القبول يا رب - شباب الطريقة الختمية بدائرة ود ابراهيم بأم بدة
مجموعة مدائح ختمية.. شباب الطريقة الختمية بمسجد السيد علي الميرغني ببحري
|
مكتبة الميرغني الإليكترونية خاصة بجميع مؤلفات السادة المراغنة |
إهداءات ^^^ ترحيب ^^^ تهاني ^^^ تعازي ^^^ تعليقات ^^^ إعلانات | |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
12-21-2012, 08:30 PM | #1 | |
|
كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد ابو العباس الحسينى رضى الله عنه ملخص عن كتاب: اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء ** هذا الكتاب يتحدث عن أخبار الخلافة الفاطمية، وأخبار أئمة الفاطميين الخلفاء، بادئًا من نسبها والدعوة لها، ومنتهيًا بسقوطها وأفول نجمها. وعرض المؤلف للخلفاء الفاطميين عرضًا تاريخيًّا منظمًا، مع التركيز على السنوات التي حدثت فيها الملمات، من الحوادث والخطوب، وذكر ما عيب على الفاطميين. ويعتبر الكتاب أيضا ديوانًا لمن ملك القاهرة من الخلفاء؛ ويشتمل على جمل من أخبارهم، ويعرب عن أكثر سيرهم، وقد ذكر من خبر أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنهاه بذكر ما صار إليه أولاد الخلفاء الفاطميين، وقد ألَّفه بعد أن أتم كتابه: «عقد جواهر الأسفاط في أخبار مدينة الفسطاط». المؤلفون المقريزي أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي مؤرخ الديار المصرية. أصله من بعلبك، ونسبته إلى حارة المقارزة (من حارات بعلبك في أيامه) ولد في القاهرة سنة (766 ه) ونشأ بها وولي فيها الحسبة والخطابة والإمامة مرات، واتصل بالملك الظاهر برقوق، فدخل دمشق مع ولده الناصر سنة 810 ه. وعرض عليه قضاؤها فأبى. وعاد إلى مصر وتوفي في القاهرة سنة (845 ه). |
|
|
12-21-2012, 08:32 PM | #2 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
الجزء الأول
ذكر أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه اعلم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتل ليلة الجمعة لإحدى عشرة وقيل لثلاث عشرة وقيل لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين من سني الهجرة بالكوفة. وولد له من الأولاد الذكور: الحسن والحسين أمهما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومحمد الأكبر المعروف بابن الحنفية أمه خولة بنت قيس بن جعفر الحنفي . والعباس الأكبر وعبد الله وعثمان الأكبر وجعفر الأكبر أمهم أم البنين بنت المحل بن الديان بن حرام الكلابي وقتل هؤلاء الأربعة مع الحسين بن علي عليه السلام بالطف. وعمر الأصغر أمه الصهباء أم حبيبة بنت ربيعة التغلبي. وعبد الرحمن الذي يكنى أبا بكر وعبيد الله. أمهما ليلى بنت مسعود بن خالد التميمي. ومحمد الأصغر أمه أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس وأمها وعمرو بن الحسن وعبد الرحمن بن الحسن والحسين ومحمد ويعقوب وإسماعيل بنو الحسن. فهؤلاء هم الذكور من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام . ولم يعقب من ولد الحسن بن علي سوى رجلين: هما الحسن بن الحسن وزيد بن الحسن وسائر ولد الحسن بن علي لا عقب لهم. فولد الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب محمدا وبه كان يكنى وعبد الله أعقب وحسناً وإبراهيم وجعفر وداود وهذه الخمسة قد أعقبوا ولم يعقب محمد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولدا ذكرا. فولد عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب محمدا وهو الذي قتل بمدينة رسول اله صلى الله عليه وسلم وإبراهيم المقتول بالبصرة قتلا في الحرب أيام الخليفة أبي جعفر المنصور سنة خمس وأربعين ومائة. وموسى بن عبد الله. ويحيى بن عبد الله وهو الذي كان بالديلم ونزل بالأمان على يد الفضل بن يحيى ابن خالد بن برمك ثم حبسه الخليفة هرون الرشيد ومات في حبسه ويقال إنه قتل عند سندى بن شاهك . وإدريس الأصغر الذي صار إلى بلاد المغرب وبه عقبه وعقب أخيه سليمان فولد محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المقتول بالمدينة عبد الله الأشتر وهو المعقب من ولده قتل بكابل وعلياً أخذ بمصر وحبس في سجن المهدي حتى مات والحسين بن محمد قتل بفخ وطاهر وإبراهيم ابنا محمد لا عقب لهما . وولد إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وهو المقتول بالبصرة حسناً فولد حسن بن إبراهيم عبد الله ومات متغيبا ومحمداً وإبراهيم. وولد يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي محمداً. وولد سليمان بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي المقتول بفخ محمداً فر إلى المغرب وولده هناك. وولد إدريس الأصغر بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وهو الذي صار إلى المغرب وغلب على موضع منه في أيام المنصور فدس إليه المنصور بمتطبب فسقاه فقتله إدريس بن إدريس ولد بالمغرب وأمه بربرية وعقبه بالمغرب. وولد الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي أبا جعفر عبد الله وعلياً مات في حبس المنصور مع أبيه وحسناً درج ولا عقب له والعباس وطلحة ابنا الحسن بن الحسن بن الحسن بن وولد إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي إسماعيل أعقب وإسحق أعقب ثم انقرض ويعقوب لا عقب له ومحمدا الذي يسمى الديباج الأصغر لا عقب له وعليا أعقب الحسن وولد الحسن محمدا وإبراهيم. وولد إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي حسنا وإبراهيم أعقبا . وولد جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي الحسن فولد الحسن بن جعفر عبد الله وولد عبد الله عبيد الله ولاه المأمون الكوفة ثم مكة وإبراهيم بن جعفر فولد إبراهيم عبد الله كان له بنات . وولد داود بن الحسن بن الحسن بن علي سليمان وعبد الله كان عبد اله من أهل الفضل والورع وقد أعقب سليمان وعبد الله ابنا داود. وولد زيد بن الحسن بن علي الحسن لا عقب له إلا منه وكان فاضلا ولاه المنصور المدينة. فولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي إسماعيل والقاسم وعبد الله وإبراهيم وزيدا وعليا وإسحق. فمن بيوت بني الحسن بن علي بن أبي طالب: والرسيون. وبنو المطوق. وبنو تج واسمه الحسن . وولد الهادي باليمن الذي له الإمارة. وبنو الأذرع. وولد الداعي إلى الحق بطبرستان. وولد الحسن بن زيد الذي له الإمارة بالديلم. وولد الناصر الحسنى الذي كان باليمن. وغير ذلك من بيوتات ولد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم . وأما ولد الحسين بن علي بن أبي طالب فإن الحسين: ولد علياً الأكبر وقتل بالطف ولا عقب له وعليا الأصغر وفيه البقية وجعفرا لا عقب له وعبد الله قتل صغيرا بالطف ولا عقب له . هؤلاء هم الذكور من ولد الحسن بن علي وهم لأمهات شتى. فولد علي الأصغر بن الحسين حسناً وحسسينا لا عقب لهما وأبا جعفر محمداً وعبد وزيدا وعمر وعليا ومحمداً الأوسط ولا عقب له وعبد الرحمن وحسينا الأصغر وسليمان والقاسم ولا عقب له . وهؤلاء هم الذكور من ولد علي بن الحسين بن علي وعدتهم ثلاثة عشر ذكراً أعقب منهم ستة وهم: محمد المكنى بأبي جعفر. وعبد الله. وزيد. وعمر. وعلي. الحسين الأصغر. فولد أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي جعفراً الصادق وعبد الله أمهما أم ولد وإبراهيم وعبيد الله لا بقية لهما درجا وأمهما أم ولد وعلياً لا عقب له وأمه أم ولد . فولد جعفر بن محمد الصادق إسماعيل أعقب وعبد الله لا عقب له أمهما فاطمة ابنة الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وموسى وإسحق ومحمداً لأم ولد والعباس لا . |
12-21-2012, 08:33 PM | #3 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
نسب الفاطميين
وحيث انتهينا إلى ذكر إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب فإنه الغرض وإليه ينسب الخلفاء الفاطميون بناة القاهرة. فنقول: إن إسماعيل بن جعفر الصادق مات في حياة أبيه جعفر سنة ثمان وثلاثين ومائة وخلف من الأولاد محمداً وعلياً وفاطمة. فأما محمد بن إسماعيل فإنه الذي إليه الدعوى وكان له من الولد جعفر وإسماعيل فقط أمهما أم ولد : فولد جعفر بن محمد بن إسماعيل محمداً وأحمد أما أحمد فلا عقب له. وأما محمد فولد جعفرا وإسماعيل وأحمد والحسن. قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم وولد إسماعيل بن جعفر: علي ومحمد فقط وإمامة محمد هذا تدعى القرامطة والغلاة بعد أبيه إسماعيل. فولد محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد جعفر وإسماعيل منهم بنو جعفر البغيض بن الحسن بن محمد الحبيب بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. وادعى عبيد الله القائم بالمغرب أنه أخو حسن بن محمد هذا وشهد له بذلك رجل من بني البغيض وشهد له أيضاً بذلك جعفر بن محمد بن الحسين بن أبي الجن علي بن محمد الشاعر بن علي بن إسماعيل بن جعفر ومرة ادعى أنه ولد الحسين بن محمد بن إسماعيل بن جعفر وكل هذه دعوى مفتضحة لأن محمد بن إسماعيل بن جعفر لم يكن له قط ولد اسمه الحسين. وهذا كذب فاحش لأن مثل هذا النسب لا يخفى على من له أقل علم بالنسب ولا يجهل أهله إلا جاهل. قلت: وأما ما ذكره أبو محمد من انتسابهم إلى الحسين بن محمد بن إسماعيل قول افتعله معاديهم فقد كان أبو محمد بقرطبة وملوكها بنو أمية وهم أعدى أعادي القوم فنقل ما أشاعه هناك ملوك بلده حتى اشتهر كما هي عادة الأعداء. والذي يقوله أهل هذا البيت ويذهبون إليه: أن الإمام من ولد جعفر الصادق هو إسماعيل ابنه من بعده وأن الإمام بعد إسماعيل بن جعفر هو ابنه محمد ويلقبونه بالمكتوم وبعد المكتوم ابنه جعفر بن محمد بن إسماعيل ويلقبون جعفرا هذا بالمصدق وبعد جعفر المصدق ابنه محمد الحبيب بن جعفر المصدق بن محمد المكتوم بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق. قالوا: فولد محمد الحبيب عبيد الله بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد المكتوم بن الإمام وعبيد الله هذا هو القائم بالمغرب الملقب بالمهدي المنسوب إليه سائر الخلفاء الفاطميين بالمغرب وبمصر. هذا هو الثابت في درج نسبهم. قال الشريف الجواني النقيب محمد بن أسعد بن علي الحسيني وأما إسماعيل بن جعفر يعني الصادق فعقبه من ابنيه: محمد وعلي. فأما علي فمن ولده أبو الجن بن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن إسماعيل بن جعفر وهم بدمشق ويقال لهم: بنو أبي الجن بجيم ونون . وأما محمد بن إسماعيل فينسب إليه الذين تغلبوا على إفريقية الغرب ثم تغلبوا على مصر والشام. ففي النسابين من أثبتهم وفيهم من نفاهم وفيهم من أمسك. سألت الشريف النسابة جمال الدين أبا جعفر محمد بن عبد العزيز بن أبي القاسم الإدريسي الحسني بمدينة القاهرة عن هؤلاء فقال: المثبتون لأنساب أهل القصر بالقاهرة هم: شيخ الشرف العبيدلي وابن ملقطة العمري وأبو عبد الله البخاري. والنافون لأنسابهم هم: الشريف ابن العابد وابن وكيع من أصحاب سحنون وابن حزم الأندلس صاحب كتاب الجماهير في أنساب المشاهير. والمتوقفون في أنسابهم هم: محمد المبرقع وأخوه الحسن الزيديان في جماعة كثيرة من النسابين كابن خداع وشبل بن تكين وغيرهم. والذي قاله شيخ الشرف: وبنو عبد الله بالمغرب في نسب القطع. هذا ما أملاه علي الإدريسي وكان من العلماء بالنسب والتاريخ. قال: ووجدت في كتاب أبي الغنائم عبد الله النسابة الزيدي الحسيني في ذكره ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر: المعقب من جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر رجل واحد هو محمد أمه فاطمة بنت علي بن جعفر بن عمر بن علي بن الحسين بن علي وأمها أروى ابنة الهيثم ابن العريان بن الهيثم بن الأسود الجشمي والمعقب من محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل رجل واحد وهو الحسن الحبيب لأم ولد وكان له: جعفر وإسماعيل وأحمد وعبيد الله وعلي ويقال إن ولد عبد الله بالمغرب وآخر من ذكره من عقب محمد بن إسماعيل: الحسين ابن أبي طالب علي بن الحسين أبي القاسم بن الحسين بن الحسن بن محمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. وأما غيرهم فيقول: إن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ولد جعفراً وإسماعيل وأحمد والحسن. وولد الحسن جعفراً توفي بمصر سنة ثلاث وتسعين ومائتين . فولد جعفر بن الحسين بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق أبا جعفر محمداً. فولد محمد أبا عبد الله جعفراً وعليا وأحمد والحسن ويحيى. هؤلاء الذكور من ولد الحسن بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وكانوا بمصر . وولد إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب أحمد ويحيى ومحمداً وعليا درج ولا عقب له . فولد أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق إسماعيل توفي بمصر في ذي ومحمداً لا عقب له . وزيدا وعليا والحسين لأم ولد . فولد إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق أبا عبد الله أحمد توفي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة بمصر . وأبا جعفر محمداً توفي سنة اثنتين وثلاثمائة بمصر . وأبا القاسم جعفرا توفي سنة أربع وسبعين ومائتين بمصر وحمزة درج في سنة خمس وسبعين ومائتين ولا عقب له . وأبا عبد الله الحسين توفي سنة أربع وتسعين ومائتين. وأبا الحسن عليا توفي في طريق مكة سنة اثنين وثلاثين وثلاثمائة . فولد أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق أبا محمد إسماعيل وأبا الحسن عليا وأبا القاسم جعفرا وتوفي سنة ثلاثمائة وموسى ولا عقب له . فولد إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق أبا الحسن عليا وأبا عبد الله الحسين والحسن. وولد علي بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وولد جعفر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق أبا عبد الله الحسين وأبا إبراهيم إسماعيل وأبا جعفر محمدا وأبا الحسين محمدا. هؤلاء هم بنو أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وهم بمصر . وولد محمد بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق عليا والحسين وموسى. وولد علي بن محمد بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق الحسن وتوفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة ولا عقب له . وولد الحسين بن محمد بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر زيدا ولا عقب له ومحمداً وجعفرا وأحمد وإسماعيل ولد بالمغرب ولا عقب له . وولد موسى بن محمد بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر يحيى وجعفراً وعليا وإبراهيم وإسماعيل ولا عقب له . فهؤلاء بنو محمد بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر وهم بمصر . وولد الحسين بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق محمداً أبا الحسين ومحمداً أبا عبد الله وهم بمصر . وولد جعفر بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر زينب لم يلد غيرها . وولد علي بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق إسماعيل ومحمداً والحسين والحسن وجعفراً. وولد إسماعيل بن علي بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر محمداً ولا عقب له وعبد الله. وولد محمد بن علي بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر إبراهيم وزيداً وعبد الله ومحسناً وعلياً. وولد الحسين بن علي بن إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق حمزة وجعفراً وهم بمصر . وولد زيد بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق موسى ولا عقب له. وولد الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر زيداً مات ببغداد ومحمداً وإسماعيل النقيب بدمشق وأحمد والحسن وعلياً وجعفرا ولا عقب له . فولد زيد بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الحسين ولا عقب له وأم سلمة وخديجة وكان لها ولد ببغداد وموسى لا عقب له . وولد محمد بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر فاطمة لم يخلف غيرها . وولد إسماعيل بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق محمداً وموسى وإبراهيم والحسين وطاهراً. فولد محمد بن إسماعيل بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ابن جعفر أحمد. وولد أحمد بن الحسين حمزة ومحمداً وقد انقرضا ولا عقب لهما من الذكور . وولد الحسن بن الحسين بن أحمد محمداً وعقيلاً وإبراهيم ولا عقب له وعبيد الله ومحسنا ولا بقية لهما . وولد علي بن الحسين بن أحمد المحسن وأحمد ومحمداً المعروف بأخي محسن كان سكن دمشق ولا عقب لأحمد ومحمد هذين. وولد محمد إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر محمداً. فولد محمد هذا الحسن والحسين ومحمدا. وولد الحسن بن محمد الحسين وأحمد وهم بالكوفة . فهؤلاء جميع ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. وأما بقية أولاد إسماعيل بن جعفر الصادق فلا حاجة بنا إلى ذكرهم هنا. ذكر ما قيل في أنساب خلفاء الفاطميين قال مؤلفه رحمة الله تعالى عليه وقد وقفت على مجلد يشتمل على بضع وعشرين كراسة في الطعن على أنساب الخلفاء الفاطميين تأليف الشريف العابد المعروف بأخي محسن وهو محمد بن علي بن الحسين ابن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ويكنى بأبي الحسين وهو كتاب مفيد. وقد غبرت زمانا أظن أنه قائل ما أنا حاكية حتى رأيت محمد بن إسحق النديم في كتاب الفهرست ذكر هذا الكلام بنصه وعزاه إلى أبي عبد الله بن رزام وأنه ذكره في كتابه الذي رد فيه على الإسماعيلية قال وأنا بريء من قوله : هؤلاء القوم من ولد ديصان الثنوي الذي ينسب إليه الثنوية وهو مذهب يعتقدون فيه خالقين أحدهما يخلق النور والآخر يخلق الظلمة فولد ديصان هذا ابناً يقال له ميمون القداح. وإليه تنسب الميمونية وكان له مذهب في الغلو فولد لميمون هذا ابن يقال له عبد الله كان أخبث من أبيه وأعلم بالحيل فعمل أبوابا عظيمة من المكر والخديعة على بطلان الإسلام وكان عارفاً عالماً بجميع الشرائع والسنن وجميع علوم المذاهب كلها فرتب ما جعله من المكر في سبع دعوات يتدرج الإنسان من واحدة إلى أخرى حتى ينتهي إلى الأخيرة فيبقى معراً عن جميع الأديان لا يعتقد غير التعطيل والإباحة ولا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا ويقول إنه على هدى هو وأهل مذهبه وغيرهم ضال مغفل. وكان عبد الله بن ميمون يريد بهذا في الباطن أن يجعل المخدوعين أمة له يستمد من أموالهم بالمكر والخديعة وأما في الظاهر فإنه يدعو إلى الإمام من آل البيت: محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ليجمع الناس بهذه الحيلة. وكان عبد الله بن ميمون هذا أراد أن يتنبأ فلم يتم له وأصله من موضع بالأهواز يعرف بقورج العباس ثم نزل عسكر مكرم وسكن ساباط أبي نوح فنال بدعوته مالا وكان يتستر بالتشيع والعلم وصار له دعاة فظهر ما هو عليه من التعطيل والإباحة والمكر والخديعة فثارت به الشيعة والمعتزلة وكسروا داره ففر إلى البصرة ومعه رجل من أصحابه يعرف بالحسين الأهوازي فادعى أنه من ولد عقيل بن أبي طالب وأنه يدعو إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ثم اشتهر خبره فطلبه العسكريون فهرب هو والحسين الأهوازي إلى سلمية ليخفى أمره بها فولد بها ابن يقال له أحمد ومات عبد الله بن ميمون فقام من بعده ابنه أحمد هذا في ترتيب الدعوة وبعث الحسين الأهوازي داعية إلى العراق فلقي حمدان بن الأشعت قرمط بسواد الكوفة. وولد لأحمد بن عبد الله بن ميمون القداح ولدان هما: الحسين ومحمد المعروف بأبي الشلعلع ثم هلك أحمد فخلفه ابنه الحسين في الدعوة فلما هلك الحسين بن أحمد خلفه أخوه محمد بن أحمد المعروف بأبي الشلعلع . وكان للحسين ابن اسمه سعيد فبقيت الدعوة له حتى كبر وكان قد بعث محمد هذا داعيين إلى المغرب وهما أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد وأخوه أبو العباس محمد بن أحمد بن محمد فنزلا في قبيلتين من البربر وأخذا على أهلها. وقد كان اشتهر أمرهم بسلمية وأيسروا وصار لهم أملاك كثيرة فبلغ خبرهم السلطان فبعث في طلبهم ففر سعيد من سلمية يريد المغرب وكان على مصر يومئذ عيسى النوشري فدخل سعيد على النوشري ونادمه فبلغ السلطان خبره وكان يتقصى عنه فبعث إلى النوشري بالقبض عليه فقرىء الكتاب وفي المجلس ابن المدبر وكان مؤاخياً لسعيد فبعث إليه يحذره فهرب سعيد وكبس النوشري داره فلم يوجد وسار إلى الاسكندرية فبعث النوشري إلى والي الاسكندرية بالقبض على سعيد وكان رجلا ديلميا يقال له علي بن وهسودان. وكان سعيد خداعاً فلما قبض عليه ابن وهسودان قال: إني رجل من آل رسول الله. فرق له وأخذ بعض ما كان معه وخلاه فسار حتى نزل سجلماسة وهو في زي التجار فتقرب إلى واليها وخدمه وأقام عنده مدة فبلغ المعتضد خبره فبعث في طلبه فلم يقبض عليه والي سجلماسة فورد عليه كتاب آخر فقبض عليه وحبسه وكان خبره قد اتصل بأبي عبد الله الداعي الذي تقدم ذكر خروجه هو وأخوه إلى البربر فسار حينئذ بالبربر إلى سجلماسة وقتل واليها وأخذ سعيداً وصار صاحب الأمر وتسمى بعبيد الله وتكنى بأبي محمد وتلقب بالمهدي وصار إماما علويا من ولد محمد بن إسماعيل ابن جعفر الصادق ولم يلبث إلا يسيرا حتى قتل أبا عبد الله الداعي وتملك البربر وقلع بني الأغلب ولاة المغرب. قال: فعبيد الله الملقب بالمهدي : هو سعيد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله ابن ميمون القداح بن ديصان الثنوي الأهوازي وأصلهم من المجوس. قال: أما سعيد هذا الذي استولى على المغرب وتسمى بعبيد الله فإنه كان بعد أبيه يتيما في حجر عمه الملقب بأبي الشلعلع وكان على ترتيب الدعوة بعد أخيه فرتب أمرها لسعيد فلما هلك وكبر سعيد وصار على الدعوة وترتيب الدعاة والرياسة ظهر أمره وطلبه المعتضد فهرب إلى المغرب من سلمية. ويقال إنه ترسم بالتعليم كي يخفي أمره وكان يقول عن محمد أنه ربيب في حجره وأنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر وذلك لضعف أمره في مبدئه ولذلك يقال عن محمد ابن عبيد الله يتيم المعلم. وزعم آخر أن عبيد الله كان ربيباً في حجر بعض الأشراف وكان يطلب الإمامة فلما مات ادعى عبيد الله أنه ابنه وقيل بل كان عبيد الله من أبناء السوقة صاحب علم. انتهى ما ذكره الشريف. قال: ولم يدع سعيد هذا المسمى عبيد الله نسباً إلى علي بن أبي طالب إلا من بعد هربه من سلمية وآباؤه من قبله لم يدعوا هذا النسب وإنما كانوا يظهرون التشيع والعلم وأنهم يدعون إلى الإمام محمد بن إسماعيل بن جعفر وأنه حي لم يمت. وهذا القول باطل وباطنهم غير ظاهرهم وليس يعرف هذا القول إلا لهم وهم أهل تعطيل وإباحة وإنما جعلوا علاقتهم بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً للخديعة والمكر. ولم يتم لسعيد أمر بالمغرب إلا أن قال: أنا من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتم له بذلك الحيلة والخديعة وشاع بين الناس أنه علوي فاطمي من ولد إسماعيل بن جعفر فاستعبدهم بهذا القول وخفي أمر مذهبه عليهم إلا من كشف له من خاصته ودعاته في تعطيل البارىء والطعن على جميع الأنبياء وإباحة أنفس أممهم وأموالهم وحريمهم ومع ما كانوا يظهرون لم يكن لهم جسارة أن يذكروا لهم نسباً على منبر ولا في مجمع بين الناس سوى ما يشيعون أنهم من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير نسب ينتسبونه تمويهاً على العامة. ولم يكن أحد من السلاطين المتقدمين كاشفهم في أمر نسبهم احتقاراً منه بهم وببلدهم ولبعد ما بينهم من المسافة فجرى أمرهم على ما ذكرنا منذ ملك سعيد المسمى بعبيد الله المغرب إلى أن جلس نزار بن معد يعني العزيز بمصر. ثم ملك فنا خسرو بن الحسن الديلمي بغداد فقرب ما بينهما من المسافة فجمع العلويين ببغداد وقال لهم: هذا الذي بمصر يقول إنه علوي منكم. فقالوا: ليس هو منا. فقال لهم. ضعوا خطوطكم. فوضعوا خطوطهم أنه ليس بعلوي ولا من ولد أبي طالب. ثم أنفذ إلى نزار بن معد رسولاً يقول له: نريد نعرف ممن أنت. فعظم ذلك عليه فذكر أن قاضيه ابن النعمان ساس الأمر لأنه كان يلي أمر الدعوة والمكاتبة في أمرها فنسب نزاراً إلى آبائه وكتب نسبه وأمر به أن يقرأ على المنابر فقرىء على منبر جامع دمشق صدر الكتاب ثم قال: نزار العزيز بالله بن معد المعز لدين الله بن إسماعيل المنصور بالله بن محمد القائم بأمر الله ثم إن رسول فنا خسرو سار راجعا فقتل بالسم في طرابلس فلم يأتهم من بعده رسول وهلك فنا خسرو. وذكر أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابي وابنه غرس الدولة محمد في تاريخهما أن القادر بالله عقد مجلسا أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الحسين ابن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق وابنه أبو القاسم عليا المرتضى وجماعة من القضاة والشهود والفقهاء وأبرز إليهم أبيات الشريف الرضي أبي الحسن محمد بن أحمد الحسين التي أولها: ما مقامي على الهوان وعندي مقولٌ صارمٌ وأنفٌ حميّ وإباءٌ محلّقٌ بي عن الضيم كما راغ طائرٌ وحشيّ أيّ عذر له إلى المجد إن ذلّ غلامٌ في غمده المشرفيّ أحمل الضيم في بلاد الأعادي وبمصر الخليفة العلويّ من أبوه أبي ومولاه مولا - - ي إذا ضامني البعيد القصيّ لفّ عرقي بعرقه سيدا النا - - س جميعا: محمدٌ وعليّ إنّ جوعي بذلك الربع شبعٌ وأُوامي بذلك الظلّ ريّ وقال الحاجب للنقيب أبي أحمد: قل لولدك محمد: أي هوان قد أقام فيه عندنا وأي ضيم لقي من جهتنا وأي ذلك أصابه في مملكتنا وما الذي يعمل معه صاحب مصر لو مضى إليه أكان يصنع إليه أكثر من صنيعنا ألم نوله النقابة ألم نوله المظالم ألم نستخلفه على الحرمين والحجاز وجعلناه أمير الحجيج فهل كان يحصل له من صاحب مصر أكثر من هذا ما نظنه كان يكون لو حصل عنده إلا واحدا من أبناء الطالبيين بمصر. فقال النقيب أبو أحمد: أما هذا الشعر فمما لم نسمعه منه ولا رأيناه بخطه ولا يبعد أن يكون بعض أعدائه نحله إياه وعزاه إليه. فقال القادر: إن كان كذلك فليكتب الآن محضر يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر ويكتب محمد خطه فيه. فكتب محضر بذلك شهد فيه جميع من حضر المجلس منهم: النقيب أبو أحمد وابنه المرتضى. لا أكتب وأخاف دعاة صاحب مصر. وأنكر الشعر وكتب بخطه أنه ليس بشعره ولا يعرفه فأجبره أبوه على أن يسطر خطه في المحضر فلم يفعل وقال: أخاف دعاة المصريين وغلبتهم فإنهم معروفون بذلك. فقال أبوه: يا عجبا! أتخاف من بينك وبينه ستمائة فرسخ ولا تخاف من بينك وبينه مائة ذراع وحلف أن لا يكلمه وكذلك المرتضى فعلا ذلك تقية وخوفا من القادر وتسكينا له. فلما انتهى الأمر إلى القادر سكت على سوء أضمره له وبعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة وولاها محمد بن عمر النهرسابسي. وقال الإمام علي بن محمد بن عبد الكريم بن الأثير الجزري في كتاب الكامل في التاريخ! ذكر ابتداء الدولة العلوية بافريقية هذه الدولة اتسعت أكناف مملكتها وطالت مدتها فنحتاج نستقصي ذكرها فنقول: أول من ولى منهم: أبو محمد عبيد الله فقيل هو محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد ابن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومن ينسبه هذا النسب يجعله: عبد الله بن ميمون القداح الذي ينسب إليه القداحيه . وقيل هو عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل الثاني بن محمد بن إسماعيل بن جعفر يعني الصادق وقد اختلف العلماء في صحة نسبه. فقال: هو وأصحابه القائلون بإمامته إن نسبه صحيح ولم يرتابوا فيه. وذهب كثير من العلماء بالأنساب إلى موافقتهم أيضاً وشهد بصحة هذا القول ما قاله الشريف الرضي: ما مقامي على الهوان وعندي ** مقولٌ صارمٌ وأنفٌ حميّ ألبس الذلّ في بلاد الأعادي! ** وبمصر الخليفة العلويّ من أبوه أبي ومولاه مولاي ** إذا ضامني البعيد القصيّ لفّ عرقي بعرقه سيّدا الن ** اس جميعاً محمدٌ وعليّ إنّ ذلّي بذلك الحيّ عزٌّ ** وأُوامي بذلك الرّبع ريّ قال أي ابن الأثير: إنما لم يودعها ديوانه خوفاً ولا حجة فيما كتبه في المحضر المتضمن القدح في أنسابهم فإن الخوف يحمل على أكثر من هذا على أنه قد ورد ما يصدق ما ذكرته وهو أن القادر بالله لما بلغته هذه الأبيات أحضر القاضي أبا بكر الباقلاني وأرسله إلى الشريف أبي أحمد الموسوي والد الشريف الرضي يقول له: قد عرفت منزلك منا وما لا نزال عليه من صدق الموالاة وما تقدم لك في الدولة من مواقف محمودة ولا يجوز أن تكون أنت على خليفة نرضاها ويكون ولدك على ما يضادها ولقد بلغنا أنه قال شعرا وهو كذا وكذا فيا ليت شعري على أي مقام ذل أقام وهو ناظر في النقابة والحج وهما من أشرف الأعمال ولو كان في مصر لكان كبعض الرعايا. وأطال القول. فحلف أبو أحمد أنه ما علم بذلك وأحضر ولده فقال له في المعنى فأنكر الشعر فقال له: اكتب خطك إلى الخليفة بالاعتذار واذكر فيه أن نسب المصري مدخول وأنه مدع في نسبه. فقال: لا أفعل. فقال أبوه: أتكذبني في قولي فقال: ما أكذبك ولكن أخاف الديلم وأخاف من المصري ومن الدعاة التي له في البلاد. فقال أبوه: أتخاف من هو بعيد منك وتراقبه وتسخط من أنت بمرأى منه ومسمع وهو قادر عليك وعلى أهل بيتك. وتردد القول بينهما ولم يكتب الرضي خطه فحرد عليه أبوه وغضب وحلف أن لا يقيم معه في بلد فآل الأمر إلى أن حلف الرضي أنه ما قال هذا الشعر. واندرجت القصة على هذا. ففي امتناع الرضي من الاعتذار ومن أن يكتب طعناً في نسبهم دليل قوي على صحة نسبهم. وسألت أنا جماعة من أعيان العلويين عن نسبه فلم يرتابوا في صحته. وذهب غيرهم إلى أن نسبه مدخول ليس بصحيح وغلا طائفة منهم إلى أن جعلوا نسبه يهودياً. وقد كتب في الأيام القادرية محضر يتضمن القدح في نسبه ونسب أولاده وكتب فيه جماعة من العلويين وغيرهم: أن نسبه إلى أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه غير صحيح. وزعم القائلون بصحة نسبه أن العلماء ممن كتب في المحضر إنما كتبوا خوفاً وتقية ومن لا علم عنده بالأنساب فلا احتجاج بقوله. وزعم الأمير عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن شداد بن تميم بن المعز بن باديس صاحب تاريخ إفريقية والغرب أن نسبه معرق في اليهودية ونقل فيه عن جماعة من العلماء وقد استقصى ذلك في ابتداء دولتهم وبالغ. وأنا أذكر معنى ما قاله مع البراءة من عهدة طعنه في نسبه وما عداه فقد أحسن فيما ذكر لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم عظم ذلك على اليهود والنصارى والروم والفرس وسائر العرب لأنه سفه أحلامهم وعاب أديانهم فاجتمعوا يداً واحدة عليه فكفاه الله كيدهم وأسلم منهم من هداه الله فلما قبض صلى الله عليه وسلم نجم النفاق وارتدت العرب وظنوا أن أصحابه يضعفون بعده فجاهد أبو بكر رضي الله عنه في سبيل الله فقتل مسيلمة وأهل الرده ووطأ جزيرة العرب وغزا فارس والروم فلما حضرته الوفاة ظنوا أن بوفاته ينتقض الإسلام فاستخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأذل فارس والروم وغلب على ممالكهما فدس عليه المنافقون أبا لؤلؤة فقتله ظنا منهم أن بقتله ينطفىء نور الإسلام فولى عثمان رضي الله عنه فزاد في الفتوح فلما قتل وولى علي رضي الله عنه قام بالأم أحسن قيام فلما يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة وتشكيك ضعفة العقول في دينهم بأمور قد ضبطها المحدثون وأفسدوا الصحيح بالتأويل والطعن عليه. وكان أول من فعل ذلك أبو الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسيد وأبو شاكر ميمون بن ديصان وغيرهما فألقوا إلى كل من وثقوا به أن لكل شيء من العبادات باطنا وأن الله لم يوجب على أوليائه ومن عرف من الأئمة والأبواب صلاة ولا زكاة ولا غير ذلك ولا حرم عليهم شيئا وأباحوا لهم نكاح الأمهات والأخوات وقالوا: هذه قيود للعامة وهي ساقطة عن الخاصة وكانوا يظهرون التشيع لآل النبي صلى الله عليه وسلم ليستروا أمرهم ويستميلوا العامة. وتفرق أصحابهم في البلاد وأظهروا الزهد والعبادة يغرون الناس بذلك وهم على خلافه فقتل أبو الخطاب وجماعة من أصحابه بالكوفة وكان أصحابه قالوا له: إنا نخاف الجند فقال لهم: إن أسلحتهم لا تعمل فيكم. فلما ابتدأوا في ضرب أعناقهم قال له أصحابه: ألم تقل إن سيوفهم لا تعمل فينا فقال: إذا كان قد بدا الله فما حيلتي وتفرقت هذه الطائفة في البلاد وتعلموا الشعبذة والنأرنجيات والنجوم والكيمياء فهم يحتالون على كل قوم بما ينفق عليهم وعلى العامة بإظهار الزهد. ونشأ لابن ديصان ابن يقال له أبو عبد الله القداح علمه الحيل وأطلعه على أسرار هذه النحلة فحذق وتقدم. وكان بنواحي أصبهان رجل يعرف بمحمد بن الحسين ويلقب بدندان يتولى تلك المواضع وكان يبغض العرب ويجمع مساويهم فسار إليه القداح وعرفه من ذلك ما زاد به محله وأشار إليه أن لا يظهر ما في نفسه ويكتمه ويظهر التشيع والطعن على الصحابة فاستحسن قوله وأعطاه مالا ينفقه على الدعاة إلى هذا المذهب فسير دعاته إلى كور الأهواز والبصرة والكوفة والطالقان وخراسان وسلمية من أرض حمص. وتوفي القداح ودندان فقام من بعد القداح ابنه أحمد وصحبه انسان يقال له أبو القاسم رستم بن الحسين بن فرج بن حوشب بن زاذان النجار من أهل الكوفة وألقى إليه مذهبه فقبله وسيره إلى اليمن وأمره بلزوم العبادة والزهد ودعا الناس إلى المهدي وأنه خارج في هذا الزمان فنزل بعد بقرب قوم من الشيعة يعرفون ببني موسى فأظهر أمره وقرب أمر المهدي وأمرهم بالاستكثار من الخيل والسلاح. واتصلت أخباره بالشيعة الذين بالعراق فساروا إليه وكثر جمعهم وعظم بأسهم وأغاروا على من جاورهم وسبوا وجبوا الأموال وأرسل إلى من بالكوفة من ولد القداح هدايا عظيمة. وأوفدوا إلى المغرب رجلين: أحدهما الحلواني والآخر أبو سفيان وقالوا لهما: إن المغرب أرض بور فاذهبا فأحرثا حتى يجيء صاحب البذر. فسارا ونزل أحدهما بأرض كتامة فمالت قلوب أهل تلك النواحي إليهما وحملوا إليهما الأموال والتحف فأقاما سنين كثيرة وماتا وكان من إرسال أبي عبد الله الشيعي إلى المغرب ما كان. فلما توفي عبد الله بن ميمون القداح ادعى ولده أنه من ولد عقيل بن أبي طالب وهم مع هذا يسترون أمرهم ويخفون أشخاصهم. وكان ولده أحمد هو المشار إليه منهم فتوفي وخلف ولده محمداً ثم توفي محمد وخلف أحمد والحسين فسار الحسين إلى سلمية وله بها ودائع من جهة جده عبد الله القداح ووكلاء وغلمان. وبقي ببغداد من أولاد القداح أبو الشلعلع وكان الحسين يدعى أنه الوصي وصاحب الأمر والدعاة باليمن المغرب يكاتبونه واتفق أنه جرى بحضرته حديث النساء بسلمية فوصفوا له امرأة رجل يهودي حداد مات عنها زوجها وهي في غاية الحسن ولها ولد من الحداد يماثلها في الجمال فأحبها وحسن موقعها منه وأحب ولدها وأدبه وعلمه فتعلم العلم وصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة فمن العلماء من أهل هذه الدعوة من يقول إن الإمام الذي كان بسلمية وهو الحسين مات ولم يكن له ولد فعهد إلى ابن اليهودي الحداد وهو عبيد الله وعلمه أسرار الدعوة من قول وفعل وأين الدعاة وأعطاه الأموال والعلامات وتقدم إلى أصحابه بطاعته وخدمته وأنه الإمام والوصي وزوجه ابنة عمه أبي الشلعلع وجعل لنفسه نسبا وهو: عبيد الله بن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وبعض الناس يقول: إن عبيد الله هذا من ولد القداح. وقال أي ابن الأثير: هذه الأقوال فيها ما فيها فيا ليت شعري ما الذي حمل أبا عبد الله الشيعي وغيره ممن قام في إظهار هذه الدعوة حتى يخرجوا الأمر من أنفسهم ويسلموه إلى ولد يهودي! وهل يسامح نفسه بهذا الأمر من يعتقده دينا يثاب عليه! قال: فلما عهد الحسين إلى عبيد الله قال له: إنك ستهاجر بعدي هجرة بعيدة وتلقى محنا شديدة فتوفي الحسين وقام بعده عبيد الله وانتشرت دعوته وأرسل إليه أبو عبد الله رجالا من كتامة من المغرب ليخبروه بما فتح الله عليه وأنهم ينتظرونه. وشاع خبر عند الناس أيام المكتفي فطلب فهرب هو وولده أبو القاسم الذي ولي بعده وتلقب بالقائم وهو يومئذ غلام وخرج معه خاصته ومواليه يريد المغرب وذلك أيام زيادة الله بن الأغلب. قال المؤلف رحمة الله عليه وأما المحضر فنسخته هذا ما شهد به الشهود أن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد ينسب إلى ديصان بن سعيد الذي تنسب إليه الديصانية. وأن هذا الناجم بمصر هو منصور بن نزار المتلقب بالحاكم حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد لا أسعده الله . وأن من تقدمه من سلفه من الأرجاس الأنجاس عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين أدعياء خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وأن ما ادعوه من الانتساب إليه زور وباطل. وأن هذا الناجم في مصر هو وسلفه كفار فساق زنادقة ملحدون معطلون وللإسلام جاحدون أباحوا الفروج وأحلوا الخمور وسبوا الأنبياء وادعوا الربوبية. وفي آخره: وكتب في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة. وقال ابن خلدون في كتاب العبر: ومن الأخبار الواهية ما يذهب إليه الكثير من المؤرخين في العبيديين خلفاء الشيعة بالقيروان والقاهرة من نفيهم عن أهل البيت صلوات الله عليهم والطعن في نسبهم إلى إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق يعتمدون في ذلك على أحاديث لفقت للمستضعفين من خلفاء بني العباس تزلفاً إليهم بالقدح فيمن ناصبهم وتفننا في الشمات بعدوهم حسب ما تذكر بعض هذه الأحاديث في أخبارهم ويغفلون عن التفطن لشواهد الواقعات وأدلة الأحوال التي اقتضت خلاف ذلك من تكذيب دعواهم والرد عليهم فإنهم متفقون في حديثهم عن مبدأ دولة الشيعة أن أبا عبد الله المحتسب لما دعا بكتامة للرضى من آل محمد واشتهر خبره وعلم تحويمه على عبيد الله المهدي وابنه أبي القاسم خشياً على أنفسهما فهرا من المشرق محل الخلافة واجتازا بمصر. وأنهما خرجا من الاسكندرية في زي التجار ونمى خبرهما إلى عيسى النوشري عامل مصر فسرح في طلبهما الخيالة حتى إذا أدركا خفي حالهما على تابعهما بما لبسوا من الشارة والزي فأقبلوا إلى المغرب. وأن المعتضد أوعز إلى الأغالبة أمراء إفريقية بالقيروان وبني مدرار أمراء سجلماسة بأخذ الآفاق عليهما وإذكاء العيون في طلبهما فعثر اليسع صاحب سجلماسة ابن آل مدرار على خفي مكانهما ببلده واعتقلهما مرضاة للخليفة. ثم كان بعد ذلك ما كان من ظهور دعوتهم بإفريقية والمغرب ثم باليمن ثم بالاسكندرية ثم بمصر والشام والحجاز وقاسموا بني العباس في ممالك الإسلام شق الأبلمة وكادوا يلجون عليهم مواطنهم ويديلون من أمرهم. ولقد أظهر دعوتهم ببغداد وعراقها الأمير البساسيري من موالي الديلم المتغلبين على خلفاء بني العباس في مغاضبة جرت بينه وبين أمراء العجم وخطب لهم على منابرها حولا كاملا. وما زال بنو العباس يغصون بمكانهم ودولتهم وملوك بني أميه وراء البحر ينادون بالويل والحرب منهم. وكيف يقع هذا كله لدعي في النسب يكذب في انتحال الأمر! واعتبر حال القرمطي إذ كان دعيا في انتسابه كيف تلاشت دعوته وتفرق اتباعه وظهر سريعا على خبثهم ومكرهم فساءت عاقبتهم وذاقوا وبال أمرهم ولو كان أمر العبيدين كذلك لعرف ولو بعد مهلة. فمهما تكن عند امرىءٍ من خليقةٍ ** وإن خالها تخفى على الناس تعلم فقد اتصلت دولتهم نحوا من مائتين وسبعين سنة وملكوا مقام إبراهيم ومصلاه وموطن الرسول ومدفنه وموقف الحجيج ومهبط الملائكة ثم انقرض أمرهم وشيعتهم في ذلك كله على أتم ما كانوا عليه من الطاعة لهم والحب فيهم واعتقادهم بنسب الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق. ولقد خرجوا مرارا بعد ذهاب الدولة ودروس أثرها داعين إلى بدعتهم هاتفين بأسماء صبيان من أعقابهم يزعمون استحقاقهم للخلافة ويذهبون إلى تعيينهم بالوصية ممن سلف قبلهم من الأئمة ولو ارتابوا في نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم فصاحب البدعة لا يلبس في أمره ولا يشبه في بدعته ولا يكذب نفسه فيما ينتحله. والعجب في القاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار من المتكلمين يجنح إلى هذه المقالة المرجوحة ويرى هذا الرأي الضعيف: فإن كان ذلك لما كانوا عليه من الإلحاد في الدين والتعمق في الرافضية فليس ذلك بدافع في صدد بدعتهم وليس إثبات منتسبهم بالذي يغنى عنهم من الله شيئاً في كفرهم وقد قال تعالى لنوح عليه السلام في شأن ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ به عِلْمٌ}. وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة يعظها: يا فاطمة: اعملي: "فلن أغنى عنك من الله شيئاً" ومتى عرف أمرؤ قضية أو استيقن أمراً وجب عليه أن يصدع به " واللّهُ يَقُولُ الحقَّ وَهُوَ يَهْدِى السبيلَ ". والقوم كانوا في مجال لظنون الدول بهم وتحت رقبة من الطغاة لتوفر شيعتهم وانتشارهم في القاصية بدعوتهم وتكرر خروجهم مرةً بعد أخرى فلاذت رجالاتهم بالاختفاء ولم يكادوا يعرفون. كما قيل: فلو تسأل الأيام ما أسمى ما درت وأين مكاني ما اعرفن مكاني حتى لقد سمى محمد بن إسماعيل الإمام جد عبيد الله المهدي بالمكتوم سمته بذلك شيعتهم لما اتفقوا عليه من اخفائه حذرا من المتغلبين عليهم فتوصل شيعة آل العباس بذلك عند ظهورهم إلى الطعن في نسبهم وازدلفوا بهذا الرأي القائل إلى المستضعفين من خلفائهم وأعجب به أولياؤهم وأمراء دولتهم المتولون لحروبهم مع الأعداء يدفعون به عن أنفسهم وسلطانهم معرة العجز عن المقاومة والمدافعة لمن غلبهم على الشام ومصر والحجاز من البربر الكتاميين شيعة العبيديين وأهل دعوتهم حتى لقد أسجل القضاة ببغداد بنفيهم من هذا النسب وشهد بذلك من أعلام الناس جماعة منهم: الشريف الرضي. وأخوه المرتضى. وابن البطحاوي. أبو حامد الاسفراييني. والقدوري. والصيمري. وابن الاكفاني. والأبيوردي. وأبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة . وغيرهم من أعلام الأئمة ببغداد في يوم مشهود وذلك سنة اثنتين وأربعمائة في أيام القادر وكانت شهادتهم في ذلك على السماع لما اشتهر وعرف بين الناس ببغداد وغالبها شيعة بني العباس الطاعنون في هذا النسب فنقله الأخباريون كما سمعوه وروه حسبما وعوه والحق من ورائه. وفي كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلماسة أصدق شاهد وأوضح دليل على صحة نسبهم فالمعتضد أقعد بنسب أهل البيت من كل أحد والدولة والسلطان سوق للعالم تجلب إليه بضائع العلوم والصنائع وتلتمس فيه ضوال الحكم وتحدى إليه ركائب الروايات والأخبار وما نفق فيها نفق عند الكافة فإن تنزهت الدولة عن التعسف والميل والإفن والشقشقة وسلكت النهج الأمم ولم تجر عن قصد السبيل نفق بأسواقها الإبريز الخالص واللجين المصفى وإن ذهبت مع الأغراض والحقود وماجت بسماسرة البغي والباطل نفق البهرج والزائف والناقد البصير قسطاس نظره وميزان بحثه وملتمسه. قال أي ابن خلدون: وكان الإسماعيلية من الشيعة يذهبون إلى أن الإمام من ولد جعفر الصادق هو إسماعيل ابنه من بعده وأن الإمام بعده ابنه محمد المكتوم وبعده ابنه جعفر المصدق وبعده ابنه محمد الحبيب وكانوا أهل غلو في دعاويهم في هؤلاء الأئمة. وكان محمد بن جعفر هذا يؤمل ظهور أمره والظفر بدولته. وكان باليمن من هذا المذهب كثير بعدن في قوم يعرفون ببني موسى وكذلك كان بإفريقية من لدن جعفر الصادق بمرجانة وفي كتامة وفي نفزة وسماتة تلقوا ذلك من الحلواني وابن بكار داعيتي جعفر الصادق وقدم على جعفر بن محمد والد عبيد الله من أهل اليمن رجل من أولئك الشيعة يعرف بعلي بن الفضل فأخبره بأخبار اليمن فبعث معه أبا القسم رستم بن الحسين بن فرج بن حوشب الكوفي من رجالات الشيعة وقال له: ليس لليمن إلا أنت فخرجا من القادسية سنة ثمان وستين ومائتين ودخلا اليمن على حين انخلع محمد بن يعفر من الملك وأظهر التوبة فدعوا للرضى من آل محمد وظهرت الدعوة سنة سبعين وتسمى أبو القاسم بالمنصور وابتنى حصنا بجبل لاعة وزحف بالجيوش وفتح مدائن اليمن وملك صنعاء وأخرج بني يعفر وفرق الدعاة في اليمن والبحرين واليمامة والسند والهند ومصر والمغرب. وكان أبو عبد الله المحتسب داعي المغرب وأصله من الكوفة واسمه الحسين بن أحمد ابن محمد بن زكريا من رام هرمز وكان محتسبا بسوق الغزل من البصرة وقيل إنما المحتسب أخوه أبو العباس محمد. ويعرف أبو عبد الله بالمعلم كان يعلم الناس مذهب الإمامية الباطنية واتصل بالإمام محمد بن جعفر ورأى أهليته فأرسله إلى ابن حوشب صاحب اليمن وأمره بامتثال أمره والاقتداء بسيرته ثم يذهب بعدها إلى المغرب ويقصد بلد كتامة فلما بلغ إلى ابن حوشب لزمه وشهد مجالسه وأفاد علمه ثم خرج مع حاج اليمن إلى مكة حتى أتى الموسم ولقي به رجالات كتامة واختلط بهم ووجد لديهم بذار من ذلك المذهب كما قدمنا فاشتملوا عليه وسألوه الرحلة فارتحل معهم إلى بلدهم ونزل بها وجاهر بمذهبه وأعلن إمامة أهل البيت ودعا للرضى من آل محمد على عادة الشيعة وأطاعته قبائل كتامة بعد فتن وحروب ثم اجتمعوا على تلك ثم هلك الإمام محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بعد أن عهد لابنه عبيد الله المهدي وشاع خبر دعاته باليمن وإفريقية وطلبه المكتفي وكان يسكن عسكر مكرم فانتقل إلى الشام ثم طلب ففر بنفسه وبابنه أبي القاسم وكان غلاما حدثا وبلغ مصر وأراد قصد اليمن فبلغه أن علي بن المفضل أحدث فيها الأحداث من بعد ابن حوشب وأساء السيرة فكره دخول اليمن واتصل به شأن أبي عبد الله وما فتح الله عليه بالمغرب فاعتزم على اللحاق به وسرح عيسى النوشري عامل مصر في طلبه وكانوا خرجوا من الإسكندرية في زي التجار فلما أدركت الرفقة خفي حالهم بما اشتبه من الزي فافلتوا إلى المغرب. انتهى كلام ابن خلدون رحمه الله قال المؤلف رحمة الله عليه : وأنت إذا سلمت من العصبية والهوى وتأملت ما قد مر ذكره من أقوال الطاعنين في أنساب القوم علمت ما فيها من التعسف والحمل مع ظهور التلفيق في الأخبار وتبين لك منه ما تأبى الطباع السليمة قبوله ويشهد الحس السليم بكذبه فإنه قد ثبت أن الله تعالى لا يمد الكذاب المفتعل بما يكون سبباً لانحراف الناس إليه وطاعتهم له على كذبه. قال تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ وقال تعالى في الدلالة على صدقه: " أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ ". وقد علم أن الكذب على الله تعالى والافتراء عليه في دعوى استحقاق الخلافة النبوية على الأمة والإمامة لهم شرعا بكونه من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته من أعظم الجنايات وأكبر الكبائر فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يظهر من تعاطى ذلك واجترأ عليه ثم يمده في ظهوره بمعونته ويؤيده بنصره حتى يملك أكثر مدائن الإسلام ويورثها بنيه من بعده وهو تعالى يراه يستظهر بهذه النعم الجليلة على كذبه ويفتن بمخرقته العباد ويحدث بباطله الفتن العظيمة والحروب المبيدة في البلاد ثم يخليه تعالى وما تولى من ذلك بباطله من غير أن يشعره شعار الكذابين ويحل به ما من عادته تعالى أن يحل بالمفسدين فيدمره وقومه أجمعين. كما لا يليق بحكمته تعالى أن يخذل من دعا إلى دينه وحمل الكافة على عبادته ولا يؤيده على إعلاء كلمته بل يسلمه في أيدي أعداء دينه المجاهرين بكفرهم وطغيانهم حتى يزيدهم ذلك كفراً إلى كفرهم وضلالاً إلى ضلالهم فإن فعله هذا بالصادق في دعائه إليه تعالى كتأييده الكاذب فيها سواء بل الحكمة الإلهية والعادة الربانية وسنة الله التي قد خلت في عباده اقتضت أنه تعالى إذا رأى الكذاب يستظهر بالمحافظة على التنمس بالباطل ويتوصل إلى إقامة دولته بالكذب ويحيلها بالزور في ادعائه نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غير صحيح وصرفه الناس عن طاعة بني العباس الثابتة أنسابهم المرضية سيرتهم العادلة بزعمهم أحكامهم ومذاهبهم أن يحول بينه وبين همه بذلك ويسلبه الأسباب التي يتمكن بها من الاحتراز ويعرضه لما يوقعه في المهلك ويسلك به سبيل أهل البغي والفساد. فلما لم يفعل ذلك بعبيد الله المهدي بل كتب تعالى له النصر على من ناوأه والتأييد بمعونته على من خالفه وعاداه حتى مكن له في الأرض وجعله وبينه من بعده أئمةً وأورثهم أكثر البسيطة وملكهم من حد منتهى العمارة في مغرب الشمس إلى آخر ملك مصر والشام والحجاز وعمان والبحرين واليمن وملكهم بغداد وديار بكر مدة ونشر دعوتهم إلى خراسان ونصرهم على عدوهم أي نصر تبين أن دعواهم الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة وهذا دليل يجب التسليم له. وقد روى موسى بن عقبة أن هرقل لما سأل أبا سفيان بن حرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما قاله له: أتراه كاذبا أو صادقا قال أبو سفيان: بل هو كاذب قال هرقل: لا تقولوا ذلك فإن الكذب لا يظهر به أحد " واللّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ". وقد نقل عن أئمة أهل البيت عليهم السلام الإشارة إلى أمر عبيد الله المهدي فمن ذلك: أن إن ظهور القائم مثله كمثل عمود من نور سقط من السماء إلى الأرض رأسه بالمغرب وأسفله بالمشرق. وكذلك كان بداية أمر المهدي عبيد الله فإنه ابتدأ من المغرب وانتهى أمره على يد بنيه إلى المشرق فإنه ظهر بسجلماسة في ذي الحجة سنة تسعين ومائتين وهي أقصى مسكون المغرب ودعي للمستنصر ببغداد في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. وكان علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم يقول: في سنة أربع وخمسين ومائتين ستكشف عنكم الشدة ويزول عنكم كثير مما تجدون إذا مضت عنكم سنة اثنتين وأربعين يشير بذلك إلى أن البداية من تاريخ وقته فيكون المراد سنة ست وتسعين ومائتين وفي ذي الحجة منها كان ظهور الإمام المهدي بالله رحمة الله عليه . |
