القبول يا رب - شباب الطريقة الختمية بدائرة ود ابراهيم بأم بدة
مجموعة مدائح ختمية.. شباب الطريقة الختمية بمسجد السيد علي الميرغني ببحري
|
مكتبة الميرغني الإليكترونية خاصة بجميع مؤلفات السادة المراغنة |
إهداءات ^^^ ترحيب ^^^ تهاني ^^^ تعازي ^^^ تعليقات ^^^ إعلانات | |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
12-06-2012, 02:41 PM | #1 | |
|
كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب المستصفى من علم الاصول لحجة الاسلام الامام الغزالى رضى الله عنه ملخص عن كتاب: المستصفى من علم الأصول *** هذا الكتاب اختصر فيه المؤلف كتابه «تهذيب الأصول» الذي يميل فيه إلى الاستقصاء، أورد فيه مجمل المباحث الأصولية؛ التي عن طريقها تستنبط الأحكام الشرعية من أدلتها الإجمالية، وقسمه إلى مقدمة وأربعة أقطاب: المقدمة للتوطئة والتمهيد، والأقطاب وهي المشتملة على علم الأصول: القطب الأول في الأحكام، والثاني في الأدلة، وهي الكتاب والسنة والإجماع، والثالث في طريق الاستثمار، وهو وجوه دلالة الأدلة، وهي أربعة: دلالة بالمنظوم، ودلالة بالمفهوم، ودلالة بالضرورة والاقتضاء، ودلالة بالمعنى المعقول، والرابع في المستثمر وهو المجتهد الذي يحكم بظنه ويقابله المقلد الذي يلزمه اتباعه. المؤلفون الغزالي محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، أبو حامد، حجة الإسلام فيلسوف، متصوف، له نحو مائتي مصنف. ولد في الطابران (قصبة طوس، بخراسان) سنة (450 ه) ورحل إلى نيسابور ثم إلى بغداد فالحجاز فبلاد الشام فمصر، وعاد إلى بلدته. وتوفي فيها سنة (505 ه) |
|
|
12-06-2012, 02:42 PM | #2 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب الحمد لله القوي القادر، الولي الناصر، اللطيف القاهر، المنتقم الغافر، الباطن الظاهر، الأول الآخر، الذي جعل العقل أرجح الكنوز والذخائر، والعلم أربح المكاسب والمتاجر، وأشرف المعالي والمفاخر، وأكرم المحامد والماثر، وأحمد الموارد والمصادر، فشرفت بإثباته الاقلام والمحابر، وتزينت بسماعه المحاريب والمنابر، وتحلت برقومه الاوراق والدفاتر، وتقدم بشرفه الاصاغر على الاكابر، واستضاءت ببهائه الاسرار والضمائر، وتنورت بأنواره القلوب والبصائر، واستحقر في ضيائه ضياء الشمس الباهر على الفلك الدائر، واستصغر في نوره الباطن ما ظهر من نور الاحداق والنواظر، حتى تغلغل بضيائه في أعماق المغمضات جنود الخواطر، وإن كلت عنها النواظر، وكثفت عليها الحجب والسواتر. والصلاة على محمد رسوله ذي العنصر الطاهر، والمجد المتظاهر، والشر ف المتناصر، والكرم المتقاطر، المبعوث بشيرا للمؤمنين، ونذيرا للكافرين، وناسخا بشرعه كل شرع غابر ودين داثر، المؤيد بالقرآن المجيد، الذي لا يمله سامع ولا آثر، ولا يدرك كنه جزالته ناظم ولا ناثر، ولا يحيط بعجائبه وصف واصف ولا ذكر ذاكر، وكل بليغ دون ذوق فهم جليات أسراره قاصر، وعلى آله وأصحابه وسلم كثيرا، كثرة ينقطع دونها عمر العاد الحاصر. أما بعد: فقد تناطق قاضي العقل، وهو الحاكم الذي لا يعزل ولا يبدل، وشاهد الشرع وهو الشاهد المزكى المعدل، بأن الدنيا دار غرور لا دار سرور، ومطية عمل لا مطية كسل، ومنزل عبور لا متنزه حبور، ومحل تجارة لا مسكن عمارة، ومتجر بضاعتها الطاعة، وربحها الفوز يوم تقوم الساعة، والطاعة طاعتان، عمل وعلم، والعلم أنجحها وأربحها، فإنه أيضا من العمل، ولكنه عمل القلب الذي هو أعز الاعضاء، وسعي العقل الذي هو أشرف الاشياء، لانه مركب الديانة، وحامل الامانة، إذ عرضت على الارض والجبال والسماء فأشفقن من حملها وأبين أن يحملنها غاية الاباء. ثم العلوم ثلاثة: 1 - عقلي محض، لا يحث الشرع عليه ولا يندب إليه، كالحساب والهندسة والنجوم وأمثاله من العلوم فهي بين ظنون كاذبة لائقة، وإن بعض الظن إثم، وبين علوم صادقة لا منفعة لها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وليست المنفعة في الشهوات الحاضرة، والنعم الفاخرة، فإنها فانية داثرة، بل النفع ثواب دار الآخرة. 2 - ونقلي محض، كالاحاديث والتفاسير والخطب في أمثالها يسير، إذ يستوي في الاستقلال بها الصغير والكبير، لان قوة الحفظ كافية في النقل، وليس فيها مجال للعقل. 3 - وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي الشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول، بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد، الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد، ولاجل شرف علم الفقه وسببه، وفر الله دواعي الخلق على طلبه، وكان العلماء به أرفع العلماء مكانا، وأجلهم شأنا، وأكثرهم أتباعا وأعوانا، فتقاضاني في عنفوان شبابي اختصاص هذا العلم بفوائد الدين والدنيا، وثواب الآخرة والأولى، أن أصرف إليه من مهلة العمر صدرا، وأن أخص به من متنفس الحياة قدرا، فصنفت كتبا كثيرة في فروع الفقه وأصوله، ثم أقبلت بعده على علم طريق الآخرة، ومعرفة أسرار الدين الباطنة، فصنفت فيه كتبا بسيطة، ككتاب إحياء علوم الدين ووجيزه، ككتاب جواهر القرآن، ووسيطه ككتاب كيمياء السعادة، ثم ساقني قدر الله تعالى إلى معاودة التدريس والافادة، فاقترح علي طائفة من محصلي علم الفقه تصنيفا في أصول الفقه، أصرف العناية فيه إلى التلفيق، بين الترتيب والتحقيق، وإلى التوسط بين الاخلال والاملال، على وجه يقع في الفهم دون كتاب تهذيب الاصول لميله إلى الاستقصاء والاستكثار، وفوق كتاب المنخول لميله إلى الايجاز والاختصار، فأجبتهم إلى ذلك مستعينا بالله، وجمعت فيه بين الترتيب والتحقيق لفهم المعاني، فلا مندوحة لاحدهما على الثاني، فصنفته وأتيت فيه بترتيب لطيف عجيب يطلع الناظر في أول وهلة على جميع مقاصد هذا العلم، ويفيده الاحتواء على جميع مسارح النطر فيه، فكل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ولا مبانيه، فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه، وقد سميته: كتاب المستصفى من علم الاصول والله تعالى هو المسؤول لينعم بالتوفيق، ويهدي إلى سواء الطريق، وهو بإجابة السائلين حقيق. صدر الكتاب اعلم أن هذا العلم الملقب بأصول الفقه قد رتبناه وجمعناه في هذا الكتاب، وبنيناه على مقدمة وأربعة أقطاب، المقدمة لها كالتوطئة والتمهيد، والاقطاب هي المشتملة على لباب المقصود ولنذكر في صدر الكتاب معنى أصول الفقه وحده وحقيقته أولا، ثم مرتبته ونسبته إلى العلوم ثانيا، ثم كيفية إنشعابه إلى هذه المقدمة والاقطاب الاربعة ثالثا، ثم كيفية اندراج جميع أقسامه وتفاصيله تحت الاقطاب الاربعة رابعا، ثم وجه تعلقه بهذه المقدمة خامسا. |
12-06-2012, 02:43 PM | #3 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
بيان حد أصول الفقه اعلم أنك لا تفهم معنى أصول الفقه ما لم تعرف أولا معنى الفقه، والفقه عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع، يقال: فلان يفقه الخير والشر، أي يعلمه ويفهمه، ولكن صار بعرف العلماء عبارة عن العلم بالاحكام الشرعية الثابتة لافعال المكلفين خاصة، حتى لا يطلق بحكم العادة اسم الفقيه على متكلم وفلسفي ونحوي ومحدث ومفسر، بل يختص بالعلماء بالاحكام الشرعية الثابتة للافعال الانسانية، كالوجوب، والحظر، والاباحة، والندب والكراهة، وكون العقد صحيحا وفاسدا وباطلا، وكون العبادة قضاء وأداء وأمثاله. ولا يخفى عليك أن للافعال أحكاما عقلية، أي مدركة بالعقل، ككونها أعراضا وقائمة بالمحل ومخالفة للجوهر، وكونها أكوانا حركة وسكونا وأمثالها، والعارف بذلك يسمى متكلما لا فقيها. وأما أحكامها من حيث إنها واجبة ومحظورة، ومباحة ومكروهة ومندوب إليها، فإنما يتولى الفقيه بيانها، فإذا فهمت هذا، فافهم أن أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الاحكام، وعن معرفة وجوه دلالتها على الاحكام من حيث الجملة، لا من حيث التفصيل، فإن علم الخلاف من الفقه أيضا مشتمل على أدلة الاحكام ووجوه دلالتها، ولكن من حيث التفصيل كدلالة حديث خاص في مسألة النكاح بلا ولي على الخصوص، ودلالة آية خاصة في مسألة متروك التسمية على الخصوص.
وأما الاصول: فلا يتعرض فيها لاحدى المسائل، ولا على طريق ضرب المثال، بل يتعرض فيها لاصل الكتاب والسنة والإجماع، ولشرائط صحتها وثوبتها، ثم لوجوه دلالتها الجميلة، إما من حيث صيغتها أو مفهوم لفظها أو مجرى لفظها أو معقول لفظها وهو القياس، من غير أن يتعرض فيها لمسألة خاصة، فبهذا تفارق أصول الفقه فروعه، وقد عرفت من هذا أن أدلة الاحكام الكتاب والسنة والإجماع، فالعلم بطرق ثبوت هذه الاصول الثلاثة، وشروط صحتها ووجوه دلالتها على الاحكام هو العلم الذي يعبر عنه بأصول الفقه. بيان مرتبة هذا العلم ونسبته إلى العلوم اعلم أن العلوم تنقسم إلى عقلية، كالطب والحساب والهندسة، وليس ذلك من غرضنا. وإلى دينية، كالكلام، والفقه وأصوله، وعلم الحديث، وعلم التفسير، وعلم الباطن، أعني علم القلب وتطهيره عن الاخلاق الذميمة، وكل واحد من العقلية والدينية ينقسم إلى كلية وجزئية، فالعلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام، وسائر العلوم من الفقه وأصوله والحديث والتفسير علوم جزئية، لان المفسر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصة، والمحدث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث خاصة، والفقيه لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلفين خاصة، والاصولي لا ينظر إلا في أدلة الاحكام الشرعية خاصة. والمتكلم هو الذي ينظر في أعم الاشياء وهو الموجود. فيقسم الموجود أولا إلى: 1 – قديم. 2 - وحادث، ثم يقسم المحدث إلى: 1 – جوهر. 2 - عرض. ثم يقسم العرض: 1 - إلى ما تشترط فيه الحياة من العلم، والارادة، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر. 2 - وإلى ما يستغنى عنها، كاللون والريح والطعم. ويقسم الجوهر: إلى الحيوان والنبات والجماد، ويبين أن اختلافها بالانواع أو بالاعراض، ثم ينظر في القديم فيبين أنه لا يتكثر ولا ينقسم انقسام الحوادث، بل لا بد أن يكون واحدا وأن يكون متميزا عن الحوادث بأوصاف تجب له، وبأمور تستحيل عليه، وأحكام تجوز في حقه، ولا تجب ولا تستحيل، ويفرق بين الجائز والواجب والمحال في حقه، ثم يبين أن أصل الفعل جائز عليه، وأن العالم فعله الجائز، وأنه لجوازه افتقر إلى محدث، وأن بعثة الرسل من أفعاله الجائزة، وأنه قادر عليه، وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات، وأن هذا الجائز واقع عند هذا ينقطع كلام المتكلم وينتهي تصرف العقل، بل العقل يدل على صدق النبي، ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقول في الله واليوم الآخر، مما لا يستقل العقل بدركه، ولا يقضي أيضا باستحالته، فقد يرد الشرع بما يقصر العقل عن الاستقلال بإدراكه، إذ لا يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سببا، للسعادة في الآخرة، وكون المعاصي سببا للشقاوة، لكنه لا يقضي باستحالته أيضا، ويقضي بوجوب صدق من دلت المعجزة على صدقه، فإذا أخبر عنه صدق العقل به بهذه الطريق، فهذا ما يحويه علم الكلام، فقد عرفت من هذا أنه يبتدى نظره في أعم الاشياء أولا وهو الموجود، ثم ينزل بالتدريج إلى التفصيل الذي ذكرناه، فيثبت فيه مبادئ سائر العلوم الدينية، من الكتاب والسنة وصدق الرسول، فيأخذ المفسر من جملة ما نظر فيه المتكلم واحدا خاصا، وهو الكتاب فينظر في تفسيره ويأخذ المحدث واحدا خاصا وهو السنة فينظر في طرق ثبوتها والفقيه يأخذ واحدا خاصا وهو فعل المكلف، فينظر في نسبته إلى خطاب الشرع من حيث الوجوب والحظر والاباحة، ويأخذ الاصولي واحدا خاصا، وهو قول الرسول الذي دل المتكلم على صدقه، فينظر في وجه دلالته على الاحكام إما بملفوظة أو بمفهومه أو بمعقول معناه ومستنبطه، ولا يجاوز نظر الاصولي قول الرسول عليه السلام وفعله، فإن الكتاب إنما يسمعه من قوله، والإجماع يثبت بقوله، والأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يثبت صدقه وكونه حجة في علم الكلام، فإذا الكلام هو المتكفل بإثبات مبادي العلوم الدينية كلها، فهي جزئية بالاضافة إلى الكلام، فالكلام هو العلم الاعلى في الرتبة، إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات، فإن قيل فليكن من شرط الاصولي والفقيه والمفسر والمحدث، أن يكون قد حصل علم الكلام، لانه قبل الفراغ من الكلي الاعلى كيف يمكنه النزول إلى الجزئي الاسفل؟ قلنا ليس ذلك شرطا في كونه أصوليا وفقيها ومفسرا ومحدثا، وإن كان ذلك شرطا في كونه عالما مطلقا، مليئا بالعلوم الدينية، وذلك أنه ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مباد تؤخذ، مسلمة بالتقليد في ذلك العلم، ويطلب برهان ثبوتها في علم آخر، فالفقيه ينظر في نسبة فعل المكلف إلى خطاب الشرع في أمره ونهيه، وليس عليه إقامة البرهان على إثبات الافعال الاختياريات للمكلفين، فقد أنكرت الجبرية فعل الانسان، وأنكرت طائفة وجود الاعراض، والفعل عرض، ولا على الفقيه إقامة البرهان على ثبوت خطاب الشرع، وأن لله تعالى كلاما قائما بنفسه هو أمر ونهي، ولكن يأخذ ثبوت الخطاب من الله تعالى. وثبوت الفعل من المكلف على سبيل التقليد، وينظر في نسبة الفعل إلى الخطاب فيكون قد قام بمنتهى علمه، وكذلك الاصولي، يأخذ بالتقليد من المتكلم أن قول الرسول حجة، ودليل واجب الصدق، ثم ينظر في وجوده دلالته وشروط صحته، فكل عالم بعلم من العلوم الجزئية فإنه مقلد لا محالة في مبادئ علمه إلى أن يترقى إلى العلم الاعلى، فيكون قد جاوز علمه إلى علم آخر. |
12-06-2012, 02:44 PM | #4 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
بيان كيفية دورانه على الاقطاب الاربعة اعلم أنك إذا فهمت أن نظر الاصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الاحكام الشرعية، لم يخف عليك أن المقصود كيفية اقتباس الاحكام من الأدلة، فوجب النظر في الاحكام، ثم في الأدلة وأقسامها، ثم في كيفية اقتباس الاحكام من الأدلة، ثم في صفات المقتبس الذي له أن يقتبس الاحكام، فإن الاحكام ثمرات، وكل ثمرة لها صفة وحقيقة في نفسها، ولها مثمر ومستثمر وطريق في الاستثمار. والثمرة: هي الاحكام، أعني الوجوب، والحظر، والندب، والكراهة، والاباحة، والحسن، والقبح، والقضاء، والاداء، والصحة، والفساد، وغيرها. والمثمر: هي الأدلة، وهي ثلاثة: الكتاب، والسنة، والإجماع فقط. وطرق الاستثمار: هي وجوه دلالة الأدلة، وهي أربعة، إذ الاقوال إما أن تدل على الشئ بصيغتها ومنظومها، أو بفحواها ومفهومها وباقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها. والمستثمر هو المجتهد، ولا بد من معرفة صفاته، وشروطه، وأحكامه، فإذا جملة الا صول تدور على أربعة أقطاب. القطب الأول: في الاحكام والبداءة بها أولى، لنها الثمرة المطلوبة. القطب الثاني: في الأدلة، وهي الكتاب، والسنة، والإجماع، وبها التثنية، إذ بعد الفراغ من معرفة الثمرة لا أهم من معرفة المثمر.
القطب الثالث: في طريق الاستثمار، وهو وجوه دلالة الأدلة، وهي أربعة: دلالة بالمنظوم، ودلالة بالمفهوم، ودلالة بالضرورة والاقتضاء، ودلالة بالمعنى المعقول. القطب الرابع: في المستثمر، وهو المجتهد الذي يحكم بظنه، ويقابله المقلد الذي يلزمه اتباعه، فيجب ذكر شروط المقلد والمجتهد وصفاتهما. بيان كيفية اندراج الشعب الكثيرة من أصول الفقه تحت هذه الاقطاب الاربعة لعلك تقول أصول الفقه تشتمل على أبواب كثيرة وفصول منتشرة، فكيف يندرج جملتها تحت هذه الاقطاب الاربعة، فنقول: القطب الأول: هو الحكم وللحكم حقيقة في نفسه وانقسام، وله تعلق بالحاكم وهو الشارع، والمحكوم عليه وهو المكلف، وبالمحكوم فيه وهو فعل المكلف، وبالمظهر له وهو السبب والعلة، ففي البحث عن حقيقة الحكم، في نفسه يتبين أنه عبارة عن خطاب الشرع وليس وصفا للفعل ولا حسن ولا قبح ولا مدخل للعقل فيه، ولا حكم قبل ورود الشرع، وفي البحث عن أقسام الحكم يتبين حد الواجب، والمحظور، والمندوب، والمباح، والمكروه، والقضاء والاداء، والصحة، والفساد، والعزيمة، والرخصة وغير ذلك من أقسام الاحكام، وفي البحث عن الحاكم يتبين أن لا حكم إلا لله، وأنه لا حكم للرسول، ولا للسيد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه، لا حكم لغيره، وفي البحث عن المحكوم عليه يتبين خطاب الناسي والمكره والصبي، وخطاب الكافر بفروع الشرع وخطاب السكران ومن يجوز تكليفه ومن لا يجوز، وفي البحث عن المحكوم فيه يتبين أن الخطاب يتعلق بالافعال لا بالاعيان، وأنه ليس وصفا للافعال في ذواتها، وفي البحث عن مظهر الحكم يتبين حقيقة السبب والعلة والشرط والمحل والعلامة، فيتناول هذا القطب جملة من تفاريق فصول الاصول، أوردها الاصوليون مبددة في مواضع شتى لا تتناسب ولا تجمعها رابطة، فلا يهتدي الطالب إلى مقاصدها، ووجه الحاجة إلى معرفتها وكيفية تعلقها بأصول الفقه. القطب الثاني: في المثمر، وهو الكتاب والسنة والإجماع، وفي البحث عن أصل الكتاب يتبين حد الكتاب وما هو منه وما ليس منه، وطريق إثبات الكتاب، وأنه التواتر فقط، وبيان ما يجوز أن يشتمل عليه الكتاب من حقيقة ومجاز وعربية وعجمية، وفي البحث عن السنة يتبين حكم الاقوال والافعال من الرسول، وطرق ثبوتها من تواتر وآحاد، وطرق روايتها من مسند ومرسل، وصفات رواتها من عدالة وتكذيب، إلى تمام كتاب الاخبار، ويتصل بالكتاب والسنة كتاب النسخ، فإنه لا يرد إلا عليهما، وأما الإجماع فلا يتطرق النسخ إليه، وفي البحث عن أصل الإجماع تتبين حقيقته ودليله وأقسامه وإجماع الصحابة وإجماع من بعدهم، إلى جميع مسائل الإجماع. القطب الثالث: في طرق الاستثمار وهي أربعة: الأولى: دلالة اللفظ من حيث صيغته، وبه يتعلق النظر في صيغة الامر والنهي والعموم والخصوص والظاهر والمؤول والنص، والنظر في كتاب الاوامر والنواهي، والعموم والخصوص، نظر في مقتضى الصيغ اللغوية. وأما الدلالة من حيث الفحوى والمفهوم فيشتمل عليه كتاب المفهوم ودليل الخطاب. وأما الدلالة من حيث ضرورة اللفظ واقتضاؤه فيتضمن جملة من إشارات الالفاظ كقول القائل: أعتق عبدك عني، فتقول: أعتقت، فإنه يتضمن حصول الملك للملتمس ولم يتلفظا به، لكنه من ضرورة ملفوظهما ومقتضاه. وأما الدلالة من حيث معقول اللفظ فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه يدل على الجائع والمريض والحاقن بمعقول معناه، ومنه ينشأ القياس وينجر إلى بيان جميع أحكام القياس. وأقسامه. القطب الرابع: في المستثمر: وهو المجتهد وفي مقابلته المقلد، وفيه يتبين صفات المجتهد وصفات المقلد، والموضع الذي يجري فيه الاجتهاد، دون الذي لا مجال للاجتهاد فيه، والقول في تصويب المجتهدين، وجملة أحكام الاجتهاد، فهذه جملة ما ذكر في علم الاصول، وقد عرفت كيفية انشعابها من هذه الاقطاب الاربعة. |
12-06-2012, 02:45 PM | #5 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
بيان المقدمة ووجه تعلق الاصول بها اعلم أنه لما رجع حد أصول الفقه إلى معرفة أدلة الاحكام، اشتمل الحد على ثلاثة ألفاظ: المعرفة، والدليل، والحكم، فقالوا: إذا لم يكن بد من معرفة الحكم حتى كان معرفته أحد الاقطاب الاربعة، فلا بد أيضا من معرفة الدليل، ومعرفة المعرفة، أعني العلم، ثم العلم المطلوب لا وصول إليه إلا بالنظر، فلا بد من معرفة النظر، فشرعوا في بيان حد العلم والدليل والنظر ولم يقتصروا على تعريف صور هذه الامور، ولكن انجر بهم إلى إقامة الدليل على إثبات العلم على منكريه من السوفسطائية، وإقامة الدليل على النظر على منكري النظر، وإلى جملة من أقسام العلوم وأقسام الأدلة، وذلك مجاوزة لحد هذا العلم، وخلط له بالكلام، وإنما أكثر فيه المتكلمون من الاصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم، فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة، كما حمل حب اللغة والنحو بعض الاصوليين على مزج جملة من النحو بالاصول، فذكروا فيه من معاني الحروف ومعاني الاعراب جملا هي من علم النحو خاصة، وكما حمل حب الفقه جماعة من فقهاء ما وراء النهر، كأبي زيد رحمه الله وأتباعه، على مزج مسائل كثيرة من تفاريع الفقه بالاصول، فإنهم وإن أوردوها في معرض المثال وكيفية إجراء الأصل في الفروع، فقد أكثروا فيه، وعذر المتكلمين في ذكر حد العلم والنظر والدليل في أصول الفقه أظهر من عذرهم في إقامة البرهان على إثباتها مع المنكرين، لان الحد يثبت في النفس صور هذه الامور، ولا أقل من تصورها إذا كان الكلام يتعلق بها، كما أنه لا أقل من تصور الإجماع والقياس لمن يخوض في الفقه، وأما معرفة حجية الإجماع وحجية القياس فذلك من خاصية أصول الفقه، فذكر حجية العلم والنظر على منكريه استجرار الكلام إلى الاصول، كما أن ذكر حجية الإجماع والقياس وخبر الواحد في الفقه استجرار الاصول إلى الفروع. وبعد أن عرفناك إسرافهم في هذا الخلط فإنا لا نرى أن نخلي هذا المجموع عن شئ منه، لان الفطام عن المألوف شديد، والنفوس عن الغريب نافرة، لكنا نقتصر من ذلك على ما تظهر فائدته على العموم في جملة العلوم من تعريف مدارك العقول وكيفية تدرجها من الضروريات إلى النظريات، على وجه يتبين فيه حقيقة العلم و النظر والدليل وأقسامها وحججها، تبينا بليغا تخلو عنه مصنفات الكلام.
|
12-06-2012, 02:45 PM | #6 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مقدمة الكتاب نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان، ونذكر شرط الحد الحقيقي، وشرط البرهان الحقيقي وأقسامهما، على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم وليست هذه المقدمة من جملة علم الاصول ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا، فمن شاء أن لا يكتب هذه المقدمة فليبدأ بالكتاب من القطب الأول، فإن ذلك هو أول أصول الفقه وحاجة جميع العلوم النظرية إلى هذه المقدمة لحاجة أصول الفقه.
بيان حصر مدارك العلوم النظرية في الحد والبرهان اعلم أن إدراك الامور على ضربين: الأول: إدراك الذوات المفردة، كعلمك بمعنى الجسم والحركة والعالم والحادث والقديم، وسائر ما يدل عليه بالاسامي المفردة. الثاني: إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض بالنفي أو الاثبات، وهو أن تعلم أولا معنى لفظ العالم وهو أمر مفرد، ومعنى لفظ الحادث، ومعنى لفظ القديم، وهما أيضا أمران مفردان، ثم تنسب مفردا إلى مفرد بالنفي أو الاثبات، كما تنسب القدم إلى العالم بالنفي فتقول ليس العالم قديما، وتنسب الحدوث إليه بالاثبات فتقول: العالم حادث، والضرب الاخير هو الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب، وأما الأول فيستحيل فيه التصديق والتكذيب، إذ لا يتطرق التصديق إلا إلى خبر، وأقل ما يتركب منه جزآن مفردان: وصف وموصوف، فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بنفي أو إثبات، صدق أو كذب، فأما قول القائل: حادث، أو جسم، أو قديم، فأفراد ليس فيها صدق ولا كذب، ولا بأس أن يصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين، فإن حق الامور المختلفة أن تختلف ألفاظها الدالة عليها، إذ الالفاظ مثل المعاني فحقها أن تحاذى بها المعاني، وقد سمى المنطقيون معرفة المفردات تصورا ومعرفة النسبة الخبرية بينهما تصديقا فقالوا: العلم إما تصور وإما تصديق، وسمى بعض علمائنا الأول معرفة، والثاني: علما، تأسيا بقول النحاة في قولهم: المعرفة تتعدى إلى مفعول واحد، إذ تقول: عرفت زيدا، والظن يتعدى إلى مفعولين، إذ تقول: ظننت زيدا عالما، ولا تقول: ظننت زيدا، ولا ظننت عالما، والعلم من باب الظن فتقول: علمت زيدا عدلا، والعادة في هذه الاصطلاحات مختلفة، وإذا فهمت افتراق الضربين فلا مشاحة في الالقاب فنقول الآن: إن الادراكات صارت محصورة في المعرفة والعلم، أو في التصور والتصديق، وكل علم تطرق إليه تصديق فمن ضرورته أن يتقدم عليه معرفتان، أي تصوران، فإن من لا يعرف المفرد كيف يعلم المركب، ومن لا يفهم معنى العالم ومعنى الحادث كيف يعلم أن العالم حادث. ومعرفة المفردات قسمان: أولي: وهو الذي لا يطلب بالبحث، وهو الذي يرتسم معناه في النفس من غير بحث وطلب، كلفظ الوجود والشئ، وككثير من المحسوسات. ومطلوب: وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل ولا مفسر. فيطلب تفسيره، بالحد. وكذلك العلم ينقسم إلى أول: كالضروريات، وإلى مطلوب: كالنظريات، والمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد، والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب لا يقتنص إلا بالبرهان، فالبرهان والحد هو الآلة التي بها يقتنص سائر العلوم المطلوبة، فلتكن هذه المقدمة المرسومة لبيان مدارك العقول، مشتملة على دعامتين: دعامة في الحد، ودعامة في البرهان. |
12-06-2012, 02:46 PM | #7 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الدعامة الأولى: في الحد
ويجب تقديمها، لان معرفة المفردات تتقدم على معرفة المركبات، وتشتمل على فنين: فن يجري مجرى القوانين، وفن يجري مجرى الامتحانات لتلك القوانين. الفن الأول في القوانين وهي ستة: القانون الأول أن الحد إنما يذكر جوابا عن سؤال في المحاورات، ولا يكون الحد جوابا عن كل سؤال، بل عن بعضه، والسؤال طلب، وله لا محالة مطلوب وصيغة، والصيغ والمطالب كثيرة، ولكن أمهات المطالب أربع: المطلب الأول: ما يطلب بصيغة هل يطلب بهذه الصيغة أمران، إما أصل الوجود كقولك: هل الله تعالى موجود؟ أو يطلب حال الموجود ووصفه كقولك: هل الله تعالى خالق البشر؟ وهل الله تعالى متكلم وآمر وناه. المطلب الثاني: ما يطلب بصيغة ما ويطلق لطلب ثلاثة أمور: الأول: أن يطلب به شرح اللفظ، كما يقول: من لا يدري العقار، ما العقار، فيقال له: الخمر، إذا كان يعرف لفظ الخمر. الثاني: أن يطلب لفظ محرر جامع مانع يتميز به المسؤول عنه من غيره كيفما كان الكلام، سواء، كان عبارة عن عوارض ذاته ولوازمه البعيدة عن حقيقة ذاته، أو حقيقة ذاته، كما سيأتي الفرق بين الذاتي والعرضي كقول القائل: ما الخمر؟ فيقال: هو المائع الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة ويحفظ في الدن، والمقصود أن لا يتعرض لحقيقة ذاته بل يجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر، بحيث لا يخرج منه خمر، ولا يدخل فيه ما ليس بخمر. والثالث: أن يطلب به ماهية الشئ وحقيقة ذاته، كمن يقول: ما الخمر؟ فيقال: هو شراب مسكر معتصر من العنب، فيكون ذلك كاشفا عن حقيقته، ثم يتبعه لا محالة التمييز، واسم الحد في العادة قد يطلق على هذه الاوجه الثلاثة بالاشتراك، فلنخترع لكل واحد اسما، ولنسم الأول حدا لفظيا إذ السائل لا يطلب به إلا شرح اللفظ، ولنسم الثاني حدا رسميا، إذ هو مطلب مرتسم بالعلم، غير متشوف إلى درك حقيقة الشئ، ولنسم الثالث حدا حقيقيا، إذ مطلب الطالب منه درك حقيقة الشئ، و هذا الثالث شرطه أن يشتمل على جميع ذاتيات الشئ، فإنه لو سئل عن حد الحيوان فقيل: جسم حساس، فقد جئ بوصف ذاتي، وهو كاف في الجمع والمنع، ولكنه ناقص، بل حقه أن يضاف إليه المتحرك بالارادة، فإن كنه حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع أمرين: فأما المرتسم الطالب للتمييز فيكتفي بالحساس وإن لم يقل أنه جسم أيضا. المطلب الثالث: ما يطلب بصيغة (لم) وهو سؤال عن العلة، وجوابه بالبرهان على ما سيأتي حقيقته. المطلب الرابع: ما يطلب بصيغة (أي) وهو الذي يطلب به تمييز ما عرف جملته عما اختلط به، كما إذا قيل: ما الشجر؟ فقيل: إنه جسم فينبغي أن يقال: أي جسم هو؟ فيقول: نام، وأما مطلب (كيف) و (أين) و (متى) وسائر صيغ السؤال، فداخل في مطلب (هل) والمطلوب به صفة الوجود. القانون الثاني إن الحاد ينبغي أن يكون بصيرا بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعرضية وذلك غامض، فلا بد من بيانه فنقول: المعنى إذا نسب إلى المعنى الذي يمكن وصفه به وجد بالاضافة إلى الموصوف. إما ذاتيا: له ويسمى صفة نفس. وإما لازما: ويسمى تابعا. وإما عارضا: لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود. ولا بد من إتقان هذه النسبة، فإنها نافعة في الحد والبرهان جميعا. أما الذاتي: فإني أعني به كل داخل في ماهية الشئ وحقيقته دخولا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه، وذلك كاللونية للسواد، والجسمية للفرس والشجر، فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصا، فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولا به قوامها في الوجود والعقل، لو قدر عدمها لبطل وجود الشجرية، وكذا الفرس، ولو قدر خروجها عن الذهن لبطل فهم الشجر والفرس من الذهن وما يجري هذا المجرى، فلا بد من إدراجه في حد الشئ فمن يحد النبات يلزمه أن يقول جسم نام لا محالة. وأما اللازم: فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه، كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات والشجر عند طلوع الشمس فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعبر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده ولكنه من توابع الذات ولوازمه، وليس بذاتي له، وأعني به أن فهم حقيقته غير موقوف على فهم ذلك له، إذ الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات، بل يفهم الجسم الذي هو أعم منه وإن لم يخطر بباله ذلك، وكذلك كون الارض مخلوقة وصف لازم للارض، لا يتصور مفارقته له، ولكن فهم الارض غير موقوف على فهم كونها مخلوقة، فقد يدرك حقيقة الارض والسماء من لم يدرك بعد أنهما مخلوقتان، فإنا نعلم أولا حقيقة الجسم ثم نطلب بالبرهان كونه مخلوقا، ولا يمكننا أن نعلم الارض والسماء ما لم نعلم الجسم. وأما العارض: فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم، بل يتصور مفارقته إما سريعا، كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب وزرقة العين وسواد الزنجي، وربما لا يزول في الوجود، كزرقة العين، ولكن يمكن رفعه في الوهم، وأما كون الارض مخلوقة، وكون الجسم الكثيف ذا ظل مانع نور الشمس، فإنه ملازم لا تتصور مفارقته، ومن مثارات الاغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة، واستقصاء ذلك في هذه المقدمة التي هي كالعلاوة على هذا العلم غير ممكن، وقد استقصيناه، في كتاب معيار العلم، فإذا فهمت الفرق بين الذاتي واللازم، فلا تورد في الحد الحقيقي إلا الذاتيات، وينبغي أن تورد جميع الذاتيات، حتى يتصور بها كنه حقيقة الشئ وماهيته، وأعني بالماهية ما يصلح أن يقال في جواب ما هو، فإن القائل ما هو يطلب حقيقة الشئ، فلا يدخل في جوابه إلا الذاتي، والذاتي ينقسم إلى عام، ويسمى جنسا، وإلى خاص، ويسمى نوعا، فإن كان الذاتي العام لا أعم منه سمي جنس الاجناس، وإن كان الذاتي الخاص لا أخص منه سمي نوع الانواع، وهو اصطلاح المنطقيين ولتصالحهم عليه، فإنه لا ضرر فيه وهو كالمستعمل أيضا في علومنا، ومثاله أنا إذا قلنا: الجوهر ينقسم إلى جسم وغير جسم، والجسم ينقسم إلى نام وغير نام، والنامي ينقسم، إلى حيوان وغير حيوان، والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الانسان، وغير عاقل، فالجوهر جنس الاجناس، إذ لا أعم منه، والانسان نوع الانواع، إذ لا أخص منه، والنامي نوع بالاضافة إلى الجسم، لانه أخص منه، وجنس بالاضافة إلى الحيوان لانه أعم منه، وكذلك الحيوان بين النامي الاعم، والانسان الاخص، فإن قيل: كيف لا يكون شئ أعم من الجوهر وكونه موجودا أعم منه، وكيف لا يكون شئ أخص من الانسان، وقولنا: شيخ، وصبي، وطويل، وقصير، وكاتب، وخياط، أخص منه؟ قلنا: لم نعن في هذا الاصطلاح بالجنس الا عم فقط، بل عنينا الاعم، الذي هو ذاتي للشئ، أي داخل في جواب ما هو، بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن، وخرج عن كونه مفهوما للعقل، وعلى هذا اصطلاح، فالموجود لا يدخل في الماهية، إذ بطلانه لا يوجب زوال الماهية عن الذهن، بيانه إذا قال القائل: ما حد المثلث؟ فقلنا: شكل يحيط به ثلاثة أضلاع، أو قال: ما حد المسبع؟ فقلنا: شكل يحيط به سبعة أضلاع، فهم السائل حد المسبع، وإن لم يعلم أن المسبع موجود في العالم أصلا، فبطلان العلم بوجوده لا يبطل عن ذهنه فهم حقيقة المسبع، ولو بطل عن ذهنه الشكل لبطل المسبع، ولم يبق مفهوما عنده، وأما ما هو أخص من الانسان من كونه طويلا أو قصيرا أو شيخا أو صبيا أو كاتبا أو أبيض أو محترفا، فشئ منه لا يدخل في الماهية، إذ لا يتغير جواب الماهية بتغيره، فإذا قيل لنا: ما هذا؟ فقلنا: إنسان، وكان صغيرا فكبر، أو قصيرا فطال، فسئلنا مرة أخرى ما هو؟ لست أقول من هو؟ لكان الجواب ذلك بعينه، ولو أشير إلى ما ينفصل من الاحليل عند الوقاع وقيل: ما هو؟ لقلنا: نطفة، فإذا صار جنينا ثم مولودا فقيل: ما هو؟ تغير الجواب، ولم يحسن أن يقال: نطفة، بل يقال: إنسان، وكذلك الماء إذا سخن فقيل ما هو؟ قلنا: ماء كما في حالة البرودة، ولو استحال بالنار بخارا ثم هواء ثم قيل: ما هو؟ تغير الجواب، فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل فلنذكر في الحد الحقيقي ما يدخل في الماهية، وأما الحد اللفظي والرسمي فمؤنتهما خفيفة إذ طالبهما قانع بتبديل لفظ العقار بالخمر، وتبديل لفظ العلم بالمعرفة، أو بما هو وصف عرضي جامع مانع، وإنما العويص المتعذر هو الحد الحقيقي، وهو الكاشف عن ماهية الشئ لا غير. القانون الثالث (أصل السؤال وتعريفه الصحيح) إن ما وقع السؤال عن ماهيته و أردت أن تحده حدا حقيقيا فعليك فيه وظائف، لا يكون الحد حقيقيا إلا بها، فإن تركتها سميناه رسميا أو لفظيا، ويخرج عن كونه معربا عن حقيقة الشئ، ومصورا لكنه معناه في النفس. الأولى: أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول: فإذا قال لك مشيرا إلى ما ينبت من الارض: ما هو؟ فلا بد أن تقول: جسم، لكن لو اقتصرت عليه لبطل عليك بالحجر، فتحتاج إلى الزيادة، فتقول: نام، فتحترز به عما لا ينمو، فهذا الاحتراز يسمى فصلا، أي فصلت به المحدود عن غيره. الثانية: أن تذكر جميع ذاتياته وإن كانت ألفا ولا تبالي بالتطويل، لكن ينبغي أن تقدم الاعم على الاخص، فلا تقول: نام جسم بل بالعكس، وهذه لو تركتها لتشوش النظم، ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ، فالانكار عليك في هذا أقل مما في الأول، وهو أن تقتصر على الجسم. الثالثة: إنك إذا وجدت الجنس القريب فلا تذكر البعيد معه، فتكون مكررا، كما تقول: مائع شراب، أو تقتصر على البعيد، فتكون مبعدا، كما تقول في حد الخمر: جسم مسكر، مأخوذ من العنب، وإذا ذكرت هذا فقد ذكرت، ما هو ذاتي ومطرد ومنعكس، لكنه مختل قاصر عن تصوير كنه حقيقة الخمر، بل لو قلت: مائع مسكر، كان أقرب من الجسم، وهو أيضا ضعيف، بل ينبغي أن تقول: شراب مسكر، فإنه الاقرب الاخص، ولا تجد بعده جنسا أخص منه، فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل، إذ الشراب يتناول سائر الاشربة، فاجتهد أن تفصل بالذاتيات، إلا إذا عسر عليك ذلك، وهو كذلك عسير في أكثر الحدود، فاعدل بعد ذكر الجنس إلى اللوازم، واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة، فإن الخفي لا يعرف، كما إذا قيل: ما الاسد؟ فقلت: سبع أبخر، ليتميز بالبخر عن الكلب، فإن البخر من خواص الاسد، لنه خفي، ولو قلت: سبع شجاع عريض الاعالي، لكانت هذه اللوازم والاعراض أقرب إلى المقصود، لانها أجلى، وأكثر مما ترى في الكتب من الحدود رسمية، إذ الحقيقية عسرة جدا، وقد يسهل درك بعض الذاتيات ويعسر بعضها، فإن درك جميع الذاتيات حتى لا يشذ واحد منها عسر، والتمييز بين الذاتي واللازم عسر، ورعاية الترتيب حتى لا يبتدأ بالاخص قبل الاعم عسر، وطلب الجنس الاقرب عسر، فإنك ربما تقول في الاسد إنه حيوان شجاع، ولا يحضرك لفظ السبع، فتجمع أنواعا من العسر، وأحسن الرسميات ما وضع فيه الجنس الاقرب، وتمم بالخواص المشهورة المعروفة. الرابعة: أن تحترز من الالفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة، واجتهد في الايجاز ما قدرت، وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك، فإن أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو أشد مناسبة للغرض، واذكر مرادك للسائل، فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة للانباء عنه، ولو طول مطول واستعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة، فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في ذمه إن كان قد كشف عن الحقيقة بذكر جميع الذاتيات، فإنه المقصود، وهذه المزايا تحسينات وتزيينات كالابازير من الطعام المقصود، وإنما المتحذلقون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار، لميل طباعهم القاصرة عن المقصود الأصلي إلى الوسائل والرسوم والتوابع حتى ربما أنكروا قول القائل في حد العلم إنه الثقة بالمعلوم أو إدراك المعلوم من حيث إن الثقة مترددة بين الامانة والفهم، وهذا هوس، لان الثقة إذا قرنت بالمعلوم تعين فيها جهة الفهم، ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا، فلا ينبغي أن ينكر من حيث إن لفظ العين مشترك بين الميزان والشمس والعضو الباصر، لان قرينة الحاسة أذهبت عنه الاحتمال، وحصل التفهيم الذي هو مطلوب السؤال، واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المرتسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها وشغفه بها. القانون الرابع في طريق اقتناص الحد اعلم أن الحد لا يحصل بالبرهان، لانا إذا قلنا في حد الخمر أنه شراب مسكر، فقيل لنا: لم لكان محالا أن يقام عليه برهان فإن لم يكن معنا خصم وكنا نطلبه فكيف نطلبه بالبرهان، وقولنا: الخمر شراب مسكر دعوى هي قضية محكومها الخمر، وحكمها أنه شراب مسكر، وهذه القضية إن كانت معلومة بلا وسط فلا حاجة إلى البرهان، وإن لم تعلم، وافتقرت إلى وسط، وهو معنى البرهان، أعني طلب الوسط كان صحة ذلك الوسط للمحكوم عليه، وصحة الحكم للوسط كل واحد قضية واحدة فبماذا تعرف صحتها، فإن احتيج إلى وسط تداعى إلى غير نهاية، وإن وقف في موضع بغير وسط فبماذا تعرف في ذلك الموضع صحته؟ فليتخذ ذلك طريقا في أول الامر، مثاله: لو قلنا في حد العلم إنه المعرفة، فقيل لم؟ فقلنا: لان كل علم فهو اعتقاد مثلا، وكل اعتقاد فهو معرفة، فكل علم إذن معرفة، لان هذا طريق البرهان على ما سيأتي، فيقال: ولم قلتم كل علم فهو اعتقاد، ولم قلتم كل اعتقاد فهو معرفة، فيصير السؤال سؤالين، وهكذا يتداعى إلى غير نهاية، بل الطريق أن النزاع إن كان مع خصم أن يقال عرفنا صحته باطراده وانعكاسه، فهو الذي يسلمه الخصم بالضرورة، وأما كونه معربا عن تمام الحقيقة ربما ينازع فيه ولا يقر به، فإن منع اطراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه، وقابلنا أحد الحدين بالآخر، وعرفنا ما فيه التفاوت من زيادة أو نقصان، وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان، وجردنا النظر إلى ذلك الوصف، وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة مثاله إذا قلنا: المغصوب مضمون وولد المغصوب مغصوب فكان مضمونا، فقالوا لا نسلم أن ولد المغصوب مغصوب، قلنا: حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير، وقد وجد، فربما منع كون اليد عادية، وكونه إثباتا، بل نقول: هذا ثبوت، ولكن ليس ذلك من غرضنا، بل ربما قال نسلم أن هذا موجود في ولد المغصوب، لكن لا نسلم أن هذا حد الغصب، فهذا لا يمكن إقامة برهان عليه، إلا أنا نقول: هو مطرد منعكس، فما الحد عندك فلا بد من ذكره حتى ننظر إلى موضع التفاوت، فيقول: بل حد الغصب إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة، فنقول قد زدت وصفا وهو الازالة، فلننظر هل يمكننا أن نقدر على اعتراف الخصم بثبوت الغصب مع عدم هذا الوصف فإن قدرنا عليه بان أن الزيادة عليه محذوفة، وذلك بأن نقول الغاصب من الغصب يضمن للمالك، وقد أثبت اليد المبطلة، ولم يزل المحقة، فإنها كانت زائلة فهذا طريق قطع النزاع مع المناظر، وأما الناظر مع نفسه إذا ررت له حقيقة له حقيقة الشئ وتخلص له اللفظ الدال على ما تحرر في مذهبه علم أنه واجد للحد فلا يعاند نفسه. القانون الخامس في حصر مداخل الخلل في الحدود وهي ثلاثة فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل، وتارة من جهة أمر مشترك بينهما، أما الخلل من جهة الجنس فأن يؤخذ الفصل بدله، كما يقال في العشق: إنه إفراط المحبة، وإنما ينبغي أن يقال إنه المحبة المفرطة، فالافراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة، ومن ذلك أن يؤخذ المحل بدل الجنس، كقولك في الكرسي إنه خشب يجلس عليه، وفي السيف إنه حديد يقطع به، بل ينبغي أن يقال للسيف إنه آلة صناعية من حديد مستطيلة، عرضها كذا، ويقطع بها كذا، فالآلة جنس، والحديد محل الصورة لا جنس، وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان موجودا والآن ليس بموجود، كقولك للرماد إنه خشب محترق، وللولد أنه نطفة مستحيلة، فإن الحديد موجود في السيف في الحال، والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد، ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس، كما يقال في حد العشرة أنها خمسة وخمسة، ومن ذلك أن توضع القدرة موضع المقدور، كما يقال حد العفيف: هو الذي يقوى على اجتناب اللذات الشهوانية، وهو فاسد، بل هو الذي يترك، وإلا فالفاسق يقوى على الترك ولا يترك، ومن ذلك أن يضع اللوازم التي ليست بذاتية بدل الجنس، كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الارض مثلا، ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس، كقولك: الشر هو ظلم الناس، والظلم نوع من الشر، وأما من جهة الفصل فأن يأخذ اللوازم، والعرضيات في الاحتراز بدل الذاتيات، وأن لا يورد جميع الفصول، وأما الامور المشتركة فمن ذلك أن يحد الشئ بما هو أخفى منه، كقول القائل: حد الحادث ما به القدرة ومن ذلك حد الشئ بما هو مساو له في الخفاء، كقولك: العلم ما يعلم به، أو ما يكون الذات به عالما، ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد، فيقول: حد العلم ما ليس بظن ولا جهل، وهكذا حتى يحصر الاضداد، وحد الزوج ما ليس بفرد، ثم يمكنك أن تقول في حد الفرد: ما ليس بزوج، فيدور الامر ولا يحصل له بيان، ومن ذلك أن يأخذ المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الاضافة، كقول القائل: حد الاب من له ابن، ثم لا يعجز أن يقول: حد الابن من له أب، بل ينبغي أن يقول: الاب حيوان تولد من نطفته حيوان آخر هو من نوعه، فهو أب من حيث هو كذلك، ولا يحيل على الابن، فإنهما في الجهل والمعرفة يتلازمان، ومن ذلك أن يأخذ المعلول في حد العلة، مع أنه لا يحد المعلول إلا بأن تؤخذ العلة في حده، كما يقول في حد الشمس إنه كوكب يطلع نهارا، فيقال: وما حد النهار؟ فيلزمه أن يقول: النهار زمان من طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح، ولذلك نظائر لا يمكن إحصاؤها. القانون السادس في أن المعنى الذي لا تركيب فيه البتة لا يمكن حده إلا بطريق شرح اللفظ، أو بطريق الرسم. وأما الحد الحقيقي فلا، والمعنى المفرد مثل الموجود، فإذا قيل لك: ما حد الموجود؟ فغايتك أن تقول: هو الشئ أو الثابت، فتكون قد أبدلت اسما باسم مرادف له، ربما يتساويان في التفهيم، وربما يكون أحدهما أخفى في موضع اللسان كمن يقول: ما العقار: فيقال الخمر، وما الغضنفر؟ فيقال: الاسد، وهذا أيضا إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر من المذكور في السؤال، ثم لا يكون إلا شرحا للفظ، وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الاسد فلا يتخلص له ذلك في عقله إلا بأن يقول: هو سبع، من صفته كيت وكيت، فأما تكرار الالفاظ المترادفة فلا يغنيه، ولو قلت: حد الموجود أنه المعلوم أو المذكور وقيدته بقيد احترزت به عن المعدوم، كنت ذكرت شيئا من توابعه ولوازمه، وكان حدك رسميا غير معرب عن الذات، فلا يكون حقيقيا، فإذا الموجود لا حد له فإنه مبدأ كل شرح، فكيف يشرح في نفسه، وإنما قلنا: المعنى المفرد ليس له الحد الحقيقي، لان معنى قول القائل: ما حد الشئ؟ قريب من معنى قوله: ما حد هذه الدار؟ وللدار جهات متعددة إليها ينتهي الحد، فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المختلفة المتعددة التي الدار محصورة مسورة بها، فإذا قال: ما حد السواد، فكأنه يطلب به المعاني، والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد، فإن السواد سواد ولون، وموجود وعرض، ومرئي ومعلوم، ومذكور واحد وكثير ومشرق وبراق، وكدر وغير ذلك من الاوصاف، وهذه الاوصاف بعضها عارض يزول، وبعضها لازم لا يزول، ولكن ليست ذاتية، ككونه معلوما وواحدا وكثيرا، وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه، ككونه لونا، فطالب الحد كأنه يقول إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد؟ لتجمع له تلك المعاني المتعددة، ويتخلص بأي يبتدئ بالاعم ويختم بالاخص، ولا يتعرض للعوارض، وربما يطلب أن لا يتعرض للوازم بل للذاتيات خاصة، فإذا لم يكن المعنى مؤتلفا من ذاتيات متعددة كالموجود فكيف يتصور تحديده؟ فكان السؤال عنه، كقول القائل: ما حد الكرة، ويقدر العالم كله كرة، فكيف يذكر حده على مثال حدود الدار، إذ ليس له حدود، فإن حده عبارة عن منقطعه، ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس سطوحا مختلفة ولا هو منته إلى مختلفة حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا فهذا المثال المحسوس وإن كان بعيدا عن المقصود ربما يفهم مقصود هذا الكلام ولا يفهم من قولي السواد مركب من معنى اللونية والسوادية واللونية جنس والسوادية نوع أن في السواد ذوات متعددة متباينة متفاضلة، فلا تقل إن السواد لون وسواد، بل لون ذلك اللون بعينه هو سواد ومعناه يتركب ويتعدد للعقل حتى يعقل اللونية مطلقا، ولا يخطر له السواد مثلا، ثم يعقل السواد، فيكون العقل قد عقل أمرا زائدا لا يمكنه جحد تفاصيله في الذهن، ولكن لا يمكن أن يعتقد تفاصيله في الوجود، ولا تظنن أن منكر الحال يقدر على حد شئ البتة والمتكلمون يسمون اللونية حالا لان منكر الحال إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه الحد وإن زاد شيئا للاحتراز فيقال له: إن الزيادة عين الأول أو غيره؟ فإن كان عينه فهو تكرار فاطرحه، وأن كان غيره فقد اعترف بأمرين. وإن قال في حد الجوهر: إنه موجود بطل بالعرض، فإن زاد أنه متحيز فقيل له: قولك متحيز مفهوم الموجود أو عينه؟ فإن كان عينه فكأنك قلت موجود موجود والمترادفة كالمتكررة، فهو إذا يبطل بالعرض، وإن كان غيره حتى اندفع النقض بقولك متحيز، ولم يندفع بقولك موجود، فهو غير بالمعنى لا باللفظ، فوجب الاعتراف بتغاير المعنى في العقل، والمقصود بيان أن المفرد لا يمكن أن يكون له حد حقيقي، وإنما يحد بحد لفظي، كقولك في حد الموجود إنه الشئ، أو رسمي كقولك في حد الموجود: أنه المنقسم إلى الخالق والمخلوق، والقادر والمقدور، أو الواحد والكثير، أو القديم والحادث أو الباقي والفاني، أو ما شئت من لوازم الموجود وتوابعه، وكل ذلك ليس ينبئ عن ذات الموجود عن تابع لازم لا يفارقه البتة. واعلم أن المركب إذا حددته بذكر آحاد الذاتيات توجه السؤال عن حد الآحاد، فإذا قيل لك: ما حد الشجر؟ فقلت: نبات قائم على ساق، فقيل لك: ما حد النبات؟ فتقول: جسم نام، فيقال: ما حد الجسم؟ فتقول: جوهر مؤتلف، أو الجوهر الطويل العريض العميق، فيقال: وما حد الجوهر؟ وهكذا، فإن كل مؤلف فيه مفردات، فله حقيقة، وحقيقته أيضا تأتلف من مفردات، ولا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا تحتاج إلى طلب بصيغة الحد، كما أن العلوم التصديقية تطلب بالبرهان عليها، وكل برهان ينتظم من مقدمتين، ولا بد لكل مقدمة أيضا من برهان يأتلف من مقدمتين، وهكذا فيتمادى إلى أن ينتهي إلى أوليات، فكما أن في العلوم أوليات فكذلك في المعارف، فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة، فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى، كثبوت حقيقة الوجود في العقل، فإن طلب الحقيقة فهو معاند كمن يطلب البرهان على أن الاثنين أكثر من الواحد، فهذا بيان ما أردنا ذكره من القوانين. |
12-06-2012, 02:47 PM | #8 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفن الثاني من دعامة الحد في الامتحانات للقوانين بحدود مفصلة
وقد أكثرنا أمثلتها في كتاب معيار العلم ومحك النظر، ونحن الآن مقتصرون على حد الحد وحد العلم وحد الواجب، لان هذا النمط من الكلا م دخيل في علم الاصول، فلا يليق فيه الاستقصاء. الامتحان الأول (حد الحد) اختلف الناس في حد الحد، فمن قائل يقول: حد الشئ هو حقيقته وذاته، ومن قائل يقول: حد الشئ هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يمنع ويجمع، ومن قائل ثالث يقول: هذه المسألة خلافية، فينصر أحد الحدين على الآخر، فانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث، فلم يعلم أن الاختلاف إنما يتصور بعد التوارد على شئ واحد، وهذان قد تباعدا وتنافرا وما تواردا على شئ واحد، وإنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة الاسم المشترك على ما سنذكره، فإن من يحد العين بأنه العضو المدرك للالوان بالرؤية لم يخالف من حده بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود، بل حد هذا أمرا مباينا لحقيقة الامر الآخر، وإنما اشتركا في اسم العين، فافهم هذا، فإنه قانون كثير النفع، فإن قلت: فما الصحيح عندك في حد الحد؟ فاعلم أن كل من طلب المعاني من الالفاظ ضاع وهلك، وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه، ومن قرر المعاني أولا في عقله، ثم أتبع المعاني الالفاظ فقد اهتدى، فلنقرر المعاني فنقول: الشئ له في الوجود أربع مراتب: الأولى: حقيقته في نفسه الثانية: ثبوت مثال حقيقته في الذهن، وهو الذي يعبر عنه بالعلم. الثالثة: تأليف صوت بحروف تدل عليه، وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس. الرابعة: تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهو الكتابة، فالكتابة تبع للفظ إذ تدل عليه، واللفظ تبع للعلم إذ يدل عليه، والعلم تبع للمعلوم، إذ يطابقه ويوافقه، وهذه الاربعة متطابقة متوازية، إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالاعصار والامم والآخرين وهو اللفظ والكتابة يختلفان بالاعصار والامم، لانهما موضوعان بالاختيار، ولكن الاوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها قصد بها مطابقة الحقيقة، ومعلوم أن الحد مأخوذ من المنع وإنما استعير لهذه المعاني لمشاركته في معنى المنع، فانظر المنع أين تجده في هذه الاربعة، فإذا ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشئ مخصوصة به إذ حقيقة كل شئ خاصيته التي له، وليست لغيره، فإذا الحقيقة جامعة مانعة وإن نظرت إلى مثال الحقيقة في الذهن وهو العلم وجدته أيضا كذلك لانه مطابق للحقيقة المانعة والمطابقة توجب المشاركة في المنع، وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها أيضا حاصرة، فإنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق، وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للفظ المطابق للعلم المطابق للحقيقة فهي أيضا مطابقة فقد وجدت المنع في الكل إلا أن العادة لم تجر بإطلاق الحد على الكتابة التي هي الرابعة، ولا على العلم الذي هو الثاني بل هو مشترك، بين الحقيقة وبين اللفظ، وكل لفظ مشترك بين حقيقتين، فلا بد أن يكون له حدان مختلفان، كلفظ العين، فإذا عند الاطلاق على نفس الشئ يكون حد الحد أنه حقيقة الشئ وذاته، وعند الاطلاق الثاني يكون حد الحد أنه اللفظ الجامع المانع إلا أن الذين أطلقوه على اللفظ أيضا اصطلاحهم مختلف، كما ذكرناه في الحد اللفظي والرسمي والحقيقي، فحد الحد عند من يقنع بتكرير اللفظ، كقولك الموجود هو الشئ، والعلم هو المعرفة، والحركة هي النقلة، هو تبديل اللفظ بما هو أوضح عند السائل، على شرط أن يجمع ويمنع. وأما حد الحد عند من يقنع بالرسميات فإنه اللفظ الشارح للشئ بتعديد صفاته الذاتية أو اللازمة على وجه يميزه عن غيره تمييزا يطرد وينعكس. وأما حده عند من لا يطلق اسم الحد إلا على الحقيقي فهو: إنه القول الدال على تمام ماهية الشئ، ولا يحتاج في هذا إلى ذكر الطرد والعكس، لان ذلك تبع للماهية بالضرورة، ولا يحتاج إلى التعرض للوازم والعوارض، فإنها لا تدل على الماهية، بل لا يدل إلا على الماهية إلا الذاتيات، فقد عرفت أن اسم الحد مشترك في الاصطلاحات بين الحقيقة وشرح اللفظ والجمع بالعوارض والدلالة على الماهية، فهذه أربعة أمور مختلفة، كما دل لفظ العين على أمور مختلفة، فتعلم صناعة الحد، فإذا ذكر لك اسم وطلب منك حده فانظر، فإن كان مشتركا فاطلب عدة المعاني التي فيها الاشتراك، فإن كانت ثلاثة فاطلب لها ثلاثة حدود، فإن الحقائق إذا اختلفت فلا بد من اختلاف الحدود، فإذا قيل لك ما الانسان، فلا تطمع في حد واحد، فإن الانسان مشترك بين أمور إذ يطلق على إنسان العين وله حد، وعلى الانسان المعروف وله حد آخر، وعلى الانسان المصنوع على الحائط المنقوش، وله حد آخر، وعلى الانسان الميت وله حد آخر، فإن اليد المقطوعة، والذكر المقطوع، يسمى ذكرا، وتسمى يدا، ولكن بغير الوجه الذي كانت تسمى به حين كانت غير مقطوعة، فإنها كانت تسمى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع، وبعد القطع تسمى به من حيث أن شكلها شكل آلة البطش، حتى لو بطل بالتقطيعات الكثيرة شكلها سلب هذا الاسم عنها، ولو صنع شكلها من خشب أو حجر أعطي الاسم، وكذلك إذا قيل: ما حد العقل؟ فلا تطمع في أن تحده بحد واحد، فإنه هوس، لان اسم العقل مشترك، يطلق على عدة معان، إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية، ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الانسان لدرك العلوم النظرية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقلا، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة، عن الهدو، فيقال: فلان عاقل، أي في هدو، وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم حتى أن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلا فلا يقال للحجاج عاقل بل داه، ولا يقال للكافر عاقل، وإن كان محيطا بجملة العلوم الطبية والهندسية، بل إما فاضل وإما داه وإما كيس، فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود، فيقال في حد العقل باعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية، كجواز الجائزات واستحالة المتسحيلات كما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله، وبالاعتبار الثاني أنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات، وهكذا بقية الاعتبارات. فإن قلت: فنرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الاختلاف في الحد، أترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء؟ فاعلم أن الاختلاف في الحد يتصور في موضعين: أحدهما: أن يكون اللفظ في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو قول إمام من الائمة يقصد الاطلاع على مراده به، فيكون ذلك اللفظ مشتركا، فيقع النزاع في مراده به، فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل، والتباين بعد التوارد، فالخلاف تباين بعد التوارد، وإلا فلا نزاع بين من يقول السماء قديمة، وبين من يقول: الانسان مجبور على الحركات، إذ لا توارد، فلو كان لفظ الحد في كتاب الله تعالى، أو في كتاب إمام، لجاز أن يتنازع في مراده، ويكون إيضاح ذلك من صناعة التفسير لا من صناعة النظر العقلي. الثاني: أن يقع الاختلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حده أمرا ثانيا لا يتحد حده على المذهبين فيختلف، كما يقول المعتزلي، حد العلم اعتقاد الشئ على ما هو به، ونحن نخالف في ذكر الشئ، فإن المعدوم عندنا ليس بشئ وهو معلوم، فالخلاف في مسألة أخرى يتعدى إلى هذا الحد، وكذلك يقول القائل: حد العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا وكذا، و يخالف من يقول في حده إنه غريزة يتميز بها الانسان عن الذئاب وسائر الحيوانات، من حيث إن القائل الأول ينكر تميز العين بغريزة عن العقب، وتميز الانسان بغريزة عن الذئاب بها يتهيأ للنظر في العقليات، لكن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم في القلب دون العقب، وفي الانسان دون الذئاب، وخلق البصر في العين دون العقب، لا لتميزه بغريزة استعد بسببها لقبوله، فيكون منشأ الاختلاف في الحد الاختلاف في إثبات هذه الغريزة أو نفيها، فهذه أمور، وإن أوردناها في معرض الامتحان، فقد أدرجنا فيها ما يجري على التحقيق مجرى القوانين. امتحان ثان (حد العلم اختلف في حد العلم، فقيل: إنه المعرفة، وهو حد لفظي وهو أضعف أنواع الحدود، فإنه تكرير، لفظ بذكر ما يرادفه، كما يقال: حد الاسد الليث، وحد العقار الخمر وحد الموجود الشئ، وحد الحركة النقلة، ولا يخرج عن كونه لفظيا بأن يقال: معرفة المعلوم على ما هو به، لانه في حكم تطويل وتكرير، إذ المعرفة لا تطلق إلا على ما هو كذلك، فهو كقول القائل: حد الموجود الشئ الذي له ثبوت ووجود، فإن هذا تطويل لا يخرجه عن كونه لفظيا. ولست أمنع من تسمية هذا حدا، فإن لفظ الحد مباح في اللغة لمن استعاره لما يريده مما فيه نوع من المنع، هذا إذا كان الحد عنده عبارة عن لفظ مانع، وإن كان عنده عبارة عن قول شارح لماهية الشئ مصور كنه حقيقته في ذهن السائل، فقد ظلم بإطلاق هذا الاسم على قوله: العلم هو المعرفة، وقيل أيضا أنه الذي يعلم به، وأنه الذي تكون الذات به عالمة، وهذا أبعد من الأول، فإنه مساو له في الخلو عن الشرح والدلالة على الماهية، ولكن قد يتوهم في الأول شرح اللفظ، بأن يكون أحد اللفظين عند السائل أشهر من الآخر، فيشرح الاخفى بالاشهر، أما العالم ويعلم فهما مشتقان من نفس العلم، ومن أشكل عليه المصدر كيف يتضح له بالمشتق منه، والمشتق أخفى من المشتق منه، وهو كقول القائل في حد الفضة: إنها التي تصاغ منها الاواني الفضية. وقد قيل في حد العلم: إنه الوصف الذي يتأتى للمتصف به إتقان الفعل وأحكامه، وهذا ذكر لازم من لوازم العلم، فيكون رسميا، وهو أبعد مما قبله، من حيث أنه أخص من العلم، فإنه لا يتناول إلا بعض العلوم، ويخرج منه العلم بالله وصفاته، إذ ليس يتأتى به إتقان فعل وأحكامه، ولكنه أقرب مما قبله بوجه، فإنه ذكر لازم قريب من الذات، ليفيد شرحا وبيانا، بخلاف قوله ما يعلم به، وما تكون الذات به عالمة، فإن قلت: فما حد العلم عندك؟ فاعلم أنه إسم مشترك، قد يطلق على الابصار والاحساس، وله حد بحسبه، ويطلق على التخيل، وله حد بحسبه، ويطلق على الظن، وله حد آخر، ويطلق على علم الله تعالى على وجه آخر أعلى وأشرف، ولست أعني به شرفا بمجرد العموم فقط بل بالذات والحقيقة، لانه معنى واحد محيط بجميع التفاصيل، ولا تفاصيل ولا تعدد في ذاته، وقد يطلق على إدراك العقل، وهو المقصود بالبيان، وربما يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتي، فإنا بينا أن ذلك عسير في أكثر الاشياء بل أكثر المدركات الحسية يتعسر تحديدها، فلو أردنا أن نحد رائحة المسك أو طعم العسل لم نقدر عليه، وإذا عجزنا عن حد المدركات فنحن عن تحديد الادراكات أعجز، ولكنا نقدر على شرح معنى العلم بتقسيم ومثال: أما التقسيم: فهو أن نميزه عما يلتبس به، ولا يخفى وجه تميزه عن الارادة والقدرة وسائر صفات النفس، وإنما يلتبس بالاعتقادات، ولا يخفى أيضا وجه تميزه عن الشك والظن، لان الجزم منتف عنهما، والعلم عبارة عن أمر جزم لا تردد فيه ولا تجويز، ولا يخفى أيضا، وجه تميزه عن الجهل، فإنه متعلق بالمجهول على خلاف ما هو به والعلم مطابق للمعلوم، وربما يبقى ملتبسا باعتقاد المقلد الشئ على ما هو به عن تلقف لا عن بصيرة، وعن جزم لا عن تردد، ولاجله خفي على المعتزلة حتى قالوا في حد العلم: إنه اعتقاد الشئ على ما هو به وهو خطأ من وجهين: أحدهما: تخصيص الشئ، مع أن العلم يتعلق بالمعدوم الذي ليس شيئا عندنا. والثاني: إن هذا الاعتقاد حاصل للمقلد، وليس بعالم قطعا، فإنه كما يتصور أن يعتقد الشئ جزما على خلاف ما هو به لا عن بصيرة كاعتقاد اليهودي والمشرك، فإنه تصميم جازم لا تردد فيه، يتصور أن يعتقد الشئ بمجرد التلقين والتلقف على ما هو به، مع الجزم الذي لا يخطر بباله جواز غيره، فوجه تميز العلم عن الاعتقاد، هو أن الاعتقاد معناه السبق إلى أحد معتقدي الشاك، مع الوقوف عليه من غير إخطار نقيضه بالبال، ومن غير تمكين نقيضه من الحلول في النفس فإن الشاك يقول: العالم حادث أم ليس بحادث؟ والمعتقد يقول: حادث، ويستمر عليه ولا يتسع صدره لتجويز القدم، والجاهل يقول: قديم، ويستمر عليه، والاعتقاد وإن وافق المعتقد فهو جنس من الجهل في نفسه، وإن خالفه بالاضافة، فإن معتقد كون زيد في الدار لو قدر استمراره عليه حتى خرج زيد من الدار بقي اعتقاده كما كان لم يتغير في نفسه، وإنما تغيرت إضافته، فإنه طابق المعتقد في حالة وخالفه في حالة، وأما العلم فيستحيل تقدير بقائه مع تغير المعلوم، فإنه كشف وانشراح، والاعتقاد عقدة على القلب، والعلم عبارة عن انحلال العقد، فهما مختلفان ولذلك لو أصغى المعتقد إلى المشكك لوجد لنقيض معتقده مجالا في نفسه، والعالم لا يجد ذلك أصلا وإن أصغى إلى الشبه المشككة، ولكن إذا سمع شبهة فإما أن يعرف حلها وإن لم تساعده العبارة في الحال، وإما أن تساعده العبارة أيضا على حلها، وعلى كل حال فلا يشك في بطلان الشبهة، بخلاف المقلد، وبعد هذا التقسيم والتمييز يكاد يكون العلم مرتسما في النفس بمعناه وحقيقته، من غير تكلف تحديد. وأما المثال: فهو أن إدراك البصيرة الباطنة تفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر، ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المبصر في القوة الباصرة من إنسان العين، كما يتوهم انطباع الصور في المرآة مثلا، فكما أن البصر يأخذ صور المبصرات، أي ينطبع فيها مثالها المطابق لها لا عينها، فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال يطابق صورتها، وكذلك يرى مثال النار في المرآة لا عين النار، فكذلك العقل على مثال مرآة تنطبع فيها صور المعقولات على ما هي عليها، وأعني بصور المعقولات حقائقها وماهياتها، فالعلم عبارة عن أخذ العقل صور المعقولات وهيآتها في نفسه وانطباعها فيه كما يظن من حيث الوهم انطباع الصور في المرآة، ففي المرآة ثلاثة أمور: الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيها، فكذلك جوهر الآدمي كحديدة المرآة وعقله، هيئة، وغريزة في جوهره ونفسه بها يتهيأ للانطباع بالمعقولات، كما أن المرآة بصقالتها واستدارتها تتهيأ لمحاكاة الصور، فحصول الصور في مرآة العقل التي هي مثال الاشياء هو العلم، والغريزة التي بها يتهيأ لقبول هذه الصورة هي العقل، والنفس التي هي حقيقة الآدمي المخصوصة بهذه الغريزة المهيأة لقبول حقائق المعقولات كالمرآة، فالتقسيم الأول يقطع العلم عن مظنان الاشتباه، وهذا المثال يفهمك حقيقة العلم، فحقائق المعقولات إذا انطبع بها النفس العاقلة تسمى علما، وكما أن السماء والارض والاشجار والانهار يتصور أن ترى في المرآة حتى كأنها موجودة في المرآة وكأن المرآة حاوية لجميعها، فكذلك الحضرة الالهية بجملتها يتصور أن تنطبع بها نفس الآدمي، والحضرة الالهية عبارة عن جملة الموجودات، فكلها من الحضرة الالهية، إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وأفعاله، فإذا انطبعت بها صارت كأنها كل العالم لاحاطتها به تصورا وانطباعا، وعند ذلك ربما ظن من لا يدري الحلول، فيكون كمن ظن أن الصورة حالة في المرآة وهو غلط، لانها ليست في المرآة، ولكن كأنها في المرآة، فهذا ما نرى الاقتصار عليه في شرح حقيقة العلم في هذه المقدمة التي هي علاوة على هذا العلم. امتحان ثالث (تعريف الواجب) اختلفوا في حد الواجب، فقيل: الواجب ما تعلق به الايجاب، وهو فاسد، كقولهم: العلم ما يعلم به، وقيل: ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، وقيل: ما يجب بتركه العقاب، وقيل ما لا يجوز العزم على تركه، وقيل: ما يصير المكلف بتركه عاصيا، وقيل: ما يلام تاركه شرعا، وأكثر هذه الحدود تعرض للوازم والتوابع، وسبيلك إن أردت الوقوف على حقيقته أن تتوصل إليه بالتقسيم كما أرشدناك إليه في حد العلم، فاعلم أن الالفاظ في هذا الفن خمسة: الواجب، والمحظور، والمندوب، و المكروه، والمباح، فدع الالفاظ جانبا ورد النظر إلى المعنى أولا، فأنت تعلم أن الواجب اسم مشترك، إذ يطلقه المتكلم في مقابلة الممتنع ويقول: وجود الله تعالى واجب، وقال الله تعالى: {وجبت جنوبها} (الحج: 63) ويقال: وجبت الشمس، وله بكل معنى عبارة، والمطلوب الآن مراد الفقهاء، وهذه الالفاظ لا شك أنها لا تطلق على جوهر بل على عرض، ولا على كل عرض، بل من جملتها على الافعال فقط، ومن الافعال على أفعال المكلفين لا على أفعال البهائم، فإذا نظرك إلى أقسام الفعل لا من حيث كونه مقدورا وحادثا ومعلوما ومكتسبا و مخترعا، وله بحسب كل نسبة انقسامات، إذ عوارض الافعال ولوازمها كثيرة فلا نظر فيها ولكن إطلاق هذا الاسم عليها من حيث نسبتها إلى خطار الشرع فقط، فنقسم الافعال بالاضافة إلى خطاب الشرع، فنعلم أن الافعال تنقسم إلى ما لا يتعلق به خطاب الشرع كفعل المجنون وإلى ما يتعلق به، والذي يتعلق به ينقسم إلى ما يتعلق به على وجه التخيير والتسوية بين الاقدام عليه وبين الاحجام عنه ويسمى مباحا، وإلى ما ترجح فعله على تركه وإلى ما ترجح تركه على فعله، والذي ترجح فعله على تركه ينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على تركه ويسمى مندوبا، وإلى ما أشعر بأنه يعاقب على تركه ويسمى واجبا، ثم ربما خص فريق اسم الواجب بما أشعر بالعقوبة عليه ظنا، وما أشعر به قطعا، خصوه باسم الفرض، ثم لا مشاحة في الالفاظ بعد معرفة المعاني، وأما المرجح تركه فينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على فعله ويسمى مكروها، وقد يكون منه ما أشعر بعقاب على فعله في الدنيا كقوله صلى الله عليه وسلم: من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه وإلى ما أشعر بعقاب في الآخرة على فعله وهو المسمى محظورا وحراما ومعصية، فإن قلت: فما معنى قولك: أشعر؟ فمعناه أنه عرف بدلالة من خطاب صريح أو قرينة أو معنى مستنبط أو فعل أو إشارة، فالاشعار يعم جميع المدارك، فإن قلت: فما معنى قولك: عليه عقاب؟ قلنا: معناه أنه أخبر أنه سبب العقاب في الآخرة، فإن قلت: فما المراد بكونه سببا؟ فالمراد به ما يفهم من قولنا، الاكل سبب الشبع، وحز الرقبة سبب الموت، والضرب سبب الالم، والدواء سبب الشفاء، فإن قلت: فلو كان سببا لكان لا يتصور أن لا يعاقب، وكم من تارك واجب يعفى عنه ولا يعاقب فأقول: ليس كذلك، إذ لا يفهم من قولنا: الضرب سبب الالم، والدواء سبب الشفاء، أن ذلك واجب في كل شخص أو في معين مشار إليه، بل يجوز أن يعرض في المحل أمر يدفع السبب ولا يدل ذلك على بطلان السببية، فرب دواء لا ينفع، ورب ضرب لا يدرك المضروب ألمه لكونه مشغول النفس بشئ آخر كمن يجرح في حال القتال وهو لا يحس في الحال به، وكما أن العلة قد تستحكم فتدفع أثر الدواء، فكذلك قد يكون في سريرة الشخص وباطنه أخلاق رضية، وخصال محمودة عند الله تعالى مرضية توجب العفو عن جريمته، ولا يوجب ذلك خروج الجريمة عن كونها سبب العقاب، فإن قال قائل هل يتصور أن يكون للشئ الواحد حدان؟ قلنا: أما الحد اللفظي: فيجوز أن يكون ألفا إذ ذلك بكثرة الاسامي الموضوعة للشئ الواحد. وأما الرسمي: فيجوز أيضا أن يكثر لان عوارض الشئ الواحد ولوازمه قد تكثر. وأما الحد الحقيقي: فلا يتصور أن يكون إلا واحدا، لان الذاتيات محصورة، فإن لم يذكرها لم يكن حدا حقيقيا، وإن ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو. فإذا هذا الحد لا يتعدد، وإن جاز أن تختلف العبارات المترادفة، كما يقال في حد الحادث أنه الموجود بعد العدم، أو الكائن بعد أن لم يكن، أو الموجود المسبوق بعدم، أو الموجود عن عدم فهذه العبارات لا تؤدي إلا معنى واحدا، فإنها في حكم المترادفة، ولنقتصر في الامتحانات على هذا القدر، فالتنبيه حاصل به إن شاء الله تعالى. |
12-06-2012, 02:47 PM | #9 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الدعامة الثانية من مدارك العقول في البرهان الذي به التوصل إلى العلوم التصديقية المطلوبة بالبحث والنظر وهذه الدعامة تشتمل على ثلاثة فنون: سوابق ولواحق ومقاصد.
