها اسم إن. وفي رواية ابن عساكر: " فإن الإيمان فرائض " على أن الإيمان اسم إن وفرائض خبرها، وبالأول جاء الموصول الذي أشرنا إليه. قوله: (فرائض) أي: أعمالا مفروضة، (وشرائع) أي: عقائد دينية (وحدودا) أي: منهيات ممنوعة، (وسننا) أي: مندوبات. قوله: (فإن أعش فسأبينها) أي: أبين تفاريعها لا أصولها، لأن أصولها كانت معلومة لهم جملة، على تجويز تأخير البيان عن وقت الخطاب إذ الحاجة هنا لم تتحقق. والغرض من هذا الأثر أن عمر بن عبد العزيز كان ممن يقول بأن الإيمان يزيد وينقص حيث قال: استدل ولم يستدل. قال الكرماني: وهذا على إحدى الروايتين، وأما على الرواية الأخرى فقد يمنع ذلك لأنه جعل الإيمان غير الفرائض. قلت: لكن آخر كلامه يشعر بذلك وهو قوله: " فمن استكملها " أي: الفرائض وما معها " فقد استكمل الإيمان". وبهذا تتفق الروايتان. فالمراد أنها من المكملات، لأن الشارع أطلق على مكملات الإيمان إيمانا. قوله: (وقال إبراهيم عليه السلام: ولكن ليطمئن قلبي) أشار إلى تفسير سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما لهذه الآية، فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال: قوله: (ليطمئن قلبي) أي: يزداد يقيني. وعن مجاهد قال: لأزداد إيمانا إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم -عليه السلام - مع أن نبينا -صلى الله عليه وسلم -قد أمر باتباع ملته - كان كأنه ثبت عن نبينا -صلى الله عليه وسلم -ذلك. (1/48). وإنما فصل المصنف بين هذه الآية وبين الآيات التي قبلها، لأن الدليل يؤخذ من تلك بالنص ومن هذه بالإشارة. والله أعلم. |
12-10-2012, 04:31 PM | #16 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
قوله: (وقال معاذ) هو ابن جبل، وصرح بذلك الأصيلي، والتعليق المذكور وصله أحمد وأبو بكر أيضا بسند صحيح إلى الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: " اجلس بنا نؤمن ساعة " وفي رواية لهما: كان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه: " اجلس بنا نؤمن ساعة"، فيجلسان فيذكران الله تعالى ويحمدانه.
وعرف من الرواية الأولى أن الأسود أبهم نفسه. ويحتمل أن يكون معاذ قال ذلك له ولغيره. ووجه الدلالة منه ظاهرة، لأنه لا يحمل على أصل الإيمان لكونه كان مؤمنا وأي مؤمن، وإنما يحمل على إرادة أنه يزداد إيمانا بذكر الله تعالى. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لا تعلق فيه للزيادة، لأن معاذا إنما أراد تجديد الإيمان، لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضا، ثم يكون أبدا مجددا كلما نظر أو فكر، وما نفاه أولا أثبته آخرا، لأن تجديد الإيمان إيمان. قوله: (وقال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله) هذا التعليق طرف من أثر وصله الطبراني بسند صحيح، وبقيته: والصبر نصف الإيمان. وأخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا، ولا يثبت رفعه. وجرى المصنف على عادته في الاقتصار على ما يدل بالإشارة، وحذف ما يدل بالصراحة، إذ لفظ النصف صريح في التجزئة. وفي الإيمان لأحمد من طريق عبد الله بن عكيم عن ابن مسعود أنه كان يقول: " اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها " وإسناده صحيح، وهذا أصرح في المقصود، ولم يذكره المصنف لما أشرت إليه. (تنبيه) : تعلق بهذا الأثر من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق. وأجيب بأن مراد ابن مسعود أن اليقين هو أصل الإيمان، فإذا أيقن القلب انبعثت الجوارح كلها للقاء الله بالأعمال الصالحة، حتى قال سفيان الثوري: لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي، لطار اشتياقا إلى الجنة وهربا من النار. قوله: (وقال ابن عمر إلخ) المراد بالتقوى: وقاية النفس الشرك والأعمال السيئة والمواظبة على الأعمال الصالحة. وبهذا التقرير يصح استدلال المصنف. وقوله: " حاك " بالمهملة والكاف الخفيفة أي: تردد، ففيه إشارة إلى أن بعض المؤمنين بلغ كنه الإيمان وحقيقته، وبعضهم لم يبلغ. وقد ورد معنى قول ابن عمر عند مسلم من حديث النواس مرفوعا، وعند أحمد من حديث وابصة، وحسن الترمذي من حديث عطية السعدي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: " لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس " وليس فيها بشيء على شرط المصنف، فلهذا اقتصر على أثر ابن عمر، ولم أره إلى الآن موصولا. وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي الدرداء قال: " تمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك ما ترى أنه حلال خشية أن يكون حراما". قوله: (وقال مجاهد) وصل هذا التعليق عبد بن حميد في تفسيره، والمراد أن الذي تظاهرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة هو شرع الأنبياء كلهم. (تنبيه) : قال شيخ الإسلام البلقيني: وقع في أصل الصحيح في جميع الروايات في أثر مجاهد هذا تصحيف قل من تعرض لبيانه، وذلك أن لفظه: وقال مجاهد: (شرع لكم) أوصيناك يا محمد وإياه دينا واحدا. والصواب: أوصاك يا محمد وأنبياءه. كذا أخرجه عبد بن حميد والفريابي والطبري وابن المنذر في تفاسيرهم. وبه يستقيم الكلام، وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة! انتهى. ولا مانع من الإفراد في التفسير، وإن كان لفظ الآية بالجمع على إرادة المخاطب والباقون تبع، وإفراد الضمير لا يمتنع، لأن نوحا أفرد في الآية فلم يتعين التصحيف، وغاية ما ذكر من مجيء التفاسير بخلاف لفظه أن يكون مذكورا عند المصنف بالمعنى. والله أعلم. وقد استدل الشافعي وأحمد وغيرهما على أن الأعمال تدخل في الإيمان بهذه الآية: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله - إلى قوله - دين القيمة) قال الشافعي: ليس عليهم أحج من هذه الآية. أحرجه الخلال في كتاب السنة. قوله: (وقال ابن عباس) وصل هذا التعليق عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح. والمنهاج: السبيل: أي: الطريق الواضح. (1/49). والشرعة والشريعة بمعنى، وقد شرع أي: سن، فعلى هذا فيه لف ونشر غير مرتب. فإن قيل: هذا يدل على الاختلاف والذي قبله على الاتحاد، أجيب: بأن ذلك في أصول الدين وليس بين الأنبياء فيه اختلاف، وهذا في الفروع وهو الذي يدخله النسخ. قوله: (دعاؤكم إيمانكم) قال النووي: يقع في كثير من النسخ هنا باب، وهو غلط فاحش وصوابه بحذفه، ولا يصح إدخال باب هنا إذ لا تعلق له هنا. قلت: ثبت باب في كثير من الروايات المتصلة، منها رواية أبي ذر، ويمكن توجيهه، لكن قال الكرماني: إنه وقف على نسخة مسموعة على الفربري بحذفه، وعلى هذا فقوله: " دعاؤكم إيمانكم " من قول ابن عباس، وعطفه على ما قبله كعادته في حذف أداة العطف حيث ينقل التفسير، وقد وصله ابن جرير من قول ابن عباس قال في قوله تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) قال يقول: لولا إيمانكم. أخبر الله الكفار أنه لا يعبأ بهم، ولولا إيمان المؤمنين لم يعبأ بهم أيضا. ووجه الدلالة للمصنف أن الدعاء عمل وقد أطلقه على الإيمان فيصح إطلاق أن الإيمان عمل، وهذا على تفسير ابن عباس. وقال غيره: الدعاء هذا مصدر مضاف إلى المفعول، والمراد دعاء الرسل الخلق إلى الإيمان، فالمعنى ليس لكم عند الله عذر إلا أن يدعوكم الرسول فيؤمن من آمن ويكفر من كفر، فقد كذبتم أنتم فسوف يكون العذاب لازما لكم. وقيل: معنى الدعاء هنا: الطاعة. ويؤيده حديث النعمان بن بشير: " أن الدعاء هو العبادة " أخرجه أصحاب السنن بسند جيد. |
12-10-2012, 04:33 PM | #17 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*2باب
الحديث: -8- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ. الشرح: قوله: (حنظلة بن أبي سفيان) ، هو قرشي مكي من ذرية صفوان بن أمية الجمحي. وعكرمة بن خالد هو: ابن سعيد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، وهو ثقة متفق عليه، وفي طبقته عكرمة بن خالد بن سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي، وهو ضعيف، ولم يخرج له البخاري، نبهت عليه لشدة التباسه، ويفترقان بشيوخهما، ولم يرو الضعيف عن ابن عمر. زاد مسلم في روايته عن حنظلة قال: سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوسا أن رجلا قال لعبد الله بن عمر: ألا تغزو؟ فقال: إني سمعت.. فذكر الحديث. (فائدة) : اسم الرجل السائل: حكيم، ذكره البيهقي. قوله: (على خمس) أي: دعائم. وصرح به عبد الرزاق في روايته. وفي رواية لمسلم على خمسة أي: أركان. فإن قيل: الأربعة المذكورة مبنية على الشهادة، إذ لا يصح شيء منها إلا بعد وجودها، فكيف يضم مبني إلى مبني عليه في مسمى واحد؟ أجيب: بجواز ابتناء أمر على أمر ينبني على الأمرين أمر آخر. فإن قيل: المبني لا بد أن يكون غير المبني عليه. أجيب: بأن المجموع غير من حيث الانفراد، عين من حيث الجمع. ومثاله البيت من الشعر يجعل على خمسة أعمدة أحدها أوسط والبقية أركان، فما دام الأوسط قائما فمسمى البيت موجود ولو سقط مهما سقط من الأركان، فإذا سقط الأوسط سقط مسمى البيت، فالبيت بالنظر إلى مجموعه شيء واحد، وبالنظر إلى أفراده أشياء. وأيضا فبالنظر إلى أسه وأركانه، الأس أصل، والأركان تبع وتكملة. (تنبيهات) : (أحدها): لم يذكر الجهاد لأنه فرض كفاية ولا يتعين إلا في بعض الأحوال، (1/50). ولهذا جعله ابن عمر جواب السائل، وزاد في رواية عبد الرزاق في آخره: وإن الجهاد من العمل الحسن. وأغرب ابن بطال فزعم أن هذا الحديث كان أول الإسلام قبل فرض الجهاد، وفيه نظر، بل هو خطأ، لأن فرض الجهاد كان قبل وقعة بدر، وبدر كانت في رمضان في السنة الثانية، وفيها فرض الصيام والزكاة بعد ذلك والحج بعد ذلك على الصحيح. (ثانيها): قوله: " شهادة أن لا إله إلا الله " وما بعدها مخفوض على البدل من خمس، ويجوز الرفع على حذف الخبر، والتقدير: منها شهادة أن لا إله إلا الله. أو على حذف المبتدأ، والتقدير: أحدها شهادة أن لا إله إلا الله. فإن قيل: لم يذكر الإيمان بالأنبياء والملائكة وغير ذلك مما تضمنه سؤال جبريل -عليه السلام-؟ أجيب: بأن المراد بالشهادة تصديق الرسول فيما جاء به، فيستلزم جميع ما ذكر من المعتقدات. وقال الإسماعيلي ما محصله: هو من باب تسمية الشيء ببعضه كما تقول: قرأت الحمد وتريد جميع الفاتحة، وكذا تقول مثلا: شهدت برسالة محمد وتريد جميع ما ذكر. والله أعلم. |
01-30-2013, 11:08 AM | #18 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
(ثالثها): المراد بإقام الصلاة: المداومة عليها أو مطلق الإتيان بها، والمراد بإيتاء الزكاة: إخراج جزء من المال على وجه مخصوص. (رابعها): اشترط الباقلاني في صحة الإسلام تقدم الإقرار بالتوحيد على الرسالة، ولم يتابع، مع أنه إذا دقق فيه بان وجهه، ويزداد اتجاها إذا فرقهما، فليتأمل.
(خامسها): يستفاد منه تخصيص عموم مفهوم السنة بخصوص منطوق القرآن، لأن عموم الحديث يقتضي صحة إسلام من باشر ما ذكر، ومفهومه أن من لم يباشره لا يصح منه، وهذا العموم مخصوص بقوله تعالى: (والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم) على ما تقرر في موضعه. (سادسها): وقع هنا تقديم الحج على الصوم، وعليه بنى البخاري ترتيبه، لكن وقع في مسلم من رواية سعد بن عبيدة عن ابن عمر بتقديم الصوم على الحج، قال: فقال رجل: والحج وصيام رمضان. فقال ابن عمر: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. انتهى. ففي هذا إشعار بأن رواية حنظلة التي في البخاري مروية بالمعنى، إما لأنه لم يسمع رد ابن عمر على الرجل لتعدد المجلس، أو حضر ذلك ثم نسيه. ويبعد ما جوزه بعضهم أن يكون ابن عمر سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم -على الوجهين ونسي أحدهما عند رده على الرجل، ووجه بعده أن تطرق النسيان إلى الراوي عن الصحابي أولى من تطرقه إلى الصحابي، كيف وفي رواية مسلم من طريق حنظلة بتقديم الصوم على الحج، ولأبي عوانة - من وجه آخر عن حنظلة - أنه جعل صوم رمضان قبل، فتنويعه دال على أنه روي بالمعنى. ويؤيده ما وقع عند البخاري في التفسير بتقديم الصيام على الزكاة، أفيقال إن الصحابي سمعه على ثلاثة أوجه؟ هذا مستبعد. والله أعلم. (فائدة) اسم الرجل المذكور: يزيد بن بشر السكسكي، ذكره الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى-. *3*3بَاب أُمُورِ الْإِيمَانِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ) وَقَوْلِهِ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) الْآيَةَ الشرح: قوله: (باب أمور الإيمان) ، وللكشميهني " أمر الإيمان " بالإفراد على إرادة الجنس، والمراد بيان الأمور التي هي الإيمان والأمور التي للإيمان. قوله: (وقول الله تعالى) بالخفض.(1/51) ووجه الاستدلال بهذه الآية ومناسبتها لحديث الباب، تظهر من الحديث الذي رواه عبد الرزاق وغيره، من طريق مجاهد أن أبي ذر سأل النبي -صلى الله عليه وسلم -عن الإيمان، فتلا عليه: (ليس البر) إلى آخرها، ورجاله ثقات. وإنما لم يسقه المؤلف لأنه ليس على شرطه، ووجهه: أن الآية حصرت التقوى على أصحاب هذه الصفات، والمراد المتقون من الشرك والأعمال السيئة. فإذا فعلوا وتركوا فهم المؤمنون الكاملون. والجامع بين الآية والحديث: أن الأعمال مع انضمامها إلى التصديق داخلة في مسمى البر، كما هي داخلة في مسمى الإيمان. فإن قيل: ليس في المتن ذكر التصديق؟ أجيب: بأنه ثابت في أصل هذا الحديث كما أخرجه مسلم وغيره، والمصنف يكثر الاستدلال بما اشتمل عليه المتن الذي يذكر أصله ولم يسقه تاما. |
01-30-2013, 11:09 AM | #19 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
قوله: (قد أفلح المؤمنون) ذكره بلا أداة عطف، والحذف جائز، والتقدير: وقول الله: (قد أفلح المؤمنون) ، وثبت المحذوف في رواية الأصيلي، ويحتمل أن يكون ذكر ذلك تفسيرا لقوله المتقون، أي: المتقون هم الموصوفون بقوله: (قد أفلح) إلى آخرها.
وكأن المؤلف أشار إلى إمكان عد الشعب من هاتين الآيتين وشبههما، ومن ثم ذكر ابن حبان أنه عد كل طاعة عدها الله تعالى في كتابه من الإيمان، وكل طاعة عدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -من الإيمان، وحذف المكرر فبلغت سبعا وسبعين. الحديث: -9- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: " الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ." الشرح: قوله: (عن أبي هريرة) هذا أول حديث وقع ذكره فيه. ومجموع ما أخرجه له البخاري من المتون المستقلة أربعمائة حديث وستة وأربعون حديثا على التحرير. وقد اختلف في اسمه اختلافا كثيرا قال ابن عبد البر: لم يختلف في اسم في الجاهلية والإسلام مثل ما اختلف في اسمه، اختلف فيه على عشرين قولا. قلت: وسرد ابن الجوزي في التلقيح منها ثمانية عشر. وقال النووي: تبلغ أكثر من ثلاثين قولا. قلت: وقد جمعتها في ترجمته في تهذيب التهذيب فلم تبلغ ذلك، ولكن كلام الشيخ محمول على الاختلاف في اسمه وفي اسم أبيه معا. قوله: (بضع) بكسر أوله، وحكى الفتح لغة، وهو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع كما جزم به القزاز. وقال ابن سيده: إلى العشر. وقيل: من واحد إلى تسعة. وقيل: من اثنين إلى عشرة. وقيل: من أربعة إلى تسعة. وعن الخليل: البضع: السبع. ويرجح ما قاله القزاز ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى: (فلبث في السجن بضع سنين. ( وما رواه الترمذي بسند صحيح: أن قريشا قالوا ذلك لأبي بكر، وكذا رواه الطبري مرفوعا، ونقل الصغاني في العباب أنه خاص بما دون العشرة وبما دون العشرين، فإذا جاوز العشرين امتنع. قال: وأجازه أبو زيد فقال: يقال: بضعة وعشرون رجلا وبضع وعشرون امرأة. وقال الفراء: وهو خاص بالعشرات إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة ولا بضع وألف. ووقع في بعض الروايات بضعة بتاء التأنيث ويحتاج إلى تأويل. قوله: (وستون) لم تختلف الطرق عن أبي عامر شيخ شيخ المؤلف في ذلك، وتابعه يحيى الحماني - بكسر المهملة وتشديد الميم - عن سليمان بن بلال، وأخرجه أبو عوانة من طريق بشر بن عمرو عن سليمان بن بلال فقال: بضع وستون أو بضع وسبعون، وكذا وقع التردد في رواية مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة من طريقه (1/52) فقالوا: بضع وسبعون من غير شك، ولأبي عوانة في صحيحه من طريق ست وسبعون أو سبع وسبعون، ورجح البيهقي رواية البخاري لأن سليمان لم يشك، وفيه نظر لما ذكرنا من رواية بشر بن عمرو عنه فتردد أيضا لكن يرجح بأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه. وأما رواية الترمذي بلفظ أربع وستون فمعلولة، وعلى صحتها لا تخالف رواية البخاري، وترجيح رواية بضع وسبعون لكونها زيادة ثقة - كما ذكره الحليمي ثم عياض - لا يستقيم، إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لا سيما مع اتحاد المخرج. وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري. وقد رجح ابن الصلاح الأقل لكونه المتيقن. |
01-30-2013, 11:10 AM | #20 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
قوله: (شعبة) بالضم أي: قطعة، والمراد الخصلة أو الجزء.
قوله: (والحياء) هو بالمد، وهو في اللغة: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه. وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث الآخر: " الحياء خير كله". فإن قيل: الحياء من الغرائز فكيف جعل شعبة من الإيمان؟ أجيب: بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلقا، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثا على فعل الطاعة وحاجزا عن فعل المعصية. ولا يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير، لأن ذاك ليس شرعيا، فإن قيل: لم أفرده بالذكر هنا؟ أجيب: بأنه كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر، والله الموفق. وسيأتي مزيد في الكلام عن الحياء في " باب الحياء من الإيمان " بعد أحد عشر بابا. (فائدة) قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان. ا ه. ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، لكن لم نقف على بيانها من كلامه، وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره، وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن. فأعمال القلب فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة: الإيمان بالله، ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه. والإيمان بملائكته. وكتبه. ورسله. والقدر خيره وشره. والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار. ومحبة الله. والحب والبغض فيه. ومحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه، واتباع سنته. والإخلاص، ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق. والتوبة. والخوف. والرجاء. والشكر. والوفاء. والصبر. والرضا بالقضاء والتوكل. والرحمة. والتواضع، ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير. وترك الكبر والعجب. وترك الحسد. وترك الحقد. وترك الغصب. وأعمال اللسان، وتشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد. وتلاوة القرآن. وتعلم العلم. وتعليمه. والدعاء. والذكر، ويدخل فيه الاستغفار. واجتناب اللغو. وأعمال البدن، وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة، منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حسا وحكما، ويدخل فيه اجتناب النجاسات. وستر العورة. والصلاة فرضا ونفلا. والزكاة كذلك. وفك الرقاب. والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف. والصيام فرضا ونفلا. والحج، والعمرة كذلك. والطواف. والاعتكاف. والتماس ليلة القدر. والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك. والوفاء بالنذر، والتحري في الإيمان، وأداء الكفارات. ومنها ما يتعلق بالاتباع، وهي ست خصال: التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال. وبر الوالدين، وفيه اجتناب العقوق. وتربية الأولاد. وصلة الرحم. وطاعة السادة أو الرفق بالعبيد. ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمرة مع العدل. ومتابعة الجماعة. وطاعة أولي الأمر. والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة. والمعاونة على البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإقامة الحدود. والجهاد، ومنه المرابطة. وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس. والقرض مع وفائه. وإكرام الجار. وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حله. وإنفاق المال في حقه، ومنه ترك التبذير والإسراف. ورد السلام. وتشميت العاطس. وكف الأذى عن الناس. واجتناب اللهو وإماطة الأذى عن الطريق. فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عدها تسعا وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر. والله أعلم. (فائدة) : في رواية مسلم من الزيادة: " أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " وفي هذا إشارة إلى أن مراتبها متفاوتة. (تنبيه) : في الإسناد المذكور رواية الأقران، وهي: عبد الله بن دينار عن أبي صالح لأنهما تابعيان، فإن وجدت رواية أبي صالح عنه صار من المدبج. ورجاله من سليمان إلى منتهاه من أهل المدينة وقد دخلها الباقون. |
01-30-2013, 11:10 AM | #21 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*4بَاب الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ
الشرح: قوله: (باب) سقط من رواية الأصيلي، وكذا أكثر الأبواب. وهو منون، ويجوز فيه الإضافة إلى جملة الحديث، لكن لم تأت به الرواية. قوله: (المسلم) استعمل لفظ الحديث ترجمة من غير تصرف فيه. الحديث: -10-حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: " الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ". قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى: عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. الشرح: قوله: (أبي إياس) اسمه ناهية بالنون وبين الهاءين ياء أخيرة. وقيل اسمه: عبد الرحمن. قوله: (أبي السفر) اسمه سعيد بن يحمد كما تقدم، وإسماعيل مجرور بالفتحة عطفا عليه، والتقدير: كلاهما عن الشعبي. وعبد الله بن عمرو هو: ابن العاص صحابي ابن صحابي. قوله: (المسلم) قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو زيد الرجل أي: الكامل في الرجولية. وتعقب بأنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملا. ويجاب: بأن المراد بذلك مراعاة باقي الأركان، قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين. انتهى. |
01-30-2013, 11:11 AM | #22 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذكر مثله في علامة المنافق.
ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه، لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. (تنبيه) : ذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب، لأن محافظة المسلم على كف الأذى عن أخيه المسلم أشد تأكيدا، ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه. والإتيان بجمع التذكير للتغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك.(1/54) وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس، وهكذا اليد لأن أكثر الأفعال بها، والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد، لأن اللسان يمكنه القول في الماضيين والموجودين والحادثين بعد، بخلاف اليد، نعم يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإن أثرها في ذلك لعظيم. ويستثنى من ذلك شرعا تعاطي الضرب باليد في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك. وفي التعبير باللسان دون القول نكتة، فيدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل الاستهزاء. وفي ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكتة، فيدخل فيها اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق. (فائدة) : فيه من أنواع البديع تجنيس الاشتقاق، وهو كثير. قوله: (والمهاجر) هو بمعنى الهاجر، وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع فعل من اثنين، لكنه هنا للواحد كالمسافر. ويحتمل أن يكون على بابه لأن من لازم كونه هاجرا وطنه مثلا أنه مهجور من وطنه، وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة. فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان. والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن. وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييبا لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام. (تنبيه) : هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، بخلاف جميع ما تقدم من الأحاديث المرفوعة. على أن مسلما أخرج معناه من وجه آخر، وزاد ابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث أنس صحيحا: " المؤمن من أمنه الناس " وكأنه اختصره هنا لتضمنه لمعناه. والله أعلم. قوله: (وقال أبو معاوية حدثنا داود) هو ابن أبي هند، وكذا في رواية ابن عساكر عن عامر وهو الشعبي المذكور في الإسناد الموصول. وأراد بهذا التعليق بيان سماعه له من الصحابي، والنكتة فيه رواية وهيب بن خالد له عن داود عن الشعبي عن رجل عن عبد الله بن عمرو، حكاه ابن منده، فعلى هذا لعل الشعبي بلغه ذلك عن عبد الله، ثم لقيه فسمعه منه. ونبه بالتعليق الآخر على أن عبد الله الذي أهمل في روايته هو عبد الله بن عمرو الذي بين في رواية رفيقه، والتعليق عن أبي معاوية وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريقه ولفظه: " سمعت عبد الله بن عمرو يقول: ورب هذه البنية لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده " فعلم أنه ما أراد إلا أصل الحديث. والمراد بالناس هنا: المسلمون كما في الحديث الموصول، فهم الناس حقيقة عند الإطلاق، لأن الإطلاق يحمل على الكامل، ولا كمال في غير المسلمين. ويمكن حمله على عمومه على إرادة شرط وهو إلا بحق، مع أن إرادة هذا الشرط متعينة على كل حال، لما قدمته من استثناء إقامة الحدود على المسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم. |
01-30-2013, 11:11 AM | #23 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*5بَاب أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟
الشرح: (1/55). قوله: (باب) هو منون، وفيه ما في الذي قبله. الحديث: -11- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -قَالَ: " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ." الشرح: قوله: (حدثنا أبو بردة) هو بريد بالموحدة والراء مصغرا، وشيخه جده وافقه في كنيته لا في اسمه، وأبو موسى هو الأشعري. قوله: (قالوا) رواه مسلم والحسن بن سفيان وأبو يعلى في مسنديهما عن سعيد بن يحيى بن سعيد شيخ البخاري بإسناده هذا بلفظ " قلنا"، ورواه ابن منده من طريق حسين بن محمد الغساني أحد الحفاظ عن سعيد بن يحيى هذا بلفظ " قلت"، فتعين أن السائل أبو موسى، ولا تخالف بين الروايات لأنه في هذه صرح وفي رواية مسلم أراد نفسه ومن معه من الصحابة، إذ الراضي بالسؤال في حكم السائل. وفي رواية البخاري: أراد أنه وإياهم. وقد سأل هذا السؤال أيضا أبو ذر، رواه ابن حبان. وعمير بن قتادة، رواه الطبراني. قوله: (أي الإسلام) إن قيل الإسلام مفرد، وشرط أي أن تدخل على متعدد. أجيب: بأن فيه حذفا تقديره: أي ذوي الإسلام أفضل؟ ويؤيده رواية مسلم: أي المسلمين أفضل؟ والجامع بين اللفظين أن أفضلية المسلم حاصلة بهذه الخصلة. وهذا التقدير أولى من تقدير بعض الشراح هنا: أي خصال الإسلام. وإنما قلت إنه أولى لأنه يلزم عليه سؤال آخر بأن يقال: سئل عن الخصال فأجاب بصاحب الخصلة، فما الحكمة في ذلك؟ وقد يجاب بأنه يتأتى نحو قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين) الآية، والتقدير: " بأي ذوي الإسلام " يقع الجواب مطابقا له بغير تأويل. وإذا ثبت أن بعض خصال المسلمين المتعلقة بالإسلام أفضل من بعض حصل مراد المصنف بقبول الزيادة والنقصان، فتظهر مناسبة هذا الحديث والذي قبله لما قبلهما من تعداد أمور الإيمان، إذ الإيمان والإسلام عنده مترادفان، والله أعلم. فإن قيل: لم جرد " أفعل " هنا عن العمل؟ أجيب: بأن الحذف عند العلم به جائز، والتقدير أفضل من غيره. (تنبيه) هذا الإسناد كله كوفيون. ويحيى بن سعيد المذكور اسم جده أبان بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، ونسبه المصنف قريشا بالنسبة الأعمية. يكنى أبا أيوب. وفي طبقته يحيى بن سعيد القطان، وحديثه في هذا الكتاب أكثر من حديث الأموي، وليس له ابن يروى عنه يسمى سعيدا فافترقا. وفي الكتاب ممن يقال له يحيى بن سعيد اثنان أيضا، لكن من طبقة فوق طبقة هذين، وهما يحيى بن سعيد الأنصاري السابق في حديث الأعمال أول الكتاب، ويحيى بن سعيد التيمي أبو حيان، ويمتاز عن الأنصاري بالكنية. والله الموفق. |
01-30-2013, 11:12 AM | #24 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*6 بَاب إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنْ الْإِسْلَامِ
الشرح: قوله: (باب) هو منون، وفيه ما في الذي قبله. قوله: (من الإسلام) للأصيلي " من الإيمان"، أي: من خصال الإيمان. ولما استدل المصنف على زيادة الإيمان ونقصانه بحديث الشعب، تتبع ما ورد في القرآن والسنن الصحيحة من بيانها، فأورده في هذه الأبواب تصريحا وتلويحا، وترجم هنا بقوله: " إطعام الطعام " ولم يقل أي الإسلام خير كما في الذي قبله إشعارا باختلاف المقامين وتعدد السؤالين كما سنقرره.(1/56) الحديث: -12- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -" أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ." الشرح: قوله: (حدثنا عمرو بن خالد) هو الحراني، وهو بفتح العين، وصحف من ضمها. قوله: (الليث) هو ابن سعد فقيه أهل مصر، عن يزيد هو ابن أبي حبيب الفقيه أيضا. قوله: (أن رجلا) لم أعرف اسمه، وقيل أنه أبو ذر، وفي ابن حبان أنه هانئ بن يزيد والد شريح. سأل عن معنى ذلك فأجيب بنحو ذلك. قوله: (أي الإسلام خير؟) فيه ما في الذي قبله من السؤال، والتقدير: أي خصال الإسلام؟ وإنما لم أختر تقدير خصال في الأول فرارا من كثرة الحذف، وأيضا فتنويع التقدير يتضمن جواب من سأل فقال: السؤالان بمعنى واحد والجواب مختلف. فيقال له: إذا لاحظت هذين التقديرين بان الفرق. ويمكن التوفيق بأنهما متلازمان، إذ الإطعام مستلزم لسلامة اليد والسلام لسلامة اللسان، قاله الكرماني. وكأنه أراد في الغالب ويحتمل أن يكون الجواب اختلف لاختلاف السؤال عن الأفضلية، إن لوحظ بين لفظ أفضل ولفظ خير فرق. وقال الكرماني: الفضل بمعنى كثرة الثواب في مقابلة القلة، والخير بمعنى النفع في مقابلة الشر، فالأول من الكمية والثاني من الكيفية فافترقا. واعترض بأن الفرق لا يتم إلا إذا اختص كل منهما بتلك المقولة، أما إذا كان كل منهما يعقل تأتيه في الأخرى فلا. وكأنه بنى على أن لفظ خير اسم لا أفعل تفضيل، وعلى تقدير اتحاد السؤالين جواب مشهور وهو الحمل على اختلاف حال السائلين أو السامعين، فيمكن أن يراد في الجواب الأول تحذير من خشي منه الإيذاء بيد أو لسان، فأرشد إلى الكف، وفي الثاني ترغيب من رجى فيه النفع العام بالفعل والقول فأرشد إلى ذلك، وخص هاتين الخصلتين بالذكر لمسيس الحاجة إليهما في ذلك الوقت، لما كانوا فيه من الجهد، ولمصلحة التأليف. ويدل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام حث عليهما أول ما دخل المدينة، كما رواه الترمذي وغيره مصححا من حديث عبد الله بن سلام. قوله: (تطعم) هو في تقدير المصدر، أي: أن تطعم، ومثله تسمع بالمعيدي. وذكر الإطعام ليدخل فيه الضيافة وغيرها. قوله: (وتقرأ) بلفظ مضارع القراءة بمعنى تقول، قال أبو حاتم السجستاني: تقول: اقرأ عليه السلام، ولا تقول أقرئه السلام، فإذا كان مكتوبا قلت أقرئه السلام أي اجعله يقرأه. قوله: (ومن لم تعرف) أي: لا تخص به أحدا تكبرا أو تصنعا، بل تعظيما لشعار الإسلام ومراعاة لأخوة المسلم. فإن قيل: اللفظ عام فيدخل الكافر والمنافق والفاسق. أجيب: بأنه خص بأدلة أخرى أو أن النهي متأخر وكان هذا عاما لمصلحة التأليف، وأما من شك فيه فالأصل البقاء على العموم حتى يثبت الخصوص. (تنبيهان) : الأول - أخرج مسلم من طريق عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب بهذا الإسناد نظير هذا السؤال، لكن جعل الجواب كالذي في حديث أبي موسى، فادعى ابن منده فيه الاضطراب. وأجيب: بأنهما حديثان اتحد إسنادهما، وافق أحدهما حديث أبي موسى. ولثانيهما شاهد من حديث عبد الله بن سلام كما تقدم. الثاني - هذا الإسناد كله بصريون، والذي قبله كما ذكرنا كوفيون، والذي بعده من طريقيه بصريون، فوقع له التسلسل في الأبواب الثلاثة على الولاء. وهو من اللطائف. |
01-30-2013, 11:13 AM | #25 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*7 بَاب مِنْ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
الشرح: (1/57) قوله: (باب من الإيمان) قال الكرماني: قدم لفظ الإيمان بخلاف أخواته حيث قال: " إطعام الطعام من الإيمان " إما للاهتمام بذكره أو للحصر، كأنه قال: المحبة المذكورة ليست إلا من الإيمان. قلت: وهو توجيه حسن، إلا أنه يرد عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام والحصر معا، وهو قوله: " باب حب الرسول من الإيمان". فالظاهر أنه أراد التنويع في العبارة، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول فقدمه. والله أعلم. الحديث: -13- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" الشرح: قوله: (يحيى) هو ابن سعيد القطان. قوله: (وعن حسين المعلم) هو ابن ذكوان، وهو معطوف على شعبة. فالتقدير عن شعبة وحسين كلاهما عن قتادة، وإنما لم يجمعهما لأن شيخه أفردهما، فأورده المصنف معطوفا اختصارا، ولأن شعبة قال: عن قتادة، وقال حسين: حدثنا قتادة. وأغرب بعض المتأخرين فزعم أنه طريق حسين معلقة، وهو غلط، فقد رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق إبراهيم الحربي عن مسدد شيخ المصنف عن يحيى القطان عن حسين المعلم. وأبدى الكرماني كعادته بحسب التجويز العقلي أن يكون تعليقا أو معطوفا على قتادة، فيكون شعبة رواه عن حسين عن قتادة، إلى غير ذلك مما ينفر عنه من مارس شيئا من علم الإسناد. والله المستعان. (تنبيه) المتن المساق هنا لفظ شعبة، وأما لفظ حسين من رواية مسدد التي ذكرناها فهو: " لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ولجاره"، وللإسماعيلي من طريق روح عن حسين: " حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير " فبين المراد بالأخوة، وعين جهة الحب. وزاد مسلم في أوله عن أبي خيثمة عن يحيى القطان: " والذي نفسي بيده"، وأما طريق شعبة فصرح أحمد والنسائي في روايتهما بسماع قتادة له من أنس، فانتفت تهمة تدليسه. قوله: (لا يؤمن) أي: من يدعي الإيمان، وللمستملي: " أحدكم " وللأصيلي: " أحد " ولابن عساكر: " عبد " وكذا لمسلم عن أبي خيثمة، والمراد بالنفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء - على معنى نفي الكمال عنه - مستفيض في كلامهم كقولهم: فلان ليس بإنسان. فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا وإن لم يأت ببقية الأركان. أجيب: بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله: " لأخيه المسلم " ملاحظة بقية صفات المسلم. وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي عن حسين المعلم بالمراد ولفظه: " لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان " ومعنى الحقيقة هنا الكمال، ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافرا، وبهذا يتم استدلال المصنف على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وهي داخلة في التواضع على ما سنقرره. قوله: (حتى يحب) بالنصب لأن حتى جارة وأن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع فتكون حتى عاطفة فلا يصح المعنى، إذ عدم الإيمان ليس سببا للمحبة. قوله: (ما يحب لنفسه) أي: من الخير كما تقدم عن الإسماعيلي، وكذا هو عند النسائي، وكذا عند ابن منده من رواية همام عن قتادة أيضا. و " الخير ": كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية، وتخرج المنهيات لأن اسم الخير لا يتناولها. والمحبة: إرادة ما يعتقده خيرا، قال النووي: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه كحسن الصورة، أو بفعله إما لذاته كالفضل والكمال، وإما لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضرر. انتهى ملخصا. (1/58). والمراد بالميل هنا: الاختياري دون الطبيعي والقسري، والمراد أيضا أن يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له، لا عينه، سواء كان في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له لا مع سلبه عنه ولا مع بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال. وقال أبو الزناد بن سراج: ظاهر هذا الحديث طلب المساواة، وحقيقته تستلزم التفضيل. لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل في جملة المفضولين. قلت: أقر القاضي عياض هذا، وفيه نظر. إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة، لأن المقصود الحث على التواضع. فلا يحب أن يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة. ويستفاد ذلك من قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة تجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) ، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد والغل والحقد والغش، وكلها خصال مذمومة. (فائدة) قال الكرماني: ومن الإيمان أيضا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء. |
01-30-2013, 11:13 AM | #26 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
3*8 باب حُبُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْإِيمَانِ الشرح:
قوله: (باب حب الرسول) اللام فيه للعهد، والمراد سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بقرينة قوله: " حتى أكون أحب " وإن كانت محبة جميع الرسل من الإيمان، لكن الأحبية مختصة بسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. الحديث: -14- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: " فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ." الشرح: قوله: (شعيب) هو ابن أبي حمزة الحمصي، واسم أبي حمزة دينار. وقد أثمر المصنف من تخريج حديثه عن الزهري وأبي الزناد. ووقع في غرائب مالك للدار قطني إدخال رجل - وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن - بين الأعرج وأبي هريرة في هذا الحديث. وهي زيادة شاذة. فقد رواه الإسماعيلي بدونها من حديث مالك، ومن حديث إبراهيم بن طهمان. وروى ابن منده من طريق أبي حاتم الرازي عن أبي اليمان شيخ البخاري هذا الحديث مصرحا فيه بالتحديث في جميع الإسناد، وكذا النسائي من طريق علي بن عياش عن شعيب. قوله: (والذي نفسي بيده) فيه جواز الحلف على الأمر المهم توكيدا وإن لم يكن هناك مستحلف. قوله: (لا يؤمن) أي: إيمانا كاملا. قوله: (أحب) هو أفعل بمعنى المفعول، وهو مع كثرته على خلاف القياس، وفصل بينه وبين معموله بقوله: " إليه " لأن الممتنع الفصل بأجنبي. قوله: (من والده وولده) قدم الوالد للأكثرية لأن كل أحد له والد من غير عكس. وفي رواية النسائي في حديث أنس تقديم الولد على الوالد، وذلك لمزيد الشفقة. ولم تختلف الروايات في ذلك في حديث أبي هريرة هذا، وهو من أفراد البخاري عن مسلم. الحديث: -15- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ح و حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ." الشرح: قوله: (أخبرنا يعقوب بن إبراهيم) هو الدورقي. والتفريق بين " حدثنا " و " أخبرنا " لا يقول به المصنف كما يأتي في العلم.(1/59) وقد وقع في غير رواية أبي ذر " حدثنا يعقوب". قوله: (وحدثنا آدم) عطف الإسناد الثاني على الأول قبل أن يسوق المتن فأوهم استواءهما، فإن لفظ قتادة مثل لفظ حديث أبي هريرة، لكن زاد فيه: " والناس أجمعين"، ولفظ عبد العزيز مثله إلا أنه قال كما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن يعقوب شيخ البخاري بهذا الإسناد: " من أهله وماله " بدل من والده وولده، وكذا لمسلم من طريق ابن علية، وكذا للإسماعيلي من طريق عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز ولفظه: " لا يؤمن الرجل " وهو أشمل من جهة، و " أحدكم " أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيلي: " لا يؤمن أحدكم". فإن قيل: فسياق عبد العزيز مغاير لسياق قتادة، وصنيع البخاري يوهم اتحادهما في المعنى وليس كذلك. فالجواب: أن البخاري يصنع مثل هذا نظرا إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه، واقتصر على سياق قتادة لموافقته لسياق حديث أبي هريرة، ورواية شعبة عن قتادة مأمون فيها من تدليس قتادة، لأنه كان لا يسمع منه إلا ما سمعه، وقد وقع التصريح به في هذا الحديث في رواية النسائي، وذكر الولد والوالد أدخل في المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس أيضا في حديث أبي هريرة، وهل تدخل الأم في لفظ الوالد إن أريد به من له الولد فيعم، أو يقال: اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفي عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذكر على سبيل التمثيل والمراد الأعزة، كأنه قال: أحب إليه من أعزته، وذكر الناس بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص وهو كثير، وقدم الوالد على الولد في رواية لتقدمه بالزمان والإجلال، وقدم الولد في أخرى لمزيد الشفقة. وهل تدخل النفس في عموم قوله "والناس أجمعين "؟ الظاهر دخوله. وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، وهو بعيد، وقد وقع التنصيص بذكر النفس في حديث عبد الله بن هشام كما سيأتي. والمراد بالمحبة هنا: حب الاختيار لا حب الطبع، قاله الخطابي. وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبي -صلى الله عليه وسلم -راجحا، ومن رجح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس. وفي كلام القاضي عياض أن ذلك شرط في صحة الإيمان، لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال. وتعقبه صاحب المفهم بأن ذلك ليس مرادا هنا، لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزما للمحبة، إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته. قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه، وإلى هذا يومئ قول عمر الذي رواه المصنف في " الأيمان والنذور " من حديث عبد الله بن. هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: " لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر " انتهى. فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعا. ومن علامة الحب المذكور أن يعرض على المرء أن لو خير بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم -أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد شيء من أغراضه فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا. وليس ذلك محصورا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها. ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها. أما نفسه: فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب. وأما غيرها: فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالا ومآلا. فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول -صلى الله عليه وسلم -الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب، (1/60) علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه. ولا شك أن حظ الصحابة -رضي الله عنهم -هذا المعنى أتم، لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم، والله الموفق. وقال القرطبي: كل من آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم -إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون. فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقا في الشهوات محجوبا في الغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم -اشتاق إلى رؤيته، بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه. وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره، ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما وقر في قلوبهم من محبته. غير أن ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات، والله المستعان. انتهى ملخصا. |
01-30-2013, 11:14 AM | #27 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*9 باب حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ
الشرح: قوله: (باب حلاوة الإيمان) مقصود المصنف أن الحلاوة من ثمرات الإيمان. ولما قدم أن محبة الرسول من الإيمان أردفه بما يوجد حلاوة ذلك. الحديث: -16- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ." الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن المثنى) هو أبو موسى العنزي بفتح النون بعدها زاي، قال: حدثنا عبد الوهاب، هو ابن عبد المجيد، حدثنا أيوب، هو ابن أبي تميمة السختياني بفتح السين المهملة على الصحيح، وحكى ضمها وكسرها، عن أبي قلابة بكسر القاف وبباء موحدة. قوله: (ثلاث) هو مبتدأ والجملة الخبر، وجاز الابتداء بالنكرة لأن التنوين عوض المضاف إليه، فالتقدير: ثلاث خصال، ويحتمل في إعرابه غير ذلك. قوله: (كن) أي: حصلن، فهي تامة. وفي قوله: " حلاوة الإيمان " استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو وأثبت له لازم ذلك الشيء وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مرا، والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئا ما نقص ذوقه بقدر ذلك، فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوي استدلال المصنف على الزيادة والنقص. قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله تعالى: (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة) فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الأمر واجتناب النهي، وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جني الثمرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة وبه تظهر حلاوتها. قوله: (أحب إليه) منصوب لأنه خبر يكون، قال البيضاوي: المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهي إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك،(1/ 61) تمرن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعا له، ويلتذ بذلك التذاذا عقليا، إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك. وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة. قال: وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانا لكمال الإيمان، لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه: فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب من يحب إلا من أجله. وأن يتيقن أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينا. ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار. انتهى ملخصا. وشاهد الحديث من القرآن قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم - إلى أن قال - أحب إليكم من الله ورسوله) ثم هدد على ذلك وتوعد بقوله: (فتربصوا. ( (فائدة) : فيه إشارة إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، فالأول من الأول والأخير من الثاني. وقال غيره: محبة الله على قسمين فرض وندب. فالفرض: المحبة التي تبعث على امتثال أوامره، والانتهاء عن معاصيه، والرضا بما يقدره، فمن وقع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره في محبة الله حيث قدم هوى نفسه. والتقصير تارة يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها، فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء فيقدم على المعصية، أو تستمر الغفلة فيقع. وهذا الثاني يسرع إلى الإقلاع مع الندم. وإلى الثاني يشير حديث: " لا يزني الزاني وهو مؤمن". والندب: أن يواظب على النوافل، ويتجنب الوقوع في الشبهات، والمتصف عموما بذلك نادر. قال: وكذلك محبة الرسول على قسمين كما تقدم، ويزاد أن لا يتلقى شيئا من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاته، ولا يسلك إلا طريقته، ويرضى بما شرعه، حتى لا يجد في نفسه حرجا مما قضاه، ويتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار والحلم والتواضع وغيرها، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، وتتفاوت مراتب المؤمنين بحسب ذلك. وقال الشيخ محيي الدين: هذا حديث عظيم، أصل من أصول الدين. ومعنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وإيثار ذلك على أعراض الدنيا، ومحبة العبد لله تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول. وإنما قال: " مما سواهما " ولم يقل: " ممن " ليعم من يعقل ومن لا يعقل. قال: وفيه دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية. وأما قوله للذي خطب فقال: ومن يعصهما " بئس الخطيب أنت" فليس من هذا، لأن المراد في الخطب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ، ويدل عليه أن النبي -صلى الله عليه وسلم -حيث قاله في موضع آخر قال: " ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه". واعترض بأن هذا الحديث إنما ورد أيضا في حديث خطبة النكاح. وأجيب: بأن المقصود في خطبة النكاح أيضا الإيجاز فلا نقض. وثم أجوبة أخرى، منها: دعوى الترجيح، فيكون حيز المنع أولى لأنه عام. والآخر يحتمل الخصوصية، ولأنه ناقل والآخر مبني على الأصل، ولأنه قول والآخر فعل. ورد بأن احتمال التخصيص في القول أيضا حاصل بكل قول، ليس فيه صيغة عموم أصلا، ومنها دعوى أنه من الخصائص، فيمتنع من غير النبي -صلى الله عليه وسلم -ولا يمتنع منه، لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاقه التسوية، بخلافه هو فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك. وإلى هذا مال ابن عبد السلام. ومنها دعوى التفرقة بوجه آخر، وهو أن كلامه -صلى الله عليه وسلم -هنا جملة واحدة فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مقام المضمر، وكلام الذي خطب جملتان لا يكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر. وتعقب هذا بأنه لا يلزم من كونه لا يكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر أن يكره إقامة المضمر فيها مقام الظاهر، فما وجه الرد على الخطيب مع أنه هو -صلى الله عليه وسلم -جمع كما تقدم؟ ويجاب: بأن قصة الخطيب - كما قلنا - ليس فيها صيغة عموم، بل هي واقعة عين، فيحتمل أن يكون في ذلك المجلس من يخشى عليه توهم التسوية كما تقدم. (1/62) ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين حديث الباب وقصة الخطيب أن تثنية الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى. فمن يدعي حب الله مثلا ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك، ويشير إليه قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فأوقع متابعته مكتنفة بين قطري محبة العباد ومحبة الله تعالى للعباد. وأما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فأعاد " أطيعوا " في الرسول ولم يعده في أولي الأمر لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة كاستقلال الرسول. انتهى ملخصا من كلام البيضاوي والطيبي. ومنها أجوبة أخرى فيها تكلم: منها أن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، ومنها أن له أن يجمع بخلاف غيره. قوله: (وأن يحب المرء) قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء. قوله: (وأن يكره أن يعود في الكفر) زاد أبو نعيم في المستخرج من طريق الحسن بن سفيان عن محمد ابن المثنى شيخ المصنف: " بعد إذ أنقذه الله منه"، وكذا هو في طريق أخرى للمصنف، والإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء بأن يولد على الإسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان كما وقع لكثير من الصحابة. وعلى الأول فيحمل قوله: " يعود " على معنى الصيرورة، بخلاف الثاني فإن العود فيه على ظاهره. فإن قيل: فلم عدى العود بفي ولم يعده بإلى؟ فالجواب: أنه ضمنه معنى الاستقرار، وكأنه قال: يستقر فيه. ومثله قوله تعالى: (وما كان لنا أن نعود فيها. ( (تنبيه) : هذا الإسناد كله بصريون. وأخرجه المصنف بعد ثلاثة أبواب من طريق شعبة عن قتادة عن أنس، واستدل به على فضل من أكره على الكفر فترك البتة إلى أن قتل، وأخرجه من هذا الوجه في الأدب في فضل الحب في الله، ولفظه في هذه الرواية: " وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " وهي أبلغ من لفظ حديث الباب، لأنه سوى فيه بين الأمرين، وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه في نار الأخرى، وكذا رواه مسلم من هذا الوجه، وصرح النسائي في روايته والإسماعيلي بسماع قتادة له من أنس، والله الموفق. وأخرجه النسائي من طريق طلق بن حبيب عن أنس وزاد في الخصلة الثانية ذكر البغض في الله ولفظه: " وأن يحب في الله ويبغض في الله " وقد تقدم للمصنف في ترجمته: " والحب في الله والبغض في الله من الإيمان " وكأنه أشار بذلك إلى هذه الرواية. |
01-30-2013, 11:16 AM | #28 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*10 باب عَلَامَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ
الشرح: قوله: (باب) هو منون. ولما ذكر في الحديث السابق أنه: " لا يحبه إلا الله " عقبه بما يشير إليه من أن حب الأنصار كذلك، لأن محبة من يحبهم من حيث هذا الوصف - وهو النصرة - إنما هو لله تعالى، فهم وإن دخلوا في عموم قوله: " لا يحبه إلا الله " لكن التنصيص بالتخصيص دليل العناية. الحديث: -17- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: " آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ." الشرح: (1/ 63) قوله: (حدثنا أبو الوليد) هو الطيالسي. قوله: (جبر) بفتح الجيم وسكون الموحدة، وهو ابن عتيك الأنصاري، وهذا الراوي ممن وافق اسمه اسم أبيه. قوله: (آية الإيمان) هو بهمزة ممدودة وياء تحتانية مفتوحة وهاء تأنيث، والإيمان مجرور بالإضافة، هذا هو المعتمد في ضبط هذه الكلمة في جميع الروايات، في الصحيحين والسنن والمستخرجات والمسانيد. والآية: العلامة كما ترجم به المصنف، ووقع في إعراب الحديث لأبي البقاء العكبري: " إنه الإيمان " بهمزة مكسورة ونون مشددة وهاء، والإيمان مرفوع، وأعربه فقال: إن للتأكيد، والهاء ضمير الشأن، والإيمان مبتدأ وما بعده خبر، ويكون التقدير: إن الشأن الإيمان حب الأنصار. وهذا تصحيف منه. ثم فيه نظر من جهة المعنى لأنه يقتضي حصر الإيمان في حب الأنصار، وليس كذلك. فإن قيل: واللفظ المشهور أيضا يقتضي الحصر، وكذا ما أورده المصنف في فضائل الأنصار من حديث البراء بن عازب: " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن" فالجواب عن الأول: أن العلامة كالخاصة تطرد ولا تنعكس، فإن أخذ من طريق المفهوم فهو مفهوم لقب لا عبرة به. سلمنا الحصر لكنه ليس حقيقيا بل ادعائيا للمبالغة، أو هو حقيقي لكنه خاص بمن أبغضهم من حيث النصرة. والجواب عن الثاني: أن غايته أن لا يقع حب الأنصار إلا لمؤمن. وليس فيه نفي الإيمان عمن لم يقع منه ذلك، بل فيه أن غير المؤمن لا يحبهم. فإن قيل: فعلى الشق الثاني هل يكون من أبغضهم منافقا وإن صدق وأقر؟ فالجواب: أن ظاهر اللفظ يقتضيه، لكنه غير مراد، فيحمل على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة - وهي كونهم نصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أثر ذلك في تصديقه فيصح أنه منافق. ويقرب هذا الحمل زيادة أبي نعيم في المستخرج في حديث البراء بن عازب: " من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم"، ويأتي مثل هذا الحب كما سبق. وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد رفعه: " لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر"، ولأحمد من حديثه: " حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق". ويحتمل أن يقال: إن اللفظ خرج على معنى التحذير فلا يراد ظاهره، ومن ثم لم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده، بل قابله بالنفاق إشارة إلى أن الترغيب والترهيب إنما خوطب به من يظهر الإيمان، أما من يظهر الكفر فلا، لأنه مرتكب ما هو أشد من ذلك. قوله: (الأنصار) هو جمع ناصر كأصحاب وصاحب، أو جمع نصير كأشراف وشريف، واللام فيه للعهد أي: أنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمراد الأوس والخزرج، وكانوا قبل ذلك يعرفون ببني قيلة بقاف مفتوحة وياء تحتانية ساكنة وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -" الأنصار " فصار ذلك علما عليهم، وأطلق أيضا على أولادهم وحلفائهم ومواليهم. وخصوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي -صلى الله عليه وسلم -ومن معه والقيام بأمرهم ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم وإيثارهم إياهم في كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجبا لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كان ما اختصوا به مما ذكر موجبا للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير من بغضهم والترغيب في حبهم حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق، تنويها بعظيم فضلهم، وتنبيها على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم في معنى ذلك مشاركا لهم في الفضل المذكور كل بقسطه. وقد ثبت في صحيح مسلم عن علي أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال له: " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق"، وهذا جار بإطراد في أعيان الصحابة، لتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن الغناء في الدين. قال صاحب المفهم: وأما الحروب الواقعة بينهم فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذاك حال المجتهدين في الأحكام: للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد. والله أعلم. (1/ 64). *3*11 باب الحديث: -18- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ -أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ " بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ: إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ " فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك. الشرح: قوله (باب) كذا هو في روايتنا بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصيلي أصلا،فحديثه عنده من جملة الترجمة التي قبله، وعلى روايتنا فهو متعلق بها أيضا، لأن الباب إذا لم تذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله مع تعلقه به، كصنيع مصنفي الفقهاء. ووجه التعلق أنه لما ذكر الأنصار في الحديث الأول أشار في هذا إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن أول ذلك كان ليلة العقبة لما توافقوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عند عقبة منى في الموسم، كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى في السيرة النبوية من هذا الكتاب. وقد أخرج المصنف حديث هذا الباب في مواضع أخر: في باب من شهد بدرا لقوله فيه: " كان شهد بدرا". وفي باب وفود النصارى لقوله فيه: " وهو أحد النقباء". وأورده هنا لتعلقه بما قبله كما بيناه. ثم إن في متنه ما يتعلق بمباحث الإيمان من وجهين آخرين: أحدهما: أن اجتناب المناهي من الإيمان كامتثال الأوامر. وثانيهما: أنه تضمن الرد على من يقول: إن مرتكب الكبيرة كافر أو مخلد في النار، كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. قوله: (عائذ الله) هو اسم علم أي: ذو عياذة بالله، وأبوه عبد الله ابن عمرو الخولاني صحابي، وهو من حيث الرواية تابعي كبير، وقد ذكر في الصحابة لأن له رؤية، وكان مولده عام حنين. والإسناد كله شاميون. قوله: (وكان شهد بدرا) يعني حضر الوقعة المشهورة الكائنة بالمكان المعروف ببدر، وهي أول وقعة قاتل النبي -صلى الله عليه وسلم -فيها المشركين، وسيأتي ذكرها في المغازي. ويحتمل أن يكون قائل ذلك أبو إدريس، فيكون متصلا إذا حمل على أنه سمع ذلك من عبادة، أو الزهري فيكون منقطعا. وكذا قوله: " وهو أحد النقباء". قوله: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -) سقط قبلها من أصل الرواية لفظ " قال " وهو خبر أن، لأن قوله: " وكان " وما بعدها معترض، وقد جرت عادة كثير من أهل الحديث بحذف قال خطأ لكن حيث يتكرر في مثل " قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -" ولا بد عندهم مع ذلك من النطق بها، وقد ثبتت في رواية المصنف لهذا الحديث بإسناده هذا في باب من شهد بدرا فلعلها سقطت هنا ممن بعده، ولأحمد عن أبي اليمان بها الإسناد أن عبادة حدثه. قوله: (وحوله) بفتح اللام على الظرفية، والعصابة بكسر العين: الجماعة من العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها، وقد جمعت على عصائب وعصب. قوله: (بايعوني) زاد في باب وفود الأنصار " تعالوا بايعوني"، والمبايعة عبارة عن المعاهدة، سميت بذلك تشبيها بالمعاوضة المالية كما في قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة). قوله: (ولا تقتلوا أولادكم) قال محمد بن إسماعيل التيمي وغيره: خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم. فالعناية بالنهي عنه آكد، ولأنه كان شائعا فيهم، وهو وأد البنات وقتل البنين خشية الإملاق، أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم.(1/65) قوله: (ولا تأتوا ببهتان) البهتان: الكذب يبهت سامعه، وخص الأيدي والأرجل بالافتراء لأن معظم الأفعال تقع بهما، إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، وكذا يسمون الصنائع الأيادي. وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال: هذا بما كسبت يداك. ويحتمل أن يكون المراد لا تبهتوا الناس كفاحا وبعضكم يشاهد بعضا، كما يقال: قلت كذا بين يدي فلان، قاله الخطابي، وفيه نظر لذكر الأرجل. وأجاب الكرماني: بأن المراد الأيدي، وذكر الأرجل تأكيدا، ومحصله أن ذكر الأرجل إن لم يكن مقتضيا فليس بمانع. ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه، فلذلك نسب إليه الافتراء، كأن المعنى: لا ترموا أحدا بكذب تزورونه في أنفسكم ثم تبهتون صاحبه بألسنتكم. وقال أبو محمد بن أبى جمرة: يحتمل أن يكون قوله: " بين أيديكم " أي: في الحال، وقوله: " وأرجلكم " أي: في المستقبل، لأن السعي من أفعال الأرجل. وقال غيره: أصل هذا كان في بيعة النساء، وكنى بذلك - كما قال الهروي في الغريبين - عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها. ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولا. والله أعلم. قوله: (ولا تعصوا) للإسماعيلي في باب وفود الأنصار " ولا تعصوني " وهو مطابق للآية، والمعروف: ما عرف من الشارع حسنه نهيا وأمرا. قوله: (في معروف) قال النووي: يحتمل أن يكون المعنى ولا تعصوني ولا أحد أولي الأمر عليكم في المعروف، فيكون التقييد بالمعروف متعلقا بشيء بعده. وقال غيره: نبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية لله، فهي جديرة بالتوقي في معصية الله. قوله: (فمن وفى منكم) أي: ثبت على العهد. ووفى بالتخفيف، وفي رواية بالتشديد، وهما بمعنى. قوله: (فأجره على الله) أطلق هذا على سبيل التفخيم، لأنه لما أن ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت ذكر الأجر في موضع أحدهما. وأفصح في رواية الصنابحي عن عبادة في هذا الحديث في الصحيحين بتعيين العوض فقال: " الجنة"، وعبر هنا بلفظ " على " للمبالغة في تحقق وقوعه كالواجبات، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القائمة على أنه لا يجب على الله شيء، وسيأتي في حديث معاذ في تفسير حق الله على العباد تقرير هذا. فإن قيل: لم اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟ فالجواب: أنه لم يهملها، بل ذكرها على طريق الإجمال في قوله: " ولا تعصوا " إذ العصيان مخالفة الأمر. والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات: أن الكف أيسر من إنشاء الفعل، لأن اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح، والتخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل. قوله: (ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب) زاد أحمد في روايته " به". قوله: (فهو) أي: العقاب (كفارة) ، زاد أحمد " له " وكذا هو للمصنف من وجه آخر في باب المشيئة من كتاب التوحيد، وزاد " وطهور". قال النووي: عموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) فالمرتد إذا قتل على ارتداده لا يكون القتل له كفارة. قلت: وهذا بناء على أن قوله: " من ذلك شيئا " يتناول جميع ما ذكر وهو ظاهر، وقد قيل: يحتمل أن يكون المراد ما ذكر بعد الشرك، بقرينة أن المخاطب بذلك المسلمون فلا يدخل حتى يحتاج إلى إخراجه، ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة في هذا الحديث: " ومن أتى منكم حدا " إذ القتل على الشرك لا يسمى حدا. لكن يعكر على هذا القائل أن الفاء في قوله: " فمن " لترتب ما بعدها على ما قبلها، وخطاب المسلمين بذلك لا يمنع التحذير من الإشراك. وما ذكر في الحد عرفي حادث، فالصواب ما قال النووي. وقال الطيبي: الحق أن المراد بالشرك الشرك الأصغر وهو الرياء، ويدل عليه تنكير شيئا أي: شركا أيا ما كان. وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به إلا ذلك. ويجاب: بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز، فما قاله محتمل وإن كان ضعيفا. (1/ 66) ولكن يعكر عليه أيضا أنه عقب الإصابة بالعقوبة في الدنيا، والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك وأنه مخصوص. وقال القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء أن الحدود كفارات واستدلوا بهذا الحديث، ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا"، لكن حديث عبادة أصح إسنادا. ويمكن - يعني على طريق الجمع بينهما - أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولا قبل أن يعلمه الله، ثم أعلمه بعد ذلك. قلت: حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار من رواية معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وهو صحيح على شرط الشيخين. وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر، وذكر الدار قطني أن عبد الرزاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله. قلت: وقد وصله آدم ابن أبي إياس عن ابن أبي ذئب وأخرجه الحاكم أيضا فقويت رواية معمر، وإذا كان صحيحا فالجمع - الذي جمع به القاضي - حسن، لكن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة، لما بايع الأنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم -البيعة الأولى بمنى، وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر، فكيف يكون حديثه متقدما؟ وقالوا في الجواب عنه: يمكن أن يكون أبو هريرة ما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم -قديما ولم يسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم -بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمعه عبادة، وفي هذا تعسف. ويبطله أن أبا هريرة صرح بسماعه، وأن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك. والحق عندي أن حديث أبي هريرة صحيح وهو ما تقدم على حديث عبادة، والمبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما كان ليلة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال لمن حضر من الأنصار: " أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم " فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه. وسيأتي في هذا الكتاب - في كتاب الفتن وغيره - من حديث عبادة أيضا قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره.. الحديث. وأصرح من ذلك في هذا المراد ما أخرجه أحمد والطبراني من وجه آخر عن عبادة أنه جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام " فقال: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -على السمع والطاعة قي النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا، ولنا الجنة. فهذه بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -التي بايعناه عليها. فذكر بقية الحديث. وعند الطبراني له طريق أخرى وألفاظ قريبة من هذه. وقد وضح أن هذا هو الذي وقع في البيعة الأولى. ثم صدرت مبايعات أخرى ستذكر في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، منها هذه البيعة التي في حديث الباب في الزجر عن الفواحش المذكورة. والذي يقوي أنها وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهي قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلا خلاف، والدليل على ذلك ما عند البخاري في كتاب الحدود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري في حديث عبادة هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم -لما بايعهم قرأ الآية كلها، وعنده في تفسير الممتحنة من هذا الوجه قال: " قرأ آية النساء " ولمسلم من طريق معمر عن الزهري قال: " فتلا علينا آية النساء قال: أن لا تشركن بالله شيئا " وللنسائي من طريق الحارث بن فضيل عن الزهري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: " ألا تبايعونني على ما بايع عليه النساء: أن لا تشركوا بالله شيئا " الحديث. وللطبراني من وجه آخر عن الزهري بهذا السند: " بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -على ما بايع عليه النساء يوم فتح مكة". ولمسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة في هذا الحديث: " أخذ علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كما أخذ على النساء". فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية، (1/67) بل بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة. ويؤيد هذا ما رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبيه عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن أيوب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: " أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئا " فذكر نحو حديث عبادة، ورجاله ثقات. وقد قال إسحاق بن راهويه: إذا صح الإسناد إلى عمرو بن شعيب فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر. ا ه. وإذا كان عبد الله بن عمرو أحد من حضر هذه البيعة وليس هو من الأنصار ولا ممن حضر بيعتهم، وإنما كان إسلامه قرب إسلام أبي هريرة، وضح تغاير البيعتين - بيعة الأنصار ليلة العقبة وهي قبل الهجرة إلى المدينة، وبيعة أخرى وقعت بعد فتح مكة وشهدها عبد الله بن عمرو وكان إسلامه بعد الهجرة بمدة طويلة - ومثل ذلك ما رواه الطبراني من حديث جرير قال: " بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -على مثل ما بايع عليه النساء " فذكر الحديث، وكان إسلام جرير متأخرا عن إسلام أبي هريرة على الصواب، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معا، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به، فكان يذكرها إذا حدث تنويها بسابقيته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء عقب ذلك، توهم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعة الأولى وقعت على ذلك. ونظيره ما أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده - وكان أحد النقباء - قال: " بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بيعة الحرب " وكان عبادة من الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى " على بيعة النساء وعلى السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا " الحديث. فإنه ظاهر في اتحاد البيعتين، ولكن الحديث في الصحيحين كما سيأتي في الأحكام ليس فيه هذه الزيادة، وهو من طريق مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبادة بن الوليد. والصواب أن بيعة الحرب بعد بيعة العقبة لأن الحرب إنما شرع بعد الهجرة، ويمكن تأويل رواية ابن إسحاق وردها إلى ما تقدم، وقد اشتملت روايته على ثلاث بيعات: بيعة العقبة وقد صرح أنها كانت قبل أن يفرض الحرب في رواية الصنابحي عن عبادة عند أحمد. والثانية بيعة الحرب وسيأتي في الجهاد أنها كانت على عدم الفرار. والثالثة بيعة النساء أي: التي وقعت على نظير بيعة النساء. والراجح أن التصريح بذلك وهمٌ من بعض الرواة، والله أعلم. ويعكر على ذلك التصريح في رواية ابن إسحاق من طريق الصنابحي عن عبادة أن بيعة ليلة العقبة كانت على مثل بيعة النساء، واتفق وقوع ذلك قبل أن تنزل الآية، وإنما أضيفت إلى النساء لضبطها بالقرآن. ونظيره ما وقع في الصحيحين أيضا من طريق الصنابحي عن عبادة قال: " إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -"؛ وقال: " بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا " الحديث. فظاهر هذا اتحاد البيعتين، ولكن المراد ما قررته أن قوله: " إني من النقباء الذين بايعوا - أي ليلة العقبة - على الإيواء والنصر " وما يتعلق بذلك، ثم قال: بايعناه الخ أي: في وقت آخر، ويشير إلى هذا الإتيان بالواو العاطفة في قوله: " وقال بايعناه". وعليك برد ما أتى من الروايات موهما بأن هذه البيعة كانت ليلة العقبة إلى هذا التأويل الذي نهجت إليه فيرتفع بذلك الإشكال، ولا يبقى بين حديثي أبي هريرة وعبادة تعارض، ولا وجه بعد ذلك للتوقف في كون الحدود كفارة. واعلم أن عبادة بن الصامت لم ينفرد برواية هذا المعنى، بل روى ذلك علي بن أبي طالب وهو في الترمذي وصححه الحاكم وفيه " من أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يثنى العقوبة على عبده في الآخرة " وهو عند الطبراني بإسناد حسن من حديث أبى تميمة الهجيمي، ولأحمد من حديث خزيمة بن ثابت بإسناد حسن ولفظه: (1/ 68) " من أصاب ذنبا أقيم عليه ذلك الذنب فهو كفارة له". وللطبراني عن ابن عمرو مرفوعا " ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله كفارة لما أصاب من ذلك الذنب". وإنما أطلت في هذا الموضع لأنني لم أر من أزال اللبس فيه على الوجه المرضي، والله الهادي. قوله: (فعوقب به) قال ابن التين: يريد به القطع في السرقة والجلد أو الرجم في الزنا. قال: وأما قتل الولد فليس له عقوبة معلومة، إلا أن يريد قتل النفس فكنى عنه، قلت: وفي رواية الصنابحي عن عبادة في هذا الحديث (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) ولكن قوله في حديث الباب " فعوقب به " أعم من أن تكون العقوبة حدا أو تعزيرا. قال ابن التين: وحكى عن القاضي إسماعيل وغيره أن قتل القاتل إنما هو رادع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم لأنه لم يصل إليه حق. قلت: بل وصل إليه حق وأي حق، فإن المقتول ظلما تكفر عنه ذنوبه بالقتل، كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حبان وغيره " إن السيف محاء للخطايا"، وعن ابن مسعود قال: " إذا جاء القتل محا كل شيء " رواه الطبراني، وله عن الحسن ابن علي نحوه، وللبزار عن عائشة مرفوعا: " لا يمر القتل بذنب إلا محاه " فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، وأي حق يصل إليه أعظم من هذا؟ ولو كان حد القتل إنما شرع للردع فقط لم يشرع العفو عن القاتل، وهل تدخل في العقوبة المذكورة المصائب الدنيوية من الآلام والأسقام وغيرها؟ فيه نظر. ويدل للمنع قوله: " ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله " فإن هذه المصائب لا تنافي الستر، ولكن بينت الأحاديث الكثيرة أن المصائب تكفر الذنوب، فيحتمل أن يراد أنها تكفر ما لا حد فيه. والله أعلم. ويستفاد من الحديث أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود، وهو قول الجمهور. وقيل: لا بد من التوبة، وبذلك جزم بعض التابعين، وهو قول للمعتزلة، ووافقهم ابن حزم ومن المفسرين البغوي وطائفة يسيرة، واستدلوا باستثناء من تاب في قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) والجواب في ذلك: أنه في عقوبة الدنيا، ولذلك قيدت بالقدرة عليه. قوله: (ثم ستره الله) زاد في رواية كريمة " عليه". قوله: (فهو إلى الله) قال المازني: فيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -أخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل لا بد أن يعذبه. وقال الطيبي: فيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد أو بالجنة لأحد إلا من ورد النص فيه بعينه. قلت: أما الشق الأول فواضح. وأما الثاني فالإشارة إليه إنما تستفاد من الحمل على غير ظاهر الحديث وهو متعين. قوله: (إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه) يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب. وقال بذلك طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة، ومع ذلك فلا يأمن مكر الله لأنه لا اطلاع له هل قبلت توبته أو لا. وقيل: يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب، واختلف فيمن أتى ما يوجب الحد، فقيل: يجوز أن يتوب سرا ويكفيه ذلك. وقيل: بل الأفضل أن يأتي الإمام ويعترف به، ويسأله أن يقيم عليه الحد كما وقع لماعز والغامدية. وفصل بعض العلماء بين أن يكون معلنا بالفجور فيستحب أن يعلن بتوبته وإلا فلا. (تنبيه) : زاد في رواية الصنابحي عن عبادة في هذا الحديث: " ولا ينتهب " وهو مما يتمسك به في أن البيعة متأخرة، لأن الجهاد عند بيعة العقبة لم يكن فرض، والمراد بالانتهاب: ما يقع بعد القتال في الغنائم. وزاد في روايته أيضا: " ولا يعصى بالجنة، إن فعلنا ذلك، فإن غشينا من ذلك شيئا ما كان قضاء ذلك إلى الله " أخرجه المصنف في باب وفود الأنصار عن قتيبة عن الليث، ووقع عنده " ولا يقضى " بقاف وضاد معجمة وهو تصحيف، وقد تكلف بعض الناس في تخريجه وقال: إنه نهاكم عن ولاية القضاء، ويبطله أن عبادة -رضي الله -عنه ولي قضاء فلسطين في زمن عمر -رضي الله عنهما-.(1/ 69) وقيل: إن قوله: " بالجنة " متعلق بيقضي، أي: لا يقضى بالجنة لأحد معين. قلت: لكن يبقى قوله: " إن فعلنا ذلك " بلا جواب، ويكفي في ثبوت دعوى التصحيف فيه رواية مسلم عن قتيبة بالعين والصاد المهملتين، وكذا الإسماعيلي عن الحسن ابن سفيان، ولأبي نعيم من طريق موسى بن هارون كلاهما عن قتيبة، وكذا هو عند البخاري أيضا في هذا الحديث في الديات عن عبد الله بن يوسف عن الليث في معظم الروايات، لكن عند الكشميهني بالقاف والضاد أيضا وهو تصحيف كما بيناه. وقوله: " بالجنة " إنما هو متعلق بقوله في أوله " بايعنا". والله أعلم. |
01-30-2013, 11:17 AM | #29 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*12 باب مِنْ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنْ الْفِتَنِ
الشرح: قوله: (باب من الدين الفرار من الفتن) عدل المصنف عن الترجمة بالإيمان - مع كونه ترجم لأبواب الإيمان - مراعاة للفظ الحديث، ولما كان الإيمان والإسلام مترادفين في عرف الشرع وقال الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) صح إطلاق الدين في موضع الإيمان. الحديث: -19- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ." الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن مسلمة) هو القعنبي أحد رواة الموطأ، نسب إلى جده قعنب، وهو بصري أقام بالمدينة مدة. قوله: (عن أبيه) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي صعصعة، فسقط الحارث من الرواية، واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف الأنصاري ثم المازني، هلك في الجاهلية، وشهد ابنه الحارث أحدا، واستشهد باليمامة. قوله: (عن أبي سعيد) اسمه سعد على الصحيح - وقيل سنان - ابن مالك بن سنان، استشهد أبوه بأحد، وكان هو من المكثرين. وهذا الإسناد كله مدنيون، وهو من أفراد البخاري عن مسلم. نعم أخرج مسلم في الجهاد - وهو عند المصنف أيضا من وجه آخر - عن أبي سعيد حديث الأعرابي الذي سأل: أي الناس خير؟ قال: مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله. قال: ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره. وليس فيه ذكر الفتن. وهي زيادة من حافظ فيقيد بها المطلق. ولها شاهد من حديث أبي هريرة عند الحاكم، ومن حديث أم مالك البهزية عند الترمذي، ويؤيده ما ورد من النهي عن سكنى البوادي والسياحة والعزلة، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الفتن. قوله: (يوشك) بكسر الشين المعجمة أي: يقرب. قوله: (خير) بالنصب على الخبر، وغنم الاسم، وللأصيلي برفع خير ونصب غنما على الخبرية، ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر ويقدر في يكون ضمير الشأن قاله ابن مالك، لكن لم تجيء به الرواية. قوله: (يتبع) تشديد التاء ويجوز إسكانها. " وشعف " بفتح المعجمة والعين المهملة جمع شعفة كأكم وأكمة، وهي رؤوس الجبال. قوله: (ومواقع القطر) بالنصب عطفا على شعف، أي بطون الأودية، وخصهما بالذكر لأنهما مظان المرعى. قوله: (يفر بدينه) أي: بسبب دينه. و " من " ابتدائية، قال الشيخ النووي: في الاستدلال بهذا الحديث للترجمة نظر، لأنه لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار دينا، وإنما هو صيانة للدين. قال: فلعله لما رآه صيانة للدين أطلق عليه اسم الدين. وقال غيره: إن أريد بمن كونها جنسية أو تبعيضية فالنظر متجه، وإن أريد كونها ابتدائية أي الفرار من الفتنة منشؤه الدين فلا يتجه النظر.(1/ 70) وهذا الحديث قد ساقه المصنف أيضا في كتاب الفتن، وهو أليق المواضع به، والكلام عليه يستوفى هناك إن شاء الله تعالى. |
01-30-2013, 11:18 AM | #30 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*13 باب قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ"
وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) الشرح: قوله: (باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم -) هو مضاف بلا تردد. قوله: (أنا أعلمكم) كذا في رواية أبي ذر، وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه. وفي رواية الأصيلي " أعرفكم " وكأنه مذكور بالمعنى حملا على ترادفهما هنا، وهو ظاهر هنا وعليه عمل المصنف. قوله: (وأن المعرفة) بفتح أن والتقدير: باب بيان أن المعرفة. وورد بكسرها وتوجيهه ظاهر. وقال الكرماني: هو خلاف الرواية والدراية. قوله: (لقوله تعالى) مراده الاستدلال بهذه الآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه والاعتقاد فعل القلب. و قوله: (بما كسبت قلوبكم) أي: بما استقر فيها، والآية وإن وردت في الأيمان بالفتح فالاستدلال بها في الإيمان بالكسر واضح للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب. وكأن المصنف لمح بتفسير زيد بن أسلم، فإنه في قوله تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) قال: هو كقول الرجل إن فعلت كذا فأنا كافر، قال: لا يؤاخذه الله بذلك حتى يعقد به قلبه، فظهرت المناسبة بين الآية والحديث، وظهر وجه دخولهما في مباحث الإيمان، فإن فيه دليلا على بطلان قول الكرامية: إن الإيمان قول فقط، ودليلا على زيادة الإيمان ونقصانه لأن قوله -صلى الله عليه وسلم -: " أنا أعلمكم بالله " ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم -منه في أعلى الدرجات. والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك، فهذا هو الإيمان حقا. (فائدة) : قال إمام الحرمين: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى، واختلفوا في أول واجب فقيل: المعرفة، وقيل: النظر. وقال المقترح: لا اختلاف في أن أول واجب خطابا ومقصودا المعرفة، وأول واجب اشتغالا وأداء القصد إلى النظر. وفي نقل الإجماع نظر كبير ومنازعة طويلة، حتى نقل جماعة الإجماع في نقيضه، واستدلوا بإطباق أهل العصر الأول على قبول الإسلام ممن دخل فيه من غير تنقيب، والآثار في ذلك كثيرة جدا. وأجاب الأولون عن ذلك: بأن الكفار كانوا يذبون عن دينهم ويقاتلون عليه، فرجوعهم عنه دليل على ظهور الحق لهم. ومقتضى هذا: أن المعرفة المذكورة يكتفي فيها بأدنى نظر، بخلاف ما قرروه. ومع ذلك فقول الله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها. ((1/ 71) وحديث " كل مولود يولد على الفطرة " ظاهر أن في دفع هذه المسألة من أصلها، وسيأتي مزيد بيان لهذا في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى. وقد نقل القدوة أبو محمد بن أبي جمرة عن أبي الوليد الباجي عن أبي جعفر السمناني - وهو من كبار الأشاعرة - أنه سمعه يقول: إن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب، والله المستعان. وقال النووي: في الآية دليل على المذهب الصحيح أن أفعال القلوب يؤاخذ بها إن استقرت، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم -: " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل " فمحمول على ما إذا لم تستقر. قلت: ويمكن أن يستدل لذلك من عموم قوله: " أو تعمل " لأن الاعتقاد هو عمل القلب، ولهذه المسألة تكملة تذكر في كتاب الرقاق. الحديث: -20- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ. قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا." الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن سلام) هو بتخفيف اللام على الصحيح. وقال صاحب المطالع: هو بتشديدها عند الأكثر، وتعقبه النووي بأن أكثر العلماء على أنه بالتخفيف، وقد روى ذلك عنه نفسه وهو أخبر بأبيه، فلعله أراد بالأكثر مشايخ بلده. وقد صنف المنذري جزءا في ترجيح التشديد، ولكن المعتمد خلافه. قوله: (أخبرنا عبده) هو ابن سليمان الكوفي، وفي رواية الأصيلي: حدثنا. قوله: (عن هشام) و ابن عروة بن الزبير بن العوام. قوله: (إذا أمرهم أمرهم) كذا في معظم الروايات، ووقع في بعضها أمرهم مرة واحدة، وعليه شرح القاضي أبو بكر بن العربي، وهو الذي وقع قي طرق هذا الحديث التي وقفت عليها من طريق عبده، وكذا من طريق ابن نمير وغيره عن هشام عند أحمد، وكذا ذكره الإسماعيلي من رواية أبي أسامة عن هشام ولفظه: " كان إذا أمر الناس بالشيء" قالوا: والمعنى كان إذا أمرهم بما يسهل عليهم دون ما يشق خشية أن يعجزوا عن الدوام عليه، وعمل هو بنظير ما يأمرهم به من التخفيف، طلبوا منه التكليف بما يشق، لاعتقادهم احتياجهم إلى المبالغة في العمل لرفع الدرجات دونه، فيقولون: " لسنا كهيئتك" فيغضب من جهة أن حصول الدرجات لا يوجب التقصير قي العمل، بل يوجب الازدياد شكرا للمنعم الوهاب، كما قال في الحديث الآخر: " أفلا أكون عبدا شكورا". وإنما أمرهم بما يسهل عليهم ليداوموا عليه كما في الحديث الآخر: " أحب العمل إلى الله أدومه"، وعلى مقتضى ما وقع في هذه الرواية من تكرير " أمرهم " يكون المعنى: كان إذا أمرهم بعمل من الأعمال أمرهم بما يطيقون الدوام عليه، فأمرهم الثانية جواب الشرط، وقالوا جواب ثان. قوله: (كهيئتك) أي ليس حالنا كحالك. وعبر بالهيئة تأكيدا. وفي هذا الحديث فوائد: الأولى: أن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية من رفع الدرجات ومحو الخطيئات، لأنه -صلى الله عليه وسلم -لم ينكر عليهم استدلالهم ولا تعليلهم من هذه الجهة، بل من الجهة الأخرى. الثانية: أن العبد إذا بلغ الغاية في العبادة وثمراتها، كان ذلك أدعى له إلى المواظبة عليها، استبقاء للنعمة، واستزادة لها بالشكر عليها. الثالثة: الوقوف عند ما حد الشارع من عزيمة ورخصة، واعتقاد أن الأخذ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له. الرابعة: أن الأولى في العبادة القصد والملازمة، لا المبالغة المفضية إلى الترك، كما جاء في الحديث الآخر: " المنبت - أي المجد في السير - لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى". الخامسة: التنبيه على شدة رغبة الصحابة في العبادة وطلبهم الازدياد من الخير. السادسة: مشروعية الغضب عند مخالفة الأمر الشرعي، والإنكار على الحاذق المتأهل لفهم المعنى إذا قصر في الفهم، تحريضا له على التيقظ. السابعة: جواز تحدث المرء بما فيه من فضل بحسب الحاجة لذلك عند الأمن من المباهاة والتعاظم. الثامنة: بيان أن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -رتبة الكمال الإنساني لأنه منحصر في الحكمتين العلمية والعملية، وقد أشار إلى الأولى بقوله: " أعلمكم"، وإلى الثانية بقوله: " أتقاكم"، ووقع عند أبي نعيم " وأعلمكم بالله لأنا " بزيادة لام التأكيد. (1/72) وفي رواية أبي أسامة عند الإسماعيلي: " والله إن أبركم وأتقاكم أنا"، ويستفاد منه إقامة الضمير المنفصل مقام المتصل، وهو ممنوع عند أكثر النحاة إلا للضرورة وأولوا قول الشاعر: "وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي" بأن الاستثناء فيه مقدر، أي: وما يدافع عن أحسابهم إلا أنا. قال بعض الشراح: والذي وقع في هذا الحديث، يشهد للجواز بلا ضرورة، وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، وهو من غرائب الصحيح، لا أعرفه إلا من هذا الوجه، فهو مشهور عن هشام، فرد مطلق من حديثه عن أبيه عن عائشة والله أعلم. وقد أشرت إلى ما ورد في معناه من وجه آخر عن عائشة في باب من لم يواجه من كتاب الأدب، وذكرت فيه ما يؤخذ منه تعيين المأمور به. ولله الحمد. |
01-30-2013, 11:19 AM | #31 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*14 باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنْ الْإِيمَانِ