12-21-2012, 08:34 PM | #4 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
ذكر ما كان من ابتداء الدولة الفاطمية إلى أن بنيت القاهرة
وذلك أن أبا عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا الشعيي سار إلى أبي القاسم رستم بن الحسن بن فرج بن حوشب بن ذاذان الكوفي باليمن وصحبه وصار من كبار أصحابه وكان له علم وفهم ودهاء ومكر فلما ورد على ابن حوشب موت الحلواني ورفيقه بالمغرب قال لأبي عبد الله الشعيي: إن أرض كتامة من المغرب قد حرثها الحلواني وأبو سفيان وقد ماتا وليس لها غيرك فبادر فإنها موطأة ممهدة لك. فخرج أبو عبد الله إلى مكة وقد أعطاه ابن حوشب مالاً فلما قدم سأل عن حجاج كتامة فأرشد إليهم واجتمع بهم ولم يعرفهم قصده وذلك أنه جلس قريبا منهم فسمعهم يتحدثون بفضائل آل البيت فاستحسن ذلك وحدثهم في معناه فلما أراد القيام سألوه أن يأذن لهم في زيارته فأذن لهم وسألوه أين مقصده فقال: مصر ففرحوا بصحبته فرحلوا وهو لا يخبرهم بغرضه وأظهر العبادة والزهد فازدادوا فيه رغبة وخدموه. وكان يسألهم عن بلادهم وأحوالهم وقبائلهم وعن طاعتهم لسلطان إفريقية فقالوا: ماله علينا طاعة وبيننا وبينه عشرة أيام. قال: أتحلمون السلاح قالوا: ولم يزل يتعرف أحوالهم حتى وصلوا إلى مصر فلما أراد وداعهم قالوا له: أي شيء تطلب بمصر قال: أطلب التعليم بها قالوا: إذا كنت تقصد هذا فبلادنا أنفع لك ونحن أعرف بحقك ولم يزالوا به حتى أجابهم إلى المسير معهم. فلما قاربوا بلادهم رجال من الشيعة فأخبروهم بخبره فرغبوا في نزوله عندهم وأقرعوا فيمن يضيفه منهم. ثم ارتحلوا حتى وصلوا إلى أرض كتامة منتصف ربيع الأول سنة ثمان وثمانين ومائتين فسأله قوم أن ينزل عندهم حتى يقاتلوا دونه فقال لهم: أين يكون فج الأخيار فعجبوا من ذلك ولم يكونوا ذكروه له فقالوا له: عند بني سليمان. إليه نقصد ثم نأتي كل قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم فأرضى بذلك الجميع. وسار إلى جبل يقال له إيكجان وفيه فج الأخيار فقال: هذا فج الأخيار وما سمى إلا بكم ولقد جاء في الآثار: للمهدي هجرة تنبو عن الأوطان ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان قوم اسمهم مشتق من الكتمان وبخروجكم في هذا الفج سمى فج الأخيار. فتسامعت القبائل وأتاه البرابر من كل مكان فعظم أمره إلى أن تقاتلت كتامة عليه مع قبائل البربر وهو لا يذكر في ذلك اسم المهدي فاجتمع أهل العلم على مناظرته وقتله فمنعه الكتاميون من المناظرة وكان اسمه عندهم أبا عبد الله المشرقي. وبلغ خبره إلى إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية فأرسل إلى عامله على مدينة ميلة ليسأله عن أمره فصغره عنده وذكر أنه يلبس الخشن ويأمر بالخير والعبادة فسكت عنه. ثم إن أبا عبد الله قال للكتاميين. أنا صاحب البذر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلواني. فازدادت محبتهم له وتعظيمهم لأمره فلما ظهر لأهل المغرب علمه وفضله قال أحد الأولياء لولا واحدة كان الحلواني يقولها ما تخالجني الشك في أن هذا الرجل هو الذي كان الحلواني يبشر به. قالوا: وما هي قال: كان إذا وصفه قال: في فيه إصبع فبلغ ذلك أبا عبد الله فتبسم وقال: هذا لا يكون فلما أخذ العهد بعد ذلك على من سمع هذا القول واشترط عليهم الكتمان وضع إصبعه على فيه وقال: هذا هو الإصبع الذي كان يقوله الحلواني أمركم بالصمت والكتمان فأما أن يكون في فم رجل إصبع فلا فقالوا كذلك والله هو وتفرقت البرابر وكتامة بسببه وأراد بعضهم قتله فاختفى ووقع بينهم قتال شديد واتصل الخبر بالحسن بن هرون من أكابر كتامة فأخذ أبا عبد الله إليه ودافع عنه ومضى به إلى مدينة تاصروت فأتته القبائل من كل مكان وعظم شأنه وصارت الرئاسة للحسن بن هرون وسلم إليه أبو عبد الله أعنة الخيل وظهر من الاستتار وشهد الحروب فكان الظفر له وغنم الأموال وخندق على مدينة تاصروت وقد زحفت إليه قبائل المغرب فاقتتلوا عدة مرار كان له فيها الظفر وصار إليه أموالهم فاستقام له أمر البربر وعامة كتامة وزحف إلى مدينة ميلة وقاتل أهلها قتالا شديدا وأخذ الأرباض ثم ملك البلد بأمان فبعث إليه إبراهيم بن الأغلب ابنه الأحول في إثنى عشر ألفا وأتبعه بمثلهم فالتقى مع أبي عبد الله فانهزم أبو عبد الله وقتل كثير من أصحابه وتبعه الأحول فحال بينهما الثلج ولحق أبو عبد الله بجبل إيكجان وملك الأحول مدينة تاصروت وأحرقها وأحرق مدينة ميلة فبنى أبو عبد الله دار هجرة بإيكجان وقصده أصحابه وعاد الأحول إلى إفريقية فمات إبراهيم بن الأغلب وقتل ابنه أبو العباس وولى زيادة الله بن الأغلب واشتغل باللهو واللعب فاشتد سرور أبي عبد الله. ثم إن أبا مضر زيادة الله قتل الأحول فانتشرت حينئذ جنود أبي عبد الله في البلاد وصار يقول: المهدي يخرج في هذه الأيام ويملك الأرض فيا طوبى لمن هاجر إلي وأطاعني. وأخذ يغري الناس بزيادة الله ويعيبه وكان أكثر من عند زيادة الله من الوزراء شيعة فلم يكن يسوءهم ظفر أبي عبد الله خصوصا وقد كان يذكر لهم من كرامات المهدي وأنه يحيي الموتى ويرد الشمس من مغربها ويملك الأرض بأسرها وهو مع ذلك يبعث إلى الوزراء ويعدهم وبعث أبو عبد الله برجال. ذكر خروج عبيد الله المهدي إلى المغرب وكان من خبر ذلك أن أبا عبد الله سير إلى عبيد الله رجالا من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليه وأنهم ينتظرونه فوافوه بسلمية من أرض حمص قد كان اشتهر خبر عبيد الله عند الناس فطلبه المكتفي ففر من سلمية ومعه ابنه أبو القاسم نزار الذي قام بالأمر من بعده وخرج معهما خاصته ومواليه. فلما انتهى إلى مصر أقام مستتراً بزي التجار فأتت الكتب إلى عيسى التوشري أمير مصر من المعتضد بالله العباسي بصفة عبيد الله وحليته وأنه يأخذ عليه الطرق ويقبضه وكل من يشبهه فلما قرئت الكتب كان في المجلس ابن المدير الكاتب فبلغ ذلك عبيد الله فسار من مصر مع أصحابه ومعه أموال كثيرة فأوسع في النفقة على من صحبه وفرق النوشري الأعوان في طلب عبيد الله وخرج بنفسه فلما رآه لم يشك فيه وقبض عليه ووكل به وقد نزل في بستان ثم استدعاه ليأكل معه فأعلمه أنه صائم فرق له وقال: أعلمني حقيقة أمرك حتى أطلقك. فخوفه الله تعالى وأنكر حاله وما زال يتلطف به حتى أطلقه وخلى سبيله وأراد أن يرسل معه من يوصله إلى رفقته فقال: لا حاجة إلى ذلك ودعا له. وقيل إنه أعطاه مالاً في الباطن حتى أطلقه فرجع بعض أصحاب النوشري عليه باللوم فندم على إطلاقه وأراد أن يبعث الجيش وراءه ليرده. وكان عبيد الله قد لحق بأصحابه فإذا ابنه أبو القاسم قد ضيع كلباً كان يصيد به وهو يبكي عليه فعرفه عبيده أنهم تركوه في البستان الذي كانوا فيه فرجع عبيد الله بسبب الكلب حتى دخل البستان ومعه عبيده فلما رآه النوشري سأل عن خبره فقيل إنه عاد بسبب كلب لولده فقال النوشري لأصحابه: قبحكم الله أردتم أن تحملوني على هذا الرجل حتى آخذه فلو كان يطلب ما يقال أو لو كان مريباً لكان يطوى المراحل ويخفى نفسه ولا كان يرجع في طلب كلب وتركه ولم يعرض له. فسار عبيد الله وخرج عليه عدة من اللصوص بموضع يقال له: الطاحونة فأخذوا بعض متاعه منه كتب وملاحم كانت لآبائه فعظم أمرها عليه فيقال إنه لما خرج ابنه أبو القاسم في المرة الأولى إلى الديار المصرية أخذها من ذلك المكان. ثم إن عبيد الله انتهى هو وولده إلى مدينة طرابلس ففارق التجار وكان في صحبته أبو العباس أخو أبي عبد الله فقدمه عبيد الله إلى القيروان فسار إليها فوجد خبر عبيد الله قد سبق إلى زيادة الله بن الأغلب فقبض على أبي العباس وقرره فأنكر وقال: أنا رجل تاجر صحبت رجلا في القفل فحبس. وبلغ الخبر إلى عبيد الله فسار إلى قسنطينة. ووصل كتاب زيادة الله إلى ناظر طرابلس بأخذ عبيد الله فلم يدركه ووافى عبيد الله قسطنطينة فلم يقصد أبا عبد الله لأن أخاه أبا العباس كان قد أخذ وسار إلى سجلماسة فوافت الرسل في طلبه وقد سار فلم يوجد ووصل إلى سجلماسة فأقام بها وقد أقيمت له المراصد بالطرقات. وكان على سجلماسة اليسع بن مدرار فأهدى إليه عبيد الله وواصله فقربه اليسع وأحيه فأتاه كتاب زيادة الله يعرفه أن الرجل الذي يدعو إليه أبو عبد الله الشيعي عنده فلم يجد بداً من القبض على عبيد الله وحبسه. وأخذ زيادة الله في جمع العساكر فقدم إبراهيم بن حنيش من أقاربه على أربعين ألفا وسلم إليه الأموال والعدد وسار وقد انضاف إليه مثل جيشه فنزل مدينة قسنطينية وأتاه كثير من كتامة الذين لم يطيعوا أبا عبد الله وقتل في طريقه خلقا كثيرا من أصحاب أبي عبد الله هذا وأبو عبد الله متحصن بالجبل فأقام إبراهيم بقسنطينية ستة أشهر فلما رأى أن أبا عبد الله لا يتقدم إليه زحف بعساكره فأخرج إليه أبو عبد الله خيلا فلما رآها إبراهيم قصد إليها بنفسه والأثقال على ظهور الدواب لم تحط فقاتلهم قتالا كثيرا وأدركهم أبو عبد الله فانهزم إبراهيم بمن معه وجرح فغنم أبو عبد الله جميع ما معهم وقتل منهم خلقا كثيرا فسار إبراهيم إلى القيروان وعظم أمر أبي عبد الله واستقرت دولته. وكتب كتاباً إلى عبيد الله وهو بسجن سجلماسة يبشره وسير الكتاب مع بعض ثقاته فدخل عليه السجن في زي قصاب يبيع اللحم فاجتمع به وعرفه. ونازل أبو عبد الله عدة مدائن فأخذها بالسيف وضايق زيادة الله فحشد وجمع عساكره وبعث إليه هرون الطيبي في خلق كثير فقتل هرون في خلائق لا تحصى. فاشتد الأمر على زيادة الله وخرج بنفسه فوصل إلى الأربس في سنة خمس وتسعين ومائتين وسير جيشاً مع ابن عمه إبراهيم بن الأغلب. واشتغل زيادة الله بلهوه ولعبه وأبو عبد الله يأخذ المدائن شيئاً بعد شيء عنوة وصلحا فأخذ مجانة وتيفاش ومسكيانة وتبسة وسار إلى إبراهيم فقتل من أصحابه وعاد إلى جبل إيكجان. فلما دخل فصل الربيع وطاب الزمان جمع أبو عبد الله عسكره فبلغت مائة ألف فارس وراجل وجمع زيادة الله ما لا يحصى وسار أول جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ومائتين فالتقوا مع أبي عبد الله واقتتلوا أشد قتال وطال زمنه وظهر أصحاب زيادة الله ثم إن أبا عبد الله كادهم بخيل بعثها من خلفهم فانهزم أصحاب زيادة الله وأوقع فيهم القتل وغنم أموالهم وكان ذلك في آخر جمادى الآخرة ففر زيادة الله إلى ديار مصر فدخل إبراهيم بن الأغلب إلى القيروان فقصد قصر الإمارة ونادى بالأمان وتسكين الناس وذكر زيادة الله وذمه وصغر أمر أبي عبد الله ووعد الناس بقتاله وطلب منهم الأموال فقالوا: إنما نحن فقهاء وعامة التجار وما في أموالنا ما يبلغ غرضك ثم إنهم ثارا به ورجموه فخرج عنهم. ودخل أبو عبد الله إلى مدينة رقادة فأمن الناس ومنع من النهب وخرج الفقهاء ووجوه أهل القيروان إلى لقاء أبي عبد الله وسلموا عليه وهنوه بالفتح فرد عليهم ردا حسنا وأمنهم وقد ما كان إلا قوياً وله منعة ودولة شامخة وما قصر في مدافعته ولكن أمر الله لا يعاند ولا يدافع. فامسكوا عن الكلام. وكان دخول أبي عبد الله رقادة يوم السبت مستهل رجب سنة ست وتسعين ومائتين فنزل ببعض قصورها وفرق دورها على كتامة ونادى بالأمان فرجع الناس إلى أوطانهم وأخرج العمال إلى البلاد وطلب أهل الشر فقتلهم وأمر بجمع ما كان لزيادة الله من الأموال والسلاح وغيره فاجتمع منه كثير وكان له دعة من الجواري لهن حظ من الجمال فلم ينظر إلى واحدة منهن وأمر لهن بما يصلحهن. فلما كان يوم الجمعة أمر الخطباء بالقيروان ورقادة فخطبوا ولم يذكروا أحدا وأمر بضرب السكة وألا يتسم عليها اسم وجعل في الوجه الواحد: بلغت حجة الله وفي الآخر: تفرق أعداء الله. ونقش على السلاح: عدة في سبيل الله. ووسم الخيل على أفخاذها: الملك لله. وأقام على ما كان عليه من لباس الخشن الدون والقليل من الطعام الغليظ. ولما استقرت الأمور لأبي عبد الله في رقادة وسائر بلاد إفريقية أتاه أخوه أبو العباس أحمد. |
12-21-2012, 08:35 PM | #5 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
ذكر ظهور عبيد الله المهدي من سجلماسة
وذلك أن أبا عبد الله الشيعي لما دخل شهر رمضان سنة ست وتسعين ومائتين سار من رقادة وقد استخلف أخاه أبا العباس على إفريقية في جيوش عظيمة فاهتز المغرب لخروجه وخافته زناتة وزالت القبائل عن طريقه وأتته رسلهم فدخلوا في طاعته فلما قرب من سجلماسة بعث اليسع بن مدرار صاحبها إلى عبيد الله وهو في جيشه يسأله عن نسبه وحاله وهل أبو عبد الله قصد إليه فحلف به أنه ما رأى أبا عبد الله وإنما أنا رجل تاجر فأفرده معتقلا بدار وحده وأفرد ابنه أيضا فجعل عليهما الحرس وقرر ولده فما حال عن كلام أبيه وقرر رجالا كانوا معه وضربهم فلم يقروا بشيء. وبلغ ذلك أبا عبد الله فشق عليه وأرسل إلى اليسع يتلطف به وأنه لم يقصده للحرب وإنما له حاجة مهمة عنده فرمى الكتب وقتل الرسل فعاوده بالملاطفة خوفا على عبيد الله ولم يذكره فقتل الرسول ثانيا فأسرع أبو عبد الله في السير ونزل عليه فخرج إليه اليسع وقاتله يومه كله فلما جنه الليل فرق أصحابه من أهله وبني عمه وبات أبو عبد الله في غم عظيم خوفا على عبيد الله. فلما أصبح خرج إليه أهل البلد وأعلموه بهرب اليسع فدخل هو وأصحابه البلد وأتوا مكان عبيد الله وأخرجوه وأخرجوا ابنه في يوم الأحد لسبع خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائتين وقد انتشر في الناس سرور عظيم كادت تذهب منه عقولهم فأركبهما أبو عبد الله ومشى هو ورؤساء القبائل بين أيديهما وأبو عبد الله يقول للناس: هذا مولاكم وهو يبكي من شدة الفرح حتى وصل إلى فسطاط ضربه له فنزل فيه وبعث الخيل في طلب اليسع فأدرك وأخذ فضرب بالسياط وقتل. وأقام عبيد الله المهدي بسجلماسة أربعين يوما ثم سار إلى إفريقية وأحضر الأموال من إيكجان فجعلها أحالا وصار بها إلى رقادة في العشر الأخير من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين. وزال مالك بني الأغلب من إفريقية وملك بني مدرار من سجلماسة وملك بني رستم من تاهرت. وملك المهدي جميع ذلك فلما قرب من رقادة تلقاه أهلها وأهل القيروان وأبو عبد الله ورؤساء كتامة مشاة بين يديه وابنه خلفه فسلموا عليه فرد عليهم رداً جميلا وأمرهم بالانصراف ونزل بقصر من قصور رقادة. وأمر يوم الجمعة أن يذكر اسمه في الخطبة ويلقب بالمهدي أمير المؤمنين في جميع البلاد فما كان بعد صلاة الجمعة جلس رجل يعرف بالشريف ومعه الدعاة وأحضروا الناس ودعوهم إلى مذهبهم وقتل من لم يوافق. وعرض المهدي جواري زيادة الله فاختار منهن لنفسه ولولده وفرق ما بقي على وجوه كتامة وقسم عليهم أعمال إفريقية ودون الدواوين وجبا الأموال واستقرت قدمه ودانت له أهل البلاد واستعمل العمال عليها: ذكر قتل أبي عبد الله الشيعي وكان سبب قتله أن المهدي لما استقامت له البلاد باشر الأمور بنفسه وكف يد أبي عبد الله ويد أخيه أبي العباس فداخل أبا العباس الحسد وعظم عليه الفطام عن الأمر والنهي والأخذ والعطاء فأقبل يزري على المهدي في مجلس أخيه ويتكلم فيه وأخوه ينهاه ولا يزيده ذلك إلا لجاجا ولام أخاه وقال له: ملكت أمراً فجئت بمن أزالك عنه وكان الواجب عليه أن لا يسقط حقك. وما زال به حتى أثر في قلب أبي عبد الله وقال للمهدي: لو كنت تجلس في قصرك وتتركني مع كتامة آمرهم وأنهاهم لأني عارف بعاداتهم لكان ذلك أهيب لك في أعين الناس. وكان قد بلغ المهدي ما يجهر به أبو العباس فرد ردا لطيفا وأسر ذلك في نفسه. وأخذ أبو العباس يسر إلى المقدمين بما في نفسه ويقول. ما جازاكم على ما فعلتم بل أخذ هو الأموال من إيكجان ولم يقسمها فيكم. وكل ذلك يبلغ المهدي وهو يتغافل فزاد أبو العباس في القول حتى قال: إن هذا ليس بالذي كنا نعتقد طاعته وندعو إليه لأن المهدي يأتي بالآيات الباهرة. فأثر ذلك في قلوب كثير من الناس حتى إن بعضهم من كتامة واجه المهدي بذلك وقال: إن كنت المهدي فأظهر لنا آية فقد شككنا فيك. فقتله المهدي. وخافه أبو عبد الله وعلم أن المهدي قد تغير عليه فاتفق مع أخيه بجماعة من كتامة على المهدي ودخلوا عليه مراراً فلم يجسروا على قتله ونقل ذلك إلى المهدي من رجل كان يوافقهم على ما هم فيه ثم يأتي المهدي فيخبره فأخذ المهدي في تفريق القوم في البلاد وكان كبيرهم أبو زاكي تمام بن معارك الإيكجاني فسيره واليا على طرابلس وكتب إلى عاملها سرا بقتله عند وصوله فلما وصل أبو زاكي قتله العامل وأرسل برأسه إلى المهدي فأمر حينئذ بقتل جماعة وأعد رجالاً لأبي عبد الله وأخيه أبي العباس فلما وصلا إلى قرب القصر حمل القوم على أبي عبد الله فقال: لا تفعلوا فقالوا له: إن الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك فقتل هو وأخوه في اليوم الذي قتل فيه أبو زاكي وذلك يوم الاثنين للنصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائتين بمدينة رقادة وصلى عليه المهدي وقال: رحمك الله أبا عبد الله وجزاك خيرا بجميل سعيك. وثارت فتنة بسبب قتلهما وجرد أصحابها السيوف فركب المهدي وأمن الناس فسكنوا ثم تتبعهم حتى قتلهم. وثارت فتنة ثانية بين كتامة وأهل القيروان قتل فيها خلق كثير فخرج المهدي وسكن الفتنة وكف الدعاة عن طلب التشيع من العامة. وكان أبو عبد الله من الرجال الدهاة الخبيرين بما يصنعون أحد رجالات العالم القائمين بنقض الدول وإقامة الممالك العظيمة من غير مال ولا رجال. ولما قتل أبو عبد الله واستقام أمر المهدي عهد إلى ولده أبي القاسم بالخلافة ورجعت كتامة إلى بلادهم فأقاموا طفلا وقالوا: هذا هو المهدي ثم زعموا أنه يوحى إليه وزعموا أن أبا عبد الله لم يمت فبعث إليهم المهدي ابنه أبا القاسم فقاتلهم حتى هزمهم واتبعهم إلى البحر وقتل منهم خلقا كثيرا وقتل الطفل الذي أقاموه. ثم إن أهل صقلية خالفوا على المهدي فأنفذ إليها وقتل من أهلها. وخالف عليه أهل تاهرت فغزاها وقتل أهل الخلاف وتتبع بني الأغلب فقتل منهم جماعة برقادة. تحرك أبي القاسم بن المهدي لمصر فلما كان سنة إحدى وثلاثمائة جهز المهدي العساكر من إفريقية مع ولده أبي القاسم إلى مصر فساروا إلى برقة واستولوا عليها في ذي الحجة وساروا إلى الاسكندرية والفيوم فضيق على أهلهما وبعث المقتدر بالله مؤنساً الخادم في جيش كثيف فحاربهم وأجلاهم عن مصر إلى المغرب. وكان سبب تحرك أبي القاسم بن المهدي إلى حرب أهل مصر أنه وجه إلى بغداد قصيدة يفخر فيها بنسبه وبما فتح من البلاد فأجابه الصولي بقصيدة على وزنها ورويها فمنها: فلو كانت الدنيا مثالاً لطائرٍ لكان لكم منها بما حزتم الذّنب فحرك همته هذا البيت وقال: والله لا أزال حتى أملك صدر الطائر ورأسه إن قدرت وإلا أهلك دونه. وكابد على ديار مصر من الحروب أهوالا ومات ولم يظفر بها وأوصى ابنه المنصور بما كان في عزمه فشغلته الفتن وكان الظافر بها المعز. فلما كان في سنة اثنتين وثلاثمائة أنفذ المهدي جيشا مع قائد من قواده يقال له حباسة في البحر فغلب على الاسكندرية ثم سار منها يريد مصر فأرسل المقتدر بالله مؤنساً في عسكر إلى مصر وأمده بالسلاح والأموال فالتقى بحباسة في جمادى الأولى فكانت بينهما حروب كثيرة قتل فيها من الفريقين جمع عظيم وانهزم حباسة في سلخ جمادى الآخرة ويقال إنه قتل في هذه الواقعة سبعة آلاف ولما صار حباسة إلى المغرب قتله المهدي. وفيها خالف عليه عروبة بن سيف الكتامي بالقيروان واجتمع عليه خلق كثير من كتامة والبرابر فأخرج إليهم المهدي موالاه غالبا فاقتتلوا فقتل غالب في عالم لا يحصى وجيء بعدة رءوس إلى المهدي في قفة فقال: ما أعجب أمور الدنيا قد جمعت هذه القفة رؤوس هؤلاء وقد كان يضيق بهم فضاء المغرب. ثم إن المهدي خرج بنفسه يرتاج موضعاً على ساحل البحر يتخذ فيه مدينة وكان يجد في الكتب خروج أبي يزيد النكاري على دولته فلم يجد موضعاً أحسن ولا أحصن من موضع المهدية وهي جزيرة متصلة بالبر كهيئة كف متصلة بزند فبناها وجعلها دار ملكه وجعل لها سوراً محكماً وأبوابا عظيمة زنة كل مصراع مائة قنطار. وكان ابتداء بنائها في يوم السبت لخمس خلون من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثمائة فلما ارتفع السور أمر راميا بالقوس يرمى سهما إلى ناحية المغرب فرمى بسهم فانتهى موضع المصلى فقال: إلى موضع هذا يصل صاحب الحمار يعني أبا يزيد الخارجي فإنه كان يركب حمارا. وكان يأمر الصناع بما يعملون وأمر أن تنقر دار صناعة في الجبل تسع مائة شينى وعليها باب مغلق ونقر في أرضها أهراء للطعام ومصانع للماء وبنى فيها القصور والدور فلما فرغ منها قال: اليوم آمنت على الفاطميات يعني بناته وارتحل عنها. ولما رأى إعجاب الناس بها وبحصانتها قال: هذه بنيتها لتعتصم بها الفواطم ساعة من نهار فكان كذلك لأن أبا يزيد وصل إلى موضع السهم ووقف فيه ساعة وعاد ولم يظفر. فلما كان في سنة ست وثلاثمائة جهز المهدي جيشا كثيفا مع ابنه أبي القاسم إلى مصر وهي المرة الثانية فوصل الاسكندرية في ربيع الآخر ودخلها القاسم ثم سار منها وملك الأشمونين وكثيرا من الصعيد وكتب إلى أهل مكة يدعوهم إلى طاعته فلم يقبلوا منه فبعث المقتدر مؤنسا الخادم في شعبان فوصل إلى مصر وكانت بينه وبين القائم عدة وقعات. ووصل من إفريقية ثمانون مركباً نجدةً للقائم من أبيه فأرست بالاسكندرية وعليها سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وكانا شجاعين. فأمر المقتدر أن تسير مراكب طرسوس فسار إليهم خمس وعشرون مركبا فيها النفط والعدد فالتقت المراكب على رشيد فظفرت مراكب المقتدر وأحرقوا كثيرا من مراكب إفريقية وأهلك أكثر أهلها وأسر منها كثير فيهم سليمان ويعقوب فمات سليمان بمصر في الحبس وحمل يعقوب إلى بغداد فهرب منها وعاد إلى إفريقية. وغلب مؤنس عساكر القائم ووقع فيهم الغلاء والوباء فمات كثير منهم ورجع من بقي إلى إفريقية وفيهم القائم وتلقب مؤنس الخادم من حينئذ بالمظفر لغلبته عساكر المغرب غير مرة. فلما كانت سنة خمس عشرة وثلاثمائة سير المهدي ابنه أبا القاسم من المهدية إلى المغرب في جيش كثير في صفر بسبب خارجي خرج عليه وقتل خلقا فوصل إلى ما وراء تاهرت. وعاد فخط برمحه في الأرض صفة مدينة سماها المحمدية وكانت خطة لبني كملان فأخرجهم منها إلى فحص القيروان كالمتوقع منهم أمراً فلذلك أحب أن يكونوا قريبا منه وهم كانوا أصحاب أبي يزيد الخارجي. وكان المهدي يشبه في خلفاء بني العباس بالسفاح فإن السفاح خرج من الحميمة بالشام يطلب الخلافة والسيف يقطر دما والطلب مراصد وأبو سلمة الخلال يؤسس له الأمر ويبث دعوته وعبيد الله خرج من سلمية في الشام وقد أذكيت العيون عليه وأبو عبد الله الشيعي ساع في تمهيد دولته وكلاهما تم له الأمر وقتل من قام بدعوته. وانتقل كثير من الناس إلى المحمدية وأمر عاملها أن يكثر من الطعام ويخزنه ويحتفظ به ففعل ذلك فلم يزل مخزونا حتى خرج أبو يزيد ولقيه المنصور بن القائم بن المهدي ومن المحمدية كان يمتار ما يريد إذ ليس بالموضع مدينة سواها. فلما كان يوم الاثنين الرابع عشر وقيل وقت صلاة المغرب ليلة الثلاثاء النصف من ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة توفي أبو محمد عبيد الله المهدي بالمهدية وأخفى ابنه أبو القاسم موته سنةً لتدبير كان له فإنه كان يخاف الناس إذا علموا بموت المهدي. وكان عمر المهدي لما توفى ثلاثا وستين سنة لم تكمل . وكانت ولايته منذ دخل رقادة ودعى له بالإقامة إلى أن توفي أربعا وعشرين سنة وعشرة أشهر وعشرين يوماً. وقيل: كانت ولادته بسلمية من أرض الشام في سنة تسع وخمسين وقيل سنة ستين ومائتين وقيل: ولد بالكوفة. ودعى له على منابر رقادة والقيروان يوم الجمعة لسبع بقين من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين. وتوفي ليلة الثلاثاء منتصف ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. ونقش خاتمة: بنصر الإله الممجد ينتصر الإمام أبو محمد. وقال فيه سعدون الورجيلي: كفّي عن التثبيط إنّي زائرٌ من أهل بيت الوحي خير مزور هذا أمير المؤمنين تضعضعت لقدومه أركان كلّ أمير هذا الإمام الفاطميّ ومن به أمنت مغاربها من المحذور والشرق ليس لشامه وعراقه من مهربٍ من جيشه المنصور حتى يفوز من الخلافة بالغ ويفاز منه بعدله المنشور. |
12-21-2012, 08:35 PM | #6 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
القائم بأمر الله
أبو القاسم محمد وقيل عبد الرحمن بن المهدي عبيد الله ولد بسلمية في المحرم سنة ثمانين وقيل سبع وسبعين ومائتين ورحل مع أبيه إلى المغرب وعهد فلما مات أبوه وفرغ من جميع ما يريده وتمكن أظهر موت أبيه وتبع سنة أبيه وثار عليه جماعة فتمكن منهم. وخرج عليه ابن طالوت في ناحية طرابلس فبعث إليه وقتله وجهز جيشا كثيرا إلى المغرب فهزم خارجياً هناك. وسير جيشا في البحر إلى بلد الروم فسبى وغنم في بلد جنوه. وسير جيشا بالغ في النفقة عليهم إلى مصر فدخلوا الاسكندرية فبعث الأخشيد فهزمهم. ذكر أبي يزيد مخلد بن كيداد الخارجي وحروبه وذلك أنه لما كان سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة خرج أبو يزيد بن كيداد النكاري الخارجي بإفريقية واشتدت شوكته وكثرت أتباعه وهزم الجيوش. وكان ابتداء أمره أنه من زناة من مدينة توزر وكان أبوه يختلف إلى بلاد السودان للتجارة فولد بها أبو يزيد من جارية صفراء هوارية فأتى به إلى توزر فنشأ بها وتعلم القرآن وخالط جماعة من النكارية فمالت نفسه إلى مذهبهم ثم سافر إلى تاهرت فأقام بها يعلم الصبيان إلى أن خرج أبو عبد الله الشيعي إلى سجلماسة في طلب عبيد الله المهدي فانتقل إلى تقيوس واشترى ضيعة وأقام يعلم الناس فيها. وكان مذهبه تكفير أهل الملة واستباحة الأموال والدماء والخروج على السلطان فابتدأ يحتسب على الناس في أفعالهم وصار له جماعة يعظمونه وذلك في أيام المهدي سنة ست عشرة وثلاثمائة. وتزايدت شوكته وكثرت أتباعه في أيام القائم وحاصر باغاية وهزم الجيوش الكثيرة ثم حاصر قسطيلية سنة ثلاث وثلاثين وفتح تبسة ومجانة وهدم سورها ودخل مدينة مرمجنة فلقيه رجل من أهلها وأهدى له حمارا أشهب مليح الصورة فركبه من ذلك اليوم وصار يعرف براكب الحمار وكان قصيرا أعرج يلبس جبة صوف قصيرة وكان قبيح الصورة. ثم إنه هزم كتامة وافتتح سبتية وصلب عاملها وفتح مدينة الأربس وأحرقها ونهبها والتجأ الناس إلى الجامع فقتلهم فيه وبلغ ذلك أهل المهدية فاستعظموه وقالوا للقائم: الأربس باب إفريقية ولما أخذت زالت دولة بني الأغلب فقال: لا بد أن يبلغ أبو يزيد المصلى وهي أقصى غايته. وأخرج القائم الجيوش لضبط البلاد وجمع العساكر وبعث جيشا مع فتاه ميسور وجيشا مع فتاه بشرى فسار أبو يزيد وواقع بشرى على باجة فانهزم أبو يزيد وصار في أربعمائة فمال إلى خيام بشرى وانتهبها فانهزم بشرى إلى تونس وقتل كثير من عسكره وملك أبو يزيد باجة وحرقها ونهبها وقتل الأطفال وأخذ النساء وكتب إلى القبائل يدعوهم إلى نفسه فأتوه وعمل الأخبية والبنود وآلات الحرب. وجمع بشرى جيشا وأنفذه إلى أبي يزيد فسير إليهم أبو يزيد جيشا والتقوا وانهزم أصحاب أبي يزيد. وكانت فتنة بتونس وهرب عاملها وكاتبوا أبا يزيد فأمنهم وولى عليهم رجلا منهم فخافه الناس وانتقلوا إلى القيروان وأتاه كثير منهم ثم لقيه بشرى فانهزم عسكر أبي يزيد وقتل منهم أربعة آلاف وأسر خمسمائة وبعث بهم إلى المهدية في السلاسل فقتلهم العامة. فغضب لذلك أبو يزيد وجمع الجموع. وسار إلى قتال الكتاميين فتلاقى مع طلائعهم فانهزمت الطلائع وتبعهم البربر إلى رقادة فنزل أبو يزيد بالقرب من القيروان في مائة ألف مقاتل وقاتل أهل رقادة فقتل من أهل القيروان خلقا كثيرا ودخل القيروان عسكره في أواخر صفر فانتهبوا البلد وقتلوا وأخذ عامل القيروان فحمل إلى أبي يزيد فقتله. وخرج شيوخ القيروان إلى أبي يزيد وهو برقادة فطلبوا الأمان فماطلهم وأصحابه يقتلون وينهبون فعادوا إلى الشكوى وقالوا: خربت المدينة. فقال: وما تكون خربت مكة والبيت المقدس! ثم قدم ميسور في عساكر عظيمة فالتقى بأبي يزيد واشتد القتال بينهما وقتل ميسور وحمل رأسه إلى أبي يزيد فانهزم عامة عسكره. وسير أبو يزيد الكتب إلى عامة البلاد يخبر بهذا الظفر فخاف القائم ومن معه بالمدينة وانتقل الناس من أرباضها فاحتموا بالسور فمنعهم القائم ووعدهم الظفر فعادوا إلى زويلة واستعدوا وأقام أبو يزيد شهرين وثمانية أيام في خيم ميسور وهو يبعث السرايا إلى كل ناحية فيغنمون ويعودون وفتح سوسة بالسيف وقتل الرجال وسبى النساء وأحرق البلد وشق أصحابه فروج النساء وبقروا البطون حتى لم يبق موضع في إفريقية معمور ولا سقف مرفوع ومضى جميع من بقى إلى القيروان حفاة عراة فمات أكثرهم جوعا وعطشا. وفي أواخر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة حفر القائم الخنادق حول أرباض المهدية وكتب إلى زيرى بن مناد سيد صنهاجة وإلى سادات كتامة والقبائل بحثهم على الاجتماع ورحل أبو يزيد نحو المهدية فنزل على خمسة عشر ميلا منها وبث سراياه فانتهبوا ما وجدوا وقتلوا من أصابوا. فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الأولى من السنة خرجت كتامة وأصحاب القائم إلى أبي يزيد فالتقوا على ستة أميال من المهدية واقتتلوا مع أصحاب أبي يزيد وأدركهم أبو يزيد وقد انهزم أصحابه وقتل كثير منهم فلما رآه الكتاميون انهزموا من غير قتال وأبو يزيد في أثرهم إلى باب الفتح. واقتحم قوم من البربر باب الفتح وأشرف أبو يزيد على المهدية ثم رجع إلى منزله وعاد إلى المهدية ووقف على الخندق المحدث وقاتل عليه حتى وصل إلى باب المهدية عند المصلى الذي للعيد وبينه وبين المهدية رمية سهم وتفرق أصحابه في زويلة ينهبون ويقتلون وهم لا يعلمون ما صنع أبو يزيد في ذلك الجانب فحمل الكتاميون على البربر وهزموهم وقتلوا منهم. ووصل زيرى بن مناد فعظم القتال وتحير أبو يزيد وقد مالوا عليه ليقتلوه فتخلص إلى منزله بعد المغرب ورحل إلى ترنوطة وحفر على عسكره خندقا واجتمع إليه خلق عظيم من إفريقية والبربر ونفوسة والزاب وأقاصي المغرب فحصر المهدية حصاراً شديداً ومنع الناس من الدخول إليها والخروج منها. ثم زحف إليها لسبع بقين من جمادى الآخرة فجرى قتال عظيم قتل فيه جماعة من وجوه عسكر القائم واقتحم أبو يزيد بنفسه حتى وصل قرب الباب فعرفه بعض العبيد فقبض على لجامه وصاح: هذا أبو يزيد فاقتلوه. فأتاه بعض أصحابه وقطع يد العبد وخلص أبو يزيد وكتب إلى عامل القيروان بإرسال مقاتلة أهلها إليه ففعل ذلك وزحف بهم آخر رجب فجرى قتال شديد وانهزم أبو يزيد هزيمة منكرة وقتل جماعة من أصحابه وأكثر أهل القيروان. ثم زحف الزحفة الرابعة في العشر الآخر من شوال فجرى قتال عظيم وانصرف إلى منزله وكثر خروج الناس إليه من الجوع والغلاء ففتح عند ذلك القائم الأهراء التي عملها أبوه المهدي وفرق ما فيها على رجاله وعظم البلاء على الرعية حتى أكلوا الدواب الميتة وخرج من المهدية أكثر السوقة والتجار ولم يبق بها سوى الجند فكان البربر يأخذون من خرج ويشقون بطونهم طلباً للذهب. ثم وصلت كتامة فنزلت بقسطنطينة فخاف أبو يزيد وكان البربر يأتون إلى أبي يزيد من كل ناحية فينهبون ويرجعون إلى منازلهم حتى أفنوا ما كان في إفريقية فلما لم يبق مع أبي يزيد سوى أهل أوراس وبني كملان أخرج عسكره فكان بينهم قتال شديد لست خلون من ذي القعدة ثم صبحوهم من الغد فلم يخرج إليهم أحد. ثم زحفت عساكر القائم إليه فخرج من خندقه واشتد بينهم القتال ثم عادوا إلى القتال فانهزم عسكر القائم وعاد الحصار على ما كان عليه وهرب كثير من أهل المهدية إلى جزيرة صقلية وطرابلس ومصر وبلد الروم. فلما كان آخر ذي القعدة اجتمع لأبي يزيد جمع عظيم وتقدم إلى المهدية فقاتل عليها وكاد أن يؤخذ ثم خلص سنة أربع وثلاثين وهو مقيم على المهدية وفي المحرم منها ظهر بإفريقية رجل يدعو إلى نفسه فأجابه كثير من الناس وادعى أنه رجل عباسي ورد من بغداد ومعه أعلام سود فظفر به أصحاب أبي يزيد وساقوه إليه فقتله. وفر بعض أصحاب أبي يزيد إلى المهدية وخرجوا مع أصحاب القائم فقاتلوا أبا يزيد فظفروا وتفرق عند ذلك أصحاب أبي يزيد ولم يبق معه غير هوارة وبني كملان وكان اعتماده عليهم. ورحل بقية أصحابه إلى القيروان ولم يشاوروا أبا يزيد فرحل مسرعا في طائفة وترك جميع أثقاله وذلك في سادس صفر فنزل مصلى القيروان فخرج أهل المهدية إلى أثقاله فغنموا طعاما كثيرا وخياما فحسنت حالهم ورخصت الأسعار وبعث القائم إلى البلاد عمالا يطردون عمال أبي يزيد. ثم إن أبا يزيد بعث عسكرا إلى تونس فدخلوها بالسيف في العشرين من صفر فنهبوا جميع ما فيها وسبوا النساء والأطفال وقتلوا الرجال وهدموا المساجد والتجأ كثير من الناس إلى البحر فغرقوا. فسير القائم عسكرا لقتال أصحاب أبي يزيد في تونس فانهزم عسكر القائم وتبعهم أصحاب أبي يزيد فكر عليهم عسكر القائم وصبروا فانهزم أصحاب أبي يزيد وقتل منهم خلق كثير. ودخلوا إلى تونس خامس ربيع الأول فأخرجوا من فيها من أصحاب أبي يزيد فبعث أبو يزيد ابنه فقتل أهل البلد وأحرق ما بقي فيه وتوجه إلى باجة فقتل من بها من أصحاب القائم ودخلها بالسيف وأحرقها وكان في هذه المدة من القتل والسبي والتخريب ما لا يوصف. وهم جماعة من أصحاب أبي يزيد بقتله وكاتبوا القائم بذلك فظفر بهم أبو يزيد فقتلهم وكثر النهب والسبي في القيروان. وكان القائم قد بعث يجمع العساكر من المسيلة وغيرها فاجتمع له خلق كثير فطرقهم أيوب بن أبي يزيد على حين غفلة فقتل منهم وغنم أثقالهم وسير جريدة إلى تونس فأوقعوا بعسكر القائم وتكررت الحرب بينهم فانهزم أصحاب أبي يزيد وقتلوا قتلا ذريعا وأخذت أثقالهم وانهزم أيوب إلى القيروان في ربيع الأول فعظم على أبي يزيد وجمع على ابنه أيوب فسار وتوالت بينه وبين أصحاب القائم الحروب إلى أن هزمت أصحاب القائم من عسكر أبي يزيد ثم تجمعت عسكر القائم وواقعت أصحاب أبي يزيد على قسنطينة فانهزمت أصحاب أبي يزيد. فجد حينئذ أبو يزيد في أمره وجمع العساكر وسار إلى سوسة سادس جمادى الآخرة وبها جيش القائم فحصرها حصرا شديدا وعمل عليها الدبابات والمنجنيقات وقتل من أهلها خلق كثير. فلما كان في شهر رمضان مات القائم وقام من بعده ابنه المنصور فكتم موت أبيه خوفا من أي يزيد وعمل المراكب وشحنها بالرجال وسيرها إلى سوسة وسار بنفسه إليها ثم عاد وقدمت المراكب فواقعت أبا يزيد حتى انهزم هو وأصحابه وأحرقوا خيامه فدخل أبو يزيد إلى القيروان وفر البربر على وجوههم فمات أكثرهم جوعا وعطشا. ومنع أهل القيروان أبا يزيد من دخول البلد وحصروا عامله بها فالتحق به وأخذ أبو يزيد امرأته أم أيوب وتبعه أصحابه بعيالاتهم على سبيبة وهي على يومين من القيروان فنزلوها. وسار المنصور إلى مدينة سوسة لسبع بقين من شوال وبعث فنادى في الناس بالأمان ورحل إلى القيروان لست بقين من شوال فخرج إليه الناس فأمنهم ووجد بالقيروان حرما وأولاد لأبي يزيد فحملهم إلى المهدية وأجرى عليهم الأرزاق. وجمع أبو زيد العساكر وبعث سرية يتخبرون له فأرسل إليهم المنصور سرية فالتقوا واقتتلوا وهزموا أصحاب المنصور وبلغ الناس ذلك فتسرعوا إلى أبي يزيد وكثر جمعه وزحف إلى القيروان فواقعه المنصور حتى ظفر وباشر بنفسه القتال وجعل يحمل يمينا وشمالا والمظلة على رأسه كالعلم ومعه نحو خمسمائة فارس وأبو يزيد في قدر ثلاثين ألفا فانهزم أصحاب المنصور هزيمة عظيمة حتى دخلوا الخندق وبقي المنصور في نحو عشرين فارسا وقصده أبو يزيد فلما رآه شهر سيفه وثبت مكانه وحمل بنفسه على أبي يزيد حتى كاد يقتله فولى أبو يزيد هارباً وقتل المنصور من أدرك منهم وتلاحقت به العساكر فقتل من أصحاب أبي يزيد خلقاً كثيراً. وكان يوماً من الأيام المشهودة التي لم يكن فيما مضى من الأيام مثله وعاين الناس من شجاعة ورحل أبو يزيد عن القيروان أواخر ذي القعدة ثم عاد إليها غير مرة فلم يخرج إليه أحد ونادى المنصور: من أتى برأس أبي يزيد فله عشرة آلاف دينار. وأذن للناس في قتال أبي زيد فجرى قتال شديد انهزم فيه أصحاب المنصور حتى دخلوا الخندق ثم عادوا فهزموا أصحاب أبي يزيد وافترقوا وقد انتصف بعضهم من بعض وكثرت القتلى من الفريقين وعادت الحرب بينهما غير مرة وأبو يزيد يبعث السرايا فيقطع الطريق بين المهدية والقيروان وسوسة. ثم إنه بعث إلى المنصور يسأل حرمه وعياله الذين خلفهم بالقيروان وأخذهم المنصور ليدخل في طاعته على أن يؤمنه وأصحابه وحلف على ذلك بأغلظ الأيمان فسير إليه المنصور عياله مكرمين بعد أن وصلهم وكساهم فلما وصلوا إليه نكث وقال: إنما وجههم خوفا مني. وانقضت سنة أربع وثلاثين وهم على حالهم. ففي خامس المحرم سنة خمس وثلاثين زحف أبو يزيد وركب المنصور وكان بينهما قتال ما سمع بمثله وحملت البربر على المنصور وحمل عليها وجعل يضرب فيهم فانهزموا بعد أن قتل فلما انتصف المحرم عبى المنصور عسكره فجعل على ميمنته أهل إفريقية وعلى ميسرته كتامة وركب في القلب ومعه عبيده وخاصته فوقع بين الفريقين قتال شديد وحمل أبو يزيد على ميمنة المنصور فهزمها ثم حمل على القلب فوقع إليه المنصور وقال: هذا يوم الفتح إن شاء الله تعالى. وحمل فيمن معه حملة رجل واحد فانهزم أبو يزيد وأخذت السيوف أصحابه فولوا منهزمين وأسلموا أثقالهم وفر أبو يزيد على وجهه وقد قتل من أصحابه ما لا يحصى كثرة حتى أن الذي أخذه أطفال أهل القيروان خاصة من رؤوس القتلى عشرة آلاف رأس. وأقام المنصور يتجهز ثم رحل أواخر ربيع الأول فأدرك أبا يزيد ففر منه فتبعه وصار كلما قصد أبو يزيد موضعا يتحصن فيه يسبقه المنصور إليه واستأمن بعض أصحابه فأمنه المنصور واستمر الهرب بأبي يزيد حتى وصل إلى جبل البربر وأهله على مذهبه وسلك الرمال فاجتمع معه خلق كثير وواقع عسكره المنصور فهزم الميمنة وحمل عليه المنصور بنفسه فانهزم وتبعه المنصور إلى جبال وعرة وأودية عميقة خشنة الأرض فمنعت الأدلاء المنصور من سلوك تلك الأرض وقالوا إنه لم يسلكها جيش قط. واشتد الأمر على عسكر المنصور فبلغ عليق كل دابة دينارا ونصفا وبلغت قربة الماء دينارا إن أبا يزيد اختار الموت جوعا وعطشا على القتل بالسيف. فلما سمع المنصور ذلك رجع إلى بلاد صنهاجة فاتصل به الأمير زيرى بن مناد الصنهاجي بعساكر صنهاجة فأكرمه المنصور وأتته الأخبار بموضع أبي يزيد من الرمال. ونزل بالمنصور مرض شديد أشفى منه فلما أفاق من مرضه رحل إلى المسيلة ثاني رجب فإذا أبو يزيد قد سبقه إليها لما سمع بمرض المنصور وهو يحاصرها فلما علم بالمنصور هرب منه يريد بلاد السودان فخدعه بنو كملان هم وهوارة ومنعوه من ذلك وأصعدوه إلى جبال كتامة وغيرهم فتحصن بها واجتمع إليه أهلها وصاروا ينزلون ويتخطفون الناس فسار المنصور عاشر شعبان إليه فلم ينزل أبو يزيد فلما أخذ المنصور في العود نزل أبو يزيد إلى ساقة العسكر فرجع المنصور ووقعت الحرب فانهزم أبو يزيد وأسلم أصحابه وأولاده وأدركه فارسان فعقرا فرسه فسقط عنه فأركبه بعض أصحابه وأدركه الأمير زيرى فطعنه وألقاه وكثر عليه القتال حتى خلصه أصحابه وخلصوا به وتبعهم المنصور فقتل منهم ما يزيد على عشرة آلاف. وسار المنصور في أثره أول رمضان فاقتتلوا أشد قتال ولم يقدر أحد الفريقين على الهزيمة لضيق المكان وخشونته ثم انهزم أبو يزيد وطلع أصحابه على رؤوس الجبال يرمون بالصخر والتجأ أبو يزيد إلى قلعة كتامة وهي منيعة فاحتمى بها وأقبلت هواره وأكثر من مع أبي يزيد يطلبون الأمان فأمنهم المنصور وسار فحصر القلعة وفرق جنده حولها فناشبه أبو يزيد القتال وزحف إليها المنصور غير مرة حتى ملك بعض أصحابه مكانا من القلعة وألقوا فيها النيران فانهزم أصحاب أبي يزيد وقتلوا قتيلا ذريعا وامتنع أبو يزيد وأولاده في قصر بالقلعة ومعه أعيان أصحابه فاجتمع أصحاب المنصور وأحرقوا شعارى الجبل حتى لا يهرب أبو يزيد فصار الليل كالنهار. فلما كان آخر الليل خرج أصحاب أبي يزيد وهم يحملونه على أيديهم وحملوا على الناس حملة منكرة فأفرجوا له ونجوا به ونزل من القلعة خلق كثير فأخذوا وأخبروا بخروج أبي يزيد فأمر المنصور بطلبه وقال: ما أظنه إلا قريبا منا. فبينما هم كذلك إذ جاء الخبر أن ثلاثة من أصحاب أبي يزيد حملوه من المعركة لقبح عرجه فذهب لينزل من الوعر فسقط في مكان صعب فأخذ وحمل إلى المنصور يوم الأحد لخمس بقين من المحرم وبه جراحات فلما رآه سجد شكراً لله. وقدم به والناس يكبرون حوله فأقام عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فمات من جراح كانت به فأمر المنصور بادخاله في قفص عمل له وجعل معه قردين يلعبان عليه وأمر بسلخ جلده وحشاه تبنا وكتب إلى سائر البلاد بالبشارة. وخرج عليه بعد أبي يزيد عدة خوارج فظفر بهم المنصور. ثم عاد المنصور إلى المهديلة في شهر رمضان سنة ست وثلاثين. وكانت وفاة القائم بأمر الله أبو القاسم محمد بن عبيد الله المهدي لثلاث عشرة خلت من شوال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وقام بالأمر من بعده ابنه أبو طاهر إسماعيل المنصور بنصر الله وكتم موته خوفاً أن يعلم أبو يزيد فإنه كان على سوسة قريبا منه فأبقى الأمور على حالها ولم يتسم بالخليفة ولا غير السكة ولا الخطبة ولا البنود وبقى كذلك حتى فرغ من أمر أبي يزيد فلما فرغ منه أظهر موت أبيه وتسمى بالخلافة وعمل آلات الحرب. ويقال إن القائم لم يرق سريرا ولا ركب دابة صيد منذ أفضى إليه الأمر حتى مات وإنه صلى مرة على جنازة وصلى مرة العيد بالناس. وكانت مدة خلافته اثنتى عشرة سنة وسبعة أشهر واثنى عشر يوما. وعمره ثمانيا وخمسين سنة وقيل أربعا وخمسين سنة وتسعة أشهر وستة أيام. أبو الطاهر إسماعيل. وأبو عبد الله جعفر ومات في أيام المعز وحمزة وعدنان وأبو كنانة قبضوا بالمغرب ويوسف مات ببرقة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وعبد الجبار توفي بمصر سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وأربع بنات. وترك سبع سرارى. وكانت قضاته: إسحاق بن أبي المنهال ثم مات فولى أحمد بن يحيى وقتله أبو يزيد لما فتح إفريقية في صفر سنة ثلاث وثلاثين ثم أحمد بن الوليد. ونقش خاتمه: بنصر الدائم ينتصر الإمام أبو القاسم. وقال فيه أيوب بن إبراهيم: يا ابن الإمام المرتضى وابن الو - - صي المصطفى وابن النبيّ المرسل الله أعطاك الخلافة واهباً ورآك للإسلام أمنع معقل فمنعت حوزتها وحطت حريمها بالمشرفيّة والوشيج الذّبّل وقال خليل بن إسحاق لما بعثه لقتال أبي يزيد: وما ودّعت خير الخلق طرّاً ** ولا فارقته عن طيب نفس ولكنّي طلب به رضاه ** وعفو اللّه يوم حلول رمس فعاش مملّكاً ما لاح نجمٌ ** على الثّقلين من جنٍّ وإنس |