الفن الأول: في السوابق ويشتمل على تمهيد كلي وثلاثة فصول. التمهيد اعلم أن البرهان عبارة عن أقاويل مخصوصة، ألفت تأليفا مخصوصا بشرط مخصوص يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر بالنظر، وهذه الاقاويل إذا وضعت في البرهان لاقتباس المطلوب منها سميت مقدمات، والخلل في البرهان تارة يدخل من جهة نفس المقدمات، إذ قد تكون خالية عن شروطها، وأخرى من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية ومرة منها جميعا ومثاله من المحسوسات البيت المبني، فإنه أمر مركب تارة يختل بسبب في هيئة التأليف، بأن تكون الحيطان معوجة، والسقف منخفضا إلى موضع قريب من الارض، فيكون فاسدا من حيث الصورة، وإن كانت الاحجار والجذوع وسائر الآلات صحيحة، وتارة يكون البيت صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ولكن يكون الخلل من رخاوة في الجذوع وتشعب في اللبنات، هذا حكم البرهان والحد وكل أمر مركب، فإن الخلل إما أن يكون في هيئة تركيبه، وإما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب، كالثوب في القميص، والخشب في الكرسي، واللبن في الحائط، والجذوع في السقف، وكما أن من يريد بناء بيت بعيد عن الخلل يفتقر إلى أن يعد الآلات المفردة، أولا كالجذوع واللبن والطين، ثم إن أراد اللبن افتقر إلى إعداد مفرداته وهو التبن والتراب والماء والقالب الذي فيه يضرب فيبتدئ أولا بالاجزاء المفردة، فيركبها، ثم يركب المركب، وهكذا إلى آخر العمل، وكذلك طالب البرهان، ينبغي أن ينظر في نظمه وصورته، وفي المقدمات التي فيها النظم والترتيب، وأقل ما ينتظم منه برهان مقدمتان، أعني: علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب، وأقل ما تحصل منه مقدمة معرفتان توضع إحداهما مخبرا عنها، والاخرى خبرا ووصفا، فقد انقسم البرهان إلى مقدمتين، وانقسمت كل مقدمة إلى معرفتين، تنسب إحداهما إلى الاخرى، وكل مفرد فهو معنى، ويدل عليه لا محالة بلفظ، فيجب ضرورة أن ننظر في المعاني المفردة وأقسامها، ثم في الالفاظ المفردة ووجوه دلالتها، ثم إذا فهمنا اللفظ مفردا والمعنى مفردا ألفنا معنيين، وجعلناهما مقدمة، وننظر في حكم المقدمة وشروطها، ثم نجمع مقدمتين ونصوغ منهما برهانا، وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة، وكل من أراد أن يعرف البرهان بغير هذا الطريق فقد طمع في المحال، وكان كمن طمع في أن يكون كاتبا يكتب الخطوط المنظومة وهو لا يحسن كتابة الكلمات، أو يكتب الكلمات وهو لا يحسن كتابة الحروف المفردة، وهكذا القول في كل مركب، فإن أجزاء المركب تقدم على المركب بالضرورة حى لا يوصف القادر الاكبر بالقدرة على خلق العلم بالمركب دون الآحاد، إذ لا يوصف بالقدرة على تعليم الخطوط المنظومة دون تعليم الكلمات، فلهذه الضرورة اشتملت دعامة البرهان على فن في السوابق وفن في المقاصد وفن في اللواحق. |
12-06-2012, 02:48 PM | #10 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفن الأول في السوابق وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في دلالة الالفاظ على المعاني ويتضح المقصود منه بتقسمات. التقسيم الأول: إن دلالة اللفظ على المعنى تنحصر في ثلاثة أوجه: وهي المطابقة والتضمن والالتزام، فإن لفظ البيت يدل على معنى البيت بطريق المطابقة، ويدل على السقف وحده بطريق التضمن، لان البيت يتضمن السقف لان البيت عبارة عن السقف والحيطان، وكما يدل لفظ الفرس على الجسم، إذ لا فرس إلا وهو جسم، وأما طريق الالتزام فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط فإنه غير موضوع للحائط، وضع لفظ الحائط للحائط، حتى يكون مطابقا، ولا هو متضمن، إذ ليس الحائط جزءا من السقف، كما كان السقف جزءا من نفس البيت، وكما كان الحائط جزءا من نفس البيت، لكنه كالرفيق الملازم الخارج عن ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه، وإياك أن تستعمل في نظر العقل من الالفاظ ما يدل بطريق الالتزام، لكن اقتصر على ما يدل بطريق المطابقة والتضمن، لان الدلالة بطريق الالتزام لا تنحصر في حد إذ السقف يلزم الحائط، والحائط الاس، والاس الارض، وذلك لا ينحصر. التقسيم الثاني: إن الالفاظ بالاضافة إلى خصوص المعنى وشموله تنقسم إلى لفظ يدل على عين واحدة، ونسميه معينا، كقولك: زيد، وهذه الشجرة، وهذا الفرس، وهذا السواد، وإلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد، ونسميه مطلقا. والأول: حده اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد بعينه، فلو قصدت اشتراك غيره فيه منع نفس مفهوم اللفظ منه. وأما المطلق: فهو الذي لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الاشتراك في معناه، كقولك: السواد، والحركة، والفرس، والانسان، وبالجملة الاسم المفرد في لغة العرب، إذا أدخل عليه الالف واللام للعموم، فإن قلت: وكيف يستقيم هذا وقولك: الاله، والشمس، والارض، لا يدل إلا على شئ واحد مفرد مع دخول الالف واللام؟ فاعلم أن هذا غلط، فإن امتناع الشركة ها هنا ليس لنفس مفهوم اللفظ، بل الذي وضع اللغة لو جوز في الاله عددا لكان يرى هذا اللفظ عاما في الآلهة كلها، فإن امتنع الشمول لم يكن لوضع اللفظ، بل لاستحالة وجود إله ثان، فلم يكن امتناع الشركة لمفهوم اللفظ، والمانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة، فلو فرضنا عوالم في كل واحد شمس وأرض كان قولنا: الشمس والارض، شاملا للكل، فتأمل هذا، فإنه مزلة قدم في جملة من الامور النظرية فإن من لا يفرق بين قوله السواد، وبين قوله: هذا السواد، وبين قوله: الشمس، وبين قوله: هذه الشمس، عظم سهوه في النظريات من حيث لا يدري. التقسيم الثالث: إن الالفاظ المتعددة بالاضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل ولنخترع لها أربعة ألفاظ وهي: المترادفة، والمتباينة، والمتواطئة، والمشتركة. أما المترادفة: فنعني بها الالفاظ المختلفة: والصيغ المتواردة على مسمى واحد، كالخمر، والعقار والليث والاسد، والسهم، والنشاب، وبالجملة: كل اسمين لمسمى واحد يتناوله أحدهما من حيث يتناوله الآخر، من غير فرق. وأما المتباينة: فنعني بها الاسامي المختلفة للمعاني المختلفة كالسواد والقدرة والاسد والمفتاح والسماء والارض وسائر الاسامي، وهي الاكثر. وأما المتواطئة: فهي التي تنطلق على أشياء متغايرة بالعدد، ولكنها متفقة بالمعنى الذي وضع الاسم عليها، كاسم الرجل، فإنه ينطلق على زيد وعمرو وبكر وخالد، واسم الجسم ينطلق على السماء والارض والانسان، لاشتراك هذه الاعيان في معنى الجسمية التي وضع الاسم بإزائها، وكل اسم مطلق ليس بمعين، كما سبق، فإنه ينطلق على آحاد مسمياته الكثيرة بطريق التواطؤ، كاسم اللون، للسواد والبياض والحمرة، فإنها متفقة في المعنى الذي به سمي اللون لونا، وليس بطريق الاشتراك البتة. وأما المشتركة فهي: الاسامي التي تنطلق على مسميات مختلفة لا تشترك في الحد والحقيقة البتة، كاسم العين للعضو الباصر، وللميزان، وللموضع الذي يتفجر منه الماء، وهي العين الفوارة، وللذهب، وللشمس، وكاسم المشتري لقابل عقد البيع وللكوكب المعروف، ولقد ثار من ارتباك المشتركة بالمتواطئة غلط كثير في العقليات، حتى ظن من ضعفاء العقول أن السواد لا يشارك البياض في اللونية إلا من حيث الاسم، وإن ذلك كمشاركة الذهب للمحدقة الباصرة في اسم العين، وكمشاركة قابل عقد البيع للكوكب في المشتري، وبالجملة: الاهتمام بتمييز المشتركة عن المتواطئة مهم، فلنرد له شرحا فنقول: الاسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرناه، وقد يدل على المتضادين، كالجلل للحقير والخطير، والناهل للعطشان والريان، والجون للسواد والبياض، والقرء للطهر والحيض، واعلم أن المشترك قد يكون مشكلا قريب الشبه من المتواطئ ويعسر على الذهن، وإن كان في غاية الصفاء الفرق، ولنسم ذلك متشابها، وذلك مثل اسم النور الواقع على الضوء المبصر من الشمس والنار والواقع على العقل الذي به يهتدى في الغوامض، فلا مشاركة بين حقيقة ذات العقل والضوء إلا كمشاركة السماء للانسان في كونها جسما، إذ الجسمية فيهما لا تختلف البتة، مع أنه ذاتي لهما، ويقرب من لفظ النور لفظ الحي على النبات والحيوان، فإنه بالاشتراك المحض إذ يراد به من بعض النبات المعنى الذي به نماؤه، ومن الحيوان المعنى الذي به يحس ويتحرك بالارادة، وإطلاقه على الباري تعالى إذا تأملت عرفت أنه لمعنى ثالث يخالف الامرين جميعا، ومن أمثال هذه تتابع الاغاليط مغلطة أخرى، قد تلتبس المترادفة بالمتباينة، وذلك إذا أطلقت أسام مختلفة على شئ واحد باعتبارات مختلفة، ربما ظن أنها مترادفة كالسيف والمهند والصارم، فإن المهند يدل على السيف مع زيادة نسبة إلى الهند، فخالف إذا مفهومه مفهوم السيف، والصارم يدل على السيف مع صفة الحدة والقطع، لا كالاسد والليث، وهذا كما أنا في اصطلاحاتنا النظرية نحتاج إلى تبديل الاسامي على شئ واحد عند تبدل اعتباراته، كما أنا نسمي العلم التصديقي الذي هو نسبة بين مفردين دعوى إذا تحدى به المتحدي ولم يكن عليه برهان، إن كان في مقابلة خصم، وإن لم يكن في مقابلة خصم سميناه قضية، كأنه قضى فيه على شئ بشئ، فإن خاض في ترتيب قياس الدليل عليه سميناه مطلوبا، فإن دل بقياسه على صحته سميناه نتيجة، فإن استعمله دليلا في طلب أمر آخر ورتبه في أجزاء القياس سميناه مقدمة وهذا ونظائره مما يكثر. مثال الغلط في المشترك: قول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة المكره على القتل: يلزمه القصاص، لانه مختار، ويقول الحنفي، لا يلزمه القصاص، لانه مكره، وليس بمختار، ويكاد الذهن لا ينبو عن التصديق بالامرين، وأنت تعلم أن التصديق بالضدين محال، وترى الفقهاء يتعثرون فيه ولا يهتدون إلى حله، وإنما ذلك لان لفظ المختار مشترك، إذ قد يجعل لفظ المختار مراد فاللفظ القادر ومساويا له إذ قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة كالمحمول، فيقال: هذا عاجز محمول، وهذا قادر مختار، ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل وتركه، وهو صادق على المكره، وقد يعبر بالمختار عمن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته، بلا تحرك دواعيه من خارج، وهذا يكذب على المكره، ونقيضه وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه، فإذا صدق عليه أنه مختار وأنه ليس بمختار، ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت، ولهذا نظائر في النظريات لا تحصى تاهت فيها عقول الضعفاء، فليستدل بهذا القليل على الكثير. الفصل الثاني من الفن الأول: النظر في المعاني المفرد ة ويظهر الغرض من ذلك بتقسيمات ثلاثة: الأول: أن المعنى إذا وصف بالمعنى ونسب إليه وجد إما ذاتيا وإما عرضيا وإما لازما وقد فصلناه. والثاني: أنه إذا نسب إليه وجد إما أعم كالوجود بالاضافة إلى الجسمية، وإما أخص كالجسمية بالاضافة إلى الوجود، وإما مساويا كالمتحيز بالاضافة إلى الجوهر عند قوم، وإلى الجسم عند قوم. الثالث: إن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة: محسوسة ومتخيلة ومعقولة، ولنصطلح على تسمية سبب الادراك قوة فنقول في حدقتك معنى به تميزت الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر بها، وإذا بطل ذلك المعنى بطل الابصار، والحالة التي تدركها عند الابصار شرطها وجود المبصر، فلو انعدم المبصر انعدم الابصار، وتبقى صورته في دماغك كأنك تنظر إليها، وهذه الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل، بل عدمه وغيبته لا تنفي الحالة المسماة تخيلا، وتنفي الحالة التي تسمى إبصارا، ولما كنت تحس بالمتخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك، فاعلم أن في الدماغ غريزة وصفة بها يتهيأ للتخيل، وبها باين البطن والفخذ، كما باين العين الجبهة والعقب في الابصار بمعنى اختص به لا محالة، والصبي في أول نشئه تقوى فيه قوة الابصار لا قوة التخيل فلذلك إذا ولع بشئ فغيبته عنه وأشغلته بغيره اشتغل به ولها عنه، وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للتخيل ولا يفسد الابصار، فيرى الاشياء، ولكنه كما تغيب عنه ينساها، وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الانسان، ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكر صورته التي كانت له في دماغه، فعرف أنه موافق له، وأنه مستلذ لديه فبادر إليه فلو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته لها ثانيا كرؤيته لها أولا حتى لا يبادر إليه ما لم يجربه بالذوق مرة أخرى، ثم فيك قوة ثالثة شريفة يباين الانسان بها البهيمة تسمى عقلا، محلها إما دماغك وإما قلبك، وعند من يرى النفس جوهرا قائما بذاته غير متحيز محلها النفس، وقوة العقل تباين قوة التخيل، مباينة أشد من مباينة التخيل للابصار إذ ليس بين قوة الابصار وقوة التخيل فرق، إلا أن وجود المبصر شرط لبقاء الابصار، وليس شرطا لبقاء التخيل، وإلا فصورة الفرس تدخل في الابصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص، وبعد منك مخصوص، ويبقى في التخيل ذلك البعد، وذلك القدر واللون، وذلك الوضع والشكل، حتى كأنك تنظر إليه، ولعمري فيك قوة رابعة تسمى: المفكرة، شأنها أن تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال، وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شئ آخر ولكن إذا حضر في الخيال صورة إنسان قدر على أن يجعلها نصفين، فيصور نصف إنسان وربما ركب شخصا نصفه من إنسان، ونصفه من فرس، وربما تصور إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الانسان، وحده وصورة الطير وحده، وهذه القوة تجمع بينهما، كما تفرق بين نصفي الانسان، وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال، بل كل تصوراتها بالتفريق والتأليف في الصور الحاصلة في الخيال، و المقصود أن مباينة إدراك العقل لادراك التخيل أشد من مباينة التخيل للابصار، إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العارية عن القرائن الغريبة التي ليست داخلة في ذاتها، أعني التي ليست ذاتية، كما سبق، فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص ووضع مخصوص منك بقب أو بعد، ومعلوم أن الشكل غير اللون، والقدر غير الشكل، فإن المثلث له شكل واحد، صغيرا كان أو كبيرا، وإنما إدراك هذه المفردات المجردة بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلا، فيدرك السواد، ويقضي بقضايا، ويدرك اللونية مجردة، ويدرك الحيوانية والجسمية مجردة، وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره الالتفات إلى العاقل وغير العاقل، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين، وحيث يستمر في نظره قاضيا على الالوان بقضية، قد لا يحضر معنى السوادية والبياضية وغيرهما، وهذه من عجيب خواصها، وبديع أفعالها، فإذا رأى فرسا واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير، والاشهب والكميت، و البعيد منه في المكان والقريب، بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة، متنزهة عن كل قرينة ليست ذاتية لها، فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتيا، بل عارضا أو لازما في الوجود، إذ مختلفات اللون والقدر تشترك في حقيقة الفرسية، وهذه المطلقات المجردة الشاملة لامور مختلفة هي التي يعبر عنها المتكلمون بالاحوال والوجوه والاحكام، ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة، ويزعمون أنها موجودة في الاذهان لا في الاعيان، وتارة يعبرون عنها بأنها غير موجودة من خارج، بل من داخل، يعنون خارج الذهن وداخله، ويقول أرباب الاحوال إنها أمور ثابتة، تارة يقولون إنها موجودة معلومة، وتارة يقولون لا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة، وقد دارت فيه رؤوسهم وحارت عقولهم، والعجب أنه أول منزل ينفصل فيه المعقول عن المحسوس، إذ من هاهنا يأخذ العقل الانساني في التصرف، وما كان قبله كان يشارك التخيل البهيمي فيه التخيل الانساني، ومن تحير في أول منزل من منازل العقل كيف يرجى فلاحه في تصرفاته. |
12-06-2012, 02:49 PM | #11 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفصل الثالث من السوابق في أحكام المعاني المؤلفة
قد نظرنا في مجرد اللفظ، ثم في مجرد المعنى، فننظر الآن في تأليف المعنى على وجه يتطرق إليه التصديق والتكذيب، كقولنا مثلا: العالم حادث، والباري تعالى قديم، فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين معرفتين لذاتين مفردتين بنسبة إحداهما إلى الاخرى، إما بالاثبات، كقولك: العالم حادث، أو بالسلب كقولك: العالم ليس بقديم. وقد التأم هذا من جزأين، يسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبرا، ويسمي المتكلمون أحدهما وصفا، والآخر موصوفا، ويسمي المنطقيون أحدهما موضوعا، والآخر محمولا، ويسمي الفقهاء أحدهما حكما، والآخر محكوما عليه، ويسمي المجموع قضية، وأحكام القضايا كثيرة، ونحن نذكر منها ما تكثر الحاجة إليه وتضر الغفلة عنه، وهو حكمان: الأول: إن القضية تنقسم بالاضافة إلى المقضى عليه إلى التعيين والاهمال والعموم والخصوص، فهي أربع: الأولى: قضية في عين، كقولنا: زيد كاتب وهذا السواد عرض. الثانية: قضية مطلقة خاصة، كقولنا: بعض الناس عالم، وبعض الاجسام ساكن. الثالثة: قضية مطلقة عامة، كقولنا: كل جسم متحيز وكل سواد لون. الرابعة: قضية مهملة، كقولنا: الانسان في خسر. وعلة هذه القسمة أن المحكوم عليه إما أن يكون عينا مشارا إليه أو لا يكون عينا فإن لم يكن عينا فإما أن يحصر بسور يبين مقداره بكليته، فتكون مطلقة عامة، أو بجزئيته فتكون خاصة، أو لا يحصر بسور فتكون مهملة، والسور هو قولك " كل " وبعض، وما يقوم مقامهما، ومن طرق المغالطين في النظر استعمال المهملات بدل القضايا العامة، فإن المهملات قد يراد بها الخصوص والعموم، فيصدق طرفا النقيض، كقولك: الانسان في خسر، تعني الكافر، الانسان ليس في خسر، تعني الانبياء، ولا ينبغي أن يسامح بهذا في النظريات، مثاله أن يقول الشفعوي مثلا: معلوم أن المطعوم ربوي والسفرجل مطعوم، فهو إذا ربوي، فإن قيل: لم قلت المطعوم ربوي؟ فتقول: دليله البر والشعير والتمر بمعنى، فإنها مطعومات، وهي ربوية، فينبغي أن يقال: فقولك المطعوم ربوي أردت به كل المطعومات أو بعضها، فإن أردت البعض لم تلزم النتيجة، إذ يمكن أن يكون السفرجل من البعض الذي ليس بربوي، ويكون هذا خللا في نظم القياس كما يأتي وجهه، وإن أردت الكل فمن أين عرفت هذا؟ وما عددته من البر والشعير ليس كل المطعومات؟ النظر الثاني: في شروط النقيض، وهو محتاج إليه، إذ رب مطلوب لا يقوم الدليل عليه ولكن على بطلان نقيضه، فيستبان، من إبطاله صحة نقيضه، والقضيتان المتناقضتان يعني بهما كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الاخرى بالضرورة، كقولنا: العالم حادث، العالم ليس بحادث، وإنما يلزم صدق إحداهما عند كذب الاخرى بستة شروط: الأول: أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحدا بالذات لا بمجرد اللفظ، فإن اتحد اللفظ دون المعنى لم يتناقضا، كقولك: النور مدرك بالبصر غير مدرك بالبصر، إذا أردت بأحدهما الضوء، وبالآخر العقل، ولذلك لا يتناقض قول الفقهاء المضطر مختار المضطر ليس بمختار، وقولهم: المضطر آثم المضطر ليس بآثم، إذ قد يعبر بالمضطر عن المرتعد والمحمول المطروح على غيره، وقد يعبر به عن المدعو بالسيف إلى الفعل، فالاسم متحد والمعنى مختلف. الثاني: أن يكون الحكم واحدا والاسم مختلفا، كقولك: العالم قديم العالم ليس بقديم، أردت بأحد القديمين ما أراده الله تعالى بقوله: {كالعرجون القديم} (يس: 93) ولذلك لم يتناقض قولهم: المكره مختار، المكره ليس بمختار، لان المختار عبارة عن معنيين مختلفين. الثالث: أن تتحد الاضافة في الامور الاضافية، فإنك لو قلت: زيد أب زيد ليس بأب، لم يتناقضا، إذ يكون أبا لبكر ولا يكون أبا لخالد، وكذلك تقول: زيد أب زيد ابن فلا يتعدد بالاضافة إلى شخصين، والعشرة نصف، والعشرة ليست بنصف، أي بالاضافة إلى العشرين والثلاثين، وكما يقال: المرأة مولى عليها، المرأة غير مولى عليها وهما صادقان بالاضافة إلى النكاح والبيع، لا إلى شئ واحد وإلى العصبة والاجنبي لا إلى شخص واحد. الرابع: أن يتساويا في القوة والفعل، فإنك تقول: الماء في الكوز مرو، أي بالقوة، وليس الماء بمرو أي بالفعل، والسيف في الغمد قاطع وليس بقاطع، ومنه ثار الخلاف في أن البارئ في الازل خالق أو ليس بخالق. الخامس: التساوي في الجزء والكل، فإنك تقول الزنجي أسود، الزنجي ليس بأسود، أي ليس بأسود الاسنان، وعنه نشأ الغلط، حيث قيل إن العالمية حال لزيد بجملته، لان زيدا عبارة عن جملته، ولم يعرف أنا إذا قلنا زيد في بغداد، إذ لم نعن به أنه في جميع بغداد، بل في جزء منها، وهو مكان يساوي مساحته. السادس: التساوي في المكان والزمان، فإنك تقول: العالم حادث العالم ليس بحادث، أي هو حادث عن أول وجوده وليس بحادث قبله ولا بعده، بل قبله معدوم وبعده باق، والصبي تنبت له أسنان، والصبي لا تنبت له أسنان، ونعني بأحدهما السنة الأولى وبالآخر التي بعدها، وبالجملة فالقضية المتناقضة هي التي تسلب ما أثبتته الأولى بعينه عما أثبتته بعينه، وفي ذلك الوقت والمكان والحال، وبتلك الاضافة بعينها، وبالقوة إن كان ذلك بالقوة، وبالفعل إن كان ذلك بالفعل، وكذلك في الجزء والكل وتحصيل ذلك بأن لا تخالف القضية النافية المثبتة إلا في تبادل النفي بالاثبات فقط. |
12-06-2012, 02:49 PM | #12 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفن الثاني في المقاصد وفيه فصلان: فصل في صورة البرهان وفصل في مادته.
الفصل الأول: في صورة البرهان والبرهان عبارة عن مقدمتين معلومتين تؤلف تأليفا مخصوصا بشرط مخصوص فيتولد بينهما نتيجة وليس يتحد نمطه بل يرجع إلى ثلاثة أنواع مختلفة المأخذ والبقايا ترجع إليها. النمط الأول: ثلاثة أضرب، مثال الأول قولنا: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف حادث، فلزم أن كل جسم حادث، ومن الفقه قولنا: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فلزم أن كل نبيذ حرام، فهاتان مقدمتان، إذا سلمتا على هذا الوجه لزم بالضرورة تحريم النبيذ فإن كانت المقدمات قطعية سميناها برهانا وإن كانت مسلمة سميناها قياسا جدليا وإن كانت مظنونة سميناها قياسا فقهيا، وسيأتي الفرق بين اليقين والظن، إذا ذكرنا أصل القياس، فإن كل مقدمة أصل، فإذا ازدوج أصلان حصلت النتيجة، وعادة الفقهاء في مثل هذا النظم أنهم يقولون: النبيذ مسكر، فكان حراما، قياسا على الخمر، وهذا لا تنقطع المطالبة عنه ما لم يرد إلى النظم الذي ذكرناه، فإن رد إلى هذا النظم ولم يكن مسلما فلا تلزم النتيجة إلا بإقامة الدليل حتى يثبت كونه مسكرا إن نوزع فيه بالحس والتجربة، وكون المسكر حراما بالخبر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: كل مسكر حرام وقد ذكرنا في كتاب أساس القياس أن تسمية هذا قياسا تجوز فإن حاصله راجع إلى ازدواج خصوص تحت عموم، وإذا فهمت صورة هذا النظم فاعلم أن في هذا البرهان مقدمتين، إحداهما، قولنا: كل نبيذ مسكر، والاخرى، قولنا: كل مسكر حرام، وكل مقدمة تشتمل على جزأين، مبتدأ وخبر، المبتدأ محكوم عليه والخبر حكم، فيكون مجموع أجزاء البرهان، أربعة أمور، إلا أن أمرا واحدا يتكرر في المقدمتين فيعود إلى ثلاثة أجزاء بالضرورة، لانها لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شئ واحد وبطل الازدواج بينهما، فلا تتولد النتيجة، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر، ثم لم تتعرض في المقدمة الثانية لا للنبيذ ولا للمسكر لكن قلت: والمغصوب مضمون، أو العالم حادث، فلا ترتبط إحداهما بالاخرى، فبالضرورة ينبغي أن تكرر أحد الاجزاء الاربعة، فلنصطلح على تسمية المتكرر علة، وهو الذي يمكن أن يقترن بقولك، لان في جواب المطالبة بلم، فإنه إذا قيل لك: لم قلت أن النبيذ حرام؟ قلت: لانه مسكر، ولا تقول: لانه نبيذ، ولا تقول: لانه حرام، فما يقترن به، لان هو العلة، ولنسم ما يجري مجرى النبيذ محكوما عليه، وما يجري مجرى الحرام حكما، فإنا في النتيجة نقول: فالنبيذ حرام، ولنشتق للمقدمتين اسمين منهما لا من العلة، لان العلة متكررة فيهما فنسمي المقدمة المشتملة على المحكوم المقدمة الأولى، وهي قولنا: كل نبيذ مسكر، والمشتملة على الحكم المقدمة الثانية وهي قولنا: كل مسكر حرام، أخذا من النتيجة، فإنا نقول فكل نبيذ حرام، فتذكر النبيذ أولا، ثم الحرام، وغرض هذه التسمية سهولة التعر يف عند التفصيل والتحقيق، ومهما كانت المقدمات معلومة كان البرهان قطعيا، وإن كانت مظنونة كان فقيها، وإن كانت ممنوعة فلا بد من إثباتها، وأما بعد تسليمها فلا يمكن الشك في النتيجة أصلا، بل كل عاقل صدق بالمقدمتين، فهو مضطر إلى التصديق بالنتيجة، مهما أحضرهما في الذهن وأحضر مجموعهما بالبال، وحاصل وجه الدلالة في هذا النظم أن الحكم على الصفة حكم على الموصوف، لانا إذا قلنا: النبيذ مسكر، جعلنا المسكر وصفا، فإذا حكمنا على كل مسكر بأنه حرام فقد حكمنا على الوصف، فبالضرورة يدخل الموصوف فيه، فإنه إن بطل قولنا، النبيذ حرام مع كونه مسكرا، بطل قولنا: كل مسكر حرام، إذا ظهر لنا مسكر ليس بحرام، وهذا الضرب له شرطان في كونه منتجاز شرط في المقدمة الأولى: وهو أن تكون مثبتة، فإن كانت نافية لم تنتج، لانك إذا نفيت شيئا عن شئ لم يكن الحكم على المنفي حكما على المنفي عنه، فإنك إذا قلت: لا خل واحد مسكر، وكل مسكر حرام، لم يلزم منه حكم في الخل، إذا وقعت المباينة بين المسكر والخل، فحكمك على المسكر بالنفي والاثبات لا يتعدى إلى الخل. الشرط الثاني في المقدمة الثانية: وهو أن تكون عامة كلية حتى يدخل المحكوم عليه بسبب عمومها فيها، فإنك إذا قلت: كل سفرجل مطعوم، وبعض المطعوم ربوي، لم يلزم منه كون السفرجل ربويا إذ ليس من ضرورة الحكم على بعض المطعوم أن يتناول السفرجل، نعم إذا قلت: وكل مطعوم ربوي، لزم في السفرجل، ويثبت ذلك بعموم الخبر، فإن قلت: فبماذا يفارق هذا الضرب الضربين الآخرين بعده، فاعلم أن العلة إما أن توضع محكوما عليها في المقدمتين، أو محكوما بها في المقدمتين، أو توضع حكما في إحداهما محكومة في الاخرى، وهذا الاخير هو النظم الأول، والثاني والثالث لا يتضحان غاية الاتضاح إلا بالرد إليه، فلذلك قدمنا ذكره. النظم الثاني: أن تكون العلة حكما في المقدمتين، مثاله قولنا: الباري تعالى ليس بجسم لان الباري غير مؤلف وكل جسم مؤلف، فالباري تعالى إذن ليس بجسم فههنا ثلاثة معان، الباري، والمؤلف، والجسم، والمكرر هو المؤلف، فهو العلة، وتراه خبرا في المقدمتين وحكما، بخلاف المسكر في النظم الأول إذ كان خبرا في إحداهما مبتدأ في الاخرى، ووجه لزوم النتيجة منه أن كل شيئين ثبت لاحدهما، ما انتفى عن الآخر فهما متباينان، فالتأليف ثابت للجسم منتف عن الباري تعالى، فلا يكون بين معنى الجسم وبين الباري التقاء، أي لا يكون الباري جسما، ولا الجسم هو الباري تعالى، ويمكن بيان لزوم النتيجة بالرد إلى النظم الأول بطريق العكس، كما أوضحناه في كتاب معيار العلم، وكتاب محك النظر فلا نطول الآن به، وهذا النظم هو الذي يعبر عنه الفقهاء بالفرق، إذ يقولون، الجسم مؤلف، والباري غير مؤلف، وخاصية هذا النظم أنه لا ينتج إلا قضية نافية سالبة، وأما النظم الأول فإنه ينتج النفي والاثبات جميعا، ومن شروط هذا النظم أن تختلف المقدمتان في النفي والاثبات، فإن كانتا مثبتتين لم ينتجا لان حاصل هذا النظم يرجع إلى الحكم بشئ واحد على شيئين، وليس من ضرورة كل شيئين يحكم عليهما بشئ واحد أن يخبر بأحدهما عن الآخر فإنا نحكم على السواد والبياض باللونية، ولا يلزم أن يخبر عن السواد بأنه بياض، ولا عن البياض بأنه سواد، ونظمه أن يقال كل سواد لون، وكل بياض لون، فلا يلزم كل سواد بياض، ولا كل بياض سواد، نعم كل شيئين أخبر عن أحدهما بما يخبر عن الآخر بنفيه يجب أن يكون بينهما انفصال وهو النفي. النظم الثالث: أن تكون العلة مبتدأ في المقدمتين، وهذا يسميه الفقهاء نقضا، وهذا إذا اجتمعت شروطه أنتج نتيجة خاصة لا عامة، مثاله قولنا: كل سواد عرض، وكل سواد لون، فيلزم منه أن بعض العرض لون، وكذلك لو قلت: كل بر مطعوم، وكل بر ربوي، فيلزم منه أن بعض المطعوم ربوي، ووجه دلالته أن الربوي والمطعوم شيئان، حكمنا بهما على شئ واحد وهو البر فالتقيا عليه، وأقل درجات الالتقاء أن يوجب حكما خاصا وإن لم يكن عاما فأمكن أن يقال: بعض المطعوم ربوي، وبعض الربوي مطعوم. النمط الثاني من البرهان: وهو نمط التلازم: يشتمل على مقدمتين، والمقدمة الأولى تشتمل على قضيتين، والمقدمة الثانية تشتمل على ذكر إحدى تينك القضيتين تسليما إما بالنفي أو بالاثبات، حتى تستنتج منه إحدى تينك القضيتين أو نقيضها، ولنسم هذا نمط التلازم، ومثاله قولنا: إن كان العالم حادثا فله محدث، فهذه مقدمة، ومعلوم أنه حادث وهي المقدمة الثانية، فيلزم منه أن له محدثا، والأولى اشتملت على قضيتين لو أسقط منهما حرف الشرط لانفصلتا، إحداهما قولنا: إن كان العالم حادثا، والثانية قولنا فله محدث، ولنسم القضية الأولى المقدم، ولنسم القضية الثانية اللازم والتابع، والقضية: الثانية اشتملت على تسليم عين القضية التي سميناها مقدما، وهو قولنا: ومعلوم أن العالم حادث، فتلزم منه النتيجة، وهو أن للعالم محدثا وهو عين اللازم، ومثاله في الفقه قولنا: إن كان الوتر يؤدى على الراحلة بكل حال فهو نفل، ومعلوم أنه يؤدى على الراحلة، فثبت أنه نفل، وهذا النمط يتطرق إليه أربع تسليمات تنتج منها اثنتان ولا تنتج اثنتان: أما المنتج فتسليم عين المقدم ينتج عين اللازم، مثاله قولنا: إن كانت هذه الصلاة صحيحة، فالمصلي متطهر، ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة، فيلزم أن يكون المصلي متطهرا، ومثاله من الحس، إن كان هذا سوادا فهو لون، ومعلوم أنه سواد فإذا هو لون. وأما المنتج الآخر فهو تسليم نقيض اللازم، فإنه ينتج نقيض المقدم، مثاله قولنا: إن كانت هذه الصلاة صحيحة، فالمصلي متطهر، ومعلوم أن المصلي غير متطهر، فينتج أن الصلاة غير صحيحة، وإن كان بيع الغائب صحيحا فهو يلزم بصريح الالزام، ومعلوم أنه لا يلزم بصريح الالزام فيلزم منه أنه ليس بصحيح، ووجه دلالة هذا النمط على الجملة أن ما يفضي إلى المحال فهو محال، وهذا يفضي إلى المحال، فهو إذا محال كقولنا، لو كان الباري سبحانه وتعالى مستقرا على العرش لكان إما مساويا للعرش أو أكبر أو أصغر، وكل ذلك محال، فما يفضي إليه محال، وهذا يفضي إلى المحال، فهو إذا محال. وأما الذي لا ينتج فهو تسليم عين اللازم، فإنا لو قلنا إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر، فلا يلزم منه لا صحة الصلاة، ولا فسادها إذ قد تفسد الصلاة بعلة أخرى. وكذلك تسليم نقيض المقدم لا ينتج عين اللازم ولا نقيضه، فإنا لو قلنا، ومعلوم أن الصلاة ليست صحيحة فلا يلزم من هذا كون المصلي متطهرا، ولا كونه غير متطهر، وتحقيق لزوم النتيجة من هذا النمط أنه مهما جعل شئ لازما لشئ فينبغي أن لا يكون الملزوم أعم من اللازم، بل إما أخص أو مساويا، ومهما كان أخص فثبوت الاخص بالضرورة يوجب ثبوت الاعم، إذ يلزم من ثبوت السواد ثبوت اللون، وهو الذي عنيناه بتسليم عين اللازم، وانتفاء الاعم يوجب انتفاء الاخص بالضرورة، إذ يلزم من انتفاء اللون انتفاء السواد، وهو الذي عنيناه بتسليم نقيض اللازم، وأما ثبوت الاعم فلا يوجب ثبوت الاخص، فإن ثبوت اللون لا يوجب ثبوت السواد، فلذلك قلنا: تسليم عين اللازم لا ينتج، وأما انتفاء الاخص، فلا يوجب انتفاء الاعم ولا ثبوته، فإن انتفاء السواد لا يوجب انتفاء اللون ولا ثبوته، وهو الذي عنيناه بقولنا إن تسليم نقيض المقدم لا ينتج أصلا، وإن جعل الاخص لازما للاعم فهو خطأ، كمن يقول إن كان هذا لونا فهو سواد، فإن كان اللازم مساويا للمقدم أنتج منه أربع تسليمات كقولنا إن كان زنا المحصن موجودا فالرجم واجب، لكنه موجود فإذا هو واجب لكنه واجب، فإذا هو موجود، لكن الرجم غير واجب، فالزنا غير موجود، لكن زنا المحصن غير موجود، فالرجم غير واجب، وكذلك كل معلول له علة واحدة، كقولنا: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فالنهار موجود، لكن النهار موجود، فهي إذا طالعة، لكنها غير طالعة، فالنهار غير موجود، لكن النهار غير موجود، فهي إذا غير طالعة. النمط الثالث: نمط التعاند: وهو على ضد ما قبله والمتكلمون يسمونه السبر والتقسيم، والمنطقيون يسمونه الشرطي المنفصل، ويسمون ما قبله الشرطي المتصل، وهو أيضا يرجع إلى مقدمتين ونتيجة، ومثاله، العالم إما قديم وإما حادث، وهذه مقدمة وهي قضيتان، الثانية أن تسلم إحدى القضيتين أو نقيضها، فيلزم منه لا محالة نتيجة، وينتج فيه أربع تسليمات فإنا نقول لكنه حادث فليس بقديم، لكنه قديم فليس بحادث، لكنه ليس بحادث، فهو قديم، لكنه ليس بقديم فهو حادث، وبالجملة: كل قسمين متناقضين متقابلين إذا وجد فيهما شرائط التناقض كما سبق فينتج إثبات أحدهما نفي الآخر، ونفي أحدهما إثبات الآخر، ولا يشترط أن تنحصر القضية في قسمين، بل شرطه أن تستوفي أقسامه، فإن كانت ثلاثة فإنا نقول العدد إما مساو أو أقل أو أكثر، فهذه ثلاثة لكنها حاصرة، فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين، وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث، وإثبات واحد ينتج انحصارا الحق في الآخرين في أحدهما لا بعينه، والذي لا ينتج فيه انتفاء واحد هو أن لا يكون محصورا، كقولك: زيد إما بالعراق وإما بالحجاز، فهذا مما يوجب إثبات واحد نفي الآخر، أما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر، إذ ربما يكون في صقع آخر، وقول من أثبت رؤية الله بعلة الوجود يكاد لا ينحصر كلامه، إلا أن نتكلف له وجها، فإن قول مصحح الرؤية لا يخلو إما أن يكون كونه جوهرا فيبطل بالعرض أو كونه عرضا فيبطل بالجوهر أو كونه سوادا أو لونا، فيبطل بالحركة فلا تبقى شركة لهذه المختلفات إلا في الوجود، وهذا غير حاصر، إذ يمكن أن يكون قد بقي أمر آخر مشترك سوى الوجود لم يعثر عليه الباحث مثل كونه بجهة من الرائي مثلا، فإن أبطل هذا فلعله لمعنى آخر إلا أن يتكلف حصر المعاني وينفي جميعها سوى الوجود، فعند ذلك ينتج فهذه أشكال البراهين، فكل دليل لا يمكن رده إلى واحد من هذه الانواع الخمسة فهو غير منتج البتة، ولهذا شرح أطول من هذا ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم. |
12-06-2012, 02:50 PM | #13 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفصل الثاني: من فن المقاصد في بيان مادة البرهان
وهي المقدمات الجارية من البرهان مجرى الثوب من القميص، والخشب من السرير، فإن ما ذكرناه يجري مجرى الخياطة من القميص، وشكل السرير من السرير، وكما لا يمكن أن يتخذ من كل جسم سيف وسرير، إذ لا يتأتى من الخشب قميص، ولا من الثوب سيف، ولا من السيف سرير، فكذلك لا يمكن أن يتخذ من كل مقدمة برهان منتج، بل البرهان المنتج لا ينصاغ إلا من مقدمات يقينية، إن كان المطلوب يقينا، أو ظنية إن كان المطلوب فقهيا، فلنذكر معنى اليقين في نفسه لتفهم ذاته، ولنذكر مدركه لتفهم الآلة التي بها يقتنص اليقين، أما اليقين فشرحه أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت إليها فلها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يتيقن ويقطع به وينضاف إليه قطع ثان وهو أن يقطع بأن قطعها به صحيح ويتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس، فلا يجوز الغلط في يقينها الأول ولا في يقينها الثاني، ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ، بل حيث لو حكى لها عن نبي من الانبياء أنه أقام معجزة وادعى ما يناقضها فلا تتوقف في تكذيب الناقل، بل تقطع بأنه كاذب، أو تقطع بأن القائل ليس بنبي وأن ما ظن من معجزة فهي مخرقة، وبالجملة فلا يؤثر هذا في تشكيكها، بل تضحك من قائله وناقله، وإن خطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع نبيا على سر به انكشف له نقيض اعتقادها، فليس اعتقادها يقينا، مثاله قولنا الثلاثة أقل من الستة، وشخص واحد لا يكون في مكانين، والشئ الواحد لا يكون قديما حادثا موجودا معدوما ساكنا متحركا، في حالة واحدة. الحالة الثانية: أن تصدق بها تصديقا جزما لا تتمارى فيه ولا تشعر بنقيضها البتة، ولو أشعرت بنقيضها تعسر إذعانها للاصغاء إليه، ولكنها لو ثبتت وأصغت وحكى لها نقيض معتقدها عمن هو أعلم الناس عندها كنبي أو صديق أورث ذلك فيها توقفا ولنسم هذا الجنس اعتقادا جزما، وهو أكثر اعتقادات عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم، بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم بطريق الأدلة، فإنهم قبلوا المذهب والدليل جميعا بحسن الظن في الصبا فوقع عليه نشؤهم، فإن المستقل بالنظر الذي يستوي ميله في نظره إلى الكفر والاسلام عزيز. الحالة الثالثة: أن يكون لها سكون إلى الشئ والتصديق به، وهي تشعر بنقيضه أو لا تشعر، لكن لو أشعر ت به لم ينفر طبعها عن قبوله، وهذا يسمى ظنا وله درجات في الميل إلى الزيادة والنقصان لا تحصى، فمن سمع من عدل شيئا سكنت إليه نفسه، فإن انضاف إليه ثان زاد السكون، وإن انضاف إليه ثالث زاد السكون والقوة فإن انضافت إليه تجربة لصدقهم على الخصوص زادت القوة، فإن انضافت إليه قرينة، كما إذا أخبروا عن أمر مخوف وقد اصفرت وجوههم واضطربت أحوالهم زاد الظن، وهكذا لا يزال يترقى قليلا قليلا إلى أن ينقلب الظن علما عند الانتهاء إلى حد التواتر، والمحدثون يسمون أكثر هذه الاحوال علما ويقينا، حتى يطلقوا القول بأن الاخبار التي تشتمل عليها الصحاح توجب العلم والعمل، وكافة الخلق إلا آحاد المحققين يسمون الحالة الثانية يقينا، ولا يميزون بين الحالة الثانية والأولى، والحق أن اليقين هو الأول، والثاني مظنة الغلط، فإذا ألفت برهانا من مقدمات يقينية على الذوق الأول وراعيت صورة تأليفه على الشروط الماضية فالنتيجة ضرورية يقينية يجوز الثقة بها، هذا بيان نفس اليقين. أما مدارك اليقين فجميع ما يتوهم كونه مدركا لليقين والاعتقاد الجزم ينحصر في سبعة أقسام: الأول: الأوليات: وأعني بها العقليات المحضة التي أفضى ذات العقل بمجرده إليها من غير استعانة بحس أو تخيل مجبل على التصديق بها، مثل علم الانسان بوجود نفسه وبأن الواحد لا يكون قديما حادثا، وأن النقيضين إذا صدق أحدهما كذب الآخر، وأن الاثنين أكثر من الواحد ونظائره، وبالجملة هذه القضايا تصادف مرتسمة في العقل، منذ وجوده، حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالما بها ولا يدري متى تجدد ولا يقف حصوله على أمر سوى وجود العقل إذ يرتسم فيه الموجود مفردا والقديم مفردا والحادث مفردا والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات وتنسب بعضها إلى بعض، مثل أن القديم حادث، فيكذب بالعقل به، وأن القديم ليس بحادث، فيصدق العقل به، فلا يحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات، وإلى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات إلى البعض، فينتهض العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب. الثاني: المشاهدات الباطنة: وذلك كعلم الانسان بجوع نفسه وعطشه وخوفه وفرحه، وجميع الاحوال الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس، فهذه ليست من الحواس الخمس ولا هي عقلية، بل البهيمة تدرك هذه الاحوال من نفسها بغير عقل، وكذا الصبي، والأوليات لا تكون للبهائم ولا للصبيان. الثالث: المحسوسات الظاهرة: كقولك: الثلج أبيض، والقمر مستدير والشمس مستنيرة، وهذا الفن واضح، لكن الغلط يتطرق إلى الابصار لعوارض، مثل بعد مفرط وقرب مفرط، أو ضعف في العين، وأسباب الغلط في الابصار التي هي على الاستقامة ثمانية والذي بالانعكاس كما في المرآة، أو بالانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج فيتضاعف في أسباب الغلط، واستقصاء ذلك في هذه العلاوة غير ممكن، فإن أردت أن تفهم منه أنموذجا فانظر إلى طرف الظل فتراه ساكنا، والعقل يقضي بأنه متحرك، وإلى الكواكب فتراها ساكنة وهي متحركة، وإلى الصبي في أول نشوئه والنبات في أول النشوء وهو في النمو والتزايد في كل لحظة على التدريج، فتراه واقفا، وأمثال ذلك مما يكثر. الرابع: التجربيات: وقد يعبر عنها باطراد العادات، وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة، والخبز مشبع، والحجر هاو إلى أسفل، والنار صاعدة إلى فوق، والخمر مسكر، والسقمونيا مسهل فإذا المعلومات التجربية يقينية عند من جربها والناس يختلفون في هذه العلوم لاختلافهم في التجربة، فمعرفة الطبيب بأن السقمونيا مسهل، كمعرفتك بأن الماء مرو، وكذلك الحكم بأن المغناطيس جاذب للحديد عند من عرفه، وهذه غير المحسوسات، لان مدرك الحس هو أن هذا الحجر يهوي إلى الارض، وأما الحكم بأن كل حجر هاو فهي قضية عامة لا قضية في عين، وليس للحس إلا قضية في عين، وكذلك إذا رأى مائعا وقد شربه فسكر فحكم بأن جنس هذا المائع مسكر فالحس لم يدرك إلا شربا وسكرا واحدا معينا، فالحكم في الكل إذا هو للعقل، ولكن بواسطة الحس، أو بتكرر الاحساس مرة بعد أخرى، إذ المرة الواحدة لا يحصل العلم بها، فمن تألم له موضع فصب عليه مائعا فزال ألمه لم يحصل له العلم بأنه المزيل، إذ يحتمل أن زواله بالاتفاق، بل هو كما لو قرأ عليه سورة الاخلاص فزال فربما يخطر له أن إزالته بالاتفاق، فإذا تكرر مرات كثيرة في أحوال مختلفة انغرس في النفس يقين، وعلم بأنه المؤثر، كما حصل بأن الاصطلاء بالنار مزيل للبرد، والخبز مزيل لالم الجوع، وإذا تأملت هذا عرفت أن العقل قد ناله بعد التكرر على الحس بواسطة قياس خفي ارتسم فيه، ولم يشعر بذلك القياس، لانه لم يلتفت إليه، ولم يشغله بلفظ، وكأن العقل يقول: لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطرد في الاكثر، ولو كان بالاتفاق لاختلف، وهذا الآن يحرك قطبا عظيما في معنى تلازم الاسباب والمسببات التي يعبر عنها باطراد العادات، وقد نبهنا على غورها في كتاب تهافت الفلاسفة والمقصود تمييز التجربيات عن الحسيات، ومن لم يمعن في تجربة الامور تعوزه جملة من اليقينيات فيتعذر عليه ما يلزم منها من النتائج، فيستفيدها من أهل المعرفة بها، وهذا كما أن الاعمى والاصم تعوزهما جملة من العلوم التي تستنتج من مقدمات محسوسة، حتى قدر الاعمى على أن يعرف بالبرهان أن الشمس أكبر من الارض، فإن ذلك يعرف بأدلة هندسية تنبني على مقدمات حسية، ولما كان السمع والبصر شبكة جملة من العلوم قرنهما الله تعالى بالفؤاد في كتابه في مواضع. الخامس: متواترات: كعلمنا بوجود مكة، ووجود الشافعي، وبعدد الصلوات الخمس بل كعلمنا بأن من مذهب الشافعي أن المسلم لا يقتل بالذمي، فإن هذا أمر وراء المحسوس إذ ليس للحس إلا أن يسمع صوت المخبر بوجود مكة، وأما الحكم بصدقة فهو للعقل، وآلته السمع، ولا مجرد السمع، بل تكرر السماع، ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط، بل هو كتكرر التجربة، ولكل مرة في التجربة شهادة أخرى إلى أن ينقلب الظن علما ولا يشعر بوقته، فكذلك التواتر، فهذه مدارك العلوم اليقينية الحقيقية الصالحة لمقدمات البراهين وما بعدها ليس كذلك. السادس: الوهميات: وذلك مثل قضاء الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون مشارا إلى جهته، فإن موجودا لا متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه ولا داخلا ولا خارجا محال، وأن إثبات شئ مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال، وهذا عمل قوة في التجويف الاوسط من الدماغ، وتسمى وهمية، شأنها ملازمة المحسوسات ومتابعتها والتصرف فيها، فكل ما لا يكون على وفق المحسوسات التي ألفتها فليس في طباعها إلا النبوة عنها، وإنكارها ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل: ليس وراء العالم خلاء ولا ملاء، وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان، والأولى منهما ربما وقع لك الانس بتكذيبها، لكثرة ممارستك للأدلة العقلية الموجبة لاثبات موجود، ليس في جهة والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك لادلتها، وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلاء والملاء غير ممكن لان الخلاء باطل بالبراهين القاطعة، إذ لا معنى له، والملاء متناه بأدلة قاطعة، إذ يستحيل وجود أجسام لا نهاية لها وإذا ثبت هذان الأصلان علم أنه لا خلاء ولا ملاء وراء العالم، وهذه القضايا مع أنها وهمية فهي في النفس لا تتميز عن الأوليات القطعية، مثل قولك لا يكون شخص في مكانين، بل يشهد به أول الفطرة، كما يشهد بالأوليات العقلية، وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعا هو صادق بل الصادق ما يشهد به قوة العقل فقط، ومداركه الخمسة المذكورة، وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل، ثم بعد معرفة الدليل أيضا لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها فإن قلت فبماذا أميز بينها وبين الصادقة، والفطرة قاطعة بالكل، ومتى يحصل الامان منها فاعلم أن هذه ورطة تاه فيها جماعة، فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيد العلم اليقين، فقال بعضهم: طلب اليقين غير ممكن، وقالوا بتكافؤ الأدلة، وادعوا اليقين بتكافؤ الأدلة، وقال بعضهم: لا تيقن أيضا بتكافؤ الأدلة، بما هو أيضا في محل التوقف، وكشف الغطاء عن هذه الورطة يستدعي تطويلا، فلا نشتغل به، و نفيدك الآن طريقين نستعين بهما في تكذيب الوهم الأول جملي وهو أنك لا تشك في وجود الوهم، والقدرة والعلم والارادة، وهذه الصفات ليست من النظريات، ولو عرضت على الوهم نفس الوهم لا نكره، فإنه يطلب له سمكا ومقدارا ولونا، فإذا لم يجده أباه، ولو كلفت الوهم أن يتأمل ذات القدرة والعلم والارادة لصور لكل واحد قدرا ومكانا مفردا، ولو فرضت له اجتماع هذه الصفات في جزء واحد أو جسم واحد لقدر بعضها منطبقا على البعض، كأنه ستر رقيق مرسل على وجهه، ولم يقدر على اتحاد البعض بالبعض بأسره فإنه ربما يشاهد الاجسام، ويراها متميزة في الوضع، فيقضي في كل شيئين، بأن أحدهما متميز في الوضع عن الآخر. الطريق الثاني: وهو معيار في آحاد المسائل: وهو أن نعلم أن جميع قضايا الوهم ليست كاذبة، فإنها توافق العقل في استحالة وجود شخص في مكانين، بل لا تنازع في جميع العلوم الهندسية والحسابية وما يدرك بالحس، وإنما تنازع فيما وراء المحسوسات، لانها تمثل غير المحسوسات بالمحسوسات إذ لا تقبله إلا على نحو المحسوسات، فحيلة العقل مع الوهم في أن يثق بكذبه مهما نظر في غير محسوس، أن يأخذ مقدمات يقينية ليساعده الوهم عليها، وينظمها نظم البرهان الذي ذكرناه، فإن الوهم يساعد على أن اليقينيات إذا نظمت كذلك كانت النتيجة لازمة كما سبق في الامثلة، وكما في الهندسيات، فتجد ذلك ميزانا وحاكما بينه وبينه، فإذا رأى الوهم قد زاغ عن قبول نتيجة دليل قد ساعد على مقدماته وساعد على صحة نظمها وعلى كونها نتيجة علم أن ذلك من قصور في طباعه عن إدراك مثل هذا الشئ الخارج عن المحسوسات، فاكتف بهذا القدر، فإن تمام الايضاح فيه تطويل. السابع: المشهورات: وهي آراء محمودة يوجب التصديق بها إما شهادة الكل أو الاكثر، أو شهادة جماهير الافاضل، كقولك الكذب قبيح، وإيلام البرئ قبيح، و كفران النعم قبيح وشكر المنعم وإنقاذ الهلكى حسن، وهذه قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة فلا يجوز أن يعول عليها في مقدمات البرهان، فإن هذه القضايا ليست أولية ولا وهمية، فإن الفطرة الأولى لا تقضي بها بل إنما ينغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبا، وذلك بأن تكرر على الصبي، ويكلف اعتقادها ويحسن ذلك عنده وربما يحمل عليها حب التسالم وطيب المعاشرة، وربما تنشأ من الحنان ورقة الطبع، فترى أقواما يصدقون بأن ذبح البهائم قبيح ويمتنعون عن أكل لحومها وما يجري هذا المجرى فالنفوس المجبولة على الحنان والرقة أطوع لقبولها، وربما يجبل على التصديق بها الاستقراء الكثير، وربما كانت القضية صادقة ولكن بشرط دقيق لا يفطن الذهن لذلك الشرط، ويستمر على تكرير التصديق فيرسخ في نفسه كمن يقول مثلا: التواتر لا يورث العلم لان كل واحد من الآحاد لا يورث العلم، فالمجموع لا يورث، لانه لا يزيد على الآحاد، وهذا غلط، لان قول الواحد لا يوجب العلم بشرط الانفراد وعند التواتر فات هذا الشرط، فيذهل عن هذا الشرط لدقته ويصدق به مطلقا وكذلك يصدق بقوله: إن الله على كل شئ قدير مع أنه ليس قادرا على خلق ذاته وصفاته وهو شئ لكن هو قدير على كل شئ بشرط كونه ممكنا في نفسه، فيذهل عن هذا الشرط ويصدق به مطلقا لكثرة تكرره على اللسان، ووقع الذهول عن شرطه الدقيق، وللتصديق بالمشهورات أسباب كثيرة، وهي من مثارات الغلط العظيمة، وأكثر قياسات المتكلمين والفقهاء مبنية على مقدمات مشهورة يسلمونها بمجرد الشهرة، فلذلك ترى أقيستهم تنتج نتائج متناقضة فيتحيرون فيها، فإن قلت: فبم يدرك الفرق بين المشهور والصادق، فأعرض قول القائل: العدل جميل والكذب قبيح على العقل الأول الفطري الموجب للاوليات، وقدر أنك لم تعاشر أحداولم تخالط أهل ملة ولم تأنس بمسموع، ولم تتأدب باستصلاح، ولم تهذب بتعليم أستاذ ومرشد، وكلف نفسك أن تشكك فيه، فإنك تقدر عليه وتراه متأتيا وإنما الذي يعسر عليك هذه التقديرات أنك على حالة تضادها، فإن تقدير الجوع في حال الشبع عسير، وكذا تقدير كل حالة أنت منفك عنها في الحال، ولكن إذا تحذقت فيها أمكنك التشكك، ولو كلفت نفسك الشك في أن الاثنين أكثر من الواحد لم يكن الشك متأتيا، بل لا يتأتى الشك في أن العالم ينتهي إلى خلاء أو ملاء وهو كاذب وهمي، لكن فطرة الوهم تقتضيه، والآخر يقتضيه فطرة العقل، وأما كون الكذب قبيحا فلا يقتضيه فطرة العقل الوهم ولا فطرة العقل، بل ما ألفه الانسان من العادات والاخلاق والاستصلاحات وهذه أيضا معارضة مظلمة يجب التحرز عنها، فهذا القدر كاف في المقدمات التي منها ينتظم البرهان، فالمستفاد من المدارك الخمسة بعد الاحتراز عن مواقع الغلط فيها يصلح لصناعة البرهان، والمستفاد من غلط الوهم لا يصلح البتة، والمشهورات تصلح للفقهيات الظنية والاقيسة الجدلية، ولا تصلح لافادة اليقين البتة. |
12-06-2012, 02:51 PM | #14 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفن الثالث: من دعامة البرهان في اللواحق وفيه فصول: الفصل الأول في بيان أن ما تنطق به الالسنة في معرض الدليل والتعليل في جميع أقسام العلوم
يرجع إلى الضروب التي ذكرناها فإن لم يرجع إليها لم يكن دليلا، وحيث يذكر لا على ذلك النظم فسببه إما قصور علم الناظر أو إهماله إحدى المقدمتين للوضوح، أو لكون التلبيس في ضمنه حتى لا ينتبه له، أو لتركيب الضروب وجمع جملة منها في سياق كلام واحد. مثال ترك إحدى المقدمتين، لوضوحها، وذلك غالب في الفقهيات والمحاورات احترازا عن التطويل، كقول القائل: هذا يجب عليه الرجم لانه زنى وهو محصن وتمام القياس أن تقول: كل من زنى وهو محصن فعليه الرجم، وهذا زنى وهو محصن: ولكن ترك المقدمة الأولى لاشتهارها، وكذلك يقال: العالم محدث، فيقال: لم؟ فيقول: لانه جائز، ويقتصر عليه، وتمامه أن يقول: كل جائز فله فاعل، والعالم جائز، فإذا له فاعل، ويقول في نكاح الشغار هو فاسد، لانه منهي عنه، وتمامه أن يقول: كل منهي عنه فهو فاسد، والشغار منهي عنه، فهو إذا فاسد، ولكن ترك الأولى لانها موضع النزاع ولو صرح بها لتنبه الخصم لها فربما تركها للتلبيس مرة كما تركها للوضوح أخرى، وأكثر أدلة القرآن كذلك تكون، مثل قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الانبياء: 22) فينبغي أن يضم إليها، ومعلوم أنهما لم تفسدا وقوله تعالى: {إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} (الاسراء: 24) وتمامه أنه معلوم أنهم لم يبتغوا إلى ذي العرش سبيلا. ومثال ما يترك للتلبيس أن يقال: فلان خائن في حقك، فتقول: لم؟ فيقال: لانه كان يناجي عدوك، وتمامه أن يقال كل من يناجي العدو فهو عدو، وهذا يناجي العدو فهو إذا عدو، ولكن لو صرح به لتنبه الذهن بأن من يناجي العدو فقد ينصحه وقد يخدعه، فلا يجب أن يكون عدوا، وربما يترك المقدمة الثانية وهي مقدمة المحكوم عليه، مثاله أن يقال: لا تخالط فلانا، فيقول: لم؟ فيقال: لان الحساد لا يخالطون، وتمامه أن يضم إليه إن هذا حاسد، والحاسد لا يخالط، فهذا إذا لا يخالط وسبيل من يريد التلبيس إهمال المقدمة التي التلبيس تحتها استغفالا للخصم، واستجهالا له، وهذا غلط في النظم الأول، ويتطرق ذلك إلى النظم الثاني والثالث، مثاله قولك: كل شجاع ظالم، فيقال: لم؟ فيقال: لان الحجاج كان شجاعا وظالما، وتمامه أن يقول: الحجاج شجاع، والحجاج ظالم، فكل شجاع ظالم وهذا غير منتج، لانه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث، وقد بينا أنه لا ينتج إلا نتيجة خاصة، وإنما كان من النظم الثالث لان الحجاج هو العلة لانه المتكرر في المقدمتين، لانه محكوم عليه في المقدمتين، فيلزم منه أن بعض الشجعان ظالم، ومن هاهنا غلط من حكم على كل المتصوفة، أو كل المتفقهة بالفساد إذا رأى ذلك مبعضهم ونظم قياسه أن فلانا متفقه، وفلان فاسق، فكل متفقه فاسق وذلك لا يلزم، بل يلزم أن بعض المتفقهة، فاسق، وكثيرا ما يقع مثل هذا الغلط في الفقه أن يرى الفقيه حكما، في موضع معين، فيقضي بذلك الحكم على العموم فيقول مثلا، البر مطعوم والبر ربوي، فالمطعوم ربوي، وبالجملة: مهما كانت العلة أخص من الحكم والمحكوم عليه في النتيجة لم يلزم منه إلا نتيجة جزئية وهو معنى النظم الثالث، ومهما كانت العلة أعم من المحكوم عليه وأخص من الحكم أو مساوية له كان من النظم الأول، وأمكن استنتاج القضايا الاربعة منه، أعني الموجبة العامة والخاصة، والنافية العامة والخاصة، ومهما كانت العلة أعم من الحكم والمحكوم عليه جميعا كان من النظم الثاني، ولم ينتج منه إلا النفي، فأما الايجاب فلا. ومثال المختلطات المركبة من كل نمط كقولك: الباري تعالى إن كان على العرش أما مساو أو أكبر أو أصغر، وكل مساو وأصغر وأكبر مقدر، وكل مقدر فإما أن يكون جسما أو لا يكون جسما، وباطل أن لا يكون جسما، فثبت أنه جسم، فيلزم أن يكون الباري، تعالى جسما، ومحال أن يكون جسما فمحال أن يكون على العرش، وهذا السياق اشتمل على النظم الأول والثاني والثالث مختلطا كذلك، فمن لا يقدر على تحليله وتفصيله فربما انطوى التلبيس في تفاصيله وتضاعيفه فلا يتنبه لموضعه، ومن عرف المفردات أمكنه رد المختلطات إليها، فإذا لا يتصور النطق بالاستدلال إلا ويرجع إلى ما ذكرناه. الفصل الثاني في بيان رجوع الاستقراء والتمثيل إلى ما ذكرناه أما الاستقراء فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات، كقولنا في الوتر ليس بفرض، لانه يؤدى على الراحلة، والفرض لا يؤدى على الراحلة، فيقال: لم قلتم أن الفرض لا يؤدى على الراحلة؟ فيقال: عرفناه بالاستقراء، إذ رأينا القضاء والاداء والمنذور وسائر أصناف الفرائض لا تؤدى على الراحلة، فقلنا إن كل فرض لا يؤدى على الراحلة، ووجه دلالة هذا لا يتم إلا بالنظم الأول بأن يقول: كل فرض فإما قضاء أو أداء أو نذر، وكل قضاء وأداء ونذر فلا يؤدى على الراحلة، فكل فرض لا يؤدى على الراحلة، وهذا مختل يصلح للظنيات دون القطعيات، والخلل تحت قوله، إما أداء، فإن حكمه بأن كل أداء لا يؤدى على الراحلة يمنعه الخصم، إذ الوتر عنده أداء واجب ويؤدى على الراحلة، وإنما يسلم الخصم من الاداء الصلوات الخمس، وهذه صلاة سادسة عنده فيقول: وهل استقريت حكم الوتر في تصفحك وكيف وجدته؟ فإن قلت: وجدته لا يؤدى على الراحلة، فالخصم لا يسلم، فإن لم تتصفحه فلم يبين لك إلا بعض الاداء، فخرجت المقدمة الثانية عن أن تكون عامة وصارت خاصة، وذلك لا ينتج، لانا بينا أن المقدمة الثانية في النظم الأول ينبغي أن تكون عامة، ولهذا غلط من قال أن صانع العالم جسم، لانه قال: كل فاعل جسم، وصانع العالم فاعل، فهو إذا جسم، فقيل: لم قلت أن كل فاعل جسم؟ فيقول: لاني تصفحت الفاعلين من خياط وبناء وإسكاف وحجام وحداد وغيرهم فوجدتهم أجساما، فيقال: وهل تصفحت صانع العالم أم لا فإن لم تتصفحه فقد تصفحت البعض دون الكل فوجدت بعض الفاعلين جسما، فصارت المقدمة الثانية خاصة لا تنتج، وإن تصفحت الباري فكيف وجدته؟ فإن قلت وجدته جسما فهو محل النزاع، فكيف أدخلته في المقدمة، فثبت بهذا أن الاستقراء إن كان تاما رجع إلى النظم الأول، وصلح للقطعيات، وإن لم يكن تاما لم يصلح إلا للفقهيات، لانه مهما وجد الاكثر على نمط غلب على الظن أن الآخر كذلك. |
12-06-2012, 02:51 PM | #15 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفصل الثالث في وجه لزوم النتيجة من المقدمات وهو الذي يعبر عنه بوجه الدليل ويلتبس الامر فيه على الضعفاء فلا يتحققون أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره فنقول: كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة ونسبت أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات وعرضته على العقل لم يخل العقل فيه من أحد أمرين، إما أن يصدق به أو يمتنع من التصديق، فإن صدق فهو الأولى المعلوم بغير واسطة، ويقال إنه معلوم بغير نظر ودليل وحيلة وتأمل، وكل ذلك بمعنى واحد، وإن لم يصدق فلا مطمع في التصديق إلا بواسطة وتلك الواسطة هي التي تنسب إلى الحكم، فيكون خبرا عنها، وتنسب إلى المحكوم عليه فتجعل خبرا عنه فيصدق، فيلزم من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه. بيانه أنا إذا قلنا للعقل احكم على النبيذ بالحرام، فيقول: لا أدري ولم يصدق به، فعلمنا أنه ليس يلتقي في الذهن طرفا هذه القضية وهو الحرام والنبيذ، فلا بد أن يطلب واسطة ربما صدق العقل بوجودها في النبيذ، وصدق بوجود وصف الحرام لتلك الواسطة، فيلزمه التصديق بالمطلوب، فيقال: هل النبيذ مسكر؟ فيقول: نعم إذا كان قد علم ذلك بالتجربة، فيقال: وهل المسكر حرام؟ فيقول: نعم، إذا كان قد حصل ذلك بالسماع وهو المدرك بالسمع قلنا: فإن صدقت بهاتين المقدمتين لزمك التصديق بالثالث لا محالة، وهو أن النبيذ حرام بالضرورة، فيلزمه أن يصدق بذلك ويذعن للتصديق به، فإن قلت: فهذه القضية ليست خارجة عن القضيتين وليست زائدة عليهما فاعلم أن ما توهمت حق من وجه وغلط من وجه، أما الغلط فهو أن هذه قضية ثالثة، لان قولك: النبيذ حرام، غير قولك: النبيذ مسكر، وغير قولك: المسكر حرام، بل هذه ثلاث مقدمات مختلفات، وليس فيها تكرير أصلا بل النتيجة اللازمة غير المقدمات الملتزمة، وأما وجه كونه حقا فهو أن قولك: المسكر حرام شمل بعمومه النبيد الذي هو أحد المسكرات، فقولك: النبيذ حرام ينطوي فيه، لكن بالقوة لا بالفعل وقد يحضر العام في الذهن ولا يحضر الخاص، فمن قال: الجسم متحيز ربما لا يخطر بباله ذلك الوقت أن الثعلب متحيز، بل ربما لا يخطر بباله ذلك الثعلب، فضلا عن أن يخطر بباله أنه متحيز، فإذا النتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة القريبة، والموجود بالقوة القريبة لا يظن أنه موجود بالفعل، فاعلم أن هذه النتيجة لا تخرج من القوة إلى الفعل بمجرد العلم بالمقدمتين ما لم تحضر المقدمتين في الذهن، وتخطر ببالك وجه وجود النتيجة في المقدمتين بالقوة، فإذا تأملت ذلك صارت النتيجة بالفعل، إذ لا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيتوهم أنها حامل، فيقال له: هل تعلم أن البغلة عاقر لا تحمل؟ فيقول: نعم، فيقال: وهل تعلم أن هذه بغلة؟ فيقول: نعم، فيقال: كيف توهمت أنها حامل؟ فيتعجب من توهم نفسه مع علمه بالمقدمتين، إذ نظمهما أن كل بغلة عاقر، وهذه بغلة فهي إذا عاقر، والانتفاخ له أسباب، فإذا انتفاخها من سبب آخر، ولما كان السبب الخاص لحصول النتيجة في الذهن التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء فلم يعرفوا أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره، فالحق أن المطلوب هو المدلول المستنتج وأنه غير التفطن لوجوده في المقدمتين بالقوة، ولكن هذا التفطن هو سبب حصوله على سبيل التولد عند المعتزلة، وعلى سبيل استعداد القلب لحضور المقدمتين مع التفطن لفيضان النتيجة من عند واهب الصور المعقولة الذي هو العقل الفعال عند الفلاسفة، وعلى سبيل تضمن المقدمات للنتيجة بطريق اللزوم الذي لا بد منه عند أكثر أصحابنا المخالفين للتولد الذي ذكره المعتزلة، وعلى سبيل حصوله بقدرة الله تعالى عقيب حضور المقدمتين في الذهن، والتفظن لوجه تضمنهما له بطريق إجراء الله تعالى العادة على وجه يتصور خرقها بأن لا يخلق عقيب تمام النظر عند بعض أصحابنا، ثم ذلك من غير نسبة له إلى القدرة الحادثة عند بعضهم، بل بحيث لا تتعلق به قدرة العبد، وإنما قدرته على إحضار المقدمتين، ومطالعة وجه تضمن المقدمتين للنتيجة على معنى وجودها فيهما بالقوة فقط، أما صيرورة النتيجة بالفعل فلا تتعلق بها القدرة، وعند بعضهم هو كسب مقدور، والرأي الحق في ذلك لا يليق بما نحن فيه، والمقصود كشف الغطاء عن النظر، وإن وجه الدليل ما هو والمدلول ما هو والنظر الصحيح ما هو؟ والنظر الفاسد ما هو وترى الكتب مشحونات بتطويلات في هذه الالفاظ من غير شفاء، وإنما الكشف يحصل بالطريق الذي سلكناه فقط، فلا ينبغي أن يكون شغفك بالكلام المعتاد المشهور، بل بالكلام المفيد الموضح، وإن خالف المعتاد. مغالطة من منكري النظر: وهو أن يقول ما تطلب بالنظر وهو معلوم لك أم لا؟ فإن علمت فكيف تطلب وأنت واجد وإن جهلته فإذا وجدته فبم تعرف أنه مطلوبك وكيف يطلب العبد الآبق من لا يعرفه فإنه لو وجده لم يعرف أنه مطلوبه فنقول: أخطأت في نظم شبهتك، فإن تقسيمك ليس بحاصر إذ قلت تعرفه أو لا تعرفه، بل هاهنا قسم ثالث وهو أني أعرفه من وجه، وأعلمه من وجه، وأجهله من وجه، وأعني الآن بالمعرفة غير العلم، فإني أفهم مفردات أجزاء المطلوب بطريق المعرفة والتصور، وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة لا بالفعل، أي في قوتي أن أقبل التصديق بها بالفعل، وأجهلها من وجه، أي لا أعلمها بالفعل، ولو كنت أعلمها بالفعل لما طلبتها ولو لم أعلمها بالقوة لما طمعت في أن أعلمها، إذ ما ليس في قوتي علمه يستحيل حصوله، كاجتماع الضدين، ولولا أني أفهمه بالمعرفة والتصور لاجزائه المنفردة لما كنت أعلم الظفر بمطلوبي إذا وجدته، وهو كالعبد الآبق، فإني أعرف ذاته بالتصور وإنما أطلب مكانه، وأنه في البيت أم لا، وكونه في البيت أفهمه بالمعرفة والتصور، أي أفهم البيت مفردا والكون مفردا، وأعلمه بالقوة، أي في قوتي أن أصدق بكونه في البيت، وأطلب حصوله بالفعل من جهة حاسة البصر، فإذا رأيته في البيت صدقت بكونه في البيت، فكذلك طلبي لكون العالم حادثا إذا وجدته.
|
12-06-2012, 02:52 PM | #16 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفصل الرابع في انقسام البرهان إلى برهان علة وبرهان دلالة أما برهان الدلالة فهو أن يكون الامر المتكرر في المقمتين معلولا ومسببا، فإن العلة والمعلول يتلازمان، وكذلك السبب والمسبب والموجب والموجب، فإن استدللت بالعلة على المعلول فالبرهان برهان علة، وإن استدللت بالمعلول على العلة فهو برهان دلالة، وكذلك لو استدللت بأحد المعلولين على الآخر. ومثال قياس العلة من المحسوسات: أن تستدل على المطر بالغيم وعلى شبع زيد بأكله، فتقول: من أكل كثيرا فهو في الحال شبعان، وزيد قد أكل كثيرا فهو إذا شبعان، وإن قلت: إن كل شبعان قد أكل كثيرا وزيد شبعان، فإذا قد أكل كثيرا، فهذا برهان دلالة، ومثاله من الكلام قولك: كل فعل محكم، ففاعله عالم، والعالم فعل محكم، فصانعه عالم، ومثال الاستدلال بإحدى النتيجتين على الاخرى في الفقه قولنا: الزنا يوجب حرمة المصاهرة، لان كل وطئ لا يوجب المحرمية، فلا يوجب الحرمة، وهذا لا يوجب المحرمية فلا يوجب الحرمة، فإن الحرمة والمحرمية ليست إحداهما علة للاخرى، بل هما نتيجتا علة واحدة، وحصول إحدى النتيجتين يدل على حصول الاخرى بواسطة العلة، فإنها تلازم علتها والنتيجة الثانية أيضا تلازم علتها، وملازم الملازم ملازم لا محالة، وجميع استدلالات الفراسة من قبيل الاستدلال بإحدى النتيجتين على الاخرى، حتى أنه يستدل بخطوط حمر في كتف الشاة على إراقة الدماء في تلك السنة، ويستدل بالخلق على الاخلاق، ولا يمكن ذلك إلا بطريق تلازم النتائج الصادرة عن سبب واحد، ولنقتصر من مدارك العقول على هذا القدر فإنه كالعلاوة على علم الاصول، ومن أراد مزيدا عليه فليطلبه من كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم
ولنشتغل الآن بالاقطاب الاربعة التي يدور عليها علم الاصول والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وعلى جميع أصحابه. |
12-06-2012, 02:53 PM | #17 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
القطب الأول في الثمرة وهي الحكم والكلام فيه ينقسم إلى فنون أربعة: فن في حقيقة الحكم، وفن في أقسامه، وفن في أركانه، وفن فيما يظهره.