الشرح: قوله: (باب من كره) يجوز فيه التنوين والإضافة، وعلى الأول " من " مبتدأ و " من الإيمان " خبره. الحديث: -21- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ." الشرح: تقدم الكلام على حديث الباب، ومطابقة الترجمة له ظاهرة مما تقدم. وإسناده كله بصريون، وجرى المصنف على عادته في التبويب على ما يستفاد من المتن، مع أنه غاير الإسناد هنا إلى أنس. و " من " في المواضع الثلاثة موصولة بخلاف التي بعد ثلاث فإنها شرطية. *3*15 باب تَفَاضُلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ الشرح: قوله: (باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال) في: ظرفية ويحتمل أن تكون سببية، أي: التفاضل الحاصل بسبب الأعمال. الحديث: -22- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: " يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدْ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا -أَوْ الْحَيَاةِ، شَكَّ مَالِكٌ- فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً "؟ قَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو " الْحَيَاةِ " وَقَالَ: " خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ" الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس عبد الله بن عبد الله الأصبحي المدني ابن أخت مالك، وقد وافقه على رواية هذا الحديث عبد الله بن وهب ومعن بن عيسى عن مالك، وليس هو في الموطأ. قال الدارقطني: هو غريب صحيح. قوله: (يدخل) للدار قطني من طريق إسماعيل وغيره " يدخل الله " وزاد من طريق معن " يدخل من يشاء برحمته " وكذا له وللإسماعيلي من طريق ابن وهب. قوله: (مثقال حبة) بفتح الحاء، هو إشارة إلى ما لا أقل منه، (1/73) قال الخطابي: هو مثل ليكون عيارا في المعرفة لا في الوزن، لأن ما يشكل في المعقول يرد إلى المحسوس ليفهم. وقال إمام الحرمين: الوزن للصحف المشتملة على الأعمال، ويقع وزنها على قدر أجور الأعمال. وقال غيره: يجوز أن تجسد الأعراض فتوزن، وما ثبت من أمور الآخرة بالشرع لا دخل للعقل فيه، والمراد بحبة الخردل هنا: ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد، لقوله في الرواية الأخرى: " أخرجوا من قال لا إله إلا الله وعمل من الخير ما يزن ذرة". ومحل بسط هذا يقع في الكلام على حديث الشفاعة حيث ذكره المصنف في كتاب الرقاق. قوله: (في نهر الحياء) كذا في هذه الرواية بالمد، ولكريمة وغيرها بالقصر، وبه جزم الخطابي وعليه المعنى، لأن المراد كل ما به تحصل الحياة، والحيا بالقصر هو المطر، وبه تحصل حياة النبات، فهو أليق بمعنى الحياة من الحياء الممدود الذي هو بمعنى الخجل. قوله: (الحبة) بكسر أوله، قال أبو حنيفة الدينوري: الحبة: جمع بزور النبات واحدتها حبة بالفتح، وأما الحب فهو: الحنطة والشعير، واحدتها حبة بالفتح أيضا، وإنما افترقا في الجمع. وقال أبو المعالي في المنتهى: الحبة بالكسر: بزور الصحراء مما ليس بقوت. قوله: (قال وهيب) أي: ابن خالد (حدثنا عمرو) أي: ابن يحيى المازني المذكور. قوله: (الحياة) بالخفض على الحكاية، ومراده: أن وهيبا وافق مالكا في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن يحيى بسنده، وجزم بقوله: " في نهر الحياة" ولم يشك كما شك مالك. (فائدة) : أخرج مسلم هذا الحديث من رواية مالك فأبهم الشاك، وقد يفسر هنا. قوله: (وقال خردل من خير) هو على الحكاية أيضا، أي: وقال وهيب في روايته: مثقال حبة من خردل من خير، فخالف مالكا أيضا في هذه الكلمة. وقد ساق المؤلف حديث وهيب هذا في كتاب الرقاق عن موسى ابن إسماعيل عن وهيب، وسياقه أتم من سياق مالك، لكنه قال: " من خردل من إيمان " كرواية مالك، فاعترض على المصنف بهذا، ولا اعتراض عليه، فإن أبا بكر بن أبي شيبة أخرج هذا الحديث في مسنده عن عفان بن مسلم عن وهيب فقال: " من خردل من خير " كما علقه المصنف، فتبين أنه مراده لا لفظ موسى. وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر هذا، لكن لم يسق لفظه، ووجه مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهر، وأراد بإيراده الرد على المرجئة لما فيه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان، وعلى المعتزلة في أن المعاصي موجبة للخلود. الحديث: -23- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ. وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ. قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الدِّينَ." الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن عبيد الله) هو أبو ثابت المدني وأبوه بالتصغير. قوله: (عن صالح) هو ابن كيسان تابعي جليل. قوله: (عن أبي أمامة بن سهل) هو ابن حنيف كما ثبت في رواية الأصيلي، وأبو أمامة مختلف في صحبته، ولم يصح له سماع، وإنما ذكر في الصحابة لشرف الرؤية، ومن حيث الرواية يكون في الإسناد ثلاثة من التابعين أو تابعيان وصحابيان، (1/74) ورجاله كلهم مدنيون كالذي قبله، والكلام على المتن يأتي في كتاب التعبير، ومطابقته للترجمة ظاهرة من جهة تأويل القمص بالدين، وقد ذكر أنهم متفاضلون في لبسها، فدل على أنهم متفاضلون في الإيمان. قوله: (بينا أنا نائم رأيت الناس) أصل " بينا ": بين ثم أشبعت الفتحة. وفيه استعمال بينا بدون إذا وبدون إذ، وهو فصيح عند الأصمعي ومن تبعه وإن كان الأكثر على خلافه، فإن في هذا الحديث حجة. وقوله: " الثدي " بضم المثلثة وكسر الدال المهملة، وتشديد الياء التحتانية جمع ثدي بفتح أوله وإسكان ثانيه والتخفيف، وهو مذكر عند معظم أهل اللغة، وحكي أنه مؤنث، والمشهور أنه يطلق في الرجل والمرأة، وقيل: يختص بالمرأة وهذا الحديث يرده، ولعل قائل هذا يدعي أنه أطلق في الحديث مجازا. والله أعلم. |
01-30-2013, 11:20 AM | #32 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*16 باب الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ
الشرح: قوله: (باب) هو منون، ووجه كون الحياء من الإيمان تقدم مع بقية مباحثه في باب أمور الإيمان، وفائدة إعادته هنا: أنه ذكر هناك بالتبعية وهنا بالقصد مع فائدة مغايرة الطريق. الحديث: -24- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ -وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنْ الْإِيمَانِ" الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي نزيل دمشق، ورجال الإسناد سواه من أهل المدينة. قوله: (أخبرنا) وللأصيلي حدثنا مالك، ولكريمة ابن أنس، والحديث في الموطأ. قوله: (عن أبيه) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب. قوله: (مر على رجل) لمسلم من طريق معمر " مر برجل " ومر بمعنى: اجتاز يعدى بعلى وبالباء، ولم أعرف اسم هذين الرجلين الواعظ وأخيه. وقوله: " يعظ " أي: ينصح أو يخوف أو يذكر، كذا شرحوه، والأولى أن يشرح بما جاء عند المصنف في الأدب من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن ابن شهاب ولفظه: " يعاتب أخاه في الحياء " يقول: إنك لتستحي، حتى كأنه يقول: قد أضر بك. انتهى. ويحتمل أن يكون جمع له العتاب والوعظ فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر، لكن المخرج متحد، فالظاهر أنه من تصرف الراوي بحسب ما اعتقد أن كل لفظ منهما يقوم مقام الآخر، و " في " سببية فكأن الرجل كان كثير الحياء فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه، فعاتبه أخوه على ذلك، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم -: " دعه " أي: اتركه على هذا الخلق السني، ثم زاده في ذلك ترغيبا لحكمه بأنه من الإيمان، وإذا كان الحياء يمنع صاحبه من استيفاء حق نفسه جر له ذلك تحصيل أجر ذلك الحق، لا سيما إذا كان المتروك له مستحقا. وقال ابن قتيبة: معناه أن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان، فسمي إيمانا كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه. وحاصله أن إطلاق كونه من الإيمان مجاز، والظاهر أن الناهي ما كان يعرف أن الحياء من مكملات الإيمان، فلهذا وقع التأكيد، وقد يكون التأكيد من جهة أن القضية في نفسها مما يهتم به وإن لم يكن هناك منكر. قال الراغب: الحياء: انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي فلا يكون كالبهيمة. وهو مركب من جبن وعفة فلذلك لا يكون المستحي فاسقا، وقلما يكون الشجاع مستحيا، وقد يكون لمطلق الانقباض كما في بعض الصبيان. انتهى ملخصا. وقال غيره: هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره، أعم من أن يكون شرعيا أو عقليا أو عرفيا، (1/75) ومقابل الأول فاسق، والثاني مجنون، والثالث أبله. قال: وقوله -صلى الله عليه وسلم -: " الحياء شعبة من الإيمان" أي: أثر من آثار الإيمان. وقال الحليمي: حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشر إليه. وقال غيره: إن كان في محرم فهو واجب، وإن كان في مكروه فهو مندوب، وإن كان في مباح فهو العرفي، وهو المراد بقوله: " الحياء لا يأتي إلا بخير". ويجمع كل ذلك أن المباح إنما هو ما يقع على وفق الشرع إثباتا ونفيا، وحكي عن بعض السلف: رأيت المعاصي مذلة، فتركتها مروءة، فصارت ديانة. وقد يتولد الحياء من الله تعالى من التقلب في نعمه، فيستحي العاقل أن يستعين بها على معصيته، وقد قال بعض السلف: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك. والله أعلم. |
01-30-2013, 11:21 AM | #33 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*17 باب (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)
الشرح: قوله: (باب) هو منون في الرواية، والتقدير: هذا باب في تفسير قوله تعالى: (فإن تابوا) ، وتجوز الإضافة أي: باب تفسير قوله. وإنما جعل الحديث تفسيرا للآية لأن المراد بالتوبة في الآية الرجوع عن الكفر إلى التوحيد، ففسره قوله -صلى الله عليه وسلم -: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". وبين الآية والحديث مناسبة أخرى، لأن التخلية في الآية والعصمة في الحديث بمعنى واحد، ومناسبة الحديث لأبواب الإيمان من جهة أخرى وهي الرد على المرجئة، حيث زعموا أن الإيمان لا يحتاج إلى الأعمال. الحديث: -25- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قَالَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ." الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن محمد) زاد ابن عساكر " المسندي " وهو بفتح النون كما مضى، قال: حدثنا أبو روح هو بفتح الراء. قوله: (الحرمي) هو بفتح المهملتين، وللأصيلي حرمي، وهو اسم بلفظ النسب تثبت فيه الألف واللام وتحذف، مثل مكي بن إبراهيم الآتي بعد. وقال الكرماني: أبو روح كنيته، واسمه ثابت والحرمي نسبته، كذا قال. وهو خطأ من وجهين: أحدهما في جعله اسمه نسبته، والثاني في جعله اسم جده اسمه، وذلك أنه حرمي بن عمارة بن أبي حفصة، واسم أبي حفصة نابت، وكأنه رأى في كلام بعضهم واسمه نابت فظن أن الضمير يعود على حرمي لأنه المتحدث عنه، وليس كذلك بل الضمير يعود على أبي حفصة لأنه الأقرب، وأكد ذلك عنده وروده في هذا السند " الحرمي " بالألف واللام وليس هو منسوبا إلى الحرم بحال، لأنه بصري الأصل والمولد والمنشأ والمسكن والوفاة. ولم يضبط نابتا كعادته وكأنه ظنه بالمثلثة كالجادة، والصحيح أن أوله نون. قوله: (عن واقد بن محمد) زاد الأصيلي: يعني ابن زيد بن عبد الله بن عمر فهو من رواية الأبناء عن الأباء، وهو كثير لكن رواية الشخص عن أبيه عن جده أقل، وواقد هنا روى عن أبيه عن جد أبيه، وهذا الحديث غريب الإسناد تفرد بروايته شعبة عن واقد قاله ابن حبان، وهو عن شعبة عزيز تفرد بروايته عنه حرمي هذا وعبد الملك بن الصباح، وهو عزيز عن حرمي تفرد به عنه المسندي وإبراهيم بن محمد بن عرعرة، ومن جهة إبراهيم أخرجه أبو عوانة وابن حبان والإسماعيلي وغيرهم. (1/76) وهو غريب عن عبد الملك تفرد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم، فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته، وليس هو في مسند أحمد على سعته. وقد استبعد قوم صحته، بأن الحديث لو كان عند ابن عمر لما ترك أباه ينازع أبا بكر في قتال مانعي الزكاة، ولو كانوا يعرفونه لما كان أبو بكر يقر عمر على الاستدلال بقوله -عليه الصلاة والسلام -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"، وينتقل عن الاستدلال بهذا النص إلى القياس إذ قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، لأنها قرينتها في كتاب الله. والجواب: أنه لا يلزم من كون الحديث المذكور عند ابن عمر أن يكون استحضره في تلك الحالة، ولو كان مستحضرا له فقد يحتمل أن لا يكون حضر المناظرة المذكورة، ولا يمتنع أن يكون ذكره لهما بعد، ولم يستدل أبو بكر في قتال مانعي الزكاة بالقياس فقط، بل أخذه أيضا من قوله -عليه الصلاة والسلام -في الحديث الذي رواه: " إلا بحق الإسلام"، قال أبو بكر: والزكاة حق الإسلام. ولم ينفرد ابن عمر بالحديث المذكور. بل رواه أبو هريرة أيضا بزيادة الصلاة والزكاة فيه، كما سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في كتاب الزكاة. وفي القصة دليل على أن السنة قد تخفى على بعض أكابر الصحابة، ويطلع عليها آحادهم، ولهذا لا يلتفت إلى الآراء ولو قويت مع وجود سنة تخالفها، ولا يقال: كيف خفي ذا على فلان؟ والله الموفق. قوله: (أمرت) أي: أمرني الله، لأنه لا آمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال: أمرت، فالمعنى: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتمل. والحاصل أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس. قوله: (أن أقاتل) أي: بأن أقاتل، وحذف الجار من " أن " كثير. قوله: (حتى يشهدوا) جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر، فمقتضاه: أن من شهد وأقام وآتى، عصم دمه ولو جحد باقي الأحكام. والجواب: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله: " إلا بحق الإسلام " يدخل فيه جميع ذلك. فإن قيل: فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة؟ فالجواب: أن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما، لأنهما أما العبادات البدنية والمالية. قوله: (ويقيموا الصلاة) أي: يداوموا على الإتيان بها بشروطها، من قامت السوق إذا نفقت، وقامت الحرب إذا اشتد القتال. أو المراد بالقيام: الأداء - تعبيرا عن الكل بالجزء - إذ القيام بعض أركانها. والمراد بالصلاة: المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا وإن صدق اسم الصلاة عليها. وقال الشيخ محيي الدين النووي: في هذا الحديث، أن من ترك الصلاة عمدا يقتل. ثم ذكر اختلاف المذاهب في ذلك. وسئل الكرماني هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب: بأن حكمهما واحد لاشتراكهما في الغاية، وكأنه أراد في المقاتلة، أما في القتل فلا. والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهرا، بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نصب القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعي الزكاة، ولم ينقل أنه قتل أحدا منهم صبرا. وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر، للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل. والله أعلم. وقد أطنب ابن دقيق العيد في شرح العمدة في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل، لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل. وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله. قوله: (فإذا فعلوا ذلك) فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان. قوله: (عصموا) أي: منعوا، (1/77) وأصل العصمة من العصام وهو الخيط الذي يشد به فم القربة ليمنع سيلان الماء. قوله: (وحسابهم على الله) أي: في أمر سرائرهم، ولفظة " على " مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه، أي: هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافا لمن أوجب تعلم الأدلة، وقد تقدم ما فيه. ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن. فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك قتال مؤدي الجزية والمعاهد؟ فالجواب من أوجه، أحدها: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخرا عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى (اقتلوا المشركين. ( ثانيها: أن يكون من العام الذي خص منه البعض، لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم. ثالثها: أن يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله: " أقاتل الناس " أي: المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ " أمرت أن أقاتل المشركين". فإن قيل: إذا تم هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعاهدين، ولا فيمن منع الجزية! أجيب: بأن الممتنع في ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما في الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية. رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها: التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل في بعض بالقتل، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة. خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه، من جزية أو غيرها. سادسها: أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن، ويأتي فيه ما في الثالث وهو آخر الأجوبة، والله أعلم. *3*18 باب مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) : عَنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ) الشرح: قوله: (باب من قال) هو مضاف حتما. قوله: (إن الإيمان هو العمل) مطابقة الآيات والحديث لما ترجم له بالاستدلال بالمجموع على المجموع، لأن كل واحد منها دال بمفرده على بعض الدعوى، فقوله: (بما كنتم تعملون) عام في الأعمال، وقد نقل جماعة من المفسرين أن قوله هنا: (تعملون) معناه تؤمنون، فيكون خاصا. وقوله: (عما كانوا يعملون) خاص بعمل اللسان على ما نقل المؤلف. و قوله: (فليعمل العاملون) عام أيضا. وقوله في الحديث: " إيمان بالله " في جواب: " أي العمل أفضل "؟ دال على أن الاعتقاد والنطق من جملة الأعمال. فإن قيل: الحديث يدل على أن الجهاد والحج ليسا من الإيمان، لما تقتضيه " ثم " من المغايرة والترتيب. فالجواب: أن المراد بالإيمان هنا التصديق، هذه حقيقته، والإيمان كما تقدم يطلق على الأعمال البدنية لأنها من مكملاته. (1/78) قوله: (أورثتموها) أي: صيرت لكم إرثا. وأطلق الإرث مجازا عن الإعطاء لتحقق الاستحقاق. و " ما " في قوله: " بما " إما مصدرية أي: بعملكم، وإما موصولة أي: بالذي كنتم تعملون. والباء للملابسة أو للمقابلة. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وحديث: " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله "؟ فالجواب: أن المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول، والمثبت في الآية دخولها بالعمل المتقبل، والقبول إنما يحصل برحمة الله، فلم يحصل الدخول إلا برحمة الله. وقيل في الجواب غير ذلك كما سيأتي عند إيراد الحديث المذكور. (تنبيه): اختلف الجواب عن هذا السؤال، وأجيب: بأن لفظ " من " مراد في كل منهما، وقيل: وقع باختلاف الأحوال والأشخاص فأجيب كل سائل بالحال اللائق به، وهذا اختيار الحليمي ونقله عن القفال. قوله (وقال عدة) أي: جماعة من أهل العلم، منهم أنس بن مالك روينا حديثه مرفوعا في الترمذي وغيره وفي إسناده ضعف. ومنهم ابن عمر روينا حديثه في التفسير للطبري، والدعاء للطبراني. ومنهم مجاهد رويناه عنه في تفسير عبد الرزاق وغيره. قوله: (لنسألنهم الخ) قال النووي: معناه عن أعمالهم كلها، أي: التي يتعلق بها التكليف، وتخصيص ذلك بالتوحيد دعوى بلا دليل. قلت: لتخصيصهم وجه من جهة التعميم في قوله: (أجمعين) بعد أن تقدم ذكر الكفار إلى قوله: (ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين) فيدخل فيه المسلم والكافر، فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف، بخلاف باقي الأعمال ففيها الخلاف، فمن قال إنهم مخاطبون يقول: إنهم مسؤولون عن الأعمال كلها، ومن قال إنهم غير مخاطبين يقول: إنما يسألون عن التوحيد فقط، فالسؤال عن التوحيد متفق عليه. فهذا هو دليل التخصيص، فحمل الآية عليه أولى، بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيه من الاختلاف. والله أعلم. قوله: (وقال) أي: الله عز وجل (لمثل هذا) أي: الفوز العظيم (فليعمل العاملون) أي: في الدنيا. والظاهر أن المصنف تأولها بما تأول به الآيتين المتقدمتين، أي: فليؤمن المؤمنون، أو يحمل العمل على عمومه لأن من آمن لا بد أن يقبل، ومن قبل فمن حقه أن يعمل، ومن عمل لا بد أن ينال، فإذا وصل قال: لمثل هذا فليعمل العاملون. (تنبيه) : يحتمل أن يكون قائل ذلك المؤمن الذي رأى قرينه، ويحتمل أن يكون كلامه انقضى عند قوله: (الفوز العظيم) والذي بعده ابتداء من قول الله عز وجل أو بعض الملائكة، لا حكاية عن قول المؤمن. والاحتمالات الثلاثة مذكورة في التفسير. ولعل هذا هو السر في إبهام المصنف القائل، والله أعلم. الحديث: -26- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ." الشرح: قوله: (حدثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي الكوفي، نسب إلى جده. قوله: (سئل) أبهم السائل، وهو أبو ذر الغفاري، وحديثه في العتق. قوله: (قيل ثم ماذا؟ قال: الجهاد) وقع في مسند الحارث أبي أسامة عن إبراهيم ابن سعد " ثم جهاد " فواخى بين الثلاثة في التنكير، بخلاف ما عند المصنف. وقال الكرماني: الإيمان لا يتكرر كالحج، والجهاد قد يتكرر، فالتنوين للإفراد الشخصي، والتعريف للكمال. إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل. وتعقب عليه بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم، وهو يعطي الكمال. وبأن التعريف من جملة وجوهه العهد، وهو يعطي الإفراد الشخصي، فلا يسلم الفرق. قلت: وقد ظهر من رواية الحارث التي ذكرتها أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة، لأن مخرجه واحد، فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة، والله الموفق. قوله: (حج مبرور) أي: مقبول ومنه بر حجك، وقيل: المبرور الذي لا يخالطه إثم، وقيل: الذي لا رياء فيه. (1/79). (فائدة) قال النووي: ذكر في هذا الحديث الجهاد بعد الإيمان، وفي حديث أبي ذر لم يذكر الحج وذكر العتق، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثم الجهاد، وفي الحديث المتقدم ذكر السلامة من اليد واللسان. قال العلماء: اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلمه السائل والسامعون وترك ما علموه، ويمكن أن يقال: إن لفظة " من " مرادة كما يقال: فلان أعقل الناس، والمراد من أعقلهم، ومنه حديث: " خيركم خيركم لأهله " ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس، فإن قيل: لم قدم الجهاد وليس بركن على الحج وهو ركن؟ فالجواب: إن نفع الحج قاصر غالبا، ونفع الجهاد متعد غالبا، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين - ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر - فكان أهم منه فقدم، والله أعلم. |
01-30-2013, 11:24 AM | #34 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
3*19 باب إِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ أَوْ الْخَوْفِ مِنْ الْقَتْلِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا. قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) فَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ(