12-21-2012, 08:37 PM | #7 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
المنصور بنصر الله
أبو الطاهر إسماعيل ابن محمد القائم بن عبيد الله المهدي ولد بالمهدية في أول ليلة من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثمائة وقيل ولد بالقيروان في سنة اثنتين وثلاثمائة وقيل بل في سنة إحدى وثلاثمائة. وبويع له في شوال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وتوفي يوم الأحد الثالث وعشرين من شوال وقيل يوم الجمعة مع الظهر سلخ شوال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وسترت وفاته إلى يوم الأحد سابع ذي الحجة منها. وكان له من العمر إحدى وأربعين سنة وخمسة أشهر. وكانت ولايته الخلافة بعد أبيه ثماني سنين وقيل: سبع سنين وعشرة أيام وقيل: كان عمره تسعا وثلاثين سنة. وكان فصيحا بليغا خطيبا حاد الذهن حاضر الجواب بعيد الغور جيد الحدس يخترع الخطبة لوقته وأحواله التي تقدم ذكرها مع أبي يزيد وغيره تدل على شجاعته وعقله. قال أبو جعفر أحمد بن محمد المرورذي: كنت مع المنصور في اليوم الذي أظهره الله بمخلد بن كيداد أبي يزيد وهزمه فتقدمت إليه وسلمت عليه وقبلت يده ودعوت له بالنصر والظفر فأمرني بالركوب وقد جمع عليه سلاحه وآلة حربه وتقلد سيف جده ذا الفقار وأخذ بيده رمحين فحدثته ساعة فجال به الفرس ورد أحدهما إلى يده اليسرى فسقط إحدى الرمحين من يده إلى الأرض فتفاءلت له بالظفر ونزلت مسرعا فرفعت الرمح من الأرض ومسحته بكمي فرفعته إليه وقبلت يده وقلت: فألقت عصاها واستقرّ بها النوى كما قرّ عيناً بالإياب المسافر فأخذ المنصور الرمح من يدي وقال: هلا قلت ما هو خير من هذا وأصدق. قال قلت: وما هو. قال: قال الله عز وجل: " وأَوْحَيْنا إلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فّإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يأْفِكون فَوَقَعَ الحقُّ وبَطَلَ ما كانوا يَعْمَلُون فغُلِبوا هُنالِكَ وانقَلَبُوا صاغرينَ ". قال: فقلت: يا مولانا: أنت ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمام الأمة عليكم نزل القرآن ومن بيتكم درجت الحكم فقلت أنت بما عندك من نور النبوة وقال عبدك بما بلغه من علمه ومعرفته بكلام العرب وأهل الشعر. وكان الأمر كما قال فما هو إلا أن أشرف على عسكر أبي يزيد حتى ضرب الله في وجوههم فقتلوا وأحرق عسكرهم وخيامهم بالنار وولى أبو يزيد في بقية أصحابه خائبين إلى داخل المغرب. ولما صارت الخلافة إلى المنصور في الشهر الذي توفى أبوه فيه لم يغير السكة ولا البنود وأقام على ذلك إلى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة فأظهر موت أبيه بعد أن ظفر بأبي يزيد. وكان سبب موته: أنه خرج إلى سفاقس وتونس ثم إلى قابس وبعث يدعو أهل جربة إلى الطاعة فأجابوه وأخذ منهم رجالا وعاد وكانت سفرته شهرا. وعهد إلى ابنه معد وجعله ولى عهده. فلما كان شهر رمضان سنة إحدى وأربعين خرج متنزها إلى مدينة جلولاء وهو موضع كثير الثمار وفيه من الأترج ما لا يحمل الجمل منه غير أربع أترجات لعظمه فحمل منه إلى قصره وكانت له حظية يحبها فلما رأت الأترج استحسنته وأحبت أن تراه في أغصانه فأجابها إلى ذلك ورحل بها في خاصته وأقام بها أياما ثم عاد إلى المنصورية فأصابه في الطريق ريح شديد وبرد ومطر أقام أياما وكثر الثلج فمات جماعة ممن معه. واعتل المنصور علة شديدة ووصل المنصورية فأراد عبور الحمام فنهاه طبيبه إسحاق ابن سليمان الإسرائيلي عن ذلك فلم يقبل ودخل الحمام ففنيت الحرارة الغريزية منه ولازمه السهر فأخذ طبيبه يعالج المرض دون السهر فاشتد ذلك على المنصور وقال لبعض خواصه: أما في القيروان طبيب غير إسحاق فأحضر إليه شاب من الأطباء يقال له: أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد بن الجزار فجمع له أشياءً مخدرة وكلفه شمها فنام وخرج وهو مسرور بما فعله فجاء إسحاق ليدخل على المنصور فقيل له إنه نائم فقال: إن كان صنع له شيء ينام منه فقد مات فدخلوا عليه فإذا هو ميت فدفن في قصره. وأرادوا قتل ابن الجزار الذي صنع له المنوم فقام معه إسحاق وقال: لا ذنب له إنما داواه بما ذكره الأطباء غير أنه جهل أصل المرض وما عرفتموه وذلك أنني في وكان نقش خاتمه: بنصر الباطن الظاهر ينتصر الإمام أبو الطاهر. وكان يشبه بأبي جعفر المنصور من خلفاء بني العباس لأن كلا منهما اختلت عليه الدولة وأصفقت عليه الحروب وكاد يسل من الخلافة فهب له ريح النصر وتراجع له أمره حتى لم يبق مخالف. وأولاده: أبو تميم المعز لدين الله: وحيدرة مات بمصر في جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وصلى عليه العزيز بالله . وهاشم مات بمصر في ربيع الأول سنة ثمان وستين وثلاثمائة وصلى عليه العزيز بالله . وطاهر مات في المحرم سنة تسع وخمسين وثلاثمائة بالمغرب . وأبو عبد الله الحسين مات بالمغرب . وخمس بنات: هبة وأروى وأسماء متن بمصر أيام المعز لدين الله. وأم سلمة ماتت بمصر أيام العزيز بالله . ومنصورة ماتت بالمغرب . وقضاته: أحمد بن محمد بن أبي الوليد. ثم محمد بن أبي المنصور. ثم عبد الله بن قاسم. ثم علي بن أبي سفيان. ثم أبو محمد زرارة. ثم أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي. وحاجبه: جعفر بن علي. |
12-21-2012, 08:38 PM | #8 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
المعز لدين الله
أبو تميم معد ابن المنصور أبي الطاهر بن القائم أبي القاسم محمد ابن عبيد الله المهدي قال: ولى الأمر بعد أبيه سلخ شوال وقيل يوم الجمعة سابع عشر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. وأقام في تدبير الأمور إلى سابع ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وأذن للناس فدخلوا ومولده بالمحمدية على أربع ساعات وأربع أخماس ساعة من يوم الاثنين الحادي عشر من رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة. ومدة أيامه ثلاث وعشرون سنة وخمسة أشهر وسبع عشر يوماً. فلما كان في سنة اثنتين وأربعين جالت عساكره في جبل أوراس وكان ملجأ كل منافق على الملوك يسكنه بنو كملان ومليلة وبعض هوارة ولم يدخلوا في طاعة من تقدمه فأطاعوا المعز ودخلوا معه البلاد وتقدم إلى نوابه بالإحسان إلى البربر فلم يبق منهم إلا من أتاه وشمله إحسان المعز فعظم أمره. وفي سنة سبع وأربعين عظم أمر أبي الحسين جوهر عند المعز وعلا محله وصار في رتبة الوزارة فسيره في صفر منها على جيش كثيف فيهم الأمير زيرى بن مناد الصنهاجي وغيره فسار إلى تاهرت وحارب قوماً وافتتح مدنا ونهب وأحرق وسار إلى فارس فنازلها مدة وسار إلى سجلماسة وقد قام بها رجل وتلقب بالشاكر لله وخوطب بأمير المؤمنين ففر من جوهر فتبعه حتى أخذه أسيراً. ومضى جوهر إلى البحر المحيط فأمر أن يصاد من سمكه وبعثه في قلال الماء إلى المعز وسلك ما هنالك من البلاد فافتتحها ثم عاد فقاتل أهل فاس حتى افتتحها عنوة وقبض على صاحبها وجعله مع صاحب سجلماسة في قفصين وحملهما إلى المعز بالمهدية وعاد في أخريات السنة. وفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة كان إعذار المعز لدين الله الأمراء بنيه: عبد الله وتزار وعقيل فحين عزم على طهورهم كاتب عماله وولاته من لدن برقة إلى أقصى سجلماسة وما بين ذلك وما حوته مملكته إلى جزيرة صقلية وما والاها في حضر وبدو وبحر وبر وسهل وجبل بطهور من وجد من أولاد سائر الخلق حرهم وعبدهم وأبيضهم وأسودهم ودنيئهم وشريفهم ومليهم وذميهم الذين حوتهم مملكته لمدة شهر وتوعد على ترك ذلك وأمرهم بالقيام بجميع نفقاتهم وكسوتهم وما يصلح أحوالهم من مطعم ومشرب وملبس وطيب وغيره بمقدار رتبهم وأحوالهم فكان من جملة المنفق في ذلك مما حمل إلى جزيرة صقلية وحدها من المال سوى الخلع والثياب خمسون حملاً من الدنانير كل حمل عشرة آلاف دينار ومثل ذلك إلى كل عامل من عمال مملكته ليفرقه على أهل عمله. وابتدىء بالختان في مستهل ربيع الأول منها فكان المعز يطهر في اليوم من أيام الشهر بحضرته اثنا عشر ألف صبي وفوقها ودونها وختن من أهل صقلية وحدها خمسة عشر ألف صبي وكان وزن خرق الأكياس المفرغة مما أنفق في هذا الإعذار مائة وسبعين قنطارا بالبغدادي. واستدعى المعز وهو بالمنصورية في يوم شات باردة الريح عدة شيوخ من شيوخ كتامة وأمر بادخالهم إليه من غير الباب الذي جرى الرسم به فإذا هو في مجلس مربع كبير مفروش باللبود على مطارح وحوله كساء وعليه جبة وحواليه أبواب مفتحة تفضى إلى خزائن كتب وبين يديه مرفع ودواة وكتب حواليه فقال: يا إخواننا: أصبحت اليوم في مثل هذا الشتاء والبرد فقلت لأم الأمراء وإنها الآن بحيث تسمع كلامي : أترى إخواننا يظنون أنا في مثل هذا اليوم نأكل ونشرب ونتقلب في المثقل والديباج والحرير والفنك والسمور والمسك والخمر والغناء كما يفعل أرباب الدنيا! ثم رأيت أن أنفذ إليكم فأحضركم لتشاهدوا حالي إذا خلوت دونكم واحتجبت عنكم وأني لا أفضلكم في أحوالكم إلا فيما لا بد لي منه من دنياكم وبما خصني الله به من إمامتكم وأني مشغول بكتب ترد على من المشرق والمغرب أجيب عنها بخطى وأني لا أشتغل بشيء من ملاذ الدنيا إلا بما صان أرواحكم وعمر بلادكم وأذل أعداءكم وقمع أضدادكم. فافعلوا يا شيوخ في خلوتكم مثل ما أفعله ولا تظهروا التجبر والتكبر فينزع الله النعمة عنكم وينقلها إلى غيركم وتحننوا على من وراءكم ممن لا يصل إلي كتحنني عليكم ليتصل في الناس الجميل ويكثر الخير وينتشر العدل. وأقبلوا بعدها على نسائكم والزموا الواحدة التي تكون لكم ولا تشرهوا إلى التكثير منهن والرغبة فيهن فيتنغص عيشكم وتعود المضرة عليكم وتنهكوا أبدانكم وتذهب قوتكم وتضعف نحايزكم فحسب الرجل الواحد الواحدة ونحن محتاجون إلى نصرتكم بأبدانكم وعقولكم. واعلموا أنكم إذا لزمتم ما آمركم به رجوت أن يقرب الله علينا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب بكم. انهضوا رحمكم الله ونصركم. وفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة أمر المعز بحفر الآبار في طريق مصر وأن يبنى له في كل منزلة قصر ففعل ذلك. وفي يوم الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من السنة وردت النجب من مصر بموت كافور الأخشيدي يوم الأربعاء لعشر بقين من جمادى الأولى. واستدعى المعز يوما أبا جعفر بن حسين بن مهذب صاحب بيت المال وهو بالمغرب فوجده في وسط القصر جالسا على صندوق وبين يديه ألوف صناديق مبددة في صحن القصر فقال له: هذه صناديق مال وقد شذ عني ترتيبها فانظرها ورتبها. قال: فأخذت أجمعها إلى أن صارت مرتبة وبين يدي جماعة من خدام بيت المال والفراشين وأنفذت إليه أعلمه فأمر برفعها في الخزائن على ترتيبها وأن يغلق عليها وتختم بخاتمه وقال: قد خرجت عن خاتمنا وصارت إليك ففعل. وكانت جملتها أربعة وعشرين ألف ألف دينار وذلك في سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فأنفقها أجمع على العساكر التي سيرها إلى مصر في سنتي ثمان وتسع وخمسين مع القائد جوهر. وكان رحيله في رابع عشر ربيع الأول منها ومعه ألف حمل مال ومن السلاح والخيل والعدد ما لا يوصف فقدم جوهر إلى مصر ووصلت البشارة بفتحها في نصف رمضان سنة ثمان وخمسين فسر المعز سرورا كثيراً وأنشده ابن هانىء قصيدة أولها: يقول بنو العباس: هل فتحت مصر فقل لبني العباس: قد قضي الأمر ولما وصلت البشارة من الشام بكسر عسكر أبي عبد الله الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم أنشده ابن هانىء قصيدة منها: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القّهار وأنشد أيضاً أخرى أولها: وعلى أمير المؤمنين مظلّةٌ زاحمت تحت لوائها جبريلا ولما أنفذ جوهر إلى مصر وبرز يريد المسير إلى مصر بعث المعز خفيفاً الصقلبي صاحب الستر إلى شيوخ كتامة يقول: يا إخواننا: قد رأينا أن ننفذ رجالا من بلدان كتامة يقيمون بينهم ويأخذون صدقاتهم ومراعيهم ويحفظونها علينا في بلادهم فإذا احتجنا إليها أنفذنا خلفها فاستعنا بها على ما نحن بسبيله. فقال بعض شيوخهم لخفيف وقد بلغهم ذلك : قل لمولانا: والله لا فعلنا هذا أبدا. كيف تؤدي كتامة الجزية ويصير عليها في الديوان ضريبة وقد أعزها الله قديما بالإسلام وحديثا معكم بالإيمان وسيوفنا بطاعتكم في المشرق والمغرب. فعاد خفيف بذلك إلى المعز فأمر بإحضار جماعة كتامة فدخلوا عليه وهو راكب فرسه فقال: ما هذا الجواب الذي صدر عنكم. فقالوا: نعم هو جواب جماعتنا ما كنا يا مولانا بالذي يؤدي جزية تبقى علينا. فقام المعز في ركابه وقال: بارك الله فيكم فهكذا أريد أن تكونوا وإنما أردت أن أجربكم فانظروا كيف أنتم بعدى إذا سرنا عنكم إلى مصر هل تقبلون هذا أو تفعلونه وتدخلون تحته ممن يرومه منكم والآن سررتموني بارك الله فيكم. وكتب إلى جوهر وهو بمصر من الغرب: وأما ما ذكرت يا جوهر من أن جماعة من بني حمدان وصلت إليك كتبهم يبذلون الطاعة ويعدون بالمسارعة في المسير إليك فاسمع لما أذكره لك: احذر أن تبتدىء أحدا من بني حمدان بمكاتبة ترهيبا له ولا ترغيبا ومن كتب إليك منهم فأجبه بالحسن الجميل ولا تستدعه إليك ومن ورد إليك منهم فأحسن إليه ولا تمكن أحدا منهم من قيادة جيش ولا ملك طرف فبنو حمدان يتظاهرون بثلاثة أشياء عليها مدار العالم وليس لهم فيها نصيب: يتظاهرون بالدين وليس لهم فيه نصيب ويتظاهرون بالكرم وليس لواحد منهم كرم في الله ويتظاهرون بالشجاعة وشجاعتهم للدنيا لا للآخرة فاحذر كل الحذر من الاستنامة إلى أحد منهم ولما عزم المعز على المسير إلى مصر أجال فكره فيمن يخلفه بالمغرب فوقع اختياره على أبي أحمد جعفر بن عبد الأمير فاستدعاه وأسر إليه أنه يريد استخلافه بالمغرب فقال: تترك معي أحد أولادك أو أخوتك جالسا في القصر وأنا أدبر ولا تسألني عن شيء من الأموال إن كان ما أجبيه بازاء ما أنفقه وإذا أردت أمراً فعلته ولم أنتظر ورود الأمر فيه لبعد ما بين فغضب المعز وقال: يا جعفر: عزلتني عن ملكي وأردت أن تجعل لي شريكا في أمري واستبددت بالأموال والأعمال دوني قم فقد أخطأت حظك وما أصبت رشدك. فخرج. واستدعى المعز يوسف بن زيرى الصنهاجي وقال له: تأهب لخلافة المغرب فأكبر ذلك وقال: يا مولانا: أنت وآباؤك الأئمة من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صفا لكم المغرب فكيف يصفوا لي وأنا صنهاجي بربري قتلتني يا مولاي بلا سيف ولا رمح. ولم يزل به حتى أجاب وقال: يا مولانا: بشريطة أن تولي القضاء والخراج لمن تراه وتختاره والخبر لمن تثق به وتجعلني أنا قائما بين أيديهم فمن استعصى عليهم أمروني به حتى أعمل فيه ما يجب ويكون الأمر لهم وأنا خادم بين ذلك. فحسن هذا من المعز وشكره فلما انصرف قال له عم أبيه أبو طالب أحمد بن المهدي عبيد يا مولانا: وتثق بهذا القول من يوسف أنه يفي بما ذكره فقال المعز: يا عمنا: كم بين قول يوسف وقول جعفر واعلم يا عم أن الأمر الذي طلبه جعفر ابتداءً هو آخر ما يصير إليه أمر يوسف فإذا تطاولت المدة سينفرد بالأمر ولكن هذا أولى وأحسن وأجود عند ذوي العقل وهو نهاية ما يفعله من يترك دياره. ووجهت أم الأمراء من المغرب بصبية ربتها لتباع في مصرن فطلب الوكيل فيها ألف دينار فجاءت امرأة شابة على حمار فلم تزل حتى اشترتها منه بستمائة دينار وقيل له يا مغربي: هذه بنت الأخشيد اشترت الجارية تتمتع بها وهي ست كافور. فلما عاد أخبر المعز بذلك فأمر بإحضار الشيوخ وأمر الرجل فحدثهم بخبر الجارية ثم قال: يا إخواننا: انهضوا إليهم فلن يحول بينكم وبينهم شيء وإذا كان قد بلغ بهم الترف إلى أن صارت امرأة من بنات ملوكهم تخرج وتشتري لنفسها جارية تتمتع بها فقد ضعفت نفوس رجالهم وذهبت الغيرة منهم فانهضوا بنا إليهم. فقالوا: السمع والطاعة. فقال: خذوا في حوائجكم فنحن نقدم الاختيار لمسيرنا إن شاء الله. ولما عزم المعز على الرحيل إلى مصر أتاه بلكين بن زيرى بألفي جمل من إبل زناتة وحمل ما له بالقصور من الذخائر وسبك الدنانير على شكل الطواحين جعل على كل جمل قطعتين في وسط كل قطعة ثقبا تجمع به القطعة إلى الأخرى فاستعظم ذلك الجند والرعية وصاروا يقفون في الطرق لرؤية بيت المال المحمول. وخرج المعز من المغرب يوم الإثنين لثمان بقين من شوال سنة إحدى وستين وثلاثمائة وخرج من المنصورية ومعه بلكين واسمه يوسف إلى سردانية من بلاد إفريقية فسلم إليه إفريقية والمغرب يوم الأربعاء لتسع بقين من ذي الحجة وأمر سائر الناس له بالسمع والطاعة وفوض إليه أمور البلاد ما خلا جزيرة صقلية فإنه ترك أمرها لحسن بن علي بن أبي الحسين وطرابلس وأعمالها. وقال له: إن نسيت ما وصيناك به فلا تنس ثلاثة أشياء: إياك أن ترفع الجباية عن أهل البادية ولا ترفع السيف عن البربر ولا تول أحدا من أخوتك وبني عمك فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك وافعل مع أهل الحاضرة خيراً. وفارقه. وكان قيصر ومظفر الصقلبيان قد بلغا رتبة عظيمة عند المنصور والمعز وكان المظفر يدل على المعز لأنه علمه الخط وهو صغير فاتفق أنه حرد يوما فسمعه المعز يتكلم بكلمة صقلبية استراب بها فأخذ المعز نفسه بحفظ اللغات فابتدأ بالبربرية فأحكمها ثم بالرومية ثم بالسودانية ثم استدعى الصقلبية فمرت به تلك الكلمة فيها فإذا هي شتمة فبقيت في نفسه حتى قتلهما. وبلغه وهو بالمغرب أمر الحرب من بني حسن وبني جعفر بن أبي طالب بالحجاز وأنه قتل من بني الحسن أكثر ممن قتل بنو حسن من بني جعفر فأنفذ مالا ورجالا سرا سعوا بين الطائفتين حتى اصطلحوا وتحملوا الحمالات عنهما. وكان فاضل القتلى لبني حسن عند بني جعفر سبعين قتيلاً فأدى القوم ذلك إليهم وعقدوا بينهم في المسجد الحرام صلحاً وتحملوا دياتهم من مال المعز وذلك في سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة فصار ذلك جميلا عند بني حسن للمعز فلما دخل جوهر مصر بادر حسن بن جعفر الحسني فملك مكة ودعا للمعز وكتب إلى جوهر بذلك فبعث بالخبر إلى المعز فأنفذ من المغرب إليه بتقليد الحرم وأعماله. ذكر بناء القاهرة قال أبو محمد الحسن بن إبراهيم بن زولاق المصري في كتاب إتمام أخبار أمراء مصر للكندي وفي جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة صحت الأخبار بمسير عساكر المعز لدين الله من المغرب إلى مصر عليها عبده جوهر وكانت بمصر للمعز دعاة استدعوا خلقا في البلد وكانوا يقولون: إذا زال الحجر الأسود ملك مولانا المعز لدين الله الأرض كلها وبيننا وبينكم الحجر الأسود يعنون كافور الإخشيدي فلما مات كافور أنفذ المعز إلى دعاته بنوداً وقال: فرقوها على من يبايع من الجند وأمرهم إذا قربت العساكر ينشرونها فلما قربت العساكر من الإسكندرية جمع الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد ابن موسى بن الحسن بن الفرات الناس وشاورهم فاتفقوا على مراسلة جوهر وأن يشترطوا عليه شروطاً وأنهم يسمعون له ويطيعونه ثم اجتمعوا على محاربته ثم انحل ذلك وعادوا إلى المراسلة بالصلح. وكانت رسل جوهر ترد سراً إلى ابن الفرات ثم اتفقوا على خروج أبي جعفر مسلم الحسيني وأبي إسماعيل الرسي ومعهما القاضي أبو طاهر وجماعة فبرزوا إلى الجيزة لاثنتي عشرة بقيت من رجب ولم يتأخر عن تشييعهم قائد ولا كاتب ولا عالم ولا شاهد ولا تاجر وساروا فلقوا جوهر بتروجة ووافقوه واشترطوا عليه فأجابهم إلى ما التمسوه وكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من جوهر الكاتب عبد أمير المؤمنين المعز لدين الله صلوات الله عليه لجماعة أهل مصر الساكنين بها من أهلها ومن غيرهم: أبو جعفر مسلم الشريف أطال الله بقاءه وأبو إسماعيل الرسي أيده الله وأبو الطيب الهاشمي أيده الله . وأبو جعفر أحمد بن نصر أعزه الله والقاضي أعزه الله . وذكروا عنكم أنكم التمستم كتابا يشتمل على أمانكم في أنفسكم وأموالكم وبلادكم وجميع أحوالكم فعرفتم ما تقدم به أمر مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وحسن نظره لكم. فلتحمدوا الله على ما أولاكم وتشكروه على ما حماكم وتدأبوا فيما يلزمكم وتسارعوا إلى طاعته العاصمة لكم العائدة بالسلامة لكم وبالسعادة عليكم وهو أنه صلوات الله عليه لم يكن إخراجه للعساكر المنصورة والجيوش المظفرة إلا لما فيه إعزازكم وحمايتكم والجهاد عنكم إذ قد تخطفتكم الأيدي واستطال عليكم المستذل وأطمعته نفسه بالاقتدار على بلدكم في هذه السنة والتغلب عليه وأسر من فيه والاحتواء على نعمكم وأموالكم حسب ما فعله في غيركم من أهل بلدان المشرق وتأكد عزمه واشتد كلبه فعاجله مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه بإخراج العساكر المنصورة وبادره بانفاذ الجيوش المظفرة دونكم ومجاهدته عنكم وعن كافة المسلمين ببلدان المشرق الذين عمهم الخزي وشملتهم الذلة واكتنفتهم المصائب وتتابعت الرزايا واتصل عندهم الخوف وكثرت استغاثتهم وعظم ضجيجهم وعلا صراخهم فلم يغثهم إلا من أرمضه أمرهم ومضه حالهم وأبكى عينه ما نالهم وأسهرها ما حل بهم وهو مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه فرجا بفضل الله وإحسانه لديه وما عوده وأجراه عليه استنقاذ من أصبح منهم في ذل مقيم وعذاب أليم وأن يؤمن من استولى عليه الوهل ويفرخ روع من لم يزل في خوف ووجل وآثر إقامة الحج الذي تعطل وأهمل العباد فروضه وحقوقه لخوف المستولى عليهم وإذ لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم وإذ قد أوقع بهم مرة بعد أخرى فسفكت دماؤهم وابتزت أموالهم مع اعتماد ما جرت به عادته من صلاح الطرقات وقطع عبث العابثين فيها ليتطرق الناس آمنين ويسيروا مطمئنين ويتحفوا بالأطعمة والأقوات إذ كان قد انتهى إليه صلوات الله عليه انقطاع طرقاتها لخوف مادتها إذ لا زاجر للمعتدين ولا دافع للظالمين. ثم تجديد السكة وصرفها إلى العيار الذي عليه السكة الميمونة المنصورية المباركة وقطع الغش منها إذ كانت هذه الثلاث خصال هي التي لا يتسع لمن ينظر في أمور المسلمين إلا وما أوعز به مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه إلى عبده من نشر العدل وبسط الحق وحسم الظلم وقطع العدوان ونفى الأذى ورفع المؤن والقيام في الحق وإعانة المظلوم مع الشفقة والإحسان وجميل النظر وكرم الصحبة ولطف العشرة وافتقاد الأحوال وحياطة أهل البلد في ليلهم ونهارهم وحين تصرفهم في أوان ابتغاء معاشهم حتى لا تجري أمورهم إلا على ما لم شعثهم وأقام أودهم وأصلح بالهم وجمع قلوبهم وألف كلمتهم على طاعة وليه ومولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وما أمر به مولاه من إسقاط الرسوم الجائرة التي لا يرتضي صلوات الله عليه بإثباتها عليكم. وأن أجريكم في المواريث على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأضع ما كان يؤخذ من تركات موتاكم لبيت المال من غير وصية من المتوفى بها فلا استحقاق لمصيرها لبيت المال. وأن أتقدم في رم مساجدكم وتزيينها بالفر والإيقاد وأن أعطى مؤذنيها وقومتها ومن يؤم الناس فيها أرزاقهم وأدرها عليهم ولا أقطعها عنهم ولا أدفعها إلا من بيت المال لا بإحالة على من يقبض منهم. وغير ما ذكره مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه مما ضمنه كتابه هذا ما ذكره من ترسل عنكم أيدهم الله وصانكم أجمعين بطاعة مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه من أنكم ذكرتم وجوها التمستم ذكرها في كتاب أمانكم فذكرتها إجابة لكم وتطمينا لأنفسكم. وإلا فلم يكن لذكرها معنى ولا في نشرها فائدة إذ كان الإسلام سنة واحدة وشريعة متبعة وهي إقامتكم على مذهبكم وأن تتركوا على ما كنتم عليه من أداء الفروض في العلم والاجتماع عليه في جوامعكم ومساجدكم وثباتكم على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين بعدهم وفقهاء الأمصار الذين جرت الأحكام بمذاهبكم وفتواهم وأن يجرى الأذان والصلاة وصيام شهر رمضان وفطره وقيام لياليه والزكاة والحج والجهاد على أمر الله وكتابه وما نصه نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته واجراء أهل الذمة على ما كانوا عليه. ولكم علي أمان الله التام العام الدائم المتصل الشامل الكامل المتجدد المتأكد على الأيام وكرور الأعوام في أنفسكم وأموالكم وأهليكم ونعمكم وضياعكم ورباعكم وقليلكم وكثيركم. وعلى أنه لا يعترض عليكم معترض ولا يتجنى عليكم متجن ولا يتعقب عليكم متعقب. وعلى أنكم تصانون وتحفظون وتحرسون ويذب عنكم ويمنع منكم فلا يتعرض إلى أذاكم ولا يسارع أحد في الاعتداء عليكم ولا في الاستطالة على قويكم فضلا عن ضعيفكم . وعلى أن لا أزال مجتهدا فيما يعمكم صلاحه ويشملكم نفعه ويصل إليكم خيره وتتعرفون بركته وتغتبطون معه بطاعة مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه . ولكم علي الوفاء بما التزمته وأعطيتكم إياه عهد الله وغليظ ميثاقه وذمته وذمة أنبيائه ورسله وذمة الأئمة موالينا أمراء المؤمنين قدس الله أرواحهم وذمة مولانا وسيدنا أمير المؤمنين المعز لدين الله صلوات الله عليه فتصرحون بها وتعلنون بالانصراف إليها وتخرجون إلي وتسلمون علي وتكونون بين يدي إلى أن أعبر الجسر وأنزل في المناخ المبارك وتحافظون من بعد على الطاعة وتثابرون عليها وتسارعون إلى فروضها ولا تخذلون وليا لمولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وتلزمون ما أمرتم به وفقكم الله وأرشدكم أجمعين. وكتب القائد جوهر الأمان بخطه في شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين الأخيار. وكتب بخطه في هذا الكتاب: قال جوهر الكاتب عبد أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين : كتبت هذا الأمان على ما تقدم به أمر مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى الوفاء بجميعه لمن أجاب من أهل البلد وغيرهم على ما شرطت فيه والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين. وكتب جوهر بخطه في التاريخ المذكور: وأشهد جوهر على نفسه جماعة الحاضرين وهم: أبو جعفر مسلم بن محمد بن عبيد الله الحسيني. وأبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد الرسي الحسني. وأبو الطيب العباس بن أحمد الهاشمي. والقاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد. وابنه أبو يعلى محمد بن محمد. ومحمد بن مهلب بن محمد. وعمرو بن الحرث بن محمد. وأخذ منه أبو جعفر مسلم كتابا إلى أبي الفضل جعفر بن الفرات الوزير وجماعة وجوه الدولة وخاطب ابن الفرات في كتابه بالوزير بعد مراجعة وكان قد توقف في مخاطبته بالوزير وقال: ما كان وزير خليفة وأجاز الجماعة وحملهم ولم يقبل أبو جعفر مسلم شيئا منه وأكلت الجماعة معه وودعوه وانصرفوا فوافوا لثمان خلون من شعبان. قال ابن زولاق: سألت أبا جعفر مسلم عند رجوعه عن مقدار العسكر فقال: هو مثل جمع عرفات كثرة وعدة وسألته عن سن القائد جوهر فقال لي: نيف وخمسون سنة. فلما قدم الجماعة انتقض الإخشيدية والكافورية وكان قد بلغهم ذلك وهم عند القائد جوهر فتسرعوا في الانصراف من عنده وبلغ جوهر بعد انصرافهم انتقاض الصلح فأدرك الجماعة وأعلمهم بأن القوم قد نقضوا الصلح وطلب إعادة أمانه إليه فرفقوا به فقال للقاضي أبي طاهر: ما تقول يا قاضي في هذه المسألة فقال: ما هي فقال: ما تقول فيمن أراد العبور إلى مصر ليمضي إلى الجهاد لقتال الروم فمنع أليس له قتالهم فقال له القاضي: نعم. قال: نعم. ولما وافى أبو جعفر مسلم ومن معه من عند جوهر جاءه الناس وركب إليه ابن الفرات في موكب عظيم وعنده جماعة الوجوه فقرأ عليهم كتاب جوهر بالأمان والشرط وأوصل كتاب ابن الفرات وكتب الجماعة فامتنع القوم من قبول ذلك وقال فرح البجكمي للشريف مسلم: لو جاءنا جدك بهذا ضربنا وجهه بالسيف. فلامهم ابن الفرات على ذلك وقال: أنتم سألتم الشريف هذه المسألة فلم يقنع حتى أخذ معه أبا إسماعيل وهو رجل حسني وأخذ معه قاضي المسلمين وأخذ معه رجلا عباسيا. وسكت الشريف مسلم فلم يزد على أن قال: خار الله لكم. واشتغل ابن الفرات يسارر الشريف مسلم والإخشيدية والكافورية في خوض فقالوا كلهم: ما بيننا وبين جوهر إلا السيف: فسلموا على تحرير شويزان بالإماره وخرجوا يحجبونه إلى داره وبقي أحمد بن علي بن الإخشيد لا يفكر فيه. واستعدوا للحرب وساروا لعشر خلون من شعبان فنزلوا الجزيرة بالرجال والسلاح ووافى جوهر الجزيرة فلما شاهد ما فعلوه عاد إلى منية شلقان وعبر إلى مصر من ذلك الموضع وأرسل فاستقبل المراكب الواردة من تنيس ودمياط وأسفل الأرض فأخذها وتولى العبور إليهم جعفر بن قلاح عريانا في سراويل مع جمع من المغاربة وبلغ الإخشيدية فأنفذوا تحرير الأرغلي ويمن الطويل ومبشر الإخشيدي في خلق فساروا إلى الموضع وكانوا قد وكلوا به مزاحم بن محمد بن رائق فلقوه راجعاً ووقع القتال فقتل خلق من المصريين. وانصرف الناس عشية الأحد النصف من شعبان فلما كان نصف الليل انصرف من كان بالجزيرة إلى دورهم وأصبحوا غادين إلى الشام وقد قتل جماعة منهم: تحرير الأرغلي ومبشر الإخشيدي ويمن الطويل وخلق كثير. وأصبح الناس على خطة عظيمة فبكروا في يوم الاثنين إلى دار الشريف مسلم يسألونه الكتاب إلى جوهر في إعادة أمانهم فكتب إليه وجلس الناس عنده وقد طاف علي بن الحسين بن لؤلؤ صاحب الشرطة السفلي ومعه رسول جوهر وبند عليه اسم المعز لدين الله وبين أيديهما الأجراس بأن لا مؤونة ولا كلفة وأمن الناس وفرقت البنود فنشر كل من عنده بند بنده في درب حارته. وجاء الجواب إلى الشريف وقت العصر ونسخته بعد البسملة: وصل كتاب الشريف الجليل أطال الله بقاءه وأدام عزه وتأييده وعلوه وهو المهنأ بما هنأ به وجعلت إلى الشريف أعزه الله أن يؤمن كيف رأى وكيف أحب ويزيد على ما كتبته كيف يشاء فهو أماني وعن إذني وإذن مولانا وسيدنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه . وقد كتبت إلى الوزير أيده الله بالاحتياط على دور الهاربين إلى أن يرجعوا إلى الطاعة ويدخلوا فيما دخلت فيه الجماعة ويعمل الشريف أيده الله تعالى على لقائي في يوم الثلاثاء لسبع عشرة تخلو من شعبان. فاستبشرت الجماعة وابتهجوا وعملوا على الغدو إلى الجزيرة للقاء جوهر مع الشريف مسلم وبات الناس على هدوء وطمأنينة. فلما كان غداة يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان خرج الشريف أبو جعفر مسلم وجعفر بن الفضل بن الفرات وسائر الأشراف والقضاة والعلماء والشهود ووجوه التجار والرعية إلى الجيزة فلما تكامل الناس أقبل القائد جوهر في عساكره فصاح بعض حجابه: الأرض إلا الشريف والوزير. وتقدم الناس واحداً واحداً فلما فرغوا من السلام عليه عاد الناس إلى الفسطاط. فلما زالت الشمس أقبلت العساكر فعبرت الجسر ودخلت أفواجا أفواجا ومعهم صناديق المال على البغال ويقال إن المال كان في ألف وخمسمائة صندوق وأقبلت القباب وأقبل جوهر في حلة مذهبة مثقل في فرسانه ورجالته وقاد العسكر بأسره إلى المناخ الذي رسم له المعز موضع القاهرة واختط موضع القصر وأقام عسكره سبعة أيام يدخل من يوم الثلاثاء إلى آخر يوم الاثنين واستقرت به الدار. وجاءته الألطاف والهدايا فلم يقبل من أحد طعاما إلا من الشريف مسلم ويقال: لما أناخ جوهر في موضع القاهرة الآن اختط القصر فأصبح المصريون ليهنئوه فوجدوه قد حفر أساس القصر في الليل. ويقال إن جوهر لما بنى القصر وأدار عليها السور سماها: المنصورية فلما قدم المعز لدين الله إلى الديار المصرية سماها القاهرة. ويقال في سبب تسميتها القاهرة أن القائد جوهر لما أراد بناء القاهرة أحضر المنجمين وعرفهم أنه يريد عمارة بلد ظاهر مصر ليقيم بها الجند وأمرهم باختيار طالع لوضع الأساس بحيث لا يخرج البلد عن نسلهم فاختاروا طالعا لحفر السور وطالعا لابتداء وضع الحجارة في الأساس وجعلوا بدائر السور قوائم من خشب بين كل قائمتين حبل فيه أجراس وقالوا للعمال: إذا تحركت الأجراس أرموا ما بأيديكم من الطين والحجارة. فوقفوا ينتظرون الوقت الصالح لذلك فاتفق أن غرابا وقع على حبل من تلك الحبال المعلق فيها الأجراس فتحركت الأجراس كلها وظن العمال أن المنجمين حركوها فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة وبنوا فصاح المنجمون: القاهر في الطالع. فمضى ذلك وفاتهم ما قصدوه. ويقال إن المريخ كان في الطالع عند ابتداء وضع أساس القاهرة وهو قاهر الفلك فسموها القاهرة فحكموا لذلك أن القاهرة لا تزال تحت حكم الأتراك. وأدار السور اللبن احول بئر العظام وجعلها في القصر وجعل القاهرة حارات للواصلين صحبته وصحبة مولاه المعز وعمل القصر بترتيب ألقاه إليه المعز. ويقال إن المعز لما رأى القاهرة لم يعجبه مكانها في البرية بغير ساحل وقال لجوهر: يا جوهر فاتتك عمارتك ها هنا يعني المقس بشاطىء النيل . فلما رأى سطح الجرف المعروف اليوم بالرصد قال: يا جوهر: لما فاتك الساحل كان ينبغي عمارة القاهرة بهذا الجبل على هذا السطح وتكون قلعة لمصر. حكاه ابن الطوير. قال: وكان المعز عارفا بالأمور مطلعاً على الأحوال بالذكاء وكان يضرب في فنون منها النجامة فرتب في القصر ما يحتاج إليه الملوك بل الخلفاء بحيث لا يراهم العيان في النقلة من مكان إلى مكان وجعل لهم في ساحاته البحر والميدان والبستان وتقدم بعمارة المصلى ظاهر القاهرة لأهلها لخطبتهم فيها والصلاة في عيدي الفطر والنحر والآخر بالقرافة لأهل مصر. وقال ابن الظاهر: فلما تحقق المعز وفاة كافور جهز جوهر وصحبته العساكر ثم نزل بموضع يعرف برقادة وخرج في أكثر من مائة ألف فارس وبين يديه أكثر من ألف صندوق من المال وكان المعز يخرج إلى جوهر في كل يوم ويخلو به وأمره أن يأخذ من بيوت الأموال ما يريد زيادة على ما أعطاه. وركب إليه المعز يوما فجلس وقام جوهر بين يديه فالتفت المعز إلى المشايخ الذين وجههم معه وقال: والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر وليدخلن إلى مصر بالأردية من غير حرب ولينزلن في خرابات ابن طولون وتبنى مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا. قال: ونزل جوهر مناخه موضع القاهرة الآن في يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة واختط القصر وبات الناس فلما أصبحوا حضروا للهناء فوجدوه قد حفر أساس القصر بالليل وكانت فيه زورات غير معتدلة فلما شاهد ذلك جوهر لم يعجبه ثم قال: قد حفر في ليلة مباركة وساعة سعيدة فتركه على حاله. وقال ابن زولاق: ولما أصبح أنفذ علي بن الوليد القاضي لعسكره وبين يديه أحمال مال ومناد ينادي: من أراد الصدقة فليصر إلى دار أبي جعفر. فاجتمع خلق من المستورين والفقراء فصاروا بهم إلى الجامع العتيق ففرق فيهم. ولما كان يوم الجمعة لعشر بقين من شعبان نزل جوهر في عسكر إلى الجامع العتيق لصلاة الجمعة وخطب بهم هبة الله بن أحمد خليفة عبد السميع بن عمر العباسي ببياض فلما بلغ إلى الدعاء قرأه من رقعة وهو: اللهم صل على عبدك ووليك ثمرة النبوة وسليل العترة الهادية المهدية عبد الله الإمام معد أبي تميم المعز لدين الله أمير المؤمنين كما صليت على آبائه الطاهرين وأسلافه الأئمة الراشدين. اللهم ارفع درجته وأعل كلمته وأوضح حجته واجمع الأمة على طاعته والقلوب على موالاته وصحبته واجعل الرشاد في موافقته وورثه مشارق الأرض ومغاربها وأحمده مبادىء الأمور وعواقبها فإنك تقول وقولك الحق: فقد امتعض لدينك ولما انتهك من حرمتك ودرس من الجهاد في سبيلك وانقطع من الحج إلى بيتك وزيارة قبر رسولك صلى الله عليه وسلم فأعد للجهاد عدته وأخذ لكل خطب أهبته فسير الجيوش لنصرتك وأنفق الأموال في طاعتك وبذل المجهود في رضاك فارتدع الجاهل وقصر المتطاول وظهر الحق وزهق الباطل فانصر اللهم في جيوشه التي سيرها وسراياه التي انتدبها لقتال المشركين وجهاد الملحدين والذب عن المسلمين وعمارة الثغور والحرم وإزالة الظلم والتهم والنهم وبسط العدل في الأمم. اللهم اجعل راياته عالية مشهورة وعساكره غالبة منصورة وأصلح به وعلى يديه واجعل لنا منك واقية علية. وأمر جوهر بفتح دار الضرب وضرب السكة الحمراء وعليها: دعا الإمام معد بتوحيد الإله الصمد في سطر. وفي السطر الآخر: المعز لدين الله أمير المؤمنين. وفي سطر آخر: بسم الله. ضرب هذا الدينار بمصر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. علي أفضل الوصيين وزير خير المرسلين. ورجع مزاحم بن رائق وكان قد سار مع الإخشيدية ومعه جيش كبير. وأفطر جوهر يوم الفطر على عدد بغير رؤية وصلى صلاة العيد بالقاهرة صلى به على بن وليد الإشبيلي وخطب ولم يصل أهل مصر وصلوا من الغد في الجامع العتيق وخطب لهم رجل هاشمي. وكان أبو طاهر القاضي قد التمس الهلال على رسمه في سطح الجامع فلم يره وبلغ ذلك جوهر فأنكره وتهدد عليه. وجلس جوهر للمظالم في كل يوم سبت ثم رد المظالم إلى أن أبي عيسى مرشد. وفي شوال صرف علي بن لؤلؤ عن الشرطة السفلى ورد شبل المعرضي وولى عدة من جهات الخراج وعلى الضياع. وفي ذي الحجة قدم ستة آلاف من الإخشيدية والكافورية فأنزلوا خارج القاهرة وزيد في الخطبة: اللهم صل على محمد النبي المصطفى وعلى علي المرتضى وعلى فاطمة البتول وعلى الحسن والحسين سبطى الرسول الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا اللهم صل على الأئمة ونودي برفع البراطيل وقائم الشرطتين وسائر رسوم البلد. وورد الخبر بدخول القرامطة الرملة. وورد كتاب المعز من المغرب بوصول رأس نحرير ومبشر ويمن وبلال. وتولى الحسبة رجل يعرف بأبي جعفر الخراساني. وفي نصف ذي الحجة تكاملت الإخشيدية والكافورية المستأمنة بمصر وهم أربعة عشر رئيسا في عسكر عدته خمسة آلاف كانوا في معسكر لهم عند مصلى العيد بالقاهرة فهرب منه فاتك الهيكلي إلى الشام فلم يدركه الطلب وبلغ جوهر أن المستأمنة من الإخشيدية والكافورية اتفقوا على فساد. وتوفي ابن لجعفر بن فلاح فحضر جوهر الجنازة وحضر الناس وفيهم الإخشيدية والكافورية وانصرفوا معه فقال لهم في طريقه: قد حضر كتاب مولانا ومولاكم بما تسروا به فسيروا حتى تقفوا عليه. فساروا معه إلى مضاربة بالقاهرة ودخلوا معه فقبض على ثلاثة عشر من وجوههم وهم: نحرير شويزان وقنك الخادم الأسود ودرى الصقلي وحكل الإخشيدي ولؤلؤ الطويل ومفلح الوهباني وقيلق التركي وفرح اليحكمي واعتقلهم ستة أشهر حتى سيرهم مع الهدية إلى المعز ومعهم الحسن بن عبيد الله بن طغج وقبض على ضياع نحرير الأرغلي وأمواله وقبض من يحيى بن مكي بن رجاء ثمانين ألف دينار عينا وصاريين من عود رطب. وورد كتاب المعز إلى جوهر وإلى أبي جعفر مسلم وإلى أبي إسماعيل الرسي وإلى الوزير جعفر بن الفرات. وولى جوهر مزاحم بن محمد بن رائق الحوف والفرما. ودخل جوهر والغلاء شديد فزاد في أيامه حتى بلغ القمح تسعة أقداح بدينار. وكان عامل الخراج علي بن يحيى بن العرمرم فأقره جوهر شهراً ثم أشرك معه رجاء ابن صولان. وأقر ابن الفرات على وزارته. وأزال جوهر من مصر السواد. ومنع من قراءة سبح اسم ربك في صلاة الجمعة. وأزال التكبير بعد صلاة الجمعة. ولم يدع عملا إلا جعل فيه مغربيا شريكا لمن فيه. وكان القاع ثلاثة أذرع وتسعة عشر إصبعا وبلغ الماء سبعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وفي المحرم أنفذ بشير الإخشيدي من تنيس نحو مائة وخمسين رجلا طيف بهم. وكثر الفساد في الطرق فضرب جوهر أعناق جماعة وصلبهم في السكك. ولاثنتي عشرة بقيت منه سار جعفر بن فلاح بن أبي مرزوق إلى الشام وقاتل القرامطة بالرملة وهزمهم وأسر الحسين بن عبيد الله بن طغج وجماعة وبعثهم في القيود إلى جوهر. وسير جوهر إلى الصعيد في البر والبحر. وفي ربيع الأول قبض على دواب الإخشيدية والكافورية وصرفهم مشاة وأمرهم بطلب المعيشة. وسير الهدية جعفر بن الفضل بن الفرات مع ابنه أحمد في ربيع الآخر. وفي سلخ ربيع الآخر زاد الغلاء ونزعت الأسعار وتوفي أبو جعفر المحتسب فرد جوهر أمر الحسبة إلى سليمان بن عزة. فضبط الساحل وجمع القماحين في موضع واحد ولم يدع كف قمح يجمع إلا بحضرته وضرب أحد عشر رجلا من الطحانين وطيف بهم. وفي يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الأولى صلى جوهر الجمعة في جامع ابن طولون وأذن المؤذنون بحي على خير العمل وهو أول ما أذن به بمصر وصلى به عبد السميع الجمعة فقرأ سورة الجمعة: إذا جاءك المنافقون وقنت في الركعة الثانية وانحط إلى السجود ونسي الركوع فصاح به على بن الوليد قاضي عسكر جوهر : بطلت الصلاة أعد ظهرا أربعا. ثم أذن بحي على خير العمل في سائر مساجد العسكر وأنكر جوهر على عبد السميع أنه لم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في كل سورة ولا قرأها في الخطبة فصلى به الجمعة الأخرى وفعل ذلك وكان قد دعا لجوهر في الجمعة الأولى في الخطبة فأنكر ذلك ومنعه. وقبض جوهر الأحباس من القاضي أبي طاهر وردها إلى غيره. ولأربع بقين منه أذن في الجامع العتيق بحي على خير العمل وجهر فيه بالبسملة في الصلاة ولسبع عشرة خلت من جمادى الآخرة أنفذ جوهر هديته إلى المعز ومعها المعتقلون في القيود فكان فيما أهداه تسع وتسعون بختية وإحدى وعشرون قبة عليها الديباج المنسوج بالذهب ولها مناطق من ذهب مكللة بالجوهر ومائة وعشرون ناقة بأجلة الديباج وأعنة محلاة بالفضة وخمسمائة جمل عرابا وستة وخمسون جلا وثمانية وأربعون دابة منها بغلة واحدة وسبعة وأربعون فرسا بأجلة حرير منقوش وسروج كلها ما بين ذهب وفضة ولجمها كذلك وعودان كأطول ما يكون العود الذي يتبخر به. وكان الأسرى: الحسن بن عبيد الله بن طغج وابن غزوان صاحب القرامطة وفاتك الهنكري والحسن بن جابر الرياحي كاتب الحسن بن عبيد الله بن طغج ونحرير شويزان ومفلح الرهباني ودرى الخازن وفرقيك وقيلغ التركي الكافوري وأبو منحل وحكل الإخشيدي وفرح اليحكمي ولؤلؤ الطويل وقنك الطويل الخادم فحملوا في المراكب إلى الإسكندرية وساروا منها إلى القيروان في البر. ونافق بشير الإخشيدي بأسفل الأرض فاستعطفه جوهر فلم يجب فسير إليه العساكر فحاربها بصهرجت ونهبها ومضى منهزما إلى الشام في البحر فأخذ بصور وأدخل به على فيل ومعه جماعة وبعث به جعفر بن فلاح. وفي رمضان حفر جوهر سوارى الجامع العتيق الخشب. وفي ذي القعدة ردت الحسبة إلى سليمان بن عزة المغربي فجمع سماسرة الغلات في مكان. وسد الطرق إلا طريقا واحدا فكان البيع كله هناك ولا يخرج قدح غلة حتى يقف عليه. ومنع جوهر من الدينار الأبيض وكان بعشرة دراهم فأمر أن يكون الراضي بخمسة عشر درهما والمعزى بخمسة وعشرين درهما ونصف فلم يفعل الناس ذلك فرد الأبيض إلى ستة دراهم فتلف وافتقر خلق. وأنفذ المعز عسكرا وأحمال مال عدتها عشرون حملا للحرمين وعدة أحمال متاع. وورد الخبر بفتح جعفر بن فلاح دمشق ودخولها وكان من خبر جعفر بن فلاح: أنه لما سار من القاهرة في عسكره كان على الرملة ودمشق الحسن بن عبيد الله بن طغج فلما بلغه دخول جوهر القائد إلى مصر بعساكر المعز سار عن دمشق في شهر رمضان واستخلف عليه شمول الإخشيدي وكان شمول يحقد في نفسه منه ويكاتب جوهر القائد فنزل ابن طغج الرملة وتأهب لحرب من يسير إليه من مصر فوردت عليه الأخبار بمسير القرامطة إليه ووافوه بالرملة فلقيهم وحاربهم فانهزم منهم ثم صالحهم وصاهرهم في ذي الحجة. ورحل عنه القرمطي بعد ما أقام بظاهر الرملة ثلاثين يوما فبعث إلى شمول بالمسير إليه لمحاربة من تقدم من مصر وأنفذ إلى الصباحي وإلى بيت المقدس بالقدوم عليه فتقاعد عنه شمول وقرب منه جعفر بن فلاح وقد انتشرت كتبه إلى ولاة الأعمال بعدهم الإحسان ويدعوهم إلى طاعة المعز فالتقى مع ابن طغج وحاربه فانهزم منه واحتوى على عسكره فقتل كثيرا من أصحابه وأخذه أسيرا في النصف من رجب سنة تسع فأقام بالرمة يتبع ما كان لابن طغج ولأصحابه وسار إلى طبرية فبنى قصرا عند الجسر ليحارب فاتك غلام ملهم وكان عليها من قبل كافور الإخشيدي فلم يعرض له ملهم وملك جعفر طبرية. وكان بحوران والبثنية بنو عقيل من قبل الإخشيد وهم: شبيب وظالم بن موهوب وملهم بن. قد ملكوا تلك الديار فأخذ جعفر بن فلاح يستميل إليه من العرب فزارة ومرة وباطنهم على قتل ملهم فرتبوا له