الفن الأول في حقيقته ويشتمل على تمهيد وثلاث مسائل: أما التمهيد فهو أن الحكم عندنا عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين، فالحرام هو المقول فيه: إتركوه ولا تفعلوه، والواجب هو المقول فيه: إفعلوه ولا تتركوه، والمباح هو المقول فيه: إن شئتم فافعلوه، وإن شئتم فاتركوه، فإن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فلا حكم،، فلهذا قلنا: العقل لا يحسن ولا يقبح، ولا يوجب شكر المنعم، ولا حكم للافعال قبل ورود الشرع، فلنرسم كل مسألة برأسها. مسألة (الحسن والقبح في الفعل) ذهبت المعتزلة إلى أن الافعال تنقسم إلى حسنة وقبيحة، فمنها ما يدرك بضرورة العقل، كحسن إنقاذ الغرقى والهلكى، وشكر المنعم، ومعرفة حسن الصدق، وكقبح الكفران، وإيلام البرئ والكذب الذي لا غرض فيه، ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذي فيه ضرر وقبح الكذب الذي فيه نفع، ومنها ما يدرك بالسمع، كحسن الصلاة والحج وسائر العبادات، وزعموا أنها متميزة بصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة، لكن العقل لا يستقل بدركه، فنقول قول القائل: هذا حسن وهذا قبيح لا يحس بفهم معناه ما لم يفهم معنى الحسن والقبح، فإن الاصطلاحات في إطلاق لفظ الحسن والقبح مختلفة فلا بد من تلخيصها، والاصطلاحات فيه ثلاثة: الأول: الاصطلاح المشهور العامي، وهو أن الافعال تنقسم إلى ما يوافق غرض الفاعل وإلى ما يخالفه وإلى ما لا يوافق ولا يخالف، فالموافق يسمى حسنا، والمخالف يسمى قبيحا، والثالث يسمى عبثا، وعلى هذا الاصطلاح إذا كان الفعل موافقا لشخص مخالفا لآخر فهو حسن في حق من وافقه، قبيح في حق من خالفه، حتى أن قتل الملك الكبير يكون حسنا في حق أعدائه، قبيحا في حق أوليائه، وهؤلاء لا يتحاشون عن تقبيح فعل الله تعالى إذا خالف غرضهم، ولذلك يسبون الدهر والفلك ويقولون، خرب الفلك، وتعس الدهر وهم يعلمون أن الفلك مسخر ليس إليه شئ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر فإطلاق اسم الحسن، والقبح على الافعال عند هؤلاء كإطلاقه على الصور، فمن مال طبعه إلى صورة أو صوت شخص قضى بحسنه، ومن نفر طبعه عن شخص استقبحه، ورب شخص ينفر عنه طبع ويميل إليه طبع فيكون حسنا في حق هذا قبيحا في حق ذاك، حتى يستحسن سمرة اللون جماعة، ويستقبحها جماعة، فالحسن والقبح عند هؤلاء عبارة عن الموافقة والمنافرة، وهما أمران إضافيان، لا كالسواد والبياض، إذ لا يتصور أن يكون الشئ أسود في حق زيد، أبيض في حق عمرو. الاصطلاح الثاني: التعبير بالحسن عما حسنه الشرع بالثناء على فاعله، فيكون فعل الله تعالى حسنا في كل حال خالف الغرض أو وافقه، ويكون المأمور به شرعا ندبا كان أو إيجابا حسنا، والمباح لا يكون حسنا. الاصطلاح الثالث: التعبير بالحسن عن كل ما لفاعله أن يفعله، فيكون المباح حسنا مع المأمورات، وفعل الله يكون حسنا بكل حال. وهذه المعاني الثلاثة كلها أوصاف إضافية وهي معقولة، ولا حجر على من يجعل لفظ الحسن عبارة عن شئ منها، فلا مشاحة في الالفاظ، فعلى هذا إذا لم يرد الشرع لا يتميز فعل عن غيره إلا بالموافقة والمخالفة، ويختلف ذلك بالاضافات ولا يكون صفة للذات، فإن قيل: نحن لا ننازعكم في هذه الامور الاضافية ولا في هذه الاصطلاحات التي تواضعتم عليها، ولكن ندعي الحسن والقبح، وصفا ذاتيا للحسن والقبيح، مدركا بضرورة العقل في بعض الاشياء، كالظلم والكذب والكفران والجهل، ولذلك لا نجوز شيئا من ذلك على الله تعالى لقبحه، ونحرمه على كل عاقل قبل ورود الشرع، لانه قبيح لذاته، وكيف ينكر ذلك والعقلاء بأجمعهم متفقون على القضاء به من غير إضافة إلى حال دون حال؟ قلنا: أنتم منازعون فيما ذكرتموه في ثلاثة أمور: أحدها: في كون القبح وصفا ذاتيا. والثاني: في قولكم أن ذلك مما يعلمه العقلاء بالضرورة. والثالث: في ظنكم أن العقلاء لو توافقوا عليه لكان ذلك حجة مقطوعا بها، ودليلا على كونه ضروريا. أما الأول: وهو دعوى كونه وصفا ذاتيا فهو تحكم بما لا يعقل، فإن القتل عندهم قبيح لذاته، بشرط أن لا تسبقه جناية ولا يعقبه عوض، حتى جاز إيلام البهائم وذبحها، ولم يقبح من الله تعالى ذلك، لانه يثيبها عليه في الآخرة، والقتل في ذاته له حقيقة واحدة لا تختلف، بأن تتقدمه جناية أو تتعقبه لذة، إلا من حيث الاضافة إلى الفوائد والاغراض، وكذلك الكذب كيف يكون قبحه ذاتيا، ولو كان فيه عصمة دم نبي بإخفاء مكانه عن ظالم يقصد قتله لكان حسنا بل واجبا يعصى بتركه؟ والوصف الذاتي كيف يتبدل بالاضافة إلى الاحوال. وأما الثاني: وهو كونه مدركا بالضرورة وكيف يتصور ذلك ونحن ننازعكم فيه؟ والضروري لا ينازع فيه خلق كثير من العقلاء؟ وقولكم أنكم مضطرون إلى المعرفة وموافقون عليه، ولكنكم تظنون أن مستند معرفتكم السمع، كما ظن الكعبي أن مستند علمه بخبر التواتر النظر، ولا يبعد التباس مدرك العلم، وإنما يبعد الخلاف في نفس المعرفة، ولا خلاف فيها؟ قلنا: هذا كلام فاسد، لانا نقول يحسن من الله تعالى إيلام البهائم، ولا نعتقد لها جريمة ولا ثوابا، فدل أنا ننازعكم في نفس العلم. وأما الثالث: فهو أنا لو سلمنا اتفاق العقلاء على هذا أيضا لم تكن فيه حجة، إذ لم يسلم كونهم مضطرين إليه، بل يجوز أن يقع الاتفاق منهم على ما ليس بضروري، فقد اتفق الناس على إثبات الصانع وجواز بعثه الرسل، ولم يخالف إلا الشواذ، فلو اتفق أن ساعدهم الشواذ لم يكن ذلك ضروريا، فكذلك اتفاق الناس على هذا الاعتقاد، يمكن أن يكون بعضه عن دليل السمع الدال على قبح هذه الاشياء، وبعضه عن تقليد مفهوم من الآخذين عن السمع وبعضه عن الشبهة التي وقعت لاهل الضلال، فالتئام الاتفاق من هذه الاسباب لا يدل على كونه ضروريا فلا يدل على كونه حجة لولا منع السمع عن تجويز الخطأ على كافة هذه الامة خاصة إذ لا يبعد اجتماع الكافة على الخطأ عن تقليد وعن شبهة، وكيف وفي الملحدة من لا يعتقد قبح هذه الاشياء ولا حسن نقائضها، فكيف يدعى اتفاق العقلاء؟ احتجوا بأنا نعلم قطعا أن من استوى عنده الصدق والكذب آثر الصدق ومال إليه إن كان عاقلا، وليس ذلك إلا لحسنه، وإن الملك العظيم المستولي على الاقاليم إذا رأى ضعيفا مشرفا على الهلاك يميل إلى إنقاذه وإن كان لا يعتقد أصل الدين لينتظر ثوابا ولا ينتظر منه أيضا مجازاة وشكرا، ولا يوافق ذلك أيضا غرضه بل ربما يتعب به بل يحكم العقلاء بحسن الصبر على السيف إذا أكره على كلمة الكفر، أو على إفشاء السر ونقض العهد، وهو على خلاف غرض المكره، وعلى الجملة استحسان مكارم الاخلاق وإفاضة النعم مما لا ينكره عاقل إلا عن عناد؟ والجواب أنا لا ننكر اشتهار هذه القضايا بين الخلق، وكونها محمودة مشهورة، ولكن مستندها إما التدين بالشرائع وإما الاغراض، ونحن إنما ننكر هذا في حق الله تعالى لانتفاء الاغراض عنه، فأما إطلاق الناس هذه الالفاظ فيما يدور بينهم فيستمر من الاغراض، ولكن قد تدق الاغراض وتخفى فلا يتنبه لها إلا المحققون، ونحن ننبه على مثارات الغلط فيه وهي ثلاث مثارات يغلط الوهم فيها: الأولى: إن الانسان يطلق اسم القبح على ما يخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره، من حيث إنه لا يلتفت إلى الغير، فإن كل طبع مشغوف بنفسه ومستحقر لغيره فيقضي بالقبح مطلقا، وربما يضيف القبح إلى ذات الشئ ويقول هو بنفسه قبيح، فيكون قد قضى بثلاثة أمور هو مصيب في واحد منها، وهو أصل الاستقباح، ومخطئ في أمرين أحدهما إضافة القبح إلى ذاته إذ غفل عن كونه قبيحا لمخالفة غرضه. والثاني: حكمه بالقبح مطلقا، ومنشؤه عدم الالتفات إلى غيره، بل عدم الالتفات إلى بعض أحوال نفسه، فإنه قد يستحسن في بعض الاحوال عين ما يستقبحه إذا اختلف الغرض. الغلطة الثانية: أن ما هو مخالف للغرض في جميع الاحوال إلا في حالة واحدة نادرة قد لا يلتفت الوهم إلى تلك الحالة النادرة، بل لا يخطر بالبال فيراه مخالفا في كل الاحوال، فيقضي بالقبح مطلقا لاستيلاء أحوال قبحه على قلبه وذهاب الحالة النادرة عن ذكره، كحكمه على الكذب بأنه قبيح مطلقا، وغفلته عن الكذب الذي تستفاد به عصمة دم نبي أو ولي، وإذا قضى بالقبح مطلقا واستمر عليه مدة، وتكرر ذلك على سمعه ولسانه انغرس في نفسه استقباح منفر، فلو وقعت تلك الحالة النادرة وجد في نفسه نفرة عنه لطول نشوه على الاستقباح، فإنه ألقي إليه منذ الصبا على سبيل التأديب والارشاد أن الكذب قبيح، لا ينبغي أن يقدم عليه أحد، ولا ينبه على حسنه في بعض الاحوال، خيفة من أن لا تستحكم نفرته عن الكذب، فيقدم عليه وهو قبيح في أكثر الاحوال، والسماع في الصغر كالنقش في الحجر، فينغرس في النفس، ويحن إلى التصديق به مطلقا، وهو صدق، لكن لا على الاطلاق، بل في أكثر الاحوال، وإذا لم يكن في ذكره إلا أكثر الاحوال فهو بالاضافة إليه كل الاحوال، فلذلك يعتقده مطلقا. الغلطة الثالثة: سببها سبق الوهم إلى العكس، فإن ما يرى مقرون بالشئ يظن أن الشئ أيضا لا محالة مقرون به مطلقا، ولا يدري أن الاخص أبدا مقرون بالاعم والاعم لا يلزم أن يكون مقرونا بالاخص، ومثاله: نفرة نفس السليم، وهو الذي نهشته الحية عن الحبل المبرقش اللون، لانه وجد الاذى مقرونا بهذه الصورة، فتوهم أن هذه الصورة مقرونة بالاذى، وكذلك تنفر النفس عن العسل إذا شبه بالعذرة، لانه وجد الاذى والاستقذار مقرونا بالرطب الاصفر، فتوهم أن الرطب الاصفر مقرون به الاستقذار، ويغلب الوهم حتى يتعذر الاكل وإن حكم العقل بكذب الوهم، لكن خلقت قوى النفس مطيعة للاوهام، وإن كانت كاذبة حتى أن الطبع لينفر عن حسناء سميت باسم اليهود إذ وجد الاسم مقرونا بالقبح فظن أن القبح أيضا ملازم للاسم، ولذا تورد على بعض العوام مسألة عقلية جليلة فيقبلها، فإذا قلت هذا مذهب الاشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسئ الاعتقاد فيمن نسبته إليه وليس هذا طبع العامي خاصة بل طبع أكثر العقلاء المتسمين بالعلوم إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على اتباعه، وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعة للاوهام الكاذبة مع علمهم بكذبها، وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الاوهام، فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس، ولذلك ينفر طبع الانسان عن المبيت في بيت فيه ميت مع قطعه بأنه لا يتحرك، ولكنه كأنه يتوهم في كل ساعة حركته ونطقه. فإذا تنبهت لهذه المثارات فنرجع ونقول: إنما يترجح الانقاذ على الاهمال في حق من لا يعتقد الشرائع لدفع الاذى الذي يلحق الانسان من رقة الجنسية، وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه، وسببه أن الانسان يقدر نفسه في تلك البلية، ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه، فيستقبحه منه بمخالفة غرضه، فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه، فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم. فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقة فيه فهو بعيد تصوره، ولو تصور فيبقى أمر آخر وهو طلب الثناء على إحسانه، فإنه فرض حيث لا يعلم أنه المنقذ، فيتوقع أن يعلم فيكون ذلك التوقع باعثا، فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم، فيبقى ميل النفس، وترجح يضاهي نفرة طبع السليم عن الحبل المبرقش، وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة بالثناء فظن أن الثناء مقرون بها بكل حال، كما أنه لما رأى الاذى مقرونا بصورة الحبل وطبعه ينفر عن الاذى فنفر عن المقرون بالاذى، فالمقرون باللذيذ لذيذ، والمقرون بالمكروه مكروه، بل الانسان إذا جالس من عشقه في مكان، فإذا انتهى إليه أحس في نفسه تفرقة بين ذلك المكان وغيره، ولذلك قال الشاعر: أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما تلك الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وقال ابن الرومي منبها على سبب حب الاوطان: وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا وشواهد ذلك مما يكثر، وكل ذلك من حكم الوهم، وأما الصبر على السيف في ترك كلمة الكفر مع طمأنينة النفس فلا يستحسنه جميع العقلاء لولا الشرع، بل ربما استقبحوه، وإنما استحسنه من ينتظر الثواب على الصبر، أو من ينتظر الثناء عليه بالشجاعة والصلابة في الدين، وكم من شجاع يركب متن الخطر، ويتهجم على عددهم أكثر منه، وهو يعلم أنه لا يطيقهم، ويستحقر ما يناله من الالم لما يعتاضه من توهم الثناء والحمد ولو بعد موته، وكذلك إخفاء السر، وحفظ العهد إنما تواصى الناس بهما لما فيهما من المصالح، وأكثروا الثناء عليهما، فمن يحتمل الضرر فيه فإنما يحتمله لاجل الثناء، فإن فرض حيث لا ثناء فقد وجد مقرونا بالثناء، فيبقى ميل الوهم إلى المقرون باللذيذ، وإن كان خاليا عنه، فإن فرض من لا يستولي عليه هذا الوهم، ولا ينتظر الثواب والثناء فهو مستقبح للسعي في هلاك نفسه بغير فائدة ويستحمق من يفعل ذاك قطعا، فمن يسلم أن مثل هذا يؤثر الهلاك على الحياة، وعلى هذا يجري الجواب عن الكذب، وعن جميع ما يفرضونه، ثم نقول: نحن لا ننكر أن أهل العادة يستقبح بعضهم من بعض الظلم والكذب، وإنما الكلام في القبح والحسن، بالاضافة إلى الله تعالى ومن قضى به فمستنده قياس الغائب على الشاهد، وكيف يقيس والسيد لو ترك عبيده وإماءه وبعضهم يموج في بعض ويرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم لقبح منه، وقد فعل الله تعالى ذلك بعباده، ولم يقبح منه، وقولهم أنه تركهم لينزجروا بأنفسهم فيستحقوا الثواب هوس، لانه علم أنهم لا ينزجرون، فليمنعهم قهرا، فكم من ممنوع عن الفواحش بعنة أو عجز، وذلك أحسن من تمكينهم، مع العلم لانهم لا ينزجرون. |
12-06-2012, 02:53 PM | #18 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (شكر الخالق) لا يجب شكر المنعم عقلا، خلافا للمعتزلة، ودليله أن لا معنى للواجب إلا ما أوجبه الله تعالى وأمر به وتوعد بالعقاب على تركه، فإذا لم يرد خطاب فأي معنى للوجوب؟ ثم تحقيق القول فيه أن العقل لا يخلو إما أن يوجب ذلك لفائدة أو لا لفائدة، ومحال أن يوجب لا لفائدة، فإن ذلك عبث وسفه، وإن كان لفائدة فلا يخلو إما أن ترجع إلى المعبود وهو محال إذ يتعالى ويتقدس عن الاغراض أو إلى العبد، وذلك لا يخلو إما أن تكون في الدنيا أو في الآخرة، ولا فائدة له في الدنيا، بل يتعب بالنظر والفكر والمعرفة والشكر، ويحرم به عن الشهوات واللذات، ولا فائدة له في الآخرة، فإن الثواب تفضل من الله يعرف بوعده وخبره فإذا لم يخبر عنه فمن أين يعلم أنه يثاب عليه؟ فإن قيل: يخطر له أنه إن كفر وأعرض ربما يعاقب، والعقل يدعو إلى سلوك طريق الامن؟ قلنا: لا بل العقل يعرف طريق الامن ثم الطبع يستحث على سلوكه، إذ كل إنسان مجبول على حب نفسه وعلى كراهة الالم، فقد غلطتم في قولكم أن العقل داع، بل العقل هاد، والبواعث والدواعي تنبعث من النفس تابعة لحكم العقل، وغلطتم أيضا في قولكم أنه يثاب على جانب الشكر والمعرفة خاصة، لان هذا الخاطر مستنده توهم غرض في جانب الشكر يتميز به عن الكفر وهما متساويان بالاضافة إلى جلال الله تعالى، بل إن فتح باب الاوهام، فربما يخطر له أن الله يعاقبه لو شكره ونظر فيه لانه أمده بأسباب النعم، فلعله خلقه ليترفه وليتمتع فإتعابه نفسه تصرف في مملكته بغير إذنه، ولهم شبهتان: إحداهما: قولهم إتفاق العقلاء على حسن الشكر، وقبح الكفر ان لا سبيل إلى إنكاره، وذلك مسلم، لكن في حقهم، لانهم يهتزون ويرتاحون للشكر ويغتمون بالكفران، والرب تعالى يستوي في حقه الامران، فالمعصية والطاعة في حقه سيان، ويشهد له أمران، أحدهما: أن المتقرب إلى السلطان بتحريك أنملته في زاوية بيته وحجرته مستهين بنفسه وعبادة العباد بالنسبة إلى جلال الله دونه في الرتبة. والثاني: أن من تصدق عليه السلطان بكسرة خبز في مخمصة فأخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الاشهاد بشكره، كان ذلك بالنسبة إلى الملك قبيحا وافتضاحا، وجملة نعم الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى خزائن الملك، لان خزانة الملك تفنى بأمثال تلك الكسرة لتناهيها ومقدورات الله تعالى لا تتناهى بأضعاف ما أفاضه على عباده. الشبهة الثانية: قولهم حصر مدارك الوجوب في الشرع يفضي إلى إفحام الرسل فإنهم إذا أظهروا المعجزات قال لهم المدعوون لا يجب علينا النظر في معجزاتكم إلا بالشرع، ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزاتكم فثبتوا علينا وجوب النظر حتى ننظر، ولا نقدر على ذلك ما لم ننظر فيؤدي إلى الدور والجواب من وجهين: أحدهما: من حيث التحقيق، وهو أنكم غلطتم في ظنكم بنا أنا نقول استقرار الشرع موقوف على نظر الناظرين، بل إذا بعث الرسول وأيد بمعجزته بحيث يحصل بها إمكان المعرفة، لو نظر العاقل فيها فقد ثبت الشرع، واستقر ورود الخطاب بإيجاب النظر، إذ لا معنى للواجب إلا ما ترجح فعله على تركه بدفع ضرر معلوم أو موهوم، فمعنى الوجوب رجحان الفعل على الترك، والموجب هو المرجح، والله تعالى هو المرجح، وهو الذي عرف رسوله، وأمره أن يعرف الناس أن الكفر سم مهلك، والمعصية داء والطاعة شفاء، فالمرجح هو الله تعالى، والرسول هو المخبر، والمعجزة سبب يمكن العاقل من التوصل إلى معرفة الترجيح، والعقل هو الآلة التي بها يعرف صدق المخبر عن الترجيح، والطبع المجبول على التألم بالعذاب، والتلذذ بالثواب هو الباعث المستحث على الحذر من الضرر، وبعد ورود الخطاب حصل الايجاب الذي هو الترجيح، وبالتأييد بالمعجزة حصل الامكان في حق العاقل الناظر، إذ قدر به على معرفة الرجحان، فقوله: لا أنظر ما لم أعرف ولا أعرف ما لم أنظر، مثاله ما لو قال الاب لولده: التفت، فإن وراءك سبعا عاديا هوذا يهجم عليك إن غفلت عنه فيقول: لا ألتفت ما لم أعرف وجوب الالتفات، ولا يجب الالتفات ما لم أعرف السبع ولا أعرف السبع ما لم ألتفت، فيقول له: لا جرم تهلك بترك الالتفات، وأنت غير معذور لانك قادر على الالتفات وترك العناد، فكذلك النبي يقول: الموت وراءك ودونه الهوام المؤذية والعذاب الاليم إن تركت الايمان والطاعة، وتعرف ذلك بأدنى نظر في معجزتي، فإن نظرت وأطعت نجوت، وإن غفلت وأعرضت فالله تعالى غني عنك وعن عملك، وإنما أضررت بنفسك، فهذا أمر معقول لا تناقض فيه. الجواب الثاني: المقابلة بمذهبهم، فإنهم قضوا بأن العقل هو الموجب، وليس يوجب بجوهره إيجابا ضروريا لا ينفك منه أحد، إذ لو كان كذلك لم يخل عقل عاقل عن معرفة الوجوب، بل لا بد من تأمل ونظر، ولو لم ينظر لم يعرف وجوب النظر، وإذا لم يعرف وجوب النظر فلا ينظر، فيؤدي أيضا إلى الدور كما سبق، فإن قيل: العاقل لا يخلو عن خاطرين يخطران له: أحدهما: أنه إن نظر وشكر أثيب، والثاني: أنه إن ترك النظر عوقب، فيلوك له على القرب وجوب سلوك طريق الامن، قلنا: كم من عاقل انقضى عليه الدهر ولم يخطر له هذا الخاطر، بل قد يخطر له أنه لا يتميز في حق الله تعالى أحدهما عن الآخر، فكيف أعذب نفسي بلا فائدة ترجع إلي ولا إلى المعبود؟ ثم إن كان عدم الخلو عن الخاطر بعد إنذار النبي وتحذيره، ونحن لا ننكر أن الانسان إذا استشعر المخافة استحثه طبعه على الاحتراز، فإن الاستشعار إنما يكون بالتأمل الصادر عن العقل، فإن سمى مسم معترف الوجوب موجبا فقد تجوز في الكلام، بل الحق الذي لا مجاز فيه أن الله موجب أي مرجح للفعل على الترك، والنبي مخبر، والعقل معرف، والطبع باعث والمعجزة ممكنة من التعريف، والله تعالى أعلم.
مسألة (حكم الافعال قبل ورود الشرع على الاباحة) ذهب جماعة من المعتزلة إلى أن الافعال قبل ورود الشرع على الاباحة، وقال بعضهم: على الحظر، وقال بعضهم: على الوقف، ولعلهم أرادوا بذلك فيما لا يقضي العقل فيه بتحسين ولا تقبيح ضرورة أو نظرا كما فصلناه من مذهبهم، وهذه المذاهب كلها باطلة، أما إبطال مذهب الاباحة فهو أنا نقول: المباح يستدعي مبيحا كما يستدعي العلم والذكر ذاكرا وعالما، والمبيح هو الله تعالى إذا خير بين الفعل والترك بخطابه، فإذا لم يكن خطاب لم يكن تخيير فلم تكن إباحة، وإن عنوا بكونه مباحا أنه لا حرج في فعله ولا تركه فقد أصابوا في المعنى وأخطأوا في اللفظ، فإن فعل البهيمة والصبي والمجنون لا يوصف بكونه مباحا، وإن لم يكن في فعلهم وتركهم حرج، والافعال في حق الله تعالى أعني ما يصدر من الله لا توصف بأنها مباحة ولا حرج عليه في تركها، لكنه انتفى التخيير من المخير انتفت الاباحة، فإن استجرأ مستجرئ على إطلاق اسم المباح على أفعال الله تعالى ولم يرد به إلا نفي الحرج فقد أصاب في المعنى وإن كان لفظه مستكرها، فإن قيل: العقل هو المبيح، لانه خير بين فعله وتركه، إذ حرم القبيح وأوجب الحسن وخير فيما ليس بحسن ولا قبيح قلنا: تحسين العقل وتقبيحه قد أبطلناه، وهذا مبني عليه فيبطل، ثم تسمية العقل مبيحا مجاز، كتسميته موجبا، فإن العقل يعرف الترجيح، ويعرف انتفاء الترجيح، ويكون معنى وجوبه رجحان فعله على تركه، والعقل يعرف ذلك، ومعنى كونه مباحا انتفاء الترجيح، والعقل معرف لا مبيح، فإنه ليس بمرجح ولا مسو، لكنه معرف للرجحان والاستواء، ثم نقول: بم تنكرون على أصحاب الوقف إذا أنكروا استواء الفعل والترك وقالوا: ما من فعل مما لا يحسنه العقل ولا يقبحه إلا ويجوز أن يرد الشرع بإيجابه، فيدل على أنه متميز بوصف ذاتي لاجله يكون لطفا ناهيا عن الفحشاء، داعيا إلى العبادة، ولذلك أوجبه الله تعالى، والعقل لا يستقل بدركه ويجوز أن يرد الشرع بتحريمه فيدل على أنه متميز بوصف ذاتي يدعو بسببه إلى الفحشاء لا يدركه العقل، وقد استأثر الله بعلمه هذا مذهبهم ثم يقولون: بم تنكرون على أصحاب الحظر إذ قالوا: لا نسلم استواء الفعل وتركه، فإن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح والله تعالى هو المالك ولم يأذن، فإن قيل: لو كان قبيحا لنهى عنه وورد السمع به، فعدم ورود السمع دليل على انتفاء قبحه، قلنا: لو كان حسنا لاذن فيه، وورد السمع به، فعدم ورود السمع به دليل على انتفاء حسنه، فإن قيل: إذا أعلمنا الله تعالى أنه نافع ولا ضرر فيه فقد أذن فيه، قلنا: فإعلام المالك إيانا أن طعامه نافع لا ضرر فيه ينبغي أن يكون أذنا، فإن قيل: الملك منا يتضرر، والله لا يتضرر، فالتصرف في مخلوقاته بالاضافة إليه يجري مجرى التصرف في مرآة الانسان بالنظر فيها، وفي حائطه بالاستظلال به، وفي سراجه بالاستضاءة به، قلنا: لو كان قبح التصرف في ملك الغير لتضرره لا لعدم أذنه لقبح، وإن أذن إذا كان متضررا كيف ومنع المالك من المرآة والظل والاستضاءة بالسراج قبيح، وقد منع الله عباده من جملة من المأكولات ولم يقبح، فإن كان ذلك لضرر العبد فما من فعل إلا ويتصور أن يكون فيه ضرر خفي لا يدركه العقل ويرد التوقيف بالنهي عنه، ثم نقول: قولكم أنه إذا كان لا يتضرر الباري بتصرفنا فيباح، فلم قلتم ذلك؟ فإن نقل مرآة الغير من موضع إلى موضع وإن كان لا يتضرر به صاحبها يحرم، وإنما يباح النظر، لان النظر ليس تصرفا في المرآة، كما أن النظر إلى الله تعالى وإلى السماء ليس تصرفا في المنظور فيه، ولا في الاستظلال تصرف في الحائط ولا في الاستضاءة تصرف في السراج، فلو تصرف في نفس هذه الاشياء ربما يقضي بتحريمه إلا إذ دل السمع على جوازه، فإن قيل: خلق الله تعالى الطعوم فيها، والذوق دليل على أنه أراد انتفاعنا بها، فقد كان قادرا على خلقها عارية عن الطعوم؟ قلنا: الاشعرية وأكثر المعتزلة مطبقون على استحالة خلوها عن الاعراض التي هي قابلة لها، فلا يستقيم ذلك وإن سلم، فلعله خلقها لا لينتفع بها أحد، بل خلق العالم بأسره لا لعلة، أو لعله خلقها ليدرك ثواب اجتنابها مع الشهوة، كما يثاب على ترك القبائح المشتهاة. وأما مذهب أصحاب الحظر فأظهر بطلانا: إذ لا يعرف حظرها بضرورة العقل ولا بدليله، ومعنى الحظر ترجيح جانب الترك على جانب الفعل لتعلق ضرر بجانب الفعل، فمن أين يعلم ذلك؟ ولم يرد سمع، والعقل لا يقضي به بل ربما يتضرر بترك اللذات عاجلا، فكيف يصير تركها أولى من فعلها؟ وقولهم: إنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو قبيح فاسد، لانا لا نسلم قبح ذلك لولا تحريم الشرع ونهيه ولو حكم فيه العادة فذلك يقبح في حق من تضرر بالتصرف في ملكه، بل القبيح المنع مما لا ضرر فيه، ثم قد بينا أن حقيقة درك القبح ترجع إلى مخالفة الغرض، وأن ذلك لا حقيقة له. وأما مذهب الوقف: إن أرادوا به أن الحكم موقوف على ورود السمع، ولا حكم في الحال فصحيح، إذ معنى الحكم الخطاب، ولا خطاب قبل ورود السمع، وإن أريد به أنا نتوقف فلا ندري أنها محظورة أو مباحة، فهو خطأ، لانا ندري أنه لا حظر، إذ معنى الحظر قول الله تعالى لا تفعلوه، ولا إباحة، إذ معنى الاباحة قوله: إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه، ولم يرد شئ من ذلك. |
12-06-2012, 02:54 PM | #19 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفن الثاني في أقسام الاحكام ويشتمل على تمهيد ومسائل خمس عشرة. أما التمهيد: فإن أقسام الاحكام الثابتة لافعال المكلفين خمسة: الواجب، والمحظور والمباح، والمندوب والمكروه ووجه هذه القسمة أن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل أو اقتضاء الترك، أو التخيير بين الفعل والترك، فإن ورد باقتضاء الفعل فهو أمر، فإما أن يقترن به الاشعار بعقاب على الترك فيكون واجبا، ولا يقترن فيكون ندبا والذي ورد باقتضاء الترك فإن أشعر بالعقاب على الفعل فحظر وإلا فكراهية، وإن ورد بالتخيير فهو مباح. ولا بد من ذكر حد كل واحد على الرسم: فأما حد الواجب: فقد ذكرنا طرفا منه في مقدمة الكتاب، ونذكر الآن ما قيل فيه. فقال قوم: إنه الذي يعاقب على تركه، فاعترض عليه بأن الواجب قد يعفي عن العقوبة على تركه، ولا يخرج عن كونه واجبا، لان الوجوب ناجز والعقاب منتظر، وقيل: ما توعد بالعقاب على تركه، فاعترض عليه بأنه لو توعد لوجب تحقيق الوعيد، فإن كلام الله تعالى صدق، ويتصور أن يعفي عنه ولا يعاقب: وقيل: ما يخاف العقاب على تركه، وذلك يبطل بالمشكوك في تحريمه ووجوبه، فإنه ليس بواجب، ويخاف العقاب على تركه، وقال القاضي أبو بكر رحمه الله: الأولى في حده أن يقال: هو الذي يذم تاركه ويلام شرعا بوجه ما، لان الذم أمر ناجز، والعقوبة مشكوك فيها، وقوله: بوجه ما، قصد أن يشمل الواجب المخير، فإنه يلام على تركه مع بدله، والواجب الموسع، فإنه يلام على تركه مع ترك العزم على امتثاله، فإن قيل: فهل من فرق بين الواجب والفرض؟ قلنا: لا فرق عندنا بينهما بل هما من الالفاظ المترادفة، كالحتم واللازم، وأصحاب أبي حنيفة اصطلحوا على تخصيص اسم الفرض بما يقطع بوجوبه، وتخصيص اسم الواجب بما لا يدرك إلا ظنا، ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون، ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعاني، وقد قال القاضي: لو أوجب الله علينا شيئا ولم يتوعد بعقاب على تركه لوجب، فالوجوب إنما هو بإيجابه لا بالعقاب، وهذا فيه نظر، لان ما استوى فعله وتركه في حقنا فلا معنى لوصفه بالوجوب، إذ لا نعقل وجوبا إلا بأن يترجح فعله على تركه بالاضافة إلى أغراضنا، فإذا انتفى الترجيح فلا معنى للوجوب أصلا. وإذا عرفت حد الواجب فالمحظور في مقابلته ولا يخفى حده. وأما حد المباح فقد قيل فيه: ما كان تركه وفعله سيين، ويبطل بفعل الطفل والمجنون والبهيمة، ويبطل بفعل الله تعالى، وكثير من أفعاله يساوي الترك في حقنا، وهما في حق الله تعالى أبدا سيان، وكذلك الافعال قبل ورود الشرع تساوي الترك، ولا يسمى شئ من ذلك مباحا، بل حده أنه الذي ورد الاذن من الله تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله ومدحه ولا بذم تاركه، ومدحه، ويمكن أن يحد بأنه الذي عرف الشرع أنه لا ضرر عليه في تركه ولا فعله، ولا نفع من حيث فعله وتركه احترازا عما إذا ترك المباح بمعصية، فإنه يتضرر، لا من حيث ترك المباح، بل من يحث ارتكاب المعصية. وأما حد الندب فقيل فيه: إنه الذي فعله خير من تركه من غير ذم يلحق بتركه، ويرد عليه الاكل قبل ورود الشرع، فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة وبقاء الحياة، وقالت القدرية: هو الذي إذا فعله فاعله استحق المدح ولا يستحق الذم بتركه، ويرد عليه فعل الله تعالى، فإنه لا يسمى ندبا مع أنه يمدح على كل فعل ولا يذم، فالاصح في حده أنه المأمور به الذي لا يلحق الذم بتركه من حيث هو ترك له من غير حاجة إلى بدل احترازا عن الواجب المخير والموسع. وأما المكروه: فهو لفظ مشترك في عرف الفقهاء بين معاني: أحدها: المحظور، فكثيرا ما يقولا لشافعي رحمه الله: وأكره كذا، وهو يريد التحريم. الثاني: ما نهي عنه نهي تنزيه، وهو الذي أشعر بأن تركه خير من فعله وإن لم يكن عليه عقاب، كما أن الندب هو الذي أشعر بأن فعله خير من تركه. الثالث: ترك ما هو الأولى وإن لم ينه عنه، كترك صلاة الضحى مثلا، لا لنهي ورد عنه، ولكن لكثرة فضله وثوابه، قيل فيه: إنه مكروه تركه. الرابع: ما وقعت الريبة والشبهة في تحريمه، كلحم السبع وقليل النبيذ، وهذا فيه نظر، لان من أداه اجتهاده إلى تحريمه فهو عليه حرام ومن أداه اجتهاده إلى حله فلا معنى للكراهية فيه إلا إذا كان من شبهة الخصم حزازة في نفسه ووقع في قلبه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: الاثم حزاز القلب فلا يقبح إطلاق لفظ الكراهة، لما فيه من خوف التحريم، وإن كان غالب الظن الحل، ويتجه هذا على مذهب من يقول: المصيب واحد فأما من صوب كل مجتهد فالحل عنده مقطوع به إذا غلب على ظنه الحل. وإذا فرغنا من تمهيد الاقسام فلنذكر المسائل المتشعبة عنها
|
12-06-2012, 02:55 PM | #20 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (أصناف الواجب)
الواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم بين أقسام محصورة، ويسمى واجبا مخيرا كخصلة من خصال الكفارة، فإن الواجب من جملتها واحد لا بعينه، وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا: لا معنى للايجاب مع التخيير، فإنهما متناقضان، ونحن ندعي أن ذلك جائز عقلا وواقع شرعا: أما دليل جوازه عقلا: فهو أن السيد إذا قال لعبده: أوجبت عليك خياطة هذا القميص، أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم أيهما فعلت اكتفيت به وأثبتك عليه، وإن تركت الجميع عاقبتك ولست أوجب الجميع، وإنما أوجب واحدا لا بعينه، أي واحد أردت، فهذا كلام معقول، ولا يمكن أن يقال أنه لم يوجب عليه شيئا، لانه عرضه للعقاب بترك الجميع فلا ينفك عن الوجوب، ولا يمكن أن يقال: أوجب واحدا لا بعينه وأما دليل وقوعه شرعا فخصال الكفارة، بل إيجاب إعتاق الرقبة، فإنه بالاضافة إلى أعيان العبيد مخير، وكذلك تزويج البكر الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين واجب، ولا سبيل إلى إيجاب الجمع، وكذلك عقد الامامة لاحد الامامين الصالحين للامامة واجب والجمع محال، فإن قيل: الواجب جميع خصال الكفارة، فلو تركها عوقب على الجميع، ولو أتى بجميعها وقع الجميع واجبا، ولو أتى بواحد سقط عنه الآخر، و قد يسقط الواجب بأسباب دون الاداء، وذلك غير محال، قلنا هذا لا يطرد في الامامين والكفؤين، فإن الجمع فيه حرام، فكيف يكون الكل واجبا؟ ثم هو خلاف الإجماع في خصال الكفارة، إذ الامة مجمعة على أن الجميع غير واجب. واحتجوا بأن الخصال الثلاث إن كانت متساوية الصفات عند الله تعالى بالاضافة إلى صلاح العبد، فينبغي أن يجب الجميع، تسوية بين المتساويات، وأن تميز بعضها بوصف يقتضي الايجاب، فينبغي أن يكون هو الواجب، ولا يجعل مبهما بغيره كيلا يلتبس بغيره، قلنا ومن سلم لكم أن للافعال أوصافا في ذواتها لاجلها، يوجبها الله تعالى، بل الايجاب إليه، وله أن يعين واحدة من الثلاث المتساويات فيخصصها بالايجاب دون غيرها، وله أن يوجب واحدا لا بعينه، ويجعل مناط التعيين اختيار المكلف لفعله حتى لا يتعذر عليه الامتثال؟ احتجوا: بأن الواجب هو الذي يتعلق به الايجاب وإذا كان الواجب واحدا من الخصال الثلاث علم الله تعالى ما تعلق به الايجاب، فيتميز ذلك في علمه، فكان هو الواجب، قلنا: إذا أوجب واحدا لا بعينه فإنا نعلمه غير معين، ولو خاطب السيد عبده بأني أوجبت عليك الخياطة أو البناء فكيف يعلمه الله تعالى ولا يعلمه إلا على ما هو عليه من نعته، ونعته أنه غير معين فيعلمه غير معين، كما هو عليه، وهذا التحقيق، وهو أن الواجب ليس له وصف ذاتي من تعلق الايجاب به، وإنما هو إضافة إلى الخطاب، والخطاب بحسب النطق والذكر، وخلق السواد في أحد الجسمين لا بعينه، وخلق العلم في أحد الشخصين لا بعينه غير ممكن، فأما ذكر واحد من اثنين لا على التعيين فممكن، كمن يقول لزوجتيه: إحداكما طالق، فالايجاب قول يتبع النطق، فإن قيل الموجب طالب، ومطلوبه لا بد أن يتميز عنده قلنا: يجوز أن يكون طلبه متعلقا بأحد أمرين، كما تقول المرأة: زوجني من أحد الخاطبين أيهما كان، وأعتق رقبة من هذه الرقاب أيها كانت، وبايع أحد هذين الامامين أيهما كان، فيكون المطلوب أحدهما لا بعينه، وكل ما تصور طلبه تصور إيجابه، فإن قيل: أن الله سبحانه يعلم ما سيأتي به المكلف ويتأدي به الواجب فيكون معينا في علم الله تعالى؟ قلنا: يعلمه الله تعالى غير معين، ثم يعلم أنه يتعين بفعله ما لم يكن متعينا قبل فعله، ثم لو أتى بالجميع أو لم يأت بالجميع فكيف يتعين واحد في علم الله تعالى، فإن قيل: فلم لا يجوز أن يوجب على أحد شخصين لا بعينه، ولم قلتم بأن فرض الكفاية على الجميع مع أن الوجوب يسقط بفعل واحد؟ قلنا: لان الوجوب يتحقق بالعقاب، ولا يمكن عقاب أحد الشخصين لا بعينه، ويجوز أن يقال أنه يعاقب على أحد الفعلين لا بعينه. مسألة (أصناف الواجب من حيث الوقت) الواجب ينقسم بالاضافة إلى الوقت إلى مضيق وموسع، وقال قوم: التوسع يناقض الوجوب، وهو باطل عقلا وشرعا. أما العقل: فإن السيد إذا قال لعبده: خط هذا الثوب في بياض هذا النهار إما في أوله أو في أوسطه أو في آخره كيفما أردت، فمهما فعلت فقد امتثلت إيجابي، فهذا معقول، ولا يخلو إما أن يقال لم يوجب شيئا أصلا، أو أوجب شيئا مضيقا، وهما محالان، فلم يبق إلا أنه أوجب موسعا. وأما الشرع: فالإجماع منعقد على وجوب الصلاة عند الزوال، وأنه مهما صلى كان مؤديا للفرض وممتثلا لامر الايجاب، مع أنه لا تضييق، فإن قيل: حقيقة الواجب ما لا يسع تركه، بل يعاقب عليه، والصلاة والخياطة إن أضيفا إلى آخر الوقت فيعاقب على تركه، فيكون وجوبه في آخر الوقت، أما قبله فيتخير بين فعله وتركه وفعله خير من تركه، وهذا حد الندب؟ قلنا: كشف الغطاء عن هذا، أن الاقسام في العقل ثلاثة: فعل لا عقاب على تركه مطلقا وهو الندب، وفعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب، وفعل يعاقب على تركه بالاضافة إلى مجموع الوقت، ولكن لا يعاقب بالاضافة إلى بعض أجزاء الوقت، وهذا قسم ثالث، فيفتقر إلى عبارة ثالثة، وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب، فأولى الالقاب به الواجب الموسع، أو الندب الذي لا يسع تركه، وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا، بدليل انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة، وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب، فإذا الاقسام الثلاثة لا ينكرها العقل، والنزاع يرجع إلى اللفظ، والذي ذكرناه أولى، فإن قيل: ليس هذا قسما ثالثا بل هو بالاضافة إلى أول الوقت ندب، إذ يجوز تركه، وبالاضافة إلى آخر الوقت حتم إذ لا يسع تأخيره عنه، وقولكم: أنه ينوي الفرض فمسلم، لكنه فرض بمعنى أنه يصير فرضا كمعجل الزكاة ينوي فرض الزكاة، ويثاب ثواب معجل الفرض لاثواب الندب ولا ثواب الفرض الذي ليس بمعجل، قلنا: قولكم أنه بالاضافة إلى أول الوقت يجوز تأخيره فهو ندب خطأ، إذ ليس هذا حد الندب، بل الندب ما يجوز تركه مطلقا، وهذا لا يجوز تركه إلا بشرط، وهو الفعل بعده أو العزم على الفعل، وما جاز تركه ببدل وشرط فليس بندب بدليل ما لو أمر بالاعتاق فإنه ما من عبد إلا ويجوز له ترك اعتاقه لكن بشرط أن يعتق عبدا آخر، وكذلك خصال الكفارة، ما من واحدة إلا ويجوز تركها لكن ببدل، ولا يكون ندبا بل كما يسمى ذلك واجبا مخيرا، يسمى هذا واجبا غير مضيق، وإذا كان حظ المعنى منه متفقا عليه وهو الانقسام إلى الاقسام الثلاثة فلا معنى للمناقشة، وما جاز تركه بشرط يفارق ما لا يجوز تركه مطلقا، وما يجوز تركه مطلقا، فهو قسم ثالث، وأما ما ذكرتموه من أنه تعجيل للفرض فلذلك سمي فرضا فمخالف للإجماع، إذ يجب نية التعجيل في الزكاة، وما نوى أحد من السلف في الصلاة في أول الوقت إلا ما نواه في آخره، ولم يفرقوا أصلا وهو مقطوع به، فإن قيل: قد قال قوم يقع نفلا ويسقط الفرض عنده، وقال قوم: يقع موقوفا، فإن بقي بنعت المكلفين إلى آخر الوقت تبين وقوعه فرضا، وإن مات أو جن وقع نفلا، قلنا: لو كان يقع نفلا لجازت بنية النفل بل استحال وجود نية الفرض من العالم بكونه نفلا، إذ النية قصد يتبع العلم، والوقف باطل إذ الامة مجمعة على أن من مات في وسط الوقت بعد الفراغ من الصلاة مات مؤديا فرض الله تعالى كما نواه وأداه، إذا قال: نويت أداء فرض الله تعالى، فإن قيل: بنيتم كلامكم على أن تركه جائز بشرط وهو العزم على الامتثال أو الفعل وليس كذلك، فإن الواجب المخير ما خير فيه بين شيئين كخصال الكفارة، وما خير الشرع بين فعل الصلاة والعزم، ولان مجرد قوله: صل في هذا الوق ليس فيه تعرض للعزم، فإيجابه زيادة على مقتضى الصيغة، ولانه لو غفل وخلا عن العزم ومات في وسط الوقت لم يكن عاصيا؟ قلنا: أما قولكم لو ذهل لا يكون عاصيا فمسلم، وسببه أن الغافل لا يكلف، أما إذا لم يغفل عن الامر فلا يلخو عن العزم إلا بضده، وهو العزم على الترك مطلقا، وذلك حرام، وما لا خلاص من الحرام إلا به فهو واجب، فهذا الدليل قد دل على وجوبه وإن لم يدل عليه مجرد الصيغة من حيث وضع اللسان، ودليل العقل أقوى من دلالة الصيغة، فإذا يرجع حاصل الكلام إلى أن الواجب الموسع كالواجب المخير بالاضافة إلى أول الوقت وبالاضافة إلى آخره أيضا، فإنه لو أخلي عنه في آخره لم يعص إذا كان قد فعل في أوله. |
12-06-2012, 02:55 PM | #21 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (حكم من توفي أثناء وقت الصلاة بعد العزم عليها) إذا مات في أثناء وقت الصلاة فجأة بعد العزم على الامتثال لا يكون عاصيا، وقال بعض من أراد تحقيق معنى الوجوب أنه يعصي، وهو خلاف إجماع السلف، فإنا نعلم أنهم كانوا لا يؤثمون من مات فجأة بعد انقضاء مقدار أربع ركعات من وقت الزوال أو بعد انقضاء مقدار ركعتين من أول الصبح، وكانوا لا ينسبونه إلى تقصير، ولا سيما إذا اشتغل بالوضوء، أو نهض إلى المسجد فمات في الطريق، بل محال أن يعصي، وقد جوز له التأخير فمن فعل ما يجوز له كيف يمكن تعصيته، فإن قيل: جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة، قلنا: هذا محال، فإن العاقبة مستورة عنه، فإذا سألنا وقال: العاقبة مستورة عني وعلي صوم يوم، وأنا أريد أن أؤخره إلى غد، فهل يحل لي التأخير مع الجهل بالعاقبة أم أعصي بالتأخير؟ فلا بدل له من جواب، فإن قلنا: لا يعصي فلم أثم بالموت الذي ليس إليه، وإن قلنا: يعصي فهو خلاف الإجماع في الواجب الموسع، وإن قلنا: إن كان في علم الله تعالى أنك تموت قبل الغد فأنت عاص، وإن كان في علمه أن تحيا فلك التأخير، فيقول: وما يدريني ماذا في علم الله، فما فتواكم في حق الجاهل؟ فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم، فإن قيل: فإن جاز تأخيره أبدا ولا يعصي إذا مات، فأي معنى لوجوبه؟ قلنا: تحقق الوجوب بأنه لم يجز التأخير إلا بشرط العزم، ولا يجوز العزم على التأخير إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء إليها، كتأخيره الصلاة من ساعة إلى ساعة، وتأخيره الصوم من يوم إلى يوم مع العزم على التفرغ له في كل وقت، وتأخيره الحج من سنة إلى سنة، فلو عزم المريض المشرف على الهلاك على التأخير شهرا، أو الشيخ الضعيف على التأخير سنين وغالب ظنه أنه لا يعيش إلى تلك المدة عصي بهذا التأخير، وإن لم يمت ووفق للعمل لكنه مأخوذ بموجب ظنه، كالمعزر إذا ضرب ضربا يهلك، أو قاطع سلعة وغالب ظنه الهلاك أثم وإن سلم، ولهذا قال أبو حنيفة: لا يجوز تأخير الحج، لان البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن، وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر وشهرين فجائز، لانه لا يغلب على الظن الموت إلى تلك المدة، والشافعي رحمه الله يرى البقاى إلى السنة الثانية غالبا على الظن في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض، ثم المعزر إذا فعل ما غالب ظنه السلامة فهلك ضمن، لا لانه آثم، لكن لانه أخطأ في ظنه والمخطئ ضامن غير آثم.
مسألة (ما لا يتم الواجب إلا به) اختلفوا في أن ما لا يتم الوجب إلا به، هل يوصف بالوجوب؟ والتحقيق في هذا أن هذا ينقسم إلى ما ليس إلى المكلف، كالقدرة على الفعل، وكاليد في الكتابة، وكالرجل في المشي، فهذا لا يوصف بالوجوب، بل عدمه يمنع الايجاب إلا على مذهب من يجوز تكليف ما لا يطاق، وكذلك تكليف حضور الامام الجمعة، وحضور تمام العدد، فإنه ليس إليه فلا يوصف بالوجوب، بل يسقط بتعذره الواجب. وأما ما يتعلق باختيار العبد فينقسم إلى الشرط الشرعي وإلى الحسي. فالشرعي: كالطهارة في الصلاة يجب وصفها بالوجوب عند وجوب الصلاة، فإن إيجاب الصلاة إيجاب لما يصير به الفعل صلاة. وأما الحسي: فكالسعي إلى الجمعة، وكالمشي إلى الحج وإلى مواضع المناسك، فينبغي أن يوصف أيضا بالوجوب إذ أمر البعيد عن البيت بالحج أمر بالمشي إليه لا محالة، وكذلك إذا وجب غسل الوجه ولم يمكن إلا بغسل جزء من الرأس، وإذا وجب الصوم ولم يمكن إلا بالامساك جزء من الليل قبل الصبح، فيوصف ذلك بالوجوب ونقول: ما لا يتصول إلى الواجب إلا به وهو فعل المكلف فهو واجب، وهذا أولى من أن نقول: يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب، إذ قولنا: يجب فعل ما ليس بواجب متناقض، وقولنا: ما ليس بواجب صار واجبا غير متناقض فإنه واجب، لكن الأصل وجب بالايجاب قصدا إليه، والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود وقد وجب كيفما كان، وإن كان علة وجوبه غير علة وجوب المقصود، فإن قيل لو كان واجبا لكان مقدرا، فما المقدار الذي يجب غسله من الرأس وإمساكنه من الليل؟ قلنا: قد وجب التوصل به إلى الواجب، وهو غير مقدر، بل يجب مسح الرأس، ويكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم، وهو غير مقدر، فكذلك الواجب أقل ما يمكن به غسل الوجه، وهذا التقدير كاف في الوجوب، فإن قيل: لو كان واجبا لكان يثاب على فعله ويعاقب على تركه، وتارك الوضوء لا يعاقب على ما تركه من غسل الرأس، بل من غسل الوجه وتارك الصوم لا يعاقب على ترك الامساك ليلا، قلنا: ومن أنبأكم بذلك، ومن أين عرفتم أن ثواب البعيد عن البيت لا يزيد على ثواب القريب في الحج، وأن من زاد عمله لا يزيد ثوابه، وإن كان بطريق التوصل، وأما العقاب فهو عقاب على ترك الصوم والوضوء، وليس يتوزع على أجز اء الفعل، فلا معنى لاضافته إلى التفاصيل، فإن قيل: لو قدر على الاقتصار على غسل الوجه لم يعاقب؟ قلنا: هذا مسلم، لانه إنما يجب على العاجز، أما القاد ر فلا وجوب عليه. مسألة (حكم اختلاط المنكوحة بالاجنبية) قال قائلون: إذا اختلطت منكوحة بأجنبية وجب الكف عنهما، لكن الحرام هي الاجنبية، والمنكوحة حلال، ويجب الكف عنها، وهذا متناقض، بل ليس الحرمة والحل وصفا ذاتيا لهما، بل هو متعلق بالفعل، فإذا حرم فعل الوطئ فيهما فأي معنى لقولنا: وطئ المنكوحة حلال ووطئ الاجنبية حرام؟ بل هما حرامان. احداهما بعلة الاجنبية، والاخرى بعلة الاختلاط بالاجنبية، فالاختلاف في العلة لا في الحكم وإنما وقع هذا في الاوهام، من حيث ضاهى الوصف بالحل والحرمة الوصف بالعجز والقدرة، والسواد والبياض، والصفات الحسية، وذلك وهم نبهنا عليه، إذ ليست الاحكام صفات للاعيان أصلا، بل نقول: إذا اشتبهت رضيعة بنساء بلدة فنكح واحدة حلت، واحتمل أن تكون هي الرضيعة في علم الله تعالى، ولا نقول: إنها ليست في علم الله تعالى زوجة له، إذ لا معنى للزوجة إلا من حل وطؤها بنكاح، وهذه قد حل وطؤها، فهي حلال عنده وعند الله تعالى، ولا نقول: هي حرام عند الله تعالى وحلال عنده في ظنه، بل إذا ظن الحل فهي حلال عند الله تعالى، وسيأتي تحقيق هذا في مسألة تصويب المجتهد، أما إذا قال لزوجتيه: إحداكما طالق، فيحتمل أن يقال: يحل وطؤها، والطلاق غير واقع، لانه لم يعين له محلا، فصار كما إذا باع أحد عبديه، ويحتمل أن يقال، حرمتا جميعا، فإنه لا يشترط تعيين محل الطلاق، ثم عليه التعيين، وإليه ذهب أكبر الفقهاء، والمتبع في ذلك موجب ظن المجتهد، أما المصير إلى أن إحد اهما محرمة والاخرى منكوحة كما توهموه في اختلاط المنكوحة بالاجنية فلا ينقدح هاهنا، لان ذلك جهل من الآدمي، عرض بعد التعيين، وأما هنا فليس متعينا، في نفسه، بل يعلمه الله تعالى مطلقا لاحداهما لا بعينها، فإن قيل: إذا وجب عليه التعيين فالله تعالى يعلم ما سيعينه، فتكون هي المحرمة المطلقة بعينها في علم الله تعالى، وإنما هو مشكل علينا؟ قلنا: الله تعالى يعلم الاشياء على ما هي عليه، فلا يعلم الطلاق الذي لم يعين محله متعينا، بل يعلمه قابلا للتعيين، إذا عينه المطلق، ويعلم أنه سيعين زينب مثلا، فيتعين الطلاق بتعيينه إذا عين لا قبله، وكذلك نقول في الواجب: المخير الله تعالى، يعلم ما سيفعله العبد من خلال الكفارة، ولا يعلمه واجبا بعينه، بل واجبا غير معين في حال، ثم يعلم صيرو رته متعينا بالتعيين، بدليل أنه لو علم أنه يموت قبل التكفير وقبل التعيين، فيعلم الوجوب والطلاق على ما هو عليه من عدم التعيين |
12-06-2012, 02:56 PM | #22 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (حكم الواجب غير المعروف) اختلفوا في الواجب الذي لا يتقدر بحد محدود، كمسح الرأس، والطمأنينة في الركوع والسجود، ومدة القيام، إنه إذا زاد على أقل الواجب هل توصف الزيادة بالوجوب؟ فلو مسح جميع الرأس هل يقع فعله بجملته واجبا؟ أو الواجب الاقل والباقي ندب، فذهب قوم إلى أن الكل يوصف بالوجوب، لان نسبة الكل إلى الامر واحد، والامر في نفسه أمر واحد، وهو أمر إيجاب، ولا يتميز البعض من البعض، فالكل امتثال، والأولى أن يقال: الزيادة على الاقل ندب، فإنه لم يجب إلا أقل ما ينطلق عليه الاسم، وهذا في الطمأنينة، والقيام وما وقع متعاقبا أظهر وكذلك المسح إذا وقع متعاقبا، وما وقع من جملته معا وإن كان لا يتميز بعضه من بعض بالاشارة والتعيين، فيحتمل أن يقال: قدر الاقل منه واجب، والباقي ندب، وإن لم يتميز بالاشارة المندوب عن الواجب، لان الزيادة على الاقل لا عقاب على تركها مطلقا من غير شرط بدل، فلا يتحقق فيه حد الوجوب.
مسألة (حقيقة الوجوب والجواز) الوجوب يباين الجواز والاباحة بحده فلذلك قلنا يقضي بخطأ من ظن أن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز، بل الحق أنه إذا نسخ رجع الامر إلى ما كان قبل الوجوب من تحريم أو إباحة، وصار الوجوب بالنسخ، كأن لم يكن، فإن قيل: كل واجب فهو جائز، وزيادة، إذ الجائز ما لا عقاب على فعله، والواجب أيضا لا عقاب على فعله، وهو معنى الجواز، فإذا نسخ الوجوب فكأنه أسقط العقاب على تركه، فيبقى سقوط العقاب على فعله، وهو معنى الجواز، قلنا: هذا كقول القائل: كل واجب فهو ندب وزيادة، فإذا نسخ الوجوب بقي الندب، ولا قائل به. ولا فرق بين الكلامين، وكلاهما وهم بل الواجب لا يتضمن معنى الجواز فإن حقيقة الجواز التخيير بين الفعل والترك، والتساوي بينهما بتسوية الشرع، وذلك منفي عن الواجب، وذكر هذه المسألة ههنا أولى من ذكرها في كتاب النسخ، فإنه نظر في حقيقة الوجوب والجواز لا في حقيقة النسخ. مسألة (الجواز ليس فيه أمر) كما فهمت أن الواجب لا يتضمن الجواز فافهم أن الجائز لا يتضمن الامر وأن المباح غير مأمور به، لتناقض حديهما كما سبق خلافا للبلخي، فإنه قال: المباح مأمور به، لكنه دون الندب، كما أن الندب مأمور به، لكنه دون الواجب، وهذا محال، إذ الامر اقتضاء وطلب، والمباح غير مطلوب، بل مأذون فيه، ومطلق له، فإن استعمل لفظ الامر في الاذن فهو تجوز، فإن قيل: ترك الحرام واجب، والسكون المباح يترك به الحرام من الزنا والسرقة والسكوت المباح أو الكلام المباح يترك به الكفر والكذب، وترك الكفر والكذب والزنا مأمور به؟ قلنا: قد يترك بالندب حرام فليكن واجبا، وقد يترك بالحرام حرام آخر، فليكن الشئ الواحد واجبا حراما، وهو تناقض، ويلزم هذا على مذهب من زعم أن الامر بالشئ نهي عن ضده، والنهي عن الشئ أمر بأحد أضداده، بل يلزم عليه كون الصلاة حراما، إذا تحرم بها من ترك الزكاة الواجبة، لانه أحد أضداد الواجب، وكل ذلك قياس مذهب هؤلاء، لكنهم لم يقولوا به، فإن قيل: فالمباح هل يدخل تحت التكليف؟ وهل هو من التكاليف؟ قلنا: إن كان التكليف عبارة عن طلب ما فيه كلفة فليس ذلك في المباح، وإن أريد به ما عرف من جهة الشرع إطلاقه والاذن فيه فهو تكليف، وإن أريد به أنه الذي كلف اعتقاد كونه من الشرع فقد كلف ذلك، لكن لا بنفس الاباحة، بل بأصل الايمان، وقد سماه الاستاذ أبو إسحق رحمه الله تكليفا بهذا التأويل الاخير، وهو بعيد، مع أنه نزاع في اسم، فإن قيل: فهل المباح حسن؟ قلنا: إن كان الحسن عبارة عما لفاعله أن يفعله فهو حسن، وإن كان عبارة عما أمر بتعظيم فاعله والثناء عليه أو وجب اعتقاد استحقاقه للثناء والقبيح ما يجب اعتقاد استحقاق صاحبه للذم أو العقاب فليس المباح بحسن، واحترزنا باعتقاد الاستحقاق عن معاصي الانبياء، فقد دل الدليل على وقوعها منهم، ولم يأمر بإهانتهم وذمهم، لكنا نعتقد استحقاقهم لذلك مع تفضل الله تعالى بإسقاط المستحق من حيث أمرنا بتعظيمهم والثناء عليهم. |
12-06-2012, 02:57 PM | #23 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (هل المباح من الشريعة؟) المباح من الشرع، وقد ذهب بعض المعتزلة إلى أنه ليس من الشرع، إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت قبل السمع، فمعنى إباحة الشرع شيئا أنه تركه على ما كان عليه قبل ورود السمع ولم يغير حكمه وكل ما لم يثبت تحريمه ولا وجوبه بقي على النفي الأصلي، فعبر عنه بالمباح، وهذا له غور، وكشف الغطاء عنه أن الافعال ثلاثة أقسام: قسم بقي على الأصل، فلم يرد فيه من الشرع تعرض لا بصريح اللفظ ولا بدليل من أدلة السمع، فينبغي أن يقال: استمر فيه ما كان ولم يتعرض له السمع فليس فيه حكم. وقسم صرح الشرع فيه بالتخيير وقال: إن شئتم فافعلوه، وإن شئتم فاتركوه، فهذا خطاب، والحكم لا معنى له إلا الخطاب، ولا سبيل إلى إنكاره، وقد ورد. وقسم ثالث لم يرد فيه خطاب بالتخيير، لكن دل دليل السمع على أنه نفي الحرج عن فعله وتركه، فقد عرف بدليل السمع، ولولا هذا الدليل لكان يعرف بدليل العقل نفي الحرج عن فاعله، وبقاؤه على النفي الأصلي، فهذا فيه نظر إذ اجتمع عليه دليل العقل والسمع، وفي الطرفين الآخرين أيضا نظر، إذ يمكن أن يقال: قول الشارع إن شئت فقم، وإن شئت فاقعد ليس بتجديد حكم، هو تقرير للحكم السابق، ومعنى تقريره أنه ليس يغير أمره بل يتركه على ما هو عليه، فليس ذلك أمرا حادثا بالشرع، فلا يكون شرعيا، وأما الطرف الآخر وهو الذي لم يرد فيه خطاب ولا دليل، فيمكن أيضا إنكاره، بأن يقال: قد دل السمع على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا طلب ترك، فالمكلف فيه مخير، وهذا دليل على العموم فيما لا يتناهى من الافعال، فلا يبقى فعل إلا مدلولا عليه من جهة الشرع، فتكون إباحته من الشرع، وإلا عورض أن الاباحة من جهة الشرع تقرير لا تغيير، وليس مع التقرير تجديد أمر، بل بيان أنه لم يجدد فيه أمرا، بل كف عن التعرض له، وسيأتي لهذا تحقيق في مسألة إقامة الدليل على النافي.
مسألة (التفريق بين المندوب والمباح) المندوب مأمور به، وإن لم يكن المباح مأمورا به، لان الامر اقتضاء وطلب، والمباح غير مقتضى، أما المندوب فإنه مقتضى لكن مع إسقاط الذم عن تاركه، والواجب مقتضى، لكن مع ذم تاركه إذا تركه مطلقا، أو تركه وبدله، وقال قوم: المندوب غير داخل تحت الامر، وهو فاسد من وجهين: أحدهما: أنه شاع في لسان العلماء أن الامر ينقسم إلى أمر إيجاب وأمر استحباب، وما شاع أنه ينقسم إلى أمر إباحة وأمر إيجاب مع أن صيغة الامر قد تطلق لارادة الاباحة، كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة: 2} (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا} (الجمعة: 01). الثاني: إن فعل المندوب طاعة بالاتفاق، وليس طاعة لكونه مرادا، إذ الامر عندنا يفارق الارادة، ولا لكونه موجودا أو حادثا أو لذاته أو نفسه إذ يجري ذلك في المباحات، ولا لكونه مثابا عليه، فإن المأمور وإن لم يثب ولم يعاقب إذا امتثل كان مطيعا، وإنما الثواب للترغيب في الطاعة، ولا نه قد يحبط بالكفر ثواب طاعته، ولا يخرج عن كونه مطيعا، فإن قيل: الامر عبارة عن اقتضاء جازم لا تخيير معه، والندب مقرون بتجويز الترك والتخيير فيه، وقولكم: أنه يسمى مطيعا، يقابله أنه لو ترك لا يسمى عاصيا، قلنا: الندب اقتضاء جازم لا تخيير فيه، لان التخيير عبارة عن التسوية، فإذا رجح جهة الفعل بربط الثواب به ارتفعت التسوية والتخيير، وقد قال تعالى في المحرمات أيضا: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف: 92) فلاينبغي أن يظن أن الامر اقتضاء جازم، بمعنى أن الشرع يطلب منه شيئا لنفسه، بل يطلب منه لما فيه من صلاحه، والله تعالى يقتضي من عباده ما فيه صلاحهم، ولا يرضى الكفر لهم، وكذلك يقتضي الندب لنيل الثواب ويقول: الفعل والترك سيان بالاضافة إلي، أما في حقك فلا مساواة ولا خيرة، إذ في تركه ترك صلاحك وثوابك فهو اقتضاء جازم، وأما قولهم: أنه لا يسمى عاصيا، فسببه أن العصيان اسم ذم، وقد أسقط الذم عنه، نعم يسمى مخالفا وغير ممتثل، كما يسمى فاعله موافقا ومطيعا. مسألة (الواجب غير الحرام) إذا عرفت أن الحرام ضد الواجب لانه المقتضى تركه، والواجب هو المقتضى فعله، فلا يخفى عليك أن الشئ الواحد يستحيل أن يكون واجبا حراما، طاعة معصية، لكن ربما تخفى عليك حقيقة الواحد، فالواحد ينقسم إلى واحد بالنوع، وإلى واحد بالعدد، أما الواحد بالنوع كالسجود مثلا، فإنه نوع واحد من الافعال، فيجوز أن ينقسم إلى الواجب والحرام، ويكون انقسامه، بالاوصاف والاضافات، كالسجود لله تعالى، والسجود للصنم، إذ أحدهما واجب، والآخر حرام، ولا تناقض، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه تناقض، فإن السجود نوع واحد مأمور به، فيستحيل أن ينهى عنه، بل الساجد للصنم عاص بقصد تعظيم الصنم لا بنفس الجسود، وهذا خطأ فاحش، فإنه إذا تغاير متعلق الامر والنهي لم يتناقض، والسجود للصنم غير السجود لله تعالى، لان اختلاف الاضافات والصفات يوجب المغايرة، إذ الشئ لا يغاير نفسه، والمغايرة تارة تكون باختلاف النوع، وتارة باختلاف الوصف، وتارة باختلاف الاضافة، وقد قال الله تعالى: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله} (فصلت: 73) وليس المأمور به هو المنهي عنه، والإجماع منعقد على أن الساجد للشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعا، فقولهم إن السجود نوع واحد لا يغني مع انقسام هذا النوع إلى أقسام مختلفة المقاصد، إذ مقصود بهذا السجود تعظيم الصنم دون تعظيم الله تعالى، واختلاف وجوه الفعل كاختلاف نفس الفعل في حصول الغيرية الرافعة للتضاد فإن التضاد إنما يكون بالاضافة إلى واحد، ولا وحدة مع المغايرة. مسألة (الواحد بالتعيين) ما ذكرناه في الواحد بالنوع ظاهر، أما الواحد بالتعيين، كصلاة زيد في دار مغصوبة من عمرو، فحركته في الصلاة فعل واحد بعينه هو مكتسبه ومتعلق قدرته، فالذين سلموا في النوع الواحد نازعوا ههنا فقالوا: لا تصح هذه الصلاة إذ يؤدي القول بصحتها إلى أن تكون العين الواحدة من الافعال حراما واجبا وهو متناقض، فقيل لهم: هذا خلاف إجماع السلف، فإنهم ما أمروا الظلمة عند التوبة بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة مع كثرة وقوعها، ولا نهوا الظالمين عن الصلاة في الاراضي المغصوبة، فأشكل الجواب على القاضي أبي بكر رحمه الله فقال: يسقط الوجوب عندها لا بها، بدليل الإجماع، ولا يقع واجبا، لان الواجب ما يثاب عليه، وكيف يثاب على ما يعاقب عليه، وفعله واحد وهو كون في الدار المغصوبة وسجوده وركوعه، أكوان اختيارية هو معاقب عليها ومنهي عنها؟ وكل من غلب عليه الكلام قطع بهذا نظرا إلى اتحاد أكوانه في كل حالة من أحواله، وإن الحادث منه الاكوان لا غيرها، وهو معاقب عليها عاص بها، فكيف يكون متقربا بما هو معاقب عليه ومطيعا بما هو به عاص؟ وهذا غير مرضي عندنا، بل نقول الفعل وإن كان واحدا في نفسه، فإذا كان له وجهان متغايران يجوز أن يكون مطلوبا من أحد الوجهين مكروها من الوجه الآخر، وإنما المحال أن يطلب من الوجه الذي يكره بعينه، وفعله من حيث أنه صلاة مطلوب، ومن حيث أنه غصب مكروه، والغصب معقول دون الصلاة، والصلاة معقولة دون الغصب، وقد اجتمع الوجهان في فعل واحد، ومتعلق الامر والنهي الوجهان المتغايران، وكذلك يعقل من السيد أن يقول لعبده: صل اليوم ألف ركعة، وخط هذا الثواب، ولا تدخل هذه الدار، فإن ارتكبت النهي ضربتك، وإن امتثلت الامر أعتقتك، فخاط الثوب في الدار، وصلى ألف ركعة في تلك الدار فيحسن من السيد أن يضربه ويعتقه ويقول: أطاع بالخياطة والصلاة، وعصى بدخول الدار، فكذلك فيما نحن فيه من غير فرق، فالفعل وإن كان واحدا فقد تضمن تحصيل أمرين مختلفين، يطلب أحدهما ويكره الآخر، ولو رمى سهما واحدا إلى مسلم بحيث يمرق إلى كافر، أو إلى كافر بحيث يمرق إلى مسلم، فإنه يثاب ويعاقب، ويملك سلب الكافر ويقتل بالمسلم قصاصا لتضمن فعله الواحد أمرين مختلفين، فإن قيل: ارتكاب المنهى عنه إذا أخل بشرط العبادة أفسدها بالاتفاق ونية التقرب بالصلاة شرط، والتقرب بالمعصية محال، فكيف ينوي التقرب؟ فالجواب من أوجه: الأول: إن الإجماع إذا انعقد على صحة هذه الصلاة فليعلم به بالضرورة أن نية التقرب ليس بشرط أو نية التقرب بهذه الصلاة ممكن، وأبو هاشم والجبائي ومن خالف في صحة الصلاة مسبوق بإجماع الامة على ترك تكليف الظلمة قضاء الصلوات مع كثرتهم، وكيف ينكر سقوط نية التقرب؟ وقد اختلفوا في اشتراط نية الفرضية ونية الاضافة إلى الله تعالى، فقال قوم: لا يجب إلا أن ينوي الظهر أو العصر، فهو في محل الاجتهاد، وقد ذهب قوم إلى أن الصلاة تجب في آخر الوقت، والصبي إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ آخره أجزأه، ولو بلغ في وسط الوقت مع أنه لا تتحقق الفرضية في حقه، فإن قيل: من نوى الصلاة فقد تضمنت نيته القربة؟ قلنا: إذا صحت الصلاة بالإجماع واستحال نية التقرب فتلغى تلك النية، ويصح أن يقال: تعلقت نية التقرب ببعض أجزاء الصلاة من الذكر والقراءة، وما لا يزاحم حق المغصوب منه، فإن الاكوان هي التي تتناول منافع الدار، ثم كيف يستقيم من المعتزلة هذا، وعندهم لا يعلم المأمور كونه مأمورا، ولا كون العبادة واجبة قبل الفراغ من الامتثال كما سيأتي، فكيف ينوي التقرب بالواجب وهو لا يعرف وجوبه؟ الجواب الثاني: وهو الاصح، أنه ينوي التقرب بالصلاة ويعصي بالغصب، وقد بينا انفصال أحدهما عن الآخر، ولذلك يجد المصلي من نفسه نية التقرب بالصلاة، وإن كان في دار مغصوبة، لانه لو سكن ولم يفعل فعلا لكان غاصبا في حالة النوم، وعدم استعمال القدرة، وإنما يتقرب بأفعاله، وليست تلك الافعال شرطا لكونه غاصبا، فإن قيل: هو في حالة القعود والقيام غاصب بفعله، ولا فعل له إلا قيامه وقعوده وهو متقرب بفعله، فيكون متقربا بعين ما هو عاص به؟ قلنا: هو من حيث أنه مستوف منافع الدار غاصب، ومن حيث أنه أتى بصورة الصلاة متقرب، كما ذكرناه في صورة الخياطة، إذ قد يعقل كونه غاصبا، ولا يعلم كونه مصليا، ويعلم كونه مصليا، ولا يعلم كونه غاصبا، فهما وجهان مختلفان، وإن كان ذات الفعل واحدا. الجواب الثالث: هو أنا نقول: بم تنكرون على القاضي رحمه الله حيث حكم بأن الفرض يسقط عندها لا بها بدليل الإجماع؟ فسلم أنه معصية، ولكن الامر لا يدل على الاجزاء إذا أتى بالمأمور ولا النهي يدل على عدم الاجزاء، بل يؤخذ الاجزاء من دليل آخر كما سيأتي. فإن قيل: هذه المسألة اجتهادية أم قطعية؟ قلنا: هي قطعية، والمصيب فيها واحد، لان من صحح، أخذ من الإجماع، وهو قاطع، ومن أبطل أخذ من التضاد الذي بين القربة والمعصية، ويدعى كون ذلك محالا، بدليل العقل، فالمسألة قطعية، فإن قيل: ادعيتم الإجماع في هذه المسألة، وقد ذهب أحمد بن حنبل إلى بطلان هذه الصلاة، وبطلان كل عقد منهي عنه حتى البيع في وقت النداء يوم الجمعة، فكيف تحتجون عليه بالإجماع؟ قلنا: الإجماع حجة عليه، إذ علمنا أن الظلمة لم يؤمروا بقضاء الصلوات مع كثرة وقوعها، مع أنهم لو أمروا به لانتشر وإذا أنكر هذا فيلزمه ما هو أظهر منه، وهو أن لا تحل امرأة لزوجها وفي ذمته دانق ظلم به، ولا يصح بيعه ولا صلاته ولا تصرفاته، وأنه لا يحصل التحليل بوطئ من هذه حاله، لانه عصى بترك رد المظلمة، ولم يتركها إلا بتزويجه، وبيعه وصلاته وتصرفاته، فيؤدي إلى تحريم أكثر النساء، وفوات أكثر الاملاك، وهو خرق للإجماع قطعا، وذلك لا سبيل إليه. |
12-06-2012, 02:58 PM | #24 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (المكروه غير الواجب) كما يتضاد الحرام والواجب فيتضاد المكروه والواجب، فلا يدخل مكروه تحت الامر حتى يكون شئ واحد مأمورا به مكروها، إلا أن تنصرف الكراهية عن ذات المأمور إلى غيره، ككراهية الصلاة في الحمام وأعطان الابل وبطن الوادي وأمثاله، فإن المكروه في بطن الوادي التعرض لخطر السيل، وفي الحمام التعرض للرشاش، أو لتخبط الشياطين، وفي أعطان الابل التعرض لنفارها، وكل ذلك مما يشغل القلب في الصلاة، وربما شوش الخشوع، بحيث لا ينقدح صرف الكراهة عن المأمور إلى ما هو في جواره وصحبته، لكونه خارجا عن ماهيته وشروطه وأركانه، فلا يجتمع الامر والكراهية، فقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج: 92) لا يتناول طواف المحدث الذي نهي عنه لان المنهي عنه لا يكون مأمورا به، والمنهي عنه في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة انفصل عن المأمور، إذ المأمور به الصلاة والمنهي عنه الغصب وهو في جواره.
مسألة (أصناف الترك ذات المتروك) المتفقون على صحة الصلاة في الدار المغصوبة ينقسم النهي عندهم إلى ما يرجع إلى ذات المنهي عنه فيضاد وجوبه، وإلى ما يرجع إلى غيره فلا يضاد وجوبه، وإلى ما يرجع إلى وصف المنهي عنه لا إلى أصله، وقد اختلفوا في هذا القسم الثالث، ومثال القسمين الأولين ظاهر، ومثال القسم الثالث: أن يوجب الطواف وينهى عن إيقاعه مع الحدث، أو يأمر بالصوم وينهى عن إيقاعه في يوم النحر، فيقال: الصوم من حيث أنه صوم مشروع مطلوب، ومن حيث أنه واقع في هذا اليوم غير مشروع، والطواف مشروع بقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج: 92) ولكن وقوعه في حالة الحدث مكروه، والبيع من حيث أنه بيع مشروع، ولكن من حيث وقوعه مقترنا بشرط فاسد أو زيادة في العوض في الربويات مكروه، والطلاق من حيث أنه طلاق مشروع، ولكن من حيث وقوعه في الحيض مكروه، وحراثة الولد من حيث أنها حراثة مشروعة، ولكنها من حيث وقوعها في غير المنكوحة مكروهة، والسفر من حيث أنه سفر مشروع، ولكن من حيث قصد الاباق به عن السيد غير مشروع، فجعلابو حنيفة هذا قسما ثالثا، وزعم أن ذلك يوجب فساد الوصف لا انتفاء الأصل، لانه راجع إلى الوصف لا إلى الأصل، والشافعي رحمه الله ألحق هذا بكراهة الأصل ولم يجعله قسما ثالثا، وحيث نفذ الطلاق في الحيض صرف النهي عن أصله ووصفه إلى تطويل العدة أولو حق الندم عند الشك في الولد، وأبو حنيفة حيث أبطل صلاة المحدث دون طواف المحدث زعم أن الدليل قد دل على كون الطهارة شرطا في الصلاة، فإنه قال عليه الصلاة والسلام: لا صلاة إلا بطهور فهو نفي للصلاة لا نهي، وفي المسألة نظران: أحدهما: في موجب مطلق النهي من حيث اللفظ، وذلك نظر في مقتضى الصيغة، وهو بحث لغوي نذكره في كتاب الاوامر والنواهي. والنظر الثاني: نظر في تضاد هذه الاوصاف وما يعقل اجتماعه وما لا يعقل إذا وقع التصريح به من القائل وهو أنه: هل يعقل أن يقول السيد لعبده: أنا آمرك بالخياطة وأنهاك عنها، ولا شك في أن ذلك لا يعقل منه، فإنه فيه يكون الشئ الواحد مطلوبا مكروها، ويعقل منه أن يقول: أنا أطلب منك الخياطة وأكره دخول هذه الدار والكون فيها ولا يتعرض في النهي للخياطة وذلك معقول، وإذا خاط في تلك الدار أتى بمطلوبه ومكروهه جميعا، وهل يعقل أن يقول: أطلب منك الخياطة وأنهاك عن إيقاعها في وقت الزوال، فإذا خاط في وقت الزوال فهل جمع بين المكروه والمطلوب أو ما أتى بالمطلوب؟ هذا في محل النظر، والصحيح أنه ما أتى بالمطلوب، وأن المكروه هي الخياطة الواقعة وقت الزوال لا الوقوع في وقت الزوال، مع بقاء الخياطة مطلوبة إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن الواقع، فإن قيل: فلم صحت الصلاة في أوقات الكراهة ولم صحت الصلاة الواقعة في الاماكن السبعة من بطن الوادي وأعطان الابل؟ وما الفرق بينهما وبين النهي عن صوم يوم النحر؟ قلنا: من صحح هذه الصلوات لزمه صرف النهي عن أصل الصلاة ووصفها إلى غيره، وقد اختلفوا في انعقاد الصلاة في الاوقات المكروهة لترددهم في أن النهي نهي عن إيقاع الصلاة من حيث أنه إيقاع صلاة أو من أمر آخر مقترن به، وأما صوم يوم النحر فقطع الشافعي رحمه الله ببطلانه، لانه لم يظهر انصراف النهي عن عينه ووصفه، ولم يرتض قولهم أنه نهى عنه، لما فيه من ترك إجابة الدعوة بالاكل، فإن الاكل ضد الصوم، فكيف يقال له: كل، أي أجب الدعوة، ولا تأكل، أي صم؟ والآن تفصيل هذه المسائل ليس على الاصولي، بل هو موكول إلى نظر المجتهدين في الفروع، وليس على الاصولي إلا حصر هذه الاقسام الثلاثة وبيان حكمها في التضاد وعدم التضاد، وأما النظر في آحاد المسائل أنها من أي قسم هي فإلى المجتهد، وقد يعلم ذلك بدليل قاطع، وقد يعلم ذلك بظن وليس على الاصولي شئ من ذلك، وتمام النظر في هذا ببيان أن النهي المطلق يقتضي من هذه الاقسام أيها، وأنه يقتضي كون المنهي عنه مكروها لذاته أو لغيره أو لصفته، وسيأتي. مسألة (هل الامر بشئ ترك لغيره) اختلفوا في أن الامر بالشئ، هل هو نهي عن ضده؟ وللمسألة طرفان: أحدهما يتعلق بالصيغة، ولا يستقيم ذلك عند من لا يرى للامر صيغة، ومن رأى ذلك فلا شك في أن قوله: قم، غير قوله: لا تقعد، فإنهما صورتان مختلفتان، فيجب عليهم الرد إلى المعنى، وهو أن قوله: قم، له مفهومان، أحدهما: طلب القيام، والآخر ترك القعود، فهو دال على المعنيين، فالمعنيان المفهومان منه متحدان، أو أحدهما غير الآخر، فيجب الرد إلى المعنى. والطرف الثاني: البحث عن المعنى القائم بالنفس، وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود أم لا، وهذا لا يمكن فرضه في حق الله تعالى، فإن كلامه واحد، هو أمر ونهي ووعد ووعيد، فلا تتطرق الغيرية إليه، فليفرض في المخلوق، وهو أن طلبه للحركة: هل هو بعينه كراهة للسكون وطلب لتركه؟ وقد أطلق المعتزلة أنه ليس الامر بالشئ نهيا عن ضده، واستدل القاضي أبو بكر رحمه الله عليهم بأن قال: لا خلاف أن الآمر بالشئ ناه عن ضده، فإذا لم يقم دليل على اقتران شئ آخر بأمره دل على أنه ناه بما هو آمر به، قال: وبهذا علمنا أن الكسون عين ترك الحركة، وطلب السكون عين طلب ترك الحركة، وشغل الجوهر بحيز انتقل إليه عين تفريغه للحيز المنتقل عنه، والقرب من المغرب عين البعد من المشرق، فهل فعل واحد بالاضافة إلى المشرق بعد، وبالاضافة إلى المغرب قرب، وكون واحد بالاضافة إلى خير شغل وبالاضافة إلى آخر تفريغ زكذلك ههنا طلب واحد بالاضافة إلى السكون أمر، وإلى الحركة نهي، قال: والدليل على أنه ليس معه غيره أن ذلك الغير لا يخلو من أن يكون ضدا له أو مثلا أو خلافا، ومحال كونه ضدا لانهما لا يجتمعان وقد اجتمعا، ومحال كونه مثلا لتضاد المثلين، ومحال كونه خلافا، إذ لو كان خلافا لجاز وجود أحدهما دون الآخر، أما هذا دون ذاك أو ذاك دون هذا، كإرادة الشئ مع العلم به لما اختلفا تصور وجود العلم دون الارادة، وإن لم يتصور وجود الارادة دون العلم، بل كان يتصور وجوده مع ضد الآخر، وضد النهي عن الحركة الامر بها، فلنجز أن يكون آمرا بالسكون والحركة معا فيقول: تحرك واسكن، وقم واقعد، وهذا الذي ذكره دليل على المعتزلة، حيث منعوا تكليف المحال، وإلا فمن يجوز ذلك يجوز أن يقول: إجمع بين القيام والقعود، ولا نسلم أيضا أن ضرورة كل آمر بالشئ أن يكون ناهيا عن ضده، بل يجوز أن يكون آمرا بضده، فضلا عن أن يكون لا آمرا ولا ناهيا، وعلى الجملة: فالذي صح عندنا بالبحث النظري الكلامي تفريعا على إثبات كلام النفس، أن الامر بالشئ ليس نهيا عن ضده لا بمعنى أنه عينه، ولا بمعنى أنه يتضمنه ولا بمعنى أنه يلازمه، بل يتصور أن يأمر بالشئ من هو ذاهل عن أضداده، فكيف يقوم بذاته قول متعلق بما هو ذاهل عنه، وكذلك ينهى عن الشئ ولا يخطر بباله أضداده حتى يكون آمرا بأحد أضداده ولا بعينه، فإن أمر ولم يكن ذاهلا عن أضداد المأمور به فلا يقوم بذاته زجر عن أضداده مقصود، إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل أضداد المأمور به فلا يقوم يذاته زجر عن أضداد مقصود إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل المأمور به إلا بترك أضداده، فيكون ترك أضداد المأمور ذريعة بحكم ضرورة الوجود لا بحكم ارتباط الطلب به، حتى لو تصور على الاستحالة الجمع بين القيام القعود إذا قيل له قم، فجمع كان ممتثلا لانه لم يؤمر إلا بإيجاد القيام وقد أوجده، ومن ذهب إلى هذا المذهب لزمه فضائح الكعبي من المعتزلة، حيث أنكر المباح وقال: ما من مباح إلا وهو ترك لحرام فهو واجب ويلزمه وصف الصلاة بأنها حرام إذا ترك بها الزكاة الواجبة على الفور، وإن فرق مفرق فقال: النهي ليس أمرا بالضد، والامر نهي عن الضد لم يجد إليه سبيلا إلا التحكم المحض، فإن قيل: فقد قلتم: إن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتوصل إلى فعل الشئ إلا بترك ضده فليكن واجبا؟ قلنا: ونحن نقول ذلك واجب، وإنما الخلاف في إيجابه، هل هو عين إيجاب المأمور به أو غيره؟ فإذا قيل: إغسل الوجه فليس عين هذا إيجابا بالغسل جزء من الرأس، ولا قوله: صم النهار، إيجابا بعينه، لامساك جزء من الليل، ولذلك لا يجب أن ينوي إلا صوم النهار، ولكن ذلك يجب بدلالة العقل على وجوبه من حيث هو ذريعة إلى المأمور، لا أنه عين ذلك الايجاب، فلا منافاة بين الكلامين. الفن الثالث من القطب الأول في أركان الحكم وهي أربعة: الحاكم، والمحكوم عليه، والمحكوم فيه، ونفس الحكم. أما نفس الحكم: فقد ذكرناه، وأنه يرجع إلى الخطاب وهو الركن الأول. الركن الثاني: الحاكم، وهو المخاطب، فإن الحكم خطاب، وكلام فاعله كل متكلم، فلا يشترط في وجود صورة الحكم إلا هذا القدر، أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والامر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والاب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شئ بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقلب عليه الايجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذا الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته، فإن قيل: لا بل من قدر على التوعد بالعقاب وتحقيقه حسا فهو أهل للايجاب، إذ الوجوب إنما يتحقق بالعقاب قلنا: قد ذكرنا من مذهب القاضي رحمه الله أن الله تعالى: لو أوجب شيئا لوجب وإن لم يتوعد عليه بالعقاب، لكن عند البحث عن حقيقة الوجوب لا يتحصل على طائل إذا لم يتعلق به ضرر محذور، وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه، إلا أن العادة جارية بتخصيص هذا الاسم بالضرر الذي يحذر في الآخرة، ولا قدرة عليه إلا لله تعالى،، فإن أطلق على كل ضرر محذور وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه الآدمي، فعند ذلك يجوز أن يكون موجبا، لا بمعنى أنا نتحقق قدرته عليه، فإنه ربما يعجز عنه قبل تحقيق الوعيد، لكن نتوقع قدرته ويحصل به نوع خوف. الركن الثالث: المحكوم عليه، وهو المكلف، وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب، فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة، بل خطاب المجنون والصبي الذي لا يميز، لان التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال، ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال، وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف، فكل خطاب متضمن للامر بالفهم، فمن لا يفهم كيف يقال له: إفهم ومن لا يسمع الصوت، كالجماد كيف يكلم، وإن سمع الصوت كالبهيمة، ولكنه لا يفهم فهو كمن لا يسمع، ومن يسمع وقد يفهم فهما ما لكنه لا يعقل، ولا يثبت، كالمجنون وغير المميز، فمخاطبته ممكنة لكن اقتضاء الامتثال منه، مع أنه لا يصح منه قصد صحيح غير ممكن، فإن قيل: فقد وجبت الزكاة والغرامات والنفقا ت على الصبيان، قلنا: ليس ذلك من التكليف في شئ، إذ يستحيل التكليف بفعل الغير وتجب الدية على العاقلة، لا بمعنى أنهم مكلفون بفعل الغير، ولكن بمعنى أن فعل الغير سبب لثبوت الغرم في ذمتهم، فكذلك الاتلاف، وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمة الصبيان بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالاداء في الحال وسبب لخطاب الصبي بعد البلوغ، وذلك غير محال، إنما المحال أن يقال لمن لا يفهم إفهم، وأن يخاطب من لا يسمع ولا يعقل. وأما أهلية ثبوت الاحكام في الذمة: فمستفاد من الانسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به فهم التكليف في ثاني الحال، حتى أن البهيمة لما لم تكن لها أهلية فهم الخطاب بالفعل ولا بالقوة لم تتهيأ لاضافة الحكم إلى ذمتها، والشرط لا بد أن يكون حاصلا أو ممكنا أن يحصل على القرب، فيقال أنه موجود بالقوة، كما أن شرط المالكية الانسانية، وشرط الانسانية الحياة، والنطفة في الرحم قد يثبت لها الملك بالارث والوصية، والحياة غير موجودة بالفعل، ولكنها بالقوة، إذ مصيرها إلى الحياة، فكذلك الصبي، مصيره إلى العقل، فصلح لاضافة الحكم إلى ذمته، ولم يصلح للتكليف في الحال. فإن قيل: فالصبي المميز مأمور بالصلاة، قلنا: مأمور من جهة الولي، والولي مأمور من جهة الله تعالى، إذ قال عليه السلام: مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وذلك لانه يفهم خطاب الولي ويخاف ضربه، فصار أهلا له، ولا يفهم خطاب الشارع إذ لا يعرف الشارع ولا يخاف عقابه، إذ لا يفهم الآخرة، فإن قيل: فإذا قارب البلوغ عقل ولم يكلفه الشرع أفيدل ذلك على نقصان عقله؟ قلنا: قال القاضي أبو بكر رحمه الله: ذلك يدل عليه، وليس يتجه ذلك، لان انفصال النطفة منه لا يزيده عقلا لكن حط الخطاب عنه تخفيفا، لان العقل خفي، وإنما يظهر فيه على التدريج، فلا يمكن الوقوف بغتة على الحد الذي يفهم به خطاب الشرع ويعرف المرسل والرسول والآخرة فنصب الشرع له علامة ظاهرة. مسأله (هل يكلف الغافل والناس؟) تكليف الناسي والغافل عما يكلف محال، إذ من لا يفهم كيف يقال له: إفهم، أما ثبوت الاحكام بأفعاله في النوم والغفلة فلا ينكر، كلزوم الغرامات وغيرها، وكذلك تكليف السكران الذي لا يعقل محال، كتكليف الساهي والمجنون والذي يسمع ولا يفهم، بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكن تنبيهه، ومن المجنون الذي يفهم كثيرا من الكلام، وأما نفوذ طلاقه ولزوم الغرم فذلك من قبيل ربط الاحكام بالاسباب، وذلك مما لا ينكر، فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {في} (النساء: 34)، وهذا خطاب للسكران قلنا إذا ثبت بالبرهان استحالة خطابه وجب تأويل الآية، ولها تأويلان: أحدهما أنه خطاب مع المنتشي الذي ظهر فيه مبادئ النشاط والطرب، ولم يزل عقله، فإنه قد يستحسن من اللعب والانبساط ما لا يستحسنه قبل ذلك ولكنه عاقل. وقوله تعالى: {حتى تعلموا ما تقولون} (النساء: 34) معناه: حتى تتبينوا ويتكامل فيكم ثباتكم، كما يقال للغضبان، إصبر حتى تعلم ما تقول: أي حتى يسكن غضبك فيكمل علمك، وإن كان أصل عقله باقيا، وهذا لانه لا يشتغل بالصلاة، مثل هذا السكران، وقد يعسر عليه تصحيح مخارج الحروف وتمام الخشوع. الثاني: أنه ورد الخطاب به في ابتداء الاسلام قبل تحريم الخمر، وليس المراد المنع من الصلاة، بل المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة، كما يقال: لا تقرب التهجد وأنت شبعان، ومعناه: لا تشبع فيثقل عليك التهجد. |
12-06-2012, 02:58 PM | #25 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (أمر الله تعالى في الازل) فإن قال قائل: ليس من شرط الامر عندكم كون المأمور موجودا إذ قضيتم بأن الله تعالى آمر في الازل لعباده قبل خلقهم، فكيف شرطتم كون المكلف سميعا عاقلا، والسكران والناسي والصبي والمجنون أقرب إلى التكليف من المعدوم؟ قلنا: ينبغي أن يفهم معنى قولنا إن الله تعالى آمر وإن المعدوم مأمور فإنا نعني به أنه مأمور على تقدير الوجود، لا أنه مأمور في حالة العدم، إذ ذلك محال، لكن أثبت الذاهبون إلى إثبات كلام النفس أنه لا يبعد أن يقوم بذات الاب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد، وإنه لو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار الولد مطالبا بذلك الطلب ومأمورا به، فكذلك المعنى القائم بذات الله تعالى الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد قديم، تعلق بعباده على تقدير وجودهم فإذا وجدوا صاروا مأمورين بذلك الاقتضاء، ومثل هذا جار في حق الصبي والمجنون، فإن انتظار العقل لا يزيد على انتظار الوجود، ولا يسمى هذا المعنى في الازل خطابا، إنما يصير خطابا إذا وجد المأمور وأسمع، وهل يسمى أمرا؟ فيه خلاف، والصحيح أنه يسمى به، إذ يحسن أن يقال فيمن أوصى أولاده بالتصدق بماله أن يقال: فلان أمر أولاده بكذا، وإن كان بعض أولاده مجتنا في البطن، أو معدوما، ولا يحسن أن يقال: خاطب أولاده إلا إذا حضروا وسمعوا ثم إذا أوصى فنفذوا وصيته، يقال: قد أطاعوه وامتثلوا أمره، مع أن الآمر الآن معدوم، والمأمور كان وقت وجود الآمر معدوما، وكذلك نحن الآن بطاعتنا ممتثلون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معدوم عن عالمنا هذا، وإن كان حيا عند الله تعالى، فإذا لم يكن وجود الآمر شرطا لكون المأمور مطيعا ممتثلا، فلم يشترط وجود المأمور، لكون الامر أمرا. فإن قيل: أفتقولون إن الله تعالى في الازل آمر للمعدوم على وجه الالزام؟ قلنا: نعم، نحن نقول: هو آمر، لكن على تقدير الوجود، كما يقال: الوالد موجب وملزم على أولاده التصدق إذا عقلوا وبلغوا فيكون الالزام والايجاب حاصلا، ولكن بشرط الوجود والقدرة. ولو قال لعبده: صم غدا، فقد أوجب وألزم في الحال صوم الغد، ولا يمكن صوم الغد في الوقت، بل في الغد، وهو موصوف بأنه ملزم وموجب في الحال. الركن الرابع: المحكوم فيه، وهو الفعل، إذ لا يدخل تحت التكليف إلا الافعال الاختيارية، وللداخل تحت التكليف شروط: الأول: صحة حدوثه، لاستحالة تعلق الامر بالقديم والباقي، وقلب الاجناس والجمع بين الضدين وسائر المحالات التي لا يجوز التكليف بها عند من يحيل تكليف ما لا يطاق، فلا أمر إلا بمعدوم يمكن حدوثه، وهل يكون الحادث في أول حال حدوثه مأمورا به كما كان قبل الحدوث، أو يخرج عن كونه مأمورا كما في الحالة الثانية من الوجود؟ اختلفوا فيه، وفيه بحث كلامي لا يليق بمقاصد أصول الفقه ذكره. الثاني: جواز كونه مكتسبا للعبد حاصلا باختياره، إذ لا يجوز تكليف زيد كتابة عمرو وخياطته، وإن كان حدوثه ممكنا، فليكن مع كونه ممكنا مقدورا للمخاطب. الثالث: كونه معلوما للمأمور معلوم التمييز عن غيره حتى يتصور قصده إليه، وأن يكون معلوما كونه مأمورا به من جهة الله تعالى، حتى يتصور منه قصد الامتثال، وهذا يختص بما يجب فيه قصد الطاعة والتقرب، فإن قيل: فالكافر مأمور بالايمان بالرسول عليه السلام وهو لا يعلم أنه مأمور به؟ قلنا: الشرط لا بد أن يكون معلوما أو في حكم المعلوم، بمعنى أن يكون العلم ممكنا بأن تكون الأدلة منصوبة والعقل والتمكن من النظر حاصلا، حتى أن ما لا دليل عليه أو من لا عقل له مثل الصبي والمجنون لا يصح في حقه. الرابع: أن يكون بحيث يصح إرادة إيقاعه طاعة وهو أكثر العبادات، ويستثنى من هذا شيئان: أحدهما: الواجب الأول، وهو النظر المعرف للوجوب، فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة وهو لا يعرف وجوبه إلا بعد الاتيان به، والثاني: أصل إرادة الطاعة والاخلاص، فإنه لو افتقرت إلى إرادة لافتقرت الارادة إلى إرادة ولتسلسل ويتشعب عن شروط الفعل خمس مسائل.