الشرح: قوله: (باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة) حذف جواب قوله: " إذا " للعلم به كأنه يقول: إذا كان الإسلام كذلك لم ينتفع به في الآخرة. ومحصل ما ذكره واستدل به أن الإسلام يطلق ويراد به الحقيقة الشرعية، وهو الذي يرادف الإيمان وينفع عند الله، وعليه قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) وقوله تعالى: (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) ، ويطلق ويراد به الحقيقة اللغوية وهو مجرد الانقياد والاستسلام، فالحقيقة في كلام المصنف هنا هي الشرعية، ومناسبة الحديث للترجمة ظاهرة من حيث أن المسلم يطلق على من أظهر الإسلام وإن لم يعلم باطنه، قلا يكون مؤمنا لأنه ممن لم تصدق عليه الحقيقة الشرعية، وأما اللغوية فحاصلة. الحديث: -27- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِا عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَعْطَى رَهْطًا -وَسَعْدٌ جَالِسٌ -فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا، فَسَكَتُّ قَلِيلًا. ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ أَوْ مُسْلِمًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ثُمَّ قَالَ: يَا سَعْدُ، إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ." وَرَوَاهُ يُونُسُ وَصَالِحٌ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ. الشرح: قوله: (عن سعد) هو ابن أبي وقاص كما صرح الإسماعيلي في روايته، وهو والد عامر الراوي عنه، كما وقع في الزكاة عند المصنف من رواية صالح بن كيسان قال فيها: " عن عامر بن سعد عن أبيه " واسم أبي وقاص مالك، وسيأتي تمام نسبه في مناقب سعد إن شاء الله تعالى. قوله: (أعطى رهطا) الرهط: عدد من الرجال من ثلاثة إلى عشرة، قال القزاز: وربما جاوزوا ذلك قليلا، ولا واحد له من لفظه، ورهط الرجل: بنو أبيه الأدنى، وقيل: قبيلته. وللإسماعيلي من طريق ابن أبي ذئب أنه جاءه رهط، فسألوه فأعطاهم فترك رجلا منهم. قوله: (وسعد جالس) فيه تجريد، وقوله: " أعجبهم إلي " فيه التفات، (1/80) ولفظه في الزكاة: " أعطى رهطا وأنا جالس " فساقه بلا تجريد ولا التفات، وزاد فيه: " فقمت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فساررته". وغفل بعضهم فعزا هذه الزيادة إلى مسلم فقط، والرجل المتروك اسمه جعيل بن سراقة الضمري، سماه الواقدي في المغازي. قوله: (مالك عن فلان) يعني: أي سبب لعدولك عنه إلى غيره؟ ولفظ فلان كناية عن اسم أبهم بعد أن ذكر. قوله: (فوالله) فيه القسم في الإخبار على سبيل التأكيد. قوله: (لأراه) وقع في روايتنا من طريق أبي ذر وغيره بضم الهمزة هنا وفي الزكاة، وكذا هو في رواية الإسماعيلي وغيره. وقال الشيخ محيي الدين -رحمه الله-: بل هو بفتحها أي: أعلمه، ولا يجوز ضمها فيصير بمعنى أظنه، لأنه قال بعد ذلك: غلبني ما أعلم منه. ا ه. ولا دلالة فيما ذكر على تعين الفتح لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب، ومنه قوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات) ، سلمنا لكن لا يلزم من إطلاق العلم أن لا تكون مقدماته ظنية، فيكون نظريا لا يقينيا وهو الممكن هنا، وبهذا جزم صاحب المفهم في شرح مسلم فقال: الرواية بضم الهمزة، واستنبط منه جواز الحلف على غلبة الظن، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -ما نهاه عن الحلف، كذا قال، وفيه نظر لا يخفى، لأنه أقسم على وجدان الظن وهو كذلك، ولم يقسم على الأمر المظنون كما ظن. قوله: (فقال: أو مسلما) هو بإسكان الواو لا بفتحها، فقيل: هي للتنويع. وقال بعضهم: هي للتشريك، وأنه أمره أن يقولهما معا لأنه أحوط، ويرد هذا رواية ابن الأعرابي في معجمه في هذا الحديث فقال: " لا تقل مؤمن بل مسلم " فوضح أنها للإضراب، وليس معناه الإنكار بل المعنى أن إطلاق المسلم على من لم يختبر حاله الخبرة الباطنة أولى من إطلاق المؤمن، لأن الإسلام معلوم بحكم الظاهر، قاله الشيخ محيي الدين ملخصا. وتعقبه الكرماني بأنه يلزم منه أن لا يكون الحديث دالا على ما عقد له الباب، ولا يكون لرد الرسول -صلى الله عليه وسلم -على سعد فائدة. وهو تعقب مردود، وقد بينا وجه المطابقة بين الحديث والترجمة قبل، ومحصل القصة أن النبي -صلى الله عليه وسلم -كان يوسع العطاء لمن أظهر الإسلام تألفا، فلما أعطى الرهط وهم من المؤلفة، وترك جعيلا وهو من المهاجرين مع أن الجميع سألوه. خاطبه سعد في أمره لأنه كان يرى أن جعيلا أحق منهم لما اختبره منه دونهم، ولهذا راجع فيه أكثر من مرة، فأرشده النبي -صلى الله عليه وسلم -إلى أمرين: أحدهما: إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك، وحرمان جعيل مع كونه أحب إليه ممن أعطى، لأنه لو ترك إعطاء المؤلف لم يؤمن ارتداده فيكون من أهل النار. ثانيهما: إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، فوضح بهذا فائدة رد الرسول -صلى الله عليه وسلم -على سعد، وأنه لا يستلزم محض الإنكار عليه، بل كان أحد الجوابين على طريق المشورة بالأولى، والآخر على طريق الاعتذار. فإن قيل: كيف لم تقبل شهادة سعد لجعيل بالإيمان، ولو شهد له بالعدالة لقبل منه وهي تستلزم الإيمان؟ فالجواب: أن كلام سعد لم يخرج مخرج الشهادة، وإنما خرج مخرج المدح له، والتوسل في الطلب لأجله، فلهذا نوقش في لفظه، حتى ولو كان بلفظ الشهادة لما استلزمت المشورة عليه بالأمر الأولى رد شهادته، بل السياق يرشد إلى أنه قبل قوله فيه، بدليل أنه اعتذر إليه. وروينا في مسند محمد بن هارون الروياني وغيره، بإسناد صحيح إلى أبي سالم الجيشاني عن أبي ذر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال له: كيف ترى جعيلا؟ قال قلت: كشكله من الناس، يعني: المهاجرين. قال: فكيف ترى فلانا؟ قال قلت: سيد من سادات الناس. قال: فجعيل خير من ملء الأرض من فلان. قال قلت: ففلان هكذا وأنت تصنع به ما تصنع، قال: إنه رأس قومه، فأنا أتألفهم به. فهذه منزلة جعيل المذكور عند النبي -صلى الله عليه وسلم -كما ترى، فظهرت بهذا الحكمة في حرمانه وإعطاء غيره، وأن ذلك لمصلحة التأليف كما قررناه. وفي حديث الباب من الفوائد التفرقة بين حقيقتي الإيمان والإسلام، وترك القطع بالإيمان الكامل لمن لم ينص عليه، وأما منع القطع بالجنة فلا يؤخذ من هذا صريحا وإن تعرض له بعض الشارحين.(1/81) نعم هو كذلك فيمن لم يثبت فيه النص، وفيه الرد على غلاة المرجئة في اكتفائهم في الإيمان بنطق اللسان. وفيه جواز تصرف الإمام في مال المصالح وتقديم الأهم فالأهم، وإن خفي وجه ذلك على بعض الرعية. وفيه جواز الشفاعة عند الإمام فيما يعتقد الشافع جوازه، وتنبيه الصغير للكبير على ما يظن أنه ذهل عنه، ومراجعة المشفوع إليه في الأمر إذا لم يؤد إلى مفسدة، وأن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان كما ستأتي الإشارة إليه في كتاب الزكاة " فقمت إليه فساررته"، وقد يتعين إذا جر الإعلان إلى مفسدة. وفيه أن من أشير عليه بما يعتقده المشير مصلحة لا ينكر عليه، بل يبين له وجه الصواب. وفيه الاعتذار إلى الشافع إذا كانت المصلحة في ترك إجابته، وأن لا عيب على الشافع إذا ردت شفاعته لذلك. وفيه استحباب ترك الإلحاح في السؤال كما استنبطه المؤلف منه في الزكاة، وسيأتي تقريره هناك إن شاء الله تعالى. قوله: (إني لأعطي الرجل) حذف المفعول الثاني للتعميم، أي: أي عطاء كان. قوله: (أعجب إلي) في رواية الكشميهني " أحب " وكذا لأكثر الرواة. ووقع عند الإسماعيلي بعد قوله: أحب إلي منه " وما أعطيه إلا مخافة أن يكبه الله " الخ. ولأبي داود من طريق معمر: " إني أعطي رجالا، وأدع من هو أحب إلي منهم لا أعطيه شيئا، مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم". قوله: (أن يكبه) هو بفتح أوله وضم الكاف يقال: أكب الرجل إذا أطرق، وكبه غيره إذا قلبه، وهذا على خلاف القياس لأن الفعل اللازم يتعدى بالهمزة وهذا زيدت عليه الهمزة فقصر. وقد ذكر المؤلف هذا في كتاب الزكاة فقال: يقال أكب الرجل إذا كان فعله غير واقع على أحدا، فإذا وقع الفعل قلت: كبه وكببته. وجاء نظير هذا في أحرف يسيرة منها: أنسل ريش الطائر ونسلته، وأنزفت البئر ونزفتها، وحكى ابن الأعرابي في المتعدي كبه وأكبه معا. (تنبيه) : ليس فيه إعادة السؤال ثانيا ولا الجواب عنه، وقد روي عن ابن وهب ورشدين بن سعد جميعا عن يونس عن الزهري بسند آخر قال: عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أخرجه ابن أبي حاتم. ونقل عن أبيه أنه خطأ من راويه وهو الوليد بن مسلم عنهما. قوله: (ورواه يونس) يعني ابن يزيد الأيلي، وحديثه موصول في كتاب الإيمان لعبد الرحمن بن عمر الزهري الملقب رسته بضم الراء وإسكان السين المهملتين، وقبل الهاء مثناة من فوق مفتوحة، ولفظه قريب من سياق الكشميهني، ليس فيه إعادة السؤال ثانيا ولا الجواب عنه. قوله: (وصالح) يعني: ابن كيسان، وحديثه موصول عند المؤلف في كتاب الزكاة. وفيه من اللطائف رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض وهم صالح والزهري وعامر. قوله: (ومعمر) يعني: ابن راشد، وحديثه عند أحمد بن حنبل والحميدي وغيرهما عن عبد الرزاق عنه. وقال فيه: إنه أعاد السؤال ثلاثا. ورواه مسلم عن محمد بن يحيى بن أبي عمر عن سفيان بن عيينة عن الزهري. ووقع في إسناده وهم منه أو من شيخه، لأن معظم الروايات في الجوامع والمسانيد عن ابن عيينة عن معمر عن الزهري بزيادة معمر بينهما، وكذا حدث به ابن أبي عمر شيخ مسلم في مسنده عن ابن عيينة، وكذا أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريقه، وزعم أبو مسعود في الأطراف أن الوهم من ابن أبي عمر، وهو محتمل لأن يكون الوهم صدر منه لما حدث به مسلما، لكن لم يتعين الوهم في جهته، وحمله الشيخ محيي الدين على أن ابن عيينة حدث به مرة بإسقاط معمر ومرة بإثباته، وفيه بعد، لأن الروايات قد تضافرت عن ابن عيينة بإثبات معمر، ولم يوجد بإسقاطه إلا عند مسلم، والموجود في مسند شيخه بلا إسقاط كما قدمناه، وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتابي " تعليق التعليق". وفي رواية عبد الرزاق عن معمر من الزيادة: قال الزهري: فنرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. وقد استشكل هذا بالنظر إلى حديث سؤال جبريل، فإن ظاهره يخالفه. ويمكن أن يكون مراد الزهري أن المرء يحكم بإسلامه (1/82) ويسمى مسلما إذا تلفظ بالكلمة - أي كلمة الشهادة - وأنه لا يسمى مؤمنا إلا بالعمل، والعمل يشمل عمل القلب والجوارح، وعمل الجوارح يدل على صدقه. وأما الإسلام المذكور في حديث جبريل فهو الشرعي الكامل المراد بقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه. ( قوله: (وابن أخي الزهري عن الزهري) يعني: أن الأربعة المذكورين رووا هذا الحديث عن الزهري بإسناده كما رواه شعيب عنه، وحديث ابن أخي الزهري موصول عند مسلم، وساق فيه السؤال والجواب ثلاث مرات. وقال في آخره: " خشية أن يكب " على البناء للمفعول. وفي رواية ابن أخي الزهري لطيفة، وهي رواية أربعة من بني زهرة على الولاء، هو وعمه وعامر وأبوه. |
01-30-2013, 11:25 AM | #35 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*20 باب إِفْشَاءُ السَّلَامِ مِنْ الْإِسْلَامِ
وَقَالَ عَمَّارٌ: ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ: الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ، وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ. الشرح: قوله: (باب) هو منون. و قوله: (السلام من الإسلام) زاد في رواية كريمة: " إفشاء السلام " والمراد بإفشائه نشره سرا أو جهرا، وهو مطابق للمرفوع في قوله: " على من عرفت ومن لم تعرف". وبيان كونه من الإسلام تقدم في باب إطعام الطعام مع بقية فوائده. وغاير المصنف بين شيخيه اللذين حدثاه عن الليث مراعاة للإتيان بالفائدة الإسنادية، وهي تكثير الطرق حيث يحتاج إلى إعادة المتن، فإنه لا يعيد الحديث الواحد في موضعين على صورة واحدة. فإن قيل: كان يمكنه أن يجمع الحكمين في ترجمة واحدة ويخرج الحديث عن شيخيه معا، أجاب الكرماني: باحتمال أن يكون كل من شيخيه أورده في معرض غير المعرض الآخر، وهذا ليس بطائل، لأنه متوقف على ثبوت وجود تصنيف مبوب لكل من شيخيه، والأصل عدمه. ولأن من اعتنى بترجمة كل من قتيبة وعمرو بن خالد لم يذكر أن لواحد منهما تصنيفا على الأبواب، ولأنه لزم منه أن البخاري يقلد في التراجم، والمعروف الشائع عنه أنه هو الذي يستنبط الأحكام في الأحاديث، ويترجم لها، ويتفنن في ذلك بما لا يدركه فيه غيره. ولأنه يبقى السؤال بحاله إذ لا يمتنع معه أن يجمعهما المصنف، ولو كان سمعهما مفترقين. والظاهر من صنيع البخاري أنه يقصد تعديد شعب الإيمان كما قدمناه، فخص كل شعبة بباب تنويها بذكرها، وقصد التنويه يحتاج إلى التأكيد فلذلك غاير بين الترجمتين. قوله: (وقال عمار) هو ابن ياسر، أحد السابقين الأولين، وأثره هذا أخرجه أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان من طريق سفيان الثوري، ورواه يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق شعبة وزهير ابن معاوية وغيرهما كلهم عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر عن عمار، ولفظ شعبة: " ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان " وهو بالمعنى، وهكذا رويناه في جامع معمر عن أبي إسحاق. وكذا حدث به عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، وحدث به عبد الرزاق بأخرة فرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، كذا أخرجه البزار في مسنده وابن أبي حاتم في العلل كلاهما عن الحسن بن عبد الله الكوفي، وكذا رواه البغوي في شرح السنة من طريق أحمد بن كعب الواسطي، وكذا أخرجه ابن الأعرابي في معجمه عن محمد بن الصباح الصنعاني ثلاثتهم عن عبد الرزاق مرفوعا.(1/83) واستغربه البزار. وقال أبو زرعة: هو خطأ. قلت: وهو معلول من حيث صناعة الإسناد، لأن عبد الرزاق تغير بأخرة، وسماع هؤلاء منه في حال تغيره، إلا أن مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع، وقد رويناه مرفوعا من وجه آخر عن عمار أخرجه الطبراني في الكبير وفي إسناده ضعف، وله شواهد أخرى بينتها في " تعليق التعليق". قوله: (ثلاث) أي: ثلاث خصال، وإعرابه نظير ما مر في قوله: " ثلاث من كن فيه"، والعالم بفتح اللام والمراد به هنا جميع الناس، والإقتار: القلة وقيل: الافتقار، وعلى الثاني فمن في قوله: " من الإقتار " بمعنى مع، أو بمعنى عند. قال أبو الزناد بن سراج وغيره: إنما كان من جمع الثلاث مستكملا للإيمان لأن مداره عليها، لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقا واجبا عليه إلا أداه، ولم يترك شيئا مما نهاه عنه إلا اجتنبه، وهذا يجمع أركان الإيمان. وبذل السلام يتضمن مكارم الأخلاق والتواضع، وعدم الاحتقار، ويحصل به التآلف والتحابب، والإنفاق من الإقتار يتضمن غاية الكرم، لأنه إذا أنفق من الاحتياج كان مع التوسع أكثر إنفاقا، والنفقة أعم من أن تكون على العيال واجبة ومندوبة، أو على الضيف والزائر، وكونه من الإقتار يستلزم الوثوق بالله، والزهد في الدنيا، وقصر الأمل، وغير ذلك من مهمات الآخرة. وهذا التقرير يقوي أن يكون الحديث مرفوعا، لأنه يشبه أن يكون كلام من أوتي جوامع الكلم. والله أعلم. *3*21 باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ. فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشرح: قوله: (باب كفران العشير، وكفر دون كفر) قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه: مراد المصنف أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيمانا كذلك المعاصي تسمى كفرا، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد الكفر المخرج من الملة. قال: وخص كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة وهي قوله -صلى الله عليه وسلم -" لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله، فإذا كفرت المرأة حق زوجها - وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية - كان ذلك دليلا على تهاونها بحق الله، فلذلك يطلق عليها الكفر لكنه كفر لا يخرج عن الملة. ويؤخذ من كلامه مناسبة هذه الترجمة لأمور الإيمان من جهة كون الكفر ضد الإيمان. وأما قول المصنف: " وكفر دون كفر " فأشار إلى أثر رواه أحمد في كتاب الإيمان من طريق عطاء بن أبي رباح وغيره. وقوله: " فيه أبو سعيد " أي: يدخل في الباب حديث رواه " أبو سعيد " وفي رواية كريمة: " فيه عن أبي سعيد " أي: مروي عن أبي سعيد. وفائدة هذا الإشارة إلى أن للحديث طريقا غير الطريق المساقة. وحديث أبي سعيد أخرجه المؤلف في الحيض وغيره من طريق عياض بن عبد الله عنه وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم -للنساء: " تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار " فقلن: ولم يا رسول الله؟ قال: " تكثرن اللعن، وتكفرن العشير " الحديث. ويحتمل أن يريد بذلك حديث أبي سعيد أيضا: " لا يشكر الله من لا يشكر الناس" قالها القاضي أبو بكر المذكور، (1 /84). والأول أظهر وأجرى على مألوف المصنف، ويعضده إيراده لحديث ابن عباس بلفظ: " وتكفرن العشير " والعشير الزوج، قيل له عشير بمعنى معاشر مثل أكيل بمعنى مؤاكل، وحديث ابن عباس المذكور طرف من حديث طويل أورده المصنف في باب صلاة الكسوف بهذا الإسناد تاما، وسيأتي الكلام عليه ثم. وننبه هنا على فائدتين: إحداهما: أن البخاري يذهب إلى جواز تقطيع الحديث، إذا كان ما يفصله منه لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلقا يفضي إلى فساد المعنى، فصنيعه كذلك يوهم من لا يحفظ الحديث أن المختصر غير التام، لا سيما إذا كان ابتداء المختصر من أثناء التام كما وقع في هذا الحديث، فإن أوله هنا قوله -صلى الله عليه وسلم -: " أريت النار " إلى آخر ما ذكر منه، وأول التام عن ابن عباس قال: خسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فذكر قصة صلاة الخسوف ثم خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم -وفيها القدر المذكور هنا، فمن أراد عد الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب يظن أن هذا الحديث حديثان أو أكثر لاختلاف الابتداء، وقد وقع في ذلك من حكى أن عدته بغير تكرار أربعة آلاف أو نحوها كابن الصلاح والشيخ محيي الدين ومن بعدهما، وليس الأمر كذلك بل عدته على التحرير ألفا حديث وخمسمائة حديث وثلاثة عشر حديثا، كما بينت ذلك مفصلا في المقدمة. الفائدة الثانية: تقرر أن البخاري لا يعيد الحديث إلا لفائدة، لكن تارة تكون في المتن، وتارة في الإسناد، وتارة فيهما. وحيث تكون في المتن خاصة لا يعيده بصورته بل يتصرف فيه، فإن كثرت طرقه أورد لكل باب طريقا، وإن قلت اختصر المتن أو الإسناد. وقد صنع ذلك في هذا الحديث، فإنه أورده هنا عن عبد الله بن مسلمة - وهو القعنبي - مختصرا مقتصرا على مقصود الترجمة كما تقدمت الإشارة إليه من أن الكفر يطلق على بعض المعاصي، ثم أورده في الصلاة في باب من صلى وقدامه نار بهذا الإسناد بعينه، لكنه لما لم يغاير اقتصر على مقصود الترجمة منه فقط، ثم أورده في صلاة الكسوف بهذا الإسناد فساقه تاما، ثم أورده في بدء الخلق في ذكر الشمس والقمر عن شيخ غير القعنبي مقتصرا على موضع الحاجة، ثم أورده في عشرة النساء عن شيخ غيرهما عن مالك أيضا. وعلى هذه الطريقة يحمل جميع تصرفه، فلا يوجد في كتابه حديث على صورة واحدة في موضعين فصاعدا إلا نادرا، والله الموفق. وسيأتي الكلام على ما تضمنه حديث الباب من الفوائد حيث ذكره تاما إن شاء الله تعالى. |
01-30-2013, 11:26 AM | #36 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*22 باب الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ
وَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلَّا بِالشِّرْكِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ" وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) الشرح: (1/85) قوله: (باب) هو منون. وقوله: المعاصي مبتدأ ومن أمر الجاهلية خبره، والجاهلية ما قبل الإسلام، وقد يطلق في شخص معين أي: في حال جاهليته. و قوله: (ولا يكفر) بتشديد الفاء المفتوحة. وفي رواية أبي الوقت بفتح أوله وإسكان الكاف، و قوله: (إلا بالشرك) أي: إن كل معصية تؤخذ من ترك واجب أو فعل محرم فهي من أخلاق الجاهلية، والشرك أكبر المعاصي ولهذا استثناه. ومحصل الترجمة أنه لما قدم أن المعاصي يطلق عليها " الكفر " مجازا على إرادة كفر النعمة لا كفر الجحد، أراد أن يبين أنه كفر لا يخرج عن الملة، خلافا للخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ونص القرآن يرد عليهم وهو قوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فصير ما دون الشرك تحت إمكان المغفرة، والمراد بالشرك في هذه الآية الكفر، لأن من جحد نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- مثلا كان كافرا ولو لم يجعل مع الله إلها آخر، والمغفرة منتفية عنه بلا خلاف. وقد يرد الشرك ويراد به ما هو أخص من الكفر كما في قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) قال ابن بطال: غرض البخاري الرد على من يكفر بالذنوب كالخوارج، ويقول: إن من مات على ذلك يخلد في النار، والآية ترد عليهم لأن المراد بقوله: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) من مات على كل ذنب سوى الشرك. وقال الكرماني: في استدلاله بقول أبي ذر: " عيرته بأمه " نظر لأن التعيير ليس كبيرة، وهم لا يكفرون بالصغائر. قلت: استدلاله عليهم من الآية ظاهر، ولذلك اقتصر عليه ابن بطال، وأما قصة أبي ذر فإنما ذكرت ليستدل بها على أن من بقيت فيه خصلة من خصال الجاهلية سوى الشرك لا يخرج عن الإيمان بها، سواء كانت من الصغائر أم الكبائر، وهو واضح. واستدل المؤلف أيضا على أن المؤمن إذا ارتكب معصية لا يكفر بأن الله تعالى أبقى عليه اسم المؤمن فقال (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) ثم قال: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم. ( واستدل أيضا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما " فسماهما مسلمين مع التوعد بالنار، والمراد هنا إذا كانت المقاتلة بغير تأويل سائغ. واستدل أيضا بقوله -صلى الله عليه وسلم -لأبي ذر: " فيك جاهلية " أي: خصلة جاهلية، مع أن منزلة أبي ذر من الإيمان في الذروة العالية، وإنما وبخه بذلك - على عظيم منزلته عنده - تحذيرا له عن معاودة مثل ذلك، لأنه وإن كان معذورا بوجه من وجوه العذر، لكن وقوع ذلك من مثله يستعظم أكثر ممن هو دونه، وقد وضح بهذا وجه دخول الحديثين تحت الترجمة، وهذا على مقتضى هذه الرواية رواية أبي ذر عن مشايخه، لكن سقط حديث أبي بكرة من رواية المستملى، وأما رواية الأصيلي وغيره فأفرد فيها حديث أبي بكرة بترجمة (وإن طائفتان من المؤمنين) كل من الروايتين جمعا وتفريقا حسن. والطائفة: القطعة من الشيء، ويطلق على الواحد فما فوقه عند الجمهور. وأما اشتراط حضور أربعة في رجم الزاني قوله تعالى: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) فالآية واردة في الجلد ولا اشتراط فيه والاشتراط في الرجم بدليل آخر. وأما اشتراط ثلاثة في صلاة الخوف مع قوله تعالى: (فلتقم طائفة منهم معك) فذاك لقوله تعالى: (وليأخذوا أسلحتهم) فذكره بلفظ الجمع وأقله ثلاثة على الصحيح. (1/86) الحديث: -30- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ. إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ" الشرح: قوله: (عن واصل) هو ابن حيان، وللأصيلي هو الأحدب، وللمصنف في العتق حدثنا واصل الأحدب. قوله: (عن المعرور) وفي العتق: سمعت المعرور بن سويد، وهو بمهملات ساكن العين. قوله: (بالربذة) هو بفتح الراء والموحدة والمعجمة: موضع بالبادية، بينه وبين المدينة ثلاث مراحل. قوله: (وعليه حلة وعلى غلامه حلة) هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة عنه، لكن في رواية الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة " أتيت أبا ذر، فإذا حلة عليه منها ثوب وعلى عبده منها ثوب " وهذا يوافق ما في اللغة أن الحلة ثوبان من جنس واحد، ويؤيده ما في رواية الأعمش عن المعرور عند المؤلف في الأدب بلفظ: " رأيت عليه بردا وعلى غلامه بردا فقلت: لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة " وفي رواية مسلم " فقلنا: يا أبا ذر، لو جمعت بينهما كانت حلة " ولأبي داود " فقال القوم: يا أبا ذر، لو أخذت الذي على غلامك فجعلته مع الذي عليك لكانت حلة " فهذا موافق لقول أهل اللغة، لأنه ذكر أن الثوبين يصيران بالجمع بينهما حلة، ولو كان كما في الأصل على كل واحد منهما حلة لكان إذا جمعهما يصير عليه حلتان، ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه كان عليه برد جيد تحته ثوب خلق من جنسه وعلى غلامه كذلك، وكأنه قيل له: لو أخذت البرد الجيد فأضفته إلى البرد الجيد الذي عليك وأعطيت الغلام البرد الخلق بدله لكانت حلة جيدة، فتلتئم بذلك الروايتان، ويحمل قوله في حديث الأعمش " لكانت حلة " أي: كاملة الجودة، فالتنكير فيه للتعظيم. والله أعلم. وقد نقل بعض أهل اللغة أن الحلة لا تكون إلا ثوبين جديدين يحلهما من طيهما، فأفاد أصل تسمية الحلة. وغلام أبي ذر المذكور لم يسم، ويحتمل أن يكون أبا مراوح مولى أبي ذر، وحديثه عنه في الصحيحين. وذكر مسلم في الكنى أن اسمه سعد. قوله: (فسألته) أي: عن السبب في إلباسه غلامه نظير لبسه، لأنه على خلاف المألوف، فأجابه بحكاية القصة التي كانت سببا لذلك. قوله: (ساببت) في رواية الإسماعيلي " شاتمت " وفي الأدب للمؤلف " كان بيني وبين رجل كلام " وزاد مسلم " من إخواني " وقيل: إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن مولى أبي بكر، وروى ذلك الوليد ابن مسلم منقطعا. ومعنى " ساببت ": وقع بيني وبينه سباب بالتخفيف، وهو من السب بالتشديد وأصله القطع وقيل مأخوذ من السبة وهي حلقة الدبر، سمى الفاحش من القول بالفاحش من الجسد، فعلى الأول المراد قطع المسبوب، وعلى الثاني المراد كشف عورته لأن من شأن الساب إبداء عورة المسبوب. قوله: (فعيرته بأمه) أي: نسبته إلى العار، زاد في الأدب " وكانت أمه أعجمية فنلت منها " وفي رواية " قلت له: يا ابن السوداء"، والأعجمي: من لا يفصح باللسان العربي سواء كان عربيا أو عجميا،(1/87) والفاء في " فعيرته " قيل: هي تفسيرية كأنه بين أن التعيير هو السب، والظاهر أنه وقع بينهما سباب وزاد عليه التعيير فتكون عاطفة، ويدل عليه رواية مسلم قال: " أعيرته بأمه؟ فقلت: من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: إنك امرؤ فيك جاهلية " أي: خصلة من خصال الجاهلية. ويظهر لي أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، فلهذا قال كما عند المؤلف في الأدب " قلت: على ساعتي هذه من كير السن؟ قال: نعم " كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه، فبين له كون هذه الخصلة مذمومة شرعا، وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذا بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي اشتراط المواساة لا المساواة، وسنذكر ما يتعلق ببقية ذلك في كتاب العتق حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى. وفي السياق دلالة على جواز تعدية " عيرته " بالباء، وقد أنكره ابن قتيبة وتبعه بعضهم، وأثبت آخرون أنها لغة. وقد جاء في سبب إلباس أبي ذر غلامه مثل لبسه أثر مرفوع أصرح من هذا وأخص، أخرجه الطبراني من طريق أبي غالب عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -أعطى أبا ذر عبدا فقال: " أطعمه مما تأكل، وألبسه مما تلبس " وكان لأبي ذر ثوب فشقه نصفين، فأعطى الغلام نصفه، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: قلت يا رسول الله: " أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون " قال: نعم. الحديث: -31- حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الْأَحْنَفِ ابْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ: ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ." الشرح: قوله: (حدثنا أيوب) هو السختياني، ويونس هو ابن عبيد، والحسن هو ابن أبي الحسن البصري، والأحنف بن قيس مخضرم، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن قبل إسلامه، وكان رئيس بني تميم في الإسلام، وبه يضرب المثل في الحلم. وقوله: " ذهبت لأنصر هذا الرجل " يعني: عليا، كذا هو في مسلم من هذا الوجه، وقد أشار إليه المؤلف في الفتن ولفظه: " أريد نصرة ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " زاد الإسماعيلي في روايته يعني: عليا. وأبو بكرة بإسكان الكاف هو الصحابي المشهور، وكان الأحنف أراد أن يخرج بقومه إلى علي بن أبي طالب ليقاتل معه يوم الجمل فنهاه أبو بكرة فرجع، وحمل أبو بكرة الحديث على عمومه في كل مسلمين التقيا بسيفيهما حسما للمادة، وإلا فالحق أنه محمول على ما إذا كان القتال منهما بغير تأويل سائغ كما قدمناه، ويخص ذلك من عموم الحديث المتقدم بدليله الخاص في قتال أهل البغي، وقد رجع الأحنف عن رأي أبي بكرة في ذلك وشهد مع علي باقي حروبه، وسيأتي الكلام على حديث أبي بكرة في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. ورجال إسناده كلهم بصريون، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم أيوب والحسن والأحنف. |
01-30-2013, 11:29 AM | #37 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*23 باب ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ
الشرح: قوله: (باب ظلم دون ظلم) دون يحتمل أن تكون بمعنى غير، أي: أنواع الظلم متغايرة. أو بمعنى الأدنى، أي: بعضها أخف من بعض، وهو أظهر في مقصود المصنف. وهذه الجملة لفظ حديث رواه أحمد في كتاب الإيمان من حديث عطاء، ورواه أيضا من طريق طاوس عن ابن عباس بمعناه، وهو في معنى قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله) الآية، فاستعمله المؤلف ترجمة، واستدل له بالحديث المرفوع. ووجه الدلالة منه أن الصحابة فهموا من قوله: " بظلم " عموم أنواع المعاصي، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإنما بين لهم أن المراد أعظم أنواع الظلم وهو الشرك على ما سنوضحه، فدل على أن للظلم مراتب متفاوتة. ومناسبة إيراد هذا عقب ما تقدم من أن المعاصي غير الشرك لا ينسب صاحبها إلى الكفر المخرج عن الملة على هذا التقرير ظاهرة. الحديث: -32- حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. ح. قَالَ: و حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الشرح: قوله: (حدثنا أبو الوليد) هو الطيالسي. قوله: (وحدثني بشر) هو في الروايات المصححة بواو العطف، وفي بعض النسخ قبلها صورة ح، فإن كان من أصل التصنيف فهي مهملة مأخوذة من التحويل على المختار. وإن كانت مزيدة من بعض الرواة فيحتمل أن تكون مهملة كذلك، أو معجمة مأخوذة من البخاري لأنها رمزه، أي: قال البخاري: وحدثني بشر، وهو ابن خالد العسكري وشيخه محمد هو ابن جعفر المعروف بغندر، وهو أثبت الناس في شعبة، ولهذا أخرج المؤلف روايته مع كونه أخرج الحديث عاليا عن أبي الوليد، واللفظ المساق هنا لفظ بشر،(1/ 88) وكذلك أخرج النسائي عنه وتابعه ابن أبي عدي عن شعبة، وهو عند المؤلف في تفسير الأنعام، وأما لفظ أبي الوليد فساقه المؤلف في قصة لقمان بلفظ: " أينا لم يلبس إيمانه بظلم " وزاد فيه أبو نعيم في مستخرجه من طريق سليمان ابن حرب عن شعبة بعد قوله: (إن الشرك لظلم عظيم) : فطابت أنفسنا. واقتضت رواية شعبة هذه أن هذا السؤال سبب نزول الآية الأخرى التي في لقمان، لكن رواه البخاري ومسلم من طريق أخرى عن الأعمش وهو سليمان المذكور في حديث الباب. ففي رواية جرير عنه: " فقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس بذلك، ألا تسمعون إلى قول لقمان". وفي رواية وكيع عنه: " فقال ليس كما تظنون". وفي رواية عيسى بن يونس: " إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى ما قال لقمان". وظاهر هذا أن الآية التي في لقمان كانت معلومة عندهم ولذلك نبههم عليها، ويحتمل أن يكون نزولها وقع في الحال فتلاها عليهم ثم نبههم فتلتئم الروايتان. قال الخطابي: كان الشرك عند الصحابة أكبر من أن يلقب بالظلم، فحملوا الظلم في الآية على ما عداه - يعني من المعاصي - فسألوا عن ذلك، فنزلت هذه الآية. كذا قال، وفيه نظر، والذي يظهر لي أنهم حملوا الظلم على عمومه، الشرك فما دونه، وهو الذي يقتضيه صنيع المؤلف. وإنما حملوه على العموم لأن قوله: (بظلم) نكرة في سياق النفي، لكن عمومها هنا بحسب الظاهر. قال المحققون: إن دخل على النكرة في سياق النفي ما يؤكد العموم ويقويه نحو " من " في قوله: ما جاءني من رجل، أفاد تنصيص العموم، وإلا فالعموم مستفاد بحسب الظاهر كما فهمه الصحابة من هذه الآية، وبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ظاهرها غير مراد، بل هو من العام الذي أريد به الخاص، فالمراد بالظلم أعلى أنواعه وهو الشرك. فإن قيل: من أين يلزم أن من لبس الإيمان بظلم لا يكون آمنا ولا مهتديا، حتى شق عليهم، والسياق إنما يقتضي أن من لم يوجد منه الظلم فهو آمن ومهتد، فما الذي دل على نفي ذلك عمن وجد منه الظلم؟ فالجواب: أن ذلك مستفاد من المفهوم وهو مفهوم الصفة، أو مستفاد من الاختصاص المستفاد من تقديم " لهم " على الأمن، أي: لهم الأمن لا لغيرهم، كذا قال الزمخشري قي قوله تعالى: (إياك نعبد. ( وقال في قوله تعالى: (كلا إنها كلمة هو قائلها) تقديم " هو " على " قائلها " يفيد الاختصاص، أي: هو قائلها لا غيره. فإن قيل: لا يلزم من قوله: (إن الشرك لظلم عظيم) أن غير الشرك لا يكون ظلما. فالجواب: أن التنوين في قوله لظلم للتعظيم، وقد بين ذلك استدلال الشارع بالآية الثانية، فالتقدير: لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم أي بشرك، إذ لا ظلم أعظم منه، وقد ورد ذلك صريحا عند المؤلف في قصة إبراهيم الخليل - عليه السلام - من طريق حفص بن غياث عن الأعمش ولفظه " قلنا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم: بشرك. أو لم تسمعوا إلى قول لقمان " فذكر الآية. واستنبط منه المازري جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونازعه القاضي عياض فقال: ليس في هذه القصة تكليف عمل، بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر، واعتقاد التصديق لازم لأول وروده فما هي الحاجة؟ ويمكن أن يقال: المعتقدات أيضا تحتاج إلى البيان، فلما أجمل الظلم حتى تناول إطلاقه جميع المعاصي شق عليهم حتى ورد البيان فما انتفت الحاجة. والحق أن في القصة تأخير البيان عن وقت الخطاب لأنهم حيث احتاجوا إليه لم يتأخر. قوله: (ولم يلبسوا) أي: لم يخلطوا، تقول: لبست الأمر بالتخفيف، ألبسه بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل، أي: خلطته. وتقول: لبست الثوب ألبسه بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل. وقال محمد ابن إسماعيل التيمي في شرحه: خلط الإيمان بالشرك لا يتصور فالمراد أنهم لم تحصل لهم الصفتان كفر متأخر عن إيمان متقدم. أي: لم يرتدوا. ويحتمل أن يراد أنهم لم يجمعوا بينهما ظاهرا وباطنا، أي: لم ينافقوا. وهذا أوجه، ولهذا عقبه المصنف بباب علامات المنافق، وهذا من بديع ترتيبه. ثم في هذا الإسناد رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض وهم الأعمش عن شيخه إبراهيم بن يزيد النخعي عن خاله علقمة بن قيس النخعي، (1/ 89) والثلاثة كوفيون فقهاء، وعبد الله الصحابي هو ابن مسعود. وهذه الترجمة أحد ما قيل فيه إنه أصح الأسانيد. والأعمش موصوف بالتدليس ولكن في رواية حفص بن غياث التي تقدمت الإشارة إليها عند المؤلف عنه " حدثنا إبراهيم " ولم أر التصريح بذلك في جميع طرقه عند الشيخين وغيرهما إلا في هذا الطريق. وفي المتن من الفوائد: الحمل على العموم حتى يرد دليل الخصوص، وأن النكرة في سياق النفي تعم، وأن الخاص يقضي على العام والمبين عن المجمل، وأن اللفظ يحمل على خلاف ظاهره لمصلحة دفع التعارض، وأن درجات الظلم تتفاوت كما ترجم له، وأن المعاصي لا تسمى شركا، وأن من لم يشرك بالله شيئا فله الأمن وهو مهتد. فإن قيل: فالعاصي قد يعذب فما هو الأمن والاهتداء الذي حصل له؟ فالجواب: أنه آمن من التخليد في النار، مهتد إلى طريق الجنة. والله أعلم. |
01-30-2013, 11:30 AM | #38 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*24 باب عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ
الشرح: قوله: (باب علامات المنافق) لما قدم أن مراتب الكفر متفاوتة وكذلك الظلم أتبعه بأن النفاق كذلك. وقال الشيخ محيي الدين: مراد البخاري بهذه الترجمة أن المعاصي تنقص الإيمان، كما أن الطاعة تزيده. وقال الكرماني: مناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان أن النفاق علامة عدم الإيمان، أو ليعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض. والنفاق لغة: مخالفة الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر، وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك وتتفاوت مراتبه. الحديث: -33- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ. الشرح: قوله: (حدثنا سليمان أبو الربيع) هو الزهراني، بصري نزل بغداد، ومن شيخه فصاعدا مدنيون، ونافع بن مالك هو عم مالك بن أنس الإمام. قوله: (آية المنافق ثلاث) الآية: العلامة، وإفراد الآية إما على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، والأول أليق بصنيع المؤلف، ولهذا ترجم بالجمع وعقب بالمتن الشاهد لذلك. وقد رواه أبو عوانة في صحيحه بلفظ: " علامات المنافق"، فإن قيل: ظاهره الحصر في الثلاث فكيف جاء في الحديث الآخر بلفظ " أربع من كن فيه.. الحديث "؟ أجاب القرطبي: باحتمال أنه استجد له - صلى الله عليه وسلم - من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. وأقول: ليس بين الحديثين تعارض، لأنه لا يلزم من عد الخصلة المذمومة الدالة على كمال النفاق كونها علامة على النفاق، (1/ 90) لاحتمال أن تكون العلامات دالات على أصل النفاق، والخصلة الزائدة إذا أضيفت إلى ذلك كمل بها خلوص النفاق. على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على إرادة عدم الحصر، فإن لفظه: " من علامة المنافق ثلاث " وكذا أخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري، وإذا حمل اللفظ الأول على هذا لم يرد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت، وببعضها في وقت آخر. وقال القرطبي أيضا والنووي: حصل من مجموع الروايتين خمس خصال، لأنهما تواردتا على الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة، وزاد الأول الخلف في الوعد والثاني الغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة. قلت: وفي رواية مسلم الثاني بدل الغدر في المعاهدة الخلف في الوعد كما في الأول، فكأن بعض الرواة تصرف في لفظه لأن معناهما قد يتحد، وعلى هذا فالمزيد خصلة واحدة وهي الفجور في الخصومة. والفجور: الميل عن الحق والاحتيال في رده. وهذا قد يندرج في الخصلة الأولى وهي الكذب في الحديث. ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أنها منبهة على ما عداها، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول، والفعل، والنية. فنبه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف. لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنا للوعد، أما لو كان عازما ثم عرض له مانع أو بدا له رأي فهذا لم توجد منه صورة النفاق، قاله الغزالي في الإحياء. وفي الطبراني في حديث طويل ما يشهد له، ففيه من حديث سلمان " إذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف " وكذا قال في باقي الخصال، وإسناده لا بأس به ليس فيهم من أجمع على تركه، وهو عند أبي داود والترمذي من حديث زيد بن أرقم مختصر بلفظ: " إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف فلا إثم عليه". قوله: (إذا وعد) قال صاحب المحكم: يقال وعدته خيرا، ووعدته شرا. فإذا أسقطوا الفعل قالوا في الخير: وعدته، وفي الشر: أوعدته. وحكى ابن الأعرابي في نوادره: أوعدته خيرا بالهمزة. فالمراد بالوعد في الحديث الوعد بالخير، وأما الشر فيستحب إخلافه. وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة. وأما الكذب في الحديث فحكى ابن التين عن مالك أنه سئل عمن جرب عليه كذب فقال: أي نوع من الكذب؟ لعله حدث عن عيش له سلف فبالغ في وصفه، فهذا لا يضر، وإنما يضر من حدث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصدا الكذب. انتهى. وقال النووي: هذا الحديث عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره. قال: وليس فيه إشكال، بل معناه صحيح والذي قاله المحققون: إن معناه أن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم. قلت: ومحصل هذا الجواب الحمل في التسمية على المجاز، أي: صاحب هذه الخصال كالمنافق، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر. وقد قيل في الجواب عنه: إن المراد بالنفاق نفاق العمل كما قدمناه. وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة: هل تعلم في شيئا من النفاق؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر، وإنما أراد نفاق العمل. ويؤيده وصفه بالخالص في الحديث الثاني بقوله: "كان منافقا خالصا". وقيل: المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال وإن الظاهر غير مراد، وهذا ارتضاه الخطابي. وذكر أيضا أنه يحتمل أن المتصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنا. قال: ويدل عليه التعبير بإذا، فإنها تدل على تكرر الفعل. كذا قال. والأولى ما قال الكرماني: إن حذف المفعول من " حدث " يدل على العموم، أي: إذا حدث في كل شيء كذب فيه. أو يصير قاصرا، أي: إذا وجد ماهية التحديث كذب. (1/ 91) وقيل: هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال، وتهاون بها، واستخف بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالبا. وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس، ومنهم من ادعى أنها للعهد فقال: إنه ورد في حق شخص معين أو في حق المنافقين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إليه. وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي. والله أعلم. الحديث: -34- حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ." تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ الشرح: قوله: (تابعه شعبة) وصل المؤلف هذه المتابعة في كتاب المظالم، ورواية قبيصة عن سفيان - وهو الثوري - ضعفها يحيى بن معين. وقال الشيخ محيي الدين: إنما أوردها البخاري على طريق المتابعة لا الأصالة. وتعقبه الكرماني بأنها مخالفة في اللفظ والمعنى من عدة جهات، فكيف تكون متابعة؟ وجوابه: أن المراد بالمتابعة هنا كون الحديث مخرجا في صحيح مسلم وغيره من طرق أخرى عن الثوري، وعند المؤلف من طرق أخرى عن الأعمش، منها رواية شعبة المشار إليها، وهذا هو السر في ذكرها هنا. وكأنه فهم أن المراد بالمتابعة حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وليس كذلك إذ لو أراده لسماه شاهدا. وأما دعواه أن بينهما مخالفة في المعنى فليس بمسلم، لما قررناه آنفا. وغايته أن يكون في أحدهما زيادة وهي مقبولة لأنها من ثقة متقن. والله أعلم. (فائدة) : رجال الإسناد الثاني كلهم كوفيون، إلا الصحابي وقد دخل الكوفة أيضا. والله أعلم. |
01-30-2013, 11:31 AM | #39 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*25 باب قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ الْإِيمَانِ