رجالا قتلوه على حين غفلة وأظهر جعفر أن ذلك من غير علمه. وقبض على من قتله وبعث بهم إلى ملهم فعفا عنهم. وسار من دمشق مشايخ أهلها إلى طبرية للقاء جعفر فاتفق وصولهم إليها يوم قتل فاتك قد ثارت بها فتنة فأخذوا وسلبوا ما عليهم فلقوا جعفر بن فلاح وعادوا إلى دمشق وهم غير شاكرين ولا راضين فبسطوا ألسنتهم بذم المغاربة حتى استوحش أهل دمشق منهم. وكان شمول قد خرج منها إلى جعفر فلقيه بطبرية وصار البلد خاليا من السلطان فطمع الطامع وكثر الذعار وحمال السلاح به وجهز جعفر من طبرية من استمالهم من مرة وفزارة لحرب بني عقيل بحوران والبثنية وأردفهم بعسكر من أصحابه فواقعو بني عقيل وهزموهم إلى أرض حمص وهم خلفهم ثم رجعوا إلى الغوطة وامتدت أيديهم إلى أخذ الأموال وهم سائرون حتى نزلوا بظاهر دمشق فثار عليهم أهل البلد وقاتلوهم وقتلوا منهم كثيرا من العرب فانهزموا عنها وذلك لثمان خلون من ذي الحجة فلحقوا بطلائع جعفر فساروا معها إلى دمشق وخرج إليهم الناس مستعدين لمحاربتهم في خيل ورجل فاقتتلوا يومهم ثم انصرفوا وأصبحوا يوم الجمعة فاقتتلوا وصاح الناس في الجامع بعد الصلاة: النفير فخرج النفير واشتد القتال إلى آخر النهار. ونزل جعفر يوم السبت لعشر خلون منه بالشماسية وأصبح الناس للقتال ولم يصلوا ذلك اليوم في المصلى صلاة العيد فاستمروا طول النهار ومعهم الجند الذين كانوا مع شمول فكلوا وحملت معهم المغاربة فانهزموا وتمكن السيف منهم وهم منهزمون إلى أرض عاتكة وقصر حجاج فقتل خلق كثير وكان رئيس أهل الشام في هذه الحروب أبو القاسم ابن أبي يعلى العباسي ومحمد بن عصودا وصدقة الشوا. فلما ملك المغاربة ظاهر البلد طرحوا النار فيما هنالك من الأسواق وغيرها وصاروا إلى باب الجابية وأصبحوا وقد ضبط الرعية أبواب البلد فاستمرت الحرب طول النهار مما يلي المصلى ثم كفوا عن القتال وباتوا فلما أصبح النهار خرج قوم من مشايخ البلد لمخاطبة جعفر وهو بالشماسية في إصلاح أمر البلد فأخذهم قوم من المغاربة وسلبوهم ثيابهم وقتلوا منهم وجرحوا عدة وعلم بذلك أهل البلد فصاحوا من أعلى المواذن بالناس يعلمونهم الخبر ثم قدم المأخوذون فارتاع الناس واشتد خوفهم وتحيروا ثم جرت بينهم بعد ذلك وبين جعفر مراسلة فخرجوا إليه فاشتد عليهم وخوفهم بالنار والسيف فعادوا وقد ملئوا رعبا فبلغوا قوله للناس وقد تحيروا فاقتضى رأيهم معاودة جعفر في طلب العفو فرجع المشايخ إليه وما زالوا يتضرعون إليه حتى قال: ما أعفو عنكم حتى تخرجوا إلي ومعكم نساؤكم مكشوفات الشعور فيتمرغن في التراب بين يدي لطلب العفو. فقالوا له: نفعل ما يقول القائد. وما برحوا يذلون له حتى انبسط معهم في الكلام وتقرر الأمر على أنه يدخل يوم الجمعة إلى الصلاة في الجامع. فلما كان يوم الجمعة ركب في عسكره ودخل البلد فصلى بالجامع وخرج فوضع أصحابه أيديهم ينهبون الناس فثاروا عليهم وقتلوا منهم كثيرا وخرج إليه المشايخ فأنكر عليهم وقال لهم: دخل رجال أمير المؤمنين للصلاة فقتلتموهم وهددهم فلطفوا معه القول وداروه فأومأ إلى مال يأخذه من البلد دية من قتل من رجال أمير المؤمنين فأجابوه وكان في الجماعة أبو القاسم أحمد المعروف بالعقيقي العلوي وهو أحمد بن الحسن الأشل بن أحمد بن علي الرئيس بالمدينة كان بن محمد العقيقي بن جعفر بن عبد الله ابن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي ونزل بظاهر سور دمشق فوق نهر يزيد أصحاب جعفر فبنوا المساكن وأقاموا بها الأسواق وصارت شبه المدينة واتخذ لنفسه قصرا عجيبا من الحجارة وجعله عظيما شاهقا في الهواء غريب البناء وتطلب حمال السلاح فظفر بقوم منهم وضرب أعناقهم وصلب جثثهم وعلق رءوسهم على الأبواب وفيها رأس إسحاق بن عصودا. وكان ابن أبي يعلى لما انهزم خرج إلى الغوطة يريد بغداد فقبض عليه ابن عليان العدوي عند تدمر وجاء به إلى جعفر بن فلاح فشهره على جمل وفوق رأسه قلنسوة وفي لحيته ريش وبيده قصبة ثم بعث به إلى مصر. وأما محمد بن عصودا فإنه لحق بالقرامطة في الأحساء هو وظالم بن موهوب العقيلي لما انهزم بنو عقيل عن حوران والبثنية فحثوهم على المسير إلى دمشق. فلما كان في ربيع الأول سنة ستين أنفذ جعفر غلامه فتوح على عسكر إلى أنطاكية وكان لها في أيدي الروم نحو من ثلاث سنين وسير إلى أعمال دمشق وطبرية وفلسطين فجمع منها الرجال وبعث عسكرا بعد عسكر إلى أنطاكية وكان الوقت شتاء فنازلوها حتى انصرم الشتاء وسارت القوافل وهم ملحون في القتال فأردفهم جعفر بعساكر في نحو أربعة آلاف مددا لهم فظفروا بنحو مائتي بغل تحمل علوفة لأهل أنطاكية فأخذوها وقد أشرفوا على اسنكدرونة وورد على ابن فلاح خبر هزيمة عسكره وخبر مسير القرامطة إلى الشام وأنهم وردوا الكوفة. فأمدهم صاحب بغداد بالسلاح وكتب لهم بأربعمائة ألف درهم على أبي تغلب ابن حمدان تقوية لهم على حرب المغاربة فبعث إلى غلامه فتوح برحيله عن أنطاكية ومصيره إليه فوافاه ذلك أول رمضان فسار بمن معه وتركوا كثيرا من العلف والطعام وأتوه إلى دمشق فصار كل قوم منهم إلى أماكنهم. وقدم القرمطي إلى الرحبة فأمده أبو تغلب بالمال وبمن كان عنده من الإخشيدية الذين كانوا بمصر وفلسطين صاروا إليه لما انهزموا من المغاربة وصار بهم القرمطي حتى قرب من دمشق فخرج إليهم جعفر بن فلاح وقد استهان بهم وواقعهم فانهزم منهم وأخذ السيف أصحابه وقتل فلم يدر قاتله لست خلون من ذي القعدة سنة ستين ووجد مطروحا على الطريق خارج دمشق فجاءه محمد بن عصودا فقطع رأسه وصلبه على حائط داره أراد بذلك أخذ ثأر أخيه إسحاق لما قتله جعفر وصلبه. وملك القرامطة دمشق وأمنوا أهلها ثم ساروا إلى الرملة فملكوها واجتمع إليهم كثير من الإخشيدية. وفيها اصطلح قرعويه مولى سيف الدولة بن حمدان متولى حلب وأبو المعالي شريف ابن سيف الدولة فخطب له قرعويه بحلب وخطبا جميعا في معاملتيهما للإمام المعز بحلب سنة ستين وثلاثمائة: ففي المحرم اشتدت الأمراض والوباء بالقاهرة وورد جماعة من الوافدين إلى المغرب بجوائز وخلع. وفي صفر ضرب تبر بالسياط وقبضت ودائعه. وفي ربيع الآخر جرح تبر القائد أبو الحسن نفسه ومات بعد أيام فسلخ بعد موته وصلب حتى مزقته الرياح عند المنظر. وفي جمادى الأولى منع جوهر من بيع الشوىء مسموطا وأن يسلخ من جلده. وفي جمادى الآخرة نقل جوهر مجلس المظالم إلى يوم الأحد وأطلق لأصحاب الراتب ألف دينار فرقت فيهم وورد شمول من الشام مستأمنا فخلع عليه سبع خلع وحمل على فرسين وأعطى إثنا عش كيسا عينا وورقا وقدم سعادة بن حيان من المغرب في جيش كبير فتلقاه جوهر فترجل له سعادة. وفي شعبان وردت الرسل من المغرب برأس محمد بن خزر ومعه ثلاثة آلاف رأس فقرأ عبد السميع يوم الجمعة كتاب المعز بخبر المذكور وكان محمد بن الخير بن محمد بن خزر الزناتي أكبر ملوك المغرب سلطانا على زناتة وغيرهم هجم عليه أبو الفتوح يوسف بن زيرى ابن مناد وهو في قليل من أصحابه يشرب فلما أحيط به قتل نفسه بسيفه في سابع عشر ربيع الآخر سنة ستين وثلاثمائة فقدم رأسه على المعز لثلاث بقين منه. وفي شوال أنفذ جوهر سعاة بن حيان إلى الرملة واليا عليها وقد كثر الإرجاف بالقرامطة وأن جعفر بن فلاح قتل منهم وملكوا دمشق فتأهب جوهر لقتالهم وعمل الخندق ونصب عليه البابين الحديد اللذين كانا على ميدان الإخشيدي وبني القنطرة على الخليج وفرق السلاح على المغاربة والمصريين ووكل بابن الفرات خادما يبيت معه في داره ويركب معه حيث سار ووثب أهل تنيس على واليهم وقتلوا جماعة منهم الإمام في القبلة ووجدت رقاع في الجامع العتيق فيها التحذير من جوهر فجمع الناس ووبخهم فاعتذروا. وفي ذي الحجة كبست القرامطة مدينة القلزم وأخذوا واليها عبد العزيز بن يوسف وما كان له من خيل وإبل. وكان القاع خمسة أذرع وبلغ ماء النيل سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع وخلع جوهر على ابن أبي الرداد وأجازه وحمله. وفيها مات أبو سعيد يانس أحد قواد الإخشيدية في المحرم. وقتل تبر القائد أبو الحسن نفسه بسكين الدواة في شهر ربيع الآخر فسلخه القائد جوهر وصلبه عند المنظر حتى مزقته الرياح. ودخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة وفي المحرم دخل برءوس من بني هلال. وفيه كبست الفرما وعصى أهل تنيس وغيروا الدعوة وسودوا فحاربهم العسكر ودخل بعض المنهزمين من القرامطة وتبعهم القرامطة إلى عين شمس فاستعد جوهر لقتالهم وغلق أبواب الطابية وضبط الداخل والخارج وقبض على أربعة من الجند المصريين وضرب أعناقهم وصلبهم وبعث فأخرج ابن الفرات من داره وأسكنه بالقاهرة. وفي مستهل ربيع الأول التحم القتال مع القرامطة على باب القاهرة. وكان يوم جمعة فقتل من الفريقين جماعة وأسر عدة وأصبحوا يوم السبت متكافئين وغدوا يوم الأحد للقتال فسار الحسن بن أحمد بهرام الذي يقال له الأعسم زعيم عسكر القرامطة بجميع عسكره على الخندق والباب مغلق فلما زالت الشمس فتح جوهر الباب واقتتلوا قتالا شديدا قتل فيه خلق كثير وانهزم الأعسم ونهب سواده بالجب وأخذت صناديقه وكتبه وهو من جاء بالقرمطي أو برأسه فله ثلاث مائة ألف درهم وخمسون خلعة وخمسون سرجا بحلى على دوابها. فلما كان الغد من وقعة القرمطي ورد أبو محمد الحسن بن عمار من المغرب وسار عسكر لقتال أهل تنيس وقبض على تسعمائة من جند مصر في ساعة واحدة وقيدوا ورد جوهر تدبير الأموال إلى جعفر بن الفرات وخرج سعادة بن حيان في عسكر إلى الرملة بسبب القرامطة فدخلها ثم قدم عليه الأعسم القرمطي فعاد سعادة بمن معه إلى مصر. وفي شهر رمضان قبض على عجوز عمياء تنشد في الطريق وحبست ففرح جماعة من الرعية ونادوا بذكر الصحابة وصاحوا: معاوية خال المؤمنين وخال علي. فبعث جوهر ونادى في الجامع العتيق: أيها الناس: أقلوا القول ودعوا الفضول فإننا حبسنا العجوز صيانةً لها فلا ينطقن أحد إلا حلت عليه العقوبة الموجعة. ثم أطلقت العجوز. وخرج عبد العزيز بن إبراهيم الكلابي بالصعيد وسود ودعا لبني العباس فبعث إليه جوهر في البحر أربعين مركبا عليها بشارة النوبى وأنفذ بأزرق في البر على عسكر فأخذ وأدخل به في قفص مغلولا وطيف به وبمن معه. ووافى الأسطول من المغرب وسار إلى الشام فأسر وغنم. وأمر جوهر برفع الدنانير البيض. وفي آخر ذي الحجة نهبت المغاربة مواضع بمصر فثارت الرعية فاقتتلوا قتالا شديدا وركب إليهم سعادة بن حيان وغرم جوهر للناس ما نهب لهم وقبل قولهم في ذلك. |
12-21-2012, 08:39 PM | #9 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة اثنتين وستين وثلاثمائة
ففي المحرم قدر جوهر قيمة الدنانير فجعل الأبيض بثمانية دراهم. ولخمس بقين منه توفى سعادة بن حيان فحضر جوهر جنازته وصلى عليه الشريف مسلم. وفي ربيع الأول عزل سليمان بن عزة المحتسب جماعة من الصيارفة فشغب طائفة منهم وصاحوا: معاوية خال علي بن أبي طالب. فهم جوهر بإحراق رحبة الصيارفة لولا خوفه على الجامع. ودخل الحسن بن عمار ببضع وتسعين أسيرا وشهروا. ودخل عبد الله بن طاهر الحسيني على جوهر بطيلسان كحلي وفي مجلسه القضاة والعلماء والشهود فأنكر الطيلسان الكحلي ومد يده فشقه فغضب ابن طاهر وتكلم فأمر جوهر بتمزيقه فمزق وجوهر يضحك وبقى حاسراً بغير رداء فقام جوهر وأخرج له عمامة ورداء أخضر وألبسه وعممه بيده. وفي يوم الثلاثاء رابع المحرم المذكور زلزلت دمشق وأعمالها زلزلة عظيمة وقتا من الزمان ثم هدأ وانهدم بها من أنطاكية عدة أبرجة. وفي شهر ربيع الآخر تواترت الأخبار بمسير المعز إلى مصر وورد كتابه من قابس فتأهب جوهر لذلك وأخذ في عمارة القصر والزيادة فيه. وفي النصف من جمادى الأولى مات عبد العزيز بن هيج فسلخ وصلب. وفي أول رجب كد جوهر الناس للقاء المعز فتأهبوا لذلك وخرج أبو طاهر القاضي وسائر الشهود والفقهاء ووجوه التجار إلى الجيزة مبرزين للقاء المعز فأقاموا بها أربعين يوما حتى ورد الكتاب بوصول المعز إلى برقة فسار القاضي ومن معه. وسار الحسن بن عمار إلى الحوف في عشرة آلاف فواقعوا القرامطة هناك. ولخمس بقين من شعبان ورد الخبر بوصول المعز إلى الاسكندرية ولقيه أبو طاهر القاضي ومن معه فخاطبهم بخطاب طويل وأخبرهم أنه لم يسر لازدياد في ملك ولا رجال ولا سار إلا رغبة في الجهاد ونصرة للمسلمين وخلع على القاضي وأجازه وحمله. ولقيه أبو جعفر مسلم في جماعة الأشراف ومعهم وجوه البلد بنواحي محلة حفص وترجلوا له كلهم وكان سائرا فوقف وتقدم إليه أولا أبو جعفر مسلم ثم الناس على طبقاتهم وقبلوا له الأرض وهو واقف حتى فرغ الناس من السلام عليه ثم سار وسايره أبو جعفر مسلم وهو يحادثه وسأل عن الأشراف فتقدم إليه أكابرهم: أبو الحسن محمد بن أحمد الأدرع. وأبو إسماعيل الرسي. وعيسى أخو مسلم. وعبد الله بن يحيى بن طاهر بن السويح ثم عزم على الشريف مسلم وأمره بركوب قبة لأن الحر كان شديدا وكان الصوم فقدمت إليه قبة محلاة على ناقة وعادله غلام له ونزل المعز إلى الجيزة فكانت مدة القائد أبي الحسن جوهر أربع سنين وتسعة عشر يوما. أبي تميم معد إلى مصر وحلوله بالقصر من القاهرة المعزية وما كان من ولاية الخلفاء من بعده حتى انقضت أيامهم وأناخ بهم حمامهم. في يوم الاثنين لثمان بقين من شوال سنة إحدى وستين وثلاثمائة دخل المعز لدين الله إفريقية. وفي يوم الاثنين رابع عشرين جمادى الأولى سنة ثنتي وستين نزل بقصره خارج برقة. ووصل إلى الإسكندرية يوم الجمعة لست بقين من شعبان ونزل تحت منارتها ثم سار. ونزل المعز إلى الجيزة فخرج إليه جماعة من بقى وعقد جوهر جسر الجيزة وعقد جسرا آخر عند المختار بالجزيرة حتى سار عليه إلى الفسطاط ثم إلى القاهرة. وزينت له الفسطاط فلم يشقها ودخل معه جميع من كان وفد إليه وجميع أولاده وأخوته وعمومته وسائر ولد المهدي وأدخل معه توابيت آبائه: المهدي والقائم والمنصور. وكان دخوله إلى القاهرة وحصوله في قصره يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فصارت مصر دار خلافة بعد أن كانت دار إمارة. قال الفقيه الحسن بن إبراهيم بن زولاق رحمه الله ومن خطه نقلت : حدثني أحمد بن جعفر قال: كان القائم بأمر الله عليه السلام يوماً في مجلس أبيه المهدي جالسا بين يديه وكان ابنه المنصور قائما بين يدي جده فقال المهدي لابن ابنه المنصور: ايتني بابنك يعني المعز لدين الله فجاءت به دايته وله سنة أو فوقها فأخذه المهدي في حجره وقبله وقال لابنه القائم بأمر الله: يا أبا القاسم: ما على ظهر الأرض مجلس أشرف من هذا المجلس اجتمع فيه أربعة أئمة يعني المهدي نفسه وابنه القائم وابن ابنه المنصور وابن ابنه المعز لدين الله وزادني أبو الفضل ريدان صاحب المظلة في هذا الخبر أن المهدي جمعهم في دواج وقال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ثلاث أئمة في كساء سوى نفسه وقد جمع هذا الدواج أربعة أئمة. قال ابن زولاق: ولما وصل المعز إلى قصره خر ساجدا ثم صلى ركعتين وصلى بصلاته كل من دخل معه واستقر في قصره بأولاده وحشمه وخواصه عبيده والقصر يومئذ مشتمل على ما فيه من عين وورق وجوهر وحلي وفرش وأوان وثياب وسلاح وأسفاط وأعدال وسروج ولجم وبيت المال بحاله بما فيه وفيه جميع ما يكون للملوك. وخرج غد هذا اليوم وهو يوم الأربعاء جماعة الأشراف والقضاة والعلماء والشهود ووجوه أهل البلد وسائر الرعية لتهنئة المعز. ولعشر خلون من رمضان أمر المعز بالكتاب على المشايخ في سائر مدينة مصر: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأثبت اسم المعز لدين الله واسم ابنه عبد الله الأمير. ووقع المعز بيده إلى محمد بن الحسين بن مهذب صاحب بيت المال : تقدم يا محمد بابتياع لنا ولمولاك عبد الله في كل يوم من الفاكهة الرطبة واليابسة كذا وكذا بسعر الناس ولا تعرف الرسول لئلا تقع محاباة ولا مسامحة وكذلك حوائج المطبخ. وللنصف منه جلس المعز في قصره على السرير الذهب الذي عمله جوهر في الإيوان الجديد وأذن بدخول الأشراف أولاً ثم بعدهم الأولياء وسائر وجوه الناس وجوهر قائم بين يديه يقدم الناس قوما بعد قوم ثم مضى جوهر وأقبل بهديته ظاهرة يراها الناس وهي: من الخيل: مائة وخمسون فرساً مسرجة ملجمة منها مذهب ومنها مرصع ومنها بعنبر. وإحدى وثلاثون قبة على بخاتي بالديباج والمناطق والفرش منها تسعة بديباج مثقل. وتسع نوق مجنوبة مزينة بمثقل. وثلاثة وثلاثون بغلا منها سبعة مسرجة ملجمة. ومائة وثلاثون بغلا للنقل. وأربعة صناديق مشبكة يرى ما فيها وفيها أواني الذهب والفضة. ومائة سيف محلى بالذهب والفضة. ودرجان من فضة مخرقة فيها جوهر. وشاشية مرصعة في غلاف. وتسعمائة ما بين سفط وتخت فيها سائر ما أعده له من ذخائر مصر. وأذن المعز لابنه عبد الله في الجلوس في مجلسه. وحمل أبو جعفر مسلم بن عبيد الله الحسيني هديته وهي: أحد عشر سفطا من متاع تونة وتنيس ودمياط. وخيلا وبغالا. وقال: كنت أشتهي أن يلبس منها المعز لدين الله ثوباً أو ينعم بالعمامة التي فيها فما عمل لخليفة قط مثلها. وأذن المعز لجماعة بالجلوس في مجلسه وأطلق جماعة المعتقلين من الإخشيدية والكافورية الذين اعتقلهم جوهر وعدتهم نحو الألف. فقال: ما رأيت خليفة غير مولانا المعز لدين الله صلوات الله عليه . فاستحسن ذلك منه على البديهة مع علم المعز أن أبا طاهر رأى المعتضد والمكتفي والمقتدر والقاهر والراضي والمتقي والمستكفي والمطيع فشكره وأعجب بقوله. وركب المعز يوم الفطر لصلاة العيد إلى مصلى القاهرة الذي بناه جوهر وكان محمد بن أحمد بن الأدرع الحسيني قد بكر وجلس في المصلى تحت القبة فجاء الخدم وأقاموه وأقعدوا موضعه أبا جعفر مسلم وأقعدوه دونه فكان أبو جعفر مسلم خلف المعز عن يمينه وهو يصلي. وأقبل المعز في زيه وبنوده وقبابه وصلى بالناس صلاة العيد صلاةً تامة طويلة قرأ في الأولى بأم الكتاب وهل أتاك حديث الغاشية ثم كبر بعد القراءة وركع فأطال وسجد فأطال. قال ابن زولاق: أنا سبحت خلفه في كل ركعة وفي كل سجدة نيفاً وثلاثين تسبيحة وكان القاضي النعمان بن محمد يبلغ عنه التكبير وقرأ في الثانية بأم الكتاب وسورة والضحى ثم كبر أيضاً بعد القراءة وهي صلاة جده علي بن أبي طالب وأطال أيضاً في الثانية الركوع والسجود وأنا سبحت خلفه نيفا وثلاثين تسبيحة في كل ركعة وفي كل سجدة وجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في كل فلما فرغ من الصلاة صعد المنبر وسلم على الناس يمينا وشمالا ثم نشر البندين اللذين كانا على المنبر فخطب وراءهما وكان في أعلى درجة من المنبر وسادة ديباج مثقل فجلس عليها بين الخطبتين واستفتح الخطبة ببسم الله الرحمن الرحيم. وكان معه على المنبر جوهر وعمار بن جعفر وشفيع صاحب المظلة ثم قال: الله أكبر الله أكبر استفتح بذلك وخطب وأبلغ وأبكى الناس وكانت خطبته بخضوع وخشوع. فلما فرغ من خطبته انصرف في عساكره وخلفه أولاده الأربعة بالجواشن والخوذ على الخيل بأحسن زي وساروا بين يديه بالفيلين. فلما حصل في قصره أحضر الناس فأكلوا ونشطهم إلى الطعام وعتب على من تأخر وتهدد من بلغه عنه صيام العيد. ورد إلى أبي سعيد عبد الله بن أبي ثوبان أحكام المغاربة ومظالمهم. وتحاكم إليه جماعة من المصريين فحكم بينهم وسجل فكان شهود مصر يشهدون عنده ويشهدون على أحكامه ولم ير هذا بمصر قبل ذلك واستخلف أبو سعيد أحمد بن محمد الدوادي. ومنع المعز من النداء بزيادة النيل وألا يكتب بذلك إلا إليه وإلى جوهر فلما تم أباح النداء يعني لما تم ست عشرة ذراعاً. وخلع على جوهر خلعةً مذهبة وعمامة حمراء وقلده سيفا وقاد بين يديه عشرين فرسا مسرجة ملجمة وحمل بين يديه خمسين ألف دينار ومائتي ألف درهم وثمانين تختا من ثياب. وركب المعز إلى المقس وأشرف على أسطوله وقرأ عليه وعوذه وخلفه جوهر والقاضي النعمان ووجوه أهل البلد ثم عاد إلى قصره. وضربت أعناق جماعة عاثوا بنواحي القرافة. وفي ذي القعدة احترق سوق القاهرة وأعيد. وركب المعز لكسر خليج القاهرة فكسر بين يديه وسار على شط النيل ومر على سطح الجرف وعطف على بركة الحبش ثم على الصحراء إلى الخندق الذي حفره جوهر في موكب عظيم وخلفه وجوه أهل البلد وأبو جعفر أحمد بن نصر يعرفه بالمواضع وبلغ المعز أن محمداً أخا أبي إسماعيل الرسي يريد الفرار إلى الشام فقبض عليه وسجن مقيدا. وفي يوم عرفة نصب المعز الشمسة التي عملها للكعبة على إيوان قصره وسعتها اثنا عشر شبراً في مثلها وأرضها ديباج أحمر ودورها اثنا عشر هلال ذهب وفي كل هلال أترجة ذهب مشبك جوف كل أترجة خمسون درة كبيض الحمام وفيها الياقوت الأحمر والأصفر والأزرق وفي دورها مكتوب آيات الحج بزمرد أخضر وحشو الكتابة در كبار لم ير مثله وحشو الشمسة المسك المسحوق فرآها الناس في القصر ومن خارجه لعلو موضعها ونصبها عدة فراشين وجروها لثقل وزنها. وأول من عمل الشمسة للكعبة أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله فبعث سلسلة من ذهب كانت تعلق مع الياقوتة التي بعثها المأمون وصارت تعلق كل سنة في وجه الكعبة وكان يؤتى بهذه السلسلة في كل موسم وفيها شمسة مكللة بالدر والياقوت والجوهر قيمتها شيء كثير فيقدم بها قائد يبعث من العراق فتدفع إلى حجبة الكعبة ويشهد عليهم بقبضها فيعلقونها يوم سادس الثمان فتكون على الكعبة ثم تنزع يوم التروية. وغدا المعز لصلاة عيد النحر في عساكره وصلى كما ذكر في صلاة الفطر من القراءة والتكبير وطول الركوع والسجود وخطب وانصرف في زيه فلما وصل إلى القصر أذن للناس عامة فدخلوا والشمسة منصوبة على حالها فلم يبق أحد حتى دخل من أهل مصر والشام والعراق فذكر أهل العراق وأهل خراسان ومن يواصل الحج أنهم لم يرو قط مثل هذه الشمسة وذكر أصحاب الجوهر ووجوه التجار أنه لا قيمة لما فيها وأن شمسة بني العباس كان أكثرها مصنوعا ومن شبه وأن مساحتها مثل ربع هذه. وكذلك كانت شمسة كافور التي عملها لمولاه أونوجور بن الإخشيد وكان يسير بها إلى الحرم جعفر بن محمد الموسوي ثم ابنه أبو الحسين ثم بعده ابنه مسلم ثم أبو تراب بعد أخيه إلى أن أخذها القائد جوهر من أبي تراب. وأمر المعز للناس بالطعام فأكلوا. وورد الخبر بوصول أسطول القرامطة إلى تنيس في البحر فكانت بينهم وبين أهل تنيس حرب انهزم فيها أصحاب القرامطة وأخذ منهم عدة مراكب وأسر طائفة منهم وأن أسكر نهبت فعظم ذلك على المعز واشتد خوف الناس في المقابر حتى كانوا يصلون على الجنائز ولا يتبعونها ويمضي بها الحفارون فأنكر المعز ذلك وأمن الناس. ولثماني عشرة من ذي الحجة وهو يوم غدير خم تجمع خلق من أهل مصر والمغاربة للدعاء فأعجب المعز ذلك وكان هذا أول ما عمل عيد الغدير بمصر. وقدم من تنيس مائة وثلاثة وسبعون رجلا أسارى وعدة رءوس ومعهم أعلام القرامطة منكوسة وسلاح لهم فشهر ذلك في البلد وجلس المعز حتى مروا بين يديه وهو في علو باب قصره. وكانت فتنة في البلد نهبت المغاربة فيها جماعة من الرعية فركب جوهر في طلب النهابة وأخذهم وجلدهم. وفي سلخ ذي الحجة سلخ إمام جامع القرافة محمد بن عبد السميع في طريق القرافة وانصرف الناس من جامع القرافة من غير جمعة. وأحضر جوهر جماعة من أهل تنيس وطالبهم بديات المغاربة الذين قتلوا عندهم وألزموا بمائتي ألف دينار ثم استقر أمرهم على ألف ألف درهم. وانتهى النيل في نقصانه إلى ست أذرع وإصبعين وبلغ زيادة الماء الجديد سبع عشرة ذراعا وإصبعين وأطلق المعز لمتولى المقياس الجائزة والخلع والحملان فزاده على رسمه. وفيها مات أبو عمرو محمد بن عبد الله السهمي قاضي مكة ومات الإشبيلي قاضي المغاربة بمصر ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة: وأمير المؤمنين المعز لدين الله. وخليفته القائد جوهر. والقاضي أبو طاهر محمد بن أحمد. والخراج نصفين: إلى علي بن محمد بن طباطبا وعبد الله بن عطاء الله والنصف الآخر إلى وصاحب بيت المال محمد بن الحسين بن مهذب. وصاحب المظلة شفيع الصقلي. وطبيبه موسى بن العازار. والشرطة السفلى إلى عروبة بن إبراهيم وشبل المعرضي. والشرطة العليا إلى خير بن القاسم. وإمام الجامع العتيق والخطبة إلى عبد السميع بن عمر العباسي. وإمام الصلوات الخمس الحسن بن موسى الخياط. ولست عشرة بقيت من المحرم قلد المعز الخراج ووجوه الأموال جميعها والحسبة والسواحل والجوالى والأحباس والمواريث والشرطتين وجميع ما ينضاف إلى ذلك وما يطوى في مصر وسائر الأعمال أبا الفرج يعقوب بن يوسف الوزير وعسلوج بن الحسن وكتب لهما بذلك سجلاً. قرىء يوم الجمعة على منبر جامع أحمد بن طولون وقبضت أيدي سائر العمال والمتضمنين. وجلسا غد هذا اليوم في دار الإمارة في جامع أحمد بن طولون للنداء على الضياع وسائر وجوه الأموال وحضر الناس للقبالات وطالبوا بالبقايا من الأموال مما على المالكين والمتقبلين والعمال وفيه تبسطت المغاربة في نواحي القرافة والمعافر فنزلوا في الدور وأخرجوا الناس من دورهم ونقلوا السكان وشرعوا في السكنى في المدينة وكان المعز أمرهم أن يسكنوا في أطراف المدينة فخرج الناس واستغاثوا إلى المعز فأمر أن يسكنوا نواحي عين شمس وركب المعز بنفسه حتى شاهد المواضع التي ينزلون فيها وأمر لهم بما يبنون به وهو الموضع الذي يعرف اليوم بالخندق وخندق العبيد وجعل لهم واليا وقاضيا وأسكن أكثرهم في المدينة مخالطين لأهل مصر ولم يكن جوهر يبيحهم سكنى المدينة ولا المبيت فيهان وحظر ذلك عليهم وكان مناديه ينادي كل عشية: لا يبينم في المدينة أحد من المغاربة. وفي يوم عاشوراء انصرف خلق من الشيعة وأتباعهم من المشاهد من قبر كلثم بنت محمد بن جعفر بن محمد الصادق ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين وكسروا أواني السقائين في الأسواق وشققوا الروايا وسبوا من ينفق في هذا اليوم وثارت إليهم جماعة فخرج إليهم أبو محمد الحسن بن عمار ومنع الفريقين ولولا ذلك لعظمت الفتنة لأن الناس كانوا غلقوا الدكاكين وعطلوا الأسواق وقويت أنفس الشيعة بكون المعز بمصر. وكانت مصر لا تخلو من الفتن في يوم عاشوراء عند قبر كلثم وقبر نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب في الأيام الإخشيدية والكافورية وكان سودان كافور يتعصبون على الشيعة ويتعلق السودان في الطرق بالناس ويقولون للرجل: من خالك فإن قال: معاوية أكرموه وإن سكت لقي المكروه وأخذت ثيابه وما معه حتى كان كافور يوكل بأبواب الصحراء ويمنع الناس من الخروج. ولما جلس يعقوب بن كلس وعسلوج بن الحسن الونهاجي لعقد الضياع توفرت الأموال وزيد في الضياع وتكاشف الناس. وفي صفر طيف بنحو مائتي رأس قدم بها من المغرب. ومات ابن عم للمعز فصلى عليه المعز وكبر سبعا وكبر على غيره خمسا وهذا مذهب علي بن أبي طالب: أنه يكبر على الميت على قدر منزلته. ومات إسحاق بن موسى طبيب المعز فجعل موضعه أخاه إسماعيل بن موسى. وامتنع يعقوب وعسلوج أن يأخذ في الاستخراج إلا دينارا معزيا فاتضع الدينار الراضي وانحط ونقص من صرفه أكثر من ربع دينار فخسر الناس من أموالهم وكان صرف المعزى خمسة عشر درهما ونصف. واشتد الاستخراج وأكد المعز فيه ليرد ما أنفقه من أمواله على مصر لأنه قدم مصر يظن أن الأموال مجتمعة فوجدها قد فرقتها مؤن مصر وكثرة عساكرها وكان الذي أنفقه المعز على وحدثني بعض كتاب بيت ماله قال: حملنا إلى مصر أكياساً فارغة أنفق ما كان فيها في أربعة أعدال على جملين. وكد يعقوب وعسلوج أنفسهما في الاستخراج فاستخرج في يوم نيف وخمسون ألف دينار معزية وكان استخراجا بغير براءة ولا خرج ولا حوالة واستخرج في يوم مائة وعشرون ألف دينار معزية وفي يوم آخر من مال تنيس ودمياط والأشمونين أكثر من مائتي ألف وعشرين ألف دينار وهذا لم يسمع بمثله قط في بلد إلا أن في أيام العزيز استخرج خير بن القاسم وعلي بن عمر العداس وعبد الله بن خلف المرصدي في ثلاثة أيام مائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار عزيزية منها في أول يوم أربعة وسبعين ألف دينار والباقي في يومين وذلك في سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. وفي شهر ربيع الآخر كثر الإرجاف بالقرامطة وانتشارهم في أعمال الشام وكان معهم عبد الله بن عبيد الله أخو أبي جعفر مسلم فكتب إليه المعز بعد ما شكاه إليه أخيه مسلم. وفيه دخل الناس إلى قصر المعز وفيهم: الأشراف والعمال والقواد وسائر الأولياء من كتامة وغيرهم فقال إنسان لبعض الأشراف: اجلس يا شريف فقال بعض الكتاميين: وفي الدنيا شريف غير مولانا! لو ادعى هذا غيره قتلناه. خرج الإذن للناس وبلغ المعز هذا فلما جلس على سريره وأذن للناس بالجلوس قال: يا معشر الأهل وبني العم من ولد فاطمة: أنتم الأهل وأنتم العدة وما نرضى بما بلغنا من القول وقد أخطأ من تكلم بما قيل لنا لكم بحمد الله الشرف العالي والرحم القريبة ولئن عاود أحد لمثل ما بلغنا لننكلن به نكالا مشهورا. فقبلت الجماعة الأرض ودعوا وشكروا وكان المتكلم حاضرا فانقمع وندم. وحدث المعز أنه رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً وبين يديه سيوف منها ذو الفقار فأخذ علي بن أبي طالب ذا الفقار فضرب به عنق القرمطي الأعسم وضرب حمزة عنق أخي الأعسم وضرب جعفر عنق آخر وانكب المعز يقبل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فنسخ الناس هذه الرؤيا. وحمل مال الأحباس من المودع إلى بيت المال الذي لوجوه البر وطولب أصحاب الأحباس بالشرائط ليحملوا عليها. ولما وقف على حبس عمرو بن العاص وأن محمد بن أبي بكر كان قبضه وضرب عليه صافية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب أهل الحق وأن عمرو بن العاص إنما حبسه لما دعا إلى مصر في أيام معاوية أخرج ذلك من كتاب أبي عمر الكندي القاضي النعمان بن محمد فحمله إلى وفي ربيع الآخر ثارت المغاربة في صحراء المقابر ونهبوا الناس فأنكر المعز ذلك وقبض على جماعة. وفيه اعتل المعز واحتجب فاضطربت الرعية ولم يره أحد. وفي جمادى الأولى أرجف بالقرامطة وقوى الاستخراج ومنع الناس من الحضور في الديوان لئلا يقفوا على مبلغه وجلس المعز للناس فسروا بسلامته. وحمل أبو جعفر مسلم إلى المعز المصحف الكبير الذي كان يذكر أنه كان ليحيى بن خالد ابن برمك وكان شراؤه أربعمائة دينار على مسلم فلما رآه المعز قال: أراك معجبا به وهو يستحق الإعجاب ولكن نفاخرك نحن أيضاً. فدعا بمصحف نصفين ما رؤى أحسن منهما خطاً وإذهاباً وتجليداً فقال: هذا خط المنصور وإذهابه وتجليده بيده. فقال له مسلم: فثم مصحف بخط مولانا المعز لدين الله عليه السلام . فقال: نعم. وأخرج له نصفين. فقال المعز: بعد مشاهدتك لخط المنصور تقول: ما رأيت أصبح من هذا الخط ولكنه أصبح من خطك. ثم ضحك وقال: أردت مداعبتك. وكان أبو جعفر مسلم إذا ذكر المعز يقول: وددت أن أبي وجدي شاهداه ليفتخرا به فلما أقدر أن أقرن به أحداً من خلفاء بني أمية ولا بني العباس. وتوفي محمد بن الحسين بن أبي الحسين أحد خواص المعز فخرج المعز وهو في بقايا علته وتقدم إلى القاضي النعمان بن محمد بغسله وبكفنه وصلى عليه المغرب وفتح تابوته وأضجعه. وبعد تسعة عشر يوماً توفي القاضي النعمان بن محمد أول رجب فخرج المعز يبين الحزن عليه وصلى عليه وأضجعه في التابوت ودفن في داره بالقاهرة. وفي شعبان دخل أبو جعفر مسلم علي المعز فلما توسط صحن الإيوان قال له أخوه عيسى: إن الأمير عبد الله في المجلس فسلم عليه. وكان في المجلس جماعة فدخل أبو جعفر على المعز وقبل الأرض وقام قائماً وقال: يا أمير المؤمنين: حدثني أبي عن أبيه عن جده عن إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمد قال: دخلت أنا وأخي عبد الله على يعقوب بن صالح بن المنصور وهو يومئذ أمير المدينة فقال: من أين أقبل الشيخان فقالا: من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمنا عليه وأتيناك فقال: سلمتما على صاحبيه فقلنا: لا فقال سبحان الله كيف لم تسلما على صاحبيه فقال له أخي عبد الله: سألتك بالله أيها الأمير أيهما أقرب ابنك هذا منك أو صاحبي رسول الله من رسول الله فقال: ابني هذا فقال: ما سلمنا على ابنك في مجلسك إجلالا لك فنسلم على صحابي رسول الله بحضرة رسول الله فقال: والله ما قصرتما ثم قال مسلم: تأذن يا أمير المؤمنين في السلام على الأمير عبد الله فأذن له قال عيسى: وكان المعز لمسلم مكرماً. وفيه كثر الإرجاف بالقرامطة ودخول مقدمتهم أرياف مصر وأطراف المحلة وأنهم ونهبوا واستخرجوا الخراج ثم رجعوا إلى أعمال الشام. وأمر المعز المغاربة بالخروج من مصر والسكنى بالقاهرة ففعلوا. ورد المعز الشرطة العليا إلى خير بن القاسم فاستقصى على المغاربة في الخروج إلى القاهرة. وعاودت المعز العلة فاحتجب أياماً لا يراه أحد ثم جلس للناس فهنوه وعرضوا أنفسهم للقتال فشكرهم على ذلك. ووصلت سرية القرامطة إلى أطراف الحوف وأنفذ القرمطي عبد الله بن عبيد الله أخا مسلم إلى الصعيد فنزل في نواحي أسيوط وإخميم وحارب العمال واستخرج الأموال فثقل ذلك على المعز وعاتب أبا جعفر مسلم فاعتذر إليه وتبرأ من أفعاله ونزل الأعسم القرمطي بعسكره بلبيس وتأهب المعز لمنعه ورده. وقد أحببت أن أورد هنا جملةً من أخبار القرامطة لتكرر دخولهم إلى مصر |
12-21-2012, 08:40 PM | #10 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
ذكر طرف من أخبار القرامطة
وذلك أن الحسين الأهوازي لما خرج داعيةً إلى العراق لقي حمدان بن الأشعث قرمط بسواد الكوفة ومعه ثور ينقل عليه فتماشيا ساعةً فقال حمدان للحسين: إني أراك جئت من سفر بعيد وأنت معي فاركب ثوري هذا. فقال الحسين: لم أومر بذلك. فقال له حمدان: كأنك تعمل بأمر أمر لك. قال: نعم. قال: ومن يأمرك وينهاك. قال: مالكي ومالكك ومن له الدنيا والآخرة. يا هذا: ما يملك ما ذكرته إلا الله. قال: صدقت والله يهب ملكه لمن يشاء. قال حمدان: فما تريد في القرية التي سألتني عنها. وكان الحسين لما رأى قرمط في الطريق سأله: وكيف الطريق إلى قس بهرام. فعرفه قرمط أنه سائر إليه فسأله عن قرية تعرف بباتنورا في السواد فذكر أنها قريبة من قريته وكان قرمط من قرية تعرف بالدور على نهر هد من رستاق مهروسا من طسوج فرات بادفلي. وإنما قيل له قرمط لأنه كان قصيرا ورجلاه قصيرتين وخطوه متقاربا فسمى لذلك قرمطا. فلما قال للحسين: ما تريد في القرية التي سألتني عنها قال له: رفع إلى جراب فيه علم وسر من أسرار الله وأمرت أن أشفي هذه القرية وأغني أهلها وأستنقذهم وأملكهم أملاك أصحابهم. وابتدأ يدعوه فقال له حمدان قرمط: يا هذا: نشدتك الله ألا رفعت إلي من هذا العلم الذي معك وأنقذتني ينقذك الله. قال له: لا يجوز ذلك أو آخذ عليك عهدا وميثاقا أخذه الله على النبيين والمرسلين وألقى إليك فما زال يضرع إليه حتى جلسا في بعض الطريق وأخذ عليه العهد ثم قال له: ما اسمك. قال له قرمط: قم معي إلى منزلي حتى تجلس فيه فإن لي إخوانا أصير بهم إليك لتأخذ عليهم العهد للمهدي. فصار معه إلى منزله وأخذ على الناس العهد وأقام بمنزل حمدان قرمط فأعجبه أمره وعظمه وكان الحسين على غاية ما يكون من الخشوع صائماً نهاره قائماً ليله فكان المغبوط من أخذه إلى منزله ليلةً وكان يخيط لهم الثياب ويكتسب بذلك فكانوا يتبركون به وبخياطته. وأدرك الثمر فاحتاج أبو عبد الله محمد بن عمر بن شهاب العدوي وكان أحد وجوه الكوفة ومن أهل العلم والفضل إلى عمل ثمره فوصف له الحسين الأهوازي فنصبه لحفظ ثمره والقيام في حظيرته فأحسن حفظها واحتاط في أداء الأمانة وظهر منه من التشدد في ذلك ما خرج به عن أحوال الناس في تساهلهم في كثير من الأمور وذلك في سنة أربع وستين ومائتين. واستحكمت ثقة الناس به وثقته هو بحمدان قرمط وسكونه إليه فأظهر له أمره وكان مما دعا إليه أنه جاء بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: يقول الفرج بن عثمان إنه داعية المسيح وهو عيسى وهو الكلمة وهو المهدي وهو أحمد بن محمد بن الحنفية وهو جبريل وأن المسيح تصور في جسم إنسان وقال إنك الداعية وإنك الحجة وإنك الناقة وإنك الدابة وإنك يحيى بن زكريا وإنك روح القدس وعرفه أن الصلاة أربع ركعات: ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن: الله أكبر ثلاث مرات. أشهد ألا إله إلا الله. مرتين. أشهد أن آدم رسول الله. أشهد أن نوحا رسول الله. أشهد أن إبراهيم رسول الله. أشهد أن موسى رسول الله. أشهد أن عيسى رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله. والقراءة في الصلاة: الحمد للّه بكلمته وتعالى باسمه المنجد لأوليائه بأوليائه " قل إن الأَهلة مواقيت للناس ظاهرها ليعلموا عدد السنين والحساب والشهور والأَيام وباطنها لأوليائي الذين عرَّفوا عبادي وسيلتي فاتقوني يا أولى الألباب وأنا الذي لا أُسأل عما أفعل وأَنا العليم الحكيم وأَنا الذي أَبلو عبادي وأَمتحن خلقي فمن صبر على بلائي ومحنتي واختباري أَدخلته في جنتي وأَخلدته في نعيمي ومن زال عن أَمري وكذَّب رسلي أَخلدتُه مُهاناً في عذابي وأَتممت أجلي وأَظهرت أَمري على أَلسنة رسلي وأَنا الذي لم يعلُ جبارٌ إلا وضعتُه ولا عزيز إلا أَذللته وليس الذي أصرَّ على أَمره وداوم على جهالته وقال إِن نبرح عليه عاكفين وبه موقنين أولئك هم الكافرون ". ثم يركع. ومن شرائعه: صيام يومين في السنة هما: المهرجان والنوروز. وأن الخمر حلال. ولا غسل من جنابة ولكن الوضوء كوضوء الصلاة. وأن لا يؤكل ماله ناب ولا مخلب. ولا يشرب النبيذ. وأن الجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شغل. ولما حضرته الوفاة جعل مكانه حمدان بن الأشعث قرمط وأخذ على أكثر أهل السواد وكان ذكيا داهية. فكان ممن أجابه: مهرويه بن زكرويه السلماني وجلندي الرازي وعكرمة البابلي وإسحاق السوراني وعطيف النيلي وغيرهم وبث دعاته في السواد يأخذون على الناس. وكان أكبر دعاته عبدان وكان فطناً خبيثاً خارجاً عن طبقة نظرائه من أهل السواد ذا فهم وحذق وكان يعمل عند نفسه على نصب له من غير أن يتجاوز به إلى غيره ولا يظهر غير التشيع والعلم ويدعو إلى الإمام من آل رسول الله ت صلى الله عليه وسلم محمد ابن إسماعيل بن جعفر. فكان أحد من تبع عبدان زكرويه بن مهرويه وكان شاباً ذكياً فطناً من قرية بسواد الكوفة على نهر هد فنصبه عبدان على إقليم نهر هد وما والاه ومن قبله جماعة دعاة متفرقون في عمله. وكان داعية عبدان على فرات بادفلي: الحسن بن أيمن وداعيته على طسوج تستر: المعروف بالبوراني وإليه نسب البورانية وداعيته على جهة أخرى: المعروف بوليد وفي أخرى: أبو الفوارس. وهؤلاء رؤساء دعاة عبدان ولهم دعاة تحت أيديهم فكان كل داع يدور في عمله ودخل في دعوته من العرب طائفة فنصب فيهم دعاة فلم يتخلف عنه رفاعي ولا ضبعي ولم يبق من البطون المتصلة بسواد الكوفة بطن إلا دخل في الدعوة منه ناس كثيراً أو قليل: من بني عباس وذهل وعنزة وتيم الله وبني ثعل وغيرهم من بني شيبان فقوى قرمط وزاد طمعه فأخذ في جمع الأموال من قومه: فابتدأ يفرض عليهم أن يؤدوا درهما عن كل واحد وسمى ذلك: الفطرة على كل أحد من الرجال والنساء فسارعوا إلى ذلك. فتركهم مديدة ثم فرض الهجرة وهو دينار على كل رأس أدرك وتلا قوله تعالى: " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ". وقال: هذا تأويل هذا. فدفعوا ذلك إليه وتعاونوا عليه فمن كان فقيرا أسعفوه. فتركهم مديدة ثم فرض عليهم البلغة وهي سبعة دنانير وزعم أن ذلك هو البرهان الذي أراد الله بقوله: " قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ". وزعم أن ذلك بلاغ من يريد الإيمان والدخول في السابقتين المذكورين في قوله تعالى: " وَالسَّابِقُونَ وصنع طعاما طيبا حلوا لذيذا وجعله على قدر البنادق يطعم كل من أدى إليه سبعة دنانير منها واحدة وزعم أنه طعام أهل الجنة نزل إلى الإمام فكان ينفذ إلى كل داع منها مائة بلغة ويطالبه بسبعمائة دينار لكل واحدة منها سبعة دنانير. فلما توطأ له الأمر فرض عليهم أخماس ما يملكون وما يتكسبون وتلا عليهم: " واعْلَموا أَنَّما غَنِمْتُم من شيءٍ فأَنَّ لِلّه خُمُسَةُ الآية " فقوموا جميع ما يملكونه من ثوب وغيره وأدوا ذلك إليه فكانت المرأة تخرج خمس ما تغزل والرجل يخرج خمس ما يكسبه. فلما تم ذلك فرض عليهم الألفة وهو أن يجمعوا أموالهم في موضع واحد وأن يكونوا فيه أسوة واحدة لا يفضل أحد منهم صاحبه وأخاه في ملك يملكه وتلا عليهم: " واذكروا نِعْمَةَ اللّهِ عليكم إِذْ كُنْتُمْ أَعداءً فَأَلَّفَ بين قُلُوبِكم فَأَصْبَحْتُم بنعمته إخْوانا " الآية وقوله تعالى: " لو أَنْفَقْتَ ما في الأَرضِ جميعاً ما أَلَّفْتَ بَين قُلُوبِهم ولكنَّ اللّهَ أَلَّفَ بينهم إِنَّهُ عزيز حكيم ". وعرفهم أنه لا حاجة بهم إلى أموال تكون معهم لأن الأرض بأسرها ستكون لهم دون غيرهم وقال: هذه محنتكم التي امتحنتم بها ليعلم كيف تعملون. وطالبهم بشراء السلاح وإعداده. وذلك كله في سنة ست وسبعين ومائتين. وأقام الدعاة في كل قرية: رجلا مختارا من ثقاتها يجمع عنده أموال أهل قريته من بقر وغنم وحلى ومتاع وغيره وكان يكسو عاريهم وينفق على سائرهم ما يكفيهم ولا يدع فقيرا بينهم ولا محتاجا ولا ضعيفا وأخذ كل رجل منهم بالانكماش في صناعته والكسب بجهده ليكون له الفضل في رتبته وجمعت المرأة كسبها من مغزلها والصبي أجرة نظارته للطير وأتوه به فلم يتملك أحد منهم إلا سيفه وسلاحه. فلما استقام له ذلك أمر الدعاة أن يجمعوا النساء ليلةً معروفة ويختلطن بالرجال ويتراكبن ولا يتنافرن فإن ذلك من صحة الود والألفة بينهم. فلما تمكن من أمورهم ووثق بطاعتهم وتبين مقدار عقولهم أخذ في تدريجهم وأتاهم بحجج من مذهب الثنوية فسلكوا معه في ذلك حتى يقضي ما كان يأمرهم به في مبدأ أمرهم من الخشوع والورع والتقوى وظهر منهم بعد تدين كثير إباحة الأموال والفروج والغناء عن الصوم والصلاة والفرائض وأخبرهم أن ذلك كله موضوع عنهم وأن أموال المخالفين ودماءهم حلال لهم وأن معرفة صاحب الحق تغني عن كل شيء ولا يخاف معه إثم ولا عذاب يعني إمامه الذي يدعو إليه وهو محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وأنه الإمام المهدي الذي يظهر في آخر الزمان ويقيم الحق وأن البيعة له وأن الداعي إنما يأخذها على الناس له وأن ما يجمع من فلما أظهر هذه الأمور كلها بعد تعلقه بذكر الأئمة والرسل والحجة والإمام وأنه المعول والمقصد والمراد وبه اتسقت هذه الأمور ولولا هذه لهلك الخلق وعدم الهدى والعلم ظهر في كثير منهم الفجور وبسط بعضهم أيديهم بسفك الدماء وقتلوا جماعة ممن خالفهم فخافهم الناس واستوحشوا من ظهور السلاح بينهم فأظهر موافقتهم كثير من مجاوريهم جزعاً منهم . ثم إن الدعاة اجتمعوا واتفقوا على أن يجعلوا لهم موضعاً يكون وطنا ودار هجرة يهاجرون إليها ويجتمعون بها فاختاروا من سواد الكوفة في طسوج الفرات من ضياع السلطان المعروفة بالقاسميات قرية تعرف بمهتماباد فحاذوا إليها صخرا عظيما ثم بنوا حولها سوراً منيعا عرضه ثماني أذرع ومن ورائه خندق عظيم وفرغوا من ذلك في أسرع وقت وبنوا فيها البناء العظيم وانتقل إليها الرجال والنساء من كل مكان وسميت دار الهجرة وذلك في سنة سبع وتسعين ومائتين فلم يبق حينئذ أحد إلا خافهم ولا بقي أحد يخافونه لقوتهم وتمكنهم في البلاد. وكان الذي أعانهم على ذلك تشاغل الخليفة بفتنة الخوارج وصاحب الزنج بالبصرة وقصريد السلطان وخراب العراق وتركه لتدبيره وركوب الأعراب واللصوص بعد السبعين ومائتين بالقفر وتلاف الرجال وفساد البلدان فتمكن هؤلاء وبسطوا أيديهم في البلاد وعلت كلمتهم. وكان منهم مهرويه أحد الدعاة في مبدأ أمره ينطر النخل ويأخذ أجرته تمرا فيفرغ منه النوا ويتصدق به ويبيع النوا ويتقوت به فعظم في أعين الناس قدره وصارت له مرتبة في الثقة والدين فصار إلى صاحب الزنج لما ظهر على السلطان وقال له. ورائي مائة ألف ضارب سيف أعينك بهم. فلم يلتفت إلى قوله ولم يجد فيه مطمعا فرجع وعظم بعد ذلك في السواد وانقاد إليه خلق كثير فادعى أنه من ولد عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر فقيل له: لم يكن لمحمد بن إسماعيل ابن يقال له عبد الله. فكف عن هذه الدعوى وصار بعد ذلك في قبة على جمل ودعى بالسيد وظهر بسواد الكوفة وسيأتي ذكر ابنه زكرويه وابن ابنه الحسين بن زكرويه إن شاء الله. وكان رجل من أهل قرية جنابة يعمل الفراء يقال له أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي أصله من الفرس سافر إلى سواد الكوفة وتزوج من قوم يقال لهم: بنو القصار كانوا من أصول هذه الدعوة فأخذ عن عبدان وقيل بل أخذ عن حمدان قرمط وسار داعية فنزل القطيف وهي حينئذ مدينة عظيمة فجلس بها يبيع الرقيق فلزم الوفاء والصدق وكان أول من أجابه الحسين بن سنبر وعلي بن سنبر وحمدان بن سنبر في قوم ضعفاء ما بين قصاب وحمال وأمثال ذلك فبلغه أن بناحيته داعيا يقال له أبو زكريا أنفذه عبدان قبل أبي سعيد وكان قد أخذ على بني سنبر من قبل فعظم أمره على أبي سعيد وقبض عليه وقتله فحقد عليه بنو سنبر قتله. واتفق أن البلد كان واسعاً ولأهله عادة بالحروب وهم رجال شداد جهال فظفر أبو سعيد باشتهار دعوته في تلك الديار فقاتل بمن أطاعه من عصاه حتى اشتدت شوكته. وكان لا يظفر بقرية إلا قتل أهلها ونهبها فهابه الناس وأجابه كثير منهم وفر منه خلق كثير إلى بلدان شتى خوفاً من شره ولم يمتنع عليه إلا هجر وهي مدينة البحرين ومنزل سلطانها وبها التجار والوجوه فنازلها شهوراً يقاتل أهلها ثم وكل بها رجلا. وارتفع فنزل الأحساء وبينها وبين هجر ميلان فابتنى بها دارا وجعلها منزلا وتقدم في زراعة الأرض وعمارتها وكان يركب إلى هجر ويحارب أهلها ويعقب قومه على حصارها. ودعا العرب