مسألة (هل المكلف به ممكن الحدوث؟) ذهب قوم إلى أن كون المكلف به ممكن الحدوث ليس بشرط، بل يجوز تكليف ما لا يطاق، والامر بالجمع بين الضدين، وقلب الاجناس وإعدام القديم، وإيجاد الموجود، وهو المنسوب إلى الشيخ أبي الحسن الاشعري رحمه الله، وهو لازم على مذهبه من وجهين: أحدهما: أن القاعدة عنده غير قادر على القيام إلى الصلاة، لان الاستطاعة عنده مع الفعل لا قبله، وإنما يكون مأمورا قبله. والآخر: أن القدرة الحادثة لا تأثير لها في إيجاد المقدور بل أفعالنا حادثة بقدرة الله تعالى واختراعه، فكل عبد هو عنده مأمور بفعل الغير واستدل على هذا بثلاثة أشياء: أحدها: قوله تعالى: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} (البقرة: 286) والمحال لا يسأل دفعه، فإنه مندفع بذاته، وهو ضعيف، لان المراد به ما يشق ويثقل علينا، إذ من أتعب بالتكليف بأعمال تكاد تفضي إلى هلاكه لشدتها كقوله: اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم، فقد يقال: حمل ما لا طاقة له به، فالظاهر المؤول ضعيف الدلالة في القطعيات. الثاني: قولهم أن الله تعالى أخبر أن أبا جهل لا يصدق وقد كلفه الايمان، ومعناه أن يصدق محمدا فيما جاء به ومما جاء به أنه لا يصدقه، فكأنه أمره أن يصدقه في أن لا يصدقه وهو محال. وهذا ضعيف أيضا، لان أبا جهل أمر بالايمان بالتوحيد والرسالة والأدلة منصوبة والعقل حاضر، إذ لم يكن هو مجنونا، فكان الامكان حاصلا، لكن الله تعالى علم أنه يترك ما يقدر عليه حسدا وعنادا، فالعلم يتبع المعلوم ولا يغيره، فإذا علم كون الشئ مقدورا لشخص وممكنا منه ومتروكا من جهته مع القدرة عليه، فلو انقلب محالا لانقلب العلم جهلا ويخرج عن كونه ممكنا مقدورا، وكذلك نقول: القيامة مقدور عليها من جهة الله تعالى في وقتنا هذا، وإن أخبر أنه لا يقيمها ويتركها مع القدرة عليها، وخلاف خبره محال، إذ يصير وعيده كذبا، ولكن هذه استحالة لا ترجع إلى نفس الشئ فلا تؤثر فيه. الثالث: قولهم: لو استحال تكليف المحال لاستحال إما لصيغته أو لمعناه أو لمفسدة تتعلق به، أو لانه يناقض الحكمة ولا يستحيل لصيغته، إذ لا يستحيل أن يقول: {كونوا قردة خاسئين} (البقرة: 56)، وأن يقول السيد لعبده الاعمى: أبصر، وللزمن إمش، وأما قيام معناه بنفسه فلا يستحيل أيضا إذ يمكن أن يطلب من عبده كونه في حالة واحدة في مكانين ليحفظ: ماله في بلدين، ومحال أن يقال أنه ممتنع للمفسدة أو مناقضة الحكمة، فإن بناء الامور على ذلك في حق الله تعالى محال إذ لا يقبح منه شئ، ولا يجب عليه الأصلح، ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد، والفساد والسفه من المخلوق ممكن، فلم يمتنع ذلك مطلقا، والمختار استحالة التكليف بالمحال لا لقبحه ولا لمفسدة تنشأ عنه ولا لصيغته، إذ يجوز أن ترد صيغته، ولكن للتعجيز لا للطلب، كقوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديدا} (الاسراء: 05) وكقوله: {كونوا قردة خاسئين} (البقرة: 56) أو لاظهار القدرة، كقوله تعالى: {كن فيكون} [ البقره: 117، آل عمران: 47 و 59، الانعام: 73، النحل: 240، مريم: 35، (يس: 82) غافر: 68 لا بمعنى أنه طلب من المعدوم أن يكون بنفسه، ولكن يمتنع لمعناه، إذ معنى التكليف طلب ما فيه كلفة، والطلب يستدعي مطلوبا، وذك المطلوب ينبغي أن يكون مفهوما للمكلف بالاتفاق، فيجوز أن يقول: تحرك، إذ التحرك مفهوم، فلو قال له: تمرك، فليس بتكليف، إذ معناه ليس بمعقول ولا مفهوم ولا له معنى في نفسه، فإنه لفظ مهمل، فلو كان له معنى في بعض اللغات يعرفه الآمر دون المأمور، فلا يكون ذلك تكليفا أيضا، لان التكليف هو الخطاب بما فيه كلفة، وما لا يفهمه المخاطب لا يكون خطابا معه، وإنما يشترط كونه مفهوما ليتصور منه الطاعة، لان التكليف اقتضاء طاعة، فإذا لم يكن في العقل طاعة لم يكن اقتضاء الطاعة متصورا معقولا، إذ يستحيل أن يقوم بذات العاقل طلب الخياطة من الشجر، لان الطلب يستدعي مطلوبا معقولا أولا، وهذا غير معقول، أي لا وجود له في العقل، فإن الشئ قبل أن يوجد في نفسه، فله وجود في العقل، وإنما يتوجه إليه الطلب بعد حصوله في العقل، وإحداث القديم غير داخل في العقل، فكيف يقوم بذاته طلب إحداث القديم؟ وكذلك سواد الابيض لا وجود له في العقل، وكذلك قيام القاعدة، فكيف يقول له: قم وأنت قاعد؟ فهذا الطلب يمتنع قيامه بالقلب لعدم المطلوب، فإنه كما يشترط في المطلوب أن يكون معدوما في الاعيان، يشترط أن يكون موجودا في الاذهان، أي في العقل، حتى يكون إيجاده في الاعيان على وفقه في الاذهان، فيكون طاعة وامتثالا، أي احتذاء لمثال ما في نفس الطالب، فما لا مثال له في النفس لا مثال له في الوجود، فإن قيل: فإذا لم يعلم عجز المأمور عن القيام تصور أن يقوم بذاته طلب القيام قلنا: ذلك طلب مبني على الجهل، وربما يظن الجاهل أن ذلك تكليف فإذا انكشف تبين أنه لم يكن طلبا، وهذا لا يتصور من الله تعالى. فإن قيل: فإذا لم تؤثر القدرة الحادثة في الايجاد وكانت مع الفعل كان كل تكليف تكليفا بما لا يطاق قلنا: نحن ندرك بالضرورة تفرقه بين أن يقال للقاعد الذي ليس بزمن: أدخل البيت، وبين أن يقال له إطلع السماء، أو يقال له: قم، مع استدامة القعود، أو إقلب السواد حركة والشجرة فرسا، إلا أن النظر في أن هذه التفرقة إلى ماذا ترجع ويعلم أنها ترجع إلى تمكن، وقدرة بالاضافة إلى أحد هذه الاوامر دون البقية، ثم النظر في تفصيل تأثير القدرة، وقت حدوث القدرة كيف ما استقر أمره لا يشككنا في هذا، ولذلك جاز أن نقول: {لا تحملنا ما لا طاقة لنا به} (البقرة: 682) فإن استوت الامور كلها فأي معنى لهذا الدعاء، وأي معنى لهذه التفرقة الضرورية؟ فغرضنا من هذه المسألة غير موقوف على البحث عن وجه تأثير القدرة ووقتها، وعلى الجملة سبب غموض هذا، أن التكليف نوع خاص من كلام النفس، وفي فهم أصل كلام النفس غموض، فالتفريع عليه، وتفصيل أقسامه لا محالة يكون أغمض. مسألة (الجمع بين الاضداد) كما لا يجوز أن يقال: إجمع بين الحركة والسكون، لا يجوز أن يقال: لا تتحرك ولا تسكن، لان الانتهاء عنهما محال، كالجمع بينهما، فإن قيل: فمن توسط مزرعة مغصوبة فيحرم عليه المكث ويحرم عليه الخروج، إذ في كل واحد، إفساد زرع الغير فهو عاص بهما؟ قلنا: حظ الاصولي من هذا أن يعلم أنه لا يقال له: لا تمكث ولا تخرج، ولا ينهى عن الضدين، فإنه محال: كما لا يؤمر بجمعهما، فإن قيل: فما يقال له؟ قلنا: يؤمر بالخروج كما يؤمر المولج في الفرج الحرام بالنزع، وإن كان به مماسا للفرج الحرام، ولكن يقال له: إنزع على قصد التوبة، لا على قصد الالتذاذ، فكذلك في الخروج من الغصب تقليل الضرر في المكث تكثيره، وأهون الضررين يصير واجبا وطاعة بالاضافة إلى أعظمهما، كما يصير شرب الخمر واجبا في حق من غص بلقمة، وتناول طعام الغير واجبا على المضطر في المخمصة وإفساد مال الغير ليس حراما لعينه، ولذلك لو أكره عليه بالقتل وجب أو جاز، فإن قيل: فلم يجب الضمان بما يفسده في الخروج؟ قلنا: الضمان لا يستدعي العدوان إذ يجب على المضطر في المخمصة مع وجوب الاتلاف ويجب على الصبي وعلى من رمى إلى صف الكفار وهو مطيع به فإن قيل فالمضي في الحج الفاسد إن كان حراما للزوم القضاء فلم يجب، وإن كان واجبا و طاعة، فلم وجب القضاء ولم عصى به؟ قلنا: عصى بالوطء المفسد، وهو مطيع بإتمام الفاسد، والقضاء يجب بأمر مجدد، وقد يجب بما هو طاعة إذا تطرق إليه خلل، وقد يسقط القضاء بالصلاة في الدار المغصوبة، مع أنه عدوان، فالقضاء كالضمان، فإن قيل: فبم تنكرون على أبي هاشم حيث ذهب إلى أنه لو مكث عصى ولو خرج عصى، وأنه ألقى بنفسه في هذه الورطة، فحكم العصيان ينسحب على فعله، قلنا: وليس لاحد أن يلقي بنفسه في حال تكلف ما لا يمكن، فمن ألقى نفسه من سطح فانكسرت رجله لا يعصى بالصلاة قاعدا، وإنما يعصى بكسر الرجل لا بترك الصلاة قائما، وقول القائل ينسحب عليه حكم العدوان إن أراد به أنه إنما نهي عنه مع النهي عن ضده، فهو محال، والعصيان عبارة عن ارتكاب منهي، قد نهي عنه، فإن لم يكن نهي لم يكن عصيان، فكيف يفرض النهي عن شئ وعن ضده أيضا؟ ومن جوز تكليف ما لا يطاق عقلا فإنه يمنعه شرعا، لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (البقرة: 682) إن قيل: فإن رجحتم جانب الخروج لتقليل الضرر فما قولكم فيمن سقط على صدر صبي محفوف بصبيان وقد علم أنه لو مكث قتل من تحته أو انتقل قتل من حواليه ولا ترجيح، فكيف السبيل؟ قلنا: يحتمل أن يقال: إمكث، فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من حي قادر، وأما ترك الحركة فلا يحتاج إلى استعمال قدرة، ويحتمل أن يقال: يتخير إذ لا ترجيح، ويحتمل أن يقال لا حكم لله تعالى فيه، فيفعل ما يشاء، لان الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص، ولا نص في هذه المسألة، ولا نظير لها في المنصوصات، حتى يقاس عليه، فبقي على ما كان قبل ورود الشرع، ولا يبعد خلو واقعة عن الحكم، فكل هذا محتمل، وأما تكليف المحال فمحال. |
12-06-2012, 03:00 PM | #26 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (المقتضى بالتكليف) إعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الله تعالى في كل حال لا سيما بعد انقطاع الوحي، أظهر الله سبحانه خطابه لخلقه بأمور محسوسة نصبها أسبابا لاحكامه، وجعلها موجبة ومقتضية للاحكام على مثال اقتضاء العلة الحسية معلولها، ونعني بالاسباب ها هنا أنها هي التي أضاف الاحكام إليها، كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} وقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة: 581) وقوله صلى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وهذا ظاهر فيما يتكرر من العبادات، كالصلاة والصوم والزكاة، فإن ما يتكرر الوجوب بتكرره، فجدير بأن يسمى سببا، أما ما لا يتكرر كالاسلام والحج فيمكن أن يقال ذلك معلوم بقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} (آل عمران: 79) وكذا وجوب المعرفة على كل مكلف يعلم بالعمومات فلا حاجة إلى إضافتها إلى سبب، ويمكن أن يقال سبب وجوب الايمان والمعرفة الأدلة المنصوبة، وسبب وجوب الحج البيت دون الاستطاعة، ولما كان البيت واحدا لم يجب الحج إلا مرة واحدة، والايمان معرفة، فإذا حصلت دامت، والامر فيه قريب. هذا قسم العبادات، وأما قسم الغرامات والكفارات والعقوبات، فلا تخفى أسبابها، وأما قسم المعاملات فلحل الاموال والابضاع وحرمتها أيضا أسباب ظاهرة من نكاح وبيع وطلاق وغيره، وهذا ظاهر، وإنما المقصود أن نصب الاسباب أسبابا للاحكام أيضا، حكم من الشرع، فلله تعالى في الزاني حكمان. أحدهما: وجوب الحد عليه. والثاني: نصب الزنا سببا للوجوب في حقه، لان الزنا لا يوجب الرجم لذاته وعينه، بخلاف العلل العقلية، وإنما صار موجبا بجعل الشرع إياه موجبا، فهو نوع من الحكم، فلذلك أوردناه في هذا القطب، ولذلك يجوز تعليله، ونقول: نصب الزنا علة للرجم. والسرقة علة للقطع لكذا وكذا، فاللواط في معناه فينتصب أيضا سببا، والنباش في معنى السارق، وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب القياس. وأعلم أن اسم السبب مشترك في اصطلاح الفقهاء، وأصل اشتقاقه من الطريق، ومن الحبل الذي به ينزح الماء من البئر وحده ما يحصل الشئ عنده لا به، فإن الوصول بالسير لا بالطريق، ولكن لا بد من الطريق، ونزح الماء بالاستقاء لا بالحبل، ولكن لا بد من الحبل، فاستعار الفقهاء لفظ السبب من هذا الموضع، وأطلقوه على أربعة أوجه: الوجه الأول وهو أقربها إلى المستعار منه ما يطلق في مقابلة المباشرة، إذ يقال: إن حافر البئر مع المردي فيه صاحب سبب، والمردي صاحب علة، فإن الهلاك بالتردية لكن عند وجود البئر، فما يحصل الهلاك عنده لا به يسمى سببا. الثاني: تسميتهم الرمي سببا للقتل، من حيث أنه سبب للعلة، وهو على التحقيق علة العلة، ولكن لما حصل الموت لا بالرمي بل بالواسطة أشبه ما لا يحصل الحكم إلا به. الثالث: تسميتهم ذات العلة مع تخلف وصفها سببا، كقولهم: الكفارة تجب باليمين دون الحنث، فاليمين هو السبب، وملك النصاب هو سبب الزكاة دون الحول مع أنه لا بد منهما في الوجوب ويريدون بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه، ويقابلون هذا بالمحل والشرط فيقولون: ملك النصاب سبب والحول شرط. الرابع: تسميتهم الموجب سببا، فيكون السبب بمعنى العلة، وهذا أبعد الوجوه عن وضع اللسان: فإن السبب في الوضع عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به، ولكن هذا يحسن في العلل الشرعية، لانها لا توجب الحكم لذاتها، بل بإيجاب الله تعالى، ولنصبه هذه الاسبابعلامات لاظهارالحكم فالعلل الشرعية فى معنى العلامات الظاهرة فشابهت مايحصل الحكم عنده.
اختلفوا في المقتضى بالتكليف، والذي عليه أكثر المتكلمين أن المقتضى به الاقدام أو الكف وكل واحد كسب العبد، فالامر بالصوم أمر بالكف، والكف فعل يثاب عليه، والمقتضى بالنهي عن الزنا والشرب التلبس بضد من وقال بعض أضداده، وهو الترك، فيكون مثابا على الترك الذي هو فعله المعتزلة: قد يقتضي الكف فيكون فعلا، وقد يقتضي أن لا يفعل ولا يقصد التلبس بضده فأنكر الأولون، هذا وقالوا: المنتهي بالنهي مثاب، ولا يثاب إلا على شئ وأن لا يفعل عدم وليس بشئ، ولا تتعلق به قدرة، إذ القدرة تتعلق بشئ، فلا يصح الاعدام بالقدرة، وإذا لم يصدر منه شئ فكيف يثاب على لا شئ؟ والصحيح أن الامر فيه منقسم، أما الصوم فالكف فيه مقصود، ولذلك تشترط فيه النية، وأما الزنا والشرب فقد نهي عن فعلهما، فيعاقب فاعلهما، ومن لم يصدر منه ذلك فلا يعاقب، ولا يثاب إلا إذا قصد كف الشهوة عنهما مع التمكن، فهو مثاب على فعله، وأما من لم يصدر منه المنهي عن فعله فلا يعاقب عليه ولا يثاب، لانه لم يصدر منه شئ، ولا يبعد أن يكون مقصود الشرع أن لا تصدر منه الفواحش، ولا يقصد منه التلبس بأضدادها. مسألة (هل المكره مكلف؟) فعل المكره يجوز أن يدخل تحت التكليف، بخلاف فعل المجنون والبهيمة، لان الخلل تم في المكلف لا في المكلف به، فإن شرط تكليف المكلف السماع والفهم وذلك في المجنون والبهيمة معدوم، والمكره يفهم، وفعله في حيز الامكان، إذ يقدر على تحقيقه وتركه، فإن أكره على أن يقتل جاز أن يكلف ترك القتل، لانه قادر عليه، وإن كان فيه خوف الهلاك، وإن كلف على وفق الاكراه فهو أيضا ممكن، بأن يكره بالسيف على قتل حية همت بقتل مسلم، إذ يجب قتلها، أو أكره الكافر على الاسلام، فإذا أسلم نقول: قد أدى ما كلف، وقالت المعتزلة: إن ذلك محال لانه لا يصح منه إلا فعل ما أكره عليه فلا يبقى له خيرة، وهذا محال، لانه قادر على تركه، ولذلك يجب عليه ترك ما أكره عليه إذا أكره على قتل مسلم، وكذلك لو أكره على قتل حية فيجب قتل الحية، وإذا أكره على إراقة الخمر فيجب عليه إراقة الخمر، وهذا ظاهر، ولكن فيه غور، وذلك لان الامتثال إنما يكون طاعة إذا كان الانبعاث له بباعث الامر والتكليف دون باعث الاكراه، فإن أقدم للخلاص من سيف المكره لا يكون مجيبا داعي الشرع، وإن انبعث بداعي الشرع بحيث كان يفعله لولا الاكراه، بل كان يفعله لو أكره على تركه، فلا يمتنع وقوعه طاعة، لكن لا يكون مكرها، وإن وجد صورة التخويف فليتنبه لهذه الدقيقة. مسألة (الامر بالشرط والمشروط) ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلا حالة الامر، بل يتوجه الامر بالشرط، والمشروط، ويكون مأمورا بتقديم الشرط، فيجوز أن يخاطب الكفار بفروع الاسلام، كما يخاطب المحدث بالصلاة، بشرط تقديم الوضوء، والملحد بتصديق الرسول، بشرط تقديم الايمان بالمرسل، وذهب أصحاب الرأي إلى إنكار ذلك، والخلاف إما في الجواز وإما في الوقوع. أما الجواز العقلي: فواضح. إذ لا يمتنع أن يقول الشارع: بني الاسلام على خمس وأنتم مأمورون بجميعها، وبتقديم الاسلام من جملتها، فيكون الايمان مأمورا به لنفسه ولكونه شرطا لسائر العبادات، كما في المحدث والملحد، فإن منع مانع الجميع وقال: كيف يؤمر بما لا يمكن امتثاله، والمحدث لا يقدر على الصلاة، فهو مأمور بالوضوء، فإذا توضأ توجه عليه حينئذ الامر بالصلاة قلنا: فينبغي أن يقال: لو ترك الوضوء والصلاة جميع عمره لا يعاقب على ترك الصلاة، لانه لم يؤمر قط بالصلاة، وهذا خلاف الإجماع، وينبغي أن لا يصح أمره بعد الوضوء بالصلاة بل بالتكبير، فإنه يشترط تقديمه، ولا بالتكبير بل بهمزة التكبير أولا، ثم بالكاف ثانيا، وعلى هذا الترتيب، وكذلك السعي إلى الجمعة، ينبغي أن لا يتوجه الامر به إلا بالخطوة الأولى ثم بالثانية. وأما الوقوع الشرعي فنقول: كان يجوز أن يخصص خطاب الفروع بالمؤمنين كما خصص وجوب العبادات بالاحرار و المقيمين والاصحاء والطاهرات دون الحيض، ولكن وردت الأدلة بمخاطبتهم، وأدلته ثلاثة: الأول: قوله تعالى: {ما سلككم في سقر ئ قالوا لم نك من المصلين} (المدثر: 24، 34) الآية. فأخبر أنه عذبهم بترك الصلاة وحذر المسلمين به، فإن قيل: هذه حكاية قول الكفار فلا حجة فيها قلنا ذكره الله تعالى في معرض التصديق لهم بإجماع الامة، وبه يحصل التحذير، إذ لو كان كذبا لكان كقولهم، عذبنا لانا مخلوقون وموجودون، كيف وقد عطف عليه قوله: {وكنا نكذب بيوم الدين} (المدثر: 64) فكيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه فإن قيل: العقاب بالتكذيب، لكن غلظ بإضافة ترك الطاعات إليه؟ قلنا: لا يجوز أن يغلظ بترك الطاعات، كما لا يجوز أن يغلظ بترك المباحات التي لم يخاطبوا بها، فإن قيل: عوقبوا إلا بترك الصلاة، لكن لاخراجهم أنفسهم بترك الايمان عن العلم بقبح ترك الصلاة قلنا: هذا باطل من أوجه: أحدها: أنه ترك للظاهر من غير ضرورة، ولا دليل، فإن ترك العلم بقبح ترك الصلاة غير ترك الصلاة، وقد قالوا: {لم نك من المصلين} (المدثر: 34). الثاني: أن ذلك يوجب التسوية بين كافر باشر القتل وسائر المحظورات وبين من اقتصر على الكفر، لان كليهما استويا في إخراج النفس بالكفر عن العلم بقبح المحظورات، والتسوية بينهما خلاف الإجماع. الثالث: أن من ترك النظر والاستدلال ينبغي أن لا يعاقب على ترك الايمان، لانه أخرج نفسه بترك النظر عن أهلية العلم بوجوب المعرفة والايمان، فإن قيل: لم نك من المصلين أي من المؤمنين، لكن عرفوا أنفسهم بعلامة المؤمنين، كما قال صلى الله عليه وسلم: نهيت عن قتل المصلين أي المؤمنين، لكن عرفهم بما هو شعارهم؟ قلنا: هذا محتمل لكن الظاهر لا يترك إلا بدليل، ولا دليل للخصم الدليل الثاني: قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله} (الفرقان: 86) إلى قوله تعالى: {يضاعف له العذاب} (الفرقان: 96)، فالآية نص في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزنا، لا كمن جمع بين الكفر والاكل والشرب. والدليل الثالث: إنعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرسول، كما يعذب على الكفر بالله تعالى، وهذا يهدم معتمدهم إذ قالوا: لا تتصور العبادة مع الكفر، فكيف يؤمر بها؟ احتجوا بأنه لا معنى لوجوب الزكاة وقضاء الصلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر، ومع انتفاء وجوبه لو أسلم، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله؟ قلنا: وجب حتى لو مات على الكفر لعوقب على تركه، لكن إذا أسلم عفى له عما سلف، فالاسلام يجب ما قبله، ولا يبعد نسخ الامر قبل التمكن من الامتثال، فكيف يبعد سقوط الوجوب بالاسلام؟ فإن قيل إذا لم تجب الزكاة إلا بشرط الاسلام، والاسلام الذي هو شرط الوجوب هو بعينه مسقط، فالاستدلال بهذا على أنه لم يجب أولى من إيجابه، ثم الحكم بسقوطه؟ قلنا: لا بعد في قولنا: استقر الوجوب بالاسلام وسقط بحكم العفو، فليس في ذلك مخالفة نص، ونصوص القرآن دلت على عقاب الكافر المتعاطي للفواحش، وكذا الإجماع دل على الفرق بين كافر قتل الانبياء والأولياء وشوش الدين، وبين كافر لم يرتكب شيئا من ذلك، فما ذكرناه أولى، فإن قيل: فلم أوجبتم القضاء على المرتد دون الكافر الأصلي؟ قلنا: القضاء إنما وجب بأمر مجدد، فيتبع فيه موجب الدليل ولا حجة فيه، إذ قد يجب القضاء على الحائض ولم تؤمر بالاداء، وقد يؤمر بالاداء من لا يؤمر بالقضاء، وقد اعتذر الفقهاء بأن المرتد قد التزم بالاسلام القضاء، والكافر لم يلتزم وهذا ضعيف، فإن ما ألزمه الله تعالى فهو لازم التزمه العبد أو لم يلتزمه، فإن كان يسقط بعدم التزامه فالكافر الأصلي لم يلتزم العبادات، وترك المحظورات فينبغي أن لا يلزمه ذلك. الفن الرابع من القطب الأول فيما يظهر الحكم به وهو الذي يسمى سببا، وكيفية نسبة الحكم إليه، وفيه أربعة فصول الفصل الأول في الاسباب |
12-06-2012, 03:01 PM | #27 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفصل الثاني: في وصف السبب بالصحة والبطلان والفساد إعلم أن هذا يطلق في العبادات تارة وفي العقود أخرى، وإطلاقه في العبادات مختلف فيه، فالصحيح عند المتكلمين عبارة عما وافق الشرع وجب القضاء أو لم يجب، وعند الفقهاء عبارة عما أجزأ وأسقط الفضاء، حتى أن صلاة من ظن أن متطهر صحيحة في إصطلاح المتكلمين، لانه وافق الامر المتوجه عليه في الحال، وأما القضاء فوجوبه بأمر مجدد، فلا يشتق منه إسم الصحة، وهذه الصلاة فاسدة عند الفقهاء، لانها غير مجزئة، وكذلك من قطع صلاته بإنقاذ غريق، فصلاته صحيحة عند المتكلم فاسدة عند الفقيه، وهذه الاصطلاحات وإن اختلفت فلا مشاحة فيها، إذ المعنى متفق عليه، وأما إذا أطلق في العقود فكل سبب منصوب لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه، يقال أنه صح، وإن تخلف عنه مقصوده يقال إنه بطل، فالباطل هو الذي لا يثمر، لان السبب مطلوب لثمرته، والصحيح هو الذي أثمر، والفاسد مرادف للباطل في إصطلاح أصحاب الشافعي رضي الله عنه، فالعقد إما صحيح وإما باطل، وكل باطل فاسد. وأبو حنيفة أثبت قسما آخر في العقود بين البطلان والصحة، وجعل الفاسد عبارة عنه، وزعم أن الفاسد معتقد لافادة الحكم، لكن المعني بفساده أنه غير مشروع بوصفه، والمعني بانعقاده أنه مشروع بأصله، كعقد الربا فإنه مشروع من حيث أنه بيع، وممنوع من حيث أنه يشتمل على زيادة في العوض، فاقتضى هذا درجة بين الممنوع بأصله ووصفه جميعا بين المشروع بأصله ووصفه جميعا، فلو صح له هذا القسم لم يناقش في التعبير عنه بالفاسد ولكنه ينازع فيه، إذ كل ممنوع بوصفه فهو ممنوع بأصله كما سبق ذكره.
الفصل الثالث: في وصف العبادة بالاداء والقضاء والاعادة اعلم أن الواجب إذا أدي في وقته سمي أداء، وإن أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع المقدر سمي قضاء، وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في الوقت سمي إعادة فالاعادة اسم لمثل ما فعل، والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود، ويتصدى النظر في شيئين: أحدهما: أنه لو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه يخترم قبل الفعل، فلو أخر عصي بالتأخير، فلو أخر وعاش، قال القاضي رحمه الله ما يفعله هذا قضاء لانه تقدر وقته بسبب غلبة الظن وهذا غير مرضي عندنا، فإنه لما انكشف خلاف ما ظن زال حكمه، وصار كما لو علم أنه يعيش، فينبغي أن ينوي الاداء، أعني المريض إذا أخر الحج إلى السنة الثانية وهو مشرف على الهلاك ثم شفي. الثاني: أن الزكاة على الفور عند الشافعي رحمه الله، فلو أخر ثم أدى فيلزم على مساق كلام القاضي رحمه الله أن يكون قضاء، والصحيح أنه أداء لانه لم يعين وقته بتقدير وتعيين، وأنما أوجبنا البدء بقرينة الحاجة وإلا فالاداء في جميع الاوقات موافق لموجب الامر وامتثال له، وكذلك من لزمه قضاء صلاة على الفور فأخر فلا نقول أنه قضاء القضاء، ولذلك نقول: يفتقر وجوب القضاء إلى أمر مجدد، ومجرد الامر بالاداء كاف في دوام اللزوم، فلا يحتاج إلى دليل آخر وأمر مجدد، فإذا الصحيح أن إسم القضاء مخصوص بما عين وقته شرعا ثم فات الوقت قبل الفعل. دقيقة: أعلم أن القضاء قد يطلق مجازا وقد يطلق حقيقة، فإنه تلو الاداء وللاداء أربعة أحوال: الأولى: أن يكون واجبا، فإذا تركه المكلف عمدا أو سهوا وجب عليه القضاء، ولكن حط المأثم عنه عند سهوه على سبيل العفو، فالاتيان بمثله بعده يسمى قضاء حقيقة. الثانية: أن لا يجب الاداء كالصيام في حق الحائض، فإنه حرام، فإذا صامت بعد الطهر فتسميته قضاء مجاز محض، وحقيقته أنه فرض مبتدأ، لكن لما تجدد هذا الفرض بسبب حالة عرضت منعت من إيجاب الاداء حتى فات لفوات إيجابه سمي قضاء، وقد أشكل هذا على طائفة فقالوا: وجب الصوم على الحائض دون الصلاة، بدليل وجوب القضاء، وجعل هذا الاسم مجازا أولى من مخالفة الإجماع إذ لا خلاف أنه لو ماتت الحائض لم تكن عاصية فكيف تؤمر بما تعصي به لو فعلته وليس الحيض كالحدث، فإن إزالته تمكن، فإن قيل فلم تنوي قضاء رمضان؟ قلنا: إن عينت بذلك أنها تنوي قضاء ما منع الحيض من وجوبه فهو كذلك، وإن عنيت أنه قضاء لما وجب عليها في حالة الحيض فهو خطأ ومحال، فإن قيل: فلينو البالغ القضاء لما فات في حالة الصغر، قلنا: لو أمر بذلك لنواه ولكن لم يجعل فوات الايجاب بالصبا سببا لايجاب فرض مبتدأ بعد البلوغ، كيف والمجاز إنما يحسن بالاشتهار، وقد اشتهر ذلك في الحيض دون الصبا، ولعل سبب اختصاص اشتهاره أن الصبا يمنع أصل التكليف، والحائض مكلفة فهي بصدد الايجاب الحالة الثالثة: حالة المريض والمسافر إذا لم يجب عليهما، لكنهما إن صاما وقع عن الفرض، فهذا يحتمل أن يقال أنه مجاز أيضا، إذ لا وجوب، ويحتمل أن يقال: إنه حقيقة، إذ فعله في الوقت لصح منه، فإذا أخل بالفعل مع صحته فعله فهو شبيه بمن وجب عليه وتركه سهوا أو عمدا أو نقول: قال الله تعالى: {فعدة من أيام أخر} (البقرة: 481 - 581) فهو على سبيل التخيير، فكان الواجب أحدهما لا بعينه، إلا أن هذا البدل لا يمكن إلا بعد فوات الأول، والأول سابق بالزمان فسمي قضاء لتعلقه بفواته، بخلاف العتق والصيام في الكفارة إذ لا يتعلق أحدهما بفوات الآخر، ولكن يلزم على هذا أن تسمى الصلاة في آخر الوقت قضاء، لانه مخير بين التقديم والتأخير، كالمسافر، والاظهر أن تسمية صوم المسافر قضاء مجاز، أو القضاء إسم مشترك بين ما فات أداؤه الواجب وبين ما خرج عن وقته المشهور المعروف به، ولرمضان خصوص نسبة إلى الصوم ليس ذلك لسواه، بدليل أن الصبي المسافر لو بلغ بعد رمضان لا يلزمه، ولو بلغ في آخر وقت الصلاة لزمته فإخراجه عن مظنة أدائه في حق العموم يوهم كونه قضاء، والذي يقتضيه التحقيق أنه ليس بقضاء، فإن قيل: فالنائم والناسي يقضيان ولا خطاب عليهما، لانهما لا يكلفان؟ قلنا: هما منسوبان إلى الغفلة والتقصير، ولكن الله تعالى عفا عنهما وحط عنهما المأثم بخلاف الحائض والمسافر، ولذلك يجب عليهما الامساك بقية النهار تشبها بالصائمين دون الحائض، ثم في المسافر مذهبان ضعيفان: أحدهما: مذهب أصحاب الظاهر، أن المسافر لا يصح صومه في السفر، لقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} (البقرة: 481 - 581) فلم يأمره إلا بأيام أخر، وهو فاسد، لان سياق الكلام يفهمنا إضمار الافطار، ومعناه: من كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، كقوله تعالى: {فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه} (البقرة: 06)، يعني فضرب فانفجرت، ولان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر كانوا يصومون ويفطرون ولا يعترض بعضهم على بعض. والثاني: مذهب الكرخي أن الواجب أيام أخر، ولكن لو صام رمضان صح، وكان معجلا للواجب كمن قدم الزكاة على الحول وهو فاسد لان الآية لا تفهم إلا الرخصة في التأخير وتوسيع الوقت عليه، والمؤدي في أول الوقت الموسع غير معجل بل هو مؤد في وقته، كما سبق في الصلاة في أول الوقت. الحالة الرابعة: حال المريض، فإن كان لا يخشى الموت في الصوم فهو كالمسافر أما الذي يخشى الموت أو الضرر العظيم فيعصي بترك الاكل فيشبه الحائض من هذا الوجه، فلو صام يحتمل أن يقال: لا ينعقد لانه عاص به فكيف يتقرب بما يعصي به، ويحتمل أن يقال: إنما عصي بجنايته على الروح التي هي حق الله تعالى، فيكون كالمصلي في الدار المغصوبة، يعصي لتناوله حق الغير، ويمكن أن يقال: قد قيل للمريض كل، فكيف يقال له: لا تأكل وهو معنى الصوم، بخلاف الصلاة والغصب، ويمكن أن يجاب بأنه قيل له: لا تهلك نفسك، وقيل له صم، فلم يعص من حيث أنه صائم، بل من حيث سعيه في الهلاك، ويلزم عليه صوم يوم النحر، فإنه نهي عنه لترك إجابة الدعوة إلى أكل القرابين والضحايا، وهي ضيافة الله تعالى، ويعسر الفرق بينهما جدا، فهذه احتمالات يتجاذبها المجتهدون، فإن قلنا: لا ينعقد صومه، فتسمية تداركه قضاء مجاز محض، كما في حق الحائض، وإلا فهو كالمسافر. |
12-06-2012, 03:02 PM | #28 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفصل الرابع: في العزيمة والرخصة اعلم أن العزم عبارة عن القصد المؤكد: قال الله تعالى: {فنسي ولم نجد له عزما} (طه: 511) أي قصدا بليغا، وسمي بعض الرسل أولي العزم، لتأكيد قصدهم في طلب الحق، والعزيمة في لسان حملة الشرع عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى، والرخصة في اللسان عبارة عن اليسر والسهولة، يقال: رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء، وفي الشريعة عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السبب المحرم، فإن لم يوجبه الله تعالى علينا من صوم شوال وصلاة الضحى لا يسمى رخصة، وما أباحه في الأصل من الاكل والشرب لا يسمى رخصة، ويسمى تناول الميتة رخصة، وسقوط صوم رمضان عن المسافر يسمى رخصة، وعلى الجملة فهذا الاسم يطلق حقيقة ومجازا فالحقيقة في الرتبة العليا كإباحة النطق بكلمة الكفر بسبب الاكراه، وكذلك إباحة شرب الخمر، وإتلاف مال الغير بسب الاكراه، والمخمصة والغصص بلقمة لا يسيغها إلا الخمر التي معه، وأما المجاز البعيد عن الحقيقة فتسمية ما حط عنا من الاصر والاغلال التي وجبت على من قبلنا في الملل المنسوخة رخصة، وما لم يجب علينا ولا على غيرنا لا يسمى رخصة، وهذا لما أوجب على غيرنا، فإذا قابلنا أنفسنا به حسن إطلاق اسم الرخصة تجوزا فإن الايجاب على غيرنا ليس تضييقا في حقنا، والرخصة فسحة في مقابلة التضييق، ويتردد بين هاتين الدرجتين صور بعضها أقرب إلى الحقيقة وبعضها أقرب إلى المجاز، منها: القصر والفطر في حق المسافر، وهو جدير بأن يسمى رخصة حقيقة، لان السبب هو شهر رمضان، وهو قائم، وقد دخل المسافر تحت قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة: 581) وأخرج عن العموم بعذر وعسر، أما التيمم عند عدم الماء فلا يحسن تسميته رخصة، لانه لا يمكن تكليف استعمال الماء مع عدمه، فلا يمكن أن يقال: السبب قائم مع استحالة التكليف، بخلاف المكره على الكفر والشرب، فإنه قادر على الترك، نعم: تجويز ذلك عند المرض أو الجراحة أو بعد الماء عنه أو بيعه بأكثر من ثمن المثل رخصة، بل التيمم عند فقهاء الماء، كالاطعام عند فقد الرقبة، وذلك ليس برخصة، بل أوجبت الرقبة في حالة، والاطعام في حالة، فلا نقول السبب قائم عند فقد الرقبة، بل الظهار سبب لوجوب العتق في حالة، ولوجوب الاطعام في حالة، فإن قيل: إن كان سبب وجوب الوضوء مندفعا عند فقد الماء، فسبب تحريم الكفر والشرب والميتة مندفع عند خوف الهلاك، فكان المحرم محرم بشرط انتفاء الخوف، قلنا: المحرم في الميتة الخبث، وفي الخمر الاسكار وفي الكفر كونه جهلا بالله تعالى أو كذبا عليه، وهذه المحرمات قائمة، وقد اندفع حكمها بالخوف، فكل تحريم اندفع بالعذر والخوف مع إمكان تركه يسمى اندفاعه رخصة ولا يمنع من ذلك تغيير العبارة، بأن يجعل انتفاء العذر شرطا مضموما إلى الموجب، فإن قيل: فالرخص تنقسم إلى ما يعصى بتركه، كترك أكل الميتة، والافطار عند خوف الهلاك، وإلى ما لا يعصى كالافطار والقصر وترك كلمة الكفر، وترك قتل من أكره على قتل نفسه، فكيف يسمى ما يجب الاتيان به رخصة؟ وكيف فرق بين البعض والبعض؟ قلنا أما تسميته رخصة وإن كانت واجبة فمن حيث أن فيه فسحة، إذ لم يكلف إهلاك نفسه بالعطش، وجوز له تسكينه بالخمر وأسقط عنه العقاب، فمن حيث إسقاط العقاب عن فعله هو فسحة ورخصة، ومن حيث إيجاب العقاب على تركه هو عزيمة. وأما سبب الفرق: فأمور مصلحية رآها المجتهدون، وقد اختلفوا فيها: فمنهم من لم يجوز الاستسلام للصائل، ومنهم من جوز وقال: قتل غيره محظور كقتله، وإنما جوز له نظرا له، وله أن يسقط حق نفسه إذا قابله مثله، وليس له أن يهلك نفسه ليمتنع عن ميتة وخمر، فإن حفظ المهجة أهم في الشرع من ترك اليمتة والخمر في حالة نادرة، ومنها السلم: فإنه بيع ما لا يقدر على تسليمه في الحال، فقد يقال إنه رخصة لان عموم نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام: عن بيع ما ليس عنده يوجب تحريمه، وحاجة المفلس اقتضت الرخصة في السلم، ولا شك في أن تزويج الآبقة يصح ولا يسمى ذلك رخصة، فإذا قوبل ببيع الآبق فهو فسحة، لكن قيل النكاح عقد آخر فارق شرطه البيع، فلا مناسبة بينهما، ويمكن أن يقال: السلم عقد آخر، فهو بيع دين، وذلك بيع عين، فافترقا، وافتراقهما في الشرط لا يلحق أحدهما بالرخص، فيشبه أن يكون هذا مجازا، فقول الراوي: نهي عن بيع ما ليس عند الانسان وأرخص في السلم تجوز في الكلام، واعلم أن بعض أصحاب الرأي قالوا: حد الرخصة أنه الذي أبيح مع كونه حراما، وهذا متناقض، فإن الذي أبيح لا يكون حراما، وحذق بعضهم وقال: ما أرخص فيه مع كونه حراما، وهو مثل الأول، لان الترخيص إباحة أيضا، وقد بنوا هذا على أصلهم إذ قالوا الكفر قبيح لعينه فهو حرام، فبالاكراه رخص له فيما هو قبيح في نفسه، وعن هذا لو أصر ولم يتلفظ بالكفر كان مثابا، وزعموا أن المكره على الافطار لو لم يفطر يثاب، لان الافطار قبيح، والصوم قيام بحق الله تعالى، والمكره على إتلاف المال أيضا لو استسلم قالوا يثاب، والمكره على تناول الميتة وشرب الخمر زعموا أنه يأثم إن لم يتناول، وفي هذه التفاصيل نظر فقهي لا يتعلق بمحض الاصول، والمقصود أن قولهم أنه رخص في الحرام متناقض لا وجه له والله تعالى أعلم. وقد تم النظر في القطب الأول وهو النظر في حقيقة الحكم وأقسامه فلننظر الآن في مثمر الحكم وهو الدليل.
القطب الثاني في أدلة الاحكام وهي أربعة الكتاب والسنة والإجماع، ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي، فأما قول الصحابي وشريعة من قبلنا فمختلف فيه. الأصل الأول من أصول الأدلة كتاب الله تعالى واعلم أنا إذا حققنا النظر بان أن أصل الاحكام واحد، وهو قول الله تعالى، إذ قول مشغول الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحكم ولا ملزم، بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا، فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة، والسنة على حكم الله تعالى، وأما العقل فلا يدل على الاحكام الشرعية بل يدل على نفي الاحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه، إلا أنا إذا نظرنا إلى ظهور الحكم في حقنا فلا يظهر إلا بقول الرسول عليه السلام، لانا لا نسمع الكلام من الله تعالى ولا من جبريل، فالكتاب يظهر لنا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذن إن اعتبرنا المظهر لهذه الاحكام فهو قول الرسول فقط، إذ الإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله، وإن اعتبرنا السبب الملزم فهو واحد، وهو حكم الله تعالى، لكن إذا لم نجرد النظر وجمعنا المدارك صارت الاصول التي يجب النظر فيها أربعة كما سبق، فلنبدأ بالكتاب والنظر في حقيقته، ثم في حده المميز له عما ليس بكتاب، ثم في ألفاظه، ثم في أحكامه. النظر الأول: في حقيقته ومعناه هو الكلام القائم بذات الله تعالى، وهو صفة قديمة من صفاته، والكلام اسم مشترك قد يطلق على الالفاظ الدالة على ما في النفس تقول: سمعت كلام فلان وفصاحته، وقد يطلق على مدلول العبارات، وهي المعاني التي في النفس كما قيل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقال الله تعالى: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} (المجادلة: 8) وقال تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به} (الملك: 31) فلا سبيل إلى إنكار كون هذا الاسم مشتركا، وقد قال قوم: وضع في الأصل للعبارات، وهو مجاز في مدلولها، وقيل عكسه ولا يتعلق به غرض بعد ثبوت الاشتراك، وكلام النفس ينقسم إلى خبر واستخبار، وأمر ونهي وتنبيه، وهي معان تخالف بجنسها الارادات والعلوم، وهي متعلقة بمتعلقاتها لذاتها كما تتعلق القدرة والارادة والعلم، وزعم قوم أنه يرجع إلى العلوم والارادات، وليس جنسا برأسه، وإثبات ذلك على المتكلم لا على الاصولي. فصل كلام الله تعالى واحد وهو مع وحدته متضمن لجميع معاني الكلام كما أن علمه واحد، وهو مع وحدته محيط بما لا يتناهى من المعلومات، حتى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الارض، وفهم ذلك غامض، وتفهيمه على المتكلم لا على الاصولي، وأما كلام النفس في حقنا، فهو يتعدد كما تتعدد العلوم، ويفارق كلامه كلامنا من وجه آخر، وهو أن أحدا من المخلوقين لا يقدر على أن يعرف غيره كلام نفسه إلا بلفظ أو رمز أو فعل والله تعالى قادر على أن يخلق لمن يشاء من عباده علما ضروريا بكلامه من غير توسط حرف وصوت ودلالة، ويخلق لهم السمع أيضا بكلامه من غير توسط صوت وحرف ودلالة، ومن سمع ذلك من غير توسط فقد سمع كلام الله تحقيقا، وهو خاصية موسى صلوات الله تعالى عليه وعلى نبينا وسائر الانبياء، وأما من سمعه من غيره ملكا كان أو نبيا كان تسميته سامعا كلام الله تعالى، كتسميتنا من سمع شعر المتنبي من غيره بأنه سمع شعر المتنبي، وذلك أيضا جائز، ولاجله قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} (التوبة: 6). النظر الثاني في حده: وحد الكتاب ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الاحرف السبعة المشهورة، نقلا متواترا، ونعني بالكتاب القرآن المنزل، وقيدناه بالمصحف لان الصحابة بالغوا في الاحتياط في نقله، حتى كرهوا التعاشير والنقط، وأمروا بالتجريد كيلا يختلط بالقرآن غيره، ونقل إلينا متواترا، فعلم أن المكتوب في المصحف المتفق عليه هو القرآن، وأن ما هو خارج عنه فليس منه، إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفر الدواعي على حفظه أن يهمل بعضه، فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه، فإن قيل: هلا حددت تموه بالعجز؟ قلنا: لا، لان كونه معجزا يدل على صدق الرسول عليه السلام، لا على كونه كتاب الله تعالى لا محالة، إذ يتصور الاعجاز بما ليس بكتاب الله تعالى: ولان بعض الآية ليس بمعجز، وهو من الكتاب، فإن قيل: فلم شرطتم التواتر؟ قلنا: ليحصل العلم به، لان الحكم بما لا يعلم جهل وكون، الشئ كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي، حتى يتعلق بظننا، فيقال إذا ظننتم كذا فقد حرمنا عليكم فعلا أو حللناه لكم، فيكون التحريم معلوما عند ظننا ويكون ظننا علامة يتعلق التحريم به، لان التحريم بالوضع، فيمكن الوضع عند الظن، وكون الشئ كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي، فالحكم فيه بالظن جهل، ويتشعب عن حد الكلام مسألتان: مسألة (حكم تتابع الصيام في كفارة اليمين) التتابع في صوم كفارة اليمين ليس بواجب على قول، وإن قرأ ابن مسعود: فصيام ثلاثة أيام متتابعات، لان هذه الزيادة لم تتواتر، فليست من القرآن، فتحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده مذهبا، فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في الظهار، وقال أبو حنيفة يجب، لانه وإن لم يثبت كونه قرآنا فلا أقل من كونه خبرا، والعمل يجب بخبر الواحد، وهذا ضعيف، لان خبر الواحد لا دليل على كذبه، وهو أن جعله من القرآن فهو خطأ قطعا، لانه وجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه طائفة من الامة تقوم الحجة بقولهم، وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به، وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له، لدليل قد دله عليه، واحتمل أن يكون خبرا، وما تردد بين أن يكون خبرا أو لا يكون فلا يجوز العمل به، وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. مسألة (هل البسملة آية أم لا؟) البسملة آية من القرآن، لكن هل هي آية من أول كل سورة: فيه خلاف، وميل الشافعي رحمه الله إلى أنها آية من كل سورة الحمد، وسائر السور، لكنها في أول كل سورة آية برأسها، وهي مع أول آية من سائر السور آية، وهذا مما نقل عن الشافعي رحمه الله فيه تردد، وهذا أصح من قول من حمل تردد قول الشافعي على أنها هل هي من القرآن في أول كل سورة، بل الذي يصح أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن فهي من القرآن، فإن قيل القرآن لا يثبت إلا بطريق قاطع متواتر، فإن كان هذا قاطعا فكيف اختلفوا فيه، وإن كان مظنونا فكيف يثبت القرآن بالظن، ولو جاز هذا لجاز إيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين بقول ابن مسعود، ولجاز للروافض أن يقولوا: قد ثبتت إمامة علي رضي الله عنه بنص القرآن ونزلت فيه آيات أخفاها الصحابة بالتعصب، وإنما طريقنا في الرد عليهم أنا نقول: نزل القرآن معجزة للرسول عليه السلام، وأمر الرسول عليه السلام بإظهاره مع قوم تقوم الحجة بقولهم وهم أهل التواتر، فلا يظن بهم التطابق على الاخفاء، ولا مناجاة الآحاد به حتى لا يتحدث أحد بالانكار، فكانوا يبالغون في حفظ القرآن، حتى كانوا يضايقون في الحروف، ويمنعون من كتبة أسامي السور مع القرآن، ومن التعاشير والنقط، كيلا يختلط بالقرآن غيره، فالعادة تحيل الاخفاء فيجب أن يكون طريق ثبوت القرآن القطع، وعن هذا المعنى قطع القاضي رحمه الله بخطأ من جعل البسملة من القرآن إلا في سورة النمل فقال: لو كانت من القرآن لوجب على الرسول عليه السلام أن يبين أنها من القرآن بيانا قاطعا للشك والاحتمال، إلا أنه قال: أخطئ القائل به ولا أكفره، لان نفيها من القرآن لم يثبت أيضا بنص صريح متواتر، فصاحبه مخطئ وليس بكافر، واعترف بأن البسملة منزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة، وأنها كتبت مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم، لكنه لا يستحيل أن ينزل عليه ما ليس بقرآن، وأنكر قول من نسب عثمان رضي الله عنه إلى البدعة في كتبه بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة، وقال لو أبدع لاستحال في العادة سكوت أهل الدين عنه مع تصلبهم في الدين، كيف وقد أنكروا على من أثبت أسامي السور والنقط والتعشير فما بالهم لم يجيبوا بأنا أبدعنا ذلك، كما أبدع عثمان رضي الله عنه كتبه البسملة لا سيما واسم السور يكتب بخط آخر متميز عن القرآن، والبسملة مكتوبة بخط القرآن متصلة به بحيث لا تتميز عنه، فتحيل العادة السكوت على من يبدعها، لولا أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والجواب أنا نقول: لا وجه لقطع القاضي بتخطئة الشافعي رحمه الله، لان إلحاق ما ليس بقرآن بالقرآن كفر، كما أنه من ألحق القنوت أو التشهد أو التعوذ بالقرآن فقد كفر، فمن ألحق البسملة لم لا يكفر ولا سبب له إلا أنه يقال لم يثبت انتفاؤه من القرآن بنص متواتر، فنقول: لو لم يكن من القرآن لوجب على الرسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعة ذلك على وجه يقطع الشك، كما في التعوذ والتشهد، فإن قيل: ما ليس من القرآن لا حصر له، حتى ينفي إنما الذي يجب التنصيص عليه ما هو من القرآن، قلنا: هذا صحيح لو لم تكتب البسملة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن بخط القرآن، ولو لم يكن منزلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة، وذلك يوهم قطعا أنه من القرآن، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرف كونه موهما، ولا جواز السكوت عن نفيه مع توهم الحاقه، فإذا القاضي رحمه الله يقول: لو كان من القرآن لقطع الشك بنص متواتر تقوم الحجة به، ونحن نقول: لو لم يكن من القرآن لوجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعته ولنفاه بنص متواتر بعد أن أمر بكتبه بخط القرآن، إذ لا عذر في السكوت عن قطع هذا التوهم، فأما عدم التصريح بأنه من القرآن فإنه كان اعتمادا على قرائن الاحوال إذ كان يملي على الكاتب مع القرآن، وكان الرسول عليه السلام في أثناء إملائه لا يكرر مع كل كلمة وآية أنها من القرآن، بل كان جلوسه له وقرائن أحواله تدل عليه، وكان يعرف كل ذلك قطعا، ثم لما كانت البسملة أمر بها في أول كل أمر ذي بال، ووجد ذلك في أوائل السور، ظن قوم أنه كتب على سبيل التبرك، وهذا الظن خطأ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: سرق الشيطان من الناس آية من القرآن لما ترك بعضهم قراءة البسملة في أول السورة، فقطع بأنها آية، ولم ينكر عليه كما ينكر على من ألحق التعوذ والتشهد بالقرآن، فدل على أن ذلك كان مقطوعا به وحدث الوهم بعده، فإن قيل بعد حدوث الوهم والظن صارت البسملة اجتهادية وخرجت عن مظنة القطع، فكيف يثبت القرآن بالاجتهاد؟ قلنا: جوز القاضي رحمه الله الخلاف في عدد الآيات ومقاديرها، وأقر بأن ذلك منوط باجتهاد القراء وأنه لم يبين بيانا شافيا قاطعا للشك، والبسملة من القرآن في سورة النمل، هي مقطوع بكونها من القرآن، وإنما الخلاف في أنها من القرآن مرة واحدة أو مرات، كما كتبت، فهذا يجوز أن يقع الشك فيه، ويعلم بالاجتهاد، لانه نظر في تعيين موضع الآية بعد كونها مكتوبة بخط القرآن، فهذا جائز وقوعه، والدليل على إمكان الوقوع وأن الاجتهاد قد تطرق إليه أن النافي لم يكفر الملحق، والملحق لم يكفر النافي، بخلاف القنوت والتشهد، فصارت البسملة نظرية، وكتبها بخط القرآن مع القرآن مع صلابة الصحابة وتشددهم في حفظ القرآن عن الزيادة قاطع أو كالقاطع في أنها من القرآن، فإن قيل: فالمسألة، صارت نظرية وخرجت عن أن تكون معلومة بالتواتر علما ضروريا فهي قطعية أو ظنية؟ قلنا: الانصاف أنها ليست قطعية بل هي اجتهادية، ودليل جواز الاجتهاد فيها وقوع الخلاف فيها في زمان الصحابة رضي الله عنهم حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: سرق الشيطان من الناس آية، ولم يكفر بإلحاقها بالقرآن ولا أنكر عليه، ونعلم أنه لو نقل الصديق رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: البسملة من سورة الحمد، وأوائل السور المكتوبة معها، لقبل ذلك بسبب كونها مكتوبة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو نقل أن القنوت مع القرآن لعلم بطلان ذلك بطريق قاطع لا يشك فيه، وعلى الجملة: إذا أنصفنا وجدنا أنفسنا شاكين في مسألة البسملة، قاطعين في مسألة التعوذ والقنوت، وإذا نظرنا في كتبها مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سكوته عن التصريح بنفي كونها من القرآن بعد تحقق سبب الوهم كان ذلك دليلا ظاهرا كالقطع في كونها من القرآن، فدل أن الاجتهاد لا يتطرق إلى أصل القرآن أما ما هو من القرآن وهو مكتوب بخطه فالاجتهاد فيه يتطرق إلى تعيين موضعه وأنه من القرآن مرة أو مرات، وقد أوردنا أدلة ذلك في كتاب حقيقة القرآن وتأويل ما طعن به على الشافعي رحمه الله من ترديده القول في هذه المسألة، فإن قيل: قد أوجبتم قراءة البسملة في الصلاة، وهو مبني على كونها قرآنا، وكونها قرآنا لا يثبت بالظن، فإن الظن علامة وجوب العمل في المجتهدات، وإلا فهو جهل أي ليس بعلم، فليكن كالتتابع في قراءة ابن مسعود قلنا: وردت أخبار صحيحة صريحة في وجوب قراءة البسملة، وكونها قرآنا متواترا معلوم وإنما المشكوك فيه أنها قرآن مرة في سورة النمل أو مرات كثيرة في أول كل سورة، فكيف تساوي قراءة ابن مسعود ولا يثبت بها القرآن ولا هي خبر، وهاهنا صحت أخبار في وجوب البسملة وصح بالتواتر أنها من القرآن، وعلى الجملة فالفرق بين المسألتين ظاهر. |
12-06-2012, 03:02 PM | #29 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
النظر الثالث في ألفاظه
وفيه ثلاث مسائل: مسألة (الحقيقة والمجاز) ألفاظ العرب تشتمل على الحقيقة والمجاز كما سيأتي في الفرق بينهما، فالقرآن يشتمل على المجاز خلافا لبعضهم، فنقول: المجاز اسم مشترك، قد يطلق على الباطل الذي لا حقيقة له، والقرآن منزه عن ذلك، ولعله الذي أراده من أنكر اشتمال القرآن على المجاز، وقد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضوعه، وذلك لا ينكر في القرآن مع قوله تعالى: {أولئك} (يوسف: 28)، وقوله: {جدارا يريد أن ينقض} (الكهف: 77)، وقوله: {لهدمت صوامع وبيع وصلوات} (الحج: 04)، فالصلوات كيف تهدم {أو جاء أحد منكم من الغائط} (النساء: 43 والمائدة: 6) {الله نور السماوات والارض} يؤذن الله وهو يريد رسوله. {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} (البقرة: 491)، والقصاص حق، فكيف يكون عدوانا؟ {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 04) {ذلول} (البقرة: 51) {ويمكرون ويمكر الله} (الانفال: 03)، {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله} (المائدة: 46) {أحاط بهم سرادقها} (الكهف: 92) وذلك ما لا يحصى وكل ذلك مجاز كما سيأتي. مسألة (هل القرآن كله عربي؟) قال القاضي رحمه الله القرآن عربي كله لا عجمية فيه، وقال قوم: فيه لغة غير العرب، واحتجوا بأن المشكاة هندية، والاستبرق فارسية، وقوله: {وفاكهة وأبا} (عبس: 13) قال بعضهم: الاب ليس من لغة العرب، والعرب قد تستعمل اللفظة العجمية فقد استعمل في بعض القصائد العثجاة يعني صدر المجلس، وهو معرب، كمشكاة، وقد تكلف القاضي إلحاق هذه الكلمات بالعربية، وبين أوزانها، وقال: كل كلمة في القرآن استعملها أهل لغة أخرى فيكون أصلها عربيا، وإنما غيرها غيرهم تغييرا ما كما غير العبرانيون فقالوا للاله: لاهوت، وللناس: ناسوت، وأنكر أن يكون في القرآن لفظ عجمي مستدلا بقوله تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} (النحل: 301)، وقال: أقوى الأدلة قوله تعالى: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي} (فصلت: 44) ولو كان فيه لغة العجم لما كان عربيا محضا بل عربيا وعجميا، ولاتخذ العرب ذلك حجة وقالوا: نحن لا نعجز عن العربية، أما العجمية فنعجز عنها، وهذا غير مرضي عندنا إذ اشتمال جميع القرآن على كلمتين أو ثلاث أصلها عجمي، وقد استعملتها العرب، ووقعت في ألسنتهم لا يخرج القرآن عن كونه عربيا، وعن إطلاق هذا الاسم عليه، ولا يتمهد للعرب حجة فإن الشعر الفارسي يسمى فارسيا، وإن كانت فيه آحاد كلمات عربية إذا كانت تلك الكلمات متداولة في لسان الفرس فلا حاجة إلى هذا التكلف. مسألة (المحكم والمتشابه في القرآن) في القرآن محكم ومتشابه، كما قال تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} (آل عمران: 07) واختلفوا في معناه، وإذا لم يرد توقيف في بيانه فينبغي أن يفسر بما يعرفه أهل اللغة، ويناسب اللفظ من حيث الوضع ولا يناسبه قولهم: المتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور، والمحكم ما وراء ذلك، ولا قولهم المحكم ما يعرفه الراسخون في العلم والمتشابه ما ينفرد الله تعالى بعلمه، ولا قولهم المحكم الوعد والوعيد، والحلال والحرام والمتشابه القصص والامثال، وهذا أبعد، بل الصحيح أن المحكم يرجع إلى معنيين: أحدهما: المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال والمتشابه ما تعارض فيه الاحتمال. الثاني: أن المحكم ما انتظم وترتب ترتيبا مفيدا ما على ما ظاهر أو على تأويل ما لم يكن فيه متناقض ومختلف، لكن هذا المحكم يقابله المثبج، والفاسد دون المتشابه، وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الاسماء المشتركة، كالقرء، وكقوله تعالى: {الذي بيده عقدة النكاح} (البقرة: 732) فإنه مردد بين الزوج والولي، و كاللمس المردد بين المس والوطئ، وقد يطلق على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله، فإن قيل: قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} (آل عمران: 7) الواو للعطف أم الأولى الوقف على الله؟ قلنا: كل واحد محتمل، فإن كان المراد به وقت القيامة، فالوقف أولى، وإلا فالعطف، إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لاحد من الخلق، فإن قيل: فما معنى الحروف في أوائل السور، إذ لا يعرف أحد معناها؟ قلنا: أكثر الناس فيها وأقربها أقاويل: أحدها: أنها أسامي السور حتى تعرف بها، فيقال: سورة يس وطه، وقيل: ذكرها الله تعالى لجمع دواعي العرب إلى الاستماع لانها تخالف عادتهم فتوقظهم عن الغفلة حتى تصرف قلوبهم إلى الاصغاء فلم يذكرها لارادة معنى، وقيل: إنما ذكرها كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج عنها جميع كلام العرب تنبيها أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم وحروفهم، وقد ينبه ببعض الشئ على كله، يقال قرأ سورة البقرة وأنشد ألاهبي يعني جميع السورة والقصيدة قال الشاعر: يناشدني حاميم والرمح شاجرفهلا تلا حاميم قبل التقدم كنى بحاميم عن القرآن، فقد ثبت أنه ليس في القرآن ما لا تفهمه العرب، فإن قيل العرب إنما تفهم من قوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} (الانعام: 81) و: {الرحمن على العرش استوى} (طه: 5) الجهة والاستقرار، وقد أريد به غيره، فهو متشابه؟ قلنا: هيهات فإن هذه كنايات واستعارات يفهمها المؤمنون من العرب، المصدقون بأن الله تعالى ليس كمثله شئ، وأنها مؤولة تأويلات تناسب تفاهم العرب. النظر الرابع في أحكامه ومن أحكامه تطرق التأويل إلى ظاهر ألفاظه وتطرق التخصيص إلى صيغ عمومه، وتطرق النسخ إلى مقتضياته، أما التخصيص والتأويل فسيأتي في القطب الثالث إذا فصلنا وجوه الاستثمار والاستدلال من الصيغ والمفهوم وغيرها، وأما النسخ فقد جرت العادة بذكره بعد كتاب الاخبار، لان النسخ يتطرق إلى الكتاب والسنة جميعا، لكنا ذكرناه في أحكام الكتاب لمعنيين: أحدهما: إن إشكاله وغموضه من حيث تطرقه إلى كلام الله تعالى مع استحالة البداءة عليه. الثاني: إن الكلام على الاخبار قد طال لاجل تعلقه بمعرفة طرقها من التواتر والآحاد، فرأينا ذكره على أثر أحكام الكتاب أولى. وهذا: |
12-06-2012, 03:03 PM | #30 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
كتاب النسخ
والنظر في حده وحقيقته ثم في إثباته على منكريه، ثم في أركانه وشروطه وأحكامه فنرسم فيه أبوابا الباب الأول: في حده وحقيقته وإثباته الفصل الأول: في حده وحقيقته وإثباته أما حده: فاعلم أن النسخ عبارة عن الرفع والازالة في وضع اللسان، يقال: نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الآثار إذا أزالتها، وقد يطلق لارادة نسخ الكتاب، فهو مشترك، ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى الرفع والازالة فنقول: حده أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه، وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا للفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل، إذ يجوز النسخ بجميع ذلك، وإنما قيدنا الحد بالخطاب المتقدم، لان ابتداء إيجاب العبادات في الشرع مزيل حكم العقل من براءة الذمة، ولا يسمى نسخا، لانه لم يزل حكم خطاب، وإنما قيدنا بارتفاع الحكم، ولم نقيد بارتفاع الامر والنهي ليعم جميع أنواع الحكم، من الندب والكراهة والاباحة، فجميع ذلك قد ينسخ، وإنما قلنا: لولاه لكان الحكم ثابتا به، لان حقيقة النسخ الرفع، فلو لم يكن هذا ثابتا لم يكن هذا رافعا، لانه إذا ورد أمر بعبادة موقتة وأمر بعبادة أخرى بعد تصرم ذلك الوقت لا يكون الثاني نسخا، فإذا قال: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} (البقرة: 781)، ثم قال: في الليل لا تصوموا، لا يكون ذلك نسخا بل الرافع ما لا يرتفع الحكم لولاه، وإنما قلنا: مع تراخيه عنه، لانه لو اتصل به لكان بيانا وإتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة أو شرط، وإنما يكون رافعا إذا ورد بعد أن ورد الحكم واستقر بحيث يدوم لولا الناسخ. وأما الفقهاء فإنهم لم يعقلوا الرفع لكلام الله تعالى فقالوا في حد النسخ: أنه الخطاب الدال الكاشف عن مدة العبادة أو عن زمن انقطاع العبادة، وهذا يوجب أن يكون قوله: صم بالنهار وكل بالليل نسخا، وقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} (البقرة: 781) نسخا، وليس فيه معنى الرفع ولا يغنيهم أن يزيدوا شرط التراخي، فإن قوله الأول إذا لم يتناول إلا النهار فهو متقاعد عن الليل بنفسه، فأي معنى لنسخه، وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول وأريد باللفظ الدلالة عليه، وما ذكروه تخصيص، وسنبين وجه مفارقة النسخ للتخصيص، بل سنبين أن الفعل الواحد إذا أمر به في وقت واحد يجوز نسخه قبل التمكن من الامتثال وقبل وقته فلا يكون بيانا لانقطاع مدة العبادة. وأما المعتزلة فإنهم حدوه: بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجهه، لولاه لكان ثابتا، وربما أبدلوا لفظ الزائل بالساقط، وربما أبدلوه بالغير الثابت كل ذلك حذرا من الرفع وحقيقة النسخ الرفع فكأنهم أخلوا الحد عن حقيقة المحدود فإن قيل تحقيق معنى الرفع في الحكم يمتنع من خمسة أوجه: الأول: أن المرفوع إما حكم ثابت أو ما لا ثبات له، والثابت لا يمكن رفعه، وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه، فدل أن النسخ هو رفع مثل الحكم الثابت لا رفع عينه أو هو بيان لمدة العبادة كما قاله الفقهاء. الثاني: أن كلام الله تعالى قديم عندكم والقديم لا يتصور رفعه. الثالث: أن ما أثبته الله تعالى إنما أثبته لحسنه، فلو نهى عنه لادى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال. الرابع: أن ما أمر به أراد وجوده، فما كان مرادا كيف ينهى عنه حتى يصير مراد العدم مكروها. الخامس: أنه يدل على البداء، فإنه نهى عنه بعدما أمر به، فكأنه بدا له فيما كان قد حكم به وندم عليه. فالاستحالة الأولى: من جهة استحالة نفس الرفع، والثانية: من جهة قدم الكلام، والثالثة: من جهة صفة ذات المأمور في كونه حسنا قبيحا، والرابعة: من جهة الارادة المقترنة بالامر، والخامسة: من جهة العلم المتعلق به وظهور البداء بعده. والجواب عن الأول: أن الرفع من المرفوع كالكسر من المكسور وكالفسخ من العقد، إذ لو قال قائل: ما معنى كسر الآنية وإبطال شكلها من تربيع وتسديس وتدوير فإن الزائل بالكسر تدوير موجود أو معدوم، والمعدوم لا حاجة إلى إزالته، والموجود لا سبيل إلى إزالته، فيقال: معناه أن استحكام شكل الآنية يقتضي بقاء صورتها دائما لولا ما ورد عليه من السبب الكاسر، فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية لولا الكسر، فكذلك الفسخ يقطع حكم العقد من حيث أن الذي ورد عليه لولاه لدام، فإن البيع سبب للملك مطلقا، بشرط أن لا يطرأ قاطع، وليس طريان القاطع من الفسخ مبينا لنا أن البيع في وقته انعقد مؤقتا ممدودا إلى غاية الفسخ فإنا نعقل أن نقول بعتك هذه الدار سنة، ونعقل أن نقول: بعتك وملكتك أبدا، ثم نفسخ بعد انقضاء السنة، وندرك الفرق بين الصورتين، وأن الأول وضع لملك قاصر بنفسه، والثاني: وضع لملك مطلق مؤبد إلى أن يقطع بقاطع، فإذا فسخ كان الفسخ قاطعا لحكمه الدائم بحكم العقد لولا القاطع لا بيانا لكونه في نفسه قاصر، وبهذا يفارق النسخ التخصيص، فإن التخصيص يبين لنا أن اللفظ ما أريد به الدلالة إلا على البعض، والنسخ يخرج عن اللفظ ما أريد به الدلالة عليه، ولاجل خفاء معنى الرفع أشكل على الفقهاء ووقعوا في إنكار معنى النسخ. وأما الجواب عن الثاني: وهو استحالة رفع الكلام القديم فهو فاسد، إذ ليس معنى النسخ رفع الكلام، بل قطع تعلقه بالمكلف والكلام القديم يتعلق بالقادر العاقل، فإذا طرأ العجز والجنون زال التعلق، فإذا عاد العقل والقدرة عاد التعلق، والكلام القديم لا يتغير في نفسه، فالعجز والموت سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب عنه، والنسخ سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب كما أن حكم البيع وهو ملك المشتري إياه تارة ينقطع بموت العبد المبيع، وتارة بفسخ العاقد، ولاجل خفاء هذه المعاني أنكر طائفة قدم الكلام. وأما الجواب عن الثالث: وهو انقلاب الحسن قبيحا فقد أبطلنا معنى الحسن والقبح، وأنه لا معنى لهما، وهذا أولى من الاعتذار بأن الشئ يجوز أن يحسن في وقت ويقبح في وقت، لانه قد قال في رمضان: لا تأكل بالنهار وكل بالليل، لان النسخ ليس مقصورا عندنا على مثل ذلك، بل يجوز أن يأمر بشئ واحد في وقت وينهى عنه قبل دخول الوقت، فيكون قد نهى عما أمر به كما سيأتي. وأما الجواب عن الرابع: وهو صيرورة المراد مكروها فهو باطل، لان الامر عندنا يفارق الارادة، فالمعاصي مرادة عندنا وليست مأمورا بها وسيأتي تحقيقه في كتاب الاوامر. وأما الجواب عن الخامس وهو لزوم البداء، فهو فاسد، لانه إن كان المراد أنه يلزم من النسخ أن يحرم ما أباح، وينهى عما أمر فذلك جائز {يمحو الله ما يشاء ويثبت} (الرعد: 93) ولا تناقض فيه، كما أباح الاكل بالليل وحرمه بالنهار، وإن كان المراد أنه انكشف له ما لم يكن عالما به، فهو محال، ولا يلزم ذلك من النسخ، بل يعلم الله تعالى أنه يأمرهم بأمر مطلق ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم، ثم يقطع التكليف بنسخه عنهم فينسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه، وليس فيه تبين بعد جهل، فإن قيل: فهم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ أو أبدا فإن كان إلى وقت النسخ فالنسخ قد بين وقت العبادة كما قاله الفقهاء، وإن كانوا مأمورين أبدا فقد تغير علمه ومعلومه، قلنا: هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع الحكم المطلق عنهم، الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله تعالى البيع المطلق مفيدا للملك إلى أن ينقطع بالفسخ: ولا يعلم البيع في نفسه قاصرا على مدة، بل يعلمه مقتضيا لملك مؤبد بشرط أن لا يطرأ قاطع، لكن يعلم أن النسخ سيكون، فينقطع الحكم لانقطاع شرطه لا لقصوره في نفسه، فليس إذا في النسخ لزوم البداء، ولاجل قصور فهم اليهود عن هذا أنكروا النسخ، ولاجل قصور فهم الروافض عنه ارتكبوا البداء ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره، وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال: ما بدا الله في شئ كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه، وهذا هو الكفر الصريح، ونسبة الاله تعالى إلى الجهل والتغير، ويدل على استحالته ما دل على أنه محيط بكل شئ علما وأنه ليس محلا للحوادث والتغيرات، وربما احتجوا بقوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} (الرعد: 93) وإنما معناه أنه يمحو الحكم المنسوخ ويثبت الناسخ، أو يمحو السيئات بالتوبة، كما قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود: 411) ويمحو الحسنات بالكفر والردة، أو يمحو ما ترفع إليه الحفظة من المباحات ويثبت الطاعات، فإن قيل: فما الفرق بين التخصيص والنسخ؟ قلنا: هما مشتركان من وجه إذ كل واحد يوجب اختصاص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ لكن التخصيص بيان أن ما أخرج عن عموم الصيغة ما أريد باللفظ الدلالة عليه، والنسخ يخرج عن اللفظ ما قصد به الدلالة عليه، فإن قوله: إفعل أبدا، يجوز أن ينسخ، وما أريد باللفظ بعض الازمنة، بل الجميع، لكن بقاؤه مشروط بأن لا يرد ناسخ، كما إذا قال: ملكتك أبدا، ثم يقول: فسخت، فالفسخ هذا إبداء ما ينافي شرط استمرار الحكم بعد ثبوته، وقصد الدلالة عليه باللفظ، فلذلك يفترقان في خمسة أمور: الأول: أن الناسخ يشترط تراخيه، والتخصيص يجوز اقترانه، لانه بيان بل يجب اقترانه عند من لا يجوز تأخير البيان. الثاني: أن التخصيص لا يدخل في الامر بمأمور واحد، والنسخ يدخل عليه. والثالث: أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب، والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع. الرابع: أن التخصيص يبقى دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازا، على ما فيه من الاختلاف، والنسخ يبطل دلالة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية. الخامس: أن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس، وخبر الواحد وسائر الأدلة، ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع، وليس من الفرق الصحيح قول بعضهم أن النسخ لا يتناول إلا الازمان، والتخصيص يتناول الازمان والاعيان والاحوال، وهذا تجوز واتساع، لان الاعيان والازمان ليست من أفعال المكلفين، والنسخ يرد على الفعل في بعض الازمان، والتخصيص أيضا يرد على الفعل في بعض الاحوال، فإذا قال: اقتلوا المشركين إلا المعاهدين، معناه لا تقتلوهم في حالة العهد واقتلوهم في حالة الحرب، والمقصود أن ورود كل واحد منهما على الفعل وهذا القدر كاف في الكشف عن حقيقة النسخ. الفصل الثاني: من هذا الباب في إثباته على منكريه والمنكر إما جوازه عقلا أو وقوعه سمعا، أما جوازه عقلا فيدل عليه أنه لو امتنع لكان إما ممتنعا لذاته وصورته أو لما يتولد عنه من مفسدة أو أداء إلى محال ولا يمتنع لاستحالة ذاته وصورته، بدليل ما حققناه من معنى الرفع، ودفعناه من الاشكالات عنه، ولا يمتنع لادائه إلى مفسدة وقبح، فإنا أبطلنا هذه القاعدة وإن سامحنا بها فلا بعد في أن يعلم الله تعالى مصلحة عباده في أن يأمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له ويمتنعوا، بسبب العزم عن معاص وشهوات، ثم يخفف عنهم، وأما وقوعه سمعا فيدل عليه الإجماع والنص، أما الإجماع فاتفاق الامة قاطبة على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شرع من قبله، إما بالكلية وإما فيما يخالفها فيه، وهذا متفق عليه، فمنكر هذا خارق للإجماع، وقد ذهب شذوذ من المسلمين إلى إنكار النسخ، وهم مسبوقون بهذا الإجماع، فهذا الإجماع حجة عليهم وإن لم يكن حجة على اليهود. وأما النص فقوله تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر} (النحل: 101) الآية. والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما تلاوة وإما حكم وكيفما كان، فهو رفع ونسخ، فإن قيل: ليس المعني به رفع المنزل، فإن ما أنزل لا يمكن رفعه وتبديله، لكن المعني به تبديل مكان الآية بإنزال آية بدل ما لم ينزل، فيكون ما لم ينزل كالمبدل بما أنزل، قلنا: هذا تعسف بارد، فإن الذي لم ينزل كيف يكون مبدلا، والبدل يستدعي مبدلا، وكيف يطلق اسم التبديل على ابتداء الانزال فهذا هوس وسخف. والدليل الثاني: قوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} (النساء: 061) ولا معنى للنسخ إلا تحريم ما أحل، وكذلك قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} (البقرة: 601) فإن قيل لعله أراد به التخصيص؟ قلنا: قد فرقنا بين التخصيص والنسخ فلا سبيل إلى تغيير اللفظ، كيف والتخصيص لا يستدعي بدلا مثله أو خيرا منه، وإنما هو بيان معنى الكلام. الدليل الثالث: ما اشتهر في الشرع من نسخ تربص الوفاة حولا بأربعة أشهر وعشر، ونسخ فرض تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: {فقدموا بين يدي نجواكم صدقة} (المجادلة: 21) ومنه نسخ تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بقوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} (البقرة: 441) وعلى الجملة اتفقت الامة على إطلاق لفظ النسخ في الشرع، فإن قيل: معناه نسخ ما في اللوح المحفوظ إلى صحف الرسل والانبياء وهو بمعنى نسخ الكتاب ونقله؟ قلنا: فإذا شرعنا منسوخ كشرع من قبلنا، وهذا اللفظ كفر بالاتفاق كيف وقد نقلنا من قبلة إلى قبلة، ومن عدة إلى عدة، فهو تغيير وتبديل ورفع قطعا. الفصل الثالث: في مسائل تتشعب عن النظر في حقيقة النسخ وهي ست مسائل مسألة (هل ينسخ الامر؟) يجوز عندنا نسخ الامر قبل التمكن من الامتثال، خلافا للمعتزلة، وصورته أن يقول الشارع في رمضان، حجوا في هذه السنة، ثم يقول قبل يوم عرفة: لا تحجوا فقد نسخت عنكم الامر، أو يقول: إذبح ولدك فيبادر إلى إحضار أسبابه، فيقول: قبل ذبحه لا تذبح فقد نسخت عنك الامر، لان النسخ عندنا رفع للامر أي لحكم الامر ومدلوله، وليس بيانا لخروج المنسوخ عن لفظ الامر، بخلاف التخصيص، فلو قال: صلوا أبدا، فيجوز أن ينسخ بعد سنة وجوب في المستقبل، لا بمعنى أنه لم يقصد باللفظ الأول الدلالة على جميع الازمان، ولكن بمعنى قطع حكم اللفظ بعد دوامه، إذ كان دوامه مشروطا بعدم النسخ، فكل أمر مضمن بشرط أن لا ينسخ، فكأنه يقول: صلوا أبدا ما لم أنهكم، ولم أنسخ عنكم أمري، وإذا كان كذلك، عقل نسخ الحج قبل عرفة، ونسخ الذبح قبل فعله، لان الامر قبل التمكن حاصل، وإن كان أمرا بشرط التمكن، لان الامر بالشرط ثابت، ولذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال، ولما لم تفهم المعتزلة هذا أنكروا ثبوت الامر بالشرط كما سيأتي فساد مذهبهم في كتاب (الاوامر) وأقرب دليل على فساده أن المصلي ينوي الفرض، وامتثال الامر في ابتداء الصلاة، وربما يموت في أثنائها وقبل تمام التمكن، ولو مات قبل لم يتبين أنه لم يكن مأمورا، بل نقول: كان مأمورا بأمر مقيد بشرط، والامر المقيد بالشرط ثابت في الحال وجد الشرط أو لم يوجد، وهم يقولون: إذا لم يوجد الشرط علمنا انتفاء الامر من أصله، وإنا كنا نتوهم وجوبه، فبان أنه لم يكن، فهذه المسألة فرع لتلك المسألة، ولذلك أحالت المعتزلة النسخ قبل التمكن وقالوا أيضا: إنه يؤدي إلى أن يكون الشئ الواحد في وقت واحد على وجه واحد مأمورا منهيا حسنا قبيحا مكروها مرادا مصلحة مفسدة، وجميع ما يتعلق بالحسن والقبح والصلاح والفساد قد أبطلناه، ولكن يبقى لهم مسلكان: المسلك الأول أن الشئ الواحد في وقت واحد كيف يكون منهيا عنه ومأمورا به على وجه واحد؟ وفي الجواب عنه طريقتان: الأولى: إنا لا نسلم أنه منهي عنه على الوجه الذي هو مأمور به، بل على وجهين، كما ينهى عن الصلاة مع الحدث ويؤمر بها مع الطهارة، وينهى عن السجود للصنم ويؤمر بالسجود لله عزوجل لاختلاف الوجهين، ثم اختلفوا في كيفية اختلاف الوجهين فقال قوم: هو مأمور بشرط بقاء الامر منهي عنه عند زوال الامر، فهما حالتان مختلفتان، ومنهم من أبدل لفظ بقاء الامر بانتفاء النهي أو بعدم المنع، والالفاظ متقاربه، وقال قوم: هو مأمور بالفعل في الوقت المعين، بشرط أن يختار الفعل والعزم، وإنما ينهى عنه إذا علم أنه لا يختاره، وجعلوا حصول ذلك في علم الله تعالى بشرط هذا النسخ، وقال قوم: يأمر بشرط كونه مصلحة، وإنما يكون مصلحة مع دوام الامر، أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة، وقال قوم: إنما يأمر في وقت يكون الامر مصلحة ثم يتغير الحال فيصير النهي مصلحة، وأنما يأمر الله تعالى به مع علمه بأن إيجابه مصلحة مع دوام الامر، أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة، وقال قوم: إنما يأمر الله به مع العلم بأن الحال ستتغير، ليعزم المكلف على فعله إن بقيت المصلحة في الفعل، وكل هذا متقارب، وهو ضعيف، لان الشرط ما يتصور أن يوجد، وأن لا يوجد، فإما ما لا بد منه فلا معنى لشرطيته، والمأمور لا يقع مأمورا إلا عند دوام الامر وعدم النهي، فكيف يقول: آمرك بشرط أن لا أنهاك، فكأنه يقول: آمرك بشرط أن آمرك، وبشرط أن يتعلق الامر بالمأمور، وبشرط أن يكون الفعل المأمور به حادثا أو عرضا أو غير ذلك مما لا بد منه، فهذا لا يصلح للشرطية، وليس هذا كالصلاة مع الحدث والسجود للصنم، فإن الانقسام يتطرق إليه، ومن رغب في هذه الطريقة فأقرب العبارات أن يقول: الامر بالشئ قبل وقته يجوز أن يبقى حكمه على المأمور إلى وقته، ويجوز أن يزال حكمه قبل وقته، فيجوز أن يجعل بقاء حكمه شرطا في الامر فيقال: إفعل ما أمرتك به إن لم يزل حكم أمري عنك بالنهي عنه، فإذا نهى عنه كان قد زال حكم الامر فليس منهيا على الوجه الذي أمر به. الطريقة الثانية: أنا لا نلتزم إظهار اختلاف الوجه، لكن نقول: يجوز أن يقول: ما أمرناك أن تفعله على وجه فقد نهيناك عن فعله على ذلك الوجه ولا استحالة فيه، إذ ليس المأمور حسنا في عينه، أو لوصف هو عليه قبل الامر به حتى يتناقض ذلك، ولا المأمور مرادا حتى يتناقض أن يكون مرادا مكروها، بل جميع ذلك من أصول المعتزلة، وقد أبطلناها، فإن قيل: فإذا علم الله تعالى أنه سينهى عنه فما معنى أمره بالشئ الذي يعلم انتفاءه قطعا لعلمه بعواقب الامور؟ قلنا: لا يصح ذلك إن كانت عاقبة أمره معلومة للمأمور، أما إذا كان مجهولا عند المأمور معلوما عند الآمر أمكن الامر لامتحانه بالعزم والاشتغال بالاستعداد المانع له من أنواع اللهو والفساد، حتى يعرض بالعزم للثواب، وبتركه للعقاب، وربما يكون فيه لطف واستصلاح، كما سيأتي تحقيقه في كتاب الاوامر والعجب من إنكار المعتزلة ثبوت الامر بالشرط، مع أنهم جوزوا الوعد من العالم بعواقب الامور بالشرط وقالوا: وعد الله على الطاعة ثوابا بشرط عدم ما يحبطها من الفسق والردة، وعلى المعصية عقابا بشرط خلوها عما يكفرها من التوبة، والله تعالى عالم بعاقبة أمر من يموت على الردة والتوبة، ثم شرط ذلك في وعده، فلم يستحل أن يشرط في أمره ونهيه، وتكون شرطيته بالاضافة إلى العبد الجاهل بعاقبة الامر فيقول: أثيبك على طاعتك ما لم تحبطها بالردة وهو عالم بأنه يحبط أم لا يحبط، وكذلك يقول: أمرتك بشرط البقاء والقدرة وبشرط أن لا أنسخ عنك. المسلك الثاني في إحالة النسخ قبل التمكن قولهم: الامر والنهي عندكم كلام الله تعالى القديم، وكيف يكون الكلام الواحد أمرا بالشئ الواحد ونهيا عنه في وقت واحد، بل كيف يكون الرافع والمرفوع واحدا، والناسخ والمنسوخ كلام الله تعالى؟ قلنا: هذا إشارة إلى إشكالين: أحدهما: كيفية اتحاد كلام الله تعالى، ولا يختص ذلك بهذه المسألة، بل ذلك عندنا، كقولهم: العالمية حالة واحدة ينطوي فيها العلم بما لا نهاية من التفاصيل، وإنما يحل إشكاله في الكلام. أما الثاني: فهو أن كلامه واحد، وهو أمر بالشئ ونهي عنه، ولو علم المكلف ذلك دفعة واحدة لما تصور منه اعتقاد الوجوب والعزم على الاداء، ولم يكن ذلك منه بأولى من اعتقاد التحريم والعزم على الترك فنقول: كلام الله تعالى في نفسه واحد، وهو بالاضافة إلى شئ أمر، وبالاضافة إلى شئ خبر، ولكنه إنما يتصور الامتحان به إذا سمع المكلف كليهما في وقتين، ولذلك شرطنا التراخي في النسخ، ولو سمع كليهما في وقت واحد لم يجز، وأما جبريل عليه السلام فإنه يجوز أن يسمعه في وقت واحد إذ لم يكن هو مكلفا، ثم يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم في وقتين إن كان ذلك الرسول داخلا تحت التكليف، فإن لم يكن فيبلغ في وقت واحد، لكن يؤمر بتبيلغ الامة في وقتين: فيأمرهم مطلقا بالمسالمة وترك قتال الكفار، ومطلقا باستقبال بيت المقدس في كل صلاة، ثم ينهاهم عنها بعد ذلك، فيقطع عنهم حكم الامر المطلق، كما يقطع حكم العقد بالفسخ، ومن أصحابنا من قال الامر: لا يكون أمرا قبل بلوغ المأمور، فلا يكون أمرا ونهيا في حالة واحدة، بل في حالتين، فهذا أيضا يقطع التناقض ويدفعه، ثم الدليل القاطع من جهة السمع على جوازه قصة إبراهيم عليه السلام، ونسخ ذبح ولده عنه، قبل الفعل، وقوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} (الصافات: 701)، فقد أمر بفعل واحد، ولم يقصر في البدار والامتثال،، ثم نسخ عنه، وقد اعتاص هذا على القدرية حتى تعسفوا في تأويله وتحزبوا فرقا، وطلبوا الخلاص من خمسة أوجه: أحدها: أن ذلك كان مناما لا أمرا. الثاني: أنه كان أمرا لكن قصد به تكليفه العزم على الفعل لامتحان سره في صبره على العزم فالذبح لم يكن مأمورا به. الثالث: أنه لم ينسخ الامر، لكن قلب الله تعالى عنقه نحاسا أو حديدا فلم ينقطع، فانقطع التكليف لتعذره. الرابع: المنازعة في المأمور، وأن المأمور به كان هو الاضجاع والتل للجبين وإمرار السكين دون حقيقة الذبح. الخامس: جحود النسخ، وأنه ذبح امتثالا، فالتأم واندمل والذاهبون إلى هذا التأويل، اتفقوا على أن إسماعيل ليس بمذبوح، واختلفوا في كون إبراهيم عليه السلام ذابحا، فقال قوم: هو ذابح للقطع، والولد غير مذبوح لحصول الالتئام، وقال قوم: ذابح لا مذبوح له محال، وكل ذلك تعسف وتكلف. أما الأول: وهو كونه مناما، فمنام الانبياء جزء من النبوة، وكانوا يعرفون أمر الله تعالى به، فلقد كانت نبوة جماعة من الانبياء عليهم السلام بمجرد المنام، ويدل على فهمه الامر قول ولده إفعل ما تؤمر، ولو لم يؤمر لكان كاذبا، وأنه لا يجوز قصد الذبح، والتل للجبين بمنام لا أصل له، وأنه سماه البلاء المبين ، وأي بلاء في المنام، وأي معنى للفداء. وأما الثاني: وهو أنه كان مأمورا بالعزم اختبارا فهو محال، لان علام الغيوب لا يحتاج إلى الاختبار، ولان الاختبار إنما يحصل بالايجاب، فإن لم يكن إيجاب لم يحصل اختبار، وقولهم: العزم هو الواجب محال، لان العزم على ما ليس بواجب لا يجب، بل هو تابع للمعزوم، ولا يجب العزم ما لم يعتقد وجوب المعزوم عليه، ولو لم يكن المعزوم عليه واجبا لكان إبراهيم عليه السلام أحق بمعرفته من القدرية، كيف وقد قال: {إني أرى في المنام أني أذبحك}، فقال له ولده: {إفعل ما تؤمر يعني: الذبح، وقوله تعالى: {وتله للجبين} (الصافات: 103) استسلام لفعل الذبح لا للعزم. وأما الثالث: وهو أن الاضجاع بمجرده هو المأمور به، فهو محال، إذ لا يسمى ذلك ذبحا ولا هو بلاء ولا يحتاج إلى الفداء بعد الامتثال. وأما الرابع: وهو إنكار النسخ، وأنه امتثل، لكن انقلب عنقه حديدا ففات التمكن فانقطع التكليف، فهذا لا يصح على أصولهم، لان الامر بالمشروط لا يثبت عندهم، بل إذا علم الله تعالى أنه يقلب عنقه حديدا فلا يكون آمرا بما يعلم امتناعه، فلا يحتاج إلى الفداء فلا يكون بلاء في حقه. وأما الخامس: وهو أنه فعل والتأم فهو محال لان الفداء كيف يحتاج إليه بعد الالتئام، ولو صح ذلك لاشتهر وكان ذلك من آياته الظاهرة، ولم ينقل ذلك قط، وإنما هو اختراع من القدرية فإن قيل: أليس قد قال: {قد صدقت الرؤيا} (الصافات: 105) قلنا: معناه أنك عملت في مقدماته عملا مصدقا بالرؤيا، والتصديق غير التحقيق والعمل. |
12-06-2012, 03:04 PM | #31 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (هل نسخ بعض العبادة نسخ لها؟) إذا نسخ بعض العبادة أو شرطها أو سنة من سننها كما لو أسقطت ركعتان من أربع: أو أسقط شرط الطهارة، فقد قال قائلون: هو نسخ لبعض العبادة لا لاصلها، قال قائلون: هو نسخ لاصل العبادة، وقال قائلون: نسخ الشرط ليس نسخا للاصل، أما نسخ البعض فهو نسخ للاصل: ولم يسمحوا بتسمية الشرط بعضا، ومنهم من أطلق ذلك، وكشف الغطاء عندنا أن نقول: إذا أوجب أربع ركعات ثم اقتصر على ركعتين فقد نسخ أصل العبادة، لان حقيقة النسخ الرفع والتبديل، ولقد كان حكم الاربع الوجوب، فنسخ وجوبها بالكلية، والركعتان عبادة أخرى، لا أنها بعض من الاربعة، إذ لو كانت بعضا لكان من صلى الصبح أربعا فقد أتى بالواجب وزيادة، كما لو صلى بتسليمتين، وكما لو وجب عليه درهم فتصدق بدرهمين، فإن قيل: إذا رد الاربع إلى ركعة فقد كانت الركعة حكمها أنها غير مجزية، والآن صارت مجزئة، فهل هذا نسخ آخر مع نسخ الاربع؟ قلنا: كون الركعة غير مجزئة معناه أن وجودها كعدمها وهذا حكم أصلي عقلي ليس من الشرع، والنسخ هو رفع ما ثبت بالشرع، فإذا لم يرد بلفظ النسخ إلا الرفع كيف كان من غير نظر إلى المرفوع، فهذا نسخ، لكنا بينا في حد النسخ خلافه، وأما إذا أسقطت الطهارة فقد نسخ وجوب الطهارة وبقيت الصلاة واجبة، نعم: كان حكم الصلاة بغير طهارة أن لاتجزئ، والآن صارت مجزئة، لكن هذا تغيير لحكم أصلي لا لحكم شرعي، فإن الصلاة بغير طهارة لم تكن مجزئة: لانها لم تكن مأمورا بها شرعا، فإن قيل: كانت صحة الصلاة متعلقة بالطهارة، فنسخ تعلق صحتها بها شرعا فهو نسخ متعلق بنفس العبادة، فالصلاة مع الطهارة غير الصلاة مع الحدث، كما أن الثلاث غير الاربع، فليكن هذا نسخا لتلك الصلاة أو إيجابا بغيرها؟ قلنا: لهذا تخيل قوم أن نسخ شرط العبادة كنسخ البعض، ولا شك أنه لو أوجب الصلاة مع الحدث لكان نسخا لايجابها مع الطهارة، وكانت هذه عبادة أخرى: أما إذا جوزت الصلاة كيف كانت مع الطهارة وغير الطهارة، فقد كانت الصلاة بغير طهارة غير مجزئة لبقائها على الحكم الأصلي، إذ لم يؤمر بها، فالآن جعلت مجزئة، وارتفع الحكم الأصلي، أما صحة الصلاة وأنها كانت متعلقة بالطهارة فنسخ هذا التعلق نسخ لاصل العبادة، أو نسخ لتعلق الصحة، ولمعنى الشرطية هذا فيه نظر، والخطب فيه يسير، فليس يتعلق به كبر فائدة، وأما إذا نسخت سنة من سننها لا يتعلق بها الاجزاء، كالوقوف على يمين الامام، أو ستر الرأس، فلا شك أن هذا لا يتعرض للعبادة بالنسخ، فإذا تبعيض مقدار العبادة نسخ لاصل العبادة، وتبعيض السنة لا يتعرض للعبادة، وتبعيض الشرط فيه نظر، وإذا حقق كان إلحاقه بتبعيض قدر العبادة أولى.
مسألة (هل الزيادة على النص نسخ أم لا؟) الزيادة على النص نسخ عند قوم، وليست بنسخ عند قوم، والمختار عندنا التفصيل فنقول: ينظر إلى تعلق الزيادة بالمزيد عليه، والمراتب فيه ثلاثة: الأولى: أن يعلم أنه لا يتعلق به، كما إذا أوجب الصلاة والصوم، ثم أوجب الزكاة والحج، لم يتغير حكم المزيد عليه، إذ بقي وجوبه وأجزاؤه، والنسخ هو رفع حكم وتبديل ولم يرتفع. الرتبة الثانية: وهي في أقصى البعد عن الأولى أن تتصل الزيادة بالمزيد عليه اتصال اتحاد يرفع التعدد والانفصال، كما لو زيد في الصبح ركعتان، فهذا نسخ إذ كان حكم الركعتين الاجزاء والصحة وقد ارتفع، نعم: الاربعة استؤنف إيجابها ولم تكن واجبة، وهذا ليس بنسخ، إذ المرفوع هو الحكم الأصلي دون الشرعي، فإن قيل: اشتملت الاربعة على الثنتين وزيادة فهما قارتان لم ترفعا وضمت إليهما ركعتان؟ قلنا: النسخ رفع الحكم لا رفع المحكوم فيه، فقد كان من حكم الركعتين الاجزاء والصحة، وقد ارتفع، كيف وقد بينا أنه ليست الاربعة ثلاثة وزيادة، بل هي نوع آخر، إذ لو كان لكانت الخمسة أربعة وزيادة، فإذا أتى بالخمسة فينبغي أن تجزئ ولا صائر إليه. الرتبة الثالثة: وهي بين المرتبتين زيادة عشرين جلدة على ثمانين جلدة في القذف، وليس انفصال هذه الزيادة كانفصال الصوم عن الصلاة ولا اتصالها كاتصال الركعات، وقد قال أبو حنيفة رحمه الله: هو نسخ، وليس بصحيح، بل هو بالمنفصل أشبه، لان الثمانين نفي وجوبها وأجزاؤها عن نفسها ووجبت زيادة عليها مع بقائها، فالمائة ثمانون وزيادة، ولذلك لا ينتفي الاجزاء عن الثمانين بزيادة عليها، بخلاف الصلاة، وفائدة هذه المسألة جواز إثبات التغريب بخبر الواحد عندنا ومنعه عندهم، لان القرآن لا ينسخ بخبر الواحد، فإن قيل: قد كانت الثمانون حدا كاملا، فنسخ اسم الكمال رفع لحكمه لا محالة؟ قلنا: هو رفع، ولكن ليس ذلك حكما مقصودا شرعيا، بل المقصود وجوده وأجزاؤه وقد بقي كما كان فلو أثبت مثبت كونه حكما مقصودا شرعيا لامتنع نسخه بخبر الواحد بل هو كما لو أوجب الشرع الصلاة فقط فمن أتى بها فقد أدى كلية ما أوجبه الله تعالى عليه بكماله، فإذا أوجب الصوم خرجت الصلاة عن كونها كلية الواجب، لكن ليس هذا حكما مقصودا، فإن قيل: هو نسخ لوجوب الاقتصار على الثمانين لان إيجاب الثمانين مانع من الزيادة، قلنا ليس منع الزيادة بطريق المنطوق، بل بطريق المفهوم، ولا يقولون به ولا نقول به هاهنا، ثم رفع المفهوم كتخصيص العموم، فإنه رفع بعض مقتضى اللفظ، فيجوز بخبر الواحد، ثم أنما يستقيم هذا لو ثبت أنه ورد حكم المفهوم واستقر، ثم ورد التغريب بعده، وهذا لا سبيل إلى معرفته بل لعله ورد بيانا لاسقاط المفهوم متصلا به أو قريبا منه، فإن قيل: التفسيق ورد الشهادة يتعلق بالثمانين، فإذا زيد عليها أزال تعلقه بها؟ قلنا: يتعلق التفسيق ورد الشهادة بالقذف لا بالحد، ولو سلمنا لكان ذلك حكما تابعا للحد لا مقصودا، وكان كحل النكاح بعد انقضاء أربعة أشهر وعشر من عدة الوفاة، وتصرف الشرع في العدة بردها من حول إلى أربعة أشهر وعشر ليس تصرفا في إباحة النكاح، بل في نفس العدة، والنكاح تابع، فإن قيل: فلو أمر بالصلاة مطلقا ثم زيد شرط الطهارة، فهل هو نسخ؟ قلنا: نعم، لانه كان حكم الأول أجزاء الصلاة بغير طهارة، فنسخ أجزاؤها وأمر بصلاة مع طهارة، فإن قيل: فيلزمكم المصير إلى أجزاء طواف المحدث، لانه تعالى قال: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج: 92) ولم يشرط الطهارة، والشافعي رحمه الله منع الاجزاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: الطواف بالبيت صلاة وهو خبر الواحد، وأبو حنيفة رحمه الله قضى بأن هذا الخبر يؤثر في إيجاب الطهارة أما في إبطال الطواب وأجزائه، وهو معلوم بالكتاب فلا؟ قلنا: لو استقر قصد العموم في الكتاب واقتضى أجزاء الطواف محدثا ومع الطهارة، فاشتراط الطهارة رفع ونسخ، ولا يجوز بخبر الواحد، ولكن قوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج: 92) يجوز أن يكون أمرا بأصل الطواف، ويكون بيان شروطه موكولا إلى الرسول عليه السلام، فيكون قوله بيانا وتخصيصا للعموم لا نسخا، فإنه نقصان من النص لا زيادة على النص، لان عموم النص يقتضي أجزاء الطواف بطهارة وغير طهارة، فأخرج خبر الواحد أحد القسمين من لفظ القرآن، فهو نقصان من النص لا زيادة عليه، ويحتمل أن يكون رفعا إن استقر العموم قطعا وبيانا إن لم يستقر، ولا معنى لدعوى استقراره بالتحكم، وهذا نظير قوله تعالى: {فتحرير رقبة} (النساء: 29) فإنه يعم المؤمنة وغير المؤمنة، فيجوز تخصيص العموم، إذ قد يراد بالآية ذكر أصل الكفارة، ويكون أمرا بأصل الكفارة دون قيودها وشروطها، فلو استقر العموم وحصل القطع بكون العموم مرادا لكان نسخه ورفعه بالقياس، وخبر الواحد ممتنعا، فإن قيل فما قولكم في تجويز المسح على الخفين، هل هو نسخ لغسل الرجلين؟ قلنا: ليس نسخا لاجزائه ولا لوجوبه، لكنه نسخ لتضييق وجوبه وتعينه، وجاعل إياه أحد الواجبين، ويجوز أن يثبت بخبر الواحد، فإن قيل: فالكتاب أوجب غسل الرجلين على التضييق؟ قلنا: قد بقي تضييقه في حق من لم يلبس خفا على الطهارة وأخرج من عمومه من لبس الخف على الطهارة، وذلك في ثلاثة أيام أو يوم وليلة، فإن قيل: فقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) الآية توجب إيقاف الحكم على شاهدين، فإذا حكم بشاهد ويمين بخبر الواحد فقد رفع إيقاف الحكم فهو نسخ؟ قلنا: ليس كذلك، فإن الآية لا تقتضي إلا كون الشاهدين حجة، وجواز الحكم بقولهما، أما امتناع الحكم بحجة أخرى فليس من الآية، بل هو كالحكم بالاقرار، وذكر حجة واحدة لا يمنع وجود أخرى، وقولهم: ظاهر الآية أن لا حجة سواه فليس هذا ظاهر منطوقه ولا حجة عندهم بالمفهوم، ولو كان فرفع المفهوم رفع بعض مقتضى اللفظ، وكل ذلك لو سلم استقرار المفهوم وثباته، وقد ورد خبر الشاهد واليمين بعده وكل ذلك غير مسلم. مسألة (إثبات بدل غير المنسوخ) ليس من شرط النسخ إثبات بدل غير المنسوخ، وقال قوم: يمتنع ذلك، فنقول: يمتنع ذلك عقلا أو سمعا ولا يمتنع عقلا جوازه، إذ لو امتنع لكان الامتناع لصورته أو لمخالفته المصلحة والحكمة ولا يمتنع لصورته، إذ يقول: قد أوجبت عليك القتال ونسخته عنك ورددتك إلى ما كان قبل من الحكم الأصلي ولا يمتنع للمصلحة فإن الشرع لا ينبني عليها، وإن ابتنى فلا يبعد أن تكون المصلحة في رفعه من غير إثبات بدل، وإن منعوا جوازه سمعا فهو تحكم بل نسخ النهي عن إدخار لحوم الاضاحي وتقدمة الصدقة أمام المناجاة ولا بدل لها، وإن نسخت القبلة إلى بدل ووصية الاقربين إلى بدل وغير ذلك، وحقيقة النسخ هو الرفع فقط، أما قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} (البقرة: 601) أن تمسكوا به فالجواب من أوجه: الأول: أن هذا لا يمنع الجواز، وإن منع الوقوع عند من يقول بصيغة العموم، ومن لا يقول بها فلا يلزمه أصلا، ومن قال بها فلا يلزمه من هذا أنه لا يجوز في جميع المواضع إلا ببدل، بل يتطرق التخصيص إليه بدليل الاضاحي والصدقة أمام المناجاة، ثم ظاهره أنه أراد أن نسخ آية بآية أخرى مثلها لا يتضمن الناسخ إلا رفع المنسوخ، أو يتضمن مع ذلك غيره فكل ذلك محتمل. مسألة (الاخف والاثقل في النسخ) قال قوم يجوز النسخ بالاخف، ولا يجوز بالاثقل، فنقول: امتناع النسخ بالاثقل عرفتموه عقلا أو شرعا، ولا يستحيل عقلا، لانه لا يمتنع لذاته ولا للاستصلاح، فإنا ننكره، وإن قلنا به فلم يستحيل أن تكون المصلحة في التدريج والترقي من الاخف إلى الاثقل، كما كانت المصلحة في ابتداء التكليف ورفع الحكم الأصلي، فإن قيل: إن الله تعالى رؤوف رحيم بعباده ولا يليق به التشديد: قلنا: فينبغي أن لا يليق به ابتداء التكليف، ولا تسليط المرض والفقر وأنواع العذاب على الخلق، فإن قالوا: إنه يمتنع سمعا لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة: 581) ولقوله تعالى: {يريد الله أن يخفف عنكم} (النساء: 82) قلنا: فينبغي أن يتركهم، وإباحة الفعل ففيه اليسر، ثم ينبغي أن لا ينسخ بالمثل، لانه لا يسر فيه، إذ اليسر في رفعه إلى غير بدل أو بالاخف، وهذه الآيات وردت في صور خاصة أريد بها التخفيف، وليس فيه منع إرادة التثقيل والتشديد، فإن قيل: فقد قال: {ما ننسخ من آية أو ننسها} (البقرة: 601) الآية وهذا خير عام، والخير ما هو خير لنا، وإلا فالقرآن خير كله، والخير لنا ما هو أخف علينا؟ قلنا: لا بل الخير ما هو أجزل ثوابا وأصلح لنا في المآل وإن كان أثقل في الحال، فإن قيل: لا يمتنع ذلك عقلا بل سمعا، لانه لم يوجد في الشرع نسخ بالاثقل؟ قلنا: ليس كذلك، إذ أمر الصحابة أولا بترك القتال والاعراض، ثم بنصب القتال مع التشديد بثبات الواحد للعشرة، وكذلك نسخ التخيير بين الصوم والفدية بالاطعام بتعيين الصيام، وهو تضييق، وحرم الخمر ونكاح المتعة والحمر الاهلية بعد إطلاقها، ونسخ جواز تأخير الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصلاة ركعتين عند قوم، فنسخت بأربع في الحضر. مسألة (هل هناك نسخ في حق من لم يبلغه الخبر أم لا؟) اختلفوا في النسخ في حق من لم يبلغه الخبر، فقال قوم: النسخ حصل في حقه وإن كان جاهلا به، وقال قوم: ما لم يبلغه لا يكون نسخا في حقه، والمختار أن للنسخ حقيقة، وهو ارتفاع الحكم السابق، ونتيجة وهو وجوب القضاء وانتفاء الاجزاء بالعمل السابق، أما حقيقته فلا يثبت في حق من لم يبلغه، وهو رفع الحكم، لان من أمر باستقبال بيت المقدس فإذا نزل النسخ بمكة لم يسقط الامر عمن هو باليمن في الحال، بل هو مأمور بالتمسك بالامر السابق، ولو ترك لعصى، وإن بان أنه كان منسوخا، ولا يلزمه استقبال الكعبة، بل لو استقبلها لعصى وهذا لا يتجه فيه خلاف، وأما لزوم القضاء للصلاة إذا عرف النسخ فيعرف ذلك بدليل نص أو قياس، وربما يجب القضاء حيث لا يجب الاداء، كما في الحائض لو صامت عصت ويجب عليها القضاء، فكذلك يجوز أن يقال هذا لو استقبل الكعبة عصى، ويلزمه استقبالها في القضاء، وكما نقول في النائم والمغمى عليه إذا تيقظ وأفاق يلزمهما قضاء، ما لم يكن واجبا، لان من لا يفهم لا يخاطب، فإن قيل إذا علم النسخ ترك تلك القبلة بالنسخ أو بعلمه بالنسخ والعلم لا تأثير له، فدل أن الحكم انقطع بنزول الناسخ لكنه جاهل به، وهو مخطئ فيه، لكنه معذور، قلنا الناسخ هو الرافع لكن العلم شرط، ويحال عند وجود الشرط على الناسخ، ولكن لا نسخ قبل وجود الشرط، لان الناسخ خطاب، ولا يصير خطابا في حق من لم يبلغه، وقولهم أنه مخطئ محال، لان اسم الخطأ يطلق على من طلب شيئا فلم يصب، أو على من وجب عليه الطلب فقصر ولا يتحقق شئ منه في محل النزاع. الباب الثاني في أركان النسخ وشروطه ويشتمل عى تمهيد لمجامع الاركان والشروط، وعلى مسائل تتشعب من أحكام الناسخ والمنسوخ. أما التمهيد: فاعلم أن أركان النسخ أربعة: النسخ، والناسخ والمنسوخ، والمنسوخ عنه، فإذا كان النسخ حقيقته رفع الحكم فالناسخ هو الله تعالى، فإنه الرافع للحكم، والمنسوخ هو الحكم المرفوع، والمنسوخ عنه هو المتعبد المكلف، والنسخ قوله الدال على رفع الحكم الثابت، وقد يسمى الدليل ناسخا على سبيل المجاز، فيقال: هذه الآية ناسخة لتلك، وقد يسمى الحكم ناسخا مجازا، فيقال: صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء، والحقيقة هو الأول، لان النسخ هو الرفع، والله تعالى هو الرافع، بنصب الدليل على الارتفاع وبقوله الدال عليه، وأما مجامع شروطه فالشروط أربعة: الأول: أن يكون المنسوخ حكما شرعيا لا عقليا أصليا، كالبراءة الأصلية التي ارتفعت بإيجاب العبادات. الثاني: أن يكون النسخ بخطاب فارتفاع الحكم بموت المكلف ليس نسخا إذ ليس المزيل خطابا رافعا لحكم خطاب سابق، ولكنه قد قيل أولا الحكم عليك ما دمت حيا، فوضع الحكم قاصر على الحياة، فلا يحتاج إلى الرفع. الثالث: أن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت يقتضي دخوله زوال الحكم، كقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} (البقرة: 781) الرابع: أن يكون الخطاب الناسخ متراخيا، لا كقوله تعالى: {ولا تقربو هن حتى يطهرن} (البقرة: 222)، وقوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة: 92). وليس يشترط فيه تسعة أمور: الأول: أن يكون رافعا للمثل بالمثل، بل أن يكون رافعا فقط. الثاني: أن لا يشترط ورود النسخ بعد دخول وقت المنسوخ، بل يجوز قبل دخول وقته. الثالث: أن لا يتشرط أن يكون المنسوخ مما يدخله الاستثناء والتخصيص، بل يجوز ورود النسخ على الامر بفعل واحد في وقت واحد. الرابع: أن لا يشترط أن يكون نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة فلا تشترط الجنسية، بل يكفي أن يكون مما يصح النسخ به. الخامس: أن لا يشترط أن يكونا نصين قاطعين، إذ يجوز نسخ خبر الواحد بخبر الواحد، وبالمتواتر وإن كان لا يجوز نسخ المتواتر بخبر الواحد. السادس: لا يشترط أن يكون الناسخ منقولا بمثل لفظ منسوخ، بل أن يكون ثابتا، بأي طريق كان، فإن التوجه إلى بيت المقد س لم ينقل إلينا بلفظ القرآن والسنة، وناسخه نص صريح في القرآن، وكذلك لا يمتنع نسخ الحكم المنطوق به باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وقياسه وإن لم يكن ثابتا بلفظ ذي صيغة وصورة يجب نقلها. السابع: لا يشترط أن يكون الناسخ مقابلا للمنسوخ حتى لا ينسخ الامر إلا بالنهي ولا النهي إلا بالامر، بل يجوز أن ينسخ كلاهما بالاباحة، وأن ينسخ الواجب المضيق بالموسع، وإنما يشترط أن يكون الناسخ رافعا حكما من المنسوخ كيف كان. الثامن: لا يشترط كونهما ثابتين بالنص، بل لو كان بلحن القول وفحواه وظاهره وكيف كان، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن آية وصية الاقارب نسخت بقوله: إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث مع أن الجمع بين الوصية والميراث ممكن، فليسا متنافيين تنافيا قاطعا. التاسع: لا يشترط نسخ الحكم ببدل أو بما هو أخف، بل يجوز بالمثل والاثقل وبغير بدل كما سبق. ولنذر الآن مسائل تتشعب عن النظر في ركني المنسوخ والناسخ، وهي مسألتان في المنسوخ وأربع مسائل في المنسوخ به. مسألة (هل الحكم الشرعي قابل للنسخ أم لا؟) مامن حكم شرعي إلا وهو قابل للنسخ خلافا للمعتزلة، فإنهم قالوا: من الافعال مالها صفات نفسية تقتضي حسنها وقبحها، فلا يمكن نسخها، مثل معرفة الله تعالى والعدل وشكر المنعم فلا يجوز نسخ وجوبه، ومثل الكفر والظلم، الكذب، فلا يجوز نسخ تحريمه، وبنوا هذا على تحسين العقل وتقبيحه، وعلى وجوب الأصلح على الله تعالى، وحجروا بسببه على الله تعالى في الامر والنهي، وربما بنوا هذا على صحة إسلام الصبي، وأن وجوبه بالعقل وإن استثناء الصبي عنه غير ممكن، وهذه أصول أبطلناها وبينا أنه لا يجب أصل التكليف على الله تعالى كان فيه صلاح العباد أو لم يكن نعم بعد أن كلفهم، لا يمكن أن ينسخ جميع التكاليف إذ لا يعرف النسخ من لا يعرف الناسخ وهو الله عزوجل، ويجب على المكلف معرفة النسخ والناسخ، والدليل المنصوب عليه، فيبقى هذا التكليف بالضرورة، ونسلم أيضا أنه لا يجوز أن يكلفهم أن لا يعرفوه، وأن يحرم عليهم معرفته، لان قوله: أكلفك أن لا تعرفني يتضمن المعرفة، أي: إعرفني لاني كلفتك أن لا تعرفني وذلك محال، فيمكتنع التكليف فيه عند من يمنع تكليف المحال، وكذلك لا يجوز أن يكلفه معرفة شئ من الحوادث على خلاف ما هو به لانه محال لا يصح فعله ولا تركه. مسألة (نسخ الحكم أو التلاوة أو نسخهما معا) الآية إذا تضمنت حكما يجوز نسخ تلاوتها دون حكمها، ونسخ حكمها دون تلاوتها، ونسخهما جميعا، وظن قوم استحالة ذلك فنقول: هو جائز عقلا وواقع شرعا، أما جوازه عقلا فإن التلاوة وكتبتها في القرآن وانعقاد الصلاة بها كل ذلك حكمها، كما أن التحريم والتحليل المفهوم من لفظها حكمها، وكل حكم فهو قابل للنسخ، وهذا حكم، فهو إذن قابل للنسخ، وقد قال قوم: نسخ التلاوة أصلا ممتنع، لانه لو كان المراد منها الحكم لذكر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أنزله الله تعالى عليه إلا ليتلى ويثاب عليه، فكيف يرفع؟ قلنا وأي استحالة في أن يكون المقصود مجرد الحكم دون التلاوة، لكن أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ معين، فإن قيل: فإن جاز نسخها فلينسخ الحكم معها، لان الحكم تبع للتلاوة، فكيف يبقى الفرع مع نسخ الأصل؟ قلنا: لا بل التلاوة حكم وانعقاد الصلاة بها حكم آخر فليس بأصل، وإنما الأصل دلالتها، وليس في نسخ تلاوتها والحكم بأن الصلاة لا تنعقد بها نسخ لدلالتها، فكم من دليل لا يتلى ولا تنعقد به صلاة، وهذه الآية دليل لنزولها وورودها لا لكونها متلوة في القرآن والنسخ لا يرفع ورودها ونزولها ولا يجعلها كأنها غير واردة بل يلحقها بالوارد الذي لا يتلى كيف ويجوز أن ينعدم الدليل ويبقى المدلول فإن الدليل علامة لا علة فإذا دل فلا ضرر في انعدامه كيف والموجب للحكم كلام الله تعالى القديم، ولا ينعدم ولا يتصور رفعه ونسخه، فإذا قلنا: الآية منسوخة أردنا به انقطاع تعلقها عن العبد وارتفاع مدلولها وحكمها لا ارتفاع ذاتها، فإن قيل: نسخ الحكم مع بقاء التلاوة متناقض، لانه رفع للمدلول مع بقاء الدليل، قلنا إنما يكون دليلا عند انفكاكه عما يرفع حكمه، فإذا جاء خطاب ناسخ لحكمه زال شرط دلالته، ثم الذي يدل على وقوعه سمعا قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} (البقرة: 481) الآية، وقد بقيت تلاوتها ونسخ حكمها بتعيين الصوم، والوصية للوالدين ووقربين متلوة في القرآن، وحكمها منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: لا وصية لوارث ونسخ تقديم الصدقة أمام المناجاة والتلاوة باقية، ونسخ التربص حولا عن المتوفى عنها زوجها، والحبس والاذى عن اللاتي يأتين الفاحشة بالجلد والرجم مع بقاء التلاوة، وأما نسخ التلاوة فقد تظاهرت الاخبار بنسخ تلاوة آية الرجم مع بقاء حكمها، وهي قوله تعالى: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم، واشتهر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أنزلت عشر رضعات من محرمات فنسخن بخمس وليس ذلك في الكتاب. مسألة (أنواع النسخ) يجوز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن، لان الكل من عند الله عزوجل، فما المانع منه، ولم يعتبر التجانس، مع أن العقل لا يحيله، كيف وقد دل السمع على وقوعه إذ التوجه إلى بيت المقدس ليس في القرآن، وهو في السنة، وناسخه في القرآن، وكذلك قوله تعالى: {فالآن باشروهن} (البقرة: 073) نسخ لتحريم المباشرة، وليس التحريم في القرآن، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكان عاشوراء ثابتا بالسنة، وصلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت في السنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال، حتى قال عليه السلام يوم الخندق وقد أخر الصلاة: حشا الله قبورهم نارا لحبسهم له عن الصلاة، وكذلك قوله تعالى: {فلا ترجعوهن إلى الكفار} (الممتحنة: 01) نسخ لما قرره عليه السلام من العهد والصلح، وأما نسخ القرآن بالسنة فنسخ الوصية للوالدين والاقربين بقوله صلى الله عليه وسلم: ألا لا وصية لوارث لان آية الميراث لا تمنع الوصية للوالدين والاقربين، إذ الجمع ممكن وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فهو ناسخ لامساكهن في البيوت، وهذا فيه نظر، لانه صلى الله عليه وسلم بين أن آية الميراث نسخت آية الوصية، ولم ينسخها هو بنفسه صلى الله عليه وسلم، وبين أن الله تعالى جعل لهن سبيلا، وكان قد وعد به فقال: {أو يجعل الله لهن سبيلا} (النساء: 51) فإن قيل: قال الشافعي رحمه الله لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، وهو أجل من أن لا يعرف هذه الوجوه في النسخ، فكأنه يقول: إنما تلتغي السنة بالسنة، إذ يرفع النبي صلى الله عليه وسلم سنته بسنته، ويكون هو مبينا لكلام نفسه وللقرآن، ولا يكون القرآن مبينا للسنة، وحيث لا يصادف ذلك فلانه لم ينقل، وإلا فلم يقع النسخ إلا كذلك، قلنا: هذا إن كان في جوازه عقلا فلا يخفى أنه يفهم من القرآن وجوب التحول إلى الكعبة وإن كان التوجه إلى بيت المقدس ثابتا بالسنة وكذلك عكسه ممكن وإن كان يقول: لم يقع هذا، فقد نقلنا وقوعه، ولا حاجة إلى تقدير سنة خافية مندرسة، إذ لا ضرورة في هذا التقدير، والحكم بأن ذلك لم يقع أصلا تحكم محض، وإن قال الاكثر: كان ذلك فربما لا ينازع فيه، احتجوا بقوله تعالى: {قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي} (يونس: 51) فدل أنه لا ينسخ القرآن بالسنة، قلنا: لا خلاف في أنه لا ينسخ من تلقاء نفسه، بل بوحي يوحى إليه لكن لا يكون بنظم القرآن، وإن جوزنا النسخ في الاجتهاد، فالاذن في الاجتهاد يكون من الله عزوجل، والحقيقة أن الناسخ هو الله عزوجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والمقصود أنه ليس من شرطه أن ينسخ حكم القرآن بقرآن بل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بوحي ليس بقرآن وكلام الله تعالى واحد هو الناسخ باعتبار، والمنسوخ باعتبار، وليس له كلامان، أحدهما قرآن، والآخر ليس بقرآن، وإنما الاختلاف في العبارات، فربما دل على كلامه بلفظ منظوم يأمرنا بتلاوته، فيسمى قرآنا، وربما دل بغير لفظ متلوفيسمى سنة، والكل مسموع من الرسول عليه السلام والناسخ هو الله تعالى في كل حال: على أنهم طالبوه بقرآن مثل هذا القرآن فقال: لا أقدر عليه من تلقاء نفسي، وما طالبوه بحكم غير ذلك، فأين هذا من نسخ القرآن بالسنة وامتناعه؟ احتجوا بقوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} (يونس: 51) وبين أن الآية لا تنسخ إلا بمثلها أو بخير منها، فالسنة لا تكون مثلها، ثم تمدح وقال: {ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير} (البقرة: 601) بين أنه لا يقدر عليه غيره؟ قلنا: قحققنا أن الناسخ هو الله تعالى، وأنه المظهر له على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم المفهم إيانا بواسطته نسخ كتابه، ولا يقدر عليه غيره، ثم لو نسخ الله تعالى آية على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم أتى بآية أخرى مثلها، كان قد حقق وعده، فلم يشترط أن تكون الآية الاخرى هي الناسخة للاولى، ثم نقول: ليس المراد الاتيان بقرآن آخر خير منها، لان القرآن لا يوصف بكون بعضه خيرا من البعض كيفما قدر قديما أو مخلوقا، بل معناه أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل، لكونه أخف منه أو لكونه أجزل ثوابا. |
12-06-2012, 03:05 PM | #32 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (لا ينسخ الإجماع) الإجماع لا ينسخ به إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي، وما نسخ فالإجماع بالإجماع يدل على ناسخ قد سبق في زمان نزول الوحي من كتاب أو سنة، أما السنة فينسخ المتواتر منها بالمتواتر والآحاد بالآحاد، أما نسخ المتواتر منها بالآحاد فاختلفوا في وقوعه سمعا وجوازه عقلا، فقال قوم: وقع ذلك سمعا، فإن أهل مسجد القباء تحولوا إلى الكعبة بقول واحد أخبرهم وكان ثابتا بطريق قاطع فقلبوا نسخه عن الواحد، والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد به ووقوعه سمعا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان ينفذ آحاد الولاة إلى الاطراف، وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا، ولكن ذلك ممتنع بعد وفاته، بدليل الإجماع من الصحابة، على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف، والعمل بخبر الواحد تلقى من الصحابة وذلك فيما لا يرفع قاطعا، بل ذهب الخوارج إلى منع نسخ القرآن بالخبر المتواتر حتى أنهم قالوا رجم ماعز وإن كان متواترا لا يصلح لنسخ القرآن، وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، وإن تواترت، وليس ذلك بمحال، لانه يصح أن يقال: تعبدناكم بالنسخ بخبر الواحد في زمان نزول الوحي وحرمنا ذلك بعده، فإن قيل: كيف يجوز ذلك عقلا وهو رفع القاطع بالظن، وأما حديث قباء فلعله انضم إليه من القرائن ما أورث العلم، قلنا: تقدير قرائن معرفة توجب إبطال أخبار الآحاد وحمل عمل الصحابة على المعرفة بالقرائن ولا سبيل إلى وضع ما لم ينقل، وأما قولهم إنه رفع للقاطع بالظن فباطل، إذ لو كان كذلك لقطعنا بكذب الناقل ولسنا نقطع به، بل نجوز صدقه، وإنما هو مقطوع به بشرط أن لا يرد خبر نسخه، كما أن البراءة الأصلية مقطوع بها وترتفع بخبر الواحد، لانها تفيد القطع، بشرط عدم خبر الواحد، فإن قيل: بم تنكرون على من يقطع بكونه كاذبا، لان الرسول عليه السلام أشاع الحكم، فلو ثبت نسخه للزمه الاشاعة، قلنا: ولم يستحيل أن يشيع الحكم، ويكل النسخ، إلى الآحاد، كما يشيع العموم وبكل التخصيص إلى المخصص؟
مسألة (لا يصح نسخ المتواتر بالقياس) لا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد على اختلاف مراتبه، جليا كان أو خفيا، هذا ما قطع به الجمهور إلا شذوذا منهم قالوا: ما جاز التخصيص به جاز النسخ به، وهو منقوض بدليل العقل وبالإجماع وبخبر الواحد، فالتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ، ثم كيف يتساويان والتخصيص بيان والنسخ رفع والبيان تقرير والرفع إبطال، وقال بعض أصحاب الشافعي، يجوز النسخ بالقياس الجلي، ونحن نقول: لفظ الجلي مبهم فإن أرادوا المقطوع به فهو صحيح، وأما المظنون فلا، وما يتوهم القطع به على ثلاث مراتب: الأولى: ما يجري مجرى النص وأوضح منه كقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (الاسراء: 32)، فإن تحريم الضرب مدرك منه قطعا، فلو كان ورد نص بإباحة الضرب لكان هذا ناسخا، لانه أظهر من المنطوق به، وفي درجته قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} (الزلزلة: 7) الآية في أن ما هو فوق الذرة كذلك، وكذلك قوله تعالى: {وورثه أبواه فلامه الثلث} (النساء: 11) في أن للاب الثلثين. الرتبة الثانية: لو ورد نص بأن العتق لا يسري في الامة، ثم ورد قوله صلى الله عليه وسلم: من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي لقضينا بسراية عتق الامة قياسا على العبد، لانه مقطوع به، إذ علم قطعا قصد الشارع إلى المملوك لكونه مملوكا. الرتبة الثالثة: أن يرد النص مثلا بإباحة النبيذ ثم يقول الشارع: حرمت الخمر لشدتها، فينسخ إباحة النبيد بقياسه على الخمر إن تعبدنا بالقياس، وقال قوم: وإن لم نتعبد بالقياس نسخنا أيضا، إذ لا فرق بين قوله حرمت كل منتبذ، وبين قوله: حرمت الخمر لشدتها، ولذلك أقر النظام بالعلة المنصوصة وإن كان منكرا لاصل القياس، ولنبين أنه إن لم نتعبد بالقياس، فقوله: حرمت الخمر عليكم لشدتها ليس قاطعا في تحريم النبيذ بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة كما تكون العلة في الرجم زنا المحصن خاصة، والمقصود أن القاطع لا يرفع بالظن بل بالقاطع، فإن قيل استحالة رفعه بالمظنون عقلي أو سمعي، قلنا: الصحيح أنه سمعي، ولا يستحيل عقلا أن يقال: تعبدناكم بنسخ النص بالقياس على نص آخر، نعم يستحيل أن نتعبد بنسخ النص بقياس مستنبط من عين ذلك النص، لان ذلك يؤدي إلى أن يصير هو مناقضا لنفسه، فيكون واجب العمل به وساقط العمل به، فإن قيل: فما الدليل على امتناعه سمعا؟ قلنا: يدل عليه الإجماع على بطلان كل قياس مخالف للنص، وقول معاذ رضي الله عنه اجتهد رأيي، بعد فقد النص وتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم له وإجماع الصحابة على ترك القياس بأخبار الآحاد، فكيف بالنص القاطع المتواتر، واشتهار قولهم عند سماع خبر الواحد: لولا هذا لقضينا برأينا، ولان دلالة النص قاطع في المنصوص، ودلالة الأصل على الفرع مظنون، فكيف يترك الاقوى بالاضعف، وهذا مستند الصحابة في إجماعهم على ترك القياس بالنص، فإن قيل: إذا تناقض قاطعان وأشكل المتأخر فهل يثبت تأخر أحدهما بقول الواحد حتى يكون هو الناسخ؟ قلنا يحتمل أن يقال ذلك، لانه إذا ثبت الاحصان بقول اثنين مع أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة دل على أنه لا يحتاط للشرط بما يحتاط به للمشروط، ويحتمل أن يقال النسخ إذا كان بالتأخير والمنسوخ قاطع، فلا يكفي فيه قول الواحد، فهذا في محل الاجتهاد، والاظهر قبوله، لان أحد النصين منسوخ قطعا، وإنما هذا مطلوب قبوله للتعيين. مسألة (نسخ الحكم بقول الصحابي) لا ينسخ حكم بقول الصحابي نسخ حكم كذا ما لم يقل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نسخت حكم كذا، فإذا قال ذلك نظر في الحكم، إن كان ثابتا بخبر الواحد صار منسوخا بقوله، وإن كان قاطعا فلا، أما قوله: نسخ حكم كذا، فلا يقبل قطعا، فلعله ظن ما ليس ينسخ نسخا، فقد ظن أن الزيادة على النص نسخ، وكذلك في مسائل، وقال قوم: إن ذكر لنا ما هو الناسخ عنده لم نقلده، لكن نظرنا فيه، وإن أطلق فنحمله على أنه لم يطلق إلا عن معرفة قطعية، وهذا فاسد، بل الصحيح أنه إن ذكر الناسخ تأملنا فيه وقضينا برأنيا، وإن لم يذكر لم نقلده وجوزنا أن يقول ذلك عن اجتهاد ينفرد به، هذا ما ذكره القاضي رحمه الله، والاصح عندنا أن نقبل كقول الصحابي أمر بكذا ونهى عن كذا، فإن ذلك يقبل كما سنذكره في كتاب الاخبار، ولا فرق بين اللفظين، فإن قيل: قالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أحلت له النساء اللاتي حظرن عليه بقوله تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك} (الاحزاب: 05) فقبل ذلك منها، قلنا: ليس ذلك مرضيا عندنا، ومن قبل فإنما قبل ذلك للدليل الناسخ ورآه صالحا للنسخ، ولم يقلد مذهبها. خاتمة الكتاب فيما يعرف به تاريخ الناسخ اعلم أنه إذا تناقض نصان فالناسخ هو المتأخر، ولا يعرف تأخره بدليل العقل ولا بقياس الشرع، بل بمجرد النقل، وذلك بطرق: الأول: أن يكون في اللفظ ما يدل عليه كقوله عليه السلام: كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الاضاحي فالآن ادخروها وكقوله: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها. الثاني: أن تجمع الامة في حكم على أنه المنسوخ وأن ناسخه الآخر. الثالث: أن يذكر الراوي التاريخ مثل أن يقول: سمعت عام الخندق، أو عام الفتح، وكان المنسوخ معلوما قبله، ولا فرق بين أن يروي الناسخ والمنسوخ راو واحد أو راويان، ولا يثبت التاريخ بطرق: الأول: أن يقول الصحابي: كان الحكم علينا كذا ثم نسخ لانه ربما قاله عن اجتهاد. الثاني: أن يكون أحدهما مثبتا في المصحف بعد الآخر، لان السور والآيات ليس إثباتها على ترتيب النزول، بل ربما قدم المتأخر. الثالث: أن يكون راويه من أحداث الصحابة، فقد ينقل الصبي عمن تقدمت صحبته، وقد ينقل الاكابر عن الاصاغر وبعكسه. الرابع: أن يكون الراوي أسلم عام الفتح ولم يقل إني سمعت عام الفتح، إذ لعله سمع في حاله كفره، ثم روى بعد الاسلام، أو سمع ممن سبق بالاسلام. الخامس: أن يكون الراوي قد انقطعت صحبته، فربما يظن أن حديثه مقدم على حديث من بقيت صحبته، وليس من ضرورة من تأخرت صحبته أن يكون حديثه متأخرا عن وقت انقطاع صحبة غيره. السادس: أن يكون أحد الخبرين على وفق قضية العقل والبراءة الأصلية، فربما يظن تقدمه ولا يلزم ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: لا وضوء مما مسته النار ولا يلزم أن يكون متقدما على إيجاب الوضوء مما مست النار إذ يحتمل أنه أوجب ثم نسخ والله أعلم. وقد فرغنا من الأصل الأول من الاصول الاربعة وهو الكتاب ويتلوه القول في سنة رسول الله صلى الله عليه، سلم. الأصل الثاني: من أصول الأدلة سنة رسول الله صلى الله عليه سلم وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، لدلالة المعجزة على صدقه، ولامر الله تعالى إيانا باتباعه، ولانه {وما ينطق عن الهوى ئ إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3) لكن بعض الوحي يتلى فيسمى كتابا، وبعضه لا يتلى وهو السنة. وقول لسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على من سمعه شفاعا فأما نحن فلا يبلغنا قوله إلا على لسان المخبرين إما على سبيل التواتر وإما بطريق الآحاد، فلذلك اشتمل الكلام في هذا الأصل على مقدمة وقسمين: قسم في أخبار التواتر، وقسم في أخبار الآحاد، ويشتمل كل قسم على أبواب. أما المقدمة: ففي بيان ألفاظ الصحابة رضي الله عنهم في نقل الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على خمس مراتب: الأولى: وهي أقواها، أن يقول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، أو أخبرني أو حدثني أو شافهني، فهذا لا يتطرق إليه الاحتمال وهو الأصل في الرواية والتبليغ، قال صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث. الثانية: أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أخبر، أو أخبر، أو حدث فهذا ظاهره النقل إذا صدر من الصحابي، وليس نصا صريحا، إذ قد يقول الواحد منا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتمادا على ما نقل إليه، وإن لم يسمعه منه فلا يستحيل أن يقول الصحابي ذلك اعتمادا على ما بلغه تواترا، أو بلغه على لسان من يثق به، ودليل الاحتمال ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أصبح جنبا فلا صوم له فلما استكشف قال: حدثني به الفضل بن عباس، فأرسل الخبر أولا ولم يصرح، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الربا في النسيئة فلما روجع فيه أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد إلا أن هذا وإن كان محتملا فهو بعيد، بل الظاهر أن الصحابي إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يقوله إلا وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف من لم يعاصر إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قرينة حاله تعرف أنه لم يسمع، ولا يوهم إطلاقه السماع، بخلاف الصحابي فإنه إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوهم السماع، فلا يقدم عليه إلا عن سماع هذا هو الظاهر وجميع الاخبار إنما نقلت إلينا كذلك، إذ يقال: قال أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نفهم من ذلك إلا السماع. الثالثة: أن يقول الصحابي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهى عن كذا، فهذا يتطرق إليه احتمالان: أحدهما: في سماعه، كما في قوله: قال. والثاني: في الامر إذ ربما يرى ما ليس بأمر أمرا، فقد اختلف الناس في أن قوله إفعل هو للامر، فلاجل هذا قال بعض أهل الظاهر لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ، والصحيح أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم تحقيقا أنه أمر بذلك، وأن يسمعه يقول: أمرتكم بكذا، أو يقول: إفعلوا، وينضم إليه من القرائن ما يعرفه كونه أمرا ويدرك ضرورة قصده إلى الامر، أما احتمال بنائه الامر على الغلط والوهم فلا نطرقه إلى الصحابة بغير ضرورة، بل يحمل ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة ما أمكن، ولهذا لو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ولكن شرط شرطا ووقت وقتا فيلزمنا اتباعه، ولا يجوز أن نقول لعله غلط في فهم الشرط والتأقيت، ورأى ما ليس بشرط شرطا، ولهذا يجب أن يقبل قول الصحابي نسخ حكم كذا، وإلا فلا فرق بين قوله: نسخ، وقوله: أمر، ولذلك قال علي رضي الله عنه وأطلق: أمرت أن أقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين، ولا يظن بمثله أن يقول أمرت إلا عن مستند يقتضي الامر ويتطرق إليه احتمال ثالث في عمومه وخصوصه حتى ظن قوم أن مطلق هذا يقتضي أمر جميع الامة، والصحيح أن من يقول بصيغة العموم أيضا، ينبغي أن يتوقف في هذا إذ يحتمل أن يكون ما سمعه أمرا للامة أو لطائفة أو لشخص بعينه، وكل ذلك يتيح له أن يقول: أمر، فيتوقف فيه على الدليل، لكن يدل عليه أن أمره للواحد أمر للجماعة إلا إذا كان لوصف يخصه من سفر أو حضر، ولو كان كذلك لصرح به الصحابي، كقوله: أمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، نعم لو قال: أمرنا بكذا، وعلم من عادة الصحابي أنه لا يطلقه إلا في أمر الامة حمل عليه وإلا احتمل أن يكون أمرا للامة أو له أو لطائفة. الرابعة: أن يقول أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، فيتطرق إليه ما سبق من الاحتمالات الثلاثة، واحتمال رابع وهو الآمر، فإنه لا يدري أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الائمة والعلماء، فقال قوم: لا حجة فيه، فإنه محتمل، وذهب الاكثرون إلى أنه لا يحمل إلا على أمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لانه يريد به إثبات شرع وإقامة حجة، فلا يحمل على قول من لا حجة في قوله، وفي معناه قوله: من السنة كذا، والسنة جارية بكذا، فالظاهر أنه لا يريد إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يجب اتباعه دون سنة غيره ممن لا تجب طاعته ولا فرق بين أن يقول الصحابي ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته، أما التابعي إذا قال: أمرنا احتمل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الامة بأجمعها والحجة حاصلة به، ويحتمل أمر الصحابة، لكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك إلا وهو يريد من تجب طاعته، ولكن الاحتمال في قول التابعي أظهر منه في قول الصحابي. الخامسة: أن يقول: كانوا يفعلون كذا، فإن أضاف ذلك إلى زمن الرسول عليه السلام فهو دليل على جواز الفعل، لان ذكره في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت عليه دون ما لم يبلغه، وذلك يدل على الجواز، وذلك مثل قول ابن عمر رضي الله عنه: كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، فيبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، وقال: كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج الحديث، وقال أبو سعيد: كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من بر في زكاة الفطر، وقالت عائشة رضي الله عنها، كانوا لا يقطعون في الشئ التافه، وأما قول التابعي: كانوا يفعلون، لا يدل على فعل جميع الامة بل على البعض، فلا حجة فيه إلا أن يصرح بنقله عن أهل الإجماع فيكون نقلا للإجماع، وفي ثبوته بخبر الواحد كلام سيأتي، فقد ظهر من هذه المقدمة ما هو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ليس خبرا عنه، والآن فلا بد من بيان طرق انتهاء الخبر إلينا، وذلك إما بنقل التواتر أو الآحاد القسم الأول من هذا الأصل الكلام في التواتر وفيه أبواب الباب الأول في إثبات أن التواتر يفيد العلم ولنقدم عليها حد الخبر، وحده أنه القول الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب أو هو القول الذي يدخله الصدق أو الكذب، وهو أولى من قولهم يدخله الصدق والكذب، إذ الخبر الواحد لا يدخله كلاهما، بل كلام الله تعالى لا يدخله الكذب أصلا، والخبر عن المحالات لا يدخله الصدق أصلا، والخبر قسم من أقسام الكلام القائم بالنفس، وأما العبارة فهي الاصوات المقطعة التي صيغتها، مثل قول القائل، زيد قائم وضارب، وهذا ليس خبرا لذاته، بل يصير خبرا بقصد القاصد إلى التعبير به عما في النفس، ولهذا إذا صدر من نائم أو مغلوب لم يكن خبرا، وأما كلام النفس فهو خبر لذاته وجنسه، إذا وجد، لا يتغير بقصد القاصد، أما إثبات كون التواتر مفيدا للعلم فهو ظاهر خلافا للسمنية، حيث حصروا العلوم في الحواس وأنكروا هذا، وحصرهم باطل، فإنا بالضرورة نعلم كون الالف أكثر من الواحد، واستحالة كون الشئ الواحد قديما محدثا وأمورا أخر ذكرناها في مدارك اليقين سوى الحواس، بل نقول: حصرهم العلوم في الحواس معلوم لهم، وليس ذلك مدركا بالحواس الخمس، ثم لا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد، وإن لم يدخلها، ولا يشك في وجود الانبياء، بل في وجود الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله بل في الدول والوقائع الكبيرة، فإن قيل: لو كان هذا معلوما ضرورة لما خالفناكم؟ قلنا: من يخالف في هذا فإنما يخالف بلسانه أو عن خبط في عقله أو عن عناد، ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل إنكارهم في العادة لما علموه، وعنادهم ولو تركنا ما علمناه ضرورة لقولكم للزمكم ترك المحسوسات بسبب خلاف السوفسطائية، أما بطلان مذهب الكعبي حيث ذهب إلى أن هذا العلم نظري، فإنا نقول: النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك، وتختلف فيه الاحوال، فيعلمه بعض الناس دون بعض، ولا يعلمه النساء والصبيان ومن ليس من أهل النظر، ولا يعلمه من ترك النظر قصدا، وكل علم نظري، فالعالم به قد يجد نفسه فيه شاكا ثم طالبا، ونحن لا نجد أنفسنا شاكين في وجود مكة ووجود الشافعي رحمه الله، طالبين لذلك، فإن عنيتم بكونه نظريا شيئا من ذلك فنحن ننكره، وإن عنيتم به أن مجرد قول المخبر لا يفيد العلم ما لم ينتظم في النفس مقدمتان: إحداهما: أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وتباين أغراضهم ومع كثرتهم على حال لا يجمعهم على الكذب جامع، ولا يتفقون إلا على الصدق. والثانية: أنهم قد اتفقوا على الاخبار عن الواقعة فيبتني العلم بالصدق على مجموع المقدمتين، فهذا مسلم ولا بد وأن تشعر النفس بهاتين المقدمتين حتى يحصل له العلم والتصديق، وإن لم تتشكل في النفس هذه المقدمات بلفظ منظوم فقد شعرت به حتى حصل التصديق وإن لم يشعر بشعورها، وتحقيق القول فيه أن الضروري إن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة كقولنا: القديم لا يكون محدثا، والموجود لا يكون معدوما، فهذا ليس بضروري، فإنه حصل بواسطة المقدمتين المذكورتين، وإن كان عبارة عما يحصل بدون تشكل الواسطة في الذهن فهذا ضروري ورب واسطة حاضرة في الذهن لا يشعر الانسان بوجه توسطها وحصول العلم بواسطتها، فيسمى أوليا وليس بأولي كقولنا الاثنان نصف الاربعة فإنه لا يعلم ذلك إلا بواسطة وهو أن النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر والاثنان أحد الجزأين المساوي للثاني من جملة الاربعة، فهو إذا نصف، فقد حصل هذا العلم بواسطة، لكنها جلية في الذهن حاضرة ولهذا لو قيل: ستة وثلاثون، هل هو نصف اثنين وسبعين يفتقر فيه إلى تأمل ونظر حتى يعلم أن هذه الجملة تنقسم بجزأين متساويين: أحدهما: ستة وثلاثون، فإذا العلم بصدق خبر التواتر يحصل بواسطة هذه المقدمات وما هو كذلك فهو ليس بأولي، وهل يسمى ضروريا هذا ربما يختلف في الاصطلاح، والضروري عند الاكثرين عبارة عن الأولي لا عما نجد أنفسنا مضطرين إليه، فإن العلوم الحسابية كلها ضرورية وهي نظرية، ومعنى كونها نظرية أنها ليست بأولية، وكذلك العلم بصدق خبر التواتر، ويقرب منه العلم المستفاد من التجربة التي يعبر عنها باطراد العادات كقولنا الماء مرو، والخمر مسكر، كما نبهنا عليه في مقدمة الكتاب، فإن قيل: لو استدل مستدل على كونه غير ضروري بأنه لو كان ضروريا لعلمنا بالضرورة كونه ضروريا، ولما تصور الخلاف فيه، فهذا الاستدلال صحيح أم لا؟ قلنا: إن كان الضروري عبارة عما نجد أنفسنا مضطرين إليه فبالضرورة نعلم من أنفسنا أنا مضطرون إليه، وإن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة فيجوز أن يحتاج في معرفة ذلك إلى تأمل، ويقع الشك فيه كما يتصور أن نعتقد شيئا على القطع، ونتردد في أن اعتقادنا علم محقق أم لا. الباب الثاني في شروط التواتر وهي أربعة: الأول: أن يخبروا عن علم لا عن ظن، فإن أهل بغداد لو أخبرونا عن طائر أنهم ظنوه حماما، أو عن شخص أنهم ظنوه زيدا لم يحصل لنا العلم بكونه حماما وبكونه زيدا، وليس هذا معللا، بل حال المخبر لا تزيد على حال المخبر، لانه كان في قدرة الله تعالى أن يخلق لنا العلم بخبرهم وإن كان عن ظن ولكن العادة غير مطردة بذلك. الشرط الثاني: أن يكون علمهم ضروريا مستندا إلى محسوس، إذ لو أخبرنا أهل بغداد عن حدوث العالم وعن صدق بعض الانبياء لم يحصل لنا العلم، وهذا أيضا معلوم بالعادة، وإلا فقد كان في قدرة الله تعالى أن يجعل ذلك سببا للعلم في حقنا. الشرط الثالث: أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد، فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الاعصار ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر، لم يحصل العلم بصدقهم، لان خبر أهل كل عصر خبر مستقل بنفسه، فلا بد من شروط، ولا جل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى صلوات الله عليه تكذيب كل ناسخ لشريعته، ولا بصدق الشيعة والعباسية والبكرية في نقل النص على إمامة علي أو العباس أو أبي بكر رضي الله عنهم، وإن كثر عدد الناقلين في هذه الاعصار القريبة، لان بعض هذا وضعه الآحاد أولا ثم أفشوه ثم كثر الناقلون في عصره وبعده، والشرط إنما حصل في بعض الاعصار فلم تستو فيه الاعصار، ولذلك لم يحصل التصديق بخلاف وجود عيسى عليه السلام وتحديه بالنبوة ووجود أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وانتصابهما للامامة، فإن كل ذلك لما تساوت فيه الاطراف والواسطة حصل لنا علم ضروري لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه، ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى وعيسى عليهما السلام، وفي نص الامامة. الشرط الرابع: في العدد وتهذب الغرض منه برسم مسائل: مسألة (العدد الذي يحصل به التواتر) عدد المخبرين ينقسم إلى ما هو ناقص فلا يفيد العلم، وإلى ما هو كامل وهو الذي يفيد العلم، وإلى زائد وهو الذي يحصل العلم ببعضه وتقع الزيادة فضلا عن الكفاية، والكامل وهو أقل عدد يورث العلم ليس معلوما لنا، لكنا بحصول العلم الضروري نتبين كمال العدد، لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم، فإذا عرفت هذا فالعدد الكامل الذي يحصل التصديق به في واقعة هل يتصور أن لا يفيد العلم في بعض الوقائع؟ قال القاضي رحمه الله: ذلك محال، بل كل ما يفيد العلم في واقعة يفيد في كل واقعة، وإذا حصل العلم لشخص فلا بد وأن يحصل لكل شخص يشاركه في السماع، ولا يتصور أن يختلف، وهذا صحيح إن تجرد الخبر عن القرائن، فإن العلم لا يستند إلى مجرد العدد ونسبة كثرة العدد إلى سائر الوقائع وسائر الاشخاص واحدة، أما إذا اقترنت به قرائن تدل على التصديق فهذا يجوز أن تختلف فيه الوقائع والاشخاص، وأنكر القاضي ذلك ولم يلتفت إلى القرائن ولم يجعل لها أثرا، وهذا غير مرضي، لان مجرد الاخبار يجوز أن يورث العلم عند كثرة المخبرين، وإن لم تكن قرينة، ومجرد القرائن أيضا قد يورث العلم وإن لم يكن فيه أخبار، فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الاخبار، فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين، ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة معنى القرائن وكيفية دلالتها فنقول: لا شك في أنا نعرف أمورا ليست محسوسة، إذ نعرف من غيرنا حبه لانسان وبغضه له وخوفه منه وغضبه وخجله، وهذه أحوال في نفس المحب والمبغض لا يتعلق الحس بها قد تدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال، ولكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف. ثم الثاتي والثالث يؤكد ذلك، ول أفردت آحاذها لتطرق إليها الاحتمال، يحصل القطع باجتماعها، كما أن قول كل واحد من عدد التواتر يتطرق إليه الاحتمال لو قدر مفردا ويحصل القطع بسبب الاجتماع، ومثاله أنا نعرف عشق العاشق لا بقوله بل بأفعال هي أفعال المحبين، من القيام بخدمته وبذل ماله وحضور مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس، فإن كل واحد يدل دلالة لو انفرد لاحتمل أن يكون ذلك لغرض آخر يضمره لا لحبه إياه، لكن تنتهي كثرة هذه الدلالات إلى حد يحصل لنا علم قطعي بحبه وكذلك ببغضه، إذا رؤيت منه أفعال ينتجها البغض، وكذلك نعرف غضبه وخجله لا بمجرد حمرة وجهه لكن الحمرة إحدى الدلالات، وكذلك نشهد الصبي يرتضع مرة بعد أخرى فيحصل لنا علم قطعي بوصول اللبن إلى جوفه وإن لم نشاهد اللبن في الضرع لانه مستور، ولا عند خروجه فإنه مستور بالفم، ولكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه تدل عليه دلالة ما، مع أن ذلك قد يحصل من غير وصول اللبن، لكن ينضم إليه أن المرأة الشابة لا يخلو ثديها عن لبن، ولا تخلو حلمته عن ثقب، ولا يخلو الصبي عن طبع باعث على الامتصاص مستخرج للبن، وكل ذلك يحتمل خلافه نادرا وإن لم يكن غالبا، لكن إذا انضم إليه سكوت الصبي عن بكائه مع أنه لم يتناول طعاما آخر صار قرينة، ويحتمل أن يكون بكاؤه عن وجع وسكوته عن زواله، ويحتمل أن يكون تناول شيئا آخر لم نشاهده وإن كنا نلازمه في أكثر الاوقات، ومع هذا فاقتران هذه الدلائل كاقتران الاخبار وتواترها وكل دلالة شاهدة يتطرق إليها الاحتمال، كقول كل مخبر على حياله، وينشأ من الاجتماع العلم وكأن هذا مدرك سادس من مدارك العلم سوى ما ذكرناه في المقدمة من الأوليات والمحسوسات والمشاهدات الباطنة والتجريبات والمتواترات فيلحق هذا بها، وإذا كان هذا غير منكر فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص عند انضمام قرائن إليه، لو تجرد عن القرائن لم يفد العلم، فإنه إذا أخبر خمسة أو ستة عن موت إنسان لا يحصل العلم بصدقهم، لكن إذا انضم إليه خروج والد الميت من الدار حاسر الرأس حافي الرجل ممزق الثياب مضطرب الحال يصفق وجهه ورأسه وهو رجل كبير ذو منصب ومروءة، لا يخالف عادته ومروءته والتجربه تدل عليه. وكذلك العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر يقتضي إيالة الملك وسياسة إظهاره والمخبرون من رؤساء جنود الملك، فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الايالة بالاتفاق على الكذب، ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم، فهذا يؤثر في النفس تأثيرا لا ينكر، ولا أدري لم أنكر القاضي ذلك وما برهانه على استحالته، فقد بان بهذا أن العدد يجوز أن يختلف بالوقائع وبالاشخاص فرب شخص انغرس في نفسه أخلاق تميل به إلى سرعة التصديق ببعض الاشياء، فيقوم ذلك مقام القرائن، وتقوم تلك القرائن مقام خبر بعض المخبرين، فينشأ من ذلك أن لا برهان على استحالته، فإن قيل: فهل يجوز أن يحصل العلم بقول واحد؟ قلنا: حكي عن الكعبي جوازه، ولا يظن بمعتوه تجويزه مع انتفاء القرائن، أما إذا اجتمعت قرائن فلا يبعد أن تبلغ القرائن مبلغا لا يبقى بينها وبين إثارة العلم إلا قرينة واحدة، ويقوم إخبار الواحد مقام تلك القرينة، فهذا مما لا يعرف استحالته ولا يقطع بوقوعه، فإن وقوعه إنما يعلم بالتجربة ونحن لم نجربه، ولكن قد جربنا كثيرا مما اعتقدناه جزما بقول الواحد مع قرائن أحواله، ثم انكشف أنه كان تلبيسا، وعن هذا أحال القاضي ذلك، وهذا كلام في الوقائع مع بقاء العادات على المعهود من استمرارها فأما لو قدرنا خرق هذه العادة فالله تعالى قادر على أن يحصل لنا العلم بقول واحد من غير قرينة فضلا على أن تنضم إليه القرائن. |
12-06-2012, 03:07 PM | #33 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (هل شهادة الاربعة فيها غلبة الظن؟) قطع القاضي رحمه الله بأن قول الاربعة قاصر عن العدد الكامل، لانها بينة شرعية يجوز بالإجماع للقاضي وقفها على المزكين لتحصل غلبة الظن، ولا يطلب الظن فيما علم ضرورة، وما ذكره صحيح إذا لم تكن قرينة، فإنا لا نصادف أنفسنا مضطرين إلى خبر الاربعة، أما إذا فرضت قرائن مع ذلك فلا يستحيل حصول التصديق لكن لا يكون ذلك حاصلا عن مجرد الخبر بل عن القرائن مع الخبر والقاضي رحمه الله يحيل ذلك مع القرائن أيضا.