الشرح: قوله: (باب قيام ليلة القدر من الإيمان) لما بين علامات النفاق وقبحها رجع إلى ذكر علامات الإيمان وحسنها، لأن الكلام على متعلقات الإيمان هو المقصود بالأصالة، وإنما يذكر متعلقات غيره استطرادا. ثم رجع فذكر أن قيام ليلة القدر وقيام رمضان وصيام رمضان من الإيمان، وأورد الثلاثة من حديث أبي هريرة متحدات الباعث والجزاء، وعبر في ليلة القدر بالمضارع قي الشرط وبالماضي في جوابه، بخلاف الآخرين فبالماضي فيهما، وأبدى الكرماني لذلك نكتة لطيفة قال: لأن قيام رمضان محقق الوقوع وكذا صيامه، بخلاف قيام ليلة القدر فإنه غير متيقن، فلهذا ذكره بلفظ المستقبل، انتهى كلامه. وفيه شيء ستأتي الإشارة إليه. وقال غيره: استعمل لفظ الماضي في الجزاء إشارة إلى تحقق وقوعه، فهو نظير (أتى أمر الله) وفي استعمال الشرط مضارعا والجواب ماضيا نزاع بين النحاة، فمنعه الأكثر، وأجازه آخرون لكن بقلة. استدلوا بقوله تعالى: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت) لأن قوله: " فظلت " بلفظ الماضي، وهو تابع للجواب وتابع الجواب جواب. واستدلوا أيضا بهذا الحديث، وعندي في الاستدلال به نظر، لأنني أظنه من تصرف الرواة، لأن الروايات فيه مشهورة عن أبي هريرة بلفظ المضارع في الشرط والجزاء، وقد رواه النسائي عن محمد بن علي بن ميمون عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فلم يغاير بين الشرط والجزاء، بل قال: " من يقم ليلة القدر يغفر له"، ورواه أبو نعيم في المستخرج عن سليمان وهو الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة عن أبي اليمان، ولفظه زائد على الروايتين فقال: " لا يقوم أحدكم ليلة القدر فيوافقها إيمانا واحتسابا إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه"، (1/ 92) وقوله في هذه الرواية " فيوافقها " زيادة بيان، وإلا فالجزاء مرتب على قيام ليلة القدر، ولا يصدق قيام ليلة القدر إلا على من وافقها، والحصر المستفاد من النفي، والإثبات مستفاد من الشرط والجزاء، فوضح أن ذلك من تصرف الرواة بالمعنى، لأن مخرج الحديث واحد، وسيأتي الكلام على ليلة القدر وعلى صيام رمضان وقيامه إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام. *3*26 باب الْجِهَادُ مِنْ الْإِيمَانِ الشرح: قوله: (باب الجهاد من الإيمان) أورد هذا الباب بين قيام ليلة القدر وبين قيام رمضان وصيامه، فأما مناسبة إيراده معها في الجملة فواضح لاشتراكها في كونها من خصال الإيمان، وأما إيراده بين هذين البابين مع أن تعلق أحدهما بالآخر ظاهر فلنكتة لم أر من تعرض لها، بل قال الكرماني: صنيعه هذا دال على أن النظر مقطوع عن غير هذه المناسبة، يعني اشتراكها في كونها من خصال الإيمان. وأقول: بل قيام ليلة القدر وإن كان ظاهر المناسبة لقيام رمضان، لكن للحديث الذي أورده في باب الجهاد مناسبة بالتماس ليلة القدر حسنة جدا، لأن التماس ليلة القدر يستدعي محافظة زائدة ومجاهدة تامة، ومع ذلك فقد يوافقها أو لا. وكذلك المجاهد يلتمس الشهادة ويقصد إعلاء كلمة الله، وقد يحصل له ذلك أو لا، فتناسبا في أن في كل منهما مجاهدة، وفي أن كلا منهما قد يحصل المقصود الأصلي لصاحبه أو لا. فالقائم لالتماس ليلة القدر مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرا. والمجاهد لالتماس الشهادة مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرا. ويشير إلى ذلك تمنيه - صلى الله عليه وسلم - الشهادة بقوله: " ولوددت أني أقتل في سبيل الله". فذكر المؤلف فضل الجهاد لذلك استطرادا، ثم عاد إلى ذكر قيام رمضان، وهو بالنسبة لقيام ليلة القدر عام بعد خاص، ثم ذكر بعده باب الصيام لأن الصيام من التروك فأخره عن القيام لأنه من الأفعال، ولأن الليل قبل النهار، ولعله أشار إلى أن القيام مشروع في أول ليلة من الشهر خلافا لبعضهم. (1/93) الحديث: -36- حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ - لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي - أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ." الشرح: قوله: (حدثنا حرمي) هو اسم بلفظ النسبة، وهو بصري يكنى أبا علي، قال: حدثنا عبد الواحد هو ابن زياد البصري العبدي ويقال له: الثقفي، وهو ثقة متقن. قال ابن القطان: لم يعتل عليه بقادح. وفي طبقته عبد الواحد بن زيد بصري أيضا، لكنه ضعيف ولم يخرج عنه في الصحيحين شيء. قوله: (حدثنا عمارة) هو ابن القعقاع بن شبرمة الضبي. قوله: (انتدب الله) هو بالنون أي: سارع بثوابه وحسن جزائه، وقيل بمعنى: أجاب إلى المراد، ففي الصحاح ندبت فلانا لكذا فانتدب أي: أجاب إليه، وقيل معناه: تكفل بالمطلوب، ويدل عليه رواية المؤلف في أواخر الجهاد لهذا الحديث من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: " تكفل الله " وله في أوائل الجهاد من طريق سعيد بن المسيب عنه بلفظ: " توكل الله " وسيأتي الكلام عليها وعلى رواية مسلم هناك إن شاء الله تعالى. ووقع في رواية الأصيلي هنا: " ائتدب " بياء تحتانية مهموزة بدل النون من المأدبة، وهو تصحيف، وقد وجهوه بتكلف، لكن إطباق الرواة على خلافه مع اتحاد المخرج كاف في تخطئته. قوله: (لا يخرجه إلا إيمان بي) كذا هو بالرفع على أنه فاعل يخرج، والاستثناء مفرغ. وفي رواية مسلم والإسماعيلي: " إلا إيمانا " بالنصب، قال النووي: هو مفعول له، وتقديره: لا يخرجه المخرج إلا الإيمان والتصديق. قوله: (وتصديق برسلي) ذكره الكرماني بلفظ: " أو تصديق " ثم استشكله وتكلف الجواب عنه، والصواب أسهل من ذلك، لأنه لم يثبت في شيء من الروايات بلفظ " أو " وقوله " بي " فيه عدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم، فهو التفات. وقال ابن مالك: كان اللائق في الظاهر هنا إيمان به، ولكنه على تقدير اسم فاعل من القول منصوب على الحال، أي: انتدب الله لمن خرج في سبيله قائلا: لا يخرجه إلا إيمان بي، ولا يخرجه مقول القول لأن صاحب الحال على هذا التقدير هو الله. وتعقبه شهاب الدين بن المرحل بأن حذف الحال لا يجوز، وأن التعبير باللائق هنا غير لائق، فالأولى أنه من باب الالتفات، وهو متجه، وسيأتي في أثناء فرض الخمس من طريق الأعرج بلفظ: " لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته". (تنبيه) : جاء في هذا الحديث من طريق أبي زرعة هذه مشتملا على أمور ثلاثة، وقد اختصر المؤلف من سياقه أكثر الأمر الثاني، وساقه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريق عبد الواحد بن زياد المذكور بتمامه، وكذا هو عند مسلم في هذا الحديث من وجه آخر عن عمارة بن القعقاع، وجاء الحديث مفرقا من رواية الأعرج وغيره عن أبي هريرة كما سيأتي عند المؤلف في كتاب الجهاد، وهناك يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. *3*27 بَاب تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ الْإِيمَانِ الحديث: -37- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ." الشرح: وقد تقدمت الإشارة إلى أن الكلام على قيام رمضان، وباب صيام رمضان يأتي في كتاب الصيام. |
01-30-2013, 11:32 AM | #40 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*28 بَاب صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنْ الْإِيمَانِ
الحديث: -38- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ." الشرح: تقدمت الإشارة إلى أن الكلام على قيام رمضان، وباب صيام رمضان يأتي في كتاب الصيام. *3*29 باب الدِّينُ يُسْرٌ وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ." الشرح: قوله: (باب الدين يسر) ، أي: دين الإسلام ذو يسر، أو سمى الدين يسرا، مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله، لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم. ومن أوضح الأمثلة له: أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم. قوله: (أحب الدين) أي: خصال الدين، لأن خصال الدين كلها محبوبة، لكن ما كان منها سمحا - أي سهلا - فهو أحب إلى الله. (1/94) ويدل عليه ما أخرجه أحمد بسند صحيح من حديث أعرابي لم يسمه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " خير دينكم أيسره". أو الدين جنس، أي: أحب الأديان إلى الله الحنيفية. والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تبدل وتنسخ. والحنيفية ملة إبراهيم، والحنيف في اللغة: من كان على ملة إبراهيم، وسمى إبراهيم حنيفا لميله عن الباطل إلى الحق لأن أصل الحنف الميل. والسمحة: السهلة، أي: أنها مبنية على السهولة، لقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم) وهذا الحديث المعلق لم يسنده المؤلف في هذا الكتاب، لأنه ليس على شرطه. نعم وصله في كتاب الأدب المفرد، وكذا وصله أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس وإسناده حسن. استعمله المؤلف في الترجمة لكونه متقاصرا عن شرطه، وقواه بما دل على معناه لتناسب السهولة واليسر. الحديث: -39- حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ." الشرح: قوله: (حدثنا عبد السلام بن مطهر) أي: ابن حسام البصري، وكنيته أبو ظفر بالمعجمة والفاء المفتوحتين. قوله: (حدثنا عمر بن علي) هو المقدمي بضم الميم وفتح القاف والدال المشددة، وهو بصري ثقة، لكنه مدلس شديد التدليس، وصفه بذلك ابن سعد وغيره. وهذا الحديث من إفراد البخاري عن مسلم، وصححه - وإن كان من رواية مدلس بالعنعنة - لتصريحه فيه بالسماع من طريق أخرى، فقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أحمد بن المقدام أحد شيوخ البخاري عن عمر بن علي المذكور قال: " سمعت معن بن محمد " فذكره، وهو من إفراد معن بن محمد، وهو مدني ثقة قليل الحديث، لكن تابعه على شقه الثاني ابن أبي ذئب عن سعيد أخرجه المصنف في كتاب الرقاق بمعناه ولفظه: " سددوا وقربوا " وزاد في آخره: " والقصد القصد تبلغوا " ولم يذكر شقه الأول، وقد أشرنا إلى بعض شواهده، ومنها حديث عروة الفقيمي بضم الفاء وفتح القاف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن دين الله يسر"، ومنها حديث بريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم هديا قاصدا، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه " رواهما أحمد وإسناد كل منهما حسن. قوله: (ولن يشاد الدين إلا غلبه) هكذا في روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت في رواية ابن السكن وفي بعض الروايات عن الأصيلي بلفظ: " ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيلي وأبي نعيم وابن حبان وغيرهم. والدين منصوب على المفعولية وكذا في روايتنا أيضا، وأضمر الفاعل للعلم به، وحكى صاحب المطالع: أن أكثر الروايات برفع الدين على أن يشاد مبني لما لم يسم فاعله، وعارضه النووي بأن أكثر الروايات بالنصب، ويجمع بين كلاميهما بأنه بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ويؤيد النصب لفظ حديث بريدة عند أحمد: " إنه من شاد هذا الدين يغلبه " ذكره في حديث آخر يصلح أن يكون هو سبب حديث الباب. والمشادة بالتشديد: المغالبة، يقال: شاده يشاده مشادة، إذا قاواه، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب. قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدى إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة، وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: " إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة، وخير دينكم اليسرة " وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء، فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر. (1/95) قوله: (فسددوا) أي: الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل. قوله: (وقاربوا) أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه. قوله: (وأبشروا) أي بالثواب على العمل الدائم وإن قل، والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشر به تعظيما له وتفخيما. قوله: (واستعينوا بالغدوة) أي استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة. والغدوة بالفتح سير أول النهار. وقال الجوهري: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. والروحة بالفتح السير بعد الزوال. والدلجة بضم أوله وفتحه وإسكان اللام سير آخر الليل، وقيل سير الليل كله، ولهذا عبر فيه بالتبعيض، ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار. وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرا إلى مقصد فنبهه على أوقات نشاطه، لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة. وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة. وقوله في رواية ابن أبي ذئب " القصد القصد " بالنصب فيهما على الإغراء، والقصد الأخذ بالأمر الأوسط. ومناسبة إيراد المصنف لهذا الحديث عقب الأحاديث التي قبله ظاهرة من حيث أنها تضمنت الترغيب في القيام والصيام والجهاد، فأراد أن يبين أن الأولى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطع، بل يعمل بتلطف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع. ثم عاد إلى سياق الأحاديث الدالة على أن الأعمال الصالحة معدودة من الإيمان فقال: باب الصلاة من الإيمان. *3*30 باب الصَّلَاةُ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) يَعْنِي: صَلَاتَكُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ. الشرح: قوله: (باب) هو مرفوع بتنوين وبغير تنوين، والصلاة مرفوع على التنوين فقوله: " وقول الله " مرفوع عطفا على الصلاة، وعلى عدمه مجرور مضاف. قوله: (يعني صلاتكم) وقع التنصيص على هذا التفسير من الوجه الذي أخرج منه المصنف حديث الباب، (1/96) فروى الطيالسي والنسائي من طريق شريك وغيره عن أبي إسحاق عن البراء في الحديث المذكور " فأنزل الله (وما كان الله ليضيع إيمانكم) صلاتكم إلى بيت المقدس " وعلى هذا فقول المصنف: " عند البيت " مشكل، مع أنه ثابت عنه في جميع الروايات، ولا اختصاص لذلك بكونه عند البيت. وقد قيل: إن فيه تصحيفا والصواب: يعني صلاتكم لغير البيت. وعندي أنه لا تصحيف فيه بل هو صواب، ومقاصد البخاري في هذه الأمور دقيقة، وبيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة، فقال ابن عباس وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس. وأطلق آخرون أنه كان يصلي إلى بيت المقدس. وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس، وكأن البخاري أراد الإشارة إلى الجزم بالأصح من أن الصلاة لما كانت عند البيت كانت إلى بيت المقدس، واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية، لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع فأحرى أن لا تضيع إذا بعدوا عنه، فتقدير الكلام: يعني صلاتكم التي صليتموها عند البيت إلى بيت المقدس. الحديث: -40- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ - أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ - مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا - كَمَا هُمْ - قِبَلَ الْبَيْتِ. وَكَانَتْ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ فِي حَدِيثِهِ هَذَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) الشرح: قوله: (حدثنا عمرو بن خالد) هو بفتح العين وسكون الميم، وهو أبو الحسن الحراني نزيل مصر أحد الثقات الإثبات. ووقع في رواية القابسي عن عبدوس كلاهما عن أبي زيد المروزي. وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني " عمر بن خالد " بضم العين وفتح الميم، وهو تصحيف نبه عليه من القدماء أبو علي الغساني، وليس قي شيوخ البخاري من اسمه عمر بن خالد ولا في جميع رجاله بل ولا في أحد من رجال الكتب الستة. قوله: (حدثنا زهير) هو ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة وبها سمع منه عمرو بن خالد. قوله: (حدثنا أبو إسحاق) هو السبيعي وسماع زهير منه - فيما قال أحمد - بعد أن بدأ تغيره، لكن تابعه عليه عند المصنف إسرائيل ابن يونس حفيده وغيره. قوله: (عن البراء) هو ابن عازب الأنصاري، صحابي ابن صحابي. وللمصنف في التفسير من طريق الثوري عن أبي إسحاق " سمعت البراء " فأمن ما يخشى من تدليس أبي إسحاق. قوله: (أول) بالنصب أي: في أول زمن قدومه، وما مصدرية. قوله: (أو قال أخواله) الشك من أبي إسحاق، وفي إطلاق أجداده أو أخواله مجاز، لأن الأنصار أقاربه من جهة الأمومة، لأن أم جده عبد المطلب بن هاشم منهم، وهي سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار. وإنما نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة على إخوتهم بني مالك بن النجار، ففيه على هذا مجاز ثان. قوله: (قبل بيت المقدس) بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: إلى جهة بيت المقدس. قوله: (ستة عشر شهرا أو سبعة عشر) كذا وقع الشك في رواية زهير هذه هنا، وفي الصلاة أيضا عن أبي نعيم عنه، وكذا في رواية الثوري عنده. وفي رواية إسرائيل عند المصنف وعند الترمذي أيضا. ورواه أبو عوانة في صحيحه عن عمار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال: " ستة عشر " من غير شك، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص، وللنسائي من رواية زكريا بن أبي زائدة وشريك، ولأبي عوانة أيضا من رواية عمار بن رزيق - بتقديم الراء مصغرا - كلهم عن أبي إسحاق، وكذا لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس. وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف " سبعة عشر " وكذا للطبراني عن ابن عباس. والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك. وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، (1/ 97) وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان: " سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام " وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول. وشذت أقوال أخرى. ففي ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث " ثمانية عشر شهرا " وأبو بكر سيئ الحفظ وقد اضطرب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية سبعة عشر وفي رواية ستة عشر، وخرجه بعضهم على قول محمد بن حبيب أن التحويل كان في نصف شعبان، وهو الذي ذكره النووي في الروضة وأقره، مع كونه رجح في شرحه لمسلم رواية ستة عشر شهرا لكونها مجزوما بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن ألغى شهري القدوم والتحويل، وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة. ومن الشذوذ أيضا رواية ثلاثة عشر شهرا ورواية تسعة أشهر أو عشرة أشهر ورواية شهرين ورواية سنتين، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب. وأسانيد الجميع ضعيفة، والاعتماد على القول الأول، فجملة ما حكاه تسع روايات. قوله: (وأنه صلى أول) بالنصب لأنه مفعول صلى، والعصر كذلك على البدلية، وأعربه ابن مالك بالرفع، وفي الكلام مقدر لم يذكر لوضوحه، أي: أول صلاة صلاها متوجها إلى الكعبة صلاة العصر. وعند ابن سعد: حولت القبلة في صلاة الظهر أو العصر - على التردد - وساق ذلك من حديث عمارة بن أوس قال: صلينا إحدى صلاتي العشاءين. والتحقيق أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر، وأما الصبح فهو من حديث ابن عمر بأهل قباء، وهل كان ذلك في جمادى الآخرة أو رجب أو شعبان؟ أقوال. قوله: (فخرج رجل) هو عباد بن بشر بن قيظي كما رواه ابن منده من حديث طويلة بنت أسلم، وقيل هو عباد بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء، وأهل المسجد الذين مر بهم قيل: هم من بني سلمة، وقيل: هو عباد بن بشر الذي أخبر أهل قباء في صلاة الصبح كما سيأتي بيان ذلك في حديث ابن عمر حيث ذكره المصنف في كتاب الصلاة، ونذكر هناك تقرير الجمع بين هذين الحديثين وغيرهما مع التنبيه على ما فيهما من الفوائد إن شاء الله تعالى. قوله: (أشهد بالله) أي: أحلف، قال الجوهري: يقال أشهد بكذا أي: أحلف به. قوله: (قبل مكة) أي: قبل البيت الذي في مكة، ولهذا قال: " فداروا كما هم قبل البيت"، و " ما " موصولة والكاف للمبادرة. وقال الكرماني للمقارنة، وهم مبتدأ وخبره محذوف. قوله: (قد أعجبهم) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم-. (وأهل الكتاب) هو بالرفع عطفا على اليهود، من عطف العام على الخاص. وقيل: المراد النصارى لأنهم من أهل الكتاب وفيه نظر لأن النصارى لا يصلون لبيت المقدس فكيف يعجبهم؟ وقال الكرماني: كان إعجابهم بطريق التبعية لليهود. قلت: وفيه بعد لأنهم أشد الناس عداوة لليهود. ويحتمل أن يكون بالنصب، والواو بمعنى مع أي: يصلي مع أهل الكتاب إلى بيت المقدس، واختلف في صلاته إلى بيت المقدس وهو بمكة، فروى ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش المذكورة " صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين " وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضا، وحكى الزهري خلافا في أنه هل كان يجعل الكعبة خلف ظهره أو يجعلها بينه وبين بيت المقدس؟ قلت: وعلى الأول فكان يجعل الميزاب خلفه، وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين. وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ. وحمل ابن عبد البر هذا على القول الثاني. ويؤيد حمله على ظاهره إمامة جبريل، ففي بعض طرقه أن ذلك كان عند باب البيت.(1/ 98) قوله: (أنكروا ذلك) يعني: اليهود، فنزلت (سيقول السفهاء من الناس) الآية. وقد صرح المصنف بذلك في روايته من طريق إسرائيل. قوله: (قال زهير) يعني: ابن معاوية بالإسناد المذكور بحذف أداة العطف كعادته، ووهم من قال إنه معلق، وقد ساقه المصنف في التفسير مع جملة الحديث عن أبي نعيم عن زهير سياقا واحدا. قوله: (أنه مات على القبلة) أي: قبلة بيت المقدس قبل أن تحول (رجال وقتلوا) ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، وكذلك روى أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم صحيحا عن ابن عباس. والذين ماتوا بعد فرض الصلاة وقبل تحويل القبلة من المسلمين عشرة أنفس، فبمكة من قريش: عبد الله بن شهاب والمطلب بن أزهر الزهريان والسكران بن عمرو العامري. وبأرض الحبشة منهم: حطاب - بالمهملة - ابن الحارث الجمحي وعمرو بن أمية الأسدي وعبد الله بن الحارث السهمي وعروة بن عبد العزى وعدي بن نضلة العدويان. ومن الأنصار بالمدينة: البراء بن معرور - بمهملات - وأسعد بن زرارة. فهؤلاء العشرة متفق عليهم. ومات في المدة أيضا إياس بن معاذ الأشهلي، لكنه مختلف في إسلامه. ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد، ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك. ثم وجدت في المغازي ذكر رجل اختلف في إسلامه وهو سويد بن الصامت، فقد ذكر ابن إسحاق أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تلقاه الأنصار في العقبة، فعرض عليه الإسلام فقال: إن هذا القول حسن. وانصرف إلى المدينة فقتل بها في وقعة بعاث - بضم الموحدة وإهمال العين وآخره مثلثة - وكانت قبل الهجرة، قال فكان قومه يقولون: لقد قتل وهو مسلم، فيحتمل أن يكون هو المراد. وذكر لي بعض الفضلاء أنه يحوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار. قلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما بعد الإسراء. (تنبيه) : في هذا الحديث من الفوائد: الرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانا. وفيه أن تمني تغيير بعض الأحكام جائز إذا ظهرت المصلحة في ذلك. وفيه بيان شرف المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب من غير تصريح بالسؤال. وفيه بيان ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم والشفقة على إخوانهم، وقد وقع لهم نظير هذه المسألة لما نزل تحريم الخمر كما صح من حديث البراء أيضا فنزل (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا - إلى قوله - والله يحب المحسنين. ( وقوله تعالى: (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) ، ولملاحظة هذا المعنى عقب المصنف هذا الباب بقوله: " باب حسن إسلام المرء " فذكر الدليل على أن المسلم إذا فعل الحسنة أثيب عليها. |
مواقع النشر (المفضلة) |
كاتب الموضوع | حسن الخليفه احمد | مشاركات | 538 | المشاهدات | 90026 | | | | انشر الموضوع |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|