فأجابه بنو الأضبط من كلاب وساروا إليه بحرمهم وأموالهم فأنزلهم الأحساء وأطمعوه في بني كلاب وسائر من يقرب منه من العرب فضم إليهم رجالا وساروا فأكثروا من القتل وأقبلوا بالحريم والأموال والأمتعة إلى الأحساء فدخل الناس في طاعته فوجه جيشاً إلى بني عقيل فظفر بهم ودخلوا في طاعته. فلما اجتمع إليه العرب مناهم ملك الأرض كلها ورد إلى من أجابه من العرب ما كان أخذ وجمع الصبيان في دور وأقام عليهم قوماً وأجرى عليهم ما يحتاجون إليه ووسمهم لئلا يختلطون بغيرهم ونصب لهم عرفاء وأخذ يعلمهم ركوب الخيل والطعان فنشأوا لا يعرفون غير الحرب وقد صارت دعوته طبعاً لهم. وقبض كل مال في البلد والثمار والحنطة والشعير. وأقام رعاةً للإبل والغنم ومعهم قوم لحفظها والتنقل معها على نوب معروفة. وأجرى على أصحابه جرايات فلم يكن يصل لأحد غير ما يطعمه. هذا وهو لا يغفل عن هجر وطال حصاره لهم على نيف وعشرين شهراً حتى أكلوا الكلاب فجمع أصحابه وعمل دبابات ومشى بها الرجال إلى السور فاقتتلوا يومهم وكثر بينهم القتلى ثم انصرف عنهم إلى الأحساء وباكرهم فناشوه فانصرف إلى قرب الأحساء ثم عاد في خيل فدار حول هجر يفكر فيما يكيدهم به فإذا لهجر عين عظيمة كثيرة الماء تخرج من نشز من الأرض غير بعيد منها فيجتمع ماؤها في نهر يستقيم حتى يمر بجانب هجر ثم ينزل إلى النخل فيسقيه فكانوا لا يفقدون الماء في حصارهم. فلما تبين له أمر العين انصرف إلى الأحساء ثم غدا فأوقف على باب المدينة رجالاً كثيراً ورجع إلى الأحساء وجمع الناس كلهم وسار في آخر الليل فورد العين بكرة بالمعاول والرمل وأوقار الثياب الخلقان ووبر وصوف وأمر بجمع الحجارة ونقلها إلى العين وأعد الرمل والحصى والتراب ثم أمر بطرح الوبر والصوف وأوقار الثياب في العين وطرح فوقها الرمل والحصى والتراب والحجارة فقذفته العين ولم يعن ما فعله شيئاً فانصرف إلى الأحساء بمن معه. وغدا في خيل فضرب البر حتى عرف أن منتهى العين بساحل البحر وأنها تنخفض كلما نزلت فرد جميع من كان معه وانحدر على النهر نحوا من ميلين ثم أمر بحفر نهر هنك وأقبل يركب هو وجمعه في كل يوم والعمال يعملون حتى حفره إلى السباخ ومضى الماء كله فصب في البحر ثم سار فنزل على هجر وقد انقطع الماء عنهم ففر بعضهم فركب البحر ودخل بعضهم في دعوته وخرجوا إليه فنقلهم إلى الأحساء وبقيت طائفة لم يفروا لعجزهم ولم يدخلوا في دعوته فقتلهم وأخذ ما في المدينة وأخربها فبقيت خراباً وصارت مدينة البحرين هي الأحساء. ثم أنفذ سرية إلى عمان في ستمائة وأردفهم بستمائة أخرى فقاتلهم أهل عمان حتى تفانوا وبقي من أهل عمان خمسة نفر ومن القرامطة ستة نفر فلحقوا بأبي سعيد فأمر بهم فقتلوا وقال: هؤلاء خاسوا بعهدي ولم يواسلوا أصحابهم الذين قتلوا. وتطير بهلاك السرية وكف عن أهل عمان. واتصل بالمعتضد بالله خبره فخاف منه على البصرة فأنفذ العباس بن عمرو الغنوي في ألفي رجل وولاه البحرين فخرج في سنة تسع وثمانين ومائتين والتقى مع أبي سعيد فانهزم أصحابه وأسر العباس في نحو من سبعمائة رجل من أصحابه واحتووا على عسكره وقتل من غده جميع الأسرى ثم أحرقهم وترك العباس ومضى المنهزمون فتاه أكثرهم في البر وتلف كثير منهم عطشاً وورج بعضهم إلى البصرة فارتاع الناس وأخذوا في الرحيل عن البصرة. ثم لما كان بعد الوقعة بأيام أحضر أبو سعيد العباس بن عمرو وقال له. أتحب أن أطلقك قال: نعم. قال: على أن تبلغ عني ما أقول صاحبك. قال: أفعل. قال: تقول له: الذي أنزل بجيشك ما أنزل بغيك هذا بلد خارج عن يدك غلبت عليه وقمت به وكان بي من الفضل ما آخذ به غيره فما عرضت لما كان في يدك ولا هممت به ولا أخفت لك سبيلا ولا نلت أحداً من رعيتك بسوء فتوجيهك إلي الجيوش لأي سبب اعلم أني لا أخرج عن هذا البلد ولا توصل إليه وفي هذه العصابة التي معي روح فأكفني نفسك ولا وأطلقه وبعث معه من يرده إلى مأمنه فوصل إلى بغداد في شهر رمضان وقد كان الناس يعظمون أمره ويكثرون ذكره ويسمونه قائد الشهداء فلما وصل إلى المعتضد عاتبه على تركه التحرز فاعتذر ولم يبرح حتى رضى عنه. وسأله عن خبره فعرفه جميعه وبلغه ما قال القرمطي فقال: صدق ما أخذ شيئاً كان في أيدينا. وأطرق مفكرا ثم رفع رأسه وقال: كذب عدو الله الكافر المسلمون رعيتي حيث كانوا من بلاد الله والله لئن طال بي عمري لأشخصن بنفسي إلى البصرة وجميع غلماني ولأوجهن إليه جيشاً كثيفا فإن هزمه وجهت جيشا فإنه هزمه خرجت في جميع قوادي وجيشي إليه حتى يحكم الله بيني وبينه. فشغل المعتضد عن القرمطي بأمر وصيف غلام أبي الساج. ثم توفي في ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين وما يزال يذكر أبا سعيد الجنابي في مرضه ويتلهف ويقول: حسرة في نفسي كنت أحب أن أبلغها قبل موتي والله لقد كنت وضعت عند نفسي أن أركب ثم أخرج نحو البحرين ثم لا ألقى أحدا أطول من سيفي إلا ضربت عنقه وإني أخاف وأقبل أبو سعيد بعد إطلاق العباس على جمع الخيل وإعداد السلاح ونسج الدروع والمغافر واتخاذ الإبل وإصلاح الرجال وضرب السيوف والأسنة واتخاذ الروايا والمزاد والقرب وتعليم الصبيان الفروسية وطرد الأعراب من قريته وسد الوجوه التي يتعرف منها أمر بلده وأحواله بالرجال وإصلاح أراضي المزارع وأصول النخل وإصلاح مثل هذه الأمور وتفقدها ونصب الأمناء على ذلك وأقام العرفاء على الرجال واحتاط على ذلك كله حتى بلغ من تفقده أن الشاة إذا ذبحت يتسلم العرفاء اللحم ليفرقوه على من ترسم لهم ويدفع الرأس والأكارع والبطن إلى العبيد والإماء ويجز الصوف والشعر من الغنم ويفرقه على من يغزله ثم يدفعه إلى من ينسجه عبيا وأكسية وغرائر وجوالقات ويفتل منه حبال ويسلم الجلد إلى الدباغ ثم إلى خرازى القرب والروايا والمزاد وما كان من الجلود يصلح نعالا وخفا فأعمل منه ثم يجمع ذلك كله إلى خزائن. فكان ذلك دأبه لا يغفله ويوجه كل قليل خيلا إلى ناحية البصرة فتأخذ من وجدت وتصير بهم إليه ويستعبدهم فزادت بلاده وعظمت هيبته في صدور الناس. وواقع بني ضبة وقائع مشهورة فظفر بهم وأخذ منهم خلقا وبنى لهم حبسا عظيما جمعهم فيه وسده عليهم ومنعهم الطعام والشراب فصاحوا فلم يغثهم فمكثوا على ذلك شهرا ثم فتح عليهم فوجد أكثرهم موتى ويسيرا بحال الموتى وقد تغذوا بلحوم الموتى فحصاهم وخلاهم فمات أكثرهم. وكان قد أخذ من عسكر العباس خادما له جعله على طعامه وشرابه فمكث مدة طويلة لا يرى أبا سعيد فيها مصليا صلاةً واحدة ولا يصوم في شهر رمضان ولا في غيره فأضمر الخادم قتله حتى إذا دخل الحمام معه وكانت الحمام في داره فأعد الخادم خنجرا ماضيا والحمام خال فلما تمكن منه ذبحه ثم خرج فقال: يدعى فلان لبعض بني سنبر فأحضر فلما دخل قبضه وذبحه فلم يزل ذلك دأبه حتى قتل جماعةً من الرؤساء والوجوه فدخل آخرهم فإذا في البيت الأول دم جار فارتاب وخرج مبادرا وأعلم الناس فحصروا الخادم حتى دخلوه فوجدوا الجماعة صرعى وذلك في سنة إحدى وثلاثمائة وقيل اثنتين وثلاثمائة وكان قتله بأحساء من البحرين. وكانت سنه يوم قتله نيفا وستين سنة. وترك أبو سعيد من الأولاد: أبا القاسم سعيدا. وأبا طاهر سليمان. وأبا إسحاق إبراهيم. وأبا العباس محمدا. وأبا يعقوب يوسف. وكان أبو سعيد قد جمع رؤساء دولته وأوصى إن حدث به موت يكون القيم بأمرهم سعيد ابنه إلى أن يكبر أبو طاهر وكان أبو طاهر أصغر سنا من سعيد فإذا كبر أبو طاهر كان المدبر فلما قتل جرى الأمر على ذلك. وكان قد قال لهم سيكون الفتوح له فجلس سعيد يدبر الأمر بعد قتل أبيه وأمر فشد الخادم بحبال وقرض لحمه بالمقاريض حتى مات فلما كان في سنة خمس وثلاثمائة سلم سعيد إلى أخيه أبي طاهر سليمان الأمر فعظموا أمره. وكان ابتداء أمر أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي بالقطيف وما والاها في سنة ست وثمانين ومائتين فكانت مدته نحو خمس عشرة سنة. الصناديقي وفيها استولى النجار أبو القاسم الحسن بن فرج الصناديقي على اليمن وكانت جيوشه بالمذيخرة وسهفنة وكان ابن أبي الفوارس أحد دعاة عبدان أنفذه داعيا إلى اليمن وكان من أهل النرس موضع يعمل فيه الثياب النرسي وكان يعمل من الكتان فصار إلى اليمن ودخل في دعوته خلق كثير فأظهر العظائم وقتل الأطفال وسبا النساء وتسمى برب العزة وكان يكاتب بذلك وأعلن سب النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء واتخذ دارا خاصة سماها دار الصفوة يجتمع فيها النساء ويأمر الرجال بمخالطتهن ووطئهن ويحفظ من تحبل منهن في تلك الليلة ومن تلد من ذلك ويتخذ تلك الأولاد لنفسه خولاً ويسميهم أولاد الصفوة. قال بعضهم: دخلت إليها لأنظر فسمعت امرأة تقول: يا بني فقال: يا أمة نريد أن نمضي أمر ولي الله فينا. وكان يقول: إذا فعلتم هذا لم يتميز مال من مال ولا ولد من ولد فتكونوا كنفس واحدة. فعظمت فتنته باليمن وأجلى أكثر أهله عنه وأجلى السلطان وقاتل أبا القاسم محمدا ابن يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم الحسني الهادي وأزاله عن عمله من صعدة ففر منه بعياله إلى الرس ثم أظفره الله به فهزمه بأمر إلهي وهو أن الله جلت قدرته ألقى على عسكره وقد بايته برداً وثلجا قتل به أكثر أصحابه في ليلة واحدة وقلما عرف مثل ذلك في تلك الناحية. وسلط الله عليه الأكلة وذلك أن القاسم أنفذ إليه طبيبا بمبضع مسموم فصده به فقتله وأنزل الله بالبلدان التي غلب عليها بثراً يخرج في كتف الرجل منهم بثرة فيموت سريعا فسمى ذلك البثر بتلك البلاد حبة القرمطي مدة من الزمان. وأخرب الله أكثر تلك البلاد التي ملكها وأفنى أهلها بموت ذريع فاعتصم ابنه بجبال وأقام بها وكاتب أهل دعوتهم وعنون كتبه: من ابن رب العزة. فأهلكه الله وبقي منهم بقية فاستأمنوا إلى القاسم بن أحمد الهادي ولم يبق للنجار لعنه الله ولا لمن كان على دعوته بقية. وكان قرمط يكاتب من بسلمية فلما مات من كان في وقته وخلفه ابنه من بعده كتب إلى قرمط فأنكر منه أشياء فاستراب وبعث ابن مليح أحد دعاته ليعرف الخبر فامتنع فأنفذ عبدان وعرف موت الذي كانوا يكاتبونه فسأل ابنه عن الحجة ومن الإمام الذي يدعو إليه فقال الابن: ومن الإمام فقال عبدان: محمد بن إسماعيل بن جعفر صاحب الزمان. فأنكر ذلك وقال: لم يكن إمام غير أبي وأنا أقوم مقامه. فرجع عبدان إلى قرمط وعرفه الخبر فجمع الدعاة وأمرهم بقطع الدعوة حنقا من قول صاحب سلمية: لا حق لمحمد بن إسماعيل في هذا الأمر ولا إمامة. وكان قرمط إنما يدعو إلى إمامة محمد بن إسماعيل فلما قطعوها من ديارهم لم يمكنهم قطعها من غير ديارهم لأنها امتدت في سائر الأقطار ومن حينئذ قطع الدعاة مكاتبة الذين كانوا بسلمية. وكان رجل منهم قد نفذ إلى الطالقان يبث الدعوة فلما انقطعت المكاتبة طال انتظاره فشخص يسأل عن قرمط فنزل على عبدان بسواد الكوفة فعتبه وعتب الدعاة في انقطاع كتبهم فعرفه عبدان قطعهم الدعوة وأنهم لا يعودون فيها وأنه تاب من هذه الدعوة حقيقة فانصرف عنه إلى زكرويه بن مهرويه ليدعو كما كان أبوه ويجمع الرجال فقال زكرويه: إن هذا لا يتم مع عبدان لأنه داعي البلد كله والدعاة من قبله والوجه أن نحتال على عبدان حتى نقتله. وباطن على ذلك جماعة من قرابته وثقاته وقال لهم: إن عبدان قد نافق وعصى وخرج من الملة. فبيتوه ليلا وقتلوه فشاع ذلك وطلب الدعاة وأصحاب قرمط زكرويه بن مهرويه ليقتلوه فاستتر وخالفه القوم كلهم إلا أصل دعوته وتنقل في القرى وذلك في سنة ست وثمانين والقرامطة تطلبه إلى سنة ثمان وثمانين فأنفذ ابنه الحسن إلى الشام ومعه من القرامطة رجل يقال له أبو الحسين القاسم بن أحمد وأمره أن يقصد بني كلاب وينتسب إلى محمد بن إسماعيل ويدعوهم إلى الإمام من ولده فاستجاب له فخذ من بني العليص ومواليهم وبايعوه فبعث إلى زكرويه يخبر بمن استجاب له بالشام فضم إليه ابن أخيه فتسمى بالمدثر لقبا وبعبد الله اسما وتأول أنه المذكور في القرآن بالمدثر ويقال إن المدثر هذا اسمه عيسى بن مهدي وأنه تسمى عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل ابن جعفر الصادق وعهد إليه صاحب الخال من بعده وغلاما من بني مهرويه يتلقب بالمطوق وكان سيافا وكتب إلى ابنه الحسن يعرفه أنه ابن الحجة ويأمره بالسمع والطاعة له وابن الحجة هذا ادعى أنه محمد بن عبد الله وقيل علي بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وأنكر قوم هذا النسب وقالوا إنما اسمه يحيى بن زكرويه بن مهرويه وكنيته أبو القاسم ويلقب بالشيخ ويعرف بصاحب الناقة وبصاحب الجمل وهو أخو صاحب الخال القائم من بعده فسار حتى نزل في بني كليب فلقيه الحسن بن زكرويه وسر به وجمع له الجمع وقال: هذا صاحب الإمام فامتثلوا أمره وسروا به فأمرهم بالاستعداد للحرب وقال: قد أظلكم النصر ففعلوا واتصلت أخبارهم بشبل الديلمي مولى المعتضد في سنة تسع وثمانين فقصدهم فحاربوه وقتلوه في عدة من أصحابه بالرصافة من غربي الفرات ودخلوها فأحرقوا مسجدها ونهبوا. وساروا نحو الشام يقتلون ويحرقون القرى وينهبونها إلى أن وردوا أطراف دمشق وكان عليها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون فبرز إليهم فهزموه وقتل كثير من أصحابه والتجأ إلى دمشق فحصروه وقاتلوه. وكان القرمطي يحضر الحرب على ناقة ويقول لأصحابه: لا تسيروا من مصافكم حتى تنبعث بين أيديكم فإذا سارت فاحملوا فإنه لا ترد لكم راية إذ كانت مأمورة. فسمى بذلك: صاحب الناقة فأقام طغج سبعة أشهر محصورا بدمشق فكتب إلى مصر بأنه محصور وقد قتل أكثر أصحابه وضرب البلد فأنفذ إليه بدر الكبير غلام ابن طولون المعروف بالحمامي فسار حتى قرب من دمشق فاجتمع هو وطغج على محاربة القرمطي بقرب دمشق فقتل القرمطي واحتمى أصحابه وانحازوا فمضوا وكان القرمطي قد ضرب دراهم ودنانير وكتب عليها: قل جاء الحق وزهق الباطل. فلما انصرف القرامطة عن دمشق وقد قتل محمد بن عبد الله صاحب الناقة بايعوا الحسن بن زكرويه وهو الذي يقال له أحمد بن عبد الله ويقال عبد الله بن أحمد بن محمد ابن إسماعيل بن جعفر الصادق ويعرف بصاحب الخال فسار بهم وافتتح عدة مدن من الشام وظهر على حمص وقتل خلقا وتسمى بأمير المؤمنين المهدي على المنابر وفي كتبه وذلك في سنة تسع وثمانين وبعض سنة تسعين. ثم صاروا إلى الرقة فخرج إليهم مولى المكتفي وواقعهم فهزموه وقتلوه واستباحوا عسكره ورجعوا إلى دمشق وهم ينهبون جميع ما يمرون به من القرى ويقتلون ويسبون فخرج إليهم جيش كثيف عليه بشير غلام طغج وقاتلهم حتى قتل في خلق من أصحابه. واتصل ذلك بالمكتفي بالله فندب أبا الأغر السلمى في عشرة آلاف وخلع عليه لثلاث عشرة بقيت من ربيع الآخر سنة تسعين فسار حتى نزل حلب ثم خرج فوافاه جيش القرامطة غفلة يقدمهم المطوق فانهزم أبو الأغر وركبت القرامطة أكتاف الناس يقتلون ويأسرون حتى حجز بينهم الليل وقد أتوا على عامة العسكر ولحق أبو الأغر بطائفة من أصحابه فالتجأوا بحلب وصار في نحو الألف فنازله القرامطة فلم يقدروا منه على شيء فانصرفوا. وجمع الحسن بن زكرويه بن مهرويه أصحابه وسار بهم إلى حمص فخطب له على منابرها. ثم سار إلى سلمية فحارب أهلها وامتنعوا منه فأمنهم ودخلها فبدأ بمن فيها من بني هاشم وكانوا جماعة فقتلهم. ثم كر على أهلها فقتلهم أجمعين وخربها وخرج عنها وما بها عين تطرف فلم يمر بقرية إلا أخربها ولم يدع فيها أحدا فخرب البلاد وقتل الناس ولم يقاومه أحد وفنيت رجال طغج وبقي في عدة يسيرة فكانت القرامطة تقصد دمشق فلا يقاتلهم إلا العامة وقد أشرفوا على الهلكة فكثر الضجيج ببغداد واجتمعت العامة إلى يوسف بن يعقوب القاضي وسألوه إنهاء الخبر إلى السلطان. ووردت الكتب من مصر إلى المكتفي بخبر قتل عسكرهم الذي خرج إلى الشام بيد القرامطة وخراب الشام فأمر المكتفي الجيش بالاستعداد وخرج إلى مضربه في القواد والجند لاثنتي عشرة خلت من رمضان ومضى نحو الرقة بالجيوش حتى نزلها وانبثت الجيوش بين حلب وحمص وقلد محمد بن سليمان حرب الحسن بن زكرويه واختار له جيشا كثيفا وكان صاحب ديوان العطاء . وعارض الجيش فسار إليهم والتقاهم لست خلون من المحرم سنة إحدى وتسعين ومائتين بموضع بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا فاقتتلوا قتالا شديدا حتى حجز الليل بينهم وقتل عامة رجال وكان الحسن بن زكرويه لما أحس بالجيوش اصطفى مقاتلة ممن معه ورتب أحوالهم فلما انهزم أصحابه رحل من وقته وتلاحق به من أفلت فقال لهم: أتيتم من قبل أنفسكم وذنوبكم وأنكم لم تصدقوا الله وحرضهم على المعاودة إلى الحرب فاعتلوا بفناء الرجال وكثرة الجراح فيهم فقال لهم: قد كاتبني خلق من أهل بغداد بالبيعة لي ودعاتي بها ينتظرون أمري وقد خلت من السلطان الآن وأنا شاخص نحوها لأظهر بها ومستخلف عليكم أبا الحسين القاسم بن أحمد صاحبي وكتبي ترد عليه بما يعمل فاسمعوا وأطيعوا. فضمنوا ذلك له وشخص معه قريبه عيسى ابن أخت مهرويه المسمى بالمدثر وصاحبه المعروف بالمطوق وغلام له رومى وأخذ دليلا يرشدهم إلى الطريق فساروا يريدون سواد الكوفة وسلك البر وتجنب القرى والمدن حتى صار قريبا من الرحبة بموضع يقال له الدالية فأمر الدليل فمال بهم إليها ونزل بالقرب منها خلف رابية ووجه بعض من معه لابتياع ما يصلحه فدخل القرية فأنكر بعض أهلها زيه وسأله عن أمره فورى وتلجلج فارتاب به وقبض عليه وأتى به واليها ويقال له أبو خبزة يخلف أحمد بن كشمرد صاحب الحرب بطريق الفرات والدالية قرية من عمل الفرات فسأله أبو خبزة ورهب عليه فعرفه أن القرمطي الذي خرج الخليفة المكتفي في طلبه خلف رابية أشار إليها فسار الوالي مع جماعة بالسلاح فأخذوهم وشدوهم وثاقا وتوجه بهم إلى ابن كشمرد فصار بهم إلى المكتفي وهو بالرقة فشهرهم بالرقة وعلى الحسن بن زكرويه دراعة ديباج وبرنس حرير وعلى المدثر دراعة وبرنس حرير وذلك لأربع بقين من المحرم. وقدم محمد بن سليمان بجيوشه إلى الرقة ومعه الأسرى فخلف المكتفي عساكره مع محمد ابن سليمان بالرقة وشخص في خاصته وغلمانه وتبعه وزيره القاسم بن عبيد الله إلى بغداد ومعه القرمطي وأصحابه. فلما صار إلى بغداد عمل له كرسي سمكه ذراعان ونصف وركب على فيل وأركب عليه ودخل المكتفي وهو بين يده مع أصحابه الأسرى وذلك ثالث ربيع الأول ثم سجنوا. فلما وصل محمد بن سليمان ببقية القرامطة لاثنتي عشرة خلت منه أمر المكتفي القواد بتلقيه والدخول معه فدخل في زي حسن وبين يديه نيف وسبعون أسيرا فخلع عليه وطوق بطوق من ذهب وسور سوارين من ذهب وخلع على جميع من كان معه القواد وطوقوا وسوروا. وأمر المكتفي ببناء دكة في الجانب الشرقي من مربعة ذرعها عشرون ذراعا في مثلها وارتفاعها عشرة أذرع يصعد إليها بدرج فلما كان لأربع بقين منه خرج القواد والعامة وحمل وقدم الحسن بن زكرويه وعيسى ابن أخت مهرويه إلى أعلى الدكة ومعهما أربعة وثلاثون إنساناً من قبل وجوه القرامطة ممن عرف بالنكاية وكان الواحد منهم يبطح على وجهه وتقطع يده اليمنى فيرمى بها إلى أسفل ليراها الناس ثم تقطع رجله اليسرى ثم رجله اليمنى ويرمى بهما ثم يضرب عنقه ويرمى بها. ثم قدم المدثر ففعل به كذلك بعد ما كوى ليعذب وضربت عنقه. ثم قدم الحسن بن زكرويه فضرب مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى وضربت عنقه ورفع رأسه على خشبة وكبر من على الدكة فكبر الناس وانصرفوا. وحملت الرءوس فصلبت على الجسر وصلب بدن القرمطي فمكث نحو سنة. |
12-21-2012, 08:41 PM | #11 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
من كتب الحسن بن زكرويه إلى عماله
ومن كتب الحسن بن زكرويه إلى عماله ما هذه نسخته بعد البسملة: من عند المهدي المنصور بالله الناصر لدين الله القائم بأمر الله الحاكم بحكم الله الداعي إلى كتاب الله الذاب عن حرم الله المختار من ولد رسول الله أمير المؤمنين وإمام المسلمين ومذل المنافقين وخليفة الله على العالمين وحاصد الظالمين وقاصم المعتدين ومبيد الملحدين وقاتل القاسطين ومهلك المفسدين وسراج المستبصرين وضياء المستضيئين ومشتت المخالفين والقيم بسنة سيد المرسلين وولد خير الوصيين صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم كثيراً . سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد جدي رسول الله. أما بعد: فقد أنهى إلينا ما حدث قبلك من أخبار أعداء الله الكفرة وما فعلوه بناحيتك من الظلم والعبث والفساد في الأرض فأعظمنا ذلك ورأينا أن ننفذ إلى ما هنالك من جيوشنا من ينتقم الله به من أعدائه الظالمين الذين يسعون في الأرض فسادا فأنقذنا عطيراً داعيتنا وجماعة من المؤمنين إلى مدينة حمص وأمددناهم بالعساكر ونحن في أثرهم وقد أوعزنا إليهم في المصير إلى ناحيتك لطلب أعداء الله حيث كانوا ونحن نرجو أن يجزينا الله فيهم على أحسن عوائده عندنا في أمثالهم. فينبغي أن تشد قلبك وقلوب من اتبعك من أوليائنا وتثق بالله وبنصره الذي لم يزل يعودنا في كل من مرق عن الطاعة وانحرف عن الإيمان وتبادر إلينا بأخبار الناحية وما يحدث فيها ولا تخف عنا شيئا من أمرها إن شاء الله. سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على جدي محمد رسوله وعلى أهل بيته وسلم كثيرا. وسلم القاسم بن أحمد أبو الحسين خليفة الحسن بن زكرويه فقدم سواد الكوفة إلى زكرويه بن مهرويه فأخبره بخبر القوم الذين استخلفهم ابنه عليهم وأنهم اضطربوا فخافهم وتركهم فلامه زكرويه على قدومه لوما شديدا وقال له: ألا كاتبتني قبل انصرافك إلي. ووجده مع ذلك على خوف شديد من طلب السلطان ومن طلب أصحاب عبدان. ثم إنه أعرض عن أبي الحسين وأنفذ إلى القوم في سنة ثلاث وتسعين رجلا من أصحابه كان معلما يقال له محمد بن عبد الله بن سعيد ويكنى بأبي غانم فتسمى نصرا ليعمى أمره وأمره أن يدور أحياء كلب ويدعوهم فدار ودعاهم فاستجاب له طوائف من الأصبغيين ومن بني العليص فسار بهم نحو الشام وعامل المكتفي بالله يومئذ على دمشق والأردن أحمد بن كيغلغ وهو بمصر في حرب ابن الخليج فاغتنم ذلك محمد ابن عبد الله المعلم وسار إلى بصرى وأذرعات فحارب أهلها وسبى ذراريهم وأخذ جميع أموالهم وقتل مقاتلنهم وسار يريد دمشق فخرج إليه جيش مع صالح بن الفضل خليفة أحمد بن كيغلغ فظهروا عليه وقتلوا عسكره وأسروه فقتلوه وهموا بدخول دمشق فدافعهم أهلها فمضوا إلى طبرية فكانت لهم وقعة على الأردن غلبوا فيها ونهبوا طبرية وقتلوا وسبوا النساء. فبعث المكتفي بالحسين بن حمدان في طلبهم مع وجوه من القواد فدخل دمشق وهم بطبرية فساروا نحو السماوة وتبعهم ابن حمدان في البرية فأخذوا يغورون ما يرتحلون عنه من الماء فانقطع ابن حمدان عنهم لعدم الماء ومال نحو رحبة مالك بن طوق فأسرى القرامطة إلى هيت وأغاروا عليها لتسع بقين من شعبان سنة ثلاث وتسعين ونهبوا الربض والسفن التي في الفرات وقتلوا نحو مائتي إنسان. ثم رحلوا بعد يومين بما غنموه فأنفذ المكتفي إلى هيت محمد بن إسحاق بن كنداج في جماعة من القواد بجيش كثيف وأتبعه بمؤنس فإذا هم قد غوروا المياه فأنفذ إليهم من بغداد بالروايا والزاد وكتب إلى ابن حمدان بالنفوذ إليهم من الرحبة. فلما أحسوا بذلك ائتمروا بصاحبهم المعلم ووثب عليه رجل من أصحابه يقال له الذئب بن القائم فقتله وشخص إلى بغداد متقربا بذلك فأسنيت له الجائزة وكف عن طلب قومه وحملت رأس القائم المسمى بنصر المعلم إلى بغداد. ثم إن قوما من بني كلب أنكروا فعل الذئب وقتله المعلم ورضيه آخرون فاقتتلوا قتالا شديدا وافترقوا فرقتين فصارت الفرقة التي رضيت قتل المعلم إلى عين التمر وتخلفت الأخرى وبلغ ذلك زكرويه وأحمد بن القاسم عنده فرده إليهم فلما قدم عليهم جمعهم ووعظهم وقال: أنا رسول وليكم وهو عاتب عليكم فيما أقدم عليه الذئب بن القائم وأنكم قد ارتددتم عن الدين. فاعتذروا وحلفوا ما كان ذلك بمحبتهم وأعلموه بما كان بينهم من الخلف والحرب فقال لهم: قد جئتكم الآن بما لم يأتكم به أحد تقدمني يقول لكم وليكم: قد حضر أمركم وقرب ظهوركم وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفا ومن أهل سوادها أكثر وموعدكم اليوم الذي ذكره الله في شأن موسى صلى الله عليه وسلم وعدوه فرعون إذ يقول: موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فأجمعوا أمركم وسيروا إلى الكوفة فإنه لا دافع لكم عنها ومنجز وعدي الذي جائتكم به رسلي. فسروا بذلك وارتحلوا نحو الكوفة فنزلوا دونها بستة وثلاثين ميلا قبل يوم عرفة بيوم من سنة ثلاث وتسعين فخلفوا هناك الخدم والأموال وأمرهم أن يلحقوا به على ستة أميال من القادسية. ثم شاور الوجوه من أصحابه في طروق الكوفة أي وقت فاتفقوا على أن يكمنوا في النجف فيريحوا الخيل والدواب ثم يركبوا عمود الصبح فيشنوها غارةً والناس في صلاة العيد. فركبوا وساروا ثم نزلوا فناموا فلم يوقظهم إلا الشمس يوم العيد لطفاً من الله بالناس فلم يصلوا إلى الكوفة إلا وقد انقضت الصلاة وانصرف الناس وهم متبددون في ظاهر الكوفة ولأمير البلد طلائع تتفقد وكان قد أرجف في البلد بحدوث فتن فأقبلوا ودخلت خيل منهم الكوفة فوضعوا السيف وقتلوا كثيرا من الناس وأحرقوا فارتجت الكوفة وخرج الناس بالسلاح وتكاثروا عليهم يقذفونهم بالحجارة فقتلوا منهم عدةً وأقبل بقيتهم فخرج إليهم إسحق بن عمران في يسير من الجند وتلاحق به الناس فاقتتلوا قتالا شديدا في يوم صائف شديد الحر فانصرف القرامطة مكدودين فنزلوا على ميلين من الكوفة ثم ارتحلوا عشاء نحو سوادهم واجتازوا بالقادسية وقد تأهبوا لحربهم فانصرفوا عنها وبعث أمير الكوفة بخبر ذلك إلى بغداد. وسار القرامطة إلى سواد الكوفة فاجتمع أحمد بن القاسم بزكرويه بن مهرويه وكان مستترا فقال للعسكر: هذا صاحبكم وسيدكم ووليكم الذي تنتظرونه. فترجل الجميع وألصقوا خدودهم بالأرض وضربوا لزكرويه مضربا عظيما وطافوا به وسروا سروراً عظيما واجتمع إليهم أهل دعوته من السواد فعظم الجيش جدا. وسير المكتفي جيشا عظيما فساروا بالأثقال والبنود والبزاة على غير تعبئة مستخفين بالقوم فوصلوا وقد تعب ظهرهم وقل نشاطهم فلقيهم القرامطة وقاتلوهم وهزموهم ووضعوا فيهم السيوف فقتل الأكثر ونجا الأقل إلى القادسية فأقاموا في جمع الغنائم ثلاثاً فكان من قتل من الجيش نحو الألف وخمسمائة فقويت القرامطة بما غنموا وبلغ المكتفي فخاف على الحاج وبعث محمد ابن إسحاق بن كنداج لحفظ الحاج وطلب القرامطة وضم إليه خلقا عظيما. فسار القرامطة وأدركوا الحاج فأخذوا الخراسانية لإحدى عشرة خلت من المحرم سنة أربع وتسعين ووضعوا فيهم السيف وقتلوا خلقا عظيما واستولى زكرويه على الأموال. وقدم ابن كنداج فأقام بالقادسية وقد أدركه من هرب من حاج خراسان وقال: لا أغدر بجيش السلطان. وقدمت قافلة الحاج الثانية والثالثة فقاتلوا القرامطة قتالا شديدا حتى غلبوا وقتل كثير من الحاج واستولوا على جميع ما في القافلة وأخذوا النساء ولم يطلقوا منهم إلا من لا حاجة لهم فيها ومات كثير من الحاج عطشاً ويقال إنه هلك نحو من عشرين ألفا فارتجت بغداد لذلك. وأخرج المكتفي الأموال لإنفاذ الجيوش من الكوفة لإحدى عشرة بقيت من المحرم . وخزائن السلاح. ورحل زكرويه فلم يدع ماء إلا طرح فيه جيف القتلى وبث الطلائع فوافته القافلة التي فيها القواد والشمسة وكان المعتضد جعل فيها جوهرا نفيسا ومعهم الخزانة ووجوه الناس والرؤساء ومياسير التجار وفيها من أنواع المال ما يخرج عن الوصف فناهضهم زكرويه بالهبير وقاتلهم يومه فأدركتهم قافلة العمرة وكان المعتمرون يتخلفون للعمرة بعد خروج الحاج ويخرجون إذا دخل المحرم ويتفردون قافلة وانقطع ذلك من تلك السنة فاجتمع الناس وقاتلوا يومهم وقد نفد الماء فملك القافلة وقتل الناس وأخذ ما فيها من حريم ومال وغيره وأفلت ناس فمات أكثرهم عطشا وسار فأخذ أهل فيد. وأما بغداد فإنه حصل بها وبالكوفة وجميع العراق مصاب بحيث لم يبق دار إلا وفيها مصيبة وعبرة سائلة وضجيج وعويل واعتزل المكتفي النساء هما وغما وتقدم بالمسير خلف زكرويه وأنفذ الجيوش فالتقوا مع زكرويه لسبع بقين من ربيع الأول فاقتتلوا قتالا شديدا صبر فيه الفريقان حتى انهزم زكرويه وقتل أكثر من معه وأسر منهم خلق كثير وطرحت النار في قبته فخرج من ظهرها وأدركه رجل فضربه حتى سقط إلى الأرض فأدركه رجل يعرفه. فأركبه نجيباً فارهاً وسار به إلى نحو بغداد فمات من جراحا كانت به وصبر وأدخل به إلى بغداد ميتا فشهر كذلك ومه حرمه وحرم أصحابه وأولادهم أسرى ورءوس من قتل بين يديه في الجوالقات ومات خبر القرامطة بموت زكرويه. ودعوتهم ذكرها شائع. سنة خمس وتسعين ومائتين خرج رجل من السواد من الظط يعرف بأبي حاتم الظطي فقصد أصحاب البوراني داعيا وهم يعرفون بالبورانية وحرم عليها الثوم والبصل والكرات والفجل وحرم عليهم إراقة الدم من جميع الحيوان وأمرهم أن يتمسكوا بمذهب البوراني وأمرهم بما لا يقبله إلا أحمق وأقام فيهم نحو سنة ثم زال فاختلفوا بعده فقالت طائفة: زكرويه بن مهرويه حي وإنما شبه على الناس به. وقالت فرقة: الحجة لله محمد بن إسماعيل. ثم خرج رجل من بني عجل قرمطي يقال له محمد بن قطبة فاجتمع عليه نحو مائة رجل فمضى بهم نحو واسط فنهب وأفسد فخرج إليه آمر الناحية فقتلهم وأسرهم. ثم خمدت أحوال القرامطة إلى أن تحرك أبو طاهر بن أبي سعيد الجنابي وعمل على أخذ البصرة سنة عشر وثلاثمائة فعمل سلالم عراضا يصعد على كل مرقاة اثنان سورافيت إذا احتيج إليها نصبت وتخلع إذا حملت فرحل يريد البصرة فلما قاربها فرق السلاح وحشى الغرائر بالرمل وحملها على الجمال فسار إلى السور قبل الفجر فوضع السلالم وصعد عليها قوم ونزلوا فوضعوا السيف وكسروا الأقفال فدخل الجيش فأول ما عملوا أن طرحوا الرمل المحمول في الأبواب ليمنع من غلقها وبدر لهم الناس ومعهم الأمير فقاتلوا وقتل الأمير فأقاموا النهار يقتتلون حتى حجز بينهم الظلام فخرجوا وقد قتل من الناس مقتلة عظيمة فباتوا ثم باكروا البلد فقاتلوا ونهبوا. ثم رحلوا إلى الأحساء فأنفذ السلطان عسكراً وكان أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان قد قلد أعمال الكوفة والسواد وطريق مكة فدخل في أثرهم وأسر منهم وعاد. فلما قدمت قوافل الحاج اعترضها أبو طاهر القرمطي فقتل منهم وأدركهم أبو الهيجاء ابن حمدان بجيوش كثيرة فحملت القرامطة عليهم فهزموهم وأخذ أبو الهيجاء أسيرا فلما رآه أبو طاهر تضاحك وقال له: جئناك عبد الله ولم نكلفك قصدنا. فتلطف له أبو الهيجاء حتى استأمنه وأمر بتمييز الحاج وعزل الجمالين والصناع ناحية فأخذوا ما مع الحاج وخلوهم فردوا بشر حال في صورة الموتى ورحل من الغد من بعد أن أخذ من أبي الهيجاء وحده نحو عشرين ألف دينار مع أموال لا تحصى كثرة ثم أطلق أبا فلما كان في سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة خرج من بغداد جيش كثيف لحفظ الحاج فلقي أبو طاهر القرمطي الحاج بالعقبة فرجع الحاج إلى الكوفة فتبعهم القرمطي حتى نزل بظاهرها لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة فناوشه الناس وانكفأ راجعاً ثم باكرهم بالقتال وخرجت إليه جيوش السلطان فقاتلهم وهزمهم وقتل قوادهم وكثيرا من العامة ونهب البلد إلى العشرين منه فرحل عن البلد. فلما كان في سنة خمس عشرة وثلاثمائة خرج القرمطي من بلده لقتال ابن أبي الساج وقد كان السلطان أنزله في جيش كثير بواسط ليسير إلى بلد القرمطي فاستصعب مسيره لكثرة من معه وثقل عليه سيره في أرض قفر فاحتال على القرمطي وكاتبه باظهار المواطأة وأطمعه في أخذ بغداد ومعاضدته فاغتر بذلك ورحل بعيال وحشم وأتباع وجيشه على أقوى ما يمكنه وأقبل يريد الكوفة. ورحل ابن أبي الساج بجيشه عن واسط إلى الكوفة وقد سبقه القرمطي ودخلها لسبع خلون من شوال فاستولى عليها وأخذ منها الميرة وأعد ما يحتاج إليه وأقبل ابن أبي الساج على غير تعبئة وعبر مستهينا بأمر القرمطي مستحقرا له ثم واقعه وهو في جيش يضيق عنه موضعه ولا يملك تدبيره وقد تفرق عنه عسكره وركبوا من نهب القرى وأذى الناس وإظهار الفجور شيئا كثيرا فأقبل إليه القرمطي وقاتله فانهزمت عساكر ابن أبي الساج بعد ما كثرت بينهما القتلى والجراح فقتلوا الناس قتلا ذريعاً حتى صاروا في بساط واحد نحو فرسخين أو أربع واحتوى على عسكره ونهب الأكرة من أهل السواد ما قدروا عليه وأقام أربعين يوماً وخرج بعد أن يئس من مجيء عسكر إليه فقصد بغداد ونزل بسواد الأنبار وعبر الفرات إلى الجانب الغربي وتوجه بين الفرات ودجلة يريد بغداد فجيش الجيش إليه وسار مؤنس حتى نازله على نحو ثلاثة فراسخ من بغداد وقاتل القرامطة قتالا شديداً وورد كتاب المقتدر يأمر مؤنسا بمعاجلته القتال ويذكر ما لزم من صرف الأموال إلى وقت وصوله. فكتب إليه: إن في مقامنا أطال الله بقاء مولانا نفقة المال وفي لقائنا نفقة الرجال ونحن أحرياء باختيار نفقة المال على نفقة الرجال. ثم أنفذ إلى القرمطي يقول له: ويلك ظننتني كمن لقيك أبرز لك رجالي والله ما يسرني أن أظفر بك بقتل رجل مسلم من أصحابي ولكني أطاولك وأمنعك مأكولا ومشروبا حتى آخذك أخذاً بيدي إن شاء الله. وأنفذ يلبق في جيش للإيقاع بمن في قصر ابن هبيرة فعظم ذلك على القرمطي فاضطرب وأخذ أصحابه يحتالون في الهرب وتركوا مضاربهم فنهب مؤنس ما خلفوه وسار جيش القرمطي من غربي الفرات وسار مؤنس من شرقيه إلى أن وافى القرمطي الرحبة ومؤنس يحتال في إرسال زواريق فيها فاكهة مسمومة فكان القرامطة يأخذونها فكثرت الميتة فيهم وكثر بهم الذرب وظهر جهدهم فكروا راجعين وقد قل الظهر معهم فقاتلوا أهل هيت وانصرفوا مفلولين فدخل الكوفة على حال ضعف وجراحات وعلل لثلاث خلون من رمضان سنة ست عشرة وثلاثمائة فأقام بها إلى مستهل ذي الحجة ولم يقتل ولا نهب ثم رحل. فلما كان في سنة سبع عشرة رحل بجيشه فوافى مكة لثمان خلون من ذي الحجة فقتل الناس في المسجد قتلا ذريعا ونهب الكعبة وأخذ كسوتها وحليها ونزع الباب وستائره وأظهر الاستخفاف به وقلع الحجر الأسود وأخذه معه وظن أنه مغناطيس القلوب وأخذ الميزاب أيضا. وعاد إلى بلده في المحرم سنة ثماني عشرة وقد أصابه كد شديد وقد أخذ ستة وعشرين ألف حمل خفا وضرب آلاتهم وأثقالهم بالنار واستملك من النساء والغلمان والصبيان ما ضاق بهم الفضاء كثرةً وحاصرته هذيل فأشرف على الهلكة حتى عدل به دليل إلى غير الطريق المعروف إلى بلده. فلما كان في شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة سار إلى الكوفة فعاث عسكره في السواد وبعث أبو طاهر سرية في البحر نحو أربعين مركبا فوضعوا السيف في أهل الساحل ولم يلقوا أحدا إلا قتلوه من رجل وامرأة وصبي فما نجا منهم إلا من لحق بالجبال وسبوا النساء واجتمع الناس فقتلوا منهم في الحرب معهم خلقا كثيرا وأسروا جماعة ثم تحاملوا عليهم وتبادوا بالشهادة وجدوا فقتلوا أكثرهم وأخذوا جميع من بقى أسرا بحيث لم يفلت منهم أحد وحملت الأسرى إلى بغداد مع الرءوس وهم نحو المائة رجل ومائة رأس فحبسوا ببغداد. ثم خلصوا وصاروا إلى أبي طاهر فكانوا يتحدثون بعد خلاصهم إلى أبي طاهر أن كثيرا من الكبراء وغيرهم كانوا يرسلون إليهم بما يتقربون به إليهم وكان سبب خلاصهم مكاتبة جرت بينهم بالمهادنة على أن يردوا الحجر الأسود ويطلق الأسرى ولا يعترضوا الحاج فجرى الأمر على ذلك. ودخل القرمطي في سنة ثلاث وعشرين إلى الكوفة والحاج قد خرج في ذي القعدة وعاد الحاج إلى الكوفة ولم يقدر على مقاومتهم فظفر بمن ظفر منهم فلم يكثر القتل وأخذ ما وجد. وبلغ القرمطي أن رجلا من أصحابه قال: والله ما ندري ما عند سيدنا أبي طاهر من تمزيق هؤلاء الذين من شرق الأرض وغربها واتخاذهم ومن وراءهم أعداء وما يفوز بأكثر أموالكم إلا الأعراب والشذاذ من الناس فلو أنه حين ظفر بهم دعاهم إلى أن يؤدي كل رجل منهم دينارا ويطلقهم ويؤمنهم لم يكره ذلك منهم أحد وخف عليهم وسهل وحج الناس من كل بلد لأنهم ظمأى إلى ذلك جدا ولم يبق ملك إلا كاتبه وهاداه واحتاج إليه في حفظ أهل بلده وخاصته وجاء في كل سنة من المال ما لا يصير لسلطان مثله من الخراج واستولى على الأرض وانقاد له الناس وإن منع من ذلك سلطان اكتسب المذمة وصار عند الناس هو المانع من الحج. فاستصوب القرمطي هذا الرأي ونادى من وقته في الناس بالأمان وأحضر الخراسانية فوطأ أمرهم على أنهم يحجوا ويؤدوا إليه المال في كل سنة ويكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وأخرج أهل مصر أيضاً عن الحاج ضرائب من مال السلطان ثم ولى تدبير العراق من لم ير ذلك دناءة ولا منقصة فصار لهم على الحاج رسما بالكوفة. فلما كان سنة خمس وعشرين كبس أبو طاهر الكوفة وقبض على شفي اللؤلؤي أميرها بأمان فبعثه إلى السلطان يعرفه أنهم صعاليك لا بد لهم من أموال فإن أعطاهم مالا لم يفسدوا عليه وخدموه فيما يلتمسه وإلا فلا يجدوا بدا من أن يأكلوا بأسيافهم وبر أبو طاهر شفيعاً ووصله فوصل شفيع إلى السلطان وعرفه فبعث إليهم رجلا فناظر القرمطي وملأ صدره من السلطان وأتباعه فزاده انكسارا وسار عن البلد فابتلاه الله بالجدري وقتله فملك التدبير بعده أخوته وابن سنبر. فلما كان في سنة تسع وثلاثين أرادوا أن يستميلوا الناس فحملوا الحجر الأسود إلى الكوفة ونصبوه فيها على الاسطوانة بالجامع. وكان قد جاء عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب زين العابدين : أن الحجر الأسود يعلق في مسجد الجامع بالكوفة في آخر الزمان. ثم قدم به سنبر بن الحسن بن سنبر إلى مكة وأمير مكة معه فلما صار بفناء البيت أظهر الحجر من سفط كان به مصونا وعلى الحجر ضباب فضة قد عملت عليه تأخذه طولا وعرضا تضبط شقوقاً حدثت فيه بعد انقلاعه وكان قد أحضر له صانع معه جص يشد به الحجر وحضر جماعة من حجبة البيت فوضع سنبر بن الحسن بن سنبر الحجر بيده في موضعه ومعه الحجبة وشده الصانع الجص بعد وضعه وقال لما رده: أخذناه بقدرة الله ورددناه بمشيئته. ونظر الناس إليه وقبلوه والتمسوه وطاف سنبر بالبيت. وكان قلع الحجر من ركن البيت يوم الإثنين لأربع عشرة خلت من ذي القعدة سنة سبع عشرة وكان رده يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي الحجة يوم النحر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. فكانت مدة كينونته عند الجنابي وأصحابه اثنين وعشرين سنة إلا أربعة أيام. وكان في سنة ست عشرة وثلاثمائة قد تحركت القرامطة بسواد الكوفة عند انصراف أبي طاهر القرمطي عن بغداد إلى نحو الشام وتداعوا إلى الاجتماع في دار هجرتهم فكثروا وكبسوا نواحي الوسط وقتلوا خلقا كثيرا وملكوا ما حواه العسكر هناك من سلاح وغيره فقوى أمرهم وسار بهم عيسى بن موسى والحجازي وهما داعيان وكان الحجازي بالكوفة يبيع الخبز فصحب يزيد النقاش واجتمع عليهما غلمان وساروا فنهبوا وأخافوا والبلد ضعيف لاتصال الفتن وتخريب البوراني لسواده وضعف يد السلطان وطالبوا جميع أهل السواد بالرحيل إليهم فاجتمعوا نحو العشرة آلاف وفرقوا العمال ورحلوا إلى الكوفة فدخلوها عنوة وهرب واليها وولوا على خراجها وعلى حربها وأحدثوا في الأذان ما لم يكن فيه فأنفذ السلطان إليهم جيشا فواقعهم فانهزموا وقتل منهم ما لا يحصى وغرق منهم وهرب الباقون وحملت الأسرى إلى بغداد فقتلوا وصلبوا وحبس عيسى بن موسى مدة ثم تخلص بغفلة السلطان وحدوث الفتن آخر أيام المقتدر فأقام ببغداد يدعو الناس ووضع كتبا نسبها إلى عبدان الداعي نسبه فيها إلى الفلسفة وأنه يعلم ما يكون قبل كونه فصار له أتباع وأفسد فسادا عظيما وصار له وأما خراسان فقدم إليها بالدعوة أبو عبد الله الخادم فأول ما ظهرت بنيسابور فاستخلف عند موته أبا سعيد الشعراني وصار منهم خلق كثير هناك من الرؤساء وأصحاب السلاح. وانتشرت في الري من رجل يعرف بخلف الحلاج وكان يحلج القطن فصرف بها طائفة الخلفية وهم خلق كثير ومال إليهم قوم من الديلم وغيرهم وكان منهم أسفار فلما قتل مرداويج أسفار عظمت شوكة القرامطة في أيامه بالري وأخذوا يقتلون الناس غيلةً حتى أفنوا خلقا كثيرا. ثم خرج مرداويج إلى جرجان لقتال نصر بن أحمد الساماني فنفر عليهم وقتلهم مع صبيانهم ونسائهم حتى لم يبق منهم أحد وصار بعضهم إلى مفلح غلام ابن أبي الساج فاستجاب له ودخل في دعوته. فلما كان في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وقد استعد الحسن بن عبيد الله بن طغج بالرملة لقتال من يرد عليه من قبل جوهر القائد فورد عليه الخبر بأن القرامطة تقصده ووافت الرملة فهزموا الحسن بن عبيد الله ثم جرى بينهم صلح وصاهر إليهم في ذي الحجة منها فأقام القرمطي بظاهر الرملة ثلاثين يوما ورحل. وسار جعفر بن فلاح من مصر فهزم الحسن بن عبيد الله بن طغج وقتل رجاله وأخذه أسيرا فسار إلى دمشق فنزل بظاهرها فمنعه أهل البلد وقاتلوه قتالا شديدا ثم إنه دخلها بعد حروب وفر منه جماعة منهم ظالم بن موهوب العقيلي ومحمد بن عصودا فلحقا بالأحساء إلى القرامطة وحثوهم على المسير إلى الشام فوقع ذلك منهم بالموافقة لأن الإخشيدية كانت تحمل إليهم في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار فلما صارت عساكر المعز إلى مصر مع جوهر وزالت الدولة الاخشيدية انقطع المال عن القرامطة فسارت. بعد أن بعثوا عرفاءهم لجمع العرب فنزلوا الكوفة وراسلوا السلطان ببغداد فأنفذ إليهم خزانة سلاح وكتب لهم بأربعمائة ألف درهم على أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان ورحلوا إلى الرحبة وعليها أبو تغلب فحمل إليهم العلوفة والمال الذي كتبا به لهم. وجمع جعفر بن فلاح أصحابه واستعد لحربهم فتفرق الناس عنه إلى مواضعهم ولم يفكروا بالموكلين على الطرق وكان رئيس القرامطة الحسن بن أحمد بن أبي سعيد الجنابي فبعث إليه أبو تغلب يقول: هذا شيء أردت أن أسير أنا فيه بنفسي وأنا مقيم في هذا الموضع إلى أن يرد علي خبرك فإن احتجت إلى مسيري سرت إليك. ونادى في عسكره: من أراد المسير من الجند الإخشيدية وغيرهم إلى الشام مع الحسن بن أحمد فلا اعتراض لنا فخرج إلى عسكر القرمطي جماعة من عسكر أبي تغلب وفيهم كثي من الإخشيدية الذين كانوا بمصر صاروا إليه لما دخل جوهر من مصر وفلسطين وكان سبب هذا الفعل من أبي تغلب أن جعفر بن فلاح كان قد أنفذ إليه من طبرية داعيا يقال له أبو طالب التنوخي من أهل الرملة يقول له: إني سائر إليك فنقيم الدعوة فقال له أبو تغلب وكان بالموصل: هذا ما لا يتم لأنا في دهليز بغداد والعساكر قريبة منا ولكن إذا قربت عساكركم من هذه الديار أمكن ما ذكرتم. فانصرف من عنده على غير شيء. وبلغ ذلك القرمطي فسره وزاده قوة وسار عن الرحبة فأشار أصحاب جعفر لما قارب القرامطة دمشق أن يقاتلهم بطرف البرية فخرج إليهم وواقعهم فانهزم وقتل لست خلون من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة. ونزل القرمطي ظاهرة المزة فجبى مالا وسار يريد الرملة وعليها سعادة ابن حيان فالتجأ إلى يافا ونزل عليه القرمطي وقد اجتمعت إليه عرب الشام وأتباع من الجند فناصبها القتال حتى أكل أهلها الميتة وهلك أكثرهم جوعا ثم سار عنها وترك على حصارها ظالم العقيلي وأبا الهيجا بن منجا وأقام القرامطة الدعوة للمطيع لله العباسي في كل بلد فتحوه وسودوا أعلامهم ورجعوا عما كانوا يمخرقون به وأظهروا أنهم كأمراء النواحي الذين من قبل الخليفة العباسي. ونزل على مصر أول ربيع الأول سنة إحدى وستين وثلاثمائة فقاتله جوهر على الخندق وهزمه فرحل إلى الأحساء. وأنفذ جوهر جيشا نحو يافا فملكوها ورحل المحاصرون لها إلى دمشق ونزلوا بظاهرها فاختلف ظالم العقيلي وأبو الهيجا بسبب الخراج فكان كل منهما يريد أخذه للنفقة في رجاله وكان أبو الهيجا أثيرا عند القرمطي يولج إليه أموره ويستخلفه على تدبيره. ورجع الحسن بن أحمد القرمطي من الأحساء فنزل الرملة ولقيه أبو الهيجا وظالم وبلغه ما جرى بينهما من الاختلاف فقبض على ظالم واعتقله مدة ثم خلى عنه. وطرح القرمطي مراكب في البحر وشحنها بالمقاتلة وسيرها إلى تنيس وغيرها من سواحل مصر وجمع من قدر عليه من العرب وغيرهم وتأهب للمسير إلى مصر هذا بعد أن كان القرامطة أولا يمخرقون بالمهدي ويوهمون أنه صاحب المغرب وأن دعوتهم إليه ويراسلون الإمام المنصور إسماعيل بن محمد القائم بن عبيد الله المهدي ويخرجون إلى أكابر أصحابهم أنهم من أصحابه إلى أن افتضح كذبهم بمحاربة القائد جوهر لهم وقتله كثيرا منهم وكسره القبة التي كانت لهم. فلما نزل المعز لدين الله القاهرة عند ما قدم من المغرب وقد تيقن أخبار القرامطة كتب إلى من عبد الله ووليه وخيرته وصفيه معد أبي تميم المعز لدين الله أمير المؤمنين وسلالة خيبر النبيين ونجل على أفضل الوصيين إلى الحسن بن أحمد: بسم الله الرحمن الرحيم رسوم النطقاء ومذاهب الأئمة والأنبياء ومسالك الرسل والأوصياء السالف والآنف منا صلوات الله علينا وعلى آبائنا أولى الأيدي والأبصار في متقدم الدهور والأكوار وسالف الأزمان والأعصار عند قيامهم بأحكام الله وانتصابهم لأمر الله الابتداء بالإعذار والانتهاء بالإنذار قبل إنفاذ الأقدار في أهل الشقاق والأصار لتكون الحجة على من خالف وعصى والعقوبة على من باين وغوى حسب ما قال الله جل وعز: " وما كُنَّا مُعَذِّبينَ حتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ". و " وإِنْ مِنْ أُمَّةِ إِلاَّ خَلاَ فيها نَذيرٌ ". وقوله سبحانه: " قُلْ هَذِه سَبِيلي أَدْعُو إِلى اللّهِ عَلَى بَصِيرةٍ أَنا وَمَنْ اتَّبَعَني وسُبْحانَ اللّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكين ". " فَإِنْ آمَنوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ به فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ في شِقَاق ". أما بعد أيها الناس فإنا نحمد الله بجميع محامده ونمجده بأحسن مماجده حمداً دائماً أبداً ومجداً عالياً سرمداً على سبوغ نعمائه وحسن بلائه ونبتغي إليه الوسيلة بالتوفيق والمعونة على طاعته والتسديد في نصرته ونستكفيه ممايلة الهوى والزيغ عن قصد الهدى ونستزيد منه إتمام الصلوات وإفاضات البركات وطيب التحيات على أوليائه الماضين وخلفائه التالين منا ومن آبائنا الراشدين المهديين المنتخبين الذين قضوا بالحق وكانوا به يعدلون. أيها الناس: " قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا " ليذكر من يذكر وينذر من أبصر واعتبر. أيها الناس: إن الله جل وعز إذا أراد أمراً قضاه وإذا قضاه أمضاه وكان من قضائه فينا قبل التكوين أن خلقنا أشباحا وأبرزنا أرواحا بالقدرة مالكين وبالقدوة قادرين حين لاسماء مبنية ولا أرض مدحية ولا شمس تضيء ولا قمر يسري ولا كوكب يجري ولا ليل يجن ولا أفق يكن ولا لسان ينطق ولا جناح يخفق ولا ليل ولا نهار ولا فلك دوار ولا كوكب سيار. فنحن أول الفكرة وآخر العمل بقدر مقدور وأمر في القدم مبرور فعند تكامل الأمر وصحة العزم وإن شاء الله جل وعز المنشآت وإبداء الأمهات من الهيولات طبعنا أنوارا وظلما وحركة وسكونا. وكان من حكمه السابق في علمه ما ترون من فلك دوار وكوكب سيار وليل ونهار وما في الآفاق من آثار معجزات وأقدار باهرات وما في الأقطار من الآثار وما في النفوس من الأجناس والصور والأنواع من كثيف ولطيف وموجود ومعدوم وظاهر وباطن ومحسوس وملموس ودان وشاسع وهابط وطالع. كل ذلك لنا ومن أجلنا دلالةً علينا وإشارةً إلينا يهدي به الله من كان له لب سجيح ورأى صحيح قد سبقت له منا الحسنى فدان بالمعنى. ثم إنه جل وعلا أبرز من مكنون العلم ومخزون الحكم آدم وحوا أبوين ذكرا وأنثى سببا لإنشاء البشرية ودلالة لإظهار القدرة القوية وزاوج بينهما فتوالدا الأولاد وتكاثرت الأعداد ونحن ننتقل في الأصلاب الزكية والأرحام الطاهرة المرضية كلما ضمنا صلب ورحم أظهر منا قدرة وعلم وهلم جرا إلى آخر الجد الأول والأب الأفضل سيد المرسلين وإمام النبيين أحمد ومحمد صلوات الله عليه وعلى آله في كل ناد ومشهد فحسن آلاؤه وبان غناؤه وأباد المشركين وقصم الظالمين وأظهر الحق واستعمل الصدق وظهر بالأحدية ودان بالصمدية فعندها سقطت الأصنام وانعقد الإسلام وانتشر الإيمان وبطل السحر والقربان وهبرت الأوثان وأتى بالقرآن شاهدا بالحق والبرهان فيه خبر ما كان وما يكون إلى يوم الوقت المعلوم منبئا عن كتب تقدمت في صحف قد تنزلت تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة ونورا وسراجا منيرا. وكل ذلك دلالات لنا ومقدمات بين أيدينا وأسباب لإظهار أمرنا هدايات وآيات وشهادات وسعادات قدسيات إلاهيات أزليات كائنات منشآت مبدئات معيدات فما من ناطق نطق ولا نبي بعث ولا وصي ظهر إلا وقد أشار إلينا ولوح بنا ودل علينا في كتابه وخطابه ومنار أعلامه ومرموز كلامه فيما هو موجود غير معدوم وظاهر وباطن يعمله من سمع الندا وشاهد ورأى من الملأ الأعلى فمن أغفل منكم أو نسى أو ضل أو غوى فلينظر في الكتب الأولى والصحف المنزلة وليتأمل آي القرآن وما فيه من البيان وليسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم فقد أمر الله عز وجل بالسؤال فقال: " فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ". وقال سبحانه وتعالى: " فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُم يَحْذَرُونَ ". ألا تسمعون قول الله حيث يقول: " وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً في عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " وقوله تقدست أسماؤه: " ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ". وقوله له العزة: " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فيه كَبُرَ على المُشْرِكينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ". ومما دل به علينا وأنبأ به عنا قوله عز وجل: " كَمِشْكَاةٍ فيها مصْبَاحٌ المِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُها يُضِىءُ وَلَوْلَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ على نُورٍ يَهْدِى اللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَىُءٍ عَلِيمٌ ". وقوله في تفضيل الجد الفاضل والأب الكامل محمد صلى الله عليه وعليه السلام إعلاما بجليل قدرنا وعلو أمرنا: " وَلقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ المَثَانِى وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ". هذا مع ما أشار ولوح وأبان وأوضح في السر والإعلان من كل مثل مضروب وآية وخبر وإشارة ودلالة حيث يقول: " وتِلْكَ الأَمثالُ نَضرِبُها لِلنَّاس ومَا يَعْقِلُها إِلاَّ الْعَالِمُونَ ". وقال سبحانه وتعالى: " إِنَّ في خَلْقِ السّموّاتِ والأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْل والنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِى الأَلْبَابِ ". وقوله جل وعز: " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الآفَاقِ وفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيْن لَهُمْ أنَّهُ الْحَقُّ ". فإن اعتبر معتبر وقام وتدبر ما في الأرض وما في الأقطار والآثار وما في النفس من الصور المختلفات والأعضاء المؤتلفات والآيات والعلامات والاتفاقات والاختراعات والأجناس والأنواع وما في كون الإبداع من الصور البشرية والآثار العلوية وما يشهد به حروف المعجم والحساب المقوم وما جمعته الفرائض والسنن وما جمعته السنون من فصل وشهر ويوم وتصنيف القرآن من تحزيبه وأسباعه ومعانيه وأرباعه وموضع الشرائع المتقدمة والسنن المحكمة وما جمعته كلمة الإخلاص في تقاطيعها وحروفها وفصولها وما في الأرض من إقليم وجزيرة وبر وبحر وسهل وجبل وطول وعرض وفوق وتحت إلى ما اتفق عليه في جميع الحروف من أسماء المدبرات السبعة النطقا والأوصيا والخلفا وما صدرت به الشرائع من فرض وسنة وحدوثة وما في الحساب من أحاد وأفراد وأزواج وأعداد تثاليثه وترابيعه واثنى عشريته وتسابيعه وأبواب العشرات والمئين والألوف وكيف تجتمع وتشتمل على ما اجتمع عليه ما تقدم من شاهد عدل وقول صدق وحكمة حكيم وترتيب عليم. فلا إله إلا هو له الأسماء الحسنى والأمثال العلى. " وإِنْ تعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوها ". " وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ ". " وَلَوْ أَنَّ مَا في الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ ". وليعلم من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أنا كلمات الله الأزليات وأسماؤه التامات وأنواره الشعشعانيات وأعلامه النيرات ومصابيحه البينات وبدائعه المنشآت وآياته الباهرات وأقداره النافذات لا يخرج منا أمر ولا يخلو منا عصر. وإنا لكما قال الله سبحانه وتعالى: " مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَينَ مَا كَانُوا ثَمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ". فاستشعروا النظر فقد نقر في الناقور وفار التنور وأتى النذير بين يدي عذاب شديد فمن شاء فلينظر ومن شاء فليتدبر وما على الرسول إلا البلاغ المبين. وكتابنا هذا من فسطاط مصر وقد جئناها على قدر مقدور ووقت مذكور فلا نرفع قدماً ولا نضع قدماً إلا بعلم موضوع وحكم مجموع وأجل معلوم وأمر قد سبق وقضاء قد تحقق. فلما دخلنا وقد قدر المرجفون من أهلها أن الرجفة تنالهم والصعقة تحل بهم تبادروا وتعادوا شاردين وجلوا عن الأهل والحريم والأولاد والرسوم وإنا لنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة فلم أكشف لهم خبرا ولا قصصت لهم أثرا ولكني أمرت بالنداء وأذنت بالأمان لكل باد وحاضر ومنافق ومشاقق وعاص ومارق ومعاند ومسابق ومن أظهر صفحته وأبدى لي سوءته فاجتمع الموافق والمخالف والباين والمنافق فقابلت الولي بالإحسان والمسيء بالغفران حتى رجع الناد والشارد وتساوى الفريقان واتفق الجمعان وانبسط القطوب وزال الشحوب جريا على العادة بالإحسان والصفح والامتنان والرأفة والغفران فتكاثرت الخيرات وانتشرت البركات. كل ذلك بقدرة ربانية وأمرة برهانية فأقمت الحدود بالبينة والشهود في العرب والعبيد والخاص والعام والبادي والحاضر بأحكام الله عز وجل وآدابه وحقه وصوابه فالولي آمن جذلن والعدو خائف وجل. فأما أنت الغادر الخائن الناكث البائن عن هدى آبائه وأجداده المنسلخ عن دين أسلافه وأنداده والموقد لنار الفتنة والخارج عن الجماعة والسنة فلم أغفل أمرك ولا خفي عني خبرك ولا استتر دوني أثرك وإني منى لبمنظر ومسمع كما قال الله جل وعز: " إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى " " مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّك بَغِيَّا ". فعرفنا على أي رأي أصلت وأي طريق سلكت: أما كان لك بجدك أبي سعيد أسوة وبعمل أما نظرت في كتبهم وأخبارهم ولا قرأت وصاياهم وأشارهم أكنت غائبا عن ديارهم وما كان من آثارهم ألم تعلم أنهم كانوا عبادا لنا أولى بأس شديد وعزم سديد وأمر رشيد وفعل حميد يفيض إليهم موادنا وينشر عليهم بركاتنا حتى ظهروا على الأعمال ودان لهم كل أمير ووال ولقبوا بالسادة فسادوا منحةً منا واسما من أسمائنا فعلت أسماؤهم واستعلت هممهم واشتد عزمهم فسارت إليهم وفود الآفاق وامتدت نحوهم الأحداق وخضعت لهيبتهم الأعناق وخيف منهم الفساد والعناد وأن يكونوا لبني العباس أضداد فعبئت الديوش وسار إليهم كل خميس بالرجال المنتجبة والعدد المهذبة والعساكر الموكبة فلم يلقهم جيش إلا كسروه ولا رئيس إلا أسروه ولا عسكر إلا كسروه وألحاظنا ترمقهم ونصرنا يلحقهم كما قال الله جل وعز: " إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا " " وإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ " وإن حزبنا لهم المنصورون. فلم يزل ذلك دأبهم وعين الله ترمقهم إلى أن اختار لهم ما اختاروه من نقلهم من دار الفناء إلى دار البقاء ومن نعيم يزول إلى نعيم لا يزول فعاشوا محمودين وانتقلوا مفقودين إلى روح ومع هذا فما من جزيرة في الأرض ولا إقليم إلا ولنا فيه حجج ودعاة يدعون إلينا ويدلون علينا ويأخذون بيعتنا ويذكرون رجعتنا وينشرون علمنا وينذرون بأسنا ويبشرون بأيامنا بتصاريف اللغات واختلاف الألسن وفي كل جزيرة وإقليم رجال منهم يفقهون وعنهم يأخذون وهو قول الله عز وجل. " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسْولٍ إِلاَّ بلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ". وأنت عارف بذلك. فيأيها الناكث الحانث ما الذي أرداك وصدك أشيء شككت فيه أم أمر استربت به أم كنت خليا من الحكمة وخارجاً عن الكلمة فأزلك وصدك وعن السبيل ردك إن هي إلا فتنة لكم ومتاع إلى حين. وأيم لله لقد كان الأعلى لجدك والأرفع لقدرك والأفضل لمجدك والأوسع لوفدك والأنضر لعودك والأحسن لعذرك الكشف عن أحوال سلفك وإن خفيت عليك والقفو لآثارهم وإن عميت لديك لتجري على سننهم وتدخل في زمرهم وتسلك في مذهبهم أخذاً بأمورهم في وقتهم وزيهم في عصرهم فتكون خلفاً قفا سلفاً بجد وعزم مؤتلف وأمر غير مختلف. لكن غلب الران على قلبك والصدى على لبك فأزالك عن الهدى وأزاغك عن البصيرة " فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ واتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوَنَ غَيَّا ". ثم لم تقنع في انتكاسك وترديتك في ارتكاسك وارتباكك وانعكاسك من خلافك الآباء ومشيك القهقرى والنكوص على الأعقاب والتسمي بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان وعصيانك مولاك وجحدك ولاك حتى انقلبت على الأدبار وتحملت عظيم الأوزار لتقيم دعوةً قد درست ودولة قد طمست إنك لمن الغاوين وإنك لفي ضلال مبين. أم تريد أن ترد القرون السالفة والأشخاص الغابرة أما قرأت كتاب السفر وما فيه من نص وخبر فأين يذهبون إن هي إلا حياتكم الدنيا تموتون وتظنون أنكم لستم بمبعوثين " قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسيرٌ ". أما علمت أن المطيع آخر ولد العباس وآخر المترايس في الناس أما تراهم " كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِّنْ بَاقِيَة " ختم والله الحساب وطوى الكتاب وعاد الأمر إلى أهله والزمان إلى أوله وأزفت ا { لآزفة ووقعت الواقعة وقرعت القارعة وطلعت الشمس من مغربها والآية من وطنها وجيء بالملائكة والنبيين وخسر هنالك المبطلون هنالك الولاية لله الحق ينصر الله من يشاء " يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ ". فقد ضل عملك وخاب سعيك وطلع نحسك وغاب سعدك حين آثرت الحياة الدنيا على الآخرة ومال بك الهوى فأزالك عن الهدى فإن تكفر أنت ومن في الأرض جميعا فإن الله هو الغنى الحميد. ثم لم يكفك ذلك مع بلائك وطول شقائك حتى جمعت أرجاسك وأنجاسك وحشدت أوباشك وأقلاسك وسرت قاصدا إلى دمشق وبها جعفر بن فلاح في فئة قليلة من كتامة وزويلة فتلته وقتلتهم جرأة على الله وردا لأمره واستبحت أموالهم وسبيت نساءهم وليس بينك وبينهم ترة ولا ثأر ولا حقد ولا أضرار فعل بني الأصفر والترك والخزر ثم سرت أمامك ولم ترجع وأقمت على كفرك ولم تقلع حتى أتيت الرملة وفيها سعادة بن حيان في زمرة قليلة وفرقة يسيرة فاعتزل عنك إلى يافا مستكفيا شرك وتاركا حربك فلم تزل ماكثا على نكثك باكرا وصابحا وغاديا ورائحا تقعد لهم بكل مقعد وتأخذ عليهم بكل مرصد وتقعدهم بكل مقصد كأنهم ترك وروم وخزر لا ينهك عن سفك الدماء دين ولا يردعك عهد ولا يقين قد استوعب من الردي حيزومك وانقسم على الشقاء خرطومك. أما كان لك مذكر وفي بعض أفعالك مزدجر أو ما كان لك في كتاب الله عز وجل معتبر حيث يقول: " وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداُ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً " فحسبك بها فعلة تلقاك يوم ورودك وحشرك حين لا مناص ولا لك من الله خلاص ولم تستقبلها وكيف تستقبلها وأنى لك مقيلها هيهات هيهات هلك الضالون وخسر هنالك المبطلون وقل النصير وزال العشير ومن بعد ذلك تماديك في غيك ومقامك في بغيك عداوة الله ولأوليائه وكفرا لهم وطغيانا وعمى وبهتانا. أتراك تحسب أنك مخلد أم لأمر الله راد أم " يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ". هيهات لا خلود لمذكور ولا مرد لمقدور ولا طافىء لنور ولا مقر لمولود ولا قرار لموعود لقد خاب منك الأمل وحان لك الأجل فإن شئت فاستعد للتوبة بابا وللنقلة جلبابا فقد بلغ الكتاب أجله والوالي أمله وقد رفع الله قبضته عن أفواه حكمته ونطق من كان بالأمس صامتا ونهض من كان هناك خائفا ونحن أشباح فوق الأمر والنفس دون العقل وأرواح في القدس نسبة ذاتية وآيات لدنية نسمع ونرى " مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتابُ وَلاَ الإِيمانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِى بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا " " وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ". ونحن معرضون ثلاث خصال والرابعة أردى لك وأشقى لبالك وما أحسبك تحصل إلا عليها فاختر: إما قدت نفسك لجعفر بن فلاح وأتباعك بأنفس المستشهدين معه بدمشق والرملة من رجاله ورجال سعادة بن حيان ورد جميع ما كان لهم من رجال وكراع ومتاع إلى آخر حبة من عقال ناقة وخطام بعير وهي أسله ما يرد عليك . وإما أن تردهم أحياء في صورهم وأعيانهم وأموالهم وأحوالهم ولا سبيل لك إلى ذلك ولا اقتدار . وإما سرت ومن معك بغير زمام ولا أمان فأحكم فيك وفيهم بما حكمت وأجريك على إحدى ثلاث: إما قصاص وإما منا بعد وإما فدى فعسى أن يكون تمحيصا لذنوبك وإقالة لعشرتك. وإن أبيت إلا فعل اللعين: " فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ ". أخرج منها فما يكون لك أن تتكبر فيها وقيل اخسئوا فيها ولا تكلمون فما أنت إلا كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فلا سماء تظلك ولا أرض تقلك ولا ليل يجنك ولا نهار يكنك ولا علم يسترك ولا فئة تنصرك قد تقطعت بكم الأسباب وأعجزكم الذهاب فأنتم كما قال الله عز وجل: " مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إلَى هَؤُلاَءِ ". فلا ملجأ لكم من الله يومئذ ولا منجى منه وحنود الله في طلبك قافية لا تزال ذو أحقاد وثوار أهجاد ورجال أنجاد فلا تجد في السماء مصعدا ولا في الأرض مقعدا ولا في البر ولا في البحر منهجا ولا في الجبال مسلكاً ولا إلى الهواء سلما ولا إلى مخلوق ملتجا. حينئذ يفارقك أصحابك ويتخلى عنك أحبابك ويخذلك أترابك فتبقى وحيداً فريداً وخائفاً طريداً وهائماً شريداً قد ألجمك العرق وكظك القلق وأسلمتك ذنوبك وازدراك خزيك " كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ " " هَذَا يَوْمَ لاَ يَنْطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنَ لَهُمْ فَيَعْتّذِرُونَ " " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ". واعلم أنا لسنا بممهليك ولا مهمليك إلا ريثما يرد كتابك ونقف على فحوى خطابك فانظر لنفسك يا شقي ليومك ومعادك قبل انغلاق باب التوبة وحلول وقت النوبة حينئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. وإن كنت على ثقة من أمرك ومهل في أمر عصرك وعمرك فاستقر بمركزك وأربع على ضلعك فلينالنك ما نال من كان قبلك من عاد وثمود " وأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعِ كُلٌّ كّذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ " فلنأتينكم بجنود لا قبل لكم بها ولنخرجنكم منها أذلةً وأنتم صاغرون بأولى بأس شديد وعزم سديد أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين بقلوب نقية وأرواح تقية ونفوس أبية يقدمهم النصر ويشملهم الظفر تمدهم ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. فما أنت وقومك إلا كمناخ نعم أو كمراح غنم فإما نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون وأنت في القفص مصفودا ونتوفنيك فإلينا مرجعهم فعندها تخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين " فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَولَّى " " كأَنهم يوم يَرَوْنَ ما يُوعدُونَ لم يَلبثوا إلا ساعةَ من نهارٍ بلاغٌ فهل يُهْلَكُ إِلا القومُ الفاسقون ". فليتدبر من كان ذا تدبر وليتفكر من كان ذا تفكر وليحذر يوم القيامة من الحسرة والندامة " أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يحَسْرَتَي عَلَى مَا فَرَّطتُ في جَنبِ اللّهِ " ويا حسرتنا على ما فرطنا ويا ليتنا نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل هيهات غلبت عليكم شقاوتكم وكنتم قوماً بوراً. والسلام على من اتبع الهدى وسلم من عواقب الردى وانتمى إلى الملأ الأعلى وحسبنا الله الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا النبي الأمى والطيبين من عترته وسلم تسليماً. فأجاب الحسن بن الأعصم بما نصه: من الحسن بن أحمد القرمطي الأعصم: بسم الله الرحمن الرحيم وصل إلينا كتابك الذي كثر تفصيله وقل تحصيله ونحن سائرون على إثره والسلام وحسبنا الله ونعم الوكيل. وسار الحسن بن أحمد القرمطي بعد ذلك إلى مصر فنزل بعسكره بلبيس وبعث إلى الصعيد بعبد الله بن عبيد الله أخي الشريف مسلم وانبثت سراياه في أرض مصر فتأهب المعز وعرض عساكره في ثالث رجب سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وأمر بتفرقة السلاح على الرجال ووسع عليهم في الأرزاق وسير معهم الأشراف والعرب. وسير معهم المعز ابنه الأمير عبد الله فسار بمظلته وبين يديه الرجال والسلاح والكراع والبنود وصناديق الأموال والخلع وسير معه أولاده وجميع أهله وجمعاً من جند المصريين خلا الشريف مسلم فإنه أعفاه من ذلك. وانبسطت سرية القرمطي في نواحي أسفل الأرض فأنفذ المعز عبده ريان الصقلبي في أربعة ولثمان خلون منه قدمت سرية القرامطة إلى الخندق فبرز إليهم المغاربة فهزموهم ثم كروا على المغاربة فقتلوا منهم جماعةً وأسروا وفر إليهم علي بن محمد الخازن فالتحق بالقرامطة. وورد الخبر بأن عبد الله بن عبيد الله أخا مسلم أوغل في الصعيد وقتل واستخرج الأموال وأسرف في قتل المغاربة وأسرهم ثم كر راجعاً إلى خميم. ولست عشرة خلت منه جمع المعز أولاد الإخشيدية وغيرهم من الجند واعتقلهم. وفي سلخه طيف بتسعة من القرامطة على الإبل بالبرانس ومعهم ثلاث رؤوس وفيه سار عسكر المعز مع ابنه عبد الله فنزل جب عميرة ونزلت عسكر القرمطي نصفين: نصف مع النعمان أخي الحسن بن أحمد الأعصم مواجهة لعبد الله بن المعز ونصف مع الحسن بسطح الجب. فبعث عبد الله العساكر فأحاطت بالحسن بن أحمد وعسكر وزحف إلى النعمان فقاتله فانهزم وقتل مع أصحابه وواقع الآخرون الحسن حتى كاد أن يؤخذ فإنهم أحاطوا به وصار في وسطهم فاغتنم فرجة مضى على وجهه ونهب سواده وأخذت قبته وأسر رجاله وأخذ من عسكره وعسكر أخيه خلق كثير وأخذ جماعة ممن كان مع المصريين. ووصل الكتاب مع الطائر إلى عبد الله بن عبيد الله أخي مسلم بهزيمة القرامطة وهو بالصعيد فعدى إلى الجانب الشرقي لينقلب إلى الشام فبلغه مسير عساكر المعز فعاد إلى الجانب الغربي. وورد كتاب الطائر إلى المعز من الأمير عبد الله ابنه أن عبد الله أخا مسلم قد أخذ فأرسل المعز إلى أخيه أبي جعفر مسلم يخبره فخلع على البشير. وكانت في البرية سرية للمعز قد أخذوا الطريق على عبد الله أخي مسلم فوقع في أيديهم في الليل رجل بدوي فقال: أنا عبد الله أخو مسلم فجاء إلى الأمير عبد الله فكتب إلى الطائر يأخذ عبد الله فلما جيء بالبدوي من الغد إلى الأمير عبد الله وهو في معسكره وكان في مجلسه عبد الله بن الشويخ فقال للأمير عبد الله: ما هذا عمي عبد الله. فبطل القول. وكان خبر هذا البدوي أنه كان مع عبد الله أخي مسلم بالصعيد وعبر معه يريد الشام فأراد أن يسقي دوابه فقال له البدوي: ما نأمن أن يكون على الماء طلب فدعني أتقدمك فإن لم أجد أحداً جئتك وإن أبطأت عليك فاعلم أني أخذت. فلما وافى البدوي البئر أخذ فقال لهم: أنا عبد الله أخو مسلم ليشغلهم عن طلبه فلما أبطأ البدوي على عبد الله علم أن الطلب قد أخذوه فكر راجعاً وعاد إلى الجانب الغربي وركب البحر إلى عينونا ومضى إلى الحجاز. وكان هاروق على عسكر للمعز فرأى أصحابه عبد الله فأفلت منهم على فرس دهماء عربية بعد ما حط قبته وقطعها بسيفه فظفر هاروق بنوقه ووصل عبد الله إلى المدينة النبوية وجلس يتحدث في المسجد فقبل له: إن الكتب قد سبقتك وبذل فيك مال عظيم. فنهض لوقته وتوجه إلى الأحساء فاستنهض القرامطة فلم يكن فيهم نهضة فوبخهم لما رأى من عجزهم وقال: أروني ما عندكم من القوة التي تقاومون بها صاحب مصر. فأوقفوه على ما عندهم من المال والسلاح والكراع فاستقله وقال: بهذا تقاومون صاحب مصر والشامات والمغرب. وانصرف عنهم إلى العراق فأتبعوه برجل يقال إنه من بني سنبر فسمه في لبن بموضع يقال له النصيرية على ميلين من البصرة فقام مائتي مجلس في ليلة ومات بموضعه فغسل وكفن وأدخل وورد الخبر بذلك إلى المعز فأخبر الناس بموته وموت المطيع فإن ابنه سمه أيضا كما سمت القرامطة عبد الله أخا مسلم. وأما أخبار القرامطة ففي كتب المؤرخين من المشارقة المتعصبين على الدولة الفاطمية أن سبب انهزام الحسن بن أحمد القرمطي من عساكر المعز أن العرب لما أنكت بمسير سراياها أرض مصر رأى المعز أن يفل عساكر القرامطة وجموعهم بمخادعة حسان بن الجارح الطائي أمير العرب ببلاد الشام وكان قدم مع القرمطي في جمع عظيم قوى به عسكر القرمطي فبعث المعز إلى ابن الجارح وبذل له مائة ألف دينا على أن يفل عسكر القرمطي فأجاب إلى ذلك وأن المعز استكثر المال فعمل دنانير من نحاس وطلاها بالذهب وجعلها في أكياس ووضع على رأس كل كيس منها دنانير يسيرة من الذهب ليغطي ما تحتها وشدت الأكياس وحملت إلى ثقة من ثقات ابن الجراح بعد ما كانوا استوثقوا منه وعاهدوه أنه لا يغدر بهم فلما وصل إليه المال تقدم إلى كبراء أصحابه بأن يتبعوه إذا تواقف العسكران وقامت الحرب فلما اشتد القتال ولي ابن الجراح منهزما واتبعه أصحابه وكان في جمع كبير فلما رآه القرمطي وقد انهزم تحير فكان جهده أن قاتل بمن معه حتى تخلص وكانوا قد أحاطوا به من كل جانب فخشى على نفسه وانهزم واتبعوه ودخلوا عسكره فظفروا منه بنحو ولما كان لخمس بقين من شعبان أنفذ المعز أبا محمود إبراهيم بن جعفر إلى الشام خلف القرمطي في عسكر يقال مبلغه عشرون ألفا فظفر في طريقه بجماعة من أصحاب القرمطي فبعث بهم إلى مصر. وسار الحسن بن أحمد القرمطي فنزل أذرعات وأنفذ أبا الهيجا في طائفة إلى دمشق. وبعث المعز إلى ظالم بن موهوب العقيلي لما بلغه ما وقع بينه وبين القرمطي فاستماله ليكون عوناً على القرمطي فسار يريد بعلبك فوافاه الخبر بهزيمة القرمطي ونزول أبي الهيجا دمشق فسار القرمطي ودخل البرية يريد بلده وفي نيته العود. وكان للحسن بن أحمد القرمطي هذا شعر فمنه في أصحاب المعز لدين الله: زعمت رجال الغرب أنّى هبتها فدمى إذاً ما بينهم مطلول يا مصر إن لم أسق أرضك من دمٍ يروى ثراك فلا سقاك النيل ولما كان في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة ورد إسحق وجعفر الهجريان من القرامطة فملكا الكوفة وخطبا لشرف الدولة فانزعج الناس لذلك لما في النفوس من هيبتهم وبأسهم وكان من الهيبة ما أن عضد الدولة بن بويه وبختيار أقطعاهم الكثير وكان لهم ببغداد نائب يعرف بأبي بكر بن ساهويه يتحكم تحكم الوزراء فقبض عليه صمصام الدولة بن عضد الدولة فلما ورد القرامطة الكوفة كتب إليهما صمصام الدولة يتلطفهما ويسألهما عن سبب حركتهما فذكرا أن قبض نائبهم هو السبب في قصدهم البلاد وبثا أصحابهما فجبوا المال فأرسل صمصام الدولة العساكر ومعهم العرب فعبروا الفرات إليه وقاتلوه وأسروا فانجلت الوقائع بينهم وبين العساكر عن هزيمة القرامطة وقتل مقدمتهم في جماعة وأسر عدة ونهب سوادهم فرحل من بقي منهم من الكوفة وتبعهم العساكر إلى القادسية فلم يدركوهم وزال من حينئذ بأسهم. وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة جمع شخص يعرف بالأصفر من بني المنفق جمعا كثيرا وكان بينه وبين جمع من القرامطة وقعة شديدة قتل في مقدم القرامطة وانهزم أصحابه وقد قتل منهم وأسر كثير فسار الأصفر إلى الأحساء وقد تحصن منه القرامطة بها فعدى إلى القطيف وأخذ ما كان فيها من مال وعبيد ومواشي وسار بها إلى البصرة. |
12-21-2012, 08:42 PM | #12 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
بقية أخبار المعز لدين الله
ولنرجع إلى بقية أخبار المعز لدين الله أبي تميم معد الفاطمي باني القاهرة فنقول: لما انهزم الحسن بن أحمد القرمطي خرج في شعبان من سنة ثلاث وستين وثلاثمائة الأشراف والقاضي أبو طاهر والفقهاء والشهود ووجوه التجار وكثير من الرعية إلى المعسكر لتهنئة الأمير عبد الله بن المعز بالفتح وكان معسكره بظاهر مشتول فأكرمهم وأضافهم وانصرفوا من الغد. وللنصف من شعبان صرف المعز الحسن بن عبد الله عن الأحباس بمحمد بن أبي طاهر القاضي ومحمد بن إقريطش ضمانا بألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم في كل سنة تدفع إلى المستحقين حقوقهم ويحمل الباقي إلى بيت المال. وطيف بأربين رأساً جيء بها من الصعيد من أصحاب أخي مسلم. وفي أول شهر رمضان دخل الأمير عبد الله بعساكره إلى القاهرة بعد فراغه من قتال القرامطة بالأسارى والرؤوس وهو بمظلته فجلس له أبوه المعز في القبة على باب قصره لينظره فلما عاين الأمير عبد الله مجلس أبيه المعز ترجل وقبل الأرض ونزل أهل العسكر كلهم بنزوله ومشى إلى القصر والناس معه مشاة. وورد الخبر بدخول أبي محمود إلى الرملة بغير قتال وأنه استأمن إليه جماعة من عسكر القرامطة. وفيه قبض المعز على جماعة من السعاة والعيارين الذين يؤذون الناس وسجنهم. ووافى رسول ملك الروم برسالة فاجتمع الناس للنظر إليه وجلس له المعز على السرير الذهب فدخل إليه وقبل الأرض مراراً وأذن له بالجلوس على وسادة وكان علي بن الحسين قاضي أذنة حاضراً فقال: يا أمير المؤمنين صلى الله عليك هذا وأشار إلى الرسول آفة على الإسلام والمؤذي للمسلمين والأسارى. فنظر إليه المعز منكراً عليه وأخرج وتكلم الرسول في الهدنة وأخذ المعز كتابه وأنزل في دار. وفيه أطلق المعز طنجمية وهم عشرة لكل واحد ثمانمائة رباعى ذهباً وزنها مائتي مثقال. ووردت الأخبار بأن القرمطي فر على وجهه وتمزقت عساكره فلم يفلحوا إلى اليوم. وطيف بأسارى من القرامطة على الإبل بالبرانس وعدتهم ألف وثلاثمائة مقدمهم مفلح المنجمي ببرنس كبير على جمل بثوب مشهر مكتوب على ظهره اسمه وما عمل وخلفه جماعة من وجوه القرامطة وبين أيديهم الرؤوس على الحراب وعدتها آلاف وكان يوماً عظيماً واجتماعاً كثيراً فلما فرغوا من التطواف أعتقلوا بالقاهرة. وفيه خرج المعز على فرس وقد اجتمع الناس من الأشراف والقواد والعمال والكتاب والمغاربة فوقفوا بين يديه فقال لهم: قد أنعم الله عز وجل وتفضل وخول ومكن ونريد الحج وزيارة قبر جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد فايش يقصر عن هذا إن قلت ليس عندي مال إني لكاذب وإن قلت ليس عندي كراع وسلاح إني لكاذب وإن قلت ليس عندي رجال إني لكاذب وفيه خرج الأمر بقتل الأسارى الذين في الاعتقال فقتلوا عن آخرهم وحفرت لهم أخاديد ودفنوا فلما بلغ المعز ذلك قال: والله ما أمرت بقتلهم ولقد أمرت بإطلاقهم ويدفع لكل منهم ثلاثة دنانير. واغتم لذلك وتصدق وأعتق. وورد الخبر بقتل علي بن أحمد العقيقي من الأشراف وابنه ذا من يح كذا الحسيني وأن البادية قتلهم بالصعيد وكانوا من أصحاب أخي مسلم. وفيه قبض أبو إسماعيل الرسي على ابنه علي بن إبراهيم وأخبر المعز فقال له المعز: يكون عندك محتفظا به وكان أيضاً من أصحاب أخي مسلم الذين ظاهروا مع القرمطي. وبعث أبو محمود بعمال الشام فجاسوا في بستان الإخشيد بالقاهرة. وفي يوم عيد الفطر ركب المعز وصلى بالناس على رسمه وخطب. وفيه ورد الخبر بدخول أبي محمود إبراهيم بن جعفر إلى دمشق وتمكن سلطانه بها وقوته وأنه قبض على جماعة أبي الهيجاء القرمطي وابنه واستأمن إليه جماعة من الإخشيدية والكافورية وأخذ محمد بن أحمد بن سهل النابلسي وسيره مع الجماعة إلى المعز. وكان من خبر أبي محمود إبراهيم بن جعفر أنه سار من الرملة ونزل على أذرعات وقد سار ظالم بن موهوب العقيلي نحو دمشق بمراسلة أبي محمود ليتفقا على أبي الهيجاء القرمطي وكان أبو الهيجاء بن منجا القرمطي بدمشق في نحو الألفي رجل وقد طلب منه الجند مالا فقال: ما معي مال ووافى ظالم بن موهوب العقيلي عقبة دمر فخرج إليه أبو الهيجاء وابنه بمن معه ففر عدة من الجند ولحقوا بظالم مستأمنين إليه فقوى بهم وسار بهم فأحاط بأبي الهيجاء فلم يقدر على الفرار فأخذه وابنه بعد أن وقعت فيه ضربة وانقلب العسكر كله مع ظالم فملك دمشق لعشر خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وستين فحبس أبا الهيجاء وابنه وقبض على جماعة من أصحابه وأخذ أموالهم. ثم إنه طلب شيخاً من أهل الرملة يقال له أبو بكر محمد بن أحمد النابلسي كان يرى قتال المغاربة وبغضهم ويرى أن ذلك واجب ويقول: لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعةً في المغاربة وواحداً في الروم. وكان الحسن بن أحمد القرمطي لما انهزم عن مصر سار أبو بكر النابلسي إلى دمشق فأخذه ظالم بن موهوب وحبسه ونزل أبو محمود على دمشق لثمان بقين من رمضان فتلقاه ظالم فأنس به أبو محمود فأخرج إليه أبا الهيجاء بن منجا القرمطي وابنه وأبا بكر بن النابلسي فعلم لكل واحد منهم قفصا من خشب وحملهم إلى مصر فدخلوا إلى القاهرة في شوال فطيف بهم على الإبل بالبرانس والقيود وابن النابلسي ببرنس على جمل وهو مقيد والناس يسبونه ويشتمونه ويجرون برجله من فوق الجمل. وكان معهم بضع وعشرون رجلا من القرامطة على الإبل فلما فرغوا من التطواف ردوا إلى القصر فعدل بأبي الهيجا وابنه وبقية القرامطة إلى الاعتقال وسيق ابن النابلسي إلى المنظر ليسلخ فلما علم بذلك رمى بنفسه على حجارة ليموت فرد على الجمل فعاد ورمى نفسه ثانيا فرد وشد وأسرع به إلى المنظر فسلخ وحشى جلده تبنا ونصبت جثته وجلده على الخشب عند المنظر. وأقام أبو محمود بدمشق وهي مضطربة قد كثر فيها الغوغاء وحمال السلاح وعظم النهب في القرى وأخذت القوافل فلم يقدر أبو محمود على ضبط أصحابه لقلة ماله فلم يكونوا يفكرون فيه ولا يرجعون عن شيء ينهاهم عنه وأخذوا في النهب وظالم بن موهوب يأخذ أموال السلطان من البلد ولا يدفع إلى أبي محمود شيئاً منها ويحتج أنه أخذ البلد من أبي الهيجاء وسار إليه بمكاتبة المعز له. هذا وكل من الفريقين يخاف الآخر وقد علم ظالم أن أهل دمشق تكره المغاربة فكان يدارى الأمر وكثر قطع المغاربة للطريق فامتنع الناس من الذهاب والمجيء وهرب أهل القرى إلى المدينة وأوحش ظاهر البلد فوقع بين المغاربة وبين أهل البلد الحرب أياما كثيرة قام فيها ظالم مع أهل البلد وقاتل المغاربة فانهزم وسار إلى بعلبك ووقع الحريق في البلد واشتد القتال فخرج وجوه أهل البلد إلى أبي محمود ولطفوا به فقال لهم: ما نزلت لقتالكم وإنما نزلت لأرد هؤلاء الكلاب عنكم يعني أصحابه . ففرح الناس واستبشروا وجاءوا إلى خيمته واختلطت الرعية بأصحابه وزال عنهم الخوف ودخل المغاربة فيما يحتاجون إليه فولى أبو محمود الشرطة لرجلين: أحدهما مغربي والآخر من الإخشيدية فدخلا في جمع عظيم إلى المدينة بالزمر فجلسوا في الشرطة وكان يطوف لهم طوف في الليل ومع ذلك فلم ينكسر حمال السلاح ممن يطلب الفتنة فرهب أبو محمود على مشايخ البلد وتهددهم فثار أهل الشر من الدماشقة ورأس الشطار فيهم ابن الماورد بسبب منازعة أهل البلد مع مغربي بسبب صبي فأراد المغربي أخذه فرفع البلدي السيف وقتل المغربي في السوق فعادت الفتنة وشهروا السلاح فاضطرب البلد وغلقت الأسواق وثار العسكر من جهة المقتول وصاح الناس في البلد بالنفير وكبروا على الأسطحة وخرج ابن الماورد في جماعة فاشتد القتال بين الفريقين وألقى المغاربة النار في الدور فخرج وجوه البلد ومشايخهم إلى أبي محمود وما زالوا به حتى بعث إلى العسكر وقد كادوا يغلبون أهل البلد فكفهم عن القتال وكان ذلك في آخر ذي الحج فسكن الأمر وخرج الناس إلى أبي محمود ودخل صاحب الشرطة المغربي إلا أن أهل الغوطة كانوا قد أووا إلى البلد خوفاً من النهب وكان فيهم ذعار وفي المدينة قوم من أهل الشر فاجتمعوا يأخذون المستضعفين ويجبون مستغلات الأسواق ويكبسون المواضع وينتهبونها فحسنت أحوالهم وكانوا يكرهون تمكن السلطان فهلك لذلك كثير من الناس. ومر صاحب الشرطة في الليل وهو يطوف البلد برجل معه سيف فأخذه وقتله فأصبح أهل الشر وقد خشوا من تنديد السلطان لهم فثاروا بالسلاح إلى صاحب الشرطة ففر منهم هو وأصحابه إلى معسكرهم وصعد العامة إلى المآذن فصيحوا: النفير إلى الجامع. فثار الناس بالسلاح وركب عسكر أبي محمود وطرحوا النار فيما بقى واشتد القتال وكثر القتل والحريق وعظم الخوف على البلد وعلا الضجيج وذلك لثلاث خلون من المحرم سنة أربع وستين. فبات الناس على ذلك وأصبحوا وقد اشتدت الحرب وقويت الدماشقة ونشأ فيهم من أهل الشر غلام يقال له ابن شرارة وقد ترأس وآخر يقال له ابن بوشرات وابن المغنية وقسم لكل واحد منهم حزب بأعلام وأبواق فأظهرت المغاربة قوتها وبذلوا سيوفهم في كل من قدروا عليه من الرعية ممن وجدوه بظاهر البلد. واستمر القتال أكثر من المحرم فخرج قوم المستورين إلى أبي محمود وما زالوا به حتى أجابهم إلى الصلح وصرف صاحبي شرطته وولى أبا الثريا من بانياس أميرا كان على الأكراد فعبر البلد أول صفر وقد أكمن له عدة من أهل الشر فثاروا به ووضعوا السلاح في أصحابه فقتل من أصحابه وانهزم إلى أبي محمود فركب العسكر وأخذوا كثيرا من الناس ووقع النفير في البلد واستمر القتال بين الفريقين صفر وربي الأول ثم وقع الصلح في أثناء ربيع الآخر. وولى محمود جيش بن الصمصامة البلد فأقام أياما ثم إن الناس ثاروا وقتلوا عدة من المغاربة وساروا يريدون جيشا ففر منهم ونهبوا ما كان له فعادت الحرب وطرح النار في المواضع. وأمر أبو محمود بأن تقصد أهل الشر دون غيرهم من الناس غير أن الرعية كانت تقاتل معهم فاشتد القتال إلى أول جمادى الأولى ونصبوا الحرب يوما بعد يوم من بكرة النهار إلى آخره والبلد ممتنع في جميع هذه الحروب والقتال من ظاهره ومعظمه على باب كيسان إلى باب شرقي وباب الصغير إلى باب الجابية. وكان عسكر أبي محمود من المغاربة عشرة آلاف سوى من تبعهم من غيرهم ومن حضروا من الساحل فكانت الحرب مستمرة تارة تظهر المغاربة على الدماشقة وتارة تهزم الدماشقة المغاربة وكانت المغاربة لا تظفر بأحد إلا قطعوا رأسه فقتلوا خلقاً كثيراً. وخلت الغوطة بحيث لم يبق فيها أحد وانحصر البلد فلم يقو واحد يدخل إليه بشيء البتة فغلت الأسعار وبطل البيع والشراء وقطع الماء عن البلد فعدم الناس القنى والحمامات فكانت الأسواق مغلقة والنساء جلوس على الطرق والرجال تصيح: النفير فساءت حال كثير من الناس في هذه الفتنة وماتوا على الطرق من القر والبرد وهم مع ذلك مجتهدون في القتال ونصبوا العرادات على أبواب البلد فلم تبطل الحرب يوما من الأيام وفي الليل تضرب الأبواق فيثور الناس من فرشهم ويسيرون بالمشاعل فيقيمون إلى الصباح. فلما تفاقم الأمر واشتد البلاء وقوى أهل الشر من أهل البلد وأكلوا أموال الناس كتب مشايخ البلد إلى محمود في الصلح وأحضروا ابن الماورد وابن شرارة وزجروهم وانصرفوا على أن أحداً لا يعارض السلطان في البلد وقد فتح المسلمون المصاحف والنصارى الإنجيل واليهود التوراة واجتمعوا بالجامع وضجوا بالدعاء وداروا المدينة وهي منشورة على رؤوسهم . وبلغ المعز ما وقع بدمشق من الحروب وما صارت إليه من الخراب فكتب إلى ريان الخادم وهو بطرابلس أن يسير إلى دمشق وينظر في أمر الرعية ويصرف أبا محمود عن البلد فقدم ريان إلى دمشق وأمر أبا محمود بالرحيل فسار في عدد قليل من عسكره وتأخر أكثرهم مع ريان ونزل أبو محمود في الرملة وورد عليه كتاب المعز يوبخه وكان صرف أبي محمود عن دمشق في شعبان سنة أربع وستين. هذا ما كان من خبر دمشق. وأما القاهرة فإنه طيف فيها في ذي القعدة سنة ثلاث وستين بنيف وأربعين رأساً جيء بها من الصعيد. وفي ذي الحجة نودى أن لا تلبس امرأة سراويل كبارا ووجد سراويل فيه خمس شقاق وآخر قطع من ثماني شقاق دبيقي. وفيه هلك رسول ملك الروم فسيره المعز في تابوت إلى بلد الروم. وركب المعز لكسر الخليج. وفيها منع المعز من وقود النيران ليلة النيروز في السكك ومن صب الماء يوم النوروز. وكثر الإرجاف بمسير الروم إلى أنطاكية. وفي يوم عرفة نصبت الشمسة في القصر. وصلى المعز صلاة العيد وخطب على الرسم الذي تقدم ذكره وانصرف إلى القصر فأطعم على الناس. وانتهت زيادة ماء النيل إلى سبع عشرة ذراعاً وجرى الرسم في الجائزة والخلع والحملان لابن أبي الرداد على العادة. وفيها حدث وباء بمصر فمات خلق كثير. ومات القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيون. ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة والخليفة أمير المؤمنين المعز لدين الله معد. والخراج ووجوه الأموال إلى يعقوب بن كلس وعسلوج. والقاضي أبو طاهر محمد بن أحمد. والشرطة السفلى إلى جبر بن القاسم. والشرطة العليا إلى جبر المسالمي. وصاحب المظلة شفيع الخادم الصقلبي. وإمام الجمعة عبد السميع بن عمر العباسي. وصاحب بيت المال محمد بن الحسين بن مهذب. وإمام الخمس الحسن بن موسى الخياط. والمحتسب عبد الله بن ذلال. وفي المحرم قدم أفلح الناشب من برقة فخرج إليه بالجيزة وجوه الدولة والقاضي والرعية وأنزل بمكان. وورد الخبر بخلع نفسه وبيعة ابنه الطائع. وأطلق أبو الهيجاء بن منجا القرمطي وابنه وخلع عليه وحمل وأطلق معه بضعة عشر من القرامطة. ولست بقين من ربيع الآخر توفيت أم المعز. وفي جمادى الأولى أطلق المعز الجائزة لوفد الحجاز من الأشراف وغيرهم ومبلغها أربعمائة ألف درهم. وقلد أبا الحسن محمد بن محمد بن عبيد الله بن الحسن الحسيني الكوفي قضاء الشامات ودار الضرب والحسبة وحمل على بغلة وبرذون ومعه ثلاثة عشر تخت وستة آلاف درهم وكتب له وضمن أبو عبد الله الحسن بن إبراهيم الرسي وأبو طاهر سهل بن قمامة خرج الأشمونين وحربها وخلع عليهما وسارا بالبنود والطبول. وضمن أبو الحسن على بن عمر العداس كورة بوصير وأعمالها وخلع عليه وحمل وسار بالبنود والطبول. واعتل الأمير عبد الله بن المعز ومات لسبع بقين منه بعد جدته بتسعة عشر يوماً فجلس المعز للعزاء ودخل الناس بغير عمائم وفيهم من شوه نفسه وأظهر الجزع الشديد فكان المعز يسكنهم ويقول: اتقوا الله وارجعو إلى الله. وغلقت الأسواق ثم جلس الناس بزيهم ومنهم قيام فأمر القاضي محمد بن النعمان بغسله والمعز يتحدث ويسأل عن آي من القرآن وعن معانيها لأن القراء كانوا يقرءون ووصف ابنه عبد الله بالفضل والبر فقال له أبو جعفر مسلم: أعوذ بالله من فقد الولد البار فقال له المعز: فما تقول في الولد العاق والأخ العاق يعرض له بابنه جعفر وبأخيه عبد الله وكونهما مع فقال له أبو جعفر مسلم: إذا بليت بالولد العاق والأخ العاق كان في الله وفي بقاء مولانا منهما عوض. فقال له المعز: لا صان الله من لا يصونك ولا أكرم من لا يكرمك ولا أعز من لا يعزك ولا أجل من لا يجلك. فقام أبو جعفر وقبل الأرض هو وجماعة من في المجلس وشكروه على قوله. ثم خرج تابوت عبد الله وحوله أهل الكوفة بالصراخ والبكاء فصلى عليه المعز ودخل معه حتى واراه في القصر. وفي جمادى الآخرة ورد الخبر بموت عبد الله أخي مسلم بظاهر البصرة كما تقدم وبموت المطيع ببغداد وأن موته كان في المحرم وأن ابنه الطائع سمه وأن فتنة وقعت ببغداد بين الترك والديلم وبين الرعية والشيعة وغلا السعر ونهبت الأسواق والدور وأن أبا تغلب بن حمدان رحل إلى بغداد متوسطاً بين الطائع وبختيار. وفيه سار نصير الخادم الصقلبي عبد المعز إلى الشام في عسكر كثير ودخل بيروت. وفي أول رجب أصلح جسر القسطاط ومنع الناس من ركوبه وقد كان أقام ستين معطلاً. وركب المعز إلى المقس وسار على شط النيل ومعه أبو طاهر القاضي يحدثه حتى عبر وفيه وردت رؤوس من المغرب عدتها ثلاثة آلاف فطيف بها وذلك أن خلف بن جبر صعد في بني هواس إلى قلعه منيعة فاجتمع عليه كثير من البربر فزحف إليه يوسف ابن زيرى فكانت بينه وبينهم حروب عظيمة قتل فيها خلائق كثيرة حتى أخذ القلعة في عاشر شعبان ففر خلف وقتل بها آلافاً كثيرة بعث منها سبعة آلاف رأس إلى القيروان فطيف بها ثم حمل منها إلى مصر ما ذكر. وفيه وقع الجدري في كثير من الناس وأقام شهوراً. وكانت وقعة مع الروم بطرابلس. وفي شعبان وصل أفتكين بعسكر من الأتراك إلى دمشق وورد كتابه على المعز وهو يستأذن في المسير فشاور المعز أبا جعفر مسلم فقال: هم قول غدر فإن تأذن لهم غلبوا على دمشق. فشرع المعز في تعبئة العساكر وإنفاذها لقتاله. وكان من خبر أفتكين أن الديلم والأتراك اختلفوا ببغداد فأراد عز الدولة أبو منصور بختيار بن معز الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه الديلمي سلطان العراق أن يقبض على سبكتكين التركي وكانت الأتراك تتعصب معه وهم في أربعة آلاف هو أميرهم فغلبوا بختيار وخرج عن بغداد وغلب سبكتكين التركي عليها وكان في قوة من المال والسلاح والرجال فلم تطل مدته بعد غلبته على بغداد وهلك فاستخلف من بعده على الأتراك أفتكين الشرابي مولى معز الدولة بن بويه وكان شجاعاً ثابتاً في الحرب فسار بالأتراك من بغداد لحرب الديلم فجرى بينهم قتال عظيم. وقاتل أفتكين حتى تفرق من حوله إلا يسيراً وانهزم صاحب رايته فلحقه وضربه باللت وأخذها من يده وحمل على الديلم فقتل منهم كثيراً باللتوت ثم حمل عليهم الديلم فانهزموا وأفتكين في نحوا الأربعمائة من الأتراك فأخذ على الفرات حتى نزل الرحبة ثم أخذ في البر وقد أظهر من المهابة ما لم يتجاسر العرب على نهبه فنزل جوشية من قرى الشام فجمع له ظلم بن موهوب العقيلي وهو حينئذ على بعلبك من قدر عليه من العرب وأنفذ إلى أبي محمود قبل أن يسير عن دمشق يطلب منه عسكراً فأنفذ إليه جماعة وخرج يريد أفتكين وهو في ألفين فسار يريد جوشية. وبعث أبو المعالي ابن حمدان بشارة الخادم من حمص في ثلاثمائة رجل إلى جوشية مدداً لأفتكين على ظالم فبعث بشارة إلى ظالم فصرفه عن محاربة أفتكين وعاد إلى بعلبك وسار بشارة بأفتكين فنزل بأفتكين بظاهر حمص ووعده عن مولاه أبي المعالي بكل جميل وحمل إليه أبو وسأله أفتكين أن يوليه كفر طاب ويكون تبعاً له فما هو إلا أن ورد عليه رسول بن الماورد الشاطر من دمشق بأن يسير إلى دمشق وأنه يخرج إليه بأهل البلد ويقاتلوا عسكر المغاربة ويملكوه عليهم فوقع ذلك منه بموقع فبعث إلى أبي حمدان يقول: إني نظرت في الذي وليتني فإذا هو لا يقوم بمن معي من الغلمان وإني أريد أن أرجع إلى بغداد. فقال: افعل ما تراه. فسار كأنه يريد أن يأخذ طريق البلد إلى بغداد وأخذ نحو دمشق وقد نزل ريان عليها وجاءته أخبار طرابلس: بأن العدو قد خرج ونحن نخاف علي البلد أن يؤخذ فانزعج وخاف على طرابلس وإذا بالخبر ورد عليه بأن أفتكين قد توجه نحوه بموافقة أهل البلد فعرض عساكره وبرز يريد عقبة دمر. وأصبح أفتكين على ثنية العقاب ولم يعلم بأن ريان الخادم قد ارتحل عن البلد بجميع أصحابه حتى لم يبق منهم أحد فوصل إلى البلد وقد أجهده وأصحابه التعب لأيام بقيت من شعبان. ونزل بظاهر البلد فخرج الناس إليه واستبشروا به وسألوه أن يملكهم ويزيل المصريين ويكف عن الأحداث فأجابهم واستحلف على الطاعة والمساعدة وحلف لهم على الحماية وكف الأذى عنهم منه ومن غيره. وقطع خطبة المعز وخطب للطائع وقمع أهل العبث فهابته الكافة وصلح به كثير من أمر البلد وأقام أياماً وشاع خبر العدو أنه قد أقبل في جيش عظيم فاستعدوا لقتاله ونزل العدو على حمص فلم يعرض لأحد بأرض حمص لهدنة كانت بينه وبين أبي المعالي ابن حمدان. وسار أفتكين إلى بعلبك في طلب ظالم ففر منه فنزل أفتكين بعلبك وكانت العرب قد استولت على ما خرج عن سور دمشق فأوقع بهم أفتكين وقتل كثيراً منهم وظهر منه حسن تدبيره وقوة نفس وشجاعة فأذعن الناس له وأقطع البلاد فكثر جمعه وتوفرت أمواله وثبت قدمه وملك بعلبك من ظالم بن موهوب فقصده الروم وعليهم الدمستق فقاتلهم أشد قتال ثم كثروا عليه فانهزم. ودخل الروم بعلبك فأخذوا منها ومما حولها سلباً كثيراً وأحرقوا وذلك في شهر رمضان وانتشرت خيلهم وسراياهم في أعمال بعلبك والبقاع تحرق وتسبى وامتدوا إلى الزبداني فأخذ الناس عليم المضايق ومنعوهم من الدخول إلى الوادي. وخرج من دمشق قوم فخاطبوا كبير الروم في الهدنة فطلب منهم مالا لينصرف عن البلد فخرج إليه أفتكين ليخاطبه عن البلد وأهدى إليه من كل ما كان معه من بغداد فأكرمه وقربه فخاطبه أفتكين في أمر البلد وأعلمه بأنه خراب ليس فيه غير حمال السلاح ولا مال فيه فقال له: ما جئنا لنأخذ مالاً وإنما جئنا لنأخذ الديار بأسيافنا وقد جئتنا بهدية وقد أجبناك إلى ما طلبت وغرضنا فيما نأخذه من المال أن يقال بلد ملكناه فأخذنا هديته. فقال أفتكين: هذا بلد ليس لي فيه إلا أيام يسيرة ولم آمر فيه ولم أنه وقد خرج معي إليك رجل له يد في البلد يمنعني من كل ما أفعله. وقد كان خرج معه علاء بن الماورد فقال: ومن يدفعك عما تريد قال: هذا وأصحابه. فأمر بالقبض على بن الماورد فقبض وقيد وجرت الموافقة مع أفتكين على أنه يجبي المال ويكون على سبيل الهدنة ويكف عن دمشق وأعمالها فعاهده ملك الروم على ذلك وكان أبو محمود إبراهيم بن جعفر حينئذ بطبرية فبلغه خروج أفتكين إلى الروم فسير جيش بن الصمصامة في نحو الألفين ليأخذ دمشق فسرى من طبرية وكان شبل بن معروف العقيلي على شينيه وليس لجيش به علم فركب إليه شبل في جمع من العرب فواقعوه فانهزم وأتى الخبر إلى أفتكين وقد خرج من عند ملك الروم فخرج الأتراك وأدركوهم فقتلوا منهم كثيراً وأخذ جيش أسيراً فبعث به أفتكين إلى الروم وهو مقيم على عين الجر ينتظر المال. وجبى له أفتكين من دمشق ثلاثين ألف دينار بالعنف ورحل فنزل على بيروت وبها نصير الخادم من قبل المعز فلم يزول الرومي يراسل أهل بيروت: إني لا أريد خراب بلدكم وإنما أريد أن تسلموا إلي هذا الخادم ومن معه وأجعل عندكم من قبلي من يدفع عن بلدكم. حتى خرج إليه نصير ومن معه فأخذهم وولى على بيروت من قبله شخصا في مائتي رجل. وسار فنزل على طرابلس وفيها ريان الخادم الذي كان على دمشق في خلق من المغاربة فقاتلوه أشد قتال. ونزل بالرومى مرض فرحل إلى بلده وهلك في الطريق. وتمكن أفتكين من دمشق فأنفذ شبل بن معروف العقيلي إلى طبرية ففر عنها أبو محمود بمن وقدمت جيوش المعز وفيها كثر مخافتهم العرب واقتتلوا بجوار بيت المقدس مع العرب فظهر العرب عليهم وهزموهم وقتلوا كثيراً منهم وسيروا عدة منهم إلى دمشق فطيف بهم في الأسواق على الجمال وملأوا بهم الحبوس فأقاموا في ضر ثم ضربوا أعناقهم وكان مع ذلك أفتكين طوال مقامه بدمشق يكاتب القرامطة ويكاتبونه. وركب المعز يوم عيد الفطر فصلى وخطب على رسمه المعتاد وورد عليه الخبر بوقعة ريان بالرومى وهزيمة الروم وقد أسر ريان منهم وقتل وغنم فسر المعز بذلك وتصدق ودخل الناس عليه فهنأوه وقال الشعراء في ذلك وفي خلع المطيع شعراً كثيراً. وبعث إلى الحجاز بالأموال والنفقة وكسوة الكعبة. ووردت رؤوس من المغرب فطيف بها. وقدم إليه من المغرب ماء للشرب من العين التي أجراها. وأنفذ رسولا إلى القرامطة برسالة إلى الأحساء. وفيه ثارت فتنة بين المصريين والمغاربة فقبض على جماعة وضربوا. وفي ذي القعدة نودي لخمس خلون منه في الجامع العتيق: الحج في البر. وكان قد انقطع منذ سنين. وفيه مات عبد الله بن أبي ثوبان وكان قد نصبه المعز للنظر في مظالم المغاربة فتبسط في الأحكام بين المصريين وقال في كتبه: قاضي مصر والاسكندرية وشهدت عنده شهود مصر من المعدلين. وفيه خاطب المعز علي بن النعمان بالقضاء وأذن له في النظر في الأحكام فجلس في داره ومسجده ونظر في الأحكام. وطيف برؤوس من الأعراب والروم وردت من الشام ومن الصعيد. وقدم للنصف منه جواب القرامطة من الأحساء فخلع على الرسول وعلى جماعة معه وحملوا. وفيه طلع نجم الذنب عند الفجر وله شعاع كبير فأقام أياماً واضطرب الناس ولما رآه المعز استعاذ منه. وطلبت العبيد الصقالبة من جميع الناس وأخذوا بالثمن. وانفرد عسلوج بن الحسن بالديوان والنظر في أبواب المال كلها. وفي مستهل ذي الحجة طيف برؤوس على رماح يقال عدتها إثنا عشر ألف رأس وردت من المغرب فيها رأس خلف بن جبر وقد ثار بالمغرب واجتمع عليه البربر فظفر به يوسف ابن واعتقل جماعة من الإخشيدية والكافورية وطولبوا ببيع عقارهم ورد ما باعوا منه. ووردت هدية أبي محمود من الشام وهي مائة فارس وأحمال مال. وبرز ركب المعز يوم عيد النحر على رسمه فصلى وخطب وأطعم الناس بالقصر. وكسر الخليج ولم يركب إليه المعز. وفي يوم النوروز زاد اللعب بالماء ووقود النيران وطاف أهل الأسواق وعملوا فيلة وخرجوا إلى القاهرة بلعبهم فأقاموا على ذلك ثلاثة أيام وأظهروا السماجات في اللعب بالأسواق فأمر بالنداء أن يكف عن اللعب وأخذ قوم فطيف بهم وحبسوا. وأمر أن يكون في الشرطة السفلى فقيهان يجلسان ثم صرفا. وورد الخبر بوقعة كانت لأبي محمود مع ابن الجراح الطائي بناحية طبرية. وأمر المعز بتغيير المكاييل والموازين وجعلت الأرطال من رصاص. وأمر المعز القاضي أبا طاهر وشهوده أن يرفعوا إليه أخبار البلد ولا يكتموه شيئاً ونصبوا لذلك رجلاً فامتنع. وبلغ النيل بزيادة الجديد سبع عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعاً فأمر لابن أبي الرداد بالجائزة والخلع والحملان على عادته. أبو جعفر أحمد بن القاضي النعمان بن محمد بمصر يوم الثلاثاء خامس ربيع الأول. وحسن بن سعيد الأفرنجي بالقاهرة فصلى عليه المعز ودفن بها. وإسماعيل بن لبون الدنهاجي وصلى عليه المعز. وعلي بن الحرسي صاحب الخراج. ومات حسن بن رستق الدنهاجي. ومات أيضاً أبو الفرج محمد بن إبراهيم بن سكرة في ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة والأمر على حاله إلا أن القضاء بيد أبي طاهر محمد بن أحمد واشترك معه القاضي علي بن النعمان فكان كل منهما ينظر في داره. وتثاقل يعقوب بن كلس عن حضور الديوان وانفرد بالنظر في أمور المعز في قصره. وفي المحرم عمرت كنيسة بقصر الشمع. وورد سابق الحاج فأخبر بإقامة الدعوة بمكة ومسجد إبراهيم يوم عرفة ومدينة الرسول وسائر وكان هذا أول موسم دعى فيه للمعز بمكة ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر المعز بذلك وتصدق شكراً لله. وورد كتاب أمير مكة جعفر بن محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وكتاب أخيه الحسن بن محمد الحسني وهو أخو صفية امرأة عبد الله بن عبيد الله أخي مسلم يسأل الإحسان إلى أخته صفية وكانت مستترة فأمر برد ضياعها وريعها وتسليم ذلك إليها فأحضر يعقوب بن كلس القاضي أبا طاهر وشهوده وأشهدهم في كتاب عن المعز أنه أمره برد ضياعها ورياعها إليها فظهرت وأمنت. وكتب جعفر بن محمد الحسني أمير مكة يسأله في بني جمح أن يرد حبسهم إليهم الذي بمصر وفي ولد عمر وبني العاص أن يرد حبسهم بمصر إليهم فأطلق المعز ذلك لبني جمح. وورد رسول ملك الروم فغلقت الحوانيت وخرج الناس تنظر إليه. قال ابن الأثير وكان سبب موت المعز أن ملك الروم بالقسطنطينية أرسل إليه رسولاً كان يتردد إليه بإفريقية فخلا به المعز بعض الأيام وقال له: قال: نعم قال: وأنا أقول لك لتدخلن علي ببغداد وأنا خليفة. فقال له الرسول: إن أمنتني ولم تغضب قلت لك ما عندي. فقال له المعز: قل وأنت آمن. فقال: بعثني إليك الملك ذلك العام فرأيت من عظمتك في عيني وكثرة أصحابك ما كدت أموت منه ووصلت إلى قصرك فرأيت عليه نوراً غطى بصري ثم دخلت عليك فرأيتك على سريرك فظننتك خالقاً فلو قلت لي إنك تعرج إلى السماء لتحققت ذلك ثم جئت إليك الآن فما رأيت من ذلك شيئاً أشرفت على مدينتك فرأيتها في عيني سوداء مظلمة ثم دخلت عليك فما وجدت من المهابة ما وجدته ذلك العام فقلت إن ذلك كان أمراً مقبلاً وإنه الآن بضد ما كان فأطرق المعز وخرج الرسول من عنده وأخذت المعز الحمى لشدة ما وجد واتصل مرضه حتى مات. وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: إن المعز أنفذ إلى ابن السوادكي فقال: من لك بالحجاز من التجار تكاتبه اكتب إلى من تراه منهم بأن يكتب إلى عدن بحمل ما يقدر عليه من خشب الأبنوس الحسن التلميع التام الطول الغليظ مما لا غاية وراءه. فكتب إلى تاجر بمكة وأكد عليه فما كان إلا نحو شهرين حتى عاد جوابه أنه وجد منه ما ليس له في الدنيا نظير وحمله في مركب فسر بذلك وبكر إلى المعز فأخبره الخبر وأنه في القلزم فأطرق وتغير لونه فقال له: يا مولانا هذا يوم فرح وسرور بأن تطلب أمراً يكون بعد مدة فيسهله الله في أقرب وقت. فقال: يا محمد ليس يدري إلى حيث خرجت. ثم سار خارجاً إلى ظاهر القاهرة وهو يقرأ سورة الفتح إلى آخرها ويرددها كلما فرغ منها ورجع فاعتل بعد جمعة وترددت به العلة فمات في الشهر الخامس وما طلبه منى ولا أذكرته قال ابن زولاق: ولأربع خلون من صفر ورد حاج البر وقد كان البر أقام سنين لم يسلك. وفيه حضر على بن النعمان القاضي جامع القاهرة وأملى مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت ويعرف هذا المختصر بالاقتصار وكان جمعاً عظيماً. وفي ربيع الآخر وردت رسالة القرامطة بأنهم في الطاعة. وفيه أذن المعز لجماعة المصريين فدخلوا عليه وخاطبهم وهو على سرير الملك فصاح به رجل منهم: يا أمير المؤمنين قال الله عز وجل : " وَلَقَدْ أَهْلَكْنا القرونَ مِنْ قبلكم لَمَّا ظَلَموا وجاءْتْهُم رُسُلُهمْ بالبَيِّناتِ وما كانوا ليُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ المُجْرِمين. ثم جعَلْناكُمْ خَلائِفَ في الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِم لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ". يا أمير المؤمنين لننظر كيف تعملون. وقال: صدق الله كذا قال عز وجل ونسأل الله التوفيق. واعتل المعز لثمان خلون من ربيع الأول فأقام ثمانياً وثلاثين يوماً ووصف له البطيخ البرلسي يؤخذ ماؤه فطلب بمصر فلم يوجد سوى واحدة اشتريت بخمسة دنانير ثم وجد منها ثماني عشرة بطيخة اشتريت بثمانية عشر ديناراً وكان الناس يغدون إلى القصر ويروحون والذي فلما كان لأربع عشرة بقيت من ربيع الآخر اشتدت العلة. وعرف باجتماع الناس وكثرة الرقاع في الظلامات والحوائج وسئل فيمن ينظر في ذلك فأمر أن ينظر فيه ولي عهده نزار فاستخلفه وخرج السلام إلى الناس فانصرفوا. وخرج القائد جوهر وموسى بن العازار الطبيب بالعزيز فأجلسوه وخرج إليه إخوته وعمومته وسائر أهله فبايعوه ثم أدخل إليه أكثر الأولياء فبايعوه وسلموا عليه بالإمرة وولاية العهد فابتهج الناس بذلك. ودخل عليه من الغد القاضي أبو طاهر وجماعة الشهود والفقهاء فسلموا عليه بولاية العهد وقبلوا له الأرض فرد عليهم أحسن رد وأخبرهم بأن المعز بخير قال: مولانا صلوات الله عليه في كل عافية وسلامة في أحواله وفي رأيه لكم وانصرفوا. وكان يوم جمعة فدعا له عبد العزيز بن عمر العباسي على منبر الجامع العتيق بعد أن دعا للمعز فقال: اللهم صل على عبدك ووليك ثمرة النبوة ومعدن الفضل والإمامة عبد الله معد أبي تميم الإمام المعز لدين الله كما صليت على آبائه الطاهرين وأسلافه المنتخبين من قبله. اللهم أعنه على ما وليته وأنجز له ما وعدته وملكه مشارق الأرض ومغاربها. واشدد اللهم أزره وأعز نصره بالأمير نزار أبي المنصور ولي عهد المسلمين ابن أمير المؤمنين الذي جعلته القائم بدعوته والقائم بحجته. اللهم أصلح به العباد ومهد لديه البلاد وأنجز له به ما وعدته إنك لا تخلف الميعاد. وتوفي المعز لدين الله عشية هذا اليوم ليلة السبت السادس عشر من شهر ربيع الآخر وقيل يوم الجمعة حادي عشر وقيل ثالث عشر ولم يظهر ذلك ولا نطق به أحد مدة ثمانية أشهر. وقيل إن السيدة لما اشتدت علة المعز أحضرت القائد جوهر وهو ملتف في برد من. وحضر يعقوب بن يوسف بن كلس وعسلوج القائد وأفلح الناشب وطارق الصقلبي فقالوا للمعز: نريد أن تبصرنا رشدنا وتعلمنا لمن الأمر. فلم يجبهم فقال له جوهر: قد كنت سمعت منك قولاً في هذا استغنيت به عن إعادة السؤال غير أنهم أكرهوني على الدخول. وقال لهم: قابلتموني بما لا يجب وبكى. فخرجوا فلما كان اليوم الثالث مات فصار العزيز إذا رفعت إليه الأمور يدخل كأنه يشاوره ويخرج بالأمر. قال ابن زولاق: وكان يعني المعز في غاية الفضل والاستحقاق للإمامة وحسن السياسة. وكان مولده سنة تسع عشرة وثلاثمائة أدرك من أيام المهدي جد أبيه أربع سنين وتوفي القائم وللمعز ست عشرة سنة. واجتمع للمعز بمصر ما لا يجتمع لآبائه وذلك أنه حصل له بالمغرب أربعة وعشرون بيتاً من المال: منها أربعة عشر خلفها المهدي ولم يخلف القائم عليها شيئاً وخلف المنصور بيتاً واحداً وكسوة وأضاف إليها المعز تسعة فصارت أربعة وعشرين بيتاً أنفق أكثرها على مصر إلى أن فتحت ودخلها وحصل له من مال مصر أربعة بيوت سوى ما أنفقه وسوى ما قدم به معه. واجتمع له أن خلفاءه بمصر استخرجوا له ما لم يستخرج لأحد بمصر فاستخرج له في يوم واحد مائة ألف دينار وعشرون ألف دينار. وهزمت القرامطة في أيامه أربع مرار: مرتين في البر على باب مصر ومرتين في البحر وما تم عليهم هذا قط منذ ظهر أمرهم. وأقيمت له الدعوة يوم عرفة في مسجد إبراهيم عليه السلام وبمكة والمدينة وسائر أعمال الحرمين ولم ترد له راية. وسار ابن السميسق ملك الروم إلى ريان عبد المعز وهو بطرابلس فانهزم وأخذت غنائمه وأسر رجاله. وكتب اسمه على الطرز بتنيس ودمياط والقيس والبهنسي قبل أن يملك مصر. وتتابعت له الفتوح. ودعى لفاطمة ولعلي عليهما السلام في أيامه على المنابر في سائر أعماله وفي كثير من أعمال العراق. ونصبت الستائر على الكعبة وعليها اسمه. ونصبت له المحاريب الذهب والفضة داخل الكعبة وعليها اسمه. وكاتب أهل العراق وأهل اليمن وأهل خراسان وأهل الحرمين والترك بالخلافة. وكان على التجهز للمسير للحج ثم إلى قسطنطينية للجهاد. وكان مقامه بمصر سنتين وسبعة أشهر وعشرة أيام. قال ابن الأثير: وولد بالمهدية من إفريقية حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة. ومات وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريبا. وكانت ولايته الأمر ثلاثاً وعشرين سنة وعشرة أيام. وهو أول الخلفاء العلويين ملك مصر وخرج إليها. وكان مغرى بالنجوم. ويعمل بأقوال المنجمين قال له منجم إن عليه قطعاً في وقت كذا وأشار عليه بعمل سرداب يختفي فيه إلى أن يجوز ذلك الوقت ففعل ما أمره وأحضر قواده وقال لهم: إن بيني وبين الله عهداً أنا ماض إليه وقد استخلفت عليكم ابني نزار فاسمعوا له وأطيعوا. ونزل السرداب فكان أحد المغاربة إذا رأى سحاباً نزل وأومي إليه بالسلام ظنا منه أن المعز فيه فغاب سنة ثم ظهر وبقي مدة ومرض وتوفى فستر ابنه نزار العزيز موته إلى عيد النحر من السنة فصلى بالناس وخطبهم ودعا لنفسه وعزى بأبيه. وذكر القاضي عبد الجبار بن عبد الجبار البصري في كتاب تثبيت نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم المعز لدين الله وقال: واحتجب عن الناس مدة ثم ظهر وجلس في حرير فائق أخضر مذهب وعلى وجهه الجواهر واليواقيت وأوهم أنه كان غائباً وأن الله رفعه إليه وكان يتحدث بما يأتيه أهل الأخبار في وتعرض بالجمل دون التفصل. قال مصنفه رحمة الله عليه : ليس الأمر كما قال ابن الأثير فقد حكى الفقيه الفاضل المؤرخ أبو الحسن بن إبراهيم بن زولاق المصري في كتاب سيرة المعز وقد وقفت عليها بخطه رحمه الله أخبار المعز منذ دخل مصر إلى أن مات يوماً يوماً وأن المعز إنما عهد لابنه يوم الخميس لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر قبل موته بيومين وذكر أن سبب العهد إليه اجتماع الناس بباب القصر وكثرة الرقاع وأنه سئل فيمن ينظر في ذلك فأمر ابنه نزار العزيز أن ينظر فيه فاستخلفه وقد ذكرت ملخص هذه السيرة فيما مر من أخبار المعز وأن ابن زولاق أعرف بأحوال مصر من ابن الأثير خصوصاً المعز فإنه كان حاضراً ذلك ومشاهداً له وممن يدخل إليه ويسلم مع الفقهاء عليه ويروى في هذه السيرة أشياء بالمشاهدة وأشياء مدته بها ثقات الدولة وأكابرها كما هو مذكور فيها إلا أن ابن الأثير تبع مؤرخي العراق والشام فيما نقلوه وغير خاف على من تبحر في علم الأخبار كثرة تحاملهم على الخلفاء الفاطميين وشنيع قولهم فيهم ومع ذلك فمعرفتهم بأحوال مصر قاصرة عن الرتبة العلية فكثيراً ما رأيتهم يحكون في تواريخهم من أخبار مصر ما لا يرتضيه جهابذة العلماء ويرده الحذاق العالمون بأخبار مصر وأهل كل قطر أعرف بأخباره. قال ابن الأثير: وكان المعز عالماً فاضلاً جوادا جارياً على منهاج أبيه حسن السيرة وإنصاف الرعية وستر ما يدعون إليه إلا عن الخاصة ثم أظهره وأمر الدعاة بإظهاره إلا أنه لم يخرج فيه إلى حد يذم به. وقال ابن سعيد في كتاب المغرب: إن جوهر القائد لما كان على عسقلان وهجم عليه العدو وأحرقوا خيمته وما قدروا عليه وقاتل الناس إلى أن كشفوا العدو وعادوا إلى مكانهم ترجل جوهر وقبل الأرض وقال: حذرني مولانا المعز بالمغرب وقال لي: احذر النار في عسكرك ببرقة فلما جزت بها تحفظت من النار فلما صرت في مصر: قلت الحق ما يقول مولانا وما هو إلا أن أعود إلى المغرب فيكون ذلك فيها فلما نزلت هذا المنزل عرفت أنه يقال له برقة وكنت والله خائفاً من قول مولانا حتى رأيته عياناً. قال: ولما بلغ المعز أن يوسف بن زيرى خليفته على المغرب قبض على صاحب خراجه بالمغرب غضب واستدعى إسماعيل بن اسباط ودفع إليه كتاباً مختوماً وقال له: أنت عندي موثوق به غير مستراب بك قل له يا يوسف تغير ما أمرتك به وتنسب ما فعلته لي والله لئن هممت بالعود إليك لآتينك ولئن أتيتك لا تركت من آل مناد أحداً بل من بلكانه لا بل من صنهاجة أخرج ابن الأديم فاردده إلى النظر في الخراج على رسمه وامتثل جميع ما أمرتك به ولا تخالف شيئاً منه. قال: فسرت بأحسن حال حتى دخلت القيروان فلم أجده فسرت إليه فلما رآني نزل وقبل الأرض لما ترجلت له وقيل بين عيني وقال: هذه العين الذي رأت مولانا. وأوصلت إليه السجل فقرأه سرا مع كاتبه وترجمانه وأديت إليه الرسالة بيني وبينه فعهدي به يرتعد وينتفخ ويسود ويقول: نفعل والله وكتب برد زيادة الله بن الأديم إلى نظره وأقمنا مدة. قال ابن سباط: فأنا راكب معه ذات يوم إذ ورد إليه نجاب بكتاب لطيف فقرأه عليه راكبا الترجمان فرأيته ضرب الفرس وحركه فأقامه وأقعده وهز رمحه في وجوه رجاله يمينا وشمالا وجعل يقول: أبلكين أمليح اسم أمه أزيرى أمليح اسم أبيه أمناد أمليح اسم جده. قال: فقلت في نفسي: خبر ورد إليه سره وأدرت فكري فوقف في أن مولانا المعز مات. فنظر إلى وجهي متغيرا فأخذني ونزل إلى دار إمارته فأدار إلى وجهه وقال: مالك تغير وجهك مات مولانا المعز فأحسن الله عزاك عنه. فقال: من أخبرك. قلت: أنت أخبرتني. قال: وكيف!. قلت: رأيتك قد عملت بعد قراءة الكتاب عليك ما لا أعرفه منك. فقال: قد صدقت قد مات مولانا المعز. قلت له: فيقدر أن أحدا لا يقوى من بعده في مجلسه. فقال: فقلت له: ينبغي أن تنتظر كتاب ولده الذي أتى من بعده فسيأتيك ما تحب. قال: صدقت واكتم ما جرى ولكن يا ابن اسباط بعدت مصر من المغرب وقد صار المغرب والله في أيدينا إلى دهر طويل. وأقمت فورد كتاب العزيز إليه يعزيه ويوليه فسر وخلع علي وسيرني. قال ابن سعيد عن كتاب سيرة الأئمة لابن العلاء عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين بن مهذب. وأورد ليوسف بن زيرى خطبةً كتب بها إلى العزيز بن المعز جوابا عن كتابه يقول فيها: وأعوذ بالله أن أقول ما شنعه أهل الزور والجحود بل أنا عبد من عبيده أيدني بنور هدايته وألبسني قميص حكمته وتوجني بعز سلطانه وحملني أثقال علم ربوبيته واختصني بنفس كلايته وذكر أنه ولى عهده بعد ابنه الشاعر تميما ثم عزله وولى ابنه عبد الله إفريقية ثم ولى ابنه بمصر العزيز الذي صحت له الخلافة بعده. قال ابن سعيد: وقال ابن الطوير: لما دخل المعز قرأ أحد القراء عند دخوله وكان منجما : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا. فقال المعز: العاقبة. فقال حميدة. قال المعز: الحمد لله. ومن أحسن ما مدح به المعز قول الحسن بن هانىء فيه: إذا أنت لم تعلم حقيقة فضله ** فسائل عليه الوحي المنزّل تعلم فأُقسم لو لم يأخذ الناس فضله ** عن الله لم يعلم ولم يتوهّم وأيّ قوافي الشعر فيك أجولها ** وهل ترك القرآن من يترنّم وكان نقش خاتمه: بنصر العزيز العلم ينتصر الإمام أبو تميم. وكان يشبه في بني العباس بالمأمون في سفره من القيروان. |
12-21-2012, 08:43 PM | #13 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
العزيز بالله
أبو المنصور ابن المعز لدين الله أبي تميم معد ابن المنصور بنصر الله أبي الطاهر إسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد ابن المهدي عبيد الله أمه أم ولد واسمها درزان. ولد بالمهدية يوم الخميس الرابع عشر من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. وولى العهد بمصر وبويع لسبع بقين من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة. ومن كتاب ابن مهذب: سمعت مولانا العزيز يقول: خرج مولانا المعز يوماً بمصر يمشي في قصره وأنا وأخي تميم وعبد الله وعقيل نمشي خلفه فخطر ببالي أن قلت: ترى بصير هذا الأمر إلي أو إلى أخي عبد الله أو إلى أخي تميم وإن صار إلي ترى أمشي هكذا وهؤلاء حولي. قال: وانتهى مولانا المعز إلى حيث أراد ووقفنا بين يديه وانصرفت الجماعة وأراد لانصراف فقال: بحياتي يا نزار إذا سألتك عن شيء تصدقني. قلت: نعم يا مولانا. قال: التفت إليك فرأيتك وقد أعجبتك نفسك وأنت تنظر إلي وإلى نفسك وإلى أخوتك وأنا أسارقك النظر وأنت لا تعلم فقلت في نفسك: ترى هذا الأمر بصير إلي وإخوتي حولي. قال: فاحمر وجهي ودنوت منه فقبلت بين يديه وقلت وقد غلبني البكاء: يجعل الله جميعنا فداك. فقال: دع عنك هذا كان كذا. قلت: نعم يا مولانا فكيف عرفته. قال: حزرته عليك ثم لم أجد نفسي تسامحني في إعجابك بنفسك على شيء سوى هذا الأمر فهو صائر إليك فأحسن إلى إخوتك وأهلك خار الله لك ووفقك. وقد تقدم أن المعز لما مات كتم موته إلى يوم النحر فأظهرت وفاته فركب العزيز بالمظلة وخطب بنفسه وعزى نفسه والناس تسلم عليه بالخلافة وركب إلى قصره فسلم عليه عماه: حيدرة وهاشم وعم أبيه: أبو الفرات وعم جده: أحمد بن عبيد الله. وقال ابن الأثير: لما استقر العزيز في الملك أطاعه العسكر واجتمعوا عليه وكان هو يدبر الأمر منذ مات والده إلى أن أظهره ثم سير إلى المغرب دنانير عليها اسمها فرقت في الناس وأقر يوسف ابن بلكين على ولاية إفريقية وأضاف إليه ما كان أبوه استعمل عليه غير يوسف وهي طرابلس وغيرها فاستعمل عليها يوسف عماله وعظم أمره وأمن ناحية العزيز واستبد بالملك وكان يظهر الطاعة مجاملةً لا طائل تحتها. وخطب للعزيز بمكة بعد أن أرسل إليها جيشا فحصرها وضيقوا على أهلها ومنعوهم الميرة فغلت الأسعار بها ولقى أهلها شدةً شديدة. وأما أخبار الشام: فإن أفتكين لم يزل طول مقامه بدمشق يكاتب القرامطة ويكاتبونه بأنهم سائرون إلى الشام إلى أن وافوا دمشق بعد موت المعز في هذه السنة وكان الذي وافى منهم: إسحاق وكسرى وجعفر فنزلوا على ظاهر دمشق ومعهم كثير من العجم أصحاب أفتكين الذين تشتتوا في البلاد وقت وقعته مع الديلم لقوهم بالكوفة في الموقعات فأركبوهم الإبل وساروا بهم إلى دمشق فكساهم أفتكين وأركبهم الجبل فقوى عسكره بهم وتلقى أفتكين القرامطة وحمل إليهم وأكرمهم وفرح بهم وأمن من الخوف فأقاموا على دمشق أياما ثم ساروا إلى الرملة وبها أبو محمود إبراهيم بن جعفر فالتجأ إلى يافا ونزل القرامطة الرملة ونصبوا القتال وجبى القرامطة المال فأمن أفتكين من مصر وظن أن القرامطة قد كفوه ذلك الوجه وعمل على أخذ الساحل فسار بمن اجتمع إليه ونزل على صيدا وبها ابن الشيخ ورؤساء المغاربة ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي فقاتلوه قتالا شديداً فانهزم عنهم أميالا فخرجوا إليه فواقعهم وهزمهم وقتل منهم وصار ظالم إلى صور فيقال إنه قتل يومئذ أربعة آلاف من عساكر المغاربة قطعت أيمانهم وحملت إلى دمشق فطيف بها. ونزل أفتكين على عكا وبها جمع من المغاربة فقاتلوه فسير العزيز القائد جوهر بخزائن السلاح والأموال إلى بلاد الشام في عسكر عظيم لم يخرج قبله مثله إلى الشام من كثرة الكراع والسلاح والمال والرجال بلغت عدتهم عشرين ألفاً بين فارس وراجل فبلغ ذلك أفتكين وهو على عكا والقرامطة بالرملة فسار أفتكين من عكا ونزل طبرية وخرج القرامطة من الرملة ونزلها جوهر. وسار إسحق وكسرى من القرامطة بمن معهم إلى الأحساء لقلة من معهم من الرجال الذين يلقون بها جوهر وتأخر جعفر من القرامطة فلحق بأفتكين وهو بطبرية وقد بعث فجمع في حوران والبثنية وسار جوهر من الرملة يريد طبرية فرحل أفتكين واستحث الناس في حمل الغلة من حوران والبثنية إلى دمشق وصار أفتكين إلى دمشق ومعه جعفر القرمطي فنزل جوهر على دمشق لثمان بقين من ذي القعدة فيما بين داريا والشماسية فجمع أفتكين أحداث وأخذ جوهر في حفر خندق عظيم على عسكره وجعل له أبوابا وكان ظالم بن موهوب معه فأنزله بعسكره خارج الخندق وصار أفتكين فيمن جمع من الذعار وأجرى لكبيرهم قسام رزقاً. ووقع النفي على قبة الجامع والمنابر وساروا فجرى بينهم وبين جوهر وقائع وحروب شديدة وقتال عظيم وقتل بينهم خلق كثير من يوم عرفة فجرى بينهم إثنتا عشرة وقيعة إلى سلخ ذي الحجة. ولم يزل إلى الحادي عشر من ربيع الأول سنة ست وستين فكانت بين الفريقين وقعة عظيمة انهزم فيها أفتكين بمن معه وهم بالهرب إلى أنطاكية ثم إنه استظهر. ورأى جوهر أن الأموال قد تلفت والرجال قد قتلت والشتاء قد هجم فأرسل في الصلح فلم يجب أفتكين وذلك أن الحسين بن أحمد الأعصم القرمطي بعث إلى ابن عمه جعفر المقيم عند أفتكين بدمشق: إني سائر إلى الشام وبلغ ذلك جوهر فترددت الرسل بينه وبين أفتكين حتى تقرر الأمر أن جوهر يرحل ولا يتبع عسكره أحد فسر أفتكين بذلك وبعث إلى جوهر بجمال ليحمل عليها ثقله لقلة الظهر عنده وبقي من السلاح والخزائن ما لم يقدر جوهر على حمله فأحرقه ورحل عن دمشق في ثالث جمادى الأولى. وقدم البشير من الحسن بن أحمد القرمطي إلى عمه جعفر بمجيئه وبلغ ذلك جوهر فجد في السير وكان قد هلك من عسكره ناس كثير من الثلج فأسرع بالمسير من طبرية ووافى الحسن بن أحمد من البرية إلى طبرية فوجد جوهر قد سار عنها فبعث خلفه سرية أدركه فقابلهم جوهر وقتل منهم جماعة وسار فنزل ظاهر الرملة وتبعه القرمطي وقد لحقه أفتكين فسارا إلى الرملة ودخل جوهر زيتون الرملة فتحصن به فلما نزل الحسن بن أحمد القرمطي الرملة هلك فيها وقام من بعده بأمر القرامطة ابن عمه أبو جعفر فكانت بينه وبين جوهر حروب كثيرة. ثم إن أفتكين فسد ما بينه وبين أبي جعفر القرمطي فرجع عنه إلى الأحساء وكان حسان ابن علي بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي أيضاً مع أفتكين على محاربة جوهر فلم ير منه ما يحب وراسله العزيز فانصرف عن أفتكين وقدم القاهرة على العزيز واشتد الأمر على جوهر وخاف على رجاله فسار يريد عسقلان فتبعه أفتكين. واستولى قسام على دمشق وخطب للعزيز فسار أبو تغلب بن حمدان إلى دمشق فقاتله قسام ومنعه فسار إلى طبرية. وأدرك أفتكين جوهر فكانت بينهما وقعة امتدت ثلاثة أيام انهزم في آخرها جوهر وأخذ أصحابه السيف فجلوا عما معهم والتحقوا بعسقلان فظفر أفتكين من عسكر جوهر بما يعظم قدره واستغنى به ناس كثيرون. ونزل أفتكين على عسقلان فجد جوهر حتى بلغ من الضر والجهد مبلغا عظيما وغلت عنده الأسعار فبلغ قفيز القمح أربعين دينارا وأخذت كتامة تسب جوهر وتنتقصه وكانوا قد كايدوه في قتالهم فراسل أفتكين يسأله: ماذا يريد بهذا الحصار فبعث إليه: لا يزول هذا الحصار إلا بمال تؤديه إلي عن أنفسكم. فأجابه إلى ذلك وكان المال قد بقى منه شيء يسير فجمع من كان معه من كتامة وجمع منهم مالاً وبعث إليه أفتكين يقول: إذا أمنتكم لا بد أن تخرجوا من هذا الحصن من تحت السيف وأمنهم وعلق السيف على باب عسقلان فخرجوا من تحته. وسار جوهر إلى مصر فكان مدة قتالهم على الزيتون وقفلتهم إلى عسقلان حتى خرجوا منها نحوا من سبعة عشر شهرا بقية سنة ست إلى أن دنا خروج سنة سبع وستين . وقدم جوهر على العزيز فأخبره بتخاذل كتامة فغضب غضبا شديدا وعذر جوهر في باطنه وأظهر التنكير له وعزله عن الوزارة وولى يعقوب بن كلس عوضه في المحرم سنة ثمان وخرج العزيز فضربت له خيمة ديباج رومى عليها صفرية فضة فخرج إليه أهل البلد كلهم حتى غلقت الأبواب وسألوه في التوقف عن السفر فقال: إنما أخرج للذب عنكم وما أريد ازدياداً في مال ولا رجال. وصرفهم. ومنع العزيز في هذه السنة وهي سنة سبع وستين النصارى من إظهار ما كانوا يفعلونه في الغطاس: من الاجتماع ونزول الماء وإظهار الملاهي وحذر من ذلك. وسار العزيز وعلى مقدمته حسان بن علي بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي فتنحى أفتكين عن الرملة ونزل طبرية. واتفق أن عضد الدولة أبا شجاع فناخسرو بن ركن الدين أبي يحيى الحسن بن بويه أخذ بغداد من ابن عمه بختيار بن أحمد بن بويه فسار بختيار إلى الموصل واتفق مع أبي تغلب الغضنفر بن ناصر الدولة ابن حمدان على قتال فناخسرو فسار إليهم فناخسرو وأوقع بهم فانهزموا وأسر بختيار وقتله وفر حينئذ من أولاد بختيار إعزاز الدولة المرزبان وأبو كاليجار وعماه: عمدة الدولة أبو إسحاق وأبو طاهر محمد ابنا معز الدولة أحمد بن بويه وساروا إلى دمشق في عسكر فأكرمهم خليفة أفتكين وأنفق فيهم وحملهم وصيرهم إلى أفتكين بطبرية فقوى بهم وصار في اثنى عشر ألفا فسار بهم إلى الرملة ووافى بها طليعة العزيز فحمل عليها أفتكين مراراً وقتل منها نحو مائة رجل فأقبل عسكر العزيز زهاء سبعين ألفاً فلم يكن غير ساعة حتى أحيط بعسكر أفتكين وأخذوا رجاله فصاح الديلم الذين كانوا معه: زنهار زنهار يريدون: الأمان الأمان. واستأمن إليه أبو إسحق إبراهيم بن معز الدولة وابن أخيه إعزاز الدولة والمرزبان بن بختيار وقتل أبو طاهر محمد بن معز الدولة وأخذ أكثرهم أسرى ولم يكن فيهم كبير قتلى وأخذ هفتكين نحو القدس فأخذ وجيء به إلى حسان بن علي بن مفرج ابن دغفل بن الجراح فشد عمامته في عنقه وساقه إلى العزيز فشهر في العسكر وأسنيت الجائزة لابن الجراح. وكانت هذه الوقعة لسبع بقين من المحرم سنة ثمان وستين. فورد كتاب العزيز إلى مصر بنصرته على أفتكين وقتل عدة من أصحابه وأسره فقرىء على أهل مصر فاستبشروا وفرحوا. وكتب أبو إسماعيل الرسي إلى العزيز يقول: يا مولانا: لقد استحق هذا الكافر كل عذاب والعجب من الإحسان إليه. فلم يرد عليه جوابا. قال المسبحي: فخرج الناس إلى لقائه وفيهم أبو إسماعيل الرسي فلما رآه العزيز قال: يا إبراهيم: قرأت كتابك في أمر أفتكين وفيما ذكرته وأنا أخبرك: اعلم أنا وعدناه الإحسان والولاية فما قبل وجاء إلينا فنصب فازاته وخيامه حذاءنا وأردنا منه الانصراف فلج وقاتل فلما ولى منهزماً وسرت إلى فازاته ودخلتها سجدت لله الكريم شكراً وسألته أن يفتح لي بالظفر به فجيء به بعد ساعة أسيراً ترى يليق بي غير الوفاء!. فقبل أبو إسماعيل رجله. ودخل العزيز إلى القاهرة ومعه أفتكين والأسرى وعليه تاج مرصع بالجوهر فأنزل أفتكين في دار وأوصله بالعطاء والخلع حتى قال: لقد احتشمت من ركوبي مع مولانا العزيز بالله ونظري إليه مما غمرني من فضله وإحسانه فلما بلغ العزيز ذلك قال لعمه حيدرة: يا عم: أحب أن أرى النعم عند الناس ظاهرة وأرى عليهم الذهب والفضة والجوهرة ولهم الخيل واللباس والضياع والعقار وأن يكون ذلك كله من عندي. وبلغ العزيز أن الناس من العامة يقولون: فأمر به فشهر في أجمل حال فلما رجع من تطوافه وهب له مالا جزيلا وخلع عليه وأمر الأولياء بأن يدعوه إلى دورهم فما منهم إلا من أضافه وقاد إليه وقاد: يديه دوابا. ثم سأله العزيز بعد ذلك: كيف رأيت دعوات أصحابنا فقال: يا مولاي: حسنة في الغاية وما فيهم إلا من أنعم وأكرم. وكان الذي أنفق العزيز على هفتكين حتى أسره ألف ألف دينار وقال العزيز عند خروجه إلى حربه لحسين الرابض: كم عدد ما تحت يدك من الدواب فقال: عشرة آلاف رأس. فقال العزيز: لقد أوجلتني يا حسين. وفيها نافق حمزة بن نعله الكتامي متولى أسوان فخرج إليه جعفر بن محمد ابن أبي الحسين وفيها قدم حسان بن علي بن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي على العزيز فخلع عليه وحمل على خمسة أرؤس من الخيل وقاد إليه بين يديه خمسة أحمال مال وأنزله داراً. وفيها جهز الفضل بن صالح على جيش إلى الشام وقلد الشام كله ولقب بالقائد وخلع عليه ثوب مذهب ومنديل مذهب وقلد بسيف محلى بذهب وحمل على فرس وبين يديه أربعة أفراس بمراكبها ومائة ألف درهم وخمسون قطعة من الثياب الملونة فركب بالطبول والبنود وسار. وخرجت قافلة الحاج في ذي القعدة وفيها صلات الأشراف والقمح والشعير والدقيق والزيت وسائر الحبوب والزيت ومحراب من ذهب للكعبة. وفيها كان بمصر وباء عظيم مات في خلائق فحكى بعض من سمع نواب السلطان يقول: الذي قبر من الديوان سبعة آلاف وسبعمائة وستون سوى من لم يعلم بموته أما من دفن بلا كفن فكثير. وكان الماء في المقياس خمسة أذرع وثلاثا وعشرين إصبعاً وبلغ خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. وأما بلاد المغرب فإن الأمير أبا الفتوح يوسف بن زيرى كتب إلى العزيز في سنة سبع وستين يسأله في طرابلس وسرت وأجدابيه وكان عليها عبد الله بن خلف فأنعم له بها فرحل عنها عبد الله وتسلمها أبو الفتوح. وفي سنة ثمان كتب أبو طالب أحمد بن أبي القاسم محمد بن أبي المنهال قاضي المنصورية إلى العزيز يسأله في القدوم فأجابه إلى ذلك فسار بأهله وأولاده في آخر شوال وقدم القاهرة فأجرى له العزيز في كل سنة ألف دينار. وكتب أبو الفتوح إلى العزيز يشاوره من يولى القضاء فكتب إليه: قد رددت هذا الأمر إليك فول من شئت. فاختار محمد بن إسحق الكوفي وولاه آخر ذي الحجة سنة ثمان وستين وكتب إلى العزيز يخبره بذلك فأجاز فعله وبعث إليه سجلاً بالقضاء. وفي يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة خمس وستين سير الأمير أبو الفتوح الهدية من رقادة ومعها المال مع محمد بن صالح صاحب بيت المال وعيسى بن خلف المرصدي وقائد المهدية زروال بن نصر فقدموا إلى القاهرة والعزيز آخذ في حركة السير لحرب هفتكين فأمر برد المال الذي أحضره الأمير زيرى مع الهدية وذلك أن عبد الله بن محمد الكاتب لما وصل إليه السجل من العزيز بموت أبيه المعز وقيامه بعده في الخلافة قرأه على الناس بالمنصورية من القيروان وفرق ما بعثه العزيز من الدنانير والدراهم التي ضربت باسمه على رجال الدولة ثم بسط رداءه وألقى فيه دنانير وقال: ليلق كل واحد فيه ما يستطيع من التقرب. ثم جمع أهل القيروان وصادرهم فأخذ من عشرة آلاف دينار إلى دينار واحد حتى عم أكثر أهل البلد وسائر أعمال إفريقية فجبى زيادة على أربعمائة ألف دينار عيناً. فلما بلغ ذلك العزيز كتب برد المال لأربابه فرأى عبد الله بن محمد برد المال نقضا عليه وحمله إلى العزيز مع الهدية وجعل مال الهدية خاصة في صرر وكتب على كل صرة اسم صاحبها فرد العزيز صرراً نفسية إلى أصحابها وهم يومئذ بمصر وأمر برد باقي المال إلى المغرب ليفرق على أربابه فقال له الوزير يعقوب بن كلس: هذه أموال عظيمة ونحن محتاجون إليها للنفقة على هذه العساكر وإن رجعت أمرت يردها إليهم من بيت المال. فقبل منه وأنفقها على العسكر. ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة وفيها استحضر أخويه وعميه وجماعة من أهله ورسم لهم الأكل معه على مائدته. وفيها أرسل فلح أمير برقة للعزيز هدية فيها مائتا فرس مجللة ومائة بغل مجللة ومائة وخمسون بغلا بأكف وخمسمائة جمل ومائة نجيب ومائة صندوق فيها المال. وفيها سار ناصر الدول أبو تغلب من طبرية إلى الرملة في المحرم وبها الفضل بن صالح وقد انضم إليه دغفل بن مفرج بن الجراح فقاتلا أبا تغلب قتالاً كثيرا حتى لم يبق معه إلا نحو سبعمائة من غلمانه وغلمان أبيه فولى منهزما وأتبعوه فأخذ وقتل وبعث الفضل ابن صالح برأس أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان وعدة أسارى فأمر العزيز بإطلاق الأسرى وقدم هديته وهي: أحمال محزومة ومائتا فرس وخمسون بختيا ومائة بغل ومائة ناقة فخلع عليه وأركب على فرس وقيد بين يديه خمسة أفراس ومائة قطعة من الثياب وعشرون ألف دينار. وكان من خبر الفضل بن صالح أن العزيز لما سار من الرملة بأفتكين إلى مصر جعل بلد فلسطين لمفرج بن دغفل بن الجراح الطائي فأنفذ إلى دمشق واليا من المغرب يقال له حميدان بن جواس العقيلي في نحو مائتي رجل وقد غلب عليها قسام التراب السقاط عندما وردت عليه كتب العزيز عند مسيره إلى محاربة أفتكين من ورائه فأظهر سام الكتب وقرأها في الجامع ووعد الرعية بالإحسان وبترك الخراج لهم إن منعوا أفتكين من دخول البلد فقصدت يد الرياشي نائب أفتكين عنه لقوة قسام وكثرة أصحابه ودالتهم بأنهم قاتلوا جوهراً القائد ومنعوه من البلد فأخذ الخفارة من القرى وأنفق سوق الرياشي فتمكن وأمن وكثر الطامع في البلد فولى أفتكين رجلا يقال له تكين من الأتراك فلم تنبسط يده لكثرة من غلب على دمشق من أهل الشر فلما نزل أخوا بختيار دمشق قوى تكين وأراد أن يقهر قساماً فأوقع بطائفة من أصحابه بالغوطة ثم اصطلحا. وكان من مجيء القرامطة ما ذكر فنزلوا على دمشق فمنعهم قسام من البلد وعمل على قتالهم فصار له بذلك يد عند العزيز فلما رحلوا إلى بلادهم وتمكن ابن الجراح من فلسطين إلى طبرية استولت فزارة ومرة على حوران والبثنية وخربتها حتى بطل الزرع منها وجلا أهلها فهلكوا من الضر وصار كثير منهم إلى حمص وحماة وشيزر وأعمال حلب فعمرت بهم البلاد. ثم إن قساماً وقع بينه وبين حميدان العقيلي فثار به ونهبه ففر منه وقوى قسام وكثرت رجاله وزاد ماله فولى دمشق بعد حميدان أبو محمود في نفر يسير فكان تحت يد قسام لا أمر له ولا نهى. واتفق في هذه السنة أن ولي دمشق ظالم بن موهوب العقيلي والقرمطي ووشاح وحميدان وكانت واقعة فناخسرو مع بختيار بالعراق فكان ممن انهزم أبو تغلب فضل الله بن ناصر الدولة ابن حمدان فسارت خلفه عساكر فناخسرو وكتب فيه إلى الأكراد والروم أن لا يجيره أحد ففر أبو تغلب إلى آمد وسار منها إلى الرحبة وكتب إلى العزيز أن يقيم في عمله وسار في البر إلى حوران فنزل على دمشق وكتب العزيز إلى قسام يمنعه من البلد فمنعه ثم أذن أن يتسوق أصحابه من المدينة. وطمع أبو تغلب في ولاية دمشق من قبل العزيز فخافه قسام وأشير على العزيز في مصر أن لا يمكن ابن حمدان من دمشق فإنه إن مكن عظم شره فكوتب بكل ما يحب وكتب إلى قسام بأن لا يمكنه. هذا وأبو تغلب بن حمدان نازل بظاهر المزة فأقام شهورا وثقل على قسام مقامه وخاف أن يلي البلد فأكمن لأصحابه في البلد وأخذ منهم سبعين وقتل جماعةً وسلب الباقي فلحقوا بأبي تغلب فلم يطق فعل شيء وكتب إلى العزيز وكتب قسام أيضا: بأن أبا تغلب قد حاصر البلد ومد يده إلى الغوطة وقتل رجالي ونحن على الحرب معه فخرج الفضل بن صالح كما تقدم ونزل الرملة وبعث إلى ابن الجراح من مصر بسجل فيه ولايته على الرملة. وكان أبو تغلب قد سار عن دمشق وسار الفضل فنزل طبرية واجتمع به أبو تغلب بمكاتبة فجبى الخراج وزاد في العطاء واستكثر من الرجال وخرج عنها فأخذ طريق الساحل. وكان أبو تغلب قد استولى على أهراء كانت بحوران والبثنية فاجتمعت إليه العرب من بني عقيل فيهم شبل بن معروف العقيلي فسار بهم إلى الرملة فخرج منها ابن الجراح وأخذ في جمع العرب وهو واثق بأن الفضل معه على أبي تغلب وفي ذهن أبي تغلب أن الفضل معه على ابن الجراح ونزل الفضل عسقلان فواقع ابن الجراح بجموعه أبا تغلب وأدركه الفضل فاجتمع العسكران وفر من كان مع أبي تغلب فلحقوا بالفضل ووقع القتال فانهزم أبو تغلب وأدركه القوم فأخذ وحمل إلى ابن الجراح فأركبه جملا وشهر بالرملة ونزع جميع ما عليه حتى بقي بثوب رقيق وحبسه فطلب شيئا يتوسد عليه فقال ابن الجراح: اجعلوا تحته شوكاً يتوسده. فحمل إليه وقالوا له: توسد بهذا. فأغلظ في القول وشتم ابن الجراح فبلغه ذلك فغضب وأمر بقتله فقتل وأحرق ليومين بقيا من صفر سنة تسع وستين وبعث برأسه إلى العزيز مع الفضل وخلة الديار لابن الجراح فأتت طي عليها فتعطلت الزروع من القرى. وكان فناخسرو البويهي قد عزم على إرسال العساكر إلى مصر فخالف عليه أخ له واستنجد بصاحب خراسان فأمده بعساكر عظيمة فسير إليه فناخسرو العساكر من بغداد فشغل بذلك عن مصر. وفيها ولد للوزير يعقوب بن كلس ولد ذكر فأرسل إليه العزيز مهداً من صندل مرصعاً وثلاثمائة ثوب وعشرة آلاف دينار عزيزية وخمسة عشر فرسا بسروجها ولجمها منها اثنان ذهب وطيب كثير فكان مقدار ذلك مائة ألف دينار. وعقد العزيز على امرأة فأصدقها مائتي ألف دينار وأعطى الذي كتب الكتاب ألف دينار وخلع على القاضي والشهود وحملهم على البغال فطافوا البلد بالطبول والبوقات. وبعث متولى برقة هدية وهي: أربعون فرسا بتجافيف وأربعون بغلا بسروجها ولجمها وستة عشر حملا من المال ومائة بغلة وأربعمائة جمل. وجهز الحاج وكسوة الكعبة وصلات الأشراف والطيب والشمع والزيت فبلغ مصروف ذلك مائة ألف دينار وكثر حلف الناس برأس أمير المؤمنين فنودي: برئت الذمة من أحد قال هذا وحلت به العقوبة فلا يحلفن إلا بالله وحده. وفيها قدم كتاب ومغنين ابنا زيرى بن مناد إلى القاهرة فارين من سجن أخيهما الأمير أبي الفتوح يوسف بن زيرى فأكرمهما العزيز وخلع عليهما ووصلهما. وفيها أخرج العزيز باديس بن زيرى من القاهرة في خيل كثيرة إلى مكة مع الحاج فلما وصل إلى مكة أنا الطرارون فقالوا: نتقبل هذا الموسم بخمسين ألف درهم. فقال لهم: اجمعوا أصحابكم حتى أعقد هذا على جميعهم. فلما اجتمعوا أمر بقطع أيديهم وكانوا نيفا وثلاثين رجلا فقطعوا أجمعين. وأما الشام فإن العزيز بعث سلمان بن جعفر بن فلاح في أربعة آلاف فنزل الرملة وبها ابن الجراح فتباعد وقد استوحش كل منهما من صاحبه فأقام أياماً ورحل إلى دمشق فوجد قساما قد غلب عليها فنزل بظاهر البلد وقد ثقل على قسام وأراد سلمان يأمر وينهي في البلد فلم يقدر على ذلك وطال مقامه في غير شيء وقل المال عنده وأراد إقامة الحرمة فأمر قساما ألا يحمل أحد السلاح فأبوا عليه وبعث إلى الغوطة ينهاهم عن حمل السلاح: وأن لا يعارضوا السلطان في بلده ومن وجدناه بعد هذا يحمل السلاح ويأخذ الخفارة ضربنا فقال لهم قسام: لا نفكر فيه كونوا على ما أنتم عليه وطاف العسكر الغوطة فوجدوا قوما يحملون السلاح ويأخذون الخفارة فقطعوا رءوسهم فثار قسام ومن معه إلى الجامع وثار الغوغاء وأخرج إلى سلمان قوما فقاتلوه وأقام بالجامع ومعه شيوخ البلد وكتب محضرا أشهد فيه على نفسه أنه متى جاء عسكرا من قبل فناخسرو وأغلق البلد وقاتلهم وكتب بما جرى وسير ذلك إلى العزيز فبعث إلى سلمان أن يرحل عن دمشق فرحل بعد ما أقام شهورا. وقدم أبو محمود من طبرية بعد مسير ابن فلاح في نفر وخرج الفضل بن صالح من عند العزيز ليحتال على ابن الجراح وعلى قسام وأظهر أنه يريد حمص وحلب ليأخذ تلك البلاد فنزل على دمشق وفطن ابن الجراح لما يريده فأخذ حذره وسار عن الفضل فرحل في طلبه ومعه شبل بن معروف فكانت بينه وبين ابن الجراح وقعة في صفر سنة سبعين فأوقع ببني سنبس فقتل شبل بن معروف طعنه بعض بني سنبس فمات. وبعث ابن الجراح إلى العزيز يتلطف به ويسأله العفو فأرسل إلى الفضل يأمره بالكف عن ابن الجراح وأن لا يعرض له فوافاه ذلك وهو يجهز العساكر خلف ابن الجراح فكف عن قتاله وعاد إلى مصر. ورجع ابن الجراح إلى بلاد فلسطين على ما كان فأهلك العمل حتى كان الإنسان يدخل الرملة هذا ودمشق تمتار من حمص وكان عليها بكجور من قبل أبي المعالي شريف بن سيف الدولة ابن حمدان وقد عمر حمص بعد خرابها من الروم لما دخلوها في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. واتفق خراب دمشق كما تقدم فرحل أهل القوافل من حمص إلى دمشق ودمشق قد طمع في عملها العرب حتى كانت مواشيهم تدخل الغوطة وأبو محمود إبراهيم بن جعفر واليا عليها تحت مذلة قسام فهلك في صفر سنة سبعين فكاتب بكجور العزيز فوعده بولاية دمشق فورد الخبر بموت فناخسرو فأمن العزيز مما كان يخاف وجهز عسكراً عليه رشيق المصطنع. وكان بشارة الخادم الإخشيدي