مسألة (هل شهادة الخمسة تفيد العلم؟) قال القاضي علمت بالإجماع أن الاربعة ناقص أما الخمس فأتوقف فيها لانه لم يقم فيها دليل الإجماع، وهذا ضعيف لانا نعلم بالتجربة ذلك فكم من أخبار نسمعها من خمسة أو ستة ولا يحصل لنا العلم بها فهو أيضا ناقص لا نشك فيه. مسألة (العدد الذي يفيد التواتر) إذا قدرنا انتفاء القرائن فأقل عدد يحصل به العلم الضروري معلوم لله تعالى وليس معلوما لنا، ولا سبيل لنا إلى معرفته، فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود مكة ووجود الشافعي ووجود الانبياء عليهم السلام عند تواتر الخبر إلينا، وأنه كان بعد خبر المائة والمائتين ويعسر علينا تجربة ذلك وإن تكلفناها، وسبيل التكلف أن نراقب أنفسنا إذا قتل رجل في السوق مثلا وانصرف جماعة عن موضع القتل ودخلوا علينا يخبرونا عن قتله، فإن قول الأول يحرك الظن، وقول الثاني والثالث يؤكده، ولا يزال يتزايد تأكيده إلى أن يصير ضروريا لا يمكننا أن نشكك فيه أنفسنا، فلو تصور الوقوف على اللحظة التي يحصل العلم فيها ضرورة وحفظ حساب المخبرين وعددهم لامكن الوقوف، ولكن درك تلك اللحظة عسير، فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدا خفي التدريج، نحو تزايد عقل الصبي المميز إلى أن يبلغ حد التكليف، ونحو تزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال، فلذلك بقي هذا في غطاء من الاشكال، وتعذر على القوة البشرية إدراكه، فأما ما ذهب إليه قوم التخصيص بالاربعين أخذا من الجمعة، وقوم إلى التخصيص بالسبعين أخذا من قوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا} (الاعراف: 551) وقوم إلى التخصيص بعدد أهل بدر فكل ذلك تحكمات فاسدة باردة لا تناسب الغرض ولا تدل عليه، ويكفي تعارض أقوالهم دليلا على فسادها، فإذا لا سبيل لنا إلى حصر عدده، لكنا بالعلم الضروي نستدل على أن العدد الذي هو الكامل عند الله تعالى قد توافقوا على الاخبار، فإن قيل، فكيف علمتم حصول العلم بالتواتر وأنتم لا تعلمون أقل عدده؟ قلنا: كما نعلم أن الخبز يشبع والماء يروي والخمر يسكر، وإن كنا لا نعلم أقل مقدار منه، ونعلم أن القرائن تفيد العلم وإن لم نقدر على حصر أجناسها وضبط أقل درجاتها. مسألة (هل يكذب العدد الكامل؟) العدد الكامل إذا أخبروا ولم يحصل العلم بصدقهم فيجب القطع بكذبهم، لانه لا يشترط في حصول العلم إلا شرطان: أحدهما: كمال العدد. والثاني: أن يخبروا عن يقين ومشاهدة، فإذا كان العدد كاملا كان امتناع العلم لفوات الشرط الثاني: فنعلم أنهم بجملتهم كذبوا أو كذب بعضهم في قوله: إني شاهدت ذلك، بل بناه على توهم وظن أو كذب متعمدا، لانهم لو صدقوا وقد كمل عددهم حصل العلم ضرورة، وهذا أيضا أحد الأدلة على أن الاربعة ليسوا عدد التواتر إذ القاضي لم يحصل له العلم بصدقهم، وجاز له القضاء بغلبة الظن بالإجماع، ولو تمر عددهم لكان انتفاء العلم بصدقهم دليلا قاطعا على كذب جميعهم أو كذب واحد منهم، ولقطعنا بأن فيهم كاذبا أو متوهما، ولا يقبل شهادة أربعة يعلم أن فيهم كاذبا أو متوهما فإن قيل فإن لم يحصل العلم بقولهم وقد كثروا كثرة يستحيل بحكم العادة توافقهم على الكذب عن اتفاق، ويستحيل دخولهم تحت ضابط وتساعدهم على الكذب، بحيث ينكتم ذلك على جميعهم، ولا يتحدث به واحد منهم، فعلى ماذا يحمل كذبهم، وكيف يتصور ذلك؟ قلنا: إنما يمكن ذلك بأن يكونوا منقسمين إلى صادقين وكاذبين، أما الصادقون فعددهم ناقص عن المبلغ الذي يستقل بإفادة العلم، وأما الكاذبون فيحتمل أن يقع منهم التواطؤ لنقصان عددهم عن مبلغ يستحيل عليهم التواطؤ مع الانكتام، فإن كانوا مبلغا لا يستحيل التواطؤ عليهم مع الانكتام فلا يستحيل الانكتام في الحال إلى أن يتحدث به في ثاني الحال ونقل الشيعة نص الامامة مع كثرتها إنما لم يفد العلم لانهم لم يخبروا عن المشاهدة والسماع، بل لو سمعوا عن سلف فهم صادقون، لكن السلف الواضعون لهذا الكذب يكون عددهم ناقصا عن مبلغ يستحيل منهم التواطؤ مع الانكتام، وربما ظن الخلف أن عددهم كامل لا يستحيل عليهم التواطؤ فيخطئون في الظن فيقطعون بالحكم، ويكون هذا منشأ غلطهم. خاتمة لهذا الباب في بيان شروط فاسدة ذهب إليها قوم وهي خمسة: الأول: شرط قوم في عدد التواتر أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد، وهذا فاسد، فإن الحجيج بأجمعهم إذا أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج ومنعتهم من عرفات حصل العلم بقولهم وهم محصورون، وأهل الجامع إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت الناس من الصلاة علم صدقهم، مع أنهم يحويهم مسجد، فضلا عن بلد، وكذلك أهل المدينة إذا أخبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ حصل العلم وقد حواهم بلد. الثاني: شرط قوم أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد وتختلف أوطانهم فلا يكونوا في محلة واحدة وتختلف أديانهم، فلا يكونوا أهل مذهب واحد، وهذا فاسد لان كونهم من محلة واحدة ونسب واحد لا يؤثر إلا في إمكان تواطئهم، والكثرة إلى كمال العدد تدفع هذا الامكان، وإن لم تكن كثرة أمكن التواطؤ من بني الاعمام، كما يمكن من الاخوة ومن أهل بلد، كما يمكن من أهل محلة وكيف يعتبر اختلاف الدين ونحن نعلم صدق المسلمين إذا أخبروا عن قتل وقتنة وواقعة، بل نعلم صدق أهل قسطنطينية إذا أخبروا عن موت قيصر. فإن قيل: فلنعلم صدق النصارى في نقل التثليث عن عيسى عليه السلام وصدقهم في صلبه؟ قلنا: لم ينقلوا التثليث توقيفا وسماعا عن عيسى بنص صريح لا يحتمل التأويل، لكن توهموا ذلك بألفاظ موهمة لم يقفوا على مغزاها كما فهم المشبهة التشبيه من آيات وأخبارلم يفهموا معناها، والتواتر ينبغي أن يصدر عن محسوس، فأما قتل عيسى عليه السلام فقد صدقوا في أنهم شاهدوا شخصا يشبه عيسى عليه السلام مقتولا ولكن شبه لهم، فإن قيل: فهل يتصور التشبيه في المحسوس، فإن تصور فليشك كل واحد منا إذا رأى زوجته وولده فلعله شبه له؟ قلنا: إن كان الزمان زمان خرق العادة يجوز التشبيه في المحسوس، وذلك زمان النبوة لاثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يوجب الشك في غير ذلك الزمان، إذ لا خلاف في قدرة الله تعالى على قلب العصا ثعبانا وخرق العادة به لتصديق النبي عليه السلام، ومع ذلك إذا أخذنا العصا في زماننا لم نخف من انقلابها ثعبانا ثقة بالعادات في زماننا. فإن قيل: خرق العادة في زماننا هذا جائز كرامة للاولياء، فلعل وليا من الأولياء دعا الله تعالى بذلك فأجابه، فلنشك لامكان ذلك؟ قلنا: إذا فعل الله تعالى ذلك نزع عن قلوبنا العلم الضروري الحاصل بالعادات، فإذا وجدنا من أنفسنا علما ضروريا بأنه لم تنقلب العصا ثعبانا ولا الجبل ذهبا، ولا الحصى في الجبال جواهر ويواقيت قطعنا بأن الله تعالى لم يخرق العادة، وإن كان قدارا عليها. الثالث: شرط قوم أن يكونوا أولياء مؤمنين، وهو فاسد، إذ يحصل العلم بقول الفسقة والمرجئة والقدرية، بل بقول الروم إذا أخبروا بموت ملكهم حصل العلم. الرابع: شرط قوم أن لا يكونوا محمولين بالسيف على الاخبار، وهو فاسد، لانهم إن حملوا على الكذب لم يحصل العلم لفقد الشرط وهو الاخبار عن العلم الضروري وإن صدقوا حصل العلم، فلو أن أهل بغداد حملهم الخليفة بالسيف على الاخبار عن محسوس شاهدوه أو شهادة كتموها فأخبروا حصل العلم بقولهم. فإن قيل: هل يتصور عدد يحصل العلم بقولهم إذا أخبروا عن اختيار ولا يحصل لو أخبروا عن إكراه؟ قلنا: أجاب القاضي رحمه الله ذلك من حيث أنه لم يجعل للقرائن مدخلا، وذلك غير محال عندنا، فإنا بينا أن النفس تشعر بأن هؤلاء على كثرتهم لا يجمعهم على الكذب جامع ثم تصدق، فإذا ظهر كون السيف جامعا لم يبعد أن لا يحصل العلم. الخامس: شرط الروافض أن يكون الامام المعصوم في جملة المخبرين، وهذا يوجب العلم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، لانه معصوم، فأي حاجة إلى أخبار غيره، ويجب أن لا يحصل العلم بنقلهم على التواتر النص على علي رضي الله عنه، إذ ليس فيهم معصوم، وأن لا تلزم حجة الامام إلا على من شاهده من أهل بلده وسمع منه دون سائر البلاد، وأن لا تقوم الحجة بقول أمرائه ودعاته ورسله وقضاته، إذ ليسوا معصومين، وأن لا يعلم موت أمير وقتله ووقوع فتنة وقتال في غير مصر، وكل ذلك لازم على هذيانهم. الباب الثالث: في تقسيم الخبر إلى ما يجب تصديقه وإلى ما يجب تكذيبه وإلى ما يجب التوقف فيه وهي ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يجب تصديقه وهي سبعة. الأول: ما أخبر عنه عدد التواتر، فإنه يجب تصديقه ضرورة وإن لم يدل عليه دليل آخر، فليس في الاخبار ما يعلم صدقه بمجرد الاخبار إلا المتواتر، وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس الخبر. الثاني: ما أخبر الله تعالى عنه، فهو صدق بدليل استحالة الكذب عليه، ويدل عليه دليلان، أقواهما إخبار الرسول عليه السلام عن امتناع الكذب عليه تعالى، والثاني أن كلامه تعالى قائم بنفسه، ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل، إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم، والجهل على الله تعالى محال. الثالث: خبر الرسول عليه السلام ودليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة إظهار المعجزة على أيدي الكاذبين، لان ذلك لو كان ممكنا لعجز الباري عن تصديقه رسله والعجز عليه محال. الرابع: ما أخبر عنه الامة إذ ثبت عصمتها بقول الرسول عليه السلام المعصوم عن الكذب، وفي معناه كل شخص أخبر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عنه بأنه صادق لا يكذب. الخامس: كل خبر يوافق ما أخبر الله تعالى عنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو الامة أو من صدقه هؤلاء أو دل العقل عليه والسمع، فإنه لو كان كاذبا لكان الموافق له كذبا. السادس: كل خبر صح أنه ذكره المخبر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه ولم يكن غافلا عنه فسكت عليه، لانه لو كان كذبا لما سكت عنه ولا عن تكذيبه، ونعني به ما يتعلق بالدين. السابع: كل خبر ذكر بين يدي جماعة أمسكوا عن تكذيبه والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وامتناع السكوت لو كان كذبا، وذلك بأن يكون للخبر وقع في نفوسهم، وهم عدد يمتنع في مستقر العادة التواطؤ عليهم بحيث ينكتم التواطؤ ولا يتحدثون به، وبمثل هذه الطريقة ثبتت أكثر أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان ينقل بمشهد جماعات وكانوا يسكتون عن التكذيب مع استحالة السكوت عن التكذيب على مثلهم، فمهما كمل الشرط وترك النكير كما سبق نزل منزلة قولهم صدقت، فإن قيل، لو ادعى واحد أمرا بمشهد جماعة وادعى علمهم به فسكتوا عن تكذيبه فهل يثبت صدقه؟ قلنا: إن كان ذلك في محل النظر والاجتهاد فلا يثبت صدقه، لاحتمال أنهم اعتقدوا عن النظر ما ادعاه، وإن كان يسنده إلى مشاهدة وكانوا عددا يستحيل عليهم الدخول تحت داع واحد، فالسكوت عن تكذيبه تصديق من جهتهم، فإن قيل: وهل يدل على الصدق تواتر الخبر عن جماعة لا يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب قصدا ولا التوافق على اتفاق؟ قلنا: أحال القاضي رحمه الله ذلك، وقال قولهم يورث العلم ضرورة إن بلغوا عدد التواتر في علم الله، فإن لم يورث العلم الضروري دل على نقصان العدد ولا يجوز الاستدلال على صدقهم بالنظر في أحوالهم، بل نعلم قطعا كذبهم أو اشتمالهم على كاذب أو متوهم، وهذا على مذهبه إن لم ينظر إلى القرائن لازم، أما من نظر إلى القرائن فلا يبعد أن يعلم صدقهم بنوع من النظر، فإن قيل خبر الواحد الذي عمل به الامة هل يجب تصديقه؟ قلنا: إن عملوا على وفقه فلعلهم عملوا عن دليل آخر، وإن عملوا به أيضا فقد أمروا بالعمل بخبر الواحد وإن لم يعرفوا صدقه، فلا يلزم الحكم بصدقه، فإن قيل لو قدر الراوي كاذبا لكان عمل الامة بالباطل، وهو خطأ، ولا يجوز ذلك على الامة، قلنا: الامة ما تعبدوا إلا بالعمل بخبر يغلب على الظن صدقهم فيه، وقد غلب على ظنهم، كالقاضي إذ قضى بشهادة عدلين فلا يكون مخطئا، وإن كان الشاهد كاذبا بل يكون محقا، لانه لم يؤمر إلا به. القسم الثاني من الاخبار ما يعلم كذبه وهي أربعة: الأول: ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر، وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة المذكورة، كمن أخبر عن الجمع بين الضدين وإحياء الموتى في الحال وأنا على جناح نسر أو في لجة بحر وما يحس خلافه. الثاني: ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الامة، فإنه ورد مكذبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللامة. الثالث: ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إذا قالوا حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلا. الرابع: ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله، كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلدة قتل في السوق على ملا من الناس ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله، ولا حالت العادة اختصاصه بحكايته، وبمثل هذه الطريقة عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن ونص الرسول على نبي آخر بعده، وأنه أعقب جماعة من الأولاد الذكور، ونصه على إمام بعينه على ملا من الناس وفرضه صوم شوال وصلاة الضحى وأمثال ذلك مما إذا كان أحالت العادة كتمانه، فإن قيل: فقد تفرد الآحاد بنقل ما تتوفر الدواعي عليه حتى وقع الخلاف فيه، كإفراده صلى الله عليه وسلم الحج أو قرانه، وكدخوله الكعبة وصلاته فيها، وأنه عليه السلام نكح ميمونة وهو حرام، وأنه دخل مكة عنوة، وقبوله شهادة الاعرابي وحده على رؤية الهلال، وانفراد الاعرابي بالرؤية حتى لم يشاركه أحد فيه وانشقاق القمر، ولم ينقله إلا ابن مسعود رضي الله عنه وعدد يسير معه، وكان ينبغي أن يراه كل مؤمن وكافر وباد وحاضر، ونقل النصارى معجزات عيسى عليه السلام ولم ينقلوا كلامه في المهد، وهو من أعظم العلامات، ونقلت الامة القرآن ولم ينقلوا بقية معجزات الرسول عليه السلام كنقل القرآن في الشيوع، ونقل الناس أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام شعيب عليه السلام، ونقلت الامة سور القرآن ولم تنقل المعوذتين نقل غيرهما، حتى خالف ابن مسعود رضي الله عنه في كونهما من القرآن، وما تعم به البلوى من اللمس والمس أيضا، فكل هذا نقض على هذه القاعدة، والجواب أن إفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرانه ليس مما يجب أن ينكشف وأن ينادي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكافة، بل لا يطلع عليه إلا من أطلعه عليه أو على نيته بإخباره إياه، نعم ظهر على الاستفاضة تعليمه الناس الافراد والقران جميعا، وأما دخوله الكعبة وصلاته فيها فقد يكون ذلك مع نفر يسير ومع واحد واثنين ولا يقع شائعا، كيف ولو وقع شائعا لم تتوفر الدواعي على دوام نقله، لانه ليس من أصول الدين ولا من فرائضه ومهماته، وأما دخوله مكة عنوة فقد صح على الاستفاضة دخوله متسلحا مع الالوية والاعلام وتمام التمكن والاستيلاء وبذله الامان لمن دخل دار أبي سفيان ولمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة، وكل ذلك غير مختلف فيه، ولكن استدل بعض الفقهاء بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ودى قوما قتلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه على أنه كان صلحا، ووقوع مثل هذه الشبهة للآحاد ممكن، إلى أن تزال بالنظر وأن يكون ذلك بنهي خاص عن قوم مخصوصين، ولسبب مخصوص، وأما انفراد الاعرابي برؤية الهلال فممكن، وقد يقع مثل ذلك في زماننا في الليلة الأولى لخفاء الهلال ودقته، فينفرد به من يتحد بصره، وتصدق في الطلب رغبته، ويقع على موضع الهلال بصره عن معرفة أو اتفاق، وأما انشقاق القمر فهي آية ليلية وقعت والناس نيام، غافلون، وإنما كان في لحظة، فرآه من ناظره النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ونبهه على النظر له، وما انشق منه إلا شعبة ثم عاد صحيحا في لحظة، فكم من انقضاض كوكب وزلزلة وأمور هائلة من ريح وصاعقة بالليل لا يتنبه له إلا الآحاد على أن مثل هذا، إنما يعمله من قيل له انظر إليه فانشق عقيب القول والتحدي، ومن لم يعلم ذلك ووقع عليه بصره ربما توهم أنه خيال انقشع أو كوكب كان تحت القمر فانجلى القمر عنه، أو قطعة سحاب سترت قطعة من القمر، فلهذا لم يتواتر نقله، وأما نقلهم القرآن دون سائر الاعلام فذلك لامرين: أحدهما: أن الدواعي لا تتوفر بعد ثبوت النبوة بالقرآن واستقلالها به على نقل ما يقع بعده، بحيث تقع المداومة عليه اكتفاء بثبوتها بالقرآن الذي هو أعظم الآيات، ولان غير القرآن إنما ظهر في عمر كل واحد مرة واحدة، وربما ظهر بين يدي نفر يسير، والقرآن كان يردده طول عمره مرة بعد أخرى، ويلقيه على كافتهم قصدا، ويأمرهم بحفظه والتلاوة له والعمل بموجبه، وأما المعوذتان فقد ثبت نقلهما شائعا من القرآن كسائر السور، وابن مسعود رضي الله عنه لم ينكر كونهما من القرآن لكن أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد أيضا، لانه كانت السنة عنده أن لا يثبت إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإثباته وكتبته ولما لم يجده كتب ذلك ولا سمع أمره به أنكره، وهذا تأويل وليس جحدا لكونه قرآنا، ولو جحد ذلك لكان فسقا عظيما لا يضاف إلى مثله، ولا إلى أحد من الصحابة، وأما ترك النصارى نقل كلام عيسى عليه السلام في المهد ، فلعله لم يتكلم إلا بحضرة نفر يسير ومرة واحدة لتبرئة مريم عليها السلام عما نسبوها إليه، فلم ينتشر ذلك ولم يحصل العلم بقول من سمع ذلك منهم فاندرس فيما بينهم، وأما شعيب ومن يجري مجراه من الرسل عليهم السلام، فلم يكن لهم شريعة ينفردون بها بل كانوا يدعون إلى شريعة من قبلهم، فلم تتوفر الدواعي على نقل معجزاتهم، إذ لم يكن لهم معجزات ظاهرة، لكن ثبت صدقهم بالنص والتوقيف من نبي ذي معجزة، وأما الخبر عن اللمس والمس للذكر وما تعم به البلوى، فيجوز أن يخبر به الرسول عليه السلام عددا يسيرا ثم ينقلونه آحادا ولا يستفيض، وليس ذلك مما يعظم في الصدور وتتوفر الدواعي على التحدث به دائما. القسم الثالث: ما لا يعلم صدقه ولا كذبه فيجب التوقف فيه، وهو جملة الاخبار الواردة في أحكام الشرع والعبادات مما عدا القسمين المذكورين، وهو كل خبر لم يعرف صدقه ولا كذبه، فإن قيل: عدم قيام الدليل على صدقه يدل على كذبه، إذ لو كان صدقا لما أخلانا الله تعالى عن دليل على صدقه، قلنا: ولم يستحيل أن يخلينا عن دليل قاطع على صدقه، ولو قلب هذا وقيل يعلم صدقه لانه لو كان كذبا لما أخلانا الله تعالى عن دليل قاطع على كذبه، لكان مقاوما لهذا الكلام، وكيف يجوز ذلك، ويلزم منه أن يقطع بكذب كل شاهد لا يقطع بصدقه وكفر كل قاض ومفت وفجوره، إذا لم يعلم إسلامه وورعه بقاطع، وكذا كل قياس ودليل في الشرع لا يقطع بصحته فليقطع ببطلانه، وهذا بخلاف التحدي بالنبوة إذا لم تظهر معجزة، فإنا نقطع بكذبه، لان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كلفنا تصديقه وتصديقه بغير دليل محال وتكليف المحال محال فبه علمنا، أنا لم نكلف تصديقه، فلم يكن رسولا إلينا قطعا، أما خبر الواحد، وشهادة الاثنين فلم نتعبد فيه بالتصديق بل بالعمل عند ظن الصدق والظن حاصل، والعمل ممكن ونحن مصيبون وإن كان هو كاذبا ولو عملنا بقول شاهد واحد، فنحن مخطئون وإن كان هو صادقا، فإن قيل: إنما وجب إقامة المعجزة لنعرف صدقه فنتبعه فيما يشرعه فليجب عليه إزالة الشك فيما يبلغ من الشرع بالمشافهة والاشاعة إلى حد التواتر ليحصل العلم في حق من لم يشافهه به، قلنا لا استحالة في أن يقسم الشارع شرعه إلى ما يتعبد فيه بالعلم والعمل فيجب فيه، ما ذكرتموه وإلى ما يتعبد فيه بالعمل دون العلم: فيكون فرض من يسمع من الرسول العلم والعمل جميعا، وفرض من غاب العمل دون العلم، ويكون العمل منوطا بظن الصدق في الخبر، وإن كان هو كاذبا عند الله تعالى، وكذا الظن الحاصل من قياس وقول شاهد، ويمين المدعى عليه أو يمين المدعي مع النكول، فلا نحيل شيئا من ذلك. القسم الثاني من هذا الأصل في أخبار الآحاد وفيه أبواب الباب الأول في إثبات التعبد به مع قصوره عن إفادة العلم وفيه أربع مسائل: مسألة (هل خبر الواحد يفيد العلم؟) اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الاخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد، وأما قول الرسول عليه السلام مما علم صحته فلا يسمى خبر الواحد، وإذا عرفت هذا فنقول: خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضرورة، إنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين، وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل، إذ يسمى الظن علما، ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن، وإنما هو الظن، ولا تمسك لهم في قوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} (الممتحنة: 01) وأنه أراد الظاهر، لان المراد به العلم الحقيقي بكلمة الشهادة التي هي ظاهر الايمان دون الباطن الذي لم يكلف به، والايمان باللسان يسمى إيمانا مجازا، ولا تمسك لهم في قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (الاسراء: 63) وأن الخبر لو لم يفد العلم لما جاز العمل به، لان المراد بالآية منع الشاهد عن جزم الشهادة إلا بما يتحقق، وأما العلم بخبر الواحد فمعلوم الوجوب بدليل قاطع أوجب العمل عند ظن الصدق، والظن حاصل قطعا، ووجوب العمل عنده معلوم قطعا، كالحكم بشهادة اثنين، أو يمين المدعي مع نكول المدعى عليه. مسألة (هل يتعبد بخبر الواحد؟) أنكر منكرون جواز التعبد بخبر الواحد عقلا، فضلا عن وقوعه سمعا، فيقال لهم: من أين عرفتم استحالته؟ أبالضرورة ونحن نخالفكم فيه، ولا نزاع في الضرورة، أو بدليل ولا سبيل لهم إلى إثباته، لانه لو كان محالا لكان يستحيل، إما لذاته أو لمفسدة تتولد منه، ولا يستحيل لذاته ولا التفات إلى المفسدة، ولا نسلم أيضا لو التفتنا إليها، فلا بد من بيان وجه المفسدة، فإن قيل: وجه المفسدة أن يروي الواحد خبرا في سفك دم أو في استحلال بضع، وربما يكذب، فيظن أن سفك الدم هو بأمر الله تعالى، ولا يكون بأمره، فكيف يجوز الهجوم بالجهل؟ ومن شككنا في إباحة بضعه وسفك دمه، فلا يجوز الهجوم عليه بالشك، فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل واقتحام الباطل بالتوهم، بل إذا أمر الله تعالى بأمر فليعرفنا أمره لنكون على بصيرة، إما ممتثلون أو مخالفون، والجواب: أن هذا السؤال إن صدر ممن ينكر الشرائع فنقول له: أي استحالة في أن يقول الله تعالى لعباده إذا طار بكم طائر وظننتموه غرابا فقد أوجبت عليكم كذا وكذا، وجعلت ظنكم علامة وجوب العمل كما جعلت زوال الشمس علامة وجوب الصلاة فيكون نفس الظن علامة الوجوب والظن مدرك بالحس وجوده، فيكون الوجوب معلوما، فمن أتى بالواجب عند الظن فقد امتثل قطعا وأصاب، فإذا جاز أن يجعل الزوال أو ظن كونه غرابا علامة، فلم لا يجوز أن يجعل ظنه علامة؟ ويقال له: إذا ظننت صدق الراوي والشاهد والحالف، فاحكم به ولست متعبدا بمعرفة صدقه، ولكن بالعمل عند ظن صدقه، وأنت مصيب وممتثل صدق أو كذب، ولست متعبدا بالعلم بصدقه، ولكن بالعمل عند ظنك الذي تحسه من نفسك، وهذا ما نعتقده في القياس وخبر الواحد والحكم بالشاهد واليمين وغير ذلك، وأما إذا صدر هذا من مقر بالشرع فلا يتمكن منه، لانه تعبد بالعمل بالشهادة والحكم والفتوى ومعاينة الكعبة وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه خمسة، ثم الشهادة، قد يقطع بها كشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادة خزيمة بن ثابت حين صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادة موسى وهارون والانبياء صلوات الله عليهم، وقد يظن ذلك كشهادة غيرهم، ثم ألحق المظنون بالمقطوع به في وجوب العمل، وكذلك فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه مقطوع به وفتوى سائر الائمة وحكم سائر القضاة مظنون وألحق بالمعلوم، والكعبة تعلم قطعا بالعيان وتظن بالاجتهاد، وعند الظن يجب العمل، كما يجب عند المشاهدة، فكذلك خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يجب العمل به عند التواتر، فلم يستحيل أن يلحق المظنون بالمعلوم في وجوب العمل خاصة، ومن أراد أن يفرق بين هذه الخمسة في مفسدة أو مصلحة لم يتمكن منه أصلا، فإن قيل: فهل يجوز التعبد بالعمل بخبر الفاسق؟ قلنا: قال قوم: يجوز بشرط ظن الصدق، وهذا الشرط عندنا فاسد، بل كما يجوز أن تجعل حركة الفلك علامة التعبد بالصلاة فحركة لسان الفاسق يجوز أن تجعل علامة، فتكليف العمل عند وجود الخبر شئ، وكون الخبر صدقا أو كذبا شئ آخر. مسألة (هل يجب العمل بخبر الواحد؟) ذهب قوم إلى أن العقل يدل على وجوب العمل بخبر الواحد دون الأدلة السمعية، واستدلوا عليه بدليلين: أحدهما: أن المفتي إذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب أو إجماع أو سنة متواترة ووجد خبر الواحد، فلو لم يحكم به لتعطلت الاحكام، ولان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مبعوثا إلى أهل العصر يحتاج إلى إنفاذ الرسل، إذ لا يقدر على مشافهة الجميع ولا إشاعة جميع أحكامه على التواتر إلى كل أحد، إذ لو أنفذ عدد التواتر إلى كل قطر لم يف بذلك أهل مدينته، وهذا ضعيف، لان المفتي إذا فقد الأدلة القاطعة يرجع إلى البراءة الأصلة والاستصحاب، كما لو فقد خبر الواحد أيضا، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فليقتصر على من يقدر على تبليغه، فمن الناس في الجزائر من لم يبلغه الشرع فلا يكلف به، فليس تكليف الجميع واجبا، نعم لو تعبد نبي بأن يكلف جميع الخلق ولا يخلي واقعة عن حكم الله تعالى ولا شخصا عن التكليف، فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد ضرورة في حقه. والدليل الثاني: إنهم قالوا: صدق الراوي ممكن، فلو لم نعمل بخبر الواحد لكنا قد تركنا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فالاحتياط والحزم في العمل وهو باطل من ثلاثة أوجه: أحدها: أن كذبه ممكن، فربما يكون عملنا بخلاف الواجب. الثاني: أنه كان يجب العمل بخبر الكافر والفاسق، لان صدقه ممكن. الثالث: هو أن براءة الذمة معلومة بالعقل والنفي الأصلي فلا ترفع بالوهم، وقد استدل به قوم في نفي خبر الواحد، وهو وإن كان فاسدا فهو أقوم من قوله إن الصدق إذا كان ممكنا يجب العمل به. مسألة (هل يتعبد بخبر الواحد؟) الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير من سلف الامة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا، ولا يجب التعبد به عقلا، وأن التعبد به واقع سمعا، وقال جماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاساني بتحريم العمل به سمعا، ويدل على بطلان مذهبهم مسلكان قاطعان: أحدهما: إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد. والثاني: تواتر الخبر بإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة والرسل إلى البلاد وتكليفه إياهم تصديقهم فيما نقلوه من الشرع ونحن نقرر هذين المسلكين: المسلك الأول: ما تواتر و اشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر، وإن لم تتواتر آحادها، فيحصل العلم بمجموعها، ونحن نشير إلى بعضها: فمنها: ما روي عن عمر رضي الله عنه في وقائع كثيرة، من ذلك قصة الجنين وقيامه في ذلك يقول: أذكر الله امرءاسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا في الجنين، فقام إليه حمل بن مالك بن النابغة وقال: كنت بين جارتين (يعني ضرتين) فضربت إحداهما الاخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة، فقال عمر، لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، أي لم نقض بالغرة أصلا، وقد انفصل الجنين ميتا للشك في أصل حياته. ومن ذلك أنه كان رضي الله عنه لا يرى توريث المرأة من دية زوجها، فلما أخبره الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته رجع إلى ذلك. ومن ذلك ما تظاهرت به الاخبار عنه في قصة المجوس أنه قال: ما أدري ما الذي أصنع في أمرهم وقال: أنشد الله امرءا سمع فيهم شيئا إلا رفعه إلينا، فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأخذ الجزية منهم وأقرهم على دينهم. ومنها: ما ظهر منه ومن عثمان رضي الله عنهما وجماهير الصحابة رضي الله عنهم من الرجوع عن سقوط فرض الغسل من التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها وقولها: فعلت ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا. ومن ذلك ما صح عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى في السكنى بخبر فريعة بنت مالك بعد أن أرسل إليها وسألها. ومنها: ما ظهر من علي رضي الله عنه من قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين، حتى قال في الخبر المشهور: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني غيره أحلفته، فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يصيب ذنبا الحديث... فكان يحلف المخبر لا لتهمة بالكذب، ولكن للاحتياط في سياق الحديث على وجهه والتحرز والتحرز من تغيير لفظه نقلا بالمعنى، ولئلا يقدم على الرواية بالظن بل عند السماع المحقق. ومنها: ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان يرى أن الحائض لا يجوز لها أن تصدر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت، وأنكر على ابن عباس خلافه في ذلك، فقيل له: إن ابن عباس سأل فلانة الانصارية: هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأخبرته، فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول لابن عباس: ما أراك إلا قد صدقت: ورجع إلى موافقته بخبر الانصارية. ومنها: ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ تمر، إذا أتانا آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت. ومنها: ما اشتهر من عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد، وأنهم أتاهم آت فأخبرهم بنسخ القبلة، فانحرفوا إلى الكعبة بخبره. ومنها: ما ظهر من ابن عباس رضي الله عنه، وقد قيل أن فلانا رجلا من المسلمين يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى نبي إسرائيل عليه السلام، فقال ابن عباس: كذب عدو الله: أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر موسى والخضر بشئ يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل، فتجاوز ابن عباس العمل بخبر الواحد وبادر إلى التكذيب بأصله، والقطع بذلك لاجل خبر أبي بن كعب. ومنها: أيضا ما روي عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من آنية الذهب والورق بأكثر من وزنه، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك، فقال له معاوية: إني لا أرى بذلك بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه: لا أساكنك بأرض أبدا. ومنها: ما اشتهر عن جميعهم في أخبار لا تحصى الرجوع إلى عائشة وأم سلمة وميمونة وحفصة رضوان الله عليهن وإلى فاطمة بنت أسد، وفلانة وفلانة ممن لا يحصى كثرة، وإلى زيد وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم من الرجال والنساء والعبيد والموالي، وعلى ذلك جرت سنة التابعين بعدهم، حتى قال الشافعي رحمه الله وجدنا علي بن الحسين رضي الله عنه يعول على أخبار الآحاد، وكذلك محمد بن علي، وجبير بن مطعم، ونافع بن جبير وخارجة بن زيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وكذلك كان حال طاوس، وعطاء، ومجاهد، وكان سعيد بن المسيب يقول: أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصرف، فيثبت حديثه سنة ويقول: حدثني أبو هريرة، وعروة ابن الزبير يقول: حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان ويعترض بذلك على قضية عمر بن عبد العزيز فينقض عمر قضاءه لاجل ذلك، وكذلك ميسرة باليمن ومكحول بالشام، وعلى ذلك كان فقهاء البصرة كالحسن وابن سيرين وفقهاء الكوفة وتابعوهم، كعلقمة والاسود والشعبي ومسروق، وعليه جرى من بعدهم من الفقهاء، ولم ينكر عليهم أحد في عصر، ولو كان نكير لنقل، ولوجب في مستقر العادة اشتهاره، وتوفرت الدواعي على نقله، كما توفرت على نقل العمل به، فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه من السلف، وإنما الخلاف، حدث بعدهم، فإن قيل: لعلهم عملوا، بها مع قرائن أو بأخبار أخر صاحبتها أو ظواهر ومقاييس وأسباب قارنتها لا بمجرد هذه الاخبار كما زعمتم كما قلتم عملهم بالعموم، وصيغة الامر والنهي ليس نصا صريحا على أنهم عملوا بمجردها بل بها مع قرائن قارنتها؟ قلنا: لانهم لم ينقل عنهم لفظ، إنما عملنا بمجرد الصيغة من أمر ونهي وعموم، وقد قالوا هاهنا: لولا هذا لقضينا بغير هذا، وصرح ابن عمر رضي الله عنهما برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع بن خديج، ورجوعهم في التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها، كيف وصيغة العموم والامر والنهي قط لا تنفك عن قرينة من حال المأمور والمأمور به والآمر، أما ما يرويه الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا يقترن به حتى يكون دليلا بسببه؟ فتقدير ذلك كتقدير قرائن في عملهم بنص الكتاب، وبالخبر المتواتر وبالإجماع وذلك يبطل جميع الأدلة، وبالجملة فمناشدتهم في طلب الاخبار لا داعي لها إلا بالعمل بها، فإن قيل: فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة أيضا؟ قلنا: ذلك لفقدهم شرط قبولها كما سيأتي، وكما تركوا العمل بنص القرآن وبأخبار متواترة، لاطلاعهم على نسخها أو فوات الامر وانقراض من كان الخطاب متعلقا به. الدليل الثاني: ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الاطراف، وهم آحاد، ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات، وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع، فمن ذلك تأميره أبا بكر الصديق على الموسم سنة تسع، وإنفاذه سورة براءة مع علي، وتحميله فسخ العهود والعقود التي كانت بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم ومن ذلك توليته عمر رضي الله عنه على الصدقات، وتوليته معاذا قبض صدقات اليمن والحكم على أهلها، ومن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة متحملا ورسولا مؤديا عنه، حتى بلغه أن قريشا قتلته، فقلق لذلك، وبايع لاجله بيعة الرضوان، وقال: والله لئن كانوا قتلوه لاضرمنها عليهم نارا ومن ذلك توليته صلى الله عليه وسلم على الصدقات والجبايات قيس بن عاصم، ومالك بن نويرة، والزبرقان بن بدر، وزيد بن حارثة وعمرو بن العاص، وعمرو بن حزم، وأسامة بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم ممن يطول ذكرهم، وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه كان صلى الله عليه وسلم يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه، ولو احتاج في كل رسول إلى تنفيذ عدد التواتر معه لم يف بذلك جميع أصحابه، وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره، وتمكن منه أعداؤه من اليهود وغيرهم، وفسد النظام والتدبير، وذلك وهم باطل قطعا، فإن قيل: كان قد أعلمهم صلى الله عليه وسلم تفصيل الصدقات شفاها وبأخبار متواترة، وإنما بعثهم لقبضها؟ قلنا: ولم وجب تصديقهم في دعوى القبض وهم آحاد، ثم لم يكن بعثه صلى الله عليه وسلم في الصدقات فقط بل كان في تعليمهم الدين والحكم بين المتخاصمين وتعريف وظائف الشرع، فإن قيل: فليجب عليهم قبول أصل الصلاة والزكاة، بل أصل الدعوة والرسالة والمعجزة؟ قلنا: أما أصل الزكاة والصلاة فكان يجب قبوله، لانهم كانوا ينفذون لشرح وظائف الشرع بعد انتشار أصل الدعوة، وأما أصل والرسالة والايمان وأعلام النبوة فلا، إذ كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجب عليكم تصديقي وهم لم يعرفوا برسالته، أما بعد التصديق به فيمكن الاصغاء إلى رسله بإيجابه الاصغاء إليهم، فإن قيل: فإنما يجب قبول خبر الواحد إذا دل قاطع على وجوب العمل به، كما دل الإجماع والتواتر عندكم، فأولئك بماذا صدقوا الولاة في قولهم يجب عليكم العمل بقولنا: قلنا: قد كان تواتر إليهم من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ينفذ الولاة والرسل آحادا، كسائر الاكابر والرؤساء، ولولا علمهم بذلك لجاز للمتشكك، أن يجادل فيه إذ عرض له شك، ولكن قل ما يعرض الشك فيه مع القرائن، فإن الذي يدخل بلادنا مع منشور القضاء قد لا يخالجنا ريب في صدقه وإن لم يتواتر إلينا، ولكن بقرائن الاحوال والمعرفة لخط الكاتب وببعد جرأته على الكذب مع تعريضه للخطر في أمثال ذلك. الدليل الثالث: إن العامي بالإجماع مأمور باتباع المفتي وتصديقه، مع أنه ربما يخبر عن ظنه، فالذي يخبر بالسماع الذي لا يشك فيه أولى بالتصديق، والكذب والغلط جائزان على المفتي كما على الراوي، بل الغلط على الراوي أبعد، لان كل مجتهد وإن كان مصيبا فإنما يكون مصيبا، إذا لم يقصر في إتمام النظر، وربما يظن أنه لم يقصر ويكون قد قصر، وهذا على مذهب من يجوز تقليد مقلد الشافعي رحمه الله إذا نقل مذهبه أوقع لانه يروي مذهب غيره فكيف لا يروي قول غيره؟ فإن قيل: هذا قياس لا يفيد إلا الظن، ولا يجوز إثبات الاصول بالظن والقياس، والعمل بخبر الواحد أصل، كيف ولا ينقدح وجه الظن، فإن المجتهد مما يضطر إليه ولو كلف آحاد العوام درجة الاجتهاد تعذر ذلك، فهو مضطر إلى تقليد المفتي؟ قلنا: لا ضرورة في ذلك، بل ينبغي أن يرجع إلى البراءة الأصلية، إذ لا طريق له إلى المعرفة، كما وجب على المفتي بزعمكم إذا بلغه خبر الواحد أن يرد الخبر فيرجع إلى البراءة الأصلية إذا تعذر عليه التواتر، ثم نقول: ليس هذا قياسا مظنونا، بل هو مقطوع به بأنه في معناه، لانه لو صح العمل بخبر الواحد في الانكحة لقطعنا به في البياعات ولم يختلف الامر باختلاف المروي وهاهنا لم يختلف إلا المخبر عنه، فإن المفتي يخبر عن ظن نفسه، والراوي عن قول غيره، كما لم يفرق في حق الشاهدين بين أن يخبرا عن أنفسهما أو عن غيرهما إذا شهدا على عدالة غيرهما، أو يخبرا عن ظن أنفسهما العدالة في غيرهما الدليل الرابع: قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} (التوبة: 221) فالطائفة نفر يسير كالثلاثة، ولا يحصل العلم بقولهم، وهذا فيه نظر، لانه إن كان قاطعا فهو في وجوب الانذار لا في وجوب العمل على المنذر عنه اتحاد المنذر كما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة، لا ليعمل بها وحدها لكن إذا انضم غيرها إليها، وهذا الاعتراض هو الذي يضعف أيضا التمسك بقوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} (البقرة: 951) وبقوله صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث وأمثالهما، ثم اعلم أن المخالف في المسألة له شبهتان: الشبهة الأولى: قولهم: لا مستند في إثبات خبر الواحد إلا الإجماع، فكيف يدعي ذلك، وما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الواحد، فمن ذلك توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبول خبر ذي اليدين حيث سلم عن اثنتين، حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وشهدا بذلك وصدقاه ثم قبل، وسجد للسهو، ومن ذلك رد أبي بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة من ميراث الجد حتى أخبره معه محمد بن مسلمة، ومن ذلك رد أبي بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم فيما رواه من استئذانه الرسول في رد الحكم بن أبي العاص وطالباه بمن يشهد معه بذلك، ومن ذلك ما اشتهر من رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الاشعري في الاستئذان حتى شهد له أبو سعد الخدري رضي الله عنه، ومن ذلك رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الاشجعي في قصة بروع بنت واشق وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث، ومن ذلك رد عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وظهر من عمر نهيه لابي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك مما يكثر، وأكثر هذه الاخبار تدل على مذهب من يشترط عددا في الراوي لا على مذهب من يشترط التواتر، فإنهم لم يجتمعوا فينتظروا التواتر، لكنا نقول في الجواب عما سألوا عنه: الذي رويناه قاطع في عملهم، وما ذكرتموه رد لاسباب عارضة تقتضي الرد، ولا تدل على بطلان الأصل، كما أن ردهم بعض نصوص القرآن وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل، ونحن نشير إلى جنس المعاذير في رد الاخبار والتوقف فيها، أما توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور: أحدها: أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع وبعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع، إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير، وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف. الثاني: أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله، ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية، فحسم سبيل ذلك. الثالث: أنه قال قولا لو علم صدقا لظهر أثره في حق الجماعة، واشتغلت ذمتهم، فألحق بقبيل الشهادة، فلم يقبل فيه قول الواحد، والاقوى ما ذكرناه من قبل، نعم: لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة، فيلزمه اشتراط ثلاثة، ويلزمه أن تكون في جمع يسكت عليه الباقون، لانه كذلك كان. أما توقف أبي بكر في حديث المغيرة في توريث الجدة فلعله كان هناك وجه اقتضى التوقف، وربما لم يطلع عليه أحد، أو لينظر أنه حكم مستقر أو منسوخ، أو ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده، ليكون الحكم أوكدا أو خلافه فيندفع، أو توقف في انتظار استظهار بزيادة، كما يتسظهر الحاكم بعد شهادة اثنين على جزم الحكم إن لم يصادف الزيادة لا على عزم الرد أو أظهر التوقف لئلا يكثر الاقدام على الرواية عن تساهل، ويجب حمله على شئ من ذلك إذ ثبت منه قطعا قبول خبر الواحد وترك الانكار على القائلين به. وأما رد حديث عثمان في حق الحكم بن أبي العاص فلانه خبر عن إثبات حق لشخص فهو كالشهادة لا تثبت بقول واحد، أو توقف لاجل قرابة عثمان من الحكم، وقد كان معروفا بأنه كلف بأقاربه، فتوقف تنزيها لعرضه ومنصبه من أن يقول: متعنت، إنما قال ذلك لقرابته حتى ثبت ذلك بقول غيره، أو لعلهما توقفا ليسنا للناس التوقف في حق القريب الملاطف ليتعلم منهما التثبت في مثله. وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به سياسة عمر عن نفسه لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثا، كالمترفع عن المثول ببابه فخاف أن يصير ذلك طريقا لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه، بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر: إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز للامام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة، كيف ومثل هذه الاخبار لا تساوي في الشهرة والصحة أحاديثنا في نقل القبول عنهم. وأما رد علي خبر الاشجعي فقد ذكر علته وقال: كيف نقبل قول أعرابي بوال على عقبيه بين أنه لم يعرف عدالته وضبطه، ولذلك وصفه بالجفاء وترك التنزه عن البول كما قال عمر في فاطمة بنت قيس في حديث السكنى لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، فهذا سبيل الكلام على ما ينقل من التوقف في الاخبار. الشبهة الثانية: تمسكهم بقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (الاسراء: 63} (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (البقرة: 961) وقوله تعالى: {وما شهدنا إلا بما علمنا} (يوسف: 18) وقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة} (الحجرات: 6) والجهالة في قول العدل حاصلة، وهذا باطل من أوجه. الأول: أن إنكارهم القول بخبر الواحد غير معلوم ببرهان قاطع، بل يجوز الخطأ فيه، فهو إذا حكم بغير علم. الثاني: أن وجوب العمل به معلوم بدليل قاطع من الإجماع فلا جهالة فيه. الثالث: إن المراد من الآيات منع الشاهد عن جزم الشهادة بما لم يبصر ولم يمسع والفتوى بما لم يرو ولم ينقله العدول. الرابع: إن هذا لو دل على رد خبر الواحد لدل على شهادة الاثنين والاربعة، والرجل والمرأتين، والحكم باليمين، فكما علم بالنص في القرآن وجوب الحكم بهذه الامور مع تجويز الكذب، فكذلك بالاخبار. الخامس: أنه يجب تحريم نصب الخلفاء والقضاة، لانا لا نتيقن إيمانهم فضلا عن ورعهم، ولا نعلم طهارة إمام الصلاة عن الجنابة والحدث فليمتنع الاقتداء. |
12-06-2012, 03:08 PM | #34 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الباب الثاني في شروط الراوي وصفته وإذا ثبت وجوب العمل بخبر الواحد، فاعلم أن كل خبر فليس بمقبول، وافهم أولا أنا لسنا نعني بالقبول التصديق، ولا بالرد التكذيب، بل يجب علينا قبول قول العدل، وربما كان كاذبا أو غالطا، ولا يجوز قبول قول الفاسق، وربما كان صادقا، بل نعني بالمقبول ما يجب العمل به، وبالمردود ما لا تكليف علينا في العمل به، والمقبول رواية كل مكلف عدل مسلم ضابط، منفردا كان بروايته أو معه غيره، فهذه خمسة أمور لا بد من النظر فيها: الأول: أن رواية الواحد تقبل، وإن لم تقبل شهادته خلافا للجبائي وجماعة، حيث شرطوا العدد، ولم يقبلوا إلا قول رجلين، ثم لا تثبت رواية كل واحد إلا من رجلين آخرين، وإلى أن ينتهي إلى زماننا يكثر كثرة عظيمة لا يقدر معها على إثبات حديث أصلا، وقال قوم: لا بد من أربعة أخذا من شهادة الزنا، ودليل بطلان مذهبهم أنا نقول: إذا ثبت قبول قول الآحاد مع أنه لا يفيد العلم، فاشتراط العدد تحكم لا يعرف إلا بنص أو قياس على منصوص، ولا سبيل إلى دعوى النص، وما نقل الصحابة من طلب استظهار فهو في واقعتين أو ثلاث لاسباب ذكرناها، أما ما قضوا فيه بقول عائشة وحدها وقول زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم، فهو خارج عن الحصر، فقد علمنا قطعا من أحوالهم قبول خبر الواحد، كما علمنا قطعا رد شهادة الواحد، وإن أخذوا من قياس الشهادة فهو قياس باطل إذ عرف من فعلهم الفرق، ولم لا يقاس عليه في شرط الحرية والذكورة، واشترط في أخبار الزنا أربعة، وفيما يتعلق برؤية الهلال، وشهادة القابلة واحد، والمصير إلى ذلك خرق للإجماع، ولا فرق إن وجب القياس. الشرط الثاني: وهو الأول تحقيقا، فإن العدد ليس عندنا من الشروط، وهو التكليف، فلا تقبل رواية الصبي لانه لا يخاف الله تعالى، فلا وازع له من الكذب، فلا تحصل الثقة بقوله، وقد اتبعوا في قبول الشهادة سكون النفس وحصول الظن، والفاسق أوثق من الصبي، فإنه يخاف الله تعالى وله وازع من دينه وعقله، والصبي لا يخاف الله تعالى أصلا، فهو مردود بطريق الأولى، والتمسك بهذا أولى من التمسك برد إقراره، وإنه إذا لم يقبل قوله فيما يحكيه عن نفسه، فبأن لا يقبل فيما يرويه عن غيره أولى، فإن هذا يبطل بالعبد، فإنه قد لا يقبل إقراره وتقبل روايته، فإن كان سببه أنه يتناول ملك السيد وملك السيد معصوم عنه، فملك الصبي أيضا محفوظ عنه لمصلحته، فما لا يتعلق به قد يؤثر فيه قوله، بل حاله حتى يجوز الاقتداء به اعتمادا على قوله أنه ظاهر، وعلى أنه لا يصلي إلا طاهر، لكنه كما يجوز الاقتداء بالبر والفاجر فكذلك بالصبي والبالغ، وشهادة الفاسق لا تقبل والصبي أجرأ على الكذب منه، أما إذا كان طفلا مميزا عند التحمل، بالغا عند الرواية، فإنه يقبل، لانه لا خلل في تحمله ولا في أدائه، ويدل على قبول سماعه إجماع الصحابة على قبول خبر ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة، من غير فرق بين ما تحملوه بعد البلوغ أو قبله، وعلى ذلك درج السلف والخلف من إحضار الصبيان مجالس الرواية، ومن قبول شهادتهم فيما تحملوه في الصغر، فإن قيل: فقد قال بعض العلماء، تقبل شهادة الصبيان في الجنايات التي تجري بينهم، قلنا: ذلك منه استدلال بالقرائن، إذا كثروا وأخبروا قبل التفرق، أما إذا تفرقوا فيتطرق إليهم التلقين الباطل، ولا وازع لهم فمن قضى به، فإنما قضى به لكثرة الجنايات بينهم ولمسيس الحاجة إلى معرفته بقرائن الاحوال، فلا يكون ذلك على منهاج الشهادة. الشرط الثالث: أن يكون ضابطا، فمن كان عند التحمل غير مميز أو كان مغفلا لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه على وجهه فلا ثقة بقوله، وإن لم يكن فاسقا. الشرط الرابع: أن يكون مسلما، ولا خلاف في أن رواية الكافر لا تقبل، لانه متهم في الدين، وإن كان تقبل شهادة بعضهم على بعض عند أبي حنيفة، ولا يخالف في رد روايته، والاعتماد في ردها على الإجماع المنعقد على سلبه أهلية هذا المنصب في الدين وإن كان عدلا في دين نفسه، وهو أولى من قولنا الفاسق مردود الشهادة، والكفر أعظم أنواع الفسق، وقد قال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا} (الحجرات: 6) لان الفاسق متهم لجرأته على المعصية، والكافر المترهب قد لا يتهم، لكن التعويل على الإجماع في سلب الكافر هذا المنصب، فإن قيل: هذا يتجه في اليهود والنصارى ومن لا يؤمن بديننا، إذ لا يليق في السياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه، فما قولكم في الكافر المتأول، وهو الذي قد قال ببدعة يجب التكفير بها فهو معظم للدين، وممتنع من المعصية وغير عالم بأنه كافر، فلم لا تقبل روايته وقد قبل الشافعي رواية بعض أهل البدع، وإن كان فاسقا ببدعته، لانه متأول في فسقه؟ قلنا: في رواية المبتدع المتأول كلام سيأتي، وأما الكافر وإن كان متأولا فلا تقبل روايته، لان كل كافر متأول، فإن اليهودي أيضا لا يعلم كونه كافرا، أما الذي ليس بمتأول وهو المعاند بلسانه بعد معرفة الحق بقلبه فذلك مما يندر، وتورع المتأول عن الكذب كتورع النصراني فلا ينظر إليه بل هذا المنصب لا يتسفاد إلا بالاسلام وعرف ذلك بالإجماع لا بالقياس. الشرط الخامس: العدالة، قال الله تعالى: {لهم} (الحجرات: 6) وهذا زجر عن اعتماد قول الفاسق، ودليل على شرط العدالة في الرواية والشهادة، والعدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه، فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازغا عن الكذب، ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي، ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر، بل من الصغائر ما يرد به، كسرقة بصلة، وتطفيف في حبة قصدا، وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرئ على الكذب بالاعراض الدنيوية، كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة، نحو الاكل في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الاراذل، وإفراط المزح، والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم، فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به، وما لا فلا، وهذا يختلف بالاضافة إلى المجتهدين، وتفصيل ذلك من الفقه، لا من الاصول، ورب شخص يعتاد الغيبة، ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه، ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه، ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض، ويتفرع عن هذا الشرط مسألتان.
مسألة (تعريف العدالة) قال بعض أهل العراق العدالة عبارة عن إظهار الاسلام فقط مع سلامته عن فسق ظاهر، فكل مسلم مجهول عنده عدل، وعندنا لا تعرف عدالته إلا بخبرة باطنة والبحث عن سيرته، وسريرته، ويدل على بطلان ما قالوه أمور: الأول: أن الفاسق مردود الشهادة والرواية بنص القرآن، ولعلمنا بأن دليل قبول خبر الواحد قبول الصحابة إياه وإجماعهم، ولم ينقل ذلك عنهم إلا في العدل والفاسق، لو قبلت روايته لقبل بدليل الإجماع أو بالقياس على العدل المجمع عليه ولا إجماع في الفاسق، ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله، فصار الفسق مانعا من الرواية، كالصبا والكفر، وكالرق في الشهادة، ومجهول الحال في هذه الخصال لا يقبل قوله، فكذلك مجهول الحال في الفسق، لانه إن كان فاسقا فهو مردود الرواية، وإن كان عدلا فغير مقبول أيضا للجهل به، كما لو شككنا في صباه ورقه وكفره ولا فرق. الثاني: أنه لا تقبل شهادة المجهول وكذلك روايته، وإن منعوا شهادة المال فقد سلموا شهادة العقوبات، ثم المجهول مردود في العقوبات وطريق الثقة في الرواية والشهادة واحد وإن اختلفا في بقية الشروط. الثالث: أن المفتي المجهول الذي لا يدري أنه بلغ رتبة الاجتهاد أم لا يجوز للعامي قبول قوله، وكذلك إذا لم يدر أنه عالم أم لا، بل سلموا أنه لو لم تعرف عدالته وفسقه فلا يقبل، وأي فرق بين حكاية المفتي عن نفسه اجتهاده وبين حكايته خبرا عن غيره. الرابع: أن شهادة الفرع لا تسمع ما لم يعين الفرع شاهد الأصل، وهو مجهول عند القاضي، فلم يجب تعيينه وتعريفه إن كان قول المجهول مقبولا، وهذا رد على من قبل شهادة المجهول ولا جواب عنه، فإن قيل: يلزمه ذكر شاهد الأصل، فلعل القاضي يعرفه بفسق فيرد شهادته؟ قلنا: إذا كان حد العدالة هو الاسلام من غير ظهور فسق فقد تحقق ذلك، فلم يجب التتبع حتى يظهر الفسق ثم يبطل ما ذكره بالخبر المرسل فإنهم لم يوجبوا ذكر الشيخ، ولعل المروي له يعرف فسقه. الخامس: أن مستندنا في خبر الواحد عمل الصحابة، وهم قد ردوا خبر المجهول، فرد عمر رضي الله عنه فاطمة بنت قيس وقال: كيف نقبل قول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت؟ ورد علي خبر الاشجعي في المفوضة وكان يحلف الراوي، وإنما يحلف من عرف من ظاهره العدالة دون الفسق، ومن رد قول المجهول منهم كان لا ينكر عليه غيره، فكانوا بين راد وساكت، وبمثله ظهر إجماعهم في قبول العدل، إذ كانوا بين قابل وساكت غير منكر ولا معترض. السادس: ما ظهر من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه العدالة والعفاف، وصدق التقوى ممن كان ينفذه للاعمال وأداء الرسالة، وإنما طلب الاشد التقوى، لانه كان قد كلفهم أن لا يقبلوا إلا قول العدل، فهذه أدلة قوية في محل الاجتهاد، قريبة من القطع، والمسألة اجتهادية لا قطعية. شبه الخصوم وهي أربع: الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الاعرابي وحده على رؤية الهلال، ولم يعرف منه إلا الاسلام، قلنا: وكونه أعرابيا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بالوحي، وإما بالخبرة، وإما بتزكية من عرف حاله، فمن يسلم لكم أنه كان مجهولا عنده. الثانية: أن الصحابة قبلوا قول العبيد والنسوان والاعراب، لانهم لم يعرفوهم بالفسق، وعرفوهم بالاسلام، قلنا: إنما قبلوا قول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواج أصحابه، وكانت عدالتهن وعدالة مواليهم مشهورة عندهم، وحيث جهلوا ردوا كرد قول الاشجعي، وقول فاطمة بنت قيس. الثالثة: قولهم: لو أسلم كافر وشهد في الحال أو روى، فإن قلتم: لا نقبل شهادته، فهو بعيد، وإن قبلتم فلا مستند للقبول إلا إسلامه وعدم معرفة الفسق منه، فإذا انقضت مدة ولم نعرف منه فسقا لطول مدة إسلامه لم نوجب رده؟ قلنا: لا نسلم قبول روايته، فقد يسلم الكذوب ويبقى على طبعه، فما لم نطلع على خوف في قلبه وازع عن الكذب لا نقبل شهادته، والتقوى في القلب، وأصله الخوف، وإنما تدل عليه أفعاله في مصادره وموارده، فإن سلمنا قبول روايته فذلك لطرق إسلامه وقرب عهده، بالدين وشتان بين من هو في طراوته وبدايته، وبين من قسا قلبه بطول الالف، فإن قيل: إذا رجعت العدالة إلى هيئة باطنة في النفس وأصلها الخوف وذلك لا يشاهد، بل يستدل عليه بما ليس بقاطع، بل هو مغلب على الظن، فأصل ذلك الخوف هو الايمان، فذلك يدل على الخوف دلالة ظاهرة فلنكتف به، قلنا: لا يدل عليه، فإن المشاهدة والتجربة دلت على أن عدد فساق المؤمنين أكثر من عدد عدولهم، فكيف نشكك نفوسنا فيما عرفناه يقينا، ثم هلا أكتفي بذلك في شهادة العقوبات وشهادة الأصل وحال المفتي في العدالة وسائر ما سلموه. الرابعة: قولهم: يقبل قول المسلم المجهول في كون اللحم لحم ذكي، وكون الماء في الحمام طاهرا وكون الجارية المبيعة رقيقة غير مزوجة ولا معتدة حتى يحل الوطئ بقوله، وقول المجهول في كونه متطهرا للصلاة عن الحدث والجنابة إذا أم الناس، وكذلك قول من يخبر عن نجاسة الماء وطهارته بناء على ظاهر الاسلام، وكذلك قول من يخبر الاعمى عن القبلة، قلنا: أما قول العاقد فمقبول، لا لكونه مجهولا، لكنه مع ظهو ر الفسق، وذلك رخصة لكثرة الفساق، ولمسيس حاجتهم إلى المعاملات، وكذلك جواز الاقتداء بالبر والفاجر، فلا يشترط الستر، أما الخبر عن القبلة وعن طهارة الماء فلم يحصل سكون النفس بقول المخبر فلا يجب قبوله، والمجهول لا تسكن النفس إليه، بل سكون النفس إلى قول فاسق جرب باجتناب الكذب أغلب منه إلى قول المجهول، وما يخص العبد بينه وبين الله تعالى، فلا يبعد أن يرد إلى سكون نفسه، فأما الرواية والشهادة فأمرهما أرفع، وخطرهما عام، فلا يقاسان على غيرهما وهذه صور ظنية اجتهادية، أما رد خبر الفاسق والمجهول فقريب من القطع. مسألة (هل تقبل شهادة الفاسق المتأول؟) الفاسق المتأول، وهو الذي لا يعرف فسق نفسه، اختلفوا في شهادته، وقد قال الشافعي: أقبل شهادة الحنفي وأحده، إذا شرب النبيذ، لان هذا فسق غير مقطوع به إنما المقطوع به فسق الخوارج الذين استباحوا الديار وقتلوا الذراري وهم لا يدرون أنهم فسقة، وقد قال الشافعي: تقبل شهادة أهل الاهواء، لا الخطابية من الرافضة، لانهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب، واختار القاضي أنه لا تقبل رواية المبتدع وشهادته لانه فاسق بفعله وبجهله بتحريم فعله، ففسقه مضاعف، وزعم أن جهله بفسق نفسه كجهله بكفر نفسه ورق نفسه، ومثار هذا الخلاف أن الفسق يرد الشهادة لانه نقصان منصب يسلب الاهلية كالكفر والرق أو هو مردود القول للتهمة، فإن كان للتهمة فالمبتدع متورع عن الكذب فلا يتهم، وكلام الشافعي مشير إلى هذا، وهو في محل الاجتهاد، فذهب أبي حنيفة أن الكفر والفسق لا يسلبان الاهلية، بل يوجبان التهمة، ولذلك قبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ومذهب القاضي أن كليهما نقصان منصب يسلب الاهلية، ومذهب الشافعي أن الكفر نقصان، والفسق موجب للرد للتهمة، وهذا هو الاغلب على الظن عندنا. فإن قيل: هذا مشكل على الشافعي من وجهين: أحدهما: أنه قضى بأن النكاح لا ينعقد بشهادة الفاسق وذلك لسلب الاهلية، الثاني: أنه إن كان للتهمة، فإذا غلب على ظن القاضي صدقه فليقبل. قلنا: أما الأول فأخذه قوله صلى الله عليه وسلم: لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل وللشارع أن يشترط زيادة على أهلية الشهادة، كما شرط في الولي، وكما شرط في الزنا زيادة عدد. وأما الثاني: فسببه أن الظنون تختلف، وهو أمر خفي ناطه الشرع بسبب ظاهر وهو عدد مخصوص ووصف مخصوص، وهو العدالة، فيجب اتباع السبب الظاهر دون المعنى الخفي، كما في العقوبات، وكما في رد شهادة الوالد لاحد ولديه على الآخر، فإنه قد يتهم وترد شهادته لان الابوة مظنة للتهمة، فلا ينظر إلى الحال، وإنما مظنة التهمة ارتكاب الفسق مع المعرفة دون من لا يعرف ذلك، ويدل أيضا على مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الاخبار والشهادة وكانوا فسقة متأولين، وعلى قبول ذلك درج التابعون، لانهم متورعون عن الكذب جاهلون بالفسق، فإن قيل: فهل يمكن دعوى الإجماع في ذلك؟ قلنا: لا، فإنا نعلم أن عليا والائمة قبلوا قول قتلة عثمان والخوارج، لكن لا نعلم ذلك من جميع الصحابة، فلعل فيهم من أضمر إنكارا، لكن لم يرد على الامام في محل الاجتهاد، فكيف ولو قبل جميعهم خبرهم، فلا يثبت أن جميعهم اعتقدوا فسقهم، وكيف يفرض والخوارج من جملة أهل الإجماع، وما اعتقدوا فسق أنفسهم، بل فسق خصومهم، وفسق عثمان وطلحة، ووافقهم عليه عمار بن ياسر، وعدي بن حاتم، وابن الكواء، والاشتر النخعي وجماعة من الامراء، وعلي في تقية من الانكار عليهم خوف الفتنة، فإن قيل لو لم يعتقدوا فسق الخوارج لفسقوا قلنا ليس كذلك، فليس الجهل بما يفسق ويكفر فسقا وكفرا، وعلى الجملة فقبولهم روايتهم يدل على أنهم اعتقدوا رد خبر الفاسق: للتهمة، ولم يتهموا المتأول، والله أعلم. خاتمة جامعة للرواية والشهادة اعلم أن التكليف والاسلام ولعدالة والضبط يشترك فيه الرواية والشهادة، فهذه أربعة، أما الحرية والذكورة والبصر والقرابة والعدد والعداوة، فهذه الستة تؤثر في الشهادة دون الرواية، لان الرواية حكمها عام لا يختص بشخص حتى تؤثر فيه الصداقة والقرابة والعداوة، فيروي أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، ويروي كل ولد عن والده، والضرير الضابط للصوت تقبل روايته، وإن لم تقبل شهادته، إذ كانت الصحابة يروون عن عائشة اعتمادا على صوتها، وهم كالضرير في حقها، ولا يشترط كون الراوي عالما فقيها، سواء خالف ما رواه القياس أو وافق، إذ رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فلا يشترط إلا الحفظ، ولا يشترط مجالسة العلماء وسماع الاحاديث، بل قبل الصحابة قول أعرابي لم يرو إلا حديثا واحدا، نعم: إذا عارضه حديث العالم الممارس ففي الترجيح نظر سيأتي، ولا تقبل رواية من عرف باللعب والهزل في أمر الحديث أو التساهل في أمر الحديث، أو بكثرة السهو فيه، إذ تبطل الثقة بجميع ذلك، أما الهزل والتساهل في حديث نفسه فقد لا يوجب الرد، ولا يشترط كون الراوي معروف النسب، بل إذا عرف عدالة شخص بالخبرة قبل حديثه، وإن لم يكن له نسب، فضلا عن أن يكون لا يعرف نسبه، ولو روى عن مجهول العين لم نقبله، بل من يقبل رواية المجهول صفته لا يقبل رواية المجهول عينه، إذ لو عرف عينه ربما عرفه بالفسق، بخلاف من عرف عينه ولم يعرفه بالفسق، فلو روى عن شخص ذكر اسمه واسمه مردد بين مجرح وعدل فلا يقبل لاجل التردد الباب الثالث في الجرح والتعديل وفيه أربعة فصول الأول: في عدد المزكى وقد اختلفوا فيه، فشرط بعض المحدثين العدد في المزكى والجارح، كما في مزكى الشاهد، وقال القاضي: لا يشترط العدد في تزكية الشاهد، ولا في تزكية الراوي، وإن كان الاحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكى، وقال قوم: يشترط في الشهادة دون الرواية، وهذه مسألة فقهية، والاظهر عندنا أنه يشترط في الشهادة دون الرواية، وهذا لان العدد الذي تثبت به الرواية لا يزيد على نفس الرواية، فإن قيل: صح من الصحابة قبول رواية الواحد، ولم يصح قبول تزكية الواحد فيرجع فيه إلى قياس الشرع؟ قلنا: نحن نعلم مما فعلوه كثيرا مما لم يفعلوه، إذ نعلم أنهم كما قبلوا حديث الصديق رضي الله عنه، كانوا يقبلون تعديله لمن روى الحديث، وكيف يزيد شرط الشئ على أصله، والاحصان يثبت بقول اثنين، وإن لم يثبت الزنا إلا بأربعة، ولم يقس عليه، وكذلك نقول: تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية، كما تقبل روايتهما، وهذه مسائل فقهية ثبتت بالمقاييس الشبيهة فلا معنى للاطناب فيها في الاصول. الفصل الثاني في ذكر سبب الجرح والتعديل قال االشافعي: يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل إذ قد يجرح بما لا يراه جارحا لاختلاف المذاهب فيه، وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد، وقال قوم: مطلق الجرح يبطل الثقة، ومطلق التعديل لا يحصل الثقة، لتسارع الناس إلى البناء على الظاهر، فلا بد من ذكر سببه، وقال قوم: لا بد من السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين وقال القاضي: لا يجب ذكر المسبب فيهما جميعا لانه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن فلا يصلح للتزكية، وإن كان بصيرا فأي معنى للسؤال، والصحيح عندنا أن هذا يختلف باختلاف حال المزكي، فمن حصلت الثقة ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه، ومن عرفت عدالته في نفسه ولم تعرف بصيرته بشروط العدالة فقد نراجعه إذا فقدنا عالما بصيرا به، وعند ذلك نستفصله، أما إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح، فإن الجارح أطلع على زيادة ما أطلع عليها المعدل ولا نفاها، فإن نفاها بطلت عدالة المزكي، إذ النفي لا يعلم إلا إذا جرحه بقتل إنسان، فقال المعدل: رأيته حيا بعده، تعارضا وعدد المعدل إذا زاد، قيل: إنه يقدم على الجارح، وهو ضعيف، لان سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على مزيد، ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد. الفصل الثالث في نفس التزكية وذلك إما بالقول أو بالرواية عنه، أو بالعمل بخبره أو بالحكم بشهادته، فهذه أربعة: أعلاها: صريح القول، وتمامه أن يقول، هو عدل رضا، لاني عرفت منه كيت وكيت، فإن لم يذكر السبب وكان بصيرا بشروط العدالة كفى. الثانية: أن يروي عنه خبرا، وقد اختلفوا في كونه تعديلا، والصحيح أنه إن عرف من عادته أو بصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا من عدل كانت الرواية تعديلا، وإلا فلا، إذ من عادة أكثرهم الرواية من كل من سمعوه، ولو كلفوا الثناء عليهم سكتوا، فليس في روايته ما يصرح بالتعديل، فإن قيل: لو عرفه بالفسق ثم روى عنه كان غاشا في الدين؟ قلنا: لم نوجب على غيره العمل، لكن قال: سمعت فلانا، قال كذا وصدق فيه، ثم لعله لم يعرفه بالفسق ولا العدالة، فروى ووكل البحث إلى من أراد القبول. الثالثة: العمل بالخبر إن أمكن حمله على الاحتياط أو على العمل بدليل آخر وافق الخبر، فليس بتعديل، وإن عرفنا يقينا أنه عمل بالخبر، فهو تعديل، إذ لو عمل بخبر غير العدل لفسق وبطلت عدالته، فإن قيل: لعله ظن أن مجرد الاسلام مع عدم الفسق عدالة قلنا: هذا يتطرق إلى التعديل بالقول ونحن نقول: العمل كالقول، وهذا الاحتمال ينقطع بذكر سبب العدالة، وما ذكرناه تفريع على الاكتفاء بالتعديل المطلق، إذ لو شرط ذكر السبب لشرط في شهادة البيع والنكاح عد جميع شرائط الصحة، وهو بعيد، فإن قيل: لعله عرفه عدلا ويعرفه غيره بالفسق؟ قلنا: من عرفه لا جرم لا يلزمه العمل به، كما لو عدل جريحا. الرابعة: أن يحكم بشهادته، فذلك أقوى من تزكيته بالقول، أما ترك الحكم بشهادته وبخبره فليس جرحا، إذ قد يتوقف في شهادة العدل وروايته لاسباب سوى الجرح، كيف وترك العمل لا يزيد على الجرح المطلق، وهو غير مقبول عند الاكثرين، وبالجملة: إن لم ينقدح وجه لتزكية العمل من تقديم أو دليل آخر فهو كالجرح المطلق. الفصل الرابع في عدالة الصحابة رضي الله عنهم والذي عليه سلف الامة وجماهير الخلف أن عدالتهم معلومة بتعديل الله عزوجل إياهم وثنائه عليهم في كتابه، فهو معتقدنا فيهم، إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به، وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل، قال الله تعالى: {بصير} (آل عمران: 011) وقال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: 341) وهو خطاب مع الموجودين في ذلك العصر، وقال تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح: 81) وقال عزوجل: {والسابقون الأولون} (التوبة: 100) وقد ذكر الله تعالى: المهاجرين والانصار في عدة مواضع، وأحسن الثناء، عليهم، وقال صلى الله عليه وسلم: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، وقال صلى الله عليه وسلم: لو أنفق أحدكم مل ء الارض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله اختار لي أصحابا وأصهارا وأنصارا فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب سبحانه وتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والاموال وقتل الآباء والاهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته، كفاية في القطع بعدالتهم، وقد زعم قوم أن حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث، وقال قوم حالهم العدالة في بداية الامر إلى ظهور الحرب والخصومات ثم تغير الحال وسفكت الدماء، فلا بد من البحث، وقال جماهير المعتزلة: عائشة وطلحة والزبير وجميع أهل العراق والشام فساق بقتال الامام الحق، وقال قوم من سلف القدرية: يجب رد شهادة علي وطلحة والزبير مجتمعين ومفترقين، لان فيهم فاسقا لا نعرفه بعينه، وقال قوم: نقبل شهادة كل واحد إذا انفرد، لانه لم يتعين فسقه، أما إذا كان مع مخالفه فشهدا ردا إذ نعلم أن أحدهما فاسق، وشك بعضهم في فسق عثمان وقتلته، وكل هذا جراءة على السلف على خلاف السنة، بل قال قوم: ما جرى بينهم ابتنى على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد والمخطئ معذور لا ترد شهادته، وقال قوم: ليس ذلك مجتهدا فيه، ولكن قتلة عثمان والخوارج مخطئون قطعا، لكنهم جهلوا خطأهم وكانوا متأولين، والفاسق المتأول لا ترد روايته، وهذا أقرب من المصير إلى سقوط تعديل القرآن مطلقا، فإن قيل: القرآن أثنى على الصحابة، فمن الصحابة من عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من لقيه مرة أو من صحبه ساعة أو من طالت صحبته وما حد طولها قلنا: الاسم لا يطلق إلا على من صحبه، ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة، ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته ويعرف ذلك بالتواتر والنقل الصحيح وبقول الصحابي: كثرت صحبتي، ولا حد لتلك الكثرة بتقدير بل بتقريب. |
12-06-2012, 03:09 PM | #35 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الباب الرابع في مستند الراوي وكيفية ضبطه ومستنده إما قراءة الشيخ عليه أو قراءته على الشيخ أو إجازته أو مناولته أو رؤيته بخطه في كتاب، فهي خمس مراتب: الأولى. وهي الاعلى قراءة الشيخ في معرض الاخبار ليروى عنه، وذلك يسلط الراوي على أن يقول: حدثنا وأخبرنا وقال فلان وسمعته يقول. الثانية: أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت، فهو كقوله: هذا صحيح، فتجوز الرواية به، خلاف لبعض أهل الظاهر، إذ لو لم يكن صحيحا لكان سكوته وتقريره عليه فسقا قادحا في عدالته، ولو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكذب إذا نطق بكونه صحيحا، نعم لو كان ثم مخيلة قلة اكتراث أو غفلة فلا يكفي السكوت، وهذا يسلط الراوي على أن يقول: أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه، أما قوله: حدثنا مطلقا، أو سمعت فلانا، اختلفوا فيه، والصحيح أنه لا يجوز، لانه يشعر بالنطق، لان الخبر والحديث والمسموع كل ذلك نطق، وذلك منه كذب، إلا إذا علم بصريح قوله أو بقرينة حاله أنه يريد به القراءة على الشيخ دون سماع حديثه. الثالثة: الاجازة، وهو أن يقول: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني، أو ما صح عندك من مسموعاتي، وعند ذلك يجب الاحتياط في تعيين المسموع أما إذا اقتصر على قوله: هذا مسموعي من فلان، فلا تجوز الرواية عنه، لانه لم يأذن في الرواية فلعله لا يجوز الرواية لخلل يعرفه فيه وإن سمعه، وكذلك لو قال: عندي شهادة لا يشهد ما لم يقل أذنت لك في أن تشهد على شهادتي، أو لم تقم تلك الشهادة في مجلس الحكم، لان الرواية شهادة، والانسان قد يتساهل في الكلام، لكن عند جزم الشهادة قد يتوقف، ثم الاجازة تسلط الراوي على أن يقول: حدثنا وأخبرنا إجازة، أما قوله: حدثنا مطلقا، جوزه قوم، وهو فاسد، لانه يشعر بسماع كلامه، وهو كذب كما ذكرناه في القراءة على الشيخ. الرابعة: المناولة، وصورته أن يقول: خذ هذا الكتاب وحدث به عني، فقد سمعته من فلان ومجرد المناولة دون هذا اللفظ لا معنى له، وإذا وجد هذا اللفظ فلا معنى للمناولة فهو زيادة تكلف أحدثه بعض المحدثين بلا فائدة، كما يجوز رواية الحديث بالاجازة، فيجب العمل به، خلافا لبعض أهل الظاهر، لان المقصود معرفة صحة الخبر لا عين الطريق المعرف، وقوله: هذا الكتاب مسموعي فاروه عني في التعريف، كقراءته والقراءة عليه، وقولهم: إنه قادر على أن يحدثه به فهو كذلك، لكن أي حاجة إليه، ويلزم أن لا تصح القراءة عليه، لانه قادر على القراءة بنفسه، ويجب أن لا يروى في حياة الشيخ، لانه قادر على الرجوع إلى الأصل كما في الشهادة، فدل أن هذا لا يعتبر في الرواية. الخامسة: الاعتماد على الخط بأن يرى مكتوبا بخطه إني سمعت على فلان كذا، فلا يجوز أن يروي عنه، لان روايته شهادة عليه بأنه قاله والخط لا يعرفه هذا، نعم: يجوز أن يقول: رأيت مكتوبا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان، فإن الخط أيضا قد يشبه الخط، أما إذا قال: هذا خطي قبل قوله، ولكن لا يروي عنه ما لم يسلطه على الرواية بصريح قوله أو أما بقرينة حاله في الجلوس لرواية الحديث، أما إذا قال عدل: هذه نسخة صحيحة من صحيح البخاري مثلا فرأى فيه حديثا فليس له أن يروي عنه، لكن هل يلزمه العمل إن كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد، وإن كان مجتهدا فقال قوم: لا يجوز له العلم به ما لم يسمعه، وقال قوم: إذا علم صحة النسخة بقول عدل جاز العمل، لان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد، وكان الخلق يعتمدون تلك الصحف بشهادة حامل الصحف بصحته دون أن يسمعه كل واحد منه، فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن، وعلى الجملة: فلا ينبغي أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولا وحفظه وضبطه إلى وقت الاداء، بحيث يعلم أن ما أداه هو الذي سمعه، ولم يتغير منه حرف، فإن شك في شئ منه فليترك الرواية. ويتفرع عن هذا الأصل مسائل:
مسألة (الشك في الرواية) إذا كان في مسموعاته عن الزهري مثلا حديث واحد شك أنه سمعه من الزهري أم لا لم يجز له أن يقول: سمعت الزهري، ولا أن يقول: قال الزهري، لان قوله قال الزهري شهادة على الزهري، فلا يجوز إلا عن علم، فلعله سمعه من غيره، فهو كمن سمع إقرارا ولم يعلم أن المقر زيد وعمرو، فلا يجوز أن يشهد على زيد، بل نقول: لو سمع مائة حديث من شيخ وفيها حديث واحد علم أنه لم يسمعه، ولكنه التبس عليه عينه فليس له روايته، بل ليس له رواية شئ من الاحاديث عنه، إذ ما من حديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي لم يسمعه، ولو غلب على ظنه في حديث أنه مسموع من الزهري لم تجز الرواية بغلبة الظن، وقال قوم: يجوز، لان الاعتماد في هذا الباب على غلبة الظن، وهو بعيد لان الاعتماد في الشهادة على غلبة الظن، ولكن في حق الحاكم، فإنه لا يعلم صدق الشاهد، أما الشاهد فينبغي أن يتحقق، لان تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم فيما تمكن فيه المشاهدة ممكن، وتكليف الحاكم أن لا يحكم إلا بصدق الشاهد محال، وكذلك الراوي لا سبيل له إلى معرفة صدق الشيخ، ولكن له طريق إلى معرفة قوله بالسماع، فإذا لم يتحقق فينبغي أن لا يروي، فإن قيل: فالواحد في عصرنا يجوز أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتحقق ذلك، قلنا: لا طريق له إلى تحقق ذلك، ولا يفهم من قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمعه، لكن يفهم منه أنه سمع هذا الحديث من غيره، أو رواه في كتاب يعتمد عليه، وكل من سمع ذلك لا يلزمه العمل به، لانه مرسل لا يدري من أين يقوله وإنما يلزم العمل إذا ذكر مستنده حتى ينظر في حاله وعدالته والله أعلم. مسألة (تكذيب الشيخ الراوي) إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد قاطع بكذب الراوي ولم يعمل به لم يصر الراوي مجروحا، لان الجرح ربما لا يثبت بقول واحد، ولانه مكذب شيخه، كما أن شيخه مكذب له، وهما عدلان فهما كبينتين متكاذبتين، فلا يوجب الجرح، أما إذا أنكر إنكار متوقف وقال: لست أذكره، فيعمل بالخبر، لان الراوي جازم أنه سمعه منه، وهو ليس بقاطع بتكذيبه وهما عدلان، فصدقهما إذا ممكن، وذهب الكرخي إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطل الحديث، وبنى عليه اطراح خبر الزهري أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها واستدل بأنه الأصل، ولانه ليس للشيخ أن يعمل بالحديث والراوي فرعه، فكيف يعمل به؟ قلنا: للشيخ أن يعمل به إذا روى العدل له عنه، فإن بقي شك له مع رواية العدل فليس له العمل به، وعلى الراوي العمل إذا قطع بأنه سمع وعلى غيرهما العمل جمعا بين تصديقهما، والحاكم يجب عليه العمل بقول الشاهد المزور الظاهر العدالة، ويحرم على الشاهد، ويجب على العامي العمل بفتوى المجتهد، وإن تغير اجتهاده إذا لم يعلم تغير اجتهاده، والمجتهد لا يعمل به بعد التغير، لانه علمه، فعمل كل واحد على حسب حاله، وقد ذهب إلى العمل به مالك والشافعي وجماهير المتكلمين، وهذا لان النسيان غالب على الانسان، وأي محدث يحفظ في حينه جميع ما رواه في عمره، فصار كشك الشيخ في زيادة في الحديث أو في إعراب في الحديث، فإن ذلك لما لم يبطل الحديث لكثر وقوع الشك فيه، فكذلك أصل الحديث. مسألة (هل تقبل زيادة الثقة بالحديث؟) انفراد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة مقبول عند الجماهير سواء كانت الزيادة من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى، لانه لو انفرد بنقل حديث عن جميع الحفاظ لقبل، فكذلك إذا انفرد بزيادة، لان العدل لا يتهم بما أمكن، فإن قيل: يبعد انفراده بالحفظ مع إصغاء الجميع، قلنا: تصديق الجميع أولى إذا كان ممكنا، وهو قاطع بالسماع والآخرون ما قطعوا بالنفي، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذكره في مجلسين، فحيث ذكر الزيادة لم يحضر إلا الواحد، أو كرر في مجلس واحد، وذكر الزيادة في إحدى الكرتين ولم يحضر إلا الواحد، ويحتمل أن يكون راوي النقص دخل في أثناء المجلس فلم يسمع التمام، أو اشتركوا في الحضور ونسوا الزيادة، إلا واحدا، أو طرأ في أثناء الحديث سبب شاغل مدهش، فغفل به البعض عن الاصغاء، فيختص بحفظ الزيادة المقبل على الاصغاء، أو عرض لبعض السامعين خاطر شاغل عن الزيادة، أو عرض له مزعج يوجب قيامه قبل التمام فإذا احتمل ذلك فلا يكذب العدل ما أمكن. مسألة (هل تقبل رواية بعض الخبر؟) رواية بعض الخبر ممتنعة عند أكثر من منع نقل الحديث بالمعنى، ومن جوز النقل على المعنى جوز ذلك إن كان قد رواه مرة بتمامه، ولم يتعلق المذكور بالمتروك تعلقا يغير معناه، وأما إذا تعلق، كشرط العبادة أو ركنها أو ما به التمام، فنقل البعض تحريف وتلبيس، أما إذا روى الحديث مرة تاما ومرة ناقصا نقصانا لا يغير فهو جائز، ولكن بشرط أن لا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة، فإذا علم أنه يتهم باضطراب النقل وجب عليه الاحتراز عن ذلك. مسألة (هل يصح رواية الحديث بالمعنى؟) نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الالفاظ، أما العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والاظهر والعام والاعم فقد جوز له الشافعي ومالك وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء أن ينقله على المعنى إذا فهمه، وقال فريق: لا يجوز له إلا إبدال بما يرادفه ويساويه في المعنى، كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة والابصار بالاحساس بالبصر والحظر بالتحريم وسائر ما لا يشك فيه، وعلى الجملة ما لا يتطرق إليه تفاوت بالاستنباط والفهم، وإنما ذلك فيما فهمه قطعا لا فيما فهمه بنوع استدلال يختلف فيه الناظرون، ويدل على جواز ذلك للعالم الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم، فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها فلان يجوز عربية بعربية ترادفها وتساويها أولى، وكذلك كان سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد يبلغونهم أوامره بلغتهم، وكذلك من سمع شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم، فله أن يشهد على شهادته بلغة أخرى، وهذا لانا نعلم أنه لا تعبد في اللفظ، وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق، وليس ذلك، كالتشهد والتكبير وما تعبد فيه باللفظ، فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. قلنا: هذا هو الحجة، لانه ذكر العلة وهو اختلاف الناس في الفقه، فما لا يختلف الناس فيه من الالفاظ المترادفة، فلا يمنع منه، وهذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، وإن أمكن أن تكون جميع الالفاظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، لكن الاغلب أنه حديث واحد، ونقل بألفاظ مختلفة، فإنه روى: رحم الله امرءا ونضر الله امرءا وروي: ورب حامل فقه لا فقه له وروى: حامل فقه غير فقيه وكذلك الخطب المتحدة والوقائع المتحدة رواها الصحابة رضي الله عنهم بألفاظ مختلفة فدل ذلك على الجواز. مسألة (هل يقبل الحديث المرسل أم لا؟) المرسل مقبول عند مالك وأبي حنيفة والجماهير، ومردود عند الشافعي والقاضي، وهو المختار، وصورته أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يعاصره، أو قال: من لم يعاصر أبا هريرة، قال أبو هريرة: والدليل أنه لو ذكر شيخه ولم يعدله وبقي مجهولا عندنا لم نقبله، فإذا لم يسمه فالجهل أتم فمن لا يعرف عينه كيف تعرف عدالته، فإن قيل: رواية العدل عنه تعديل، فالجواب من وجهين: الأول: أنا لا نسلم، فإن العدل قد يروي عمن لو سئل عنه لتوقف فيه أو جرحه، وقد رأيناهم رووا عمن إذا سئلوا عنه عدلوه مرة وجرحوه أخرى، أو قالوا، لا ندري، فالراوي عنه ساكت عن تعديله، ولو كان السكوت عن الجرح تعديلا لكان السكوت عن التعديل جرحا، ولوجب أن يكون الراوي إذا جرح من روى عنه مكذبا نفسه ولان شهادة الفرع ليس تعديلا للاصل ما لم يصرح، وافتراق الرواية والشهادة في بعض التعبدات لا يوجب فرقا في هذا المعنى كما لم يوجب فرقا في منع قبول رواية المجروح والمجهول، وإذا لم يجز أن يقال: لا يشهد العدل إلا على شهادة عدل، لم يجز ذلك في الرواية، ووجب فيها معرفة عين الشيخ والأصل حتى ينظر في حالهما، فإن قيل: العنعنة كافية في الرواية مع أن قوله: روى فلان عن فلان عن فلان يحتمل ما لم يسمعه فلان عن فلان، بل بلغه بواسطة، ومع الاحتمال يقبل، ومثل ذلك في الشهادة لا يقبل، قلنا: هذا إذا لم يوجب فرقا في رواية المجهول، والمرسل مروي عن مجهول، فينبغي أن لا يقبل، ثم العنعنة جرت العادة بها في الكتبة، فإنهم استثقلوا أن يكتبوا عند كل اسم روي عن فلان سماعا منه، وشحوا على القرطاس، والوقت أن يضيعوه فأوجزوا، وإنما يقبل في الرواية ذلك إذا علم بصريح لفظه أو عامته أنه يريد به السماع، فإن لم يرد السماع فهو متردد بين المسند والمرسل، فلا يقبل. الجواب الثاني: أنا إن سلمنا جدلا أن الرواية تعديل، فتعديله المطلق لا يقبل ما لم يذكر السبب، فلو صرح بأنه سمعه من عدل ثقة لم يلزم قبوله، وإن سلم قبول التعديل المطلق فذلك في حق شخص نعرف عينه، ولا يعرف بفسق، أما من لم نعرف عينه، فلعله لو ذكره لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل، وإنما يكتفي في كل مكلف بتعريف غيره عند العجز عن معرفة نفسه، ولا يعلم عجزه ما لم يعرفه بعينه، وبمثل هذه العلة لم يقبل تعديل شاهد الفرع مطلقا، ما لم يعرف الأصل ولم يعينه، فلعل الحاكم يعرفه بفسق وعداوة، وغيره احتجوا باتفاق الصحابة والتابعين على قبول مرسل العدل، فابن عباس مع كثرة روايته قيل أنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث لصغر سنه، وصرح بذلك في حديث الربا في النسيئة وقال: حدثني به أسامة بن زيد وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، فلما روجع قال: حدثني به أخي الفضل بن عباس، وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من صلى على جنازة فله قيراط ثم أسنده إلى أبي هريرة، وروى أبو هريرة أن: من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له وقال: ما أنا قلتها ورب الكعبة، ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم قالها، فلما روجع قال: حدثني به الفضل بن عباس، وقال البراء بن عازب ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن سمعنا بعضه، وحدثنا أصحابه ببعضه، أما التابعون فقد قال النخعي: إذا قلت حدثني فلان عن عبد الله فهو حدثني، وإذا قلت: قال عبد الله فقد سمعته من غير واحد، وكذلك نقل عن جماعة من التابعين قبول المرسل، والجواب من وجهين: الأول: أن هذا صحيح، ويدل على قبول بعضهم المراسيل، والمسألة في محل الاجتهاد، ولا يثبت فيها إجماع أصلا، وفيه ما يدل على أن الجملة لم يقبلوا المراسيل ولذلك باحثواابن عباس وابن عمر وأبا هريرة مع جلالة قدرهم لا لشك في عدالتهم ولكن للكشف عن الراوي، فإن قيل: قبل بعضهم وسكت الآخرون فكان إجماعا، قلنا: لا نسلم ثبوت الإجماع بسكوتهم، لا سيما في محل الاجتهاد، بل لعله سكت مضمرا للانكار، أو مترددا فيه. والجواب الثاني: أن من المنكرين للمرسل من قبل مرسل الصحابي لانهم يحدثون عن الصحابة وكلهم عدول، ومنهم من أضاف إليه مراسيل التابعين، لانهم يروون عن الصحابة، ومنهم من خصص كبار التابعين بقبول مرسله، والمختار على قياس رد المرسل أن التابعي والصحابي إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي قبل مرسله، وإن لم يعرف ذلك فلا يقبل لانهم قد يروون عن غير الصحابي من الاعراب الذين لا صحبة لهم، وإنما ثبتت لنا عدالة أهل الصحبة، قال الزهري بعد الارسال، حدثني به رجل على باب عبد الملك، وقال عروة بن الزبير فيما أرسله عن بسرة حدثني به بعض الحرس. مسألة (هل يقبل خبر الواحد؟) خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول خلافا للكرخي، وبعض أصحاب الرأي، لان كل ما نقله العدل، وصدقه فيه ممكن وجب تصديقه، فمس الذكر مثلا نقله العدل وصدقه فيه ممكن، فإنا لا نقطع بكذب ناقله، بخلاف ما لو انفرد واحد بنقل ما تحيل العادة فيه أن لا يستفيض، كقتل أمير في السوق، وعزل وزير وهجوم واقعة في الجامع منعت الناس من الجمعة، أو كخسف أو زلزلة أو انقضاض كوكب عظيم وغيره من العجائب، فإن الدواعي تتوفر على إشاعة جميع ذلك، ويستحيل انكتامه، وكذلك القرآن لا يقبل فيه خبر الواحد لعلمنا بأنه صلى الله تعبد بإشاعته، واعتنى بإلقائه إلى كافة الخلق، فإن الدواعي تتوفر على إشاعته ونقله لانه أصل الدين والمنفرد برواية سورة أو آية كاذب قطعا، فأما ما تعم به البلوى، فلا نقطع بكذب خبر الواحد فيه، فإن قيل: بم تنكرون على من يقطع بكذبه، لان خروج الخارج من السبيلين لما كان الانسان لا ينفك عنه في اليوم والليلة مرارا، وكانت الطهارة تنتقض به، فلا يحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يشيع حكمه ويناجي به الآحاد، إذ يؤدي إلى إخفاء الشرع وإلى أن تبطل صلاة العباد وهم لا يشعرون فتجب الاشاعة في مثله، ثم تتوفر الدواعي على نقله، وكذلك مس الذكر مما يكثر وقوعه فكيف يخفى حكمه؟ قلنا: هذا يبطل أولا بالوتر، وحكم الفصد والحجامة والقهقهة ووجوب الغسل من غسل الميت وإفراد الاقامة وتثنيتها، وكل ذلك مما تعم به البلوى، وقد أثبتوها بخبر الواحد، فإن زعموا أن ليس عموم البلوى فيها كعمومها في الاحداث، فنقول: فليس عموم البلوى في اللمس والمس كعمومها في خروج الاحداث فقد يمضي على الانسان مدة لا يلمس ولا يمس الذكر إلا في حالة الحدث كما لا يفتصد ولا يحتجم إلا أحيانا فلا فرق. والجواب الثاني: وهو التحقيق أن الفصد والحجامة، وإن كان لا يتكرر كل يوم، ولكنه يكثر، فكيف أخفي حكمه حتى يؤدي إلى بطلان صلاة خلق كثير وإن لم يكن هو الاكثر فكيف، وكل ذلك إلى الآحاد، ولا سبب له، إلا أن الله تعالى لم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إشاعة جميع الاحكام، بل كلفه إشاعة البعض، وجوز له رد الخلق إلى خبر الواحد في البعض، كما جوز له ردهم إلى القياس في قاعدة الربا، وكان يسهل عليه أن يقول: لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم أو المكيل بالمكيل حتى يستغنى عن الاستنباط من الاشياء الستة، فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما تقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد، ولا استحالة فيه، وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنا، فيجب تصديقه، وليس علة الاشاعة عموم الحاجة أو ندورها، بل علته التعبد والتكليف من الله، وإلا فما يحتاج إليه كثير، كالفصد والحجامة، كما يحتاج إليه الاكثر في كونه شرعا لا ينبغي أن يخفى، فإن قيل: فما الضابط لما تعبد الرسول صلى الله عليه فيه بالاشاعة قلنا إن طلبتم ضابطا لجوازه عقلا فلا ضابط، بل لله تعالى أن يفعل في تكليف رسوله من ذلك ما يشاء، وإن أردتم وقوعه، فإنما يعلم ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا استقرينا السمعيات وجدناها أربعة أقسام: الأول: القرآن، وقد علمنا أنه عني بالمبالغة في إشاعته. الثاني: مباني الاسلام الخمس، ككلمتي الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج، وقد أشاعه إشاعة اشترك في معرفته العام الخاص. الثالث: أصول المعاملات التي ليست ضرورية، مثل أصل البيع والنكاح، فإن ذلك أيضا قد تواتر، بل كالطلاق والعتاق والاستيلاد والتدبير والكتابة فإن هذا تواتر عند أهل العلم، وقامت به الحجة القاطعة إما بالتواتر وإما بنقل الآحاد في مشهد الجماعات مع سكوتهم، والحجة تقوم به، لكن العوام لم يشاركوا العلماء في العلم، بل فرض العوام فيه القبول من العلماء. الرابع: تفاصيل هذه الاصول، فما يفسد الصلاة والعبادات وينقض الطهارة من اللمس والمس والقئ وتكرار مسح الرأس فهذا الجنس منه ما شاع، ومنه ما نقله الآحاد ويجوز أن يكون مما تعم به البلوى، فما نقله الآحاد فلا استحالة فيه ولا مانع، فإن ما أشاعه كان يجوز أن لا يتعبد فيه بالاشاعة، وما وكله إلى الآحاد كان يجوز أن يتعبد فيه بالاشاعة، لكن وقوع هذه الامور يدل على أن التعبد وقع كذلك، فما كان يخالف أمر الله سبحانه وتعالى في شئ من ذلك، هذا تمام الكلام في الاخبار والله أعلم. |
12-06-2012, 03:10 PM | #36 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الأصل الثالث من أصول الأدلة: الإجماع
وفيه أبواب الباب الأول في إثبات كونه حجة على منكريه ومن حاول إثبات كون الإجماع حجة افتقر إلى تفهيم لفظ الإجماع أولا، وبيان تصوره ثانيا، وبيان إمكان الاطلاع عليه ثالثا، وبيان الدليل على كونه حجة رابعا. أما تفهيم لفظ الإجماع: فإنما نعني به اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة على أمر من الامور الدينية، ومعناه في وضع اللغة: الاتفاق والازماع، وهو مشترك بينهما، فمن أزمع وصمم العزم على إمضاء أمر يقال أجمع، والجماعة إذا اتفقوا يقال: أجمعوا، وهذا يصلح لإجماع اليهود والنصارى، وللاتفاق في غير أمر الدين، لكن العرف خصص اللفظ بما ذكرناه، وذهب النظام إلى أن الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته، وإن كان قول واحد، وهو على خلاف اللغة والعرف، لكنه سواه على مذهبه، إذ لم ير الإجماع حجة، وتواتر إليه بالتسامع تحريم مخالفة الإجماع، فقال: هو كل قول قامت حجته. أما الثاني: وهو تصوره: فدليل تصوره وجوده، فقد وجدنا الامة مجمعة على أن الصلوات خمس وأن صوم رمضان واجب، وكيف يمتنع تصوره والامة كلهم متعبدون باتباع النصوص والأدلة القاطعة، ومعرضون للعقاب بمخالفتها، فكما لا يمتنع اجتماعهم على الاكل والشرب لتوافق الدواعي، فكذلك على اتباع الحق واتقاء النار، فإن قيل: الامة مع كثرتها واختلاف دواعيها في الاعتراف بالحق والعناد فيه، كيف تتفق آراؤها فذلك محال منها، كاتفاقهم على أكل الزبيب مثلا في يوم واحد، قلنا: لا صارف جميعهم إلى تناول الزبيب خاصة ولجميعهم باعث على الاعتراف بالحق، كيف وقد تصور إطباق اليهود مع كثرتهم على الباطل، فلم لا يتصور إطباق المسلمين على الحق، والكثرة إنما تؤثر عند تعارض الاشباه والدواعي والصوارف ومستند الإجماع في الاكثر نصوص متواترة وأمور معلومة ضرورة بقرائن الاحوال، والعقلاء كلهم فيه على منهج واحد، نعم: هل يتصور الإجماع عن اجتهاد أو قياس؟ ذلك فيه كلام سيأتي إن شاء الله. أما الثالث: وهو تصور الاطلاع على الإجماع: فقد قال قوم: لو تصور إجماعهم فمن الذي يطلع عليهم مع تفرقهم في الاقطار؟ فنقول: يتصور معرفة ذلك بمشافهتهم إن كانوا عددا يمكن لقاؤهم، وإن لم يمكن عرف مذهب قوم بالمشافهة، ومذهب الآخرين بأخبار التواتر عنهم، كما عرفنا أن مذهب جميع أصحاب الشافعي منع قتل المسلم بالذمي، وبطلان النكاح بلا ولي، ومذهب جميع النصارى التثليث، ومذهب جميع المجوس التثنية، فإن قيل: مذهب أصحاب الشافعي وأبي حنيفة مستند إلى قائل واحد وهو الشافعي وأبو حنيفة، وقول الواحد يمكن أن يعلم، وكذلك مذهب النصارى يستند إلى عيسى عليه السلام، أما قول جماعة لا ينحصرون كيف يعلم؟ قلنا: وقول أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أمور الدين يستند إلى ما فهموه من محمد صلى الله عليه وسلم وسمعوه منه، ثم إذا انحصر أهل الحل والعقد فكما يمكن أن يعلم قول واحد أمكن أن يعلم قول الثاني إلى العشرة والعشرين، فإن قيل: لعل أحدا منهم في أسر الكفار وبلاد الروم؟ قلنا: تجب مراجعته، ومذهب الاسير ينقل كمذهب غيره، وتمكن معرفته فمن شك في موافقته للآخرين لم يكن متحققا للإجماع، فإن قيل: فلو عرف مذهبه ربما يرجع عنه بعده؟ قلنا: لا أثر لرجوعه بعد انعقاد الإجماع، فإنه يكون محجوجا به ولا يتصور رجوع جميعهم إذ يصير أحد الإجماعين خطأ، وذلك ممتنع بدليل السمع. أما الرابع: وهو إقامة الحجة على استحالة الخطأ على الامة: وفيه الشأن كله، وكونه حجة إنما يعلم بكتاب أو سنة متواترة أو عقل أما الإجماع فلا يمكن إثبات الإجماع به، وقد طمعوا في التلقي من الكتاب والسنة والعقل وأقواها السنة، ونحن نذكر المسالك الثلاثة: المسلك الأول: التمسك بالكتاب وذلك قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: 341) وقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (آل عمران: 011) الآية، وقوله تعالى: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} (الاعراف: 181) وقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (آل عمران: 301) وقوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله} (الشورى: 011) ومفهومه أن ما اتفقتم فيه فهو حق، وقوله عزوجل: {فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول} (النساء: 95) مفهومه إن اتفقتهم فهو حق فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض، بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر، وأقواها قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} (النساء: 511) فإن ذلك يوجب اتباع سبيل المؤمنين، وهذا ما تمسك به الشافعي وقد أطنبنا في كتاب تهذيب الاصول في توجيه الاسئلة على الآية ودفعها، والذي نراه أن الآية ليست نصافي الغرض، بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الاعداء عنه نوله ما تولى، فكأنه لم يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهي، وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم، فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل، ولو فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية بذلك لقبل، ولم يجعل ذلك رفعا للنص، كما لو فسر المشاقة بالموافقة واتباع سبيل المؤمنين بالعدول عن سبيلهم. المسلك الثاني: وهو الاقوى التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع أمتي على الخطأ وهذا من حيث اللفظ أقوى وأدل على المقصود ولكن ليس بالمتواتر، كالكتاب، والكتاب متواتر، لكن ليس بنص، فطريق تقرير الدليل أن نقول تظاهرت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الامة من الخطأ، واشتهر على لسان المرموقين والثقات من الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم ممن يطول ذكره من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع أمتي على الضلالة، ولم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة وسألت الله تعالى أن لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيها ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم، وإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد وقوله صلى الله عليه وسلم: يد الله مع الجماعة، ولا يبالي الله بشذوذ من شذ ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم وروي: لا يضرهم خلاف من خالفهم إلا ما أصابهم من لاواء ومن خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه، ومن فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية. وهذه الاخبار لم تزل ظاهرة في الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا، لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الامة وخلفها، بل هي مقبولة من موافقي الامة ومخالفيها، ولم تزل الامة تحتج بها في أصول الدين وفروعه، فإن قيل: فما وجه الحجة ودعوى التواتر في آحاد هذه الاخبار غير ممكن ونقل الآحاد لا يفيد العلم، قلنا في تقرير وجه الحجة طريقان: أحدهما: أن ندعي العلم الضروري بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عظم شأن هذه الامة، وأخبر عن عصمتها عن الخطأ، بمجموع هذه الاخبار المتفرقة، وإن لم تتواتر آحادها، وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى العلم بشجاعة علي، وسخاوة حاتم، وفقه الشافعي وخطابة الحجاج، وميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه، وتعظيمه صحابته وثنائه عليهم، وإن لم تكن آحاد الاخبار فيها متواترة، بل يجوز الكذب على كل واحد منها لو جردنا النظر إليه، ولا يجوز على المجموع، وذلك يشبه ما يعلم من مجموع قرائن آحادها لا ينفك عن الاحتمال، ولكن ينتفي الاحتمال عن مجموعها حتى يحصل العلم الضروري. الطريق الثاني: أن لا ندعي علم الاضطرار، بل علم الاستدلال من وجهين: الأول: أن هذه الاحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع، ولا يظهر أحد فيها خلافا وإنكارا إلى زمان النظام، ويستحيل في مستقر العادة توافق الامم في أعصار متكررة على التسليم لما لم تقم الحجة بصحته، مع اختلاف الطباع، وتفاوت الهمم والمذاهب في الرد والقبول، ولذلك لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف وإبداء تردد فيه. الوجه الثاني: أن المحتجين بهذه الاخبار أثبتوا بها أصلا مقطوعا به وهو الإجماع الذي يحكم به على كتاب الله تعالى وعلى السنة المتواترة، ويستحيل في العادة التسليم لخبر يرفع به الكتاب المقطوع به، إلا إذا استند إلى مستند مقطوع به، فأما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلوما، حتى لا يتعجب متعجب ولا يقول قائل: كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستند إلى خبر غير معلوم الصحة؟ وكيف تذهل عنه جميع الامة إلى زمان النظام فيختص بالتنبه له هذا وجه الاستدلال؟ وللمنكرين في معارضته ثلاثة مقامات: الرد، والتأويل، والمعارضة: المقام الأول: في الرد. وفيه أربعة أسئلة: السؤال الأول: قولهم: لعل واحدا خالف هذه الاخبار وردها ولم ينقل إلينا؟ قلنا: هذا أيضا تحيله العادة إذ الإجماع أعظم أصول الدين، فلو خالف فيه مخالف لعظم الامر فيه واشتهر الخلاف، إذ لم يندرس خلاف الصحابة في دية الجنين ومسألة الحرام وحد الشرب، فكيف اندرس الخلاف في أصل عظيم يلزم فيه التضليل والتبديع لمن أخطأ في نفيه وإثباته؟ وكيف اشتهر خلاف النظام مع سقوط قدره وخسة رتبته وخفي خلاف أكابر الصحابة والتابعين؟ هذا مما لا يتسع له عقل أصلا. السؤال الثاني: قالوا قد استدللتم بالخبر على الإجماع، ثم استدللتم بالإجماع على صحة الخبر، فهب أنهم أجمعوا على الصحة، فما الدليل على أن ما أجمعوا على صحته فهو صحيح وهل النزاع إلا فيه؟ قلنا: لا، بل استدللنا على الإجماع بالخبر، وعلى صحة الخبر بخلو الاعصار عن المدافعة والمخالفة له، مع أن العادة تقتضي إنكار إثبات أصل قاطع يحكم به على القواطع بخبر غير معلوم الصحة، فعلمنا بالعادة كون الخبر مقطوعا به، لا بالإجماع، والعادة أصل يستفاد منها معارف، فإن بها يعلم بطلان دعوى معارضة القرآن واندراسها، وبها يعلم بطلان دعوى نص الامامة، وإيجاب صلاة الضحى وصوم شوال، وإن ذلك لو كان لاستحال في العادة الكسوت عنه. السؤال الثالث: قالوا: بم تنكرون على من يقول: لعلهم أثبتوا الإجماع، لا بهذه الاخبار، بل بدليل آخر، قلنا: قد ظهر منهم الاحتجاج بهذه الاخبار في المنع من مخالفة الجماعة وتهديد من يفارق الجماعة ويخالفها، وهذا أولى من أن يقال: لو كان لهم فيه مستند لظهر وانتشر، فإنه قد نقل تمسكهم أيضا بالآيات. السؤال الرابع: قولهم: لما علمت الصحابة صحة هذه الاخبار لم لم يذكروا طريق صحتها للتابعين، حتى كان ينقطع الارتياب ويشاركونهم في العلم؟ قلنا: لانهم علموا تعريفه عليه السلام عصمة هذه الامة بمجموع قرائن وأمارات وتكريرات ألفاظ وأسباب دلت ضرورة على قصده إلى بيان نفي الخطأ عن هذه الامة، وتلك القرائن لا تدخل تحت الحكاية ولا تحيط بها العبارات، ولو حكوها لتطرق إلى آحادها احتمالات، فاكتفوا بعلم التابعين بأن الخبر المشكوك فيه لا يثبت به أصل مقطوع به، ويقع التسليم في العادة به، فكانت العادة في حق التابعين أقوى من الحكاية. المقام الثاني: في التأويل ولهم تأويلات ثلاثة: الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع أمتي على ضلالة ينبئ عن الكفر والبدعة فلعله أراد عصمة جميعهم عن الكفر بالتأويل والشبهة، وقوله: على الخطأ لم يتواتر وإن صح، فالخطأ عام يمكن حمله على الكفر؟ قلنا: الضلال في وضع اللسان لا يناسب الكفر، قال الله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} (الضحى: 7) وقال تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام: {فعلتها إذا وأنا من الضالين} (الشعراء: 02) وما أراد من الكافرين، بل أراد من المخطئين، يقال: ضل فلان عن الطريق، وضل سعي فلان، كل ذلك الخطأ، كيف وقد فهم ضرورة من هذه الالفاظ تعظيم شأن هذه الامة وتخصيصها بهذه الفضيلة، أما العصمة عن الكفر فقد أنعم بها في حق علي وابن مسعود وأبي وزيد على مذهب النظام، لانهم ماتوا على الحق، وكم من آحاد عصموا عن الكفر حتى ماتوا، فأي خاصية للامة، فدل أنه أراد ما لم يعصم عنه الآحاد من سهو وخطأ وكذب ويعصم عنه الامة تنزيلا لجميع الامة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في العصمة عن الخطأ في الدين، أما في غير الدين من إنشاء حرب وصلح وعمارة بلدة فالعموم يقتضي العصمة للامة عنه أيضا، ولكن ذلك مشكوك فيه، وأمر الدين مقطوع بوجوب العصمة فيه، كما في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أخطأ في أمر تأبير النخل ثم قال: أنتم أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم. التأويل الثاني: قولهم: غاية هذا أن يكون عاما يوجب العصمة عن كل خطأ، ويحتمل أن يكون المراد به بعض أنواع الخطأ من الشهادة في الآخرة أو ما يوافق النص المتواتر، أو يوافق دليل العقل دون ما يكون بالاجتهاد والقياس، قلنا: لا ذاهب من الامة إلى هذا التفصيل إذ ما دل من العقل على تجويز الخطأ عليهم في شئ دل على تجويزه في شئ آخر، وإذا لم يكن فارق لم يكن تخصيص بالتحكم دون دليل، ولم يكن تخصيص أولى من تخصيص، وقد ذم من خالف الجماعة، وأمر بالموافقة، فلو لم يكن ما فيه العصمة معلوما استحال الاتباع إلا أن ثبت العصمة مطلقا، وبه ثبتت فضيلة الامة وشرفها، فأما العصمة عن البعض دون البعض فهذا يثبت لكل كافر، فضلا عن المسلم، إذ ما من شخص يخطئ في كل شئ بل كل إنسان فإنه يعصم عن الخطأ في بعض الاشياء التأويل الثالث: أن أمته صلى الله عليه وسلم كل من آمن به إلى يوم القيامة، فجملة هؤلاء من أول الاسلام إلى آخر عمر الدنيا، لا يجتمعون على خطأ، بل كل حكم انقضى على اتفاق أهل الاعصار كلها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو حق، إذ الامة عبارة عن الجميع كيف والذين ماتوا في زماننا هم من الامة، وإجماع من بعدهم ليس إجماع جميع الامة بدليل أنهم لو كانوا قد خالفوا ثم ماتوا لم ينعقد بعدهم إجماع، وقبلنا من الامة من خالف وإن كان قد مات، فكذلك إذا لم يوافقوا؟ قلنا: كما لا يجوز أن يراد بالامة المجانين والاطفال والسقط والمجتن وإن كانوا من الامة، فلا يجوز أن يراد به الميت والذي لم يخلق بعد، بل الذي يفهم قوم يتصور منهم اختلاف واجتماع، ولا يتصور الاجتماع والاختلاف من المعدوم، والميت، والدليل عليه أنه أمر باتباع الجماعة، وذم من شذ عن الموافقة، فإن كان المراد به ما ذكروه فإنما يتصور الاتباع والمخالفة في القيامة لا في الدنيا، فيعلم قطعا أن المراد به إجماع يمكن خرقه ومخالفته، في الدنيا، وذلك هم الموجودن في كل عصر، أما إذا مات فيبقى أثر خلافه فإن مذهبه لا يموت بموته، وسيأتي فيه كلام شاف إن شاء الله تعالى. المقام الثالث: المعارضة بالآيات والاخبار أما الآيات: فكل ما فيها منع من الكفر والردة والفعل الباطل، فهو عام مع الجميع، فإن لم يكن ذلك ممكنا فكيف نهوا عنه، كقوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (الاعراف: 33} (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} (البقرة: 712} (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (البقرة: 881) وأمثال ذلك، قلنا: ليس هذا نهيا لهم عن الاجتماع، بل نهي للآحاد، وإن كان كل واحد على حياله داخلا في النهي وإن سلم، فليس من شرط النهي وقوع المنهي عنه ولا جواز وقوعه، فإن الله تعالى علم أن جميع المعاصي لا تقع منهم ونهاهم عن الجميع وخلاف المعلوم غير واقع، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: 56) وقال: {فلا تكونن من الجاهلين} (الانعام: 53) وقد علم أنه قد عصمه منهم وأن ذلك لا يقع، وأما الاخبار فقوله عليه السلام: بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وقوله عليه السلام: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف وما يستحلف، ويشهد وما يستشهد وكقوله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي قلنا: هذا وأمثاله يدل على كثرة العصيان والكذب، ولا يدل على أنه لا يبقى متمسك بالحق، ولا يناقض قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال كيف ولا تجري هذه الاخبار في الصحة والظهور مجرى الاحاديث التي تمسكنا بها. المسلك الثالث: التمسك بالطريق المعنوي وبيانه أن الصحابة إذا قضوا بقضية وزعموا أنهم قاطعون بها، فلا يقطعون بها إلا عن مستند قاطع، وإذا كثروا كثرة تنتهي إلى حد التواتر، فالعادة تحيل عليهم قصد الكذب، وتحيل عليهم الغلط حتى لا يتنبه واحد منهم للمحق في ذلك، وإلى أن القطع بغير دليل قاطع، خطأ، فقطعهم في غير محل القطع محال في العادة، فإن قضوا عن اجتهاد واتفقوا عليه فيعلم أن التابعين كانوا يشددون النكير على مخالفيهم ويقطعون به وقطعهم بذلك قطع في غير محل القطع فلا يكون ذلك أيضا إلا عن قاطع، وإلا فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم الحق مع كثرتهم حتى لا يتنبه واحد منهم للحق، وكذلك نعلم أن التابعين لو أجمعوا على شئ أنكر تابعوا التابعين على المخالف وقطعوا بالانكار، وهو قطع في غير محل القطع، فالعادة تحيل ذلك إلا عن قاطع، وعلى مساق هذا قالوا: لو رجع أهل الحل والعقد إلى عدد ينقص عن عدد التواتر، فلا يستحيل عليهم الخطأ في العاد ولا تعمد الكذب لباعث عليه، فلا حجة فيه، وهذه الطريقة ضعيفة عندنا، لان منشأ الخطأ إما تعمد الكذب، وإما ظنهم ما ليس بقاطع قاطعا، والأول غير جائز على عدد التواتر، وأما الثاني فجائز، فقد قطع اليهود ببطلان نبوة عيسى ومحمد عليهما السلام، وهم أكثر من عدد التواتر، وهو قطع في غير محل القطع، لكن ظنوا ما ليس بقاطع قاطعا: والمنكرون لحدوث العالم والنبوات والمرتكبون لسائر أنواع البدع والضلالات، عددهم بالغ مبلغ عدد التواتر ويحصل الصدق بإخبارهم، ولكن أخطؤوا بالقطع في غير محل القطع، وهذا القائل يلزمه أن يجعل إجماع اليهود والنصارى حجة ولا تخصيص لهذه الامة، وقد أجمعوا على بطلان دين الاسلام، فإن قيل: هذا تمسك بالعادة، وأنتم في نصرة المسلك الثاني استروحتم إلى العادة وهذا عين الأول؟ قلنا: العادة لا تحيل على عدد التواتر أن يظنوا ما ليس بقاطع قاطعا، وعن هذا قلنا: شرط خبر التواتر أن يستند إلى محسوس، والعادة تحيل الانقياد والسكوت عمن دفع الكتاب والسنة المتواترة بإجماع دليله خبر مظنون غير مقطوع به، وكل ما هو ضروري يعلم بالحس أو بقرينة الحال أو بالبديهة، فمنهاجه واحد، ويتفق الناس على دركه، والعادة تحيل الذهول عنه على أهل التواتر، وما هو نظري فطرقه مختلفة، فلا يستحيل في العادة أن يجتمع أهل التواتر على الغلط فيه، فهذا هو الفرق بين المسلكين، فإن قيل: اعتمادكم في هذا المسلك الثاني أن ما أجمعوا عليه حق وليس بخطأ، فما الدليل على وجوب اتباعه وكل مجتهد مصيب للحق، ولا يجب على مجتهد آخر اتباعه، والشاهد المزور مبطل، ويجب على القاضي اتباعه، فوجوب الاتباع شئ، وكون الشئ حقا غير ه؟ قلنا: أجمعت الامة على وجوب اتباع الإجماع، وأنه من الحق الذي يجب اتباعه، وبحسب كونهم محقين في قولهم يجب اتباع الإجماع، ثم نقول: كل حق علم كونه حقا، فالأصل فيه وجوب الاتباع والمجتهد يجب اتباعه إلا على المجتهد الذي هو محق أيضا، فقدم حق حصل باجتهاده على ما حصل باجتهاد غيره في حقه، والشاهد المزور لو علم كونه مزورا لم يتبع، ويدل عليه أيضا ذمة من خالف الجماعة، وأنه ذكر هذا في معرض الثناء على الامة ولا يتحقق ذلك إلا بوجوب الاتباع، وإلا فلا يبقى له معنى، إلا أنهم محقون إذا أصابوا دليل الحق، وذلك جائز في حق كل واحد من أفراد المؤمنين، فليس فيه مدح وتخصيص البتة الباب الثاني في بيان أركان الإجماع وله ركنان: المجمعون ونفس الإجماع: الركن الأول: المجمعون: وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وظاهر هذا يتناول كل مسلم، لكن لكل ظاهر طرفان واضحان في النفي والاثبات وأوساط متشابهة، أما الواضح في الاثبات فهو كل مجتهد مقبول الفتوى فهو أهل الحل والعقد قطعا، ولا بد من موافقته في الإجماع، وأما الواضح في النفي، فالاطفال والمجانين والاجنة، فإنهم وإن كانوا من الامة، فنعلم أنه عليه الصلاة والسلام ما أراد بقوله: لا تجتمع أمتي على الخطأ إلا من يتصور منه الوفاق والخلاف في المسألة بعد فهمهما فلا يدخل فيه من لا يفهمها، وبين الدرجتين العوام المكلفون، والفقيه الذي ليس بأصولي، والاصولي الذي ليس بفقيه والمجتهد الفاسق والمبتدع والناشئ من التابعين، مثلا: إذا قارب رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة، فنرسم في كل واحد مسألة: مسألة (إجماع أهل الحل والعقد) يتصور دخول العوام في الإجماع، فإن الشريعة تنقسم إلى ما يشترك في دركه العوام والخواص، كالصلوات الخمس ووجوب الصوم والزكاة والحج، فهذا مجمع عليه والعوام وافقوا الخواص في الإجماع، وإلى ما يختص بدركه الخواص كتفصيل أحكام الصلاة والبيع والتدبير والاستيلاد، فما أجمع عليه الخواص، فالعوام متفقون على أن الحق فيه ما أجمع عليه أهل الحل والعقد، لا يضمرون فيه خلافا أصلا، فهم موافقون أيضا فيه، ويحسن تسمية ذلك إجماع الامة قاطبة، كما أن الجند إذا حكموا جماعة من أهل الرأي والتدبير في مصالحة أهل قلعة فصالحوهم على شئ يقال: هذا باتفاق جميع الجند، فإذا كل مجمع عليه من المجتهدين، فهو مجموع عليه من جهة العوام وبه يتم إجماع الامة، فإن قيل: فلو خالف عامي في واقعة أجمع عليها الخواص من أهل العصر، فهل ينعقد الإجماع دونه إن كان ينعقد، فكيف خرج العامي من الامة، وإن لم ينعقد فكيف يعتد بقول العامي؟ قلنا: قد اختلف الناس فيه، فقال قوم: لا ينعقد، لانه من الامة، فلا بد من تسليمه بالجملة أو بالتفصيل، وقال آخرون، وهو الاصح: إنه ينعقد بدليلين: أحدهما: أن العامي ليس أهلا لطلب الصواب، إذ ليس له آلة هذا الشأن، فهو كالصبي والمجنون في نقصان الآلة، ولا يفهم من عصمة الامة من الخطأ إلا عصمة من يتصور منه الاصابة لاهليته. والثاني: وهو الاقوى أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام في هذا الباب، أعني خواص الصحابة وعوامهم، ولان العامي إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل، وأنه ليس يدري ما يقول وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه، وعن هذالا يتصور صدور هذا من عامي عاقل، لان العاقل يفوض ما لا يدري إلى من يدري، فهذه صورة فرضت، ولا وقوع لها أصلا، ويدل على انعقاد الإجماع أن العامي يعصي بمخالفته العلماء ويحرم ذلك عليه، ويدل على عصيانه ما ورد من ذم الرؤساء الجهال إذا ضلوا وأضلوا بغير علم. وقوله تعالى: {(4) لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: 38) فردهم عن النزاع إلى أهل الاستنباط، وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب المراجعة للعلماء وتحريم فتوى العامة بالجهل والهوى وهذا لا يدل على انعقاد الإجماع دونهم، فإنه يجوز أن يعصي بالمخالفة، كما يعصي من يخالف خبر الواحد، ولكن يمتنع وجود الإجماع لمخالفته والحجة في الإجماع فإذا امتنع بمعصية أو بما ليس بمعصية فلا حجة، وإنما الدليل ما ذكرنا من قبل. مسألة (يعتد بقول الاصولي والفقيه المبرز) إذا قلنا لا يعتبر قول العوام لقصور آلتهم فرب متكلم ونحوي ومفسر ومحدث هو ناقض الآلة في درك الاحكام، فقال قوم: لا يعتد إلا بقول أئمة المذاهب المستقلين بالفتوى، كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وأمثالهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من ضم إلى الائمة الفقهاء الحافظين لاحكام الفروع الناهضين بها، لكن أخرج الاصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع ولا يحفظها، والصحيح أن الاصولي العارف بمدارك الاحكام وكيفية تلقيها من المفهوم والمنظوم، وصيغة الامر والنهي، والعموم وكيفية تفهيم النصوص، والتعليل أولى بالاعتداد بقوله من الفقيه الحافظ للفروع، بل ذو الآلة، من هو متمكن من درك الاحكام إذا أراد، وإن لم يحفظ الفروع، والاصولي قادر عليه، والفقيه الحافظ للفروع لا يتمكن منه، وآية أنه لا يعتبر حفظ الفروع أن العباس والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبا عبيدة بن الجراح وأمثالهم ممن لم ينصب نفسه للفتوى ولم يتظاهر بها تظاهر العبادلة، وتظاهر علي وزيد بن ثابت ومعاذ، كانوا يعتدون بخلافهم لو خالفوا، وكيف لا وكانوا صالحين للامامة العظمى، ولا سيما لكون أكثرهم في الشورى، وما كانوا يحفظون الفروع، بل لم تكن الفروع موضوعة بعد، لكن عرفوا الكتاب والسنة، وكانوا أهلا لفهمهما، والحافظ لفروع قد لا يحفظ دقائق فروع الحيض، والوصايا، فأصل هذه الفروع كهذه الدقائق، فلا يشترط حفظها، فينبغي أن يعتد بخلاف الاصولي وبخلاف الفقيه المبرز، لانهما ذوا آلة على الجملة، يقولان ما يقولان عن دليل، أما النحوي والمتكلم فلا يعتد بهما، لانهما من العوام في حق هذا العلم، إلا أن يقع الكلام في مسألة تنبني على النحو أو على الكلام، فإن قيل: فهذه المسألة قطعية أم اجتهادية؟ قلنا: هي اجتهادية، ولكن إذا جوزنا أن يكون قوله معتبرا صار الإجماع مشكوكا فيه عند مخالفته فلا يصير حجة قاطعة، إنما يكون حجة قاطعة إذا لم يخالف هؤلاء، أما خلاف العوام فلا يقع، ولو وقع فهو قول باللسان، وهو معترف بكونه جاهلا بما يقول، فبطلان قوله مقطوع به، كقول الصبي، فأما هذا فليس كذلك، فإن قيل: فإذا قلد الاصولي الفقهاء فيما اتفقوا عليه في الفروع وأقر بأنه حق هل ينعقد الإجماع، قلنا: نعم، لانه لا مخالفة، وقد وافق الاصولي جملة وإن لم يعرف التفصيل، كما أن الفقهاء اتفقوا على أن ما أجمع عليه المتكلمون في باب الاستطاعة والعجز والاجسام والاعراض والضد والخلاف، فهو صواب، فيحصل الإجماع بالموافقة الجملية، كما يحصل من العوام، لان كل فريق كالعامي، بالاضافة إلى ما لم يحصل علمه، وإن حصل علما آخر. مسألة (عدم انعقاد الإجماع بالمجتهد الفاسق المبتدع) إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر، بل هو كمجتهد فاسق وخلاف المجتهد الفاسق معتبر، فإن قيل: لعله يكذب في إظهار الخلاف وهو لا يعتقده. قلنا: لعله يصدق، ولا بد من موافقته ولو لم نتحقق موافقته، كيف وقد نعلم اعتقاد الفاسق بقرائن أحواله في مناظراته واستدلالاته، والمبتدع ثقة يقبل قوله، فإنه ليس يدري أنه فاسق، أما إذا كفر ببدعته فعند ذلك لا يعتبر خلافه وإن كان يصلي إلى القبلة ويعتقد نفسه مسلما. لان الامة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة، بل عن المؤمنين وهو كافر، وإن كان لا يدري أنه كافر، نعم: لو قال بالتشبيه والتجسيم وكفرناه فلا يستدل على بطلان مذهبه بإجماع مخالفيه على بطلان التجسيم مصيرا إلى أنهم كل الامة دونه، لان كونهم كل الامة موقوف على إخراج هذا من الامة والاخراج من الامة موقوف على دليل التكفير، فلا يجوز أن يكون دليل تكفيره ما هو موقوف على تكفيره، فيؤدي إلى إثبات الشئ بنفسه، نعم: بعد أن كفرناه بدليل عقلي لو خالف في مسألة أخرى لم يلتفت إليه، فلو تاب وهو مصر على المخالفة في تلك المسألة التي أجمعوا عليها في حال كفره، فلا يلتفت إلى خلافه بعد الاسلام، لانه مسبوق بإجماع كل الامة وكان المجمعون في ذلك الوقت كل الامة دونه، فصار كما لو خالف كافر كافة الامة ثم أسلم وهو مصر على ذلك الخلاف، فإن ذلك لا يلتفت إليه إلا على قول من يشترط انقراض العصر في الإجماع، فإن قيل: فلو ترك بعض الفقهاء الإجماع بخلاف المبتدع المكفر إذا لم يعلم أن بدعته توجب الكفر وظن أن الإجماع لا ينعقد دونه، فهل يعذر من حيث أن الفقهاء لا يطلعون على معرفة ما يكفر به من التأويلات؟ قلنا: للمسألة صورتان: إحداهما: أن يقول الفقهاء: نحن لا ندري أن بدعته توجب الكفر أم لا، ففي هذه الصورة لا يعذرون فيه إذ يلزمهم مراجعة علماء الاصول، ويجب على العلماء تعريفهم، فإذا أفتوا بكفره فعليهم التقليد، فإن لم يقنعهم التقليد فعليهم السؤال عن الدليل، حتى إذا ذكر لهم دليله فهموه لا محالة، لان دليله قاطع، فإن لم يدركه فلا يكون معذورا كمن لا يدرك دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا عذر مع نصب الله تعالى الأدلة القاطعة. الصورة الثانية: أن لا يكون قد بلغته بدعته وعقيدته، فترك الإجماع لمخالفته، فهو معذور في خطئه وغير مؤاخذ به، وكان الإجماع لم ينتهض حجة في حقه، كما إذا لم يبلغه الدليل الناسخ لانه غير منسوب إلى تقصير، بخلاف الصورة الأولى، فإنه قادر على المراجعة والبحث فلا عذر له في تركه، فهو كمن قبل شهادة الخوارج وحكم بها فهو مخطئ، لان الدليل على تكفير الخوارج على علي عثمان رضي الله عنهما، والقائلين بكفرهما المعتقدين استباحة دمهما ومالهما ظاهر يدرك على القرب، فلا يعذر من لا يعرفه بخلاف من حكم بشهادة الزور، وهو لا يعرف، لانه لا طريق له إلى معرفة صدق الشاهد وله طريق إلى معرفة كفره، فإن قيل وما الذي يكفر به؟ قلنا: الخطب في ذلك طويل، وقد أشرنا إلى شئ منه في كتاب فصل التفرقة بين الاسلام والزندقة والقدر الذي نذكره الآن أنه يرجع إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما يكون نفس اعتقاده كفرا، كإنكار الصانع وصفاته وجحد النبوة. الثاني: ما يمنعه اعتقاده من الاعتراف بالصانع وصفاته وتصديق رسله، ويلزمه إنكار ذلك من حيث التناقض. الثالث: ما ورد التوقيف بأنه لا يصدر إلا من كافر كعبادة النيران والسجود للصنم، وجحد سورة من القرآن، وتكذيب بعض الرسل، واستحلال الزنا والخمر وترك الصلاة، وبالجملة إنكار ما عرف بالتواتر والضرورة من الشريعة. مسألة قال قوم، لا يعتد بإجماع غير الصحابة وسنبطله، وقال قوم: يعتد بإجماع التابعين بعد الصحابة، ولكن لا يعتد بخلاف التابعي في زمان الصحابة ولا يندفع إجماع الصحابة بخلافه، وهذا فاسد مهما بلغ التابعي رتبة الاجتهاد قبل تمام الإجماع، لانه من الامة، فإجماع غيره لا يكون إجماع جميع الامة، بل إجماع البعض، والحجة في إجماع الكل، نعم: لو أجمعوا ثم بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم فهو مسبوق بالإجماع، فليس له الآن أن يخالف، كمن أسلم بعد تمام الإجماع، ويدل عليه قوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله} (الشورى: 10) وهذا مختلف فيه، ويدل عليه إجماع الصحابة على تسويغ الخلاف للتابعي وعدم إنكارهم عليه، فهو إجماع منهم على جواز الخلاف، كيف وقد علم أن كثيرا من أصحاب عبد الله كعلقمة والاسود وغيرهما كانوا يفتون في عصر الصحابة، وكذا الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، فكيف لا يعتد بخلافهم، وعلى الجملة فلا يفضل الصحابي التابعي إلا بفضيلة الصحبة، ولو كانت هذه الفضيلة تخصص الإجماع لسقط قول الانصار بقول المهاجرين، وقول: المهاجرين بقول العشرة وقول العشرة بقول الخلفاء الاربعة، وقولهم بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فإن قيل: روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن مجاراة الصحابة، وقالت: فروج يصقع مع الديكة، قلنا: ما ذكرناه مقطوع به، ولم يثبت عن عائشة ما ذكرتم إلا بقول الآحاد، وإن ثبت فهو مذهبها، ولا حجة فيه، ثم لعلها أرادت منعه من مخالفتهم فيما سبق إجماعهم عليه، أو لعلها أنكرت عليه خلافه في مسألة لا تحتمل الاجتهاد في اعتقادها، كما أنكرت على زيد بن أرقم في مسألة العينة، وظنت أن وجوب حسم الذريعة قطعي، واعلم أن هذه المسألة يتصور الخلاف فيها مع من يوافق على أن إجماع الصحابة يندفع بمخالفة واحد من الصحابة، أما من ذهب إلى أنه لا يندفع خلاف الاكثر بالاقل كيفما كان فلا يختص كلامه بالتابعي. مسألة (هل ينعقد إجماع الاكثر أم لا؟) الإجماع من الاكثر ليس بحجة مخالفة الاقل، وقال قوم: إن بلغ عدد الاقل عدد التواتر اندفع الإجماع، وإن نقص فلا يندفع، والمعتمد عندنا أن العصمة إنما تثبت للامة بكليتها، وليس هذا إجماع الجميع، بل هو مختلف فيه، وقد قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله} (الشورى: 01) فإن قيل: قد تطلق الامة ويراد بها الاكثر كما يقال بنو تميم يحمون الجار، ويكرمون الضيف، ويراد الاكثر؟ قلنا: من يقول بصيغة العموم يحمل ذلك على الجميع، ولا يجوز التخصيص بالتحكم، بل بدليل وضرورة، ولا ضرورة ههنا، ومن لا يقول به فيجوز أن يريد به الاقل، وعند ذلك لا يتميز البعض المراد عما ليس بمراد، ولا بد من إجماع الجميع ليعلم أن البعض المراد داخل فيه، كيف وقد وردت أخبار تدل على قلة أهل الحق حيث قال صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ الاقلون، وقال صلى الله عليه وسلم: سيعود الدين غريبا كما بدا غريبا وقال تعالى: {أكثرهم لا يعقلون} (المائدة: 301) وقال تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ: 13) وقال تعالى: {كم من فئة قليلة} (البقرة: 942) الآية وإذا لم يكن ضابط، ولا مرد فلا خاص إلا باعتبار قول الجميع. الدليل الثاني: إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد، فكم من مسألة قد انفرد فيها الآحاد بمذهب كانفراد ابن عباس بالعول فإنه أنكره، فإن قيل: لا بل أنكروا على ابن عباس القول بتحليل المتعة، وأن الربا في النسيئة، وأنكرت عائشة على ابن أرقم مسألة العينة، وأنكروا على أبي موسى الاشعري قوله: النوم لا ينقض الوضوء، وعلى أبي طلحة القول بأن أكل البرد لا يفطر، وذلك لانفرادهم به، قلنا: لا، بل لمخالفتهم السنة الواردة فيه المشهورة بينهم، أو لمخالفتهم أدلة ظاهرة قامت عندهم، ثم نقول: هب أنهم أنكروا انفراد المنفرد والمنكر منكر عليهم إنكارهم، ولا ينعقد الإجماع فلا حجة في إنكارهم مع مخالفة الواحد. ولهم شبهتان: الشبهة الأولى: قولهم: قول الواحد فيما يخبر عن نفسه لا يورث العلم، فكيف يندفع به قول عدد حصل العلم بإخبارهم عن أنفسهم لبلوغهم عدد التواتر، وعن هذا قال قوم: عدد الاقل إلى أن يبلغ مبلغ التواتر يدفع الإجماع، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه: الأول: إن صدق الاكثر وإن علم فليس ذلك صدق جميع الامة، واتفاقهم والحجة في اتفاق الجميع، فسقطت الحجة، لانهم ليسوا كل الامة. الثاني: إن كذب الواحد ليس بمعلوم، فلعله صادق، فلا تكون المسألة اتفاقا من جميع الصادقين إن كان صادقا. الثالث: إنه لا نظر إلى ما يضمرون، بل التعبد متعلق بما يظهرون، فهو مذهبهم، وسبيلهم لا ما أضمروه، فإن قيل: فهل يجوز أن تضمر الامة خلاف ما تظهر؟ قلنا: ذلك إن كان إنما يكون عن تقية وإلجاء، وذلك يظهر ويشتهر وإن لم يشتهر فهو محال، لانه يؤدي إلى اجتماع الامة على ضلالة وباطل، وهو ممتنع، بدليل السمع. الشبهة الثانية: إن مخالفة الواحد شذوذ عن الجماعة، وهو منهي عنه، فقد ورد ذم الشاذ، وأنه كالشاذ من الغنم عن القطيع، قلنا: الشاذ عبارة عن الخارج عن الجماعة بعد الدخول فيها ومن دخل في الإجماع لا يقبل خلافه بعده، وهو الشذوذ، أما الذي لم يدخل أصلا فلا يسمى شاذا، فإن قيل: فقد قال عليه السلام: عليكم بالسواد الاعظم فإن الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد قلنا: أراد به الشاذ الخارج على الامام بمخالفة الاكثر على وجه يثير الفتنة، وقوله: وهو عن الاثنين أبعد أراد به الحث على طلب الرفيق في الطريق، ولهذا قال عليه السلام: والثلاثة ركب، وقد قال بعضهم: قول الاكثر حجة، وليس بإجماع، وهو متحكم بقوله أنه حجة إذ لا دليل عليه: وقال بعضهم: مرادي به أن اتباع الاكثر أولى، قلنا: هذا يستقيم في الاخبار، وفي حق المقلد إذا لم يجد ترجيحا بين المجتهدين سوى الكثرة، وأما المجتهد فعليه اتباع الدليل دون الاكثر، لانه إن خالفه واحد لم يلزمه اتباعه وإن انضم إليه مخالف آخر لم يلزمه الاتباع. |
12-06-2012, 03:11 PM | #37 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (إجماع أهل المدينة عند مالك)
قال مالك: الحجة في إجماع أهل المدينة فقط، وقال قوم: المعتبر إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة، وما أراد المحصلون بهذا إلا أن هذه البقاع قد جمعت في زمن الصحابة أهل الحل والعقد، فإن أراد مالك أن المدينة هي الجامعة لهم فمسلم له ذلك لو جمعت، وعند ذلك لا يكون للمكان فيه تأثير وليس ذلك بمسلم بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها بل ما زالوا متفرقين في الاسفار، والغزوات والامصار، فلا وجه لكلام مالك، إلا أن يقول عمل أهل المدينة حجة لانهم الاكثرون، والعبرة بقول الاكثرين وقد أفسدناه، أو يقول يدل اتفاقهم في قول أو عمل أنهم استندوا إلى سماع قاطع، فإن الوحي الناسخ نزل فيهم، فلا تشذ عنهم مدارك الشريعة، وهذا تحكم، إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أو في المدينة، لكن يخرج منها قبل نقله، فالحجة في الإجماع، ولا إجماع، وقد تكلف لمالك تأويلات ومعاذير استقصيناها في كتاب تهذيب الاصول ولا حاجة إليها هاهنا، وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعلى أهلها، وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكناهم المدينة، ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم، وقد قال قوم: الحجة في اتفاق الخلفاء الاربعة، وهو تحكم لا دليل عليه إلا ما تخيله جماعة في أن قول الصحابي حجة، وسيأتي في موضعه. مسألة (هل يشترط التواتر في الإجماع؟) اختلفوا في أنه هل يشترط أن يبلغ أهل الإجماع عدد التواتر، أما من أخذه من دليل العقل واستحالة الخطأ بحكم العادة، فيلزمه الاشتراط، والذين أخذوه من السمع اختلفوا، فمنهم من شرط ذلك، لانه إذا نقص عددهم فنحن لا نعلم إيمانهم بقولهم فضلا عن غيره، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه يعلم إيمانهم لا بقولهم، لكن بقوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال.، فإذا لم يكن على وجه الارض مسلم سواهم فهم على الحق. الثاني: أنا لم نتعبد بالباطن، وإنما أمة محمد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ظاهرا، إذ لا وقوف على الباطن، وإذا ظهر أنا متعبدون باتباعهم فيجوز أن يستدل بهذا على أنهم صادقون، لان الله تعالى لا يتعبدنا باتباع الكاذب وتعظيمه والاقتداء به، فإن قيل: كيف يتصور رجوع عدد المسلمين إلى ما دون عدد التواتر، وذلك يؤدي إلى انقطاع التكليف، فإن التكليف يدوم بدوام الحجة، والحجة تقوم بخبر التواتر عن أعلام النبوة، وعن وجود محمد صلى الله عليه وسلم وتحديه بالنبوة، والكفار لا يقومون بنشر أعلام النبوة، بل يجتهدون في طمسها، والسلف من الائمة مجمعون على دوام التكليف إلى القيامة، وفي ضمنه الإجماع على استحالة اندراس الاعلام، وفي نقصان عدد التواتر ما يؤدي إلى الاندراس، وإذا لم يتصور وجود هذه الحادثة فكيف نخوض في حكمها، قلنا: يحتمل أن يقال: ذلك ممتنع لهذه الأدلة، وإنما معنى تصور هذه المسألة رجوع عدد أهل الحل والعقد إلى ما دون عدد التواتر، وإن قطعنا بأن قول العوام لا يعتبر، فتدوم أعلام الشرع بتواتر العوام، ويحتمل أن يقال: يتصور وقوعها، والله تعالى يديم الاعلام بالتواتر الحاصل من جهة المسلمين والكفار، فيتحدثون بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، ووجود معجزته، وإن لم يعترفوا بكونها معجزة، أو يخرق الله تعالى العادة، فيحصل العلم بقول القليل حتى تدوم الحجة، بل نقول: قول القليل مع القرائن المعلومة في مناظرته وتسديده قد يحصل العلم من غير خرق عادة، فبجميع هذه الوجوه يبقى الشرع محفوظا، فإن قيل: فإذا جاز أن يقل عدد أهل الحل والعقد، فلو رجع إلى واحد، فهل يكون مجرد قوله حجة قاطعة؟ قلنا: إن اعتبرنا موافقة العوام فإذا، قال قولا وساعده عليه العوام ولم يخالفوه فيه فهو إجماع الامة، فيكون حجة، إذ لو لم يكن لكان قد اجتمعت الامة على الضلالة والخطأ، وإن لم نلتفت إلى قول العوام فلم يوجد ما يتحقق به اسم الاجتماع والإجماع، إذ يستدعي ذلك عددا بالضرورة حتى يسمى إجماعا، ولا أقل من اثنين أو ثلاثة، وهذا كله يتصور على مذهب من يعتبر إجماع من بعد الصحابة، فأما من لا يقول إلا بإجماع الصحابة فلا يلزمه شئ من ذلك، لان الصحابة قد جاوز عددهم عدد التواتر. مسألة (مذهب الظاهرية) ذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد الصحابة، وهو فاسد، لان الأدلة الثلاثة على كون الإجماع حجة، أعني الكتاب والسنة والعقل، لا تفرق بين عصر وعصر، فالتابعون إذا أجمعوا فهو إجماع من جميع الامة ومن خالفهم فهو سالك غير سبيل المؤمنين، ويستحيل بحكم العادة أن يشذ الحق عنهم مع كثرتهم عند من يأخذه من العادة، ولهم شبهتان، أضعفهما قولهم الاعتماد على الخبر والآية، وهو قوله تعالى: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} (النساء: 511) يتناول الذين نعتوا بالايمان، وهم الموجودون وقت نزول الآية، فإن المعدوم لا يوصف بالايمان، ولا يكون له سبيل، وقوله عليه السلام: لا تجتمع أمتي على الخطأ يتناول أمته الذين آمنوا به وتصور إجماعهم واختلافهم، وهم الموجودون، وهذا باطل، إذ يلزم على مساقه أن لا ينعقد إجماع بعد موت سعد بن معاذ وحمزة ومن استشهد من المهاجرين والانصار ممن كانوا موجودين عند نزول الآية، فإن إجماع من وراءهم ليس إجماع جميع المؤمنين وكل الامة، ويلزم أن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزول الآية وكملت آلته بعد ذلك، وقد أجمعنا وإياهم والصحابة على أن موت واحد من الصحابة لا يحسم باب الإجماع، بل إجماع الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم حجة بالاتفاق، وكم من صحابي استشهد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية. الشبهة الثانية: أن الواجب اتباع سبيل جميع المؤمنين وإجماع جميع الامة، وليس التابعون جميع الامة، فإن الصحابة وإن ماتوا لم يخرجوا بموتهم عن الامة، ولذلك لو خالف واحد من الصحابة إجماع التابعين لا يكون قول جميع الامة، ولا يحرم الاخذ بقول الصحابي، فإذا كان خلاف بعض الصحابة يدفع إجماع التابعين، فعدم وفاقهم أيضا يدفع، لانهم بالموت لم يخرجوا عن كونهم من الامة، قالوا: وقياس هذا يقتضي أن لا يثبت وصف الكلية أيضا للصحابة، بل ينتظر لحوق التابعين وموافقتهم من بعدهم إلى القيامة، فإنهم كل الامة، لكن لو اعتبر ذلك لم ينتفع بالإجماع إلا في القيامة، فثبت أن وصف الكلية إنما هو لمن دخل في الوجود دون من لم يدخل، فلا سبيل إلى إخراج الصحابة من الجملة، وعند ذلك لا يثبت وصف كلية الامة للتابعين؟ والجواب أنه كما بطل على القطع الالتفات إلى اللاحقين بطل الالتفات إلى الماضين، ولولا ذلك لما تصور إجماع بعد موت واحد من المسلمين في زمان الصحابة، والتابعين، ولا بعد أن استشهد حمزة، وقد اعترفوا بصحة إجماع الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موت من مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك إلا لان الماضي لا يعتبر، والمستقبل لا ينتظر وأن وصف كلية الامة حاصل لكل من الموجودين في كل وقت، وأما إجماع التابعين على خلاف قول واحد من الصحابة، فقد قال قوم: يصير قول الصحابي مهجورا لانهم كل الامة، وإن سلمنا وهو الصحيح فنقول: إن اتفقوا على وفق قوله انعقد الإجماع، إذ موافقته إن لم تقو الإجماع فلا تقدح فيه، وإن أجمعوا على خلاف قوله فلا يصير ذلك القول عندنا مهجورا حتى يحرم على تابعي التابعين موافقته، لانه بعد أن أفتى في المسألة فليس فتوى التابعين فيها فتوى جميع الامة، بل فتوى البعض، فإن قيل إن ثبت نعت الكلية للتابعين فليكن خلاف قولهم بعدهم حراما، وإن قال به صحابي قبلهم، وإن لم يكونوا كل الامة، فينبغي أن لا تقوم الحجة بإجماعهم، ولا يحرم خلافهم، إذ خلاف بعض الامة ليس بحرام، أما أن تكون كلية الامة في شئ دون شئ فهذا متناقض، وجمع بين النفي والاثبات؟ قلنا: ليس بمتناقض، لان الكلية إنما تثبت بالاضافة إلى المسألة التي خاضوا فيها، فإذا نزلت مسألة بعد الصحابة فالتابعون فيها كل الامة إذا أجمعوا فيها، أما ما أفتى فيها الصحابي ففتواه ومذهبه لا ينقطع بموته، وهذا كالصحابي إذا مات بعد الفتوى، وأجمع الباقون على خلافه، لا يكون ذلك إجماعا من الامة، ولو مات ثم نزلت واقعة بعده انعقد الإجماع على كل مذهب، وتكون الكلية حاصلة بالاضافة، فإن قيل: إن كان في الامة غائب لا ينعقد الإجماع دونه، وإن لم يكن لذلك الغائب خبر من الواقعة، ولا فتوى فيها، لكن نقول: لو كان حاضرا لكان له قول فيها، فلا بد من موافقته، فليكن الميت قبل التابعين كالغائب؟ قلنا: يبطل بالميت الأول من الصحابة، فإن الإجماع انعقد دونه، ولو كان غائبا لم ينعقد، لان الغائب في الحال ذو مذهب ور أي بالقوة فتمكن موافقته، ومخالفته، فيحتمل أن يوافق أو يخالف إذا عرضت المسألة عليه، بخلاف الميت، فإنه لا يتصور في حقه خلاف أو وفاق، لا بالقوة ولا بالفعل، بل المجنون والمريض الزائل العقل والطفل لا ينتظر لانه بطل منه إمكان الوفاق والخلاف، فإن قيل: فما أجمع عليه التابعون يندفع، بخلاف واحد من الصحابة إذا نقل، فإن لم ينقل فلعله خالف، ولكن لم ينقل إلينا فلا يستيقن إجماع كل الامة؟ قلنا: يبطل بالميت الأول من الصحابة، فإن إمكان خلافه لا يكون كحقيقة خلافه، وهذا التحقيق، وهو أنه لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج، إذ ما من حكم إلا ويتصور تقدير نسخه وانفراد الواحد بنقله، وموته قبل أن ينقل إلينا فيبطل إجماع الصحابة، لاحتمال أن واحدا منهم أضمر المخالفة، وإنما أظهر الموافقة لسبب، ويرد خبر الواحد لاحتمال أن يكون كاذبا، وإذا عرف الإجماع وانقرض العصر أمكن رجوع واحد منهم قبل الموت، وإن لم ينقل إلينا فيبطل الإجماع على مذهب من يشترط انقراض العصر، فإن قيل: إن الأصل عدم النسخ وعدم الرجوع؟ قلنا: والأصل عدم خوضه في الواقعة، وعدم الخلاف والوفاق جميعا، ومع أن الأصل العدم، فالاحتمال لا ينتفي، وإذا ثبت الاحتمال حصل الشك فيصير الإجماع غير مستيقن مع الشك، ولكن يقال: لا يندفع الإجماع بكل شك، فإن قيل في مسألة تجويز النسخ وتجويز الرجوع شك بعد استيقان أصل الحجة، وإنما الشك في دوامها، وهاهنا الشك في أصل الإجماع، لان الإجماع موقوف على حصول نعت الكلية لهم، ونعت الكلية موقوف على معرفة انتفاء الخلاف، فإذا شككنا في انتفاء الخلاف شككنا في الكلية فشككنا في الإجماع؟ قلنا: لا بل نعت الكلية حاصل للتابعين، وإنما ينتفي بمعرفة الخلاف فإذا لم يعرف بقيت الكلية، وما ذكروه يضاهي قول القائل: الحجة في نص مات الرسول عليه السلام قبل نسخه، فإذا لم يعرف موته قبل نسخه شككنا في الحجة، والحجة الإجماع المنقرض عليه العصر فإذا شككنا في الرجوع فقد شككنا في الحجة، وكذلك القول في قول الميت الأول من الصحابة، فإنا لا نقول: صار كلية الباقين مشكوكا فيها، هذا تمام الكلام في الركن الأول. الركن الثاني: في نفس الإجماع ونعني به اتفاق فتاوى الامة في المسألة في لحظة واحدة انقرض عليه العصر أو لم ينقرض، أفتوا عن اجتهاد أو عن نص، مهما كانت الفتوى نطقا صريحا، وتمام النظر في هذا الركن ببيان أن السكوت ليس كالنطق وأن انقراض العصر ليس بشرط، وأن الإجماع قد ينعقد عن اجتهاد فهذه ثلاث مسائل: مسألة (الإجماع السكوتي) إذا أفتى بعض الصحابة بفتوى وسكت الآخرون لم ينعقد الإجماع، ولا ينسب إلى ساكت قول، وقال قوم: إذا انتشر وسكتوا فسكوتهم كالنطق حتى يتم به الإجماع، وشرط قوم انقراض العصر على السكوت، وقال قوم: هو حجة وليس بإجماع، وقال قوم: ليس بحجة ولا إجماع، ولكنه دليل تجويزهم الاجتهاد في المسألة، والمختار أنه ليس بإجماع ولا حجة، ولا هو دليل على تجويز الاجتهاد في المسألة، إلا إذا دلت قرائن الاحوال على أنهم سكتوا مضمرين الرضا، وجواز الاخذ به عند السكوت، والدليل عليه أن فتواه، إنما تعلم بقوله الصريح الذي لا يتطرق إليه احتمال وتردد، والسكوت متردد، فقد يسكت من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب: الأول: أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول، ونحن لا نطلع عليه، وقد تظهر قرائن السخط عليه مع سكوته. الثاني: أن يسكت لانه يراه قولا سائغا لمن أداه إليه اجتهاده، وإن لم يكن هو موافقا عليه، بل كان يعتقد خطأه. الثالث: أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا يرى الانكار في المجتهدات أصلا، ولا يرى الجواب إلا فرض كفاية، فإذا كفاه من هو مصيب سكت وإن خالف اجتهاده. الرابع: أن يسكت وهو منكر لكن ينتظر فرصة الانكار، ولا يرى البدار مصلحة لعارض من العوارض ينتظر زواله ثم يموت قبل زوال ذلك العارض أو يشتغل عنه. الخامس: أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه وناله ذل وهوان كما قال ابن عباس في سكوته عن إنكار العول في حياة عمر كان رجلا مهيبا فهبته. السادس: أن يسكت، لانه متوقف في المسألة، لانه بعد في مهلة النظر. السابع: أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه الانكار، وأغناه عن الاظهار، ثم يكون قد غلط فيه، فترك الانكار عن توهم، إذا رأى الانكار فرض كفاية وظن أنه قد كفى، وهو مخطئ في وهمه، فإن قيل: لو كان فيه خلاف لظهر؟ قلنا: لو كان فيه وفاق لظهر، فإن تصور عارض يمنع من ظهور الوفاق تصور مثله في ظهور الخلاف. وبهذا يبطل قول الجبائي حيث شرط انقراض العصر في السكوت إذ من العوارض المذكورة ما يدوم إلى آخر العصر، أما من قال هو حجة وإن لم يكن إجماعا فهو تحكم، لانه قول بعض الامة والعصمة إنما تثبت للكل فقط، فإن قيل: نعلم قطعا أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة، فنقل إليهم مذهب بعض الصحابة مع انتشاره وسكوت الباقين كانوا لا يجوزون العدول عنه، فهو إجماع منهم على كونه حجة، قلنا: هذا إجماع غير مسلم، بل لم يزل العلماء مختلفين في هذه المسألة، ويعلم المحصلون أن السكوت متردد، وأن قول بعض الامة لا حجة فيه. مسألة (انعقاد الإجماع باتفاق الامة) إذا اتفقت كلمة الامة ولو في لحظة انعقد الإجماع، ووجبت عصمتهم عن الخطأ، وقال قوم: لا بد من انقراض العصر وموت الجميع، وهذا فاسد، لان الحجة في اتفاقهم لا في موتهم، وقد حصل قبل الموت، فلا يزيده الموت تأكيدا، وحجة الإجماع الآية والخبر، وذلك لا يوجب اعتبار العصر، فإن قيل: ما داموا في الاحياء فرجوعهم متوقع وفتواهم غير مستقرة، قلنا: والكلام في رجوعهم، فإنا لا نجوز الرجوع من جميعهم، إذ يكون أحد الإجماعين خطأ، وهو محال، أما بعضهم فلا يحل له الرجوع، لانه برجوعه خالف إجماع الامة التي وجبت عصمتها عن الخطأ، نعم يمكن أن يقع الرجوع من بعضهم ويكون به عاصيا فاسقا، والمعصية تجوز على بعض الامة، ولا تجوز على الجميع، فإن قيل: كيف يكون مخالفا للإجماع وبعد ما تم الإجماع، وإنما يتم بانقراض العصر؟ قلنا: إن عنيتم به أنه لا يسمى إجماعا فهو بهت على اللغة والعرف، وإن عنيتم أن حقيقته لم تتحقق فما حده، وما الإجماع إلا اتفاق فتاويهم، والاتفاق قد حصل، وما بعد ذلك استدامة للاتفاق لا إتمام للاتفاق، ثم نقول: كيف يدعي ذلك ونحن نعلم أن التابعين في زمان بقاء أنس بن مالك وأواخر الصحابة كانوا يحتجون بإجماع الصحابة؟ ولم يكن جواز الاحتجاج بالإجماع مؤقتا بموت آخر الصحابة، ولهذا قال بعضهم: يكفي موت الاكثر، وهو تحكم آخر لا مستند له، ثم نقول: هذا يؤدي إلى تعذر الإجماع، فإنه إن بقي واحد من الصحابة جاز للتابعي أن يخالف إذ لم يتم الإجماع، وما دام واحد من عصر التابعين أيضا لا يستقر الإجماع منهم، فيجوز لتابعي الخلاف، وهذا خبط لا أصل له، ولهم شبه: الشبهة الأولى: قولهم إنه: ربما قال بعضهم ما قاله عن وهم وغلط، فيتنبه له، فكيف يحجر عليه في الرجوع عن الغلط، وكيف يؤمن ذلك باتفاق يجري في ساعة واحدة؟ قلنا: وبأن يموت من أين يحصل أمان من غلطه، وهل يؤمن من الغلط إلا دلالة النص على وجوب عصمة الامة، وأما إذا رجع وقال: تبينت أني غلطت فنقول: إنما يتوهم عليك الغلط إذا انفردت، وأما ما قلته في موافقة الامة فلا يحتمل الخطأ، فإن قال: تحققت أني قلت ما قلته عن دليل كذا، وقد انكشف لي خلافه قطعا فنقول: إنما أخطأت في الطريق لا في نفس المسألة، بل موافقة الامة تدل على أن الحكم حق، وإن كنت في طريق الاستدلال مخطئا. الشبهة الثانية: إنهم ربما قالوا عن اجتهاد وظن، ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يرجع، وإذا جاز الرجوع دل أن الإجماع لم يتم؟ قلنا: لا حجر على المجتهد في الرجوع إذا انفرد باجتهاده، أما ما وافق فيه اجتهاده اجتهاد الامة فلا يجوز الخطأ فيه ويجب كونه حقا والرجوع عن الحق ممنوع. الشبهة الثالثة: أنه لو مات المخالف لم تصر المسألة إجماعا بموته، والباقون هم كل الامة، لكنهم في بعض العصر، فلذلك لا يصير مذهب المخالف مهجورا، فإن كان العصر لا يعتبر فليبطل مذهب المخالف، قلنا: قال قوم: يبطل مذهبه ويصير مهجروا، لان الباقين هم كل الامة في ذلك الوقت، وهو غير صحيح عندنا بل الصحيح، أنهم ليسوا كل الامة بالاضافة إلى تلك المسألة التي أفتى فيها الميت، فإن فتواه لا ينقطع حكمها بموته، وليس هذا للعصر، فإنه جار في الصحابي الواحد إذا قال قولا وأجمع التابعون في جميع عصرهم على خلافه، فقد بينا أنه لا يبطل مذهبه، لانهم ليسوا كل الامة بالاضافة إلى هذه المسألة. الشبهة الرابعة: ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: اجتمع رأيي ورأي عمر على منع بيع أمهات الأولاد، وأنا الآن أرى بيعهن، فقال عبيدة السلماني: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، قلنا: لو صح إجماع الصحابة قاطبة لما كان هذا يدل من مذهب علي على اشتراط انقراض العصر، ولو ذهب إلى هذا صريحا لم يجب تقليده، كيف ولم يجتمع إلا رأيه ورأي عمر كما قال، وأما قول عبيدة: رأيك في الجماعة، ما أراد به موافقة الجماعة إجماعا، وإنما أراد به أن رأيك في زمان الالفة والجماعة، والاتفاق والطاعة للامام أحب إلينا من رأيك في الفتنة والفرقة وتفرق الكلمة وتطرق التهمة إلى علي في البراءة من الشيخين رضي الله عنهم فلا حجة فيما ليس صريحا في نفسه. |
12-06-2012, 03:12 PM | #38 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (كيفية انعقاد الإجماع) يجوز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة، وقال قوم الخلق الكثير لا يتصور اتفاقهم في مظنة الظن، ولو تصور لكان حجة، وإليه ذهب ابن جرير الطبري، وقال قوم، هو متصور وليس بحجة، لان القول بالاجتهاد يفتح باب الاجتهاد ولا يحرمه، والمختار أنه متصور وأنه حجة، وقولهم أن الخلق الكثير كيف يتفقون على حكم واحد في مظنة الظن؟ قلنا: هذا إنما يستنكر فيما يتساوى فيه الاحتمال، وأما الظن الاغلب فيميل إليه كل واحد، فأي بعد في أن يتفقوا على أن النبيذ في معنى الخمر في الاسكار، فهو في معناه في التحريم، كيف وأكثر الإجماعات مستندة إلى عمومات وظواهر وأخبار آحاد صحت عند المحدثين، والاحتمال يتطرق إليها، كيف وقد أجمعوا على التوحيد والنبوة، وفيهما من الشبهة ما هو أعظم جذبا لاكثر الطباع من الاحتمال الذي في مقابلة الظن الاظهر، وقد أجمعت على إبطال النبوة مذاهب باطلة ليس لها دليل قطعي ولا ظني، فكيف لا يجوز الاتفاق على دليل ظاهر وظن غالب، ويدل عليه جواز الاتفاق عن اجتهاد لا بطريق القياس، كالاتفاق على جزاء الصيد، ومقدار أرش الجناية، وتقدير النفقة، وعدالة الائمة والقضاة، وكل ذلك مظنون وإن لم يكن قياسا. ولهم شبه: الأولى: قولهم: كيف تتفق الامة على اختلاف طباعها وتفاوت أفهامها في الذكاء والبلادة على مظنون؟ قلنا: إنما يمتنع مثل هذا الاتفاق في زمان واحد وساعة معينة، لانهم في مهلة النظر قد يختلفون، أما في أزمنة متمادية فلا يبعد أن يسبق الاذكياء إلى الدلالة الظاهرة، ويقررون ذلك عند ذوي البلادة، فيقبلونه منهم ويساعدون عليه، وأهل هذا المذهب قد جوزوا الإجماع على نفي القياس وإبطاله، مع ظهور أدلة صحته، فكيف يمتنع الإجماع على هذا. الشبهة الثانية: قولهم: كيف تجتمع الامة على قياس، وأصل القياس مختلف فيه؟ قلنا: إنما يفرض ذلك من الصحابة، وهم متفقون عليه، والخلاف حدث بعدهم وإن فرض بعد حدوث الخلاف فيستند القائلون بالقياس إلى القياس والمنكرون له إلى اجتهاد ظنوا أنه ليس بقياس، وهو على التحقيق قياس، إذ قد يتوهم غير العموم عموما، وغير الامر أمرا، وغير القياس قياسا، وكذا عكسه. الشبهة الثالثة: قولهم إن الخطأ في الاجتهاد جائز، فكيف تجتمع الامة على ما يجوز فيه الخطأ، وربما قالوا: الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد، فلو انعقد الإجماع عن قياس لحرمت المخالفة التي هي جائز بالإجماع، ولتناقض الإجماعان؟ قلنا: إنما يجوز الخطأ في اجتهاد ينفرد به الآحاد، أما اجتهاد الامة المعصومة فلا يحتمل الخطأ كاجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقياسه، فإنه لا يجوز خلافه لثبوت عصمته، فكذا عصمة الامة من غير فرق.
الباب الثالث في حكم الإجماع وحكمه وجوب الاتباع وتحريم المخالفة، والامتناع عن كل ما ينسب الامة إلى تضييع الحق، والنظر فيما هو خرق ومخالفة، وما ليس بمخالفة يتهذب برسم مسائل: مسألة (الإجماع على رأيين) إذا اجتمعت الامة في المسألة على قولين كحكمهم، مثلا في الجارية المشتراة إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيبا، فقد ذهب بعضهم إلى أنها ترد مع العقر وذهب بعضهم إلى منع الرد، فلو اتفقوا على هذين المذهبين كان المصير إلى الرد مجانا خرقا للإجماع عند الجماهير، إلا عند شذوذ من أهل الظاهر والشافعي إنما ذهب إلى الرد مجانا لان الصحابة بجملتهم لم يخوضوا في المسألة وإنما نقل فيها مذهب بعضهم، فلو خاضوا فيها بجملتهم واستقر رأي جميعهم على مذهبين لم يجز إحداث مذهب ثالث، ودليله أنه يوجب نسبة الامة إلى تضييع الحق، إذ لا بد لمذهب الثالث من دليل، ولا بد من نسبة الامة إلى تضييعه والغفلة عنه، وذلك محال، ولهم شبه: الشبهة الأولى: قولهم: إنهم خاضوا خوض مجتهدين، ولم يصرحوا بتحريم قول ثالث؟ قلنا: وإذا اتفقوا على قول واحد عن اجتهاد فهو كذلك، ولم يجز خلافهم لانه يوجب نسبتهم إلى تضييح الحق والغفلة عن دليله فكذلك هاهنا. الشبهة الثانية: قولهم إنه لو استدل الصحابة بدليل أو علة لجاز الاستدلال بعلة أخرى، لانهم لم يصرحوا ببطلانها فكذلك القول الثالث لم يصرحوا ببطلانه؟ قلنا: فليجز خلافهم إذا اتفقوا عن اجتهاد، إذ يجوز التعليل بعلة أخرى فيما اتفقوا عليه، لكن الجواب أنه ليس من فرض دينهم الاطلاع على جميع الأدلة، بل يكفيهم معرفة الحق بدليل واحد، فليس في إحداث علة أخرى واستنباطها نسبة إلى تضييع الحق، وفي مخالفتهم في الحكم إذا اتفقوا نسبة إلى التضييع، فكذلك إذا اختلفوا على قولين. الشبهة الثالثة: إنه لو ذهب بعض الصحابة إلى أن اللمس والمس ينقضان الوضوء وبعضهم إلى أنهما لا ينقضان الوضوء، ولم يفرق واحد بينهما، فقال تابعي: ينقض أحدهما دون الآخر، كان هذا جائزا وإن كان قولا ثالثا قلنا: لان حكمه في كل مسألة يوافق مذهب طائفة وليس في المسألتين حكم واحد، وليست التسوية مقصودة، ولو قصدوها وقالوا لا فرق واتفقوا عليه لم يجز الفرق، وإذا فرقوا بين المسألتين واتفقوا على الفرق قصدا امتنع الجمع، أما إذا لم يجمعوا ولم يفرقوا فلا يلتئم حكم واحد من مسألتين، بل نقول صريحا لا يخلو إنسان عن معصية وخطأ في مسألة، فالامة مجتمعة على المعصية والخطأ وكل ذلك ليس بمحال إنما يستحيل الخطأ بحيث يضيع الحق حتى لا يقوم به طائفة مع قوله عليه السلام: لا تزال طائفة من أمتي على الحق فلهذا نقول: يجوز أن تنقسم الامة في مسألتين إلى فرقتين وتخطئ فرقة في مسألة، والفرقة الاخرى تقوم بالحق فيها، والقائمون بالحق يخطئون في المسألة الاخرى، ويقوم بالحق فيها المخطئون في المسألة الأولى حتى يقول مثلا أحد شطري الامة: القياس ليس بحجة والخوارج مبطلون، ويقول فريق آخر القياس حجة والخوارج محقون، فيشملهم الخطأ، ولكن في مسألتين، فلا يكون الحق في مسألتين مضيعا بين الامة في كل واحد منهما. الشبهة الرابعة: إن مسروقا أحدث في مسألة الحرام قولا ثالثا ولم ينكر عليه منكر، قلنا: لم يثبت استقرار كافة الصحابة على رأيين في مسألة الحرام بل ربما كان بعضهم فيها في مهلة النظر أو لم يخض فيها، أو لعل مسروقا خالف الصحابة في ذلك الوقت ولم ينطق بوفاقهم وكان أهلا للاجتهاد في وقت وقوع هذه المسألة، كيف ولم يصح هذا عن مسروق إلا بإخبار الآحاد، فلا يدفع بها ما ذكرنا. مسألة (خلاف القليل للإجماع) إذا خالف واحد من الامة أو اثنان لم ينعقد الإجماع دونه، فلو مات لم تصر المسألة إجماعا، خلافا لبعضهم، ودليلنا أن المحرم مخالفة الامة كافة، ومن ذهب إلى مذهب الميت بعد عصره لا يمكن أن يقال مذهبه خلاف كافة الامة، لان الميت من الامة لا ينقطع مذهبه بموته، ولذلك يقال: فلان وافق الشافعي أو خالفه، وذلك بعد موت الشافعي، فمذهب الميت لا يصير مهجورا بموته، ولو صار مهجورا لصار مذهب الجميع كالمنعدم عند موتهم، حتى يجوز لمن بعدهم أن يخالفهم، فإن قيل: فلو مات في مهلة النظر وهو بعد متوقف فماذا تقولون فيه؟ قلنا: نقطع في طرفين واضحين إحداهما: أن يموت قبل الخوض في المسألة وقبل أن تعرض عليه، فالباقون بعده كل الامة، وإن خاض وأفتى فالباقون بعض الامة، وإن مات في مهلة النظر فهذا محتمل، فإنه كما لم يخالفهم لم يوافقهم أيضا، بل المتوقف مخالف للجازم، لكنه بصدد الموافقة فهذه المسألة محتملة عندنا والله أعلم. مسألة (إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة) إذا اتفق التابعون على أحد قولي الصحابة لم يصر القول الآخر مهجورا، ولم يكن الذاهب إليه خارقا للإجماع، خلافا للكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وكثير من القدرية، كالجبائي وابنه، لانه ليس مخالفا لجميع الامة، فإن الذين ماتوا على ذلك المذهب هم من الامة، والتابعون في تلك المسألة بعض الامة، وإن كانوا كل الامة، فمذهبهم باختيار أحد القولين لا يحرم القول الآخر، فإن صرحوا بتحريم القول الآخر فنحن بين أمرين: إما أن نقول هذا محال وقوعه لانه يؤدي إلى تناقض الإجماعين، إذ مضت الصحابة مصرحة بتجويز الخلاف، وهؤلاء اتفقوا على تحريم ما سوغوه، وإما أن نقول أن ذلك ممكن، ولكنهم بعض الامة في هذه المسألة، والمعصية من بعض الامة جائزة، وإن كانوا كل الامة في كل مسألة لم يخض الصحابة فيها، لكن هذا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إذ يكون الحق قد ضاع في هذا الزمان، فلعل من يميل إلى هذا المذهب يجعل الحديث من أخبار الآحاد، فإن قيل: بم تنكرون على من يقول هذا إجماع يجب اتباعه، وأما الصحابة فقد اتفقوا على قولين: بشرط أن لا يعثر من بعدهم على دليل يعين الحق في أحدهما: قلنا: هذا تحكم واختراع عليهم، فإنهم لم يشترطوا هذا الشرط والإجماع حجة قاطعة، فلا يمكن الشرط في الحجة القاطعة، إذ يتطرق الاحتمال إليه ويخرج عن كونه قاطعا، ولو جاز هذا لجاز أن يقال: إذا أجمعوا على قول واحد عن اجتهاد فقد اتفقوا بشرط أن لا يعثر من بعدهم على دليل يعين الحق في خلافه، وقد مضت الصحابة متفقة على تسويغ كل واحد من القولين فلا يجوز خرق إجماعهم. مسألة (الرجوع إلى أحد الرأيين) إذا اختلفت الامة على قولين ثم رجعوا إلى قول واحد صار ما اتفقوا عليه إجماعا قاطعا عند من شرط انقراض العصر، ويخلص من الاشكال، أما نحن إذا لم نشترط فالإجماع الأول ولو في لحظة قد تم على تسويغ الخلاف: فإذا رجعوا إلى أحد القولين فلا يمكننا في هذه الصورة أن نقول هم بعض الامة في هذه المسألة كما ذكرناه في اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة، فيعظم الاشكال، وطرق الخلاص عنه خمسة: أحدها: أن نقول هذا محال وقوعه، وهو كفرض إجماعهم على شئ ثم رجوعهم بأجمعهم إلى خلافه، أو اتفاق التابعين على خلافه والشارطون لانقراض العصر يتخذون هذه المسألة عمدة لهم ويقولون مثلا إذا اختلفوا في مسألة النكاح بلا ولي فمن ذهب إلى بطلانه جاز له أن يصر عليه فلم لا يجوز للآخرين أن يوافقوه مهما ظهر لهم دليل البطلان، وكيف يحجز على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يوافق مخالفه؟ قلنا: هذا استبعاد محض، ونحن نحيل ذلك لانه يؤدي إلى تناقض الإجماعين، فإن الإجماع الأول قد دل على تسويغ الخلاف، وعلى إيجاب التقليد على كل عامي لمن شاء من المجتهدين، ولا يكون الاتفاق على تسويغ ذلك إلا عن دليل قاطع أو كالقاطع في تجويزه، وكيف يتصور رفعه وإحالة وقوع هذا التناقض في الإجماعين أقرب من التحكم باشتراط العصر، ثم يبقى الاشكال في اتفاق التابعين بعد انقراض العصر الأول على اختلاف قولين، ثم لا خلاف في أنه يجوز الرجوع إلى أحدهما في القطعيات، كما رجعوا إلى قتال المانعين للزكاة بعد الخلاف، وإلى أن الائمة من قريش، لان كل فريق يؤثم مخالفه، ولا يجوز مذهبه بخلاف المجتهدات، فإن الخلاف فيها مقرون بتجويز الخلاف وتسويغ الاخذ بكل مذهب أدى إليه الاجتهاد من المذهبين. والمخلص الثاني: اشتراط انقراض العصر، وهو مشكل فإن اشتراطه تحكم. والمخلص الثالث: اشتراط كون الإجماع مستندا إلى قاطع لا إلى قياس واجتهاد، فإن من شرط هذا يقول لا يحصل من اختلافهم إجماع على جواز كل مذهب، بل ذلك أيضا مستند إلى اجتهاد، فإذا رجعوا إلى واحد فالنظر إلى ما اتفقوا عليه لتعين الحق، بدليل قاطع في أحد المذهبين، وهو مشكل لانه لو فتح هذا الباب لم يكن التعلق بالإجماع، إذ ما من إجماع إلا ويتصور أن يكون عن اجتهاد، فإذا انقسم الإجماع إلى ما هو حجة وإلى ما ليس بحجة ولا فاصل سقط التمسك به، وخرج عن كونه حجة، فإنه إن ظهر لنا القاطع الذي هو مستندهم فيكون الحكم مستقلا بذلك القاطع، ومستندا إليه لا إلى الإجماع، ولان قوله عليه السلام: لا تجتمع أمتي على الخطأ لم يفرق بين إجماع وإجماع، ولا يتخلص من هذا إلا من أنكر تصور الإجماع عن اجتهاد، وعند ذلك يناقض آخر كلامه أوله حيث قال: اتفاقهم على تسويغ الخلاف مستنده الاجتهاد. المخلص الرابع: أن يقال: النظر إلى الاتفاق الاخير فأما في الابتداء فإنما جوز الخلاف بشرط أن لا ينعقد إجماع على تعيين الحق في واحد، وهذا مشكل فإنه زيادة شرط في الإجماع والحجج القاطعة لا تقبل الشرط الذي يمكن أن يكون وأن لا يكون، ولو جاز هذا لجاز أن يقال: الإجماع الثاني ليس بحجة، بل إنما يكون حجة بشرط أن لا يكون اتفاقا بعد اختلاف، وهذا أولى لانه يقطع عن الإجماع الشرط المحتمل. المخلص الخامس: هذا، وهو أن الاخير ليس بحجة، ولا يحرم القول المهجور، لان الإجماع إنما يكون حجة بشرط أن لا يتقدم اختلاف، فإذا تقدم لم يكن حجة، وهذا أيضا مشكل، لان قوله عليه السلام: لا تجتمع أمتي على الخطأ يحسم باب الشرط، ويوجب كون كل إجماع حجة كيف ما كان، فيكون كل واحد من الإجماعين حجة، ويتناقض، فلعل الأولى الطريق الأول، وهو أن هذا لا يتصور، لانه يؤدي إلى التناقض، وتصويره كتصوير رجوع أهل الإجماع عما أجمعوا عليه، وكتصوير اتفاق التابعين على خلاف إجماع الصحابة، وذلك مما يمتنع وقوعه بدليل السمع فكذلك هذا، فإن قيل: فإذا ذهب جميع الامة من الصحابة إلى العول إلا ابن عباس وإلى منع بيع أمهات الأولاد إلا عليا، فإذا ظهر لهما الدليل على العول وعلى منع البيع فلم يحرم عليهما الرجوع إلى موافقة سائر الامة، وكيف يستحيل أن يظهر لهما ما ظهر للامة، ومذهبكم يؤدي إلى هذه الاحالة عند سلوك الطريق الأول؟ قلنا: لا إشكال على الطريق الأول إلا هذا، وسبيل قطعه أن يقال: لا يحرم عليهما الرجوع لو ظهر لهما وجه ذلك، ولكنا نقول: يستحيل أن يظهر لهما وجه أو يرجعا لا لامتناعه في ذاته، لكن لافضائه إلى ما هو ممتنع سمعا، والشئ تارة يمتنع لذاته وتارة لغيره، كاتفاق التابعين على إبطال القياس وخبر الواحد، فإنه محال لا لذاته، لكن لافضائه إلى تخطئة الصحابة أو تخطئة التابعين كافة، وهو ممتنع سمعا، والله أعلم. مسألة (ظهور حديث يخالف إجماع الصحابة) فإن قال قائل إذا أجمعت الصحابة على حكم ثم ذكر واحد منهم حديثا على خلافه ورواه، فإن رجعوا إليه كان الإجماع الأول باطلا، وإن أصروا على خلاف الخبر فهو محال، لا سيما في حق من يذكره تحقيقا، وإذا رجع هو كان مخالفا للإجماع، وإن لم يرجع كان مخالفا للخبر، وهذا لا مخلص عنه إلا باعتبار انقراض العصر فليعتبر قلنا عنه مخلصان: أحدهما: أن هذا فرض محال، فإن الله يعصم الامة عن الإجماع على نقيض الخبر، أو يعصم الراوي عن النسيان إلى أن يتم الإجماع. الثاني: أنا ننظر إلى أهل الإجماع، فإن أصروا تبين أنه حق، وأن الخبر إما أن يكون غلط فيه الراوي فسمعه من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وظن أنه سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم أو تطرق إليه نسخ لم يسمعه الراوي وعرفه أهل الإجماع، وإن لم ينكشف لنا، فإن رجع الراوي كان مخطئا، لانه خالف الإجماع وهو حجة قاطعة، وإن رجع أهل الإجماع إلى الخبر قلنا: كان ما أجمعوا عليه حقا في ذلك الزمان إذ لم يكلفهم الله ما لم يبلغهم، كما يكون الحكم المنسوخ حقا قبل بلوغ النسخ، وكما لو تغير الاجتهاد أو يكون كل واحد من الرأيين حقا عند من صوب قول كل مجتهد، فإن قيل: فإن جاز هذا فلم لا يجوز أن يقال: إذا أجمعت الامة عن اجتهاد جاز لمن بعدهم الخلاف، بل جاز لهم الرجوع، فإن ما قالوه كان حقا ما دام ذلك الاجتهاد باقيا، فإذا تغير تغير الفرض والكل حق، لا سيما إذا اختلفوا عن اجتهاد ثم رجعوا إلى قول واحد، وهلا قلتم: إن ذلك جائز لانهم كانوا يجوزون للذاهب إلى إنكار العول وبيع أم الولد القول به ما غلب ذلك على ظنه، فإذا تغير ظنه تغير فرضه وحرم عليه ما كان سائغا له، ولا يكون هذا رفعا للإجماع بل تجويزا للمصير إلى مذهب بشرط غلبة الظن، فإذا تغير الظن لم يكن مجوزا، ويكون هذا مخلصا سادسا في المسألة التي قبل هذه المسألة؟ قلنا: ما أجمعوا عليه عن اجتهاد لا يجوز خلافه بعده، لا لانه حق فقط، لكن لانه حق اجتمعت الامة عليه، وقد أجمعت الامة على أن كل ما أجمعت الامة عليه يحرم خلافه لا كالحق الذي يذهب إليه الآحاد، وأما إذا اختلفوا عن اجتهاد فقد اتفقوا على جواز القول الثاني، فيصير جواز المصير إليه أمرا متفقا عليه، ولايجوز أن يقيد بشرط بقاء الاجتهاد، كما لو اتفقوا على قول واحد بالاجتهاد، فإنه لا يشترط فيه أن لا يتغير الاجتهاد، بل يحرم خلافه مطلقا من غير شرط، فكذلك هذا فإن قيل: فلو ظهر للتابعين ذلك الخبر على خلاف ما أجمعت الصحابة عليه ونقله إليهم من كان حاضرا عند إجماع أهل الحل والعقد، ولم يكن الراوي من أهل الحل والعقد؟ قلنا: يحرم على التابعين موافقته ويجب عليه اتباع الإجماع القاطع فإن خبر الواحد يحتمل النسخ والسهو والإجماع لا يحتمل ذلك. مسألة (هل يثبت الإجماع بخبر الواحد) الإجماع لا يثبت بخبر الواحد، خلافا لبعض الفقهاء، والسر فيه أن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة المتواترة، وخبر الواحد، لا يقطع به فكيف يثبت به قاطع وليس يستحيل التعبد به عقلا لو ورد كما ذكرناه في نسخ القرآن بخبر الواحد، لكن لم يرد، فإن قيل: فليثبت في حق وجوب العمل به إن لم يكن العمل به مخالفا لكتاب ولا سنة متواترة، إذ الإجماع كالنص في وجوب العمل، والعمل بما ينقله الراوي من النص واجب، وإن لم يحصل القطع به لصحة النص، فكذا الإجماع؟ قلنا: إنما يثبت العمل بخبر الواحد اقتداء بالصحابة وإجماعهم عليه، وذلك فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما ما روي عن الامة من اتفاق أو إجماع، فلم يثبت فيه نقل وإجماع، ولو أثبتناه لكان ذلك بالقياس، ولم يثبت لنا صحة القياس في إثبات أصول الشريعة، هذا هو الاظهر، ولسنا نقطع ببطلان مذهب من يتمسك به في حق العمل خاصة، والله أعلم. مسألة (ليست من الإجماع الاخذ بالاقل) الاخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع خلافا لبعض الفقهاء، ومثاله: إن الناس اختلفوا في دية اليهودي، فقيل: إنها مثل دية المسلم، وقيل: إنها مثل نصفها، وقيل إنها ثلثها، فأخذ الشافعي بالثلث الذي هو الاقل، وظن ظانون أنه تمسك بالإجماع، وهو سوء ظن بالشافعي رحمه الله، فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر فلا مخالف فيه، وإنما المختلف فيه سقوط الزيادة، ولا إجماع فيه، بل لو كان الإجماع على الثلث إجماعا على سقوط الزيادة لكان موجب الزيادة خارقا للإجماع، ولكان مذهبه باطلا على القطع، لكن الشافعي أوجب ما أجمعوا عليه، وبحث عن مدارك الأدلة، فلم يصح عنده دليل على إيجاب الزيادة، فرجع إلى استصحاب الحال في البراءة الأصلية التي يدل عليها العقل، فهو تمسك بالاستصحاب، ودليل العقل لا بدليل الإجماع، كما سيأتي معناه إن شاء الله تعالى، وهذا تمام الكلام في الإجماع الذي هو الأصل الثالث. |
12-06-2012, 03:14 PM | #39 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الأصل الرابع: دليل العقل والاستصحاب اعلم أن الاحكام السمعية لا تدرك بالعقل، لكن دل العقل على براءة الذمة عن الواجبات، وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل عليهم السلام وتأييدهم بالمعجزات، وانتفاء الاحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع، ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع، فإذا ورد نبي وأوجب خمس صلوات فتبقى الصلاة السادسة غير واجبة، لا بتصريح النبي بنفيها لكن كان وجوبها منتفيا، إذ لا مثبت للوجوب فبقي على النفي الأصلي لان نطقه بالايجاب قاصر على الخمسة، فبقي على النفي في حق السادسة، وكأن السمع لم يرد، وكذلك إذا أوجب صوم رمضان بقي صوم شوال على النفي الأصلي، وإذا أوجب عبادة في وقت بقيت الذمة بعد انقضاء الوقت على البراءة الأصلية، وإذا أوجب على القادر بقي العاجز على ما كان عليه، فإذا النظر في الاحكام إما أن يكون في إثباتها أو في نفيها، أما إثباتها فالعقل قاصر عن الدلالة عليه، وأم النفي فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد الدليل السمعي بالمعنى الناقل من النفي الأصلي، فانتهض دليلا على أحد الشطرين وهو النفي، فإن قيل: إذا كان العقل دليلا بشرط أن لا يرد سمع فبعد بعثة الرسل ووضع الشرع لا يعلم نفي السمع، فلا يكون انتفاء الحكم معلوما، ومنتهاكم عدم العلم بورود السمع وعدم العلم لا يكون حجة؟ قلنا: انتفاء الدليل السمعي قد يعلم، وقد يظن، فإنا نعلم أنه لا دليل على وجوب صوم شوال، ولا على وجوب صلاة سادسة، إذ نعلم أنه لو كان لنقل وانتشر ولما خفي على جميع الامة، وهذا علم بعدم الدليل، وليس هو عدم العلم بالدليل، فإن عدم العلم بالدليل ليس بحجة، والعلم بعدم الدليل حجة أما الظن، فالمجتهد إذا بحث عن مدارك الأدلة في وجوب الوتر والاضحية وأمثالهما فرآها ضعيفة ولم يظهر له دليل مع شدة بحثه وعنايته بالبحث غلب على ظنه انتفاء الدليل، فنزل ذلك منزلة العلم في حق العمل، لانه ظن استند إلى بحث واجتهاد، وهو غاية الواجب على المجتهد، فإن قيل: ولم يستحيل أن يكون واجبا ولا يكون عليه دليل، أو يكون عليه دليل لم يبلغنا؟ قلنا: أما إيجاب ما لا دليل عليه فمحال، لانه تكليف بما لا يطاق، ولذلك نفينا الاحكام قبل ورود السمع، وأما إن كان عليه دليل ولم يبلغنا فليس دليلا في حقنا، إذ لا تكليف علينا إلا فيما بلغنا، فإن قيل: فيقدر كل عامي أن ينفي مستندا إلى أنه لم يبلغه الدليل؟ قلنا: هذا إنما يجوز للباحث المجتهد المطلع على مدارك الأدلة القادر على الاستقصاء، كالذي يقدر على التردد في بيته لطلب متاع إذا فتش وبالغ، أمكنه أن يقطع بنفي المتاع، أو يدعي غلبة الظن، أما الاعمى الذي لا يعرف البيت ولا يبصر ما فيه فليس له أن يدعي نفي المتاع من البيت، فإن قيل: وهل للاستصحاب معنى سوى ما ذكرتموه؟ قلنا: يطلق الاستصحاب على أربعة أوجه يصح ثلاثة منها: الأول: ما ذكرناه. والثاني: استصحاب العموم إلى أن يرد تخصيص واستصحاب النص إلى أن يرد نسخ، أما العموم فهو دليل عند القائلين به، وأما النص فهو دليل على دوام الحكم بشرط أن لا يرد نسخ، كما دل العقل على البراءة الأصلية، بشرط أن لا يرد سمع مغير. الثالث: استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه، كالملك عند جريان العقد المملك وكشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام، فإن هذا وإن لم يكن حكما أصليا فهو حكم شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعا ولولا دلالة الشرع على دوامه إلى حصول براءة الذمة لما جاز استصحابه، فالاستصحاب ليس بحجة إلا فيما دل الدليل على ثبوته ودوامه بشرط عدم المغير، كما دل على البراءة العقل وعلى الشغل السمعي وعلى الملك الشرعي، ومن هذا القبيل الحكم بتكرر اللزوم والوجوب إذا تكررت أسبابها، كتكرر شهر رمضان وأوقات الصلوات، ونفقات الاقارب عند تكرر الحاجات، إذا أفهم انتصاب هذه المعاني أسبابا لهذه الاحكام من أدلة الشرع إما بمجرد العموم عند القائلين به أو بالعموم وجملة من القرائن عند الجميع، وتلك القرائن تكريرات وتأكيدات وإمارات عرف حملة الشريعة قصد الشارع إلى نصبها أسبابا، إذا لم يمنع مانع، فلولا دلالة الدليل على كونها أسبابا لم يجز استصحابها، فإذن الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي، وليس راجعا إلى عدم العلم بالدليل، بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغير أو مع ظن انتفاء المغير عند بذل الجهد في البحث والطلب. الرابع: استصحاب الإجماع في محل الخلاف وهو غير صحيح ولنرسم فيه وفي افتقار النافي إلى دليل مسألتين:
مسألة (استصحاب الإجماع) لا حجة في استصحاب الإجماع في محل الخلاف خلافا لبعض الفقهاء، ومثاله المتيمم إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة، لان الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها فطريان وجود الماء، كطريان هبوب الريح، وطلوع الفجر، وسائر الحوادث، فنحن نستصحب دوام الصلاة إلى أن يدل دليل على كون رؤية الماء قاطعا للصلاة، وهذا فاسد، لان هذا المستصحب لا يخلو إما أن يقر بأنه لم يقم دليلا في المسألة لكن قال: أنا ناف ولا دليل على النافي، وأما أن يظن أنه أقام دليلا، فإن أقر بأنه لم يدل فسنبين وجوب الدليل على النافي، وإن ظن أنه أقام دليلا فقد أخطأ، فإنا نقول: إنما يستدام الحكم الذي دل الدليل على دوامه، فالدليل على دوام الصلاة ههنا لفظ الشارع أو إجماع، فإن كان لفظا فلا بد من بيان لذلك اللفظ، فلعله يدل على دوامها عند العدم لا عند الوجود فإن دل بعمومه على دوامها عند العدم والوجود جميعا، كان ذلك تمسكا بعموم عند القائلين به فيجب إظهار دليل التخصيص، وإن كان ذلك بإجماع، فالإجماع منعقد على دوام الصلاة عند العدم، أما حال الوجود فهو مختلف فيه، ولا إجماع مع الخلاف، ولو كان الإجماع شاملا حال الوجود لكان المخالف خارقا للإجماع، كما أن المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الفجر خارق للإجماع، لان الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب، وانعقد مشروطا بعدم الماء، فإذا وجد فلا إجماع فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه بعلة جامعة، فأما أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع فهو محال، وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يدل دليل السمع، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع، وههنا انعقد الإجماع بشرط العدم، وانتفى الإجماع عند الوجوب أيضا فهذه الدقيقة وهي أن كل دليل يضاد نفس الخلاف، فلا يمكن استصحابه مع الخلاف، والإجماع يضاده نفس الخلاف، إذ لا إجماع مع الخلاف، بخلاف العموم والنص، ودليل العقل، فإن الخلاف لا يضاده، فإن المخالف مقر بأن العموم مقر بأن العموم تناول بصيغته محل الخلاف إذ قوله صلى الله عليه وسلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل شامل بصيغته صوم رمضان، مع خلاف الخصم فيه فيقول: أسلم شمول الصيغة، لكني أخصصه بدليل فعليه الدليل وهاهنا، المخالف لا يسلم شمول الإجماع محل الخلاف، إذ يستحيل الإجماع مع الخلاف، ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل، فهذه الدقيقة لا بد من التنبه لها، فإن قيل: الإجماع يحرم الخلاف، فكيف يرتفع بالخلاف، قلنا: هذا الخلاف غير محرم بالإجماع، وإنما لم يكن المخالف خارقا للإجماع، لان الإجماع إنما انعقد على حالة العدم لا على حالة الوجود، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل، فإن قيل: فالدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلى أن يقوم دليل على انقطاعه، قلنا: فلينظر في ذلك الدليل، أهو عموم أو نص يتناول حالة الوجود أم لا، فإن كان هو الإجماع مشروط بالعدم، فلا يكون دليلا عند الوجود، فإن قيل: بم تنكرون على من يقول الأصل أن كل ما ثبت دام إلى وجود قاطع، فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه، بل الثبوت هو الذي يحتاج إلى الدليل، كما أنه إذا ثبت موت زيد، وثبت بناء دار أو بلد، كان دوامه بنفسه لا بسبب؟ قلنا: هذا وهم باطل، لان كل ما ثبت جاز أن يدوم، فلا بد لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت، ولولا دليل العادة على أن من مات لا يحيا، والدار إذا بنيت لا تنهدم ما لم تهدم أو يطول الزمان لما عرفنا دوامه بمجرد ثبوته، كما إذا أخبر عن قعود الامير وأكله، ودخوله الدار، ولم تدل العادة على دوام هذه الاحوال فإنا لا نقضي بدوام هذه الاحوال أصلا، فكذلك خبر الشرع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع الوجود، فيفتقر دوامها إلى دليل آخر. فإن قيل: ليس هو مأمورا بالشروع فقط، بل بالشروع مع الاتمام؟ قلنا: نعم، هو مأمور بالشروع مع العدم، وبالاتمام مع العدم، أما مع وجود فهو محل الخلاف، فما الدليل على أنه مأمور في حالة الوجود بالاتمام. فإن قيل: لانه منهي عن إبطال العمل، وفي استعمال الماء إبطال العمل، قلنا: هذا الامر إنجرار إلى ما جررناكم إليه، وانقياد للحاجة إلى الدليل، وهذا الدليل وإن كان ضعيفا فبيان ضعفه ليس من حظ الاصولي، ثم هو ضعيف، لانه إن أردتم بالبطلان إحباط ثوابه فلا نسلم أنه لا يثاب على فعله، وإن أردتم أنه أوجب عليه مثله فليس الصحة عبارة عما لا يجب فعل مثله على ما قررناه من قبل فإن قيل: الأصل أنه لا يجب شئ بالشك ووجوب استئناف الصلاة مشكوك فيه، فلا يرتفع به اليقين، قلنا: هذا يعارضه أن وجوب المضي في هذه الصلاة مشكوك فيه، وبراءة الذمة بهذه الصلاة مع وجود الماء مشكوك فيه، فلا يرتفع به اليقين، ثم نقول: من يوجب الاستئناف يوجبه بدليل يغلب على الظن، كما يرفع البراءة الأصلية بدليل يغلب على الظن، كيف واليقين قد يرفع بالشك في بعض المواضع، فالمسائل فيه متعارضة، وذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة، ورضيعة بأجنبية، وماء طاهر بماء نجس، ومن نسي صلاة من خمس صلوات احتجوا بأن الله تعالى صوب الكفار في مطالبتهم للرسل بالبرهان حين قال تعالى: {تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين} (إبراهيم: 01) فقد اشتغل الناس بالبراهين المغيرة للاستصحاب، قلنا: لانهم لم يستصحبوا الإجماع، بل النفي الأصلي الذي دل العقل عليه، إذ الأصل في فطرة الآدمي أن لا يكون نبيا، وإنما يعرف ذلك بآيات وعلامات، فهم مصيبون في طلب البرهان ومخطئون في المقام على دين آبائهم بمجرد الجهل من غير برهان. مسألة (النافي هل عليه دليل؟) اختلفوا في أن النافي هل عليه دليل؟ فقال قوم: لا دليل عليه، وقال قوم: لا بد من الدليل، وفرق فريق ثالث بين العقليات والشرعيات، فأوجبوا الدليل في العقليات دون الشرعيات. والمختار أن ما ليس بضروري فلا يعرف إلا بدليل، والنفي فيه كالاثبات، وتحقيقه أن يقال للنافي: ما ادعيت نفيه عرفت انتفاءه، أو أنت شاك فيه، فإن أقر بالشك فلا يطالب الشاك بالدليل، فإنه يعترف بالجهل وعدم المعرفة، وإن قال: أنا متيقن للنفي، قيل: يقينك هذا حصل عن ضرورة أو عن دليل، ولا تعد معرفة النفي ضرورة، فإنا نعلم أنا لسنا في لجة بحر أو على جناح نسر، وليس بين أيدينا نيل ولا تعد معرفة النفي ضرورة، وإن لم يعرفه ضرورة فإنما عرفه عن تقليد أو عن نظر، فالتقليد لا يفيد العلم، فإن الخطأ جائز على المقلد والمقلد معترف بعمى نفسه، وإنما يدعي البصيرة لغيره، وإن كان عن نظر فلا بد من بيانه، فهذا أصل الدليل، ويتأيد بلزوم إشكالين بشعين على إسقاط الدليل عن النافي، وهو أن لا يجب الدليل على نافي حدوث العالم، ونافي الصانع ونافي حدوث العالم، ونافي الصانع ونافي النبوات ونافي تحريم الزنا والخمر والميتة ونكاح المحارم وهو محال، والثاني: أن الدليل إذا سقط عن هؤلاء لم يعجز أن يعبر المثبت عن مقصود إثباته بالنفي، فيقول بدل قوله: محدث، إنه ليس بقديم، وبدل قوله: قادر إنه ليس بعاجز وما يجري مجراه. ولهم في المسألة شبهتان: الشبهة الأولى: قولهم أنه لا دليل على المدعى عليه بالدين لانه ناف، والجواب من أربعة أوجه: (الأول): أن ذلك ليس لكونه نافيا، ولا لدلالة العقل على سقوط الدليل عن النافي، بل ذلك بحكم الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر ولا يجوز أن يقاس عليه غيره، لان الشرع إنما قضى به للضرورة إذ لا سبيل إلى إقامة دليل على النفي، فإن ذلك إنما يعرف بأن يلازمه عدد التواتر من أول وجوده إلى وقت الدعوى، فيعلم انتفاء سبب اللزوم قولا وفعلا بمراقبة اللحظات، فكيف يكلف إقامة البرهان على ما يستحيل إقامة البرهان عليه، بل المدعي أيضا لا دليل عليه، لان قول الشاهدين لا يحصل المعرفة، بل الظن بجريان سبب اللزوم من إتلاف أو دين وذلك في الماضي، أما في الحال فلا يعلم الشاهد شغل الذمة، فإنه يجوز براءتها بأداء أو إبراء، ولا سبيل للخلق إلى معرفة شغل الذمة وبراءتها إلا بقول الله تعالى وقول الرسول المعصوم، ولا ينبغي أن يظن أن على المدعي أيضا دليلا، فإن قول الشاهد إنما صار دليلا بحكم الشرع، فإن جاز ذلك فيمين المدعى عليه أيضا لازم، فليكن ذلك دليلا. (والجواب الثاني): أن المدعى عليه يدعي علم الضرورة ببراءة ذمة نفسه، إذ يتيقن أنه لم يتلف ولم يلتزم ويعجز الخلق كلهم عن معرفته، فإنه لا يعرفه إلا الله تعالى: فالنافي في العقليات إن ادعى معرفة إن ادعى معرفة النفي ضرورة فهو محال، وإن أقر بأنه مختص بمعرفته اختصاصا لا يمكن أن يشاركه فيه إلا الله، فعند ذلك لا يطالب بالدليل، وكذلك أنه إذا أخبر عن نفسه بنفي الجوع ونفي الخوف وما جرى مجراه، وعند ذلك يستوي الاثبات والنفي، فإنه لو ادعى وجود الجوع والخوف كان ذلك معلوما له ضرورة، ويعسر على غيره معرفته، والعقليات مشتركة النفي منها و الاثبات والمحسوسات أيضا يستوي فيها النفي والاثبات. (الثالث): أن النافي في مجلس الحكم عليه دليل وهي اليمين كما على المدعي دليل وهو البينة، وهذا ضعيف، إذ اليمين يجوز أن تكون فاجرة، فأي دلالة لها من حيث العقل، لولا حكم الشرع نعم هو كالبينة، فإن قول الشاهدين أيضا يجوز أن يكون غلطا وزورا، فاستعماله من هذا الوجه صحيح كما سبق، أو يقال: كما وجب على النافي في مجلس القضاء أن يعضد جانبه بزيادة على دعوى النفي فليجب ذلك في الاحكام فهذا أيضا له وجه. (الرابع): أن يد المدعى عليه دليل على نفي ملك المدعي وهو ضعيف، لان اليد تسقط دعوى المدعي شرعا، وإلا فاليد قد تكون عن غصب وعارية فأي دلالة لها. (الشبهة الثانية): وهي أنه كيف يكلف الدليل على النفي، وهو متعذر كإقامة الدليل على براءة الذمة، فنقول: تعذره غير مسلم، فإن النزاع إما في العقليات وإما في الشرعيات، أما العقليات فيمكن أن يدل على نفيها بأن إثباتها يفضي إلى المحال، وما أفضى إلى المحال فهو محال لقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الانبياء: 22) ومعلوم أنهما لم تفسدا، فدل ذلك على نفي الثاني، ويمكن إثباته بالقياس الشرطي الذي سميناه في المقدمة طريق التلازم: فإن كل إثبات له لوازم، فانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وكذلك المتحدي ليس نبيا، إذ لو كان نبيا لكان معه معجزة، إذ تكليف المحال محال فهذا طريق وهو الصحيح. الطريق الثاني: أن يقال للمثبت لو ثبت ما ادعيته لعلم ذلك بضرورة أو دليل، ولا ضرورة مع الخلاف ولا دليل، فيدل ذلك على الانتفاء، وهذا فاسد، فإنه ينقلب على النافي فيقال له: لو انتفى الحكم لعلم انتفاؤه بضرورة أو بدليل ولا ضرورة ولا دليل، ولا يمكنه أن يتمسك بالاستصحاب، بأن يقول مثلا: الأصل عدم إله ثان، فمن ادعاه فعليه الدليل، إذ لا يسلم له أن الأصل العدم بخلاف البراءة الأصلية، فإن العقل قد دل على نفي الحكم قبل السمع من حيث دل على أن الحكم هو التكليف والخطاب من الله تعالى وتكليف المحال محال، ولو كلفناه من غير رسول مصدق بالمعجزة يبلغ إلينا تكليفه، كان ذلك تكليف محال، فاستندت البراءة الأصلية إلى دليل عقلي بخلاف عدم الاله الثاني، وأما قولهم: لو ثبت إله ثان لكان لله تعالى عليه دليل فهو تحكم من وجهين: (أحدهما): أنه يجوز أن لا ينصب الله تعالى على بعض الاشياء دليلا، ويستأثر بعلمه. (الثاني): إنه يجوز أن ينصب عليه دليلا، ونحن لا نتنبه له، ويتنبه له بعض الخواص أو بعض الانبياء ومن خصص بحاسة سادسة وذوق أخر، بل الذي يقطع به أن الانبياء يدركون أمورا نحن لا ندركها وأن في مقدورات الله أمورا ليس في قوة البشر معرفتها، ويجوز أن يكون لله تعالى صفات لا تدرك بهذه الحواس ولا بهذا العقل، بل بحاسة سادسة أو سابعة، بل لا يستحيل أن تكون اليد والوجه عبارة عن صفات لا نفهمها ولا دليل عليها، ولو لم يرد السمع بها لكان نفيها خطأ، فلعل من الصفات من هذا القبيل ما لم يرد السمع بالتعبير عنه، ولا فينا قوة إدراكها، بل لو لم يخلق لنا السمع لانكرنا الاصوات ولم نفهمها، ولو لم يخلق لنا ذوق الشعر لانكرنا تفرقة صاحب العروض بين الموزون وغير الموزون، فما يدرينا أن في قدرة الله تعالى أنواعا من الحواس، لو خلقها لنا لادركنا بها أمورا أخر نحن ننفيها، فكان هذا إنكارا بالجهل ورميا في العماية، أما الشرعيات فقد تصادف الدليل عليها من الإجماع، كنفي وجوب صوم شوال وصلاة الضحى، أو النص، كقوله صلى الله عليه وسلم: لا زكاة في الحلى، ولا زكاة في المعلوفة أو من القياس، كقياس الخضراوات على الرمان والبطيخ المنصوص على نفي الزكاة عنه، كقول الراوي: لا زكاة في الرمان والبطيخ، بل هو عفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لا يساعد مثل هذا الدليل فنبحث عن مدارك الاثبات، فإذا لم نجد رجعنا إلى الاستصحاب للنفي الأصلي الثابت بدليل العقل، وهو دليل عند عدم ورود السمع، وحيث أوردنا في تصانيف الخلاف أن النافي لا دليل عليه أردنا به أنه ليس عليه دليل سمعي، إذ يكفيه استصحاب البراءة الأصلية التي كنا نحكم بها لولا بعثة الرسول وورود السمع، فإن قيل: دليل العقل مشروط بانتفاء السمع، وانتفاء السمع غير معلوم، وعدم العلم به لا يدل على عدمه ولا سبيل إلى دعوى العلم بانتفائه، فإن ذلك لا يعلم؟ قلنا: قد بينا أن انتفاءه تارة يعلم كما في انتفاء وجوب صوم شوال وصلاة الضحى، وتارة يظن بأن يبحث من هو من أهل البحث عن مدارك الشرع، والظن فيه كالعلم لانه صادر عن اجتهاد، إذ قد يقول لو كان لوجدته، فإذا لم أجده مع شدة بحثي دل على أنه ليس بكائن، كطالب المتاع في البيت إذا استقصى، فإن قيل أليس للاستقصاء غاية محدودة، بل للبحث بداية ووسط ونهاية، فمتى يحل له أن ينفي الدليل السمعي المغير؟ قلنا: مهما رجع رجع إلى نفسه فعلم أنه بذل غاية وسعه في الطلب كطالب المتاع في البيت، فإن قيل: البيت محصور وطلب اليقين فيه ممكن، ومدارك الشرع غير محصورة، فإن الكتاب وإن كان محصورا فالاخبار غير محصورة، وربما كان راوي الحديث مجهولا؟ قلنا: إن كان ذلك في ابتداء الاسلام قبل انتشار الاخبار، ففرض كل مجتهد ما هو جهد رأيه إلى أن يبلغه الخبر، وإن كان بعد أن رويت الاخبار وصنفت الصحاح، فما دخل فيها محصور عند أهلها وقد انتهى إلى المجتهدين وأوردوها في مسائل الخلاف. وعلى الجملة: فدلالة العقل على النفي الأصلي مشروطة بنفي المغير، كما أن دلالة العموم مشروطة بنفي المخصص، وكل واحد من المخصص والمغير تارة يعلم انتفاؤه وتارة يظن وكل واحد دليل في الشرع. هذا تمام الكلام في الأصل الرابع وهو منتهى الكلام في القطب الثاني المشتمل على أصول الأدلة المثمرة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل. خاتمة لهذا القطب ببيان أن ثم ما يظن أنه من أصول الأدلة وليس منها وهو أيضا أربعة: شرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستحسان، والاستصلاح. فهذه أيضا لا بد من شرحها. الأصل الأول: من الاصول الموهومة شرع من قبلنا من الانبياء فيما لم يصرح شرعنا بنسخه ونقدم على هذا الأصل مسألة وهي أنه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه هل كان متعبدا بشرع أحد من الانبياء منهم من قال: لم يكن متعبدا، ومنهم من قال: كان متعبدا، ثم منهم من نسبه إلى نوح عليه السلام، وقوم نسبوه إلى إبراهيم عليه السلام، وقوم نسبوه إلى موسى، وقوم إلى عيسى عليهما السلام، والمختار أن جميع هذه الاقسام جائز عقلا، لكن الواقع منه غير معلوم بطريق قاطع، ورجم الظن فيما لا يتعلق به الآن تعبد عملي لا معنى له، فإن قيل: الدليل القاطع على أنه لم يكن على ملة أنه لو كان لافتخر به أولئك القوم ونسبوه إلى أنفسهم، ولكان يشتهر تلبسه بشعارهم وتتوفر الدواعي على نقله؟ قلنا: هذا يعارضه أنه لو كان منسلخا عن التكليف والتعبد بالشرائع لظهر مخالفته أصناف الخلق وتوفرت الدواعي على نقله ويشبه أن يكون اختفاء حاله قبل البعث معجزة خارقة للعادة وذلك من عجائب أموروه، وللمخالف شبهتان: الأولي: أن موسى وعيسى دعوا إلى دينهما كافة المكلفين من عباد الله تعالى، فكان هو داخلا تحت العموم، وهذا باطل من وجهين: أحدهما: أنه لم ينقل إلينا على التواتر عنهما عموم صيغة حتى ننظر في فحواه، فلا مستند لهذه الدعوى إلا المقايسة بدين نبينا صلى الله عليه وسلم، والمقايسة في مثل هذا باطل وإن كان عموم فلعله استثنى عنه من ينسخ شريعتهما. الثاني: أنه ربما كان زمانه زمان فترة الشرائع واندراسها وتعذر القيام بها، ولاجله بعث صلى الله عليه وسلم، فمن أين يعلم قيام الحجة على تفصيل شريعتهما. الثانية: من شبههم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ويحج ويعتمر ويتصدق ويذبح الحيوان ويجتنب الميتة، وذلك لا يرشد إليه العقل؟ قلنا: هذا فاسد من وجهين: (أحدهما): أن شيئا من ذلك لم يتواتر بنقل مقطوع به ولا سبيل إلى إثباته بالظن. (الثاني): أنه ربما ذبح الحيوان بناء على أنه لا تحريم إلا بالسمع، ولا حكم قبل ورود الشرع وترك الميتة عيافة بالطبع، كما ترك أكل الضب عيافة، والحج والصلاة إن صح فلعله فعله تبركا بما نقل جملته من أنبياء السلف وإن اندرس تفصيله، ونرجع الآن إلى الأصل المقصود وهو أنه بعد بعثته هل كان متعبدا بشريعة من قبله؟ والقول في الجواز العقلي والوقوع السمعي. أما الجواز العقلي: فهو حاصل، إذ لله تعالى أن يتعبد عباده بما شاء من شريعة سابقة أو مستأنفة، أو بعضها سابقة وبعضها مستأنفة، ولا يستحيل منه شئ لذاته ولا لمفسدة فيه، وزعم بعض القدرية أنه لا يجوز بعثة نبي إلا بشرع مستأنف، فإنه إن لم يجدد أمرا فلا فائدة في بعثته، ولا يرسل الله تعالى رسولا بغير فائدة، ويلزمهم على هذا تجويز بعثته بمثل تلك الشريعة إذا كانت قد اندرست، وإرساله بمثلها إذا كانت قد اشتملت على زوائد، وأن يكون الأول مبعوثا إلى قوم، والثاني مبعوثا إليهم وإلى غيرهم، ولعلهم يخالفون إذا كانت الأولى غضة طرية، ولم تشتمل الثانية على مزيد، فنقول: يدل على جوازه ما يدل على جواز نصب دليلين وبعثة رسولين معا، كما قال تعالى: {إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث} (يس: 41) وكما أرسل موسى وهارون وداود وسليمان، بل كخلق العينين مع الاكتفاء في الابصار بإحداهما، ثم كلامهم بناء على طلب الفائدة في أفعال الله تعالى، وهو تحكم. أما الوقوع السمعي: فلا خلاف في أن شرعنا ليس بناسخ جميع الشرائع بالكلية، إذ لم ينسخ وجوب الايمان، وتحريم الزنا والسرقة والقتل والكفر، ولكن حرم عليه صلى الله عليه وسلم هذه المحظورات بخطاب مستأنف، أو بالخطاب الذي نزل إلى غيره وتعبد باستدامته، ولم ينزل عليه الخطاب إلا بما خالف شرعهم، فإذا نزلت واقعة لزمه اتباع دينهم، إلا إذا أنزل عليه وحي مخالف لما سبق، فإلى هذا يرجع الخلاف والمختار أنه لم يتعبد صلى الله عليه وسلم بشريعة من قبله ويدل عليه أربعة مسالك: المسلك الأول: أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له: بم تحكم؟ قال: بالكتاب والسنة والاجتهاد، ولم يذكر التوراة والانجيل وشرع من قبلنا، فزكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصوبه، ولو كان ذلك من مدارك الاحكام لما جاز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه، فإن قيل: إنما لم يذكر التوراة والانجيل، لان في الكتاب آيات تدل على الرجوع إليهما؟ قلنا: سنبين سقوط تمسكهم بتلك الآيات، بل فيه قوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} (المائدة: 84) وقال صلى الله عليه وسلم: لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ثم نقول في الكتاب ما يدل على اتباع السنة والقياس، فكان ينبغي أن يقتصر على ذكر الكتاب، فإن شرع في التفصيل كانت الشريعة السابقة أهم مذكور، فإن قيل: اندرجت التوراة والانجيل تحت الكتاب، فإنه اسم يعم كل كتاب؟ قلنا: إذا ذكر الكتاب والسنة لم يسبق إلى فهم المسلمين شئ سوى القرآن وكيف يفهم غيره ولم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والانجيل، والعناية بتمييز المحرف عن غيره، كما عهد منه تعلم القرآن؟ ولو وجب ذلك لتعلمه جميع الصحابة، لانه كتاب منزل لم ينسخ إلا بعضه، وهو مدرك بعض الاحكام، ولم يتعهد حفظ القرآن، إلا لهذه العلة، وكيف وطالع عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة، فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت عيناه وقال: لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي؟. المسلك الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لو كان متعبدا بها للزمه مراجعتها والبحث عنها، وكان لا ينتظر الوحي، ولا يتوقف في الظهار ورمي المحصنات والمواريث، ولكان يرجع أولا إليها، لا سيما أحكام هي ضرورة كل أمة، فلا تخلو التوراة عنها، فإن لم يراجعها لاندراسها وتحريفها فهذا يمنع التعبد، وإن كان ممكنا فهذا يوجب البحث والتعلم ولم يراجع قط إلا في رجم اليهود ليعرفهم أن ذلك ليس مخالفا لدينهم. المسلك الثالث: أن ذلك لو كان مدركا لكان تعلمها ونقلها وحفظها من فروض الكفايات، كالقرآن والاخبار، ولوجب على الصحابة مراجعتها في تعرف الاحكام، كما وجب عليهم المناشدة في نقل الاخبار ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم كمسألة العول، وميراث الجد، والمفوضة، وبيع أم الولد، وحد الشرب والربا في غير النسيئة ومتعة النساء، ودية الجنين، وحكم المكاتب إذا كان عليه شئ من النجوم، والرد بالعيب بعد الوطئ والتقاء الختانين، وغير ذلك من أحكام لا تنفك الاديان والكتب عنها، ولم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة، لا سيما وقد أسلم من أخبارهم من تقوم الحجة بقولهم، كعبد الله بن سلام، وكعب الاحبار، ووهب، وغيرهم، ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب، فكيف يحصل القياس قبل العلم؟ المسلك الرابع: إطباق الامة قاطبة على أن هذه الشريعة ناسخة، وأنها شريعة رسولنا صلى الله عليه وسلم بجملتها، ولو تعبد بشرع غيرها لكان مخبرا لا شارعا ولكان صاحب نقل لا صاحب شرع، إلا أن هذا ضعيف لانه إضافة تحتمل المجاز، وأن معلوما بواسطته وإن لم يكن هو شارعا لجميعه. وللمخالف التمسك بخمس آيات وثلاثة أحاديث: (الآية الأولى): أنه تعالى لما ذكر الانبياء قال: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الانعام: 09). قلنا: أراد بالهدى التوحيد ودلالة الأدلة العقلية على وجدانيته وصفاته بدليلين: أحدهما: أنه قال: {فبهداهم اقتده} (الانعام: 09) ولم يقل بهم، وإنما هداهم الأدلة التي ليست منسوبة إليهم، أما الشرع فمنسوب إليهم فيكون اتباعهم فيه اقتداء بهم. الثاني: أنه كيف أمر بجميع شرائعهم وهي مختلفة وناسخة ومنسوخة ومتى بحث عن جميع ذلك وشرائعهم كثيرة فدل على أنه أراد الهدى المشترك بين جميعهم وهو التوحيد. (الآية الثانية): قوله تعالى: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة ابراهيم} (النحل: 321) وهذا يتمسك به من نسبه إلى إبراهيم عليه لسلام وتعارضه الآية الأولى، ثم لا حجة فيها إذ قال: {أوحينا إليك} فوجب بما أوحي إليه لا بما أوحي إلى غيره وقوله: {أن اتبع} أي افعل مثل فعله، وليس معناه كن متبعا له وواحدا من أمته، كيف والملة عبارة عن أصل الدين والتوحيد والتقديس الذي تتفق فيه جميع الشرائع، ولذلك قال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} (البقرة: 130) ولا يجوز تسفيه الانبياء المخالفين له ويدل عليه أنه لم يبحث عن ملة إبراهيم، وكيف كان يبحث مع اندراس كتابه وأسناد أخباره. (الآية الثالثة): قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} (الشورى: 31) وهذا يتمسك به من نسبه إلى نوح عليه السلام، وهو فاسد، إذا تعارضه الآيتان السابقتان، ثم الدين عبارة عن أصل التوحيد، وإنما خصص نوحا بالذكر تشريفا له وتخصيصا، ومتى راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيل شرع نوح، وكيف أمكن ذلك مع أنه أقدم الانبياء وأشد الشرائع اندراسا، كيف وقد قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} فلو قال شرع لنوح ما وصاكم به لكان ربما دل هذا على غرضهم وأما هذا فيصرح بضده. (الآية الرابعة): قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون} (المائدة: 44) الآية، وهو أحد الانبياء فليحكم بها، واستدل بهذا من نسبه إلى موسى عليه السلام وتعارضه الآيات السابقة، ثم المراد بالنور والهدى أصل التوحيد، وما يشترك فيه النبيون دون الاحكام المعرضة للنسخ، ثم لعله أراد النبيين في زمانه دون من بعدهم، ثم هو على صيغة الخبر لا على صيغة الامر فلا حجة فيه، ثم يجوز أن يكون المراد حكم النبيين بها بأمر ابتدأهم به الله تعالى وحيا إليهم لا بوحي موسى عليه السلام. (الآية الخامسة): قوله تعالى بعد ذكر التوراة وأحكامها: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (المائدة: 44) قلنا: المراد به ومن لم يحكم بما أنزل الله مكذبا به وجاحدا له لا من حكم بما أنزل الله عليه خاصة، أو من لم يحكم به ممن أوجب عليه الحكم به من أمته وأمة كل نبي إذا خالفت ما أنزل على نبيهم، أو يكون المراد به يحكم بمثلها النبيون وإن كان بوحي خاص إليهم لا بطريق التبعية. وأما الاحاديث: فأولها: أنه صلى الله عليه وسلم طلب منه القصاص في سن كسرت فقال: كتاب الله يقضي بالقصاص وليس في القرآن قصاص السن إلا ما حكي عن التوراة في قوله تعالى: {والسن بالسن} (المائدة: 54) قلنا: بل فيه: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة: 491) فدخل السن تحت عمومه. (الحديث الثاني): قوله صلى الله عليه وسلم): من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وقرأ قوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} (طه: 41) وهذا خطاب مع موسى عليه السلام، قلنا: ما ذكره صلى الله عليه وسلم تعليلا للايجاب، لكن أوجب بما أوحي إليه ونبه على أنهم أمروا كما أمر موسى، وقوله: {لذكري} أي لذكر إيجابي للصلاة، ولولا الخبر لكان السابق إلى الفهم أنه لذكر الله تعالى بالقلب، أو لذكر الصلاة بالايجاب. الحديث الثالث: مراجعته (صلى الله عليه وسلم التوراة في رجم اليهوديين وكان ذلك تكذيبا لهم في إنكار الرجم إذ كان يجب أن يراجع الانجيل فإنه آخر ما أنزل الله فلذلك لم يراجع في واقعة سوى هذه، والله أعلم. |
12-06-2012, 03:15 PM | #40 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الأصل الثاني: من الاصول الموهومة قول الصحابي
وقد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حجة مطلقا، وقوم إلى أنه حجة إن خالف القياس، وقوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي وقوم إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا، والكل باطل عندنا، فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة، وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف، وكيف يختلف المعصومان، كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه، فانتفاء الدليل على العصمة، ووقوع الاختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة. وللمخالف خمس شبه: الشبهة الأولى: قولهم: وإن لم تثبت عصمتهم فإذا تعبدنا باتباعهم لزم الاتباع، كما أن الراوي الواحد لم تثبت عصمت لكن لزم اتباعه للتعبد به، وقد قال صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديت اهتديتم والجواب: أن هذا خطاب مع عوام أهل عصره صلى الله عليه وسلم بتعريف درجة الفتوى لاصحابه حتى يلزم اتباعهم، وهو تخيير لهم في الاقتداء بمن شاؤوا منهم، بدليل أن الصحابي غير داخل فيه، إذ له أن يخالف صحابيا آخر، فكما خرج الصحابة بدليل فكذلك خرج العلماء بدليل، وكيف وهذا لا يدل على وجوب الاتباع بل على الاهتداء إذا اتبع، فلعله يدل على مذهب من يجوز للعالم تقليد العالم، أو من يخير العامي في تقليد الائمة من غير تعيين الافضل. الشبهة الثانية: أن دعوى وجوب الاتباع إن لم تصح لجميع الصحابة فتصح للخلفاء الاربعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: عليكم سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وظاهر قوله عليكم للايجاب، وهو عام، قلنا: فيلزمكم على هذا تحريم الاجتهاد على سائر الصحابة رضي الله عنهم، إذا اتفق الخلفاء، ولم يكن كذلك، بل كانوا يخالفون، وكانوا يصرحون بجواز الاجتهاد فيما ظهر لهم، وظاهر هذا تحريم مخالفة كل واحد من الصحابة، وإن انفرد فليس في الحديث شرط الاتفاق، وما اجتمعوا في الخلافة حتى يكون اتفاقهم اتفاق الخلفاء، وإيجاب اتباع كل واحد منهم محال مع اختلافهم في مسائل، لكن المراد بالحديث إما أمر الخلق بالانقياد وبذل الطاعة لهم، أي عليكم بقبول إمارتهم وسنتهم، أو أمر الأمة بأن ينهجوا منهجهم في العدل والانصاف والاعراض عن الدنيا وملازمة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفقر والمسكنة والشفقة على الرعية، أو أراد منع من بعدهم عن نقض أحكامهم، فهذه احتمالات ثلاثة تعضدها الأدلة التي ذكرناها. الشبهة الثالثة: قولهم: إنه إن لم يجب اتباع الخلفاء، فيجب اتباع أبي بكر وعمر، بقوله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قلنا: تعارضه الاخبار السابقة، فيتطرق إليه الاحتمالات الثلاثة، ثم نقول بموجبه، فيجب الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد، ثم ليت شعري، لو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيهما يتبع. الشبهة الرابعة: أن عبد الرحمن بن عوف ولى عليا الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين، فأبى وولى عثمان فقبل، ولم ينكر عليه، قلنا: لعله اعتقد بقوله عليه السلام: من بعدي جواز تقليد العالم للعالم، وعلي رضي الله عنه لم يعتقد أو اعتقد أن قوله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر إيجاب التقليد ولا حجة في مجرد مذهبه ويعارضه مذهب علي إذ فهم أنه إنما أراد عبد الرحمن اتباعهما في السيرة والعدل، وفهم على إيجاب التقليد. الشبهة الخامسة: أنه إذا قال الصحابي قولا يخالف القياس فلا محمل له إلا سماع خبر فيه , قلنا: فهذا إقرار بأن قوله ليس بحجة وإنما الحجة الخبر، إلا أنكم أثبتم الخبر بالتوهم المجرد ومستندنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم في قبول خبر الواحد وهم إنما عملوا بالخبر المصرح بروايته دون الموهوم المقدر الذي لا يعرف لفظه ومورده، فقوله ليس بنص صريح في سماع خبر، بل ربما قاله عن دليل ضعيف ظنه دليلا وأخطأ فيه، والخطأ جائز عليه، وربما يتمسك الصحابي بدليل ضعيف، وظاهر موهوم، ولو قاله عن نص قاطع لصرح به، نعم لو تعارض قياسان، وقول الصحابي مع أحدهما، فيجوز للمجتهد إن غلب على ظنه الترجيح بقول الصحابي أن يرجح، وكذلك نوع من المعنى يقتضي تغليظ الدية بسبب الجرم، وقياس أظهر منه يقتضي نفي التغليظ، فربما يغلب على ظن المجتهد أن ذلك المعنى الاخفى الذي ذهب إليه الصحابي يترجح به، ولكن يختلف ذلك باختلاف المجتهدين، أما وجوب اتباعه ولم يصرح بنقل خبر فلا وجه له، وكيف وجميع ما ذكروه أخبار آحاد ونحن أثبتنا القياس والإجماع، وخبر الواحد بطرق قاطعة لا بخبر الواحد، وجعل قول الصحابي حجة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخبره إثبات أصل من أصول الاحكام ومداركه فلا يثبت إلا بقاطع كسائر الاصول. مسألة (هل يجوز تقليد الصحابي؟) إن قال قائل: إن لم يجب تقليدهم فهل يجوز تقليدهم؟ قلنا: أما العامي فيقلدهم، وأما العالم فإنه إن جاز له تقليد العالم جاز له تقليدهم، وإن حرمنا تقليد العالم للعالم فقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في تقليد الصحابة، فقال في القديم: يجوز تقليد الصحابي إذا قال قولا وانتشر قوله ولم يخالف وقال في موضع آخر: يقلد وإن لم ينتشر، ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلد العالم صحابيا، كما لا يقلد عالما آخر، ونقل المزني عنه ذلك، وأن العمل على الأدلة التي بها يجوز للصحابة الفتوى وهو الصحيح المختار عندنا إذ كل ما دل على تحريم تقليد العالم للعالم كما سيأتي في كتاب (الاجتهاد) لا يفرق فيه بين الصحابي وغيره. فإن قيل: كيف لا يفرق بينهم مع ثناء الله تعالى وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم} (النساء: 95) وقال تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين} (الفتح: 81) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الناس قرني وقال صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم إلى غير ذلك؟ قلنا: هذا كله ثناء يوجب حسن الاعتقاد في علمهم ودينهم، ومحلهم عند الله تعالى، ولا يوجب تقليدهم لا جوازا ولا وجوبا فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى أيضا على آحاد الصحابة، ولا يتميزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه، كقوله صلى اللهه عليه وسلم: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه يقول الحق وإن كان مرا وقال لعمر: والله ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك، وقال صلى الله عليه وسلم في قصة أسارى بدر حيث نزلت الآية على وفق رأي عمر، لو نزل بلاء من السماء ما نجا منه إلا عمر وقال صلوات الله عليه: إن منكم لمحدثين وإن عمر لمنهم وكان علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة يقولون ما كنا نظن إلا أن ملكا بين عينيه يسدده، وأن ملكا ينطق على لسانه، وقال صلى الله عليه وسلم في حق علي: اللهم أدر الحق مع علي حيث دار وقال صلى الله عليه وسلم: أقضاكم علي، وأفرضكم زيد، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وقال عليه السلام: رضيت لامتي ما رضي ابن أم عبد وقال عليه السلام لابي بكر وعمر: لو اجتمعا على شئ ما خالفتهما وأراد في مصالح الحرب، وكل ذلك ثناء لا يوجب الاقتداء أصلا. فصل في تفريع الشافعي في القديم على تقليد الصحابة ونصوصه قال في كتاب اختلاف الحديث: إنه روي عن علي أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات، قال: لو ثبت ذلك عن علي لقلت به، وهذا لانه رأى أنه لا يقول ذلك إلا عن توقيف، إذ لا مجال للقياس فيه، وهذا غير مرضي، لانه لم ينقل فيه حديثا حتى يتأمل لفظه ومورده وقرائنه، وفحواه وما يدل عليه، ولم نتعبد إلا بقبول خبر يرويه صحابي مكشوفا يمكن النظر فيه، كما كان الصحابة يكتفون بذكر مذهب مخالف للقياس ويقدرون ذلك حديثا من غير تصريح به، وقد نص في موضع أن قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف فهو حجة، وهو ضعيف، لان السكوت ليس بقول، فأي فرق بين أن ينتشر أو لا ينتشر؟ وقد نص على أنه إذا اختلفت الصحابة فالائمة أولى، فإن اختلف الائمة فقول أبي بكر وعمر أولى لمزيد فضلهما، وقال في موضع آخر: يجب الترجيح بقول الاعلم والاكثر قياسا لكثرة القائلين على كثرة الرواة وكثرة الاشباه، وإنما يجب ترجيح الاعلم، لان زيادة علمه تقوي اجتهاده وتبعده عن الاهمال والتقصير والخطأ وإن اختلف الحكم والفتوى من الصحابة فقد اختلف قول الشافعي فيه، فقال مرة: الحكم أولى، لان العناية به أشد، والمشورة فيه أبلغ، وقال مرة: الفتوى أولى، لان سكوتهم على الحكم يحمل على الطاعة للوالي، وكل هذا مرجوع عنه: فإن قيل: فما قولكم في ترجيح أحد القياسين بقول الصحابي؟ قلنا: قال القاضي، لا ترجيح إلا بقوة الدليل، ولا يقوى الدليل بمصير مجتهد إليه، والمختار أن هذا في محل الاجتهاد، فربما يتعارض ظنان والصحابي في أحد الجانبين، فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي، ويكون ذلك أغلب على ظنه، ويختلف ذلك باختلاف المجتهدين، وقال قوم: إنما يجوز ترجيح قياس المصير إذا كان أصل القياس في واقعة شاهدها الصحابي، وإلا فلا فرق بينه وبين غيره وهذا قريب، ولكن مع هذا يحتمل أن يكون مصيره إليه لا لاختصاصه بمشاهدة ما يدل عليه بل بمجرد الظن، أما إذا حمل الصحابي لفظ الخبر على أحد محتمليه فمنهم من رجح ومنهم من قال: إذا لم يقل: علمت ذلك من لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بقرينة شاهدتها فلا ترجيح به، وهذا اختيار القاضي، فإن قيل: فقد ترك الشافعي في الجديد القياس في تغليظ الدية في الحرم بقول عثمان، وكذلك فرق بين الحيوان وغيره في شرط البراءة بقول علي؟ قلنا له: في مسألة شرط البراءة أقوال، فلعل هذا مرجوع عنه، وفي مسألة التغليظ الظن به أنه قوي القياس بموافقة الصحابة، فإن لم يكن كذلك فمذهبه في الاصول أن لا يقلد، والله أعلم. الأصل الثالث: من الاصول الموهومة الاستحسان وقد قال به أبو حنيفة، وقال الشافعي: من استحسن فقد شرع ورد الشئ قبل فهمه محال، فلا بد أولا من فهم الاستحسان، وله ثلاثة معان: الأول: وهو الذي يسبق إلى الفهم ما يستحسنه المجتهد بعقله، ولا شك في أنا نجوز ورود التعبد باتباعه عقلا، بل لو ورد الشرع بأن ما سبق إلى أوهامكم أو استحسنتموه بعقولكم أو سبق إلى أوهام العوام مثلا فهو حكم الله عليكم لجوزناه، ولكن وقوع التعبد لا يعرف من ضرورة العقل ونظره، بل من السمع، ولم يرد فيه سمع متواتر ولا نقل آحاد، ولو ورد لكان لا يثبت بخبر الواحد، فإن جعل الاستحسان مدركا من مدارك أحكام الله تعالى ينزل منزلة الكتاب والسنة والإجماع، وأصلا من الاصول لا يثبت بخبر الواحد، ومهما انتفى الدليل وجب النفي. المسلك الثاني: أنا نعلم قطعا إجماع الامة قبلهم، على أن العالم ليس له أن يحكم بهواه وشهوته من غير نظر في دلالة الأدلة، والاستحسان من غير نظر في أدلة الشرع حكم بالهوى المجرد، وهو كاستحسان العامي، ومن لا يحسن النظر فإنه إنما جوز الاجتهاد للعالم دون العامي، لانه يفارقه في معرفة أدلة الشريعة، وتمييز صحيحها من فاسدها، وإلا فالعامي أيضا يستحسن، ولكن يقال: لعل مستند استحسانك وهم وخيال لا أصل له، ونحن نعلم أن النفس لا تميل إلى الشئ إلا بسبب مميل إليه، لكن السبب ينقسم إلى ما هو وهم وخيال إذا عرض على الأدلة لم يتحصل منه طائل، وإلى ما هو مشهور من أدلة الشرع، فلم يميز المستحسن ميله عن الاوهام وسوابق الرأي إذا لم ينظر في الأدلة ولم يأخذ منها، ولهم شبه ثلاث: الشبهة الأولى: قوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم} (الزمر: 55) وقال: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه} (الزمر: 81) قلنا اتباع أحسن ما أنزل إلينا هو اتباع الأدلة، فبينوا أن هذا مما أنزل إلينا، فضلا عن أن يكون من أحسنه، وهو كقوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} (الزمر: 55) ثم نقول: نحن نستحسن إبطال الاستحسان، وأن لا يكون لنا شرع سوى المصدق بالمعجزة، فليكن هذا حجة عليهم. الجواب الثاني: أن يلزم من ظاهر هذا اتباع استحسان العامي والطفل والمعتوه، لعموم اللفظ، فإن قلتم: المراد بعض الاستحسانات، وهو استحسان من هو من أهل النظر، فكذلك نقول: المراد كل استحسان صدر عن أدلة الشرع، وإلا فأي وجه لاعتبار أهلية النظر في الأدلة مع الاستغناء عن النظر. الشبهة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، ولا حجة من أوجه: الأول: أنه خبر واحد لا تثبت به الاصول. الثاني: أن المراد به ما رآه جميع المسلمين، لانه لا يخلو أن يريد به جميع المسلمين أو آحادهم، فإن أراد الجميع فهو صحيح إذ الامة لا تجتمع على حسن شئ إلا عن دليل، والإجماع حجة، وهو مراد الخبر، وإن أراد الآحاد لزم استحسان العوام، فإن فرق بأنهم ليسوا أهلا للنظر قلنا: إذا كان لا ينظر في الأدلة فأي فائدة لاهلية النظر. الثالث: أن الصحابة أجمعوا على استحسان منع الحكم بغير دليل ولا حجة، لانهم مع كثرة وقائعهم تمسكوا بالظواهر والاشباه، وما قال واحد: حكمت بكذا وكذا لاني استحسنته ولو قال ذلك لشددوا الانكار عليه وقالوا: من أنت حتى يكون استحسانك شرعا وتكون شارعا لنا، وما قال معاذ حيث بعثه إلى اليمن أني أستحسن، بل ذكر الكتاب والسنة والاجتهاد فقط. الشبهة الثالثة: إن الامة استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة وعوض الماء ولا تقدير مدة السكون واللبث فيه، وكذلك شرب الماء من يد السقاء بغير تقدير العوض، ولا مبلغ الماء المشروب، لان التقدير في مثل هذا قبيح في العادات، فاستحسنوا ترك المضايقة فيه، ولا يحتمل ذلك في إجارة ولا بيع، والجواب من وجهين: الأول: أنهم من أين عرفوا أن الامة فعلت ذلك من غير حجة ولا دليل، ولعل الدليل جريان ذلك في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع معرفته به وتقريره عليه، لاجل المشقة في تقدير الماء المشروب والمصبوب في الحمام وتقدير مدة المقام والمشقة سبب الرخصة. الثاني: أن نقول شرب الماء بتسليم السقاء مباح، وإذا أتلف ماءه فعليه ثمن المثل، إذ قرينة حاله تدل على طلب العوض فيما بذله في الغالب، وما يبذل له في الغالب يكون ثمن المثل فيقبله السقاء، فإن منع فعليه مطالبته، فليس في هذا إلا الاكتفاء في معرفة الاباحة بالمعاطاة والقرينة، وترك المماسكة في العوض، وهذا مدلول عليه من الشرع، وكذلك داخل الحمام مستبيح بالقرينة، ومتلف بشرط العوض بقرينة حال الحمامي، ثم ما يبذله إن ارتضى به الحمامي واكتفى به عوضا أخذه وإلا طالبه بالمزيد إن شاء، فليس هذا أمرا مبدعا ولكنه منقاس والقياس حجة. التأويل الثاني: للاستحسان قولهم المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه، ولا يقدر على إبرازه وإظهاره، وهذا هوس، لان ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنه وهم وخيال أو تحقيق، ولا بد من ظهوره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصححه الأدلة أو تزيفه، أما الحكم بما لا يدري ما هو فمن أين يعلم جوازه، أبضرورة العقل أو نظره أو بسمع متواتر أو آحاد، ولا وجه لدعوى شئ من ذلك، كيف وقد قال أبو حنيفة: إذا شهد أربعة على زنا شخص لكن عين كل واحد منهم زاوية من زوايا البيت وقال: زنى فيها، فالقياس أن لا حد عليه، لكنا نستحسن حده، فيقول له، لم يستحسن سفك دم مسلم من غير حجة إذ لم تجتمع شهادة الاربعة على زنا واحد، وغايته أن يقول: تكذيب المسلمين قبيح، وتصديقهم وهم عدول حسن، فنصدقهم ونقدر دورانه في زنية واحدة على جميع الزوايا، بخلاف ما لو شهدوا في أربعة بيوت، فإن تقدير التزاحف بعيد، وهذا هوس، لانا نصدقهم ولا نرجم المشهود عليه، كما لو شهد ثلاثة، وكما لو شهدوا في دور وندرأ الرجم من حيث لم نعلم يقينا اجتماع الاربعة على شهادة واحدة فدرء الحد بالشبهة أحسن، كيف وإن كان هذا دليلا، فلا ننكر الحكم بالدليل، ولكن لا ينبغي أن يسمى بعض الأدلة استحسانا. التأويل الثالث: للاستحسان، ذكره الكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة ممن عجز عن نصرة الاستحسان، وقال: ليس هو عبارة عن قول بغير دليل، بل هو بدليل، وهو أجناس، منها: العدول بحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن، مثل قوله: مالي صدقة، أو لله علي أن أتصدق بمالي، فالقياس لزوم التصدق بكل ما يسمى مالا، لكن استحسن أبو حنيفة التخصيص بمال الزكاة، لقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} (التوبة: 301) ولم يرد إلا مال الزكاة. ومنها: أن يعدل بها عن نظائرها بدليل السنة، كالفرق في سبق الحدث والبناء على الصلاة بين السبق والتعمد على خلاف قياس الاحداث وهذا مما لا ينكر، وإنما يرجع الاستنكار إلى اللفظ، وتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحسانا من بين سائر الأدلة، والله أعلم. |
مواقع النشر (المفضلة) |
كاتب الموضوع | حسن الخليفه احمد | مشاركات | 72 | المشاهدات | 28945 | | | | انشر الموضوع |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|