قد فسد أمره مع أبي المعالي بحلب ففر منه في مائة رجل إلى مصر فأكرمه العزيز وولاه طبرية فاستمال رجالا من أهل حلب وضبط البلد وعمره فقوى أمره وابن الجراح بفلسطين يخرب ويأخذ الأموال. وقدم أيضاً على العزيز رخا الصقلي في ثلاثمائة غلام من الحمدانية فولاه عكا وقدم رخا في عدة منهم فولاه أيضاً قيسارية. سنة اثنتين وسبعين خرج عسكر من مصر إلى الشام عليه بلتكين التركي أحد أصحاب أفتكين ليكون على دمشق بدل رشيق وكوتب بشارة بمعاونة العسكر على حرب ابن الجراح ونزل العسكر الرملة وسار بشارة من طبرية واجتمعت العرب من قيس إليهم فكانت الحرب بينهم وبين ابن الجراح فانهزم وقتل كثير من أصحابه وصار إلى أنطاكية مستجيرا بصاحبها. وكان الروم قد خرجوا من القسطنطينية في عسكر عظيم يريدون أرض الشام فخاف ابن الجراح فكاتب بكجور وسار بلتكين فنزل على دمشق في ذي الحجة فجمع قسام الرجال من الغوطة وغيرها ورم شعث السور وضبط الأبواب بالرجال ونصب. وكان مع قسام في البلد منشا اليهودي على عطاء العسكر وتدبيره وجيش بن الصمصامة شبه وال في طائفة من المغاربة قد ولى بعد خاله أبي محمود فخرج إلى بلتكين بمن معه وقد صار معه أيضاً بشارة بعسكره فبعث إلى قسام أن يسلم البلد ويكون آمناً هو ومن معه فأبى. سنة ثلاث وسبعين فلما كان التاسع عشر من المحرم ابتدأ القتال مع قسام ووقع النفير في البلد فلم يخرج مع قسام إلا حزبه من العيارين وقوم من أهل القرى كانوا يأخذون الخفارة ويطلبون الباطل وقد كره جمهور الناس قساما وأصحابه فلما تقاصر عنه أهل البلد انكسر قلبه وأصحابه ثابتون على القتال وقتلوا جماعةً من الجند وكثر فيهم الجراح من نشاب أصحاب بلتكين وتبين الانكسار على قسام لتقصير الرعية عن معاونته ومقتهم إياه وقوة أمر السلطان وكان قد كثر عليه الصلب من أصحابه للمال وقت الحرب فأمسك عنهم وشح بماله فقالوا: على أي شيء نقتل أنفسنا فتفرقوا عنه إلا وجوه أصحابه وخاصته. واستمر القتال أياماً فاجتمع الخلق إلى قسام في أن يخرج إلى بلتكين ويصلحوا الأمر معه فلان وذل بعد تجبره وقال: افعلوا ما شئتم. وكان العسكر قد قارب أن يأخذ البلد فخرجوا إلى بلتكين وكلموه في ذلك فأمر بكف العسكر عن القتال وأمر قساماً وأصحابه فعاد القوم إليه وأخبروه وهو ساكت حائر قد تبين الذل في وجهه واجتمع أكثر الناس فصاح من كان قد احترقت داره وهم كثير بقسام: انتقم الله ممن أذلنا وأحرق دورنا وشتتنا وتركنا مطرحين على الطرق. فعجب قلبه من سماع صياحهم وقال: أسلم البلد. فولى بلتكين حاجباً يقال له خطلخ فدخل المدينة في خيل ورجل فلم يعرض لقسام ولا لمن معه فتفرق عن قسام أصحابه فمنهم من استأمن ومنهم من هرب ومنهم من أخذ واختفى قسام بعد يومين فأصبح القوم أول صفر وقد علموا باختفائه فأحاطوا بداره وأخذوا ما فيها ونزلوها وما حولها من دور أصحابه وبعثوا الخيل في طلبه فلم يوقف له على خبر ونودي في البلد. من دل على قسام فله خمسون ألف درهم ومن دل على أولاده فله عشرون ألف درهم. وكان له من الأولاد: أحمد ومحمد وبنت. فظفروا بامرأته وابن لها معها فحبسا. فلما مضى لقسام جمعة وهو مختف قلق وجاء في الليل إلى منشا بن الغرار اليهودي فأوصله إلى بلتكين فقيده وحمله إلى مصر فعفا عنه العزيز. وكان قسام من بطن من العرب يقال لهم الحارثيون من قرى الشام فنشأ بدمشق وكان يعمل على الدواب في التراب ثم إنه صحب رجلا يقال له ابن الجسطار ممن يطلب الباطل ويحمل السلاح فصار من حزبه وترقى إلى ما تقدم ذكره. وكتب بكجور إلى العزيز يسأله في إرسال جيش ليأخذ به حلب فأنفذ إليه عسكراً من دمشق وجمع بني كلاب فسار بهم إلى حلب وحاصرها فقدم دمشق الروم إلى أنطاكية وقصد أن يكبس بكجور فكتب إليه ابن الجراح يحذره فارتحل عن حلب فسار عسكر الروم خلفه ودخل ملك الروم إلى حمص فلم يعرض لأحد ورحل يريد طرابلس وسير يريد مالا من حمص فامتنع أهلها فرجع ونهب وسبا وأحرق الجامع وغيره فاحترق كثير من الناس وذلك في تاسع عشر جمادى الأولى وهي دخلة الروم الثانية حمص. ويقال أن أبا المعالي بن حمدان لخوفه من بكجور سير إلى برديس ملك الروم أن يخرب حمص وفارق أصحاب بلتكين بكجور وصاروا إلى دمشق فبعث بكجور إلى العزيز يسأله ولاية دمشق فورد جوابه: إنا قد وليناك فبعث إلى بعلبك واليا وإلى بعلبك غلامه وصيف فأبى عليه بلتكين لكتاب ورد عليه من الوزير يعقوب بن كلس فتحير بكجور وما زال بشارة والي طبرية يتوسط لبكجور في ولاية دمشق حتى أمسك عنه الوزير فسار إلى القابون ثم تسلم البلد بعد أمور. ورحل بلتكين أول رجب وفي نفسه حقد على الوزير يعقوب بن كلس لمعارضته له في ولاية دمشق فعمل على كاتبه ابن أبي اليهودي حتى قتله بعض الأحداث الذين كانوا مع قسام في غيبته عن دمشق ببلاد حوران فعظم ذلك على الوزير وأخذ بكجور في ظلم الناس وجمع الأموال ومخالفة ما يأمر به من مصر وبعث غلامه وصيف فأخذ الرقة في سنة ست وسبعين فعصى عليه بها. وأخذ الوزير في قتل بكجور فبعث إلى دمشق فهموا به فلم يتم لهم وظفر بهم بكجور وقبض على من أراد ذلك وقتلهم في شهر رمضان سنة سبع وسبعين فازداد حنق الوزير وعلم بكجور بما دبره الوزير فأخذ يعارضه في ضياعه ويهين عماله وتحزق بابن أبي العود الصغير وكان قد ولى بعد قتل أخيه. واشتد جور بكجور وكثر قتله وصلبه للناس والبناء عليهم وكثرت مخالفته لما يرد عليه من العزيز فخرج إليه منير الخادم من مصر في سنة ثمان وسبعين بعسكر كبير وكتب إلى أهل الأعمال بالمسير معه إلى دمشق لحرب ابن الجراح فنزل الرملة وقد اختلف بكجور مع بشارة والي طبرية وأنزل ابن الجراح السواد وأطمعه في ضياع الوزير وجعله ضد البشارة وكاشف بالعصيان فجمع منير العرب من قيس وعقيل وفزارة وسار إلى عمان فسار إليه منير وصاروا جميعاً إلى عمل دمشق فجمع بكجور بني كلاب وبعث منير سرية إلى ابن الجراح وهو في طرف عمل دمشق فأوقعوا بقومه وغنموهم فانهزم. وكتب منير إلى بكجور: إنا لم نجيء لقتالك وإنما جئنا لنخرج ابن الجراح من العمل لأنه أفسد وعصى فتكون معيناً لنا فعلم أن هذا خداع وقد اشتد خوفه وقلقه من أهل البلد لكثرة إساءته لهم وجوره وتعديه لئلا يثوروا به فجمع عسكره وبعثهم إلى قتال منير وأقام بالبلد فكانت بينهم وقعة انهزموا فيها فخاف وبعث إلى منير: أني أسلم البلد وأرحل عنه فأجيب إلى ذلك. ورحل للنصف من رجب ومعه ابن الجراح يريد الرقة وتسلم منير دمشق وسير إلى مصر بذلك وبثلاثمائة من أصحاب بكجور استأمنوا فبعث العزيز إلى بكجور على لسان الوزير يقول: ما أردنا أن تبرح عن البلد وإنما بعثنا إلى ابن الجراح من يخرجه عن العمل لما أفسد فيه وما كان لك من الغلات والضياع فهو على رسمه أفعل فيه ما أحببت فما لنا فيه من حاجة. فأقام بكجور على ما كان له بدمشق من الضياع والأهراء من يتولى أمرها وبقى بالرقة يقيم الدعوة للعزيز ويراسله ويراسل كرديا قد غلب على ميافارقين يقال له باد ويكاتب أبا المعالي سعد الدولة واسمه شريف بن سيف الدولة علي بن حمدان بحلب أن يرده إلى حمص فولاه حمص فبعث من يتسلمها فقلق لذلك الوزير يعقوب بن كلس فبعث إلى ناصح الطباخ وهو بعمان أن يسير إلى حمص ويأخذ من بها من أصحاب بكجور فأسرى إليها وقد حذروا منه وخرجوا قادمين بأموالهم فأخذهم وسار إلى دمشق فبعث بكجور إلى صاحب بغداد فلم ير سنة سبعين وثلاثمائة فيها تمكنت حال يعقوب بن كلس مع العزيز فأذل كتامة وقهرهم وقدم الأتراك عزل القائد جوهر عن الوزارة وكان العزيز يستشيره في الباطن. سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة فيها تقدم العزيز إلى بعض من فيه جرأة وشهامة بالتوجه إلى بغداد ليسرق السبع الفضة الذي على صدر زبزب عضد الدولة فسار إلى بغداد وسرقه فعجب الناس من ذلك. سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة في يوم الاثنين لثلاث خلت من شوال قبض العزيز بالله على الوزير يعقوب بن كلس وعلى الفضل بن صالح وأخوته وحمل ما في دورهم إلى القصر فكان ما حمل من دار الوزير يعقوب مائة ألف دينار واعتقل كل واحد بمفرده فارتجت المدينة ونهبت الأسواق وكانت الدواوين تجلس في دار الوزير فنقلوا إلى القصر. وعملت أوراق ما كان للوزير من أنواع البر فبلغت ألف دينار كل شهر فأمر العزيز باجرائها على أربابها ثم أفرج عنهم بعد شهرين وأعيد موجودهم وأعيد الوزير إلى وزارته ورد إليه وفيها كان غلاء عظيم عم بلاد الشام والعراق. وفيها مات هفتكين فاتهم الوزير يعقوب بأنه سمه فقبض عليه. ومات القاضي محمد بن الحسن بن أبي الربس. ومات أبو العباس بن سبك من الإخشيدية. وأما المغرب فإن العزيز بالله بعث في سنة ست وسبعين أبا الفهم حسن الداعي الخراساني إلى القيروان فأكرم إكراما كثيرا ثم توجه إلى بلاد كتامة فدعاهم وعظم عندهم حتى ضرب السكة وركب في عساكر عظيمة. ثم بعث العزيز في سنة سبع وسبعين أبا العزم ومحمد بن ميمون الوزان فلقيا الأمير أبا الفتح منصور بن يوسف بن زيرى فسبهما وأهانهما لسبب ما فعله أبو الفهم ووكل بهما ثم خرج وهما معه في طلب أبي الفهم حتى أخذه وقتله شر قتلة وأخذه العبيد فشرحوا لحمه وأكلوا كله وأمر أبا العزم ورفيقه أن يمضيا إلى مصر ويخبرا العزيز بما شاهداه فقدما عليه وقالا: رأينا شيئاً. ومن خط ابن الصيرفي: كان رجل من التجار الغرباء ينزل في قيسارية الإخشيد التي يسكنها البزازون خلف الجامع العتيق فقتل في منزله وأخذ ماله فأصبح رشيق غلام ميمون دبة صاحب الشرطة السفلى فاعتقل جماعةً من أولاد التجار ومن كان ساكنا حول قيسارية الإخشيد فشنع الناس عن رشيق أنه دس على الرجل من قتله وأخذ ماله ورفع إلى العزيز ذلك وأنه اعتقل أبرياء مستورين فوقع على ظهر الرقعة إلى الوزير يعقوب بن يوسف في ذي الحجة سنة سبع وسبعين وثلاثمائة: سلم الله الوزير وأبقى نعمته عليه. هذه رقعة رفعت إلينا بالأمس الوزير سلمه الله يطلع عليها ويتدبرها والأمر والله فظيع يسوء الأولياء ويسر الأعداء وبالأمس كنا نضحك من فناخسرو واليوم ألجمنا بعار منى علينا في بلد نحن ساكنوه والأخبار تسير به في البلدان وحسبك بقتل الأنفس في مواضع الأمن والطمأنينة في وسط عمارة المسلمين وتؤخذ الأموال وقد وكل الأمر إلى رجلين لا يخافان الله عز وجل ولا يتقيانه والدنيا فانية والاجال متقاربة وإن أصبح الناس فما يدري أنه يمسي. الله عز وجل . هذه الجرائم. عليه منها يحرم أجره. في المتغافل عنه فوالله لو جرى مثل هذا في بلد يبعد عنا لوجب الاحتساب لله فيه فكيف تحت كنفنا وفي بلدنا! فليستقص الوزير سلمه الله عن هذه القصة ويوتر الله ويوترنا ويغسل هذا العار عن الدولة ولا يغمها به. فوالله الذي لا إله إلا هو وحق جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كتبت إلى الوزير سلمه الله هذه الرقعة إلا وأنا خائف من نقم الله جل اسمه لكثرة تغافلنا وإهمالنا إلى أن صارت المعاملة في الدماء وقتل الأنفس فليس على هذا صبر ولا بد لك من الاستقصاء على هذه القصة فأوثق الناس إلى أن تنكشف فينتقم من فاعلها وتبرأ إلى الله تعالى منه. فليعمل الوزير سلمه الله في ذلك عملا يأجره الله عليها ونشكره ولا يتوانى عنه فليس ما نغسله عن أنفسنا بانكشاف هذه القصة قليلا عند الله جل وعلا وعند عبيده من بعد. وأنا أقسم على الوزير بحياتي ألا يتوانى عن هذا الأمر وليسرع بالفراغ منه وخلاص هؤلاء الرجال المساكين من مد يد من يطلب أموالهم وأنفسهم ظلماً وعدواناً والشرط والولاية قد صارت إرثا فلينظر الوزير سلمه الله أن يولى الشرطتين إنسانين يخافان الله عز وجل ويتقيانه فلا جمع الله ما لهما ولا ما يجيء منهما بتقلد فقدم ما أمرناك به في الوجوه وأظهره في الناس لتطيب أنفسهم وليعلموا أنا لا نغفل عن شيء يبلغنا الله فيه رضى ولهم فيه صيانة. والله حسبي وعليه توكلي. والسلام على الوزير ورحمة الله قال ابن الصيرفي: فنسخ أهل مصر كافةً هذا التوقيع وصار الصبيان في المكاتب يعلمونه كما وصرف الوزير. ورشيقا عن الشرطتين. سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة في سبع عشر ذي الحجة حدث بالقاهرة ومصر رعد شديد ورياح عاصفة فاشتدت الظلمة حتى شنعت وظهر في السماء عمود نار ثم احمرت السماء والأرض حمرةً زائدة وظهرت الشمس متغيرة إلى يوم الثلاثاء ثاني المحرم سنة تسع وسبعين وظهر كوكب له ذؤابة فأقام اثنين وعشرين يوماً. وفيها مات أبو الحسين أحمد أخو طغج في المحرم. وفي رجب سنة ثمانين: خرج الناس في لياليه على رسمهم في الليل ليالي الجمعة وليالي النصف إلى جامع القاهرة عوضا عن القرافة فزيد في الوقيد. وفي يوم الجمعة عشرة شهر رمضان ركب العزيز إلى جامع القاهرة بالمظلة فخطب وصلى. وفيه خط أساس الجامع الجديد مما يلي باب الفتوح وبدىء بالبناء فيه وتحلق الفقهاء الذين يتحلقون بجامع القاهرة فيه وخطب به العزيز وصلى يوم الجمعة النصف منه وحمل يانس الصقلي صاحب الشرطة السفلى السماط وبنيت مصاطب ما بين القصر والمصلى ظاهر باب النصر يكون عليها المؤذنون والفقهاء حتى يصل التكبير من المصلى إلى القصر وتقدم أمر القاضي محمد بن النعمان بإحضار المتفقهة والمؤمنين وأمرهم بالجلوس يوم العيد عليها وركب العزيز فصلى وخطب. وفي ذي القعدة ورد من دمشق مال الموسم وهو ستون حملاً. وفي النصف منه سارت قافلة الحاج في البر بالكسوة للكعبة والطيب والصلات فجلس العزيز للنظر إليهم وكانت قافلة عظيمة. وفيها مات الوزير يعقوب بن كلس يوم الخامس من ذي الحجة فكفن في خمسين ثوبا ما بين وشى ومثقل وشرب ديبقي مذهب وجفت كافور وقارورتين من مسك وخمسين منا ماء ورد وصلى عليه العزيز فكان ما كفن به وحنط به عشرة آلاف دينار. وحزن عليه العزيز حزناً شديداً ولم يأكل ذلك اليوم على مائدة ولا حضر أحد للخدمة وأقام كذلك ثلاثا وأقيم العزاء على قبره مدة شهر وأوفى العزيز عنه دينه وهو ستة عشر ألف دينار. وكان إقطاعه في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار سوى الرباع. وفي يوم عرفة حمل يانس السماط وصلى العزيز وخطب يوم النحر ونحر النوق بيده ومضى إلى القصر ونصب له السماط والموائد وفرق الضحايا على أهل الدولة. وطمع بكجور في أخذ حلب فسار وجمع له أبو المعالي ابن حمدان وواقعه أول صفر فانهزم بكجور فبعث إليه وسيق له فضرب عنقه ثاني صفر وصلبه وسار فملك الرقة وأخذ ما كان فيها وملك الرحبة وعاد. وبلغ العزيز أن منير يكاتب صاحب بغداد فجهز عسكرا عليه منجوتكين فيمن اصطنعه من الأتراك وأعطاه مالا وسلاحاً وولاه الشام فبرز إلى منية الأصبع في صفر سنة إحدى وثمانين وخلع عليه وحمل إليه مائة ألف دينار ومائة قطعة من الثياب الملونة وعشر قباب بأغشية ومناطق مثقلة وأهلة وفرش وخمسين بندا وعشر منجوقات وعشرة أفراس فأقام بمنية الأصبغ شهرين وسبعة عشر يوما يخرج إليه العزيز في كل غدوة وعشية وينفذ إليه في كل يوم الجوائز والخلع ورفع من منية الأصبغ في رابع عشرين جمادى الأولى وخلع على ابن الجراح وحمل وسار مع منجوتكين فلم يزل بالقصور إلى ثالث شعبان فسار وودعه العزيز وجد في السير وكان ما أنفق عليه العزيز ألف ألف دينار ونيف وقدم قبل مسير ابن أبي العود الصغير وكان على الخراج بدمشق وكاشف بالعصيان فسار العسكر إلى الرملة ولقيه بشارة والي طبرية وكتب إلى والي طرابلس نزال وجمع منير رجاله واعتد للحرب وسار إليه فالتقى مع منير بمرج عذرا وكانت الحرب فانهزم منير في تاسع عشر رمضان وأخذ فحمل إلى منجوتكين فشهره على جمل ومعه قرد يصفعه في مائة من أصحابه وقائل ينادي: هذا منير لعنه الله أصبحت دياره خالية وكلابه عاوية ونساؤه صائحة طاعنته الرماة ونازلته الحماة هذا جزاء من نافق على الله عز وجل وعلى مولانا العزيز بالله. وأقام منجوتكين في دمشق ومعه ثلاثة عشر ألفا فساءت سيرتهم في الناس. ومات أبو المعالي بن حمدان في رمضان فسار منجوتكين يريد أخذ حلب من الحمدانية ونزل عليها وبها أبو الفضل بن أبي المعالي فقاتله أشد قتال وأقام نحو الشهرين ثم عاد إلى دمشق وترك معضاد على حمص. سنة ثمانين وثلاثمائة فيها طمع باد صاحب ديار بكر في أبي طاهر إبراهيم وأبي عبد الله الحسين ابني ناصر الدولة بن حمدان وقاتلهما فقتل باذ فسار بن أخته أبو علي بن مروان إلى حصن كيفا وبه امرأة خاله باد وأهله فخدعها حتى صعد إليها وملك الحصن وغيره من بلاد خاله وجرت بينه وبين ابني ناصر الدولة عدة حروب وقدم القاهرة على العزيز بالله فقلده تلك النواحي وعاد إليها حتى ثار به عبد البر شيخ آمد وقتله عند خروجه بالسكاكين شخص يقال له ابن دمنة واستولى عبد البر على ما بيده وزوج ابن دمنة بابنته فوثب ابن دمنة على عبد البر وقتله وملك آمد. وكان ممهد الدولة أخو أبي علي بن مروان لما قتل أخوه أبو علي سار إلى ميافارقين وملكها في عدة من بلاد أخيه فثار عليه سروة أحد أكابر أصحابه وقتله وقتل غالب بني مروان وذلك في سنة اثنتين وأربعمائة. ودخلت سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة فورد سابق الحاج أول محرم فأخبر بتمام الحج وإقامة الدعوة للعزيز فخلع عليه وطيف به المدينة. ووصل مفرج بن دغفل بن الجراح فخلع عليه. وأمر العزيز بازالة المنكرات وهدم مواضعها فكسر لرجل واحد خمسون ألف جرة وردت من الصعيد. وولد لأبي القاسم علي بن القائد الفضل بن صالح ولد فبعث إليه العزيز ثلاثين ثوباً فاخرة وعشرة أردية وعشر عمائم وثوبا مثقلا ومنديلا طوله مائة ذراع ومنديلا دونه وخمسمائة دينار وحملت إليه السيدة العزيزية مائة ثوب صحاحا من كل فن وثلاثمائة دينار ومهدين أحدهما أبنوس محلى بذهب والآخر صندل محلى بفضة مخرقة ولهما أغشية ومخاد وثياب وفرش مثقلة. وركب العزيز لفتح الخليج. وفي جمادى الآخرة زفت أخت كاتب السيدة العزيزية إلى زوجها بلتكين التركي ومعها جهاز بمائة ألف دينار سوى صناديق محملة على ثلاثين بغلا وعمل له صنيع ذبح فيه عشرون ألف حيوان ما بين كبش وخروف وجدي وأوزة ودجاجة وفروج ونزلت إليه في عشرين قبة وخلع عليه وحمل وأقامت عنده خمسة أشهر وأحد عشر يوماً ومات. وفي رجب كان عيد الصليب فمنع العزيز من الخروج إلى بني وائل وضبط الطرقات والدروب فإنه كان يظهر فيه من المنكرات والفسوق ما يتجاوز الوصف. وبعث العزيز إلى منجوتكين إنعاماً بمائة ألف دينار وكان المهرجان فسير إليه أيضاً هدايا وأهدى خواص الدولة إلى العزيز في المهرجان. وفي ليلة النصف من شعبان كان الاجتماع بجامع القاهرة. وفي رمضان صلى العزيز الجمع وخطب بجامعه وعليه طيلسان وبيده القضيب وفي رجله الحذاء وصلى أيضاً بجامع القاهرة وخطب. واعتل منصور بن العزيز فتصدق العزيز على الفقراء بعشرة آلاف دينار وحمل السماط للعيد على العادة. وصلى العزيز صلاة عيد الفطر وخطب على رسمه. وأهدت إليه امرأة من البلدة سبعاً قد ربته فكانت ترضعه ولا يصرعها وهو في قدر الكبش الكبير. وسارت قافلة الحاج في رابع عشر ذي القعدة بكسورة الكعبة والصلات. واعتل القائد جوهر فركب العزيز إليه وبعث له خمسة آلاف دينار ومزينة بمثقل وبعث إليه منصور بن العزيز خمسة آلاف دينار وتوفي لسبع بقين من ذي القعدة فكفن في سبعين ثوباً ما بين مثقل ووشى مذهب وصلى عليه العزيز وخلع على ابنه الحسين وجعله في رتبة أبيه ولقبه القائد ابن القائد ولم يعرض لشيء مما تركه. ومن بديع توقيعات القائد جوهر ما حكاه أبو حيان التوحيدي في كتاب بصائر القدماء قال: كتب جوهر عبد الفاطمي بمصر موقعاً في قصة رفعها أهلها إليه: سوء الاجترام أوقع بكم حلول الانتقام وكفر الإنعام أخرجكم من حفظ الذمام فاللازم فيكم ترك الإنجاب واللازم لكم ملازمة الاجتناب لأنكم بدأتم فأسأتم وعدتم فتعديتم فابتداؤكم ملوم وعودكم مذموم وليس بينهما فرجة تقتضي إلا التبرم بكم والإعراض عنكم ليرى أمير المؤمنين صلوات الله عليه رأيه فيكم. وحملت أسمطة عيد النحر على العادة وصلى العزيز بالناس صلاة العيد وخطب ثم نحر بالقصر ثلاثة أيام وفرق الضحايا. وفي غد يوم النحر وصل منير الخادم من دمشق فشهر على جمل بطرطور طويل فخرجت الكافة للنظر إليه ومعه سبعمائة رأس على رماح فطيف به ثم خلع عليه وعفى عنه. وعمل عيد الغدير على رسمه. وضرب رجل وطيف به المدينة من أجل أنه وجد عنده موطأ مالك رضي الله عنه . وفي تاسع عشره جلس علي بن عمر العداس بالقصر فأمر ونهى ونظر في الأموال ورتب العمال وتقدم أن لا يطلق لأحد شيء إلا بتوقيعه ولا ينفذ إلا ما قدره وأمر به ألا يرتفق ولا يرتزق ولا تقبل هدية ولا يضيع دينار ولا درهم. وفيها كان بدمشق زلزلة عظيمة سقط منها ألف دار وهلك خلق كثير وخسف بقرية من قرى بعلبك وخرج الناس إلى الصحارى وكان ابتداؤها في ليلة السبت سابع عشر المحرم وخرج الناس إلى الصحراء ولم تزل الزلازل تتابع إلى يوم الجمعة سابع عشر صفر بلاءً. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فورد سابق الحاج بتمام الحج وإقامة الدعوة للعزيز بالموصل واليمن وضربت السكة باسمه في هذه البلاد. وقدم رسول القرامطة بأنهم في دعوة العزيز ونصرته. وفي صفر سير إلى منجوتكين خمسون حملاً من المال وأربعون حملا من ثياب محزومة وخزانة سلاح وخمسمائة فارس. وقدمت قافلة الحجاج في سابع عشره. وجرى في الأسعار ما يعجب منه وهو أن اللحم أبيع في أول ربيع الأول رطل ونصف بدرهم ثم أبيع في سادسه عشر أواقى بدرهم ثم أبيع أربعة أرطال بدرهم ولحم البقر ستة أرطال بدرهم والخبز السميذ اثنا عشر رطلا بدرهم وما دونه سبعة عشر رطلا بدرهم والدراهم كل خمسة عشر درهما ونصف بدينار وبلغت القطع الدراهم سبعة وسبعين درهما بدينار ثم وصلت كل مائة درهم منها بدينار واضطربت الأسعار والصرف فضربت دراهم جدد وبيعت القطع المسبك كل خمسة دراهم منها بدرهم جديد وكان على الدرهم الجديد: الواحد الله الغفور. وفي الوجه الآخر الإمام أبو المنصور. وفي ربيع الآخر ورد الخبر بفتح منجوتكين حمص وحماة وشيزر وأنه محاصر لحلب فجعل الطائر الذي قدم بالخبر في قفص عليه ثوب ديباج وطيف به القاهرة ومصر. وسعى بعض النصارى بالكتاب إلى العزيز فانكف عيه وهدد فقيل إنه جائع فرتب في كل شهر عشرون دينارا ونهى عن العود لمثل ذلك فخاف السعاة وانكفوا. وخلع القاضي محمد بن النعمان على مالك بن سعيد الفارقي وقلده قضاء القاهرة فركب بالخلع وشق الشارع إلى القاهرة. وفي جمادى الأولى ورد الخبر على جناح الطائر بأن سعد الدولة شريف بن سيف الدولة على بن حمدان بذل لمنجوتكين ألف ألف درهم وألف ثوب ديباج ومائة فرس مسرجة ليرحل عنه فامتنع وقدم الروم فواقعهم منجوتكين وقد استخلف على قتال حلب عسكرا وكان منجوتكين في خمسة وثلاثين ألفا والروم في سبعين ألفا وانهزم الروم عند جسر الجديد وأخذ سوادهم وقتل منهم وأسر كثير فقرأ العزيز الكتاب بنفسه على الناس ونزل القاضي محمد بن النعمان فقرأه على الكافة فوق المنبر بالجامع العتيق وقال في كلامه: فاحمدوا الله أيها الناس فإن الله تعالى قد صانكم وصان أموالكم بمولانا وسيدنا الإمام العزيز بالله عليه السلام فما بالعراق تاجر معه عشرة دنانير أو أكثر إلا وتؤخذ منه. وسقط الطائر بعده بأن منجوتكين غنم غنيمة عظيمة من الأموال والرجال والدواب وأنه ظفر بعشرة آلاف أسير فأخذهم وأنهم قاتلوا معه وهو محاصر للروم في أنطاكية فقرأ القاضي الكتاب على المنبر وتصدق العزيز بصدقات كثيرة. وسقط الطائر بوصول منجوتكين إلى مرعش وعاد إلى حلب. وركب العزيز لفتح الخليج بالمظلة وعليه قميص ديباج مثقل وتاج مرصع بالجوهر. ولأربع عشرة خلت من رجب كان عيد الصليب فجرى الناس في الاجتماع فيه للهو على ما كانوا عليه. وسقط الطائر بعود منجوتكين عن حلب إلى دمشق ليشتى بها. وردت الحسبة إلى حميد بن المفلح وخلع عليه فطاف البلد بالطبول والبنود وضمن ضياعا وخطب العزيز في رمضان في جامع القاهرة وصلى وركب يوم الفطر فصلى بالناس وخطب على الرسم. وسارت قافلة الحاج للنصف من ذي القعدة. ونودي في السقائين أن يغطوا روايا الجمال والبغال كي لا يدنسوا ثياب الناس. وعمل سماط عيد نحر وركب العزيز فصلى بالناس صلاة عيد النحر وخطب على رسمه ونحر وفرق الضحايا. وعمل عيد الغدير على العادة. وفيها سار بكجور من الرقة إلى قتال سعد الدولة أبي المعالي شريف بن سيف الدولة على بن حمدان بحلب فاقتتلا وانهزم بكجور ثم قبض عليه وحمل إلى سعد الدولة أسيراً فقتله. وفيها كتب العزيز سجلا بولاية العهد بالمغرب لأبي مناد باديس بن منصور بن زيرى بعد أبيه فسر بذلك أبوه. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة في المحرم ردت الحسبة إلى الوبرة النصراني ضمانا مع السواحل فأمر أبو محمد الحسن ابن عمار بالنظر في الظلامات وحوائج الناس وتدبير الأموال ومحاسبة أرباب الدواوين فجلس لذلك ثم أعفي منه وأمر القائد الفضل بن صالح بالجلوس لذلك فجلس بالقصر ومعه القاضي محمد بن النعمان. وقدم سابق الحاج فخلع عليه وطيف به. ومحرج العزيز إلى الجيزة لصيد سبع وعاد وهو بين يديه على بغل وظهر بمصر جراد لم يعهد مثله فبيع بالأسواق منه شيء يجل عن الوصف وكان يباع أربعة أرطال بدرهم. ووصلت قافلة الحاج لأربع بقين من صفر. وعرض على العزيز عمل الخراج ووجوه الأعمال وتقدير ذلك وابتدىء فيه بمصروف مؤونته ومطابخه وموائده فحذفه ولعن من عمله وقال: أشبع أنا وتجوع الناس أطلقوا أرزاق الناس على الأدوار فقد كدت أن أعطل المائدة وفي أول ربيع الأول أمر العزيز الكتاب كلهم أن يمتثلوا ما يأمر هو به أبو الفضل جعفر ابن الفرات فركبوا إليه وأمر ونهى وتكلم في الدواوين. وكانت وقعة في البحر مع الروم بنواحي الإسكندرية وأسر فيها من الروم سبعون. وأمر بنصب أزيار الماء على الحوانيت مملوءة ماء ووقود المصابيح على الدور وفي الأسواق وقرىء سجل بألا يؤخذ على الموازين والأرطال حق طبع وألا يأخذ أعوان المحتسب من أحد شيئا. ووردت مراكب الروم إلى الإسكندرية فسار إليها العسكر في البر والأسطول في البحر فولوا من غير حرب إلى الشام فسار الأسطول إليهم وزيد فيه ثمانية عشر مركبا مشحونة بالسلاح والمقاتلة. وذكر عند العزيز كتاب العين في اللغة فأخرج منه نيفا وثلاثين نسخة من خزانته منها واحد بخط الخليل بن أحمد مؤلفها. وحملت إليه نسخة من تاريخ الطبري اشتراها بمائة دينار فأمر الخزان فأخرجوا من خزائنه عشرين نسخة منها نسخة بخط محمد بن جرير جامعه. وذكرت عنده جمهرة ابن دريد فأخرج منها مائة نسخة وفيها ركب العزيز لفتح الخليج بزيه. وظهر رجل من الرسيين يقال له القاسم بن علي يطلب الخلافة بأعمال الحجاز. وفي جمادى وردت هدية منصور بن يوسف بن زيرى من المغرب وهي: وخمس عشرة بغلة مسرجة. ومائة وثمانون فرسا ذكورا. وخمسون حجرة. وخمسون بغلة بأجلة. وثلاثمائة بغل بأكف منها مائة بغل تحمل صناديق المال. وخمسمائة وخمسة وثلاثون جملا تحمل البر وغيره وثلاثمائة عليها أحمال المال. وكلاب الصيد. وخمسة أفراس بسروجها لولد العزيز وعشرون فرسا بأجله. وخمسة عشر خادما صقالبة. وجلس العزيز عند المصلى وعلى رأسه المظلة وسارت العساكر بين يديه قبيلة قبيلة وعرضت عليه الخيول والرجال على الرسم في كل سنة. وحضر الفقهاء وغيرهم في رجب بجامع القاهرة في ليالي الجمع وفي ليلة النصف على العادة. وفي تاسع عشر شعبان ركب العزيز فوقف على فرسه تحت شراع نصب له ومرت العساكر بالخيل والجواشن والخوذ فمروا قائداً قائداً كل واحد بعسكره في حجابه وشاكريته وبنوده وكانوا مائة وستين قائدا فيهم من عسكره ثلاثة آلاف إلى ألفين وكان الغرض بهذا العرض أن يرى رسول منصور بن زيرى العساكر. واستعفى جعفر بن الفرات من النظر في الأموال فأعفى وحوسب وضمن عدة من الكتاب القيام بوجوه الأموال وألزم ابن الفرات بمال. وخطب العزيز في رمضان بجامعه وصلى بالناس صلاة الجمعة ومعه ابنه منصور فجعلت المظلة على الأمير منصور بن العزيز وصار العزيز بغير مظلة وصلى أيضاً صلاة عيد الفطر ومعه ابنه على الرسم. وسارت قافلة الحاج للنصف من ذي القعدة بالكسوة للكعبة والصلات فخرج حاج كبير وخرج معهم ثلاثة آلاف وخمسمائة مقاتل وبلغت النفقة على الكسوة والصلات ثلاثمائة ألف دينار. ووصل البقط من النوبة إلى العادة ومعهم فيل وزرافة. وفيها كثر بخس الباعة في البيع من المكاييل والموازين فكتب سجل في الأسواق بالنهي عن ذلك وخوفوا بأن من وجدت عنده صنجة أو كيل أو ميزان بعد ثلاث وفيها عيب حلت به العقوبة كائناً من كان من ساكن في عقار الدواوين الخاصة والأملاك أو في رباع أحد من خواص وحمل سماط العيد وخطب العزيز بالمصلى بعد ما صلى صلاة عيد النحر بزيه وفرق الضحايا ونحر. وخرج على جعفر بن الفرات خراج ضياعه بالشام مبلغ خمسة وخمسون ألف دينار فألزم بذلك وتسلمت ضياعه المذكورة حتى استوفى ذلك منها فأصابه عنت عظيم. وعمل عيد الغدير على العادة. وفي هذه السنة كسفت الشمس بأجمعها في سلخ جمادى الآخرة فأظلمت الدنيا وظهرت النجوم حتى لم ير الإنسان كفه ثم انجلى الكسوف آخر النهار. وفيها حمل من تنيس صبي يعرف بحسين بن عمر إلى القاهرة لم يبل قط فاعتبر حاله بها فكان كذلك وسقي أدوية مدرة للبول فلم يبل فأحسن غليه وأعيد إلى تنيس وأقام بها مدةً حتى مات. سنة أربع وثمانين وثلاثمائة في المحرم قدم عيسى بن جعفر الحسني أمير مكة بالقاسم بن علي الرسي الثائر بالحجاز فأكرمهما العزيز وأحسن إليهما. ونزل منصور بن مقشر طبيب العزيز لتعهده وبين يديه الجنائب وعلى الصبي شاشية مرصعة وبين يديه أسطال فضة وثلاثون شمعة موكبيه وشمع معنبر فشق الشارع نهاراً إلى الكنيسة. وفي ربيع الأول جلس منصور بن العزيز في المكتب. وورد صندل عامل برقة بالهدية من المال والخيل والبغال والأحمال المحزومة والجمال فخلع عليه وحمل. وفيه حمل إلى القصر بستان من فضلة فيه أنواع الأشجار المثمرة وجميع الأزهار كل ذلك من فضة. وفي ربيع الآخر سار منجوتكين من دمشق في ثلاثين ألفاً لقتال ابن حمدان بحلب وقد اجتمعت عساكر الروم بأنطاكية فأقام بفامية وسير إلى ما حول أنطاكية من القرى فأخربها. ثم رحل عنها لكثرة الحر والذباب إلى جبلة فأخذها وما حولها فنال منها شيئا كثيرا. وسار إلى حلب فحاصرها نحوا من شهرين فعزم الروم على نجدة ابن حمدان بحلب وقد أتتهم أمدادهم وجموع كثيرة وساروا يريدون حلب فبرز إليهم منجوتكين وواقعهم فهزمهم وقتل منهم نحو خمسة آلاف ومضى من بقي منهم إلى إنطاكية وذلك في شعبان. فلما انقضى أمر الوقعة عاد منجوتكين فنزل على حلب وضايق أهلها بالحصار والقتال: حتى وفي جمادى الأولى وصل غزاة البحر إلى القاهرة بمائة أسير فزينت القاهرة ومصر أعظم زينة وركب العزيز وابنه منصور وشقا الشوارع ثم ركب في عشاري ومعه العشاريات سائرة إلى المقس ثم ركب من المقس إلى القصر فكان يوما عظيما لم ير بمصر مثله وقال فيه الشعراء. وفي جمادى الآخرة سار عيسى بن جعفر أمير مكة بالجوائز والخلع ومعه القاسم الثائر. واشتدت المطالبة على ابن الفرات وأحيل عليه بمال فأعنته المحتالون عليه ولحقه منهم مكروه وألقوه عن فرسه فكسرت إصبعه وامتدت أيديهم إليه فالتجأ إلى دار القائد أبي عبد الله الحسين بن البازيار فأصلح قضيته. وجهزت هدية إلى ابن زيري بالمغرب وهي: فيل. ومائة فرس مسرجة ملجمة. وبغال ونوق وبخاتى. وثلاثون قبة مثقلة. وأحمال محزومة فيها بز وكسوة من عمل تنيس ودمياط وغيره. وعشر خلع مذهبة بمناديلها. وعشرة أفراس من خاص العزيز بمراكب ذهب. وركب العزيز بابنه لفتح الخليج وأمر ألا تباع دار بما فوق مائتي دينار إلا بعد عرضها على من يلي ديوان الأملاك. وورد سبكتكين من صقلية فخلع عليه ووردت هدية متولي صقلية وهي: خيل وجمال وصناديق مال. وصلى العزيز بالناس الجمعة بعد ما خطب بجامع القاهرة وبجامعه ومعه ابنه في أيام الجمع من شهر رمضان وعمل في آخره سماطاً للعيد وصلى العزيز بالناس صلاة عيد الفطر وخطب على الرسم. وتسلم عيسى بن نسطورس سائر الدواوين ونظر في جميعها وأمر ونهى وخاطب سائر الكتاب عن العزيز وخاطبه سائر الأولياء وكافة الناس في مهماتهم وتوقيعاتهم. وقدم يحيى بن النعمان من تنيس ودمياط والفرما بأسفاط وتخوت وصناديق مال وخيل وبغال وحمير وثلاث مظلات وكسوتين للكعبة. ولاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة عرض العزيز العساكر بظاهر القاهرة فنصب له مضرب ديباج رومي فيه ألف ثوب بصفرية فضة وفازة مثقل وقبة مثقل بالجوهر وضرب لابنه منصور مضرب آخر وعرضت العساكر فكانت مائة عسكر وأحضرت أسارى الروم وهم مائتان وخمسون منهم ثماني بطارقة وثمانية عشر من أصحاب ابن حمدان: وطيف بهم وخلع على الحمدانية فكان يوما عظيما. وسارت قافلة الحاج لأربع عشرة بقيت منه بالكسوة والصلات. وصلى العزيز صلاة عيد النحر وخطب بالمصلى على رسمه ونحر وفرق الضحايا. وجرى الرسم في عيد الغدير على العادة. |
12-21-2012, 08:44 PM | #14 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة خمس وثمانين وثلاثمائة
في المحرم ورد سابق الحاج وأخبر أنه لم يحج سوى أهل مصر واليمن. وحضر العزيز لمنجوتكين مائة ألف دينار وعسكرا يتبع بعضه بعضا. وورد البقط من النوبة. ووصل الحاج في ثامن صفر. وجلس في ربيع الأول القاضي محمد بن النعمان على كرسي بالقصر لقراءة علوم آل البيت ووردت من منجوتكين أسرى من الروم والحمدانية وعدة رءوس فعفا عن الحمدانية وطيف بمن عداهم. وورد من برقة أربعة وأربعون صندوقا على اثنين وعشرين جملا فيها المال. وبعث مفرج بن دغفل الجراح برجل من أعمال الشام زعم أنه السفياتي فشهر على جمل وهو يصفع. وفي ربيع الآخر ورد الخبر بوصول الروم إلى أنطاكية فأخرجت مضارب العزيز إلى منية الأصبغ وذلك أن منجوتكين لم يزل محاصراً لابن حمدان بحلب من شعبان سنة أربع إلى ربيع الأول من هذه السنة حتى أشرف على أخذ البلد وراسل ابن حمدان يرد على ملك الروم بما هو فيه. وكانت في هدنة الروم وبني حمدان أنه إن جاء إلى حلب عدو يدفعه ملك الروم فخاف بسيل ملك الروم من العزيز أن يتمكن عساكره من حلب فيأخذ أنطاكية من الروم فجمع نحو أربعين ألفا وسار من قسطنطينية فكد أصحابه في السير والجنائب والبغال تتقطع حتى وصل إلى أعزاز في سبعة عشر يوما وهي مسافة شهرين لسير الاتصال وقد تقطع أصحابه حتى بقى في سبعة عشر ألفا فأنفذ إلى ابن حمدان يعلمه بنزوله أعزاز وكان قد وكل بالدروب والمضائق ومنع أن يخرج أحد من بلاده حتى يخفى خبر مسيره على منجوتكين فيأخذه على غفلة فلما بعث إلى ابن حمدان يعلمه بأنه قد نزل بنفسه أعزاز فأقيموا الحروب مع منجوتكين من الغد حتى وهو في الحروب. وكانت هذه الرسالة مع رجلين من قبله فلقيهما رجل من أصحاب منجوتكين في الليل فسألهما: من أين جئتما فظناه من الحمدانية فأخبراه فقبض عليهما وأتى بهما إلى منجوتكين فأخبراه أن بسيل ملك الروم على أعزاز فلما أصبح طرح النار في خزائن السلاح وفي بيوت وحوانيت كان قد بناها عسكره فاحترقت ورحل في آخر ربيع الأول إلى دمشق ووقع الصارخ في الناس بأن منجوتكين قد انهزم عن حلب وأن عسكر الروم يطلبه فهرب الناس من المدن والقرى من دمشق إلى حلب وغلت الأسعار وكانت أيام الحصاد فترك الناس غلالهم ودورهم. وسار ملك الروم فنزل إلى حلب واجتمع بابن حمدان ثم سار عنها إلى فامية وبها طائفة من عسكر منجوتكين فقاتلهم يوما واحدا ثم سار فنزل على طرابلس وراسل أهلها ووعدهم بالإحسان إن يثبتوا على ما يكون بينهم وبينه من العهد فخرج إليه ابن نزال والي البلد ليوافقه على أمر فاجتمع أهل البلد على أن ينصبوا أخاه مكانه ويمنعونه من الدخول ولا يسلموا البلد إلى الروم فلما رجع منعوه من الدخول فصار إلى ملك الروم. وصار ملك الروم عن طرابلس فنزل على انطرسوس وهي خراب فعمر حصنها وجعل فيه أربعة آلاف وسار إلى انطاكية فكثرت فيه الاعلال فسار بمن معه إلى القسطنطينية. وخرج منجوتكين من دمشق في شوال فنزل على انطرسوس فأقام يقاتل من فيها نحوا من شهر ثم عاد إلى دمشق. وأخذ العزيز لما بلغه مسير ملك الروم إلى بلاد الشام في التأهب للمسير وأطلق خمسين ألف دينار لابتياع ما يحتاج إليه وأخرج للكتاميين أربعة آلاف فرس وأمر أن يشتري لهم ألف فرس أخرى وأخرج الفازة الكبيرة وهي بعمود واحد طوله أربعة وأربعون ذراعا وفتح الفلكة التي على رأسه سبعة عشر شبرا وطول ثيابها خمسون ذراعا وفي رأسها صفرية فضة زنتها سبعة عشر ألف درهم ويحمل هذه الفازة سبعون بختيا. وقرئ سجل في الأسواق بالنفير فاضطربت البلد. ووصلت هدية من الهند فيها شجرة عود رطب. وظهر بمصر من الوطواط شيء كثير. واجتمع من الرعية وطوائف الناس بالسلاح للسفر مع العزيز ألوف كثيرة وخرج جيش ابن الصمصامة في عسكر كبير إلى الشام وسير لابن الجراح خمسون ألف دينار ولمنجوتكين مائة ألف وخمسون ألف دينار. وخرج العزيز بسائر العساكر إلى منية الأصبغ في عاشر رجب فأقام شهراً ثم رجع إلى منا جعفر وقتل هناك الذي زعم أنه السفياني. وأحصيت الخيول التي سارت مع العزيز في اسطبلاته فكانت اثني عشر ألفا والجمال المحملة للعزيز ولوجوه خاصته فكانت ثلاثين ألفا سوى ما هو مع وجوه الدولة وحملت الخزانة السائرة على عشرين جملا سوى خزائن الوجوه والخاصة وكان معه من المال خمسة آلاف جمل على كل جمل صندوقان كبيران مملوءان مالا وألف وثمانمائة بختية وبختي على كل واحد صندوقان في كل منهما مثل ما في الصندوقين المحمولين على الجمل. وخرج خلق من التجار ووجوه الرعية مرتين إلى العزيز يسألونه المقام وأن لا يخرج من مصر ويسير العساكر فشكرهم وقال: إنما أسير لنصرة الإسلام والذب عن بلدانه وصيانة أهله. فقدم رسول ملك الروم يخبر بوصوله إلى بلده ويعتذر عن مسيره ويسأل الهدنة فأجيب إلى وورد كتاب ابن حمدان يسأل فيه العفو وأن يقر على عمله فأجيب بالعفو عنه وخلع على رسوله وحمل. ونودي في رمضان بالقاهرة ومصر: من كان من أهل السلاح فليخرج ليأخذ الرزق الكثير. وأنفذت العساكر لحفظ الأطراف. وسير إلى الإسكندرية والصعيد بالعساكر. وصلى منصور بن العزيز بالناس صلاة عيد الفطر وخطب بمنا جعفر على رسم أبيه وزيه وعليه المظلة والجوهر. وفي نصف شوال ماتت أم ولد العزيز وزوجته بمنا جعفر فحملت إلى القصر وصلى عليها العزيز وكفنها بما مبلغه عشرة آلاف دينار وأخذت الغاسلة ما كان تحتها من الفرش وعليها من الثياب فكان مبلغ ما نالها ستة آلاف دينار ودفع إلى الفقراء ألفا دينار وللقراء الذين قرأوا على قبرها ثلاثة آلاف دينار. ورثاها جماعة من الشعراء فأجيزوا ففيهم من كانت جائزته خمسمائة دينار. ورجع العزيز إلى مضاربه وأقامت ابنتها على قبرها شهراً تقيم العزاء والعزيز يأتيها كل يوم وسارت قافلة الحاج بالكسوة والصلات في سادس عشر ذي القعدة. وتوفيت أم العزيز فرجع العزيز إلى القاهرة وصلى عليها وأمر بالصدقة ورجع إلى مضاربه. وصلى العزيز بالناس صلاة عيد النحر وخطب في مضاربه ونحر سنة ست وثمانين وثلاثمائة: في محرم ورد سابق الحاج فخلع عليه بالمخيم وقدم الحاج لثمان بقين من صفر. وفي ربيع الأول جهزت المراكب الحربية وأشحنت بالمقاتلة. وفي العشرين منه رفع العزيز إلى غيفة فنزل بالعقارية بعد أن أقام في مناخه أربعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً فأقام بها ليلة ورفع إلى بلبيس فنزل بظاهرها. ونودي في البلد لا يتأخر أحد عن المسير في الأسطول فوقعت في الأسطول نار فاحترق وقت صلاة الجمعة لست بقين من ربيع الآخر فأتت على ما فيه من عدة وسلاح حتى لم يبق منه غير ست مراكب لا شيء فيها فاتهم بذلك الروم الأسارى وكانوا في دار بجوار الصناعة بالمقس فنهبتهم العامة وقتلوا منهم مائةً وسبعة أنفس. وحضر عيسى بن نسطورس ويانس الصقلبي متولي الشرطة إلى الروم فاعترفوا بأنهم أحرقوا وشرع عيسى بن نسطورس في إنشاء اسطول جديد وظفر بعدة من النهابة فقتل بعضهم وحبس بعضهم بعد الضرب الشديد فأحضر كثير مما نهب. ووردت غزاة البحر بمائتي أسير وعشرين أسيرا طيف بهم البلد. ووصل من برقة ستون فرسا منها عشرة بسروجها ولجمها وعشرون بغلة عليها صناديق المال وخمسمائة جمل عليها قطران وغيره وعدة من صبيان وعلوج من السبر ونزع السعر فمنع من بيع القمح لغير الطحانين ولخمس بقين من رجب ابتدأ بالعزيز المرض فأقام به إلى ثامن عشرين رمضان فاستدعى القاضي محمد بن النعمان والحسين بن عمار لليلتين بقيتا منه وخاطبهما في أمر ولده ثم استدعى ولده وخاطبه. ثم توفي من يومه بين صلاتي الظهر والعصر من مرض القولنج والحصاة في مسلخ الحماد ببلبيس فلم يكتم موته. ورحلت سيدة الملك ابنة العزيز في الليل وسار بمسيرها القيصرية لأنهم كانوا برسمها ومعهم القاضي محمد بن النعمان وريدان صاحب المظلة وأبو سعيدا ميمون دبة فوافوا القاهرة وأقيم المأتم والصياح بالقصر وضبط الناس أحسن ضبط فلم يتحرك أحد ولم يبق شارع ولا وبادر برجوان إلى أبي علي منصور بن العزيز فإذا هو على شجرة جميز يلعب في دار ببلبيس فقال له: بسك تلعب انزل. فقال له: ما أنزل والله الساعة. فقال له: انزل ويحك! الله فينا وفيك وأنزله ووضع على رأسه العمامة بالجوهر وقبل له الأرض وقال: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وأخرج به إلى الناس فقبل جميعهم له الأرض وسلموا عليه بالخلافة. وخرج الناس من الغد للقائه فدخل إلى القاهرة وبين يديه البنود والبوقات بالمظلة يحملها ريدان والعساكر كلها معه والعزيز بين يديه على عمارية وقد خرج قدماه منها ونودي في البلد: لا مؤنة ولا كلفة وقد أمنكم الله على أنفسكم فمن عارضكم أو خاطبكم فقد حل دمه وماله. وتولى القاضي ابن النعمان غسل العزيز ودفن مع آبائه في تربة القصر بعد عشاء الأخيرة. وأصبح الناس والأحوال مستقيمة. وقد لقب أبو علي المنصور الحاكم بأمر الله. فاتفق كل المغاربة واشترطوا أن لا ينظر في أموالهم إلا ابن عمار. وباتوا ليلة العيد وأصبحوا يوم الفطر فصلى بالناس القاضي محمد بن النعمان وهو متقلد للسيف فعندما صعد المنبر قبل موضع جلوس العزيز وبكى فضج الناس بالبكاء والنحيب وخطب فندب العزيز وبكاه ودعا للمحاكم وعاد إلى القصر والعساكر صفين من المصلى إلى باب القصر فحضر الحاكم اسماط. وكانت مدة العزيز في الخلافة بعد أبيه المعز إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر ونصف ومات وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما. وكان نقض خاتمه: بنصر العزيز الجبار ينتصر الإمام نزار. وخلف من الولد: ابنه منصورا وسيدة الملك وولدت بالمغرب في ذي القعدة سنة تسع وخمسين وثلاثمائة . وكان أسمر طوالا أصهب الشعر أعين أشهل عريض المنكبين شجاعاً حسن العفو والقدرة لا يعرف سفك الدماء حسن الخلق قريباً من الناس بصيراً بالخيل وجوارح الطير ووزر له: يعقوب بن كلس اثنتي عشرة سنة وشهرين وتسعة عشر يوما. ثم أبو الحسن علي بن عمر العداس بعد ابن كلس سنة واحدة ثم أبو الفضل جعفر بن الفرات سنة. ثم أبو عبد الله الحسين بن الحسن البازيار سنة وثلاثة أشهر. ثم أبو محمد بن عمار شهرين. ثم الفضل بن صالح أياما. ثم عيسى بن نسطورس سنة وعشرة أشهر. وكانت قضاته: أبو طاهر محمد بن أحمد. ثم أبو الحسن علي بن النعمان. وكانت خرجاته إلى السفر: أولها ثامن صفر سنة سبع وستين ثم عاد من العباسة. والثانية سار إلى الرملة وظفر بأفتكين التركي. والرابعة نزل منية الأصبغ في ربيع الأول سنة أربع وسبعين ثم عاد بعد ثمانية أشهر واثني عشر يوما. والخامسة برز في عاشر شهر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين فأقام مبرزاً أربعة عشر شهراً وعشرين يوما وفيه مات. وهو أول من اتخذ من أهل بيته وزيراً أثبت اسمه على الطرز وقرنه باسمه. وأول من لبس منهم الخفتان والمنطقة. وأول من اتخذ منهم الأتراك واصطنعهم وجعل منهم القواد. وأول من رمى منهم بالنشاب. وأول من ركب منهم بالذؤابة الطويلة والحنك وضرب بالصوالجة ولعب بالرمح. وأول من عمل مائدة في الشرطة السفلى في شهر رمضان يفطر عليها أهل الجامع العتيق. وأقام طعاما في جامع القاهرة لمن يحضر في رجب وشعبان ورمضان واتخذ الحمير لركوبه إياها. وتجدد في أيامه من العمائر: قصر الذهب بالقاهرة. وجامع القاهرة. المعروف بجامع الحاكم وبستان سردوس. والفوارة بالجامع العتيق. والقصور بعين شمس. والمصلى الجديد بالقاهرة. وحصن الرسيين. والمنظرة على الخليج. وقنطرة الخليج القديمة التي بناها عبد العزيز بن مروان وقنطرة بني وائل. والحمامات التي بالقاهرة. ودار الصناعة التي بالمقس. والمراكب مما لم ير مثله قبله كبرا ووثاقة وحسنا. وهو أول من ركب في الجمع شهر رمضان وصلى بالناس. وأول من بنى دار الفطرة وقرر فيها ما يحمل إلى الناس في العيد. وبلغ راتب مطبخه ومائدته في كل يوم مالا عظيما فلم يكن أحد من الأتراك والعبيد إلا وله وظيفة راتبة كل يوم. وكان يعلف له من الخيل في كل يوم والبغال والحمير والجمال عشرون ألف رأس منها لركوبه ألف فرس سوى البغال. وقال ابن سعيد عن كتاب سيرة الأئمة لابن مهذب: قال: كتب أبو جعفر محمد ابن حسين بن مهذب صاحب بيت المال إلى العزيز: يا مولانا صلى الله عليك : ربما سألني أهلي وكتابي وبعض الكتاب المتصرفين من عبيد الدولة الموثوق بهم في قرض مال ومالي لا يحتمل ذلك ومال مولانا فلا تبسط فيه يدي إلا بإذنه وقد كتبت هذه الرقعة إلى مولانا أستأذنه فيما أعول عليه. فوقع العزيز عليها: يا محمد: سلمك الله من أتاك من أهلك وكتابك وخزانك والمتصرفين معك ومن سائر عبيدنا والمتمسكين بأذيالنا يطلب منك سلفا ورأيت منه ما يدل على صحة ما شكاه من ضرورته وعلمت صدقه في ديانته فادفع إليه ما رأيته وخذ منه خطه ولا تطلب منه فإن رده إليك عفوا من ذات نفسه فخذ منه وإن لم يرده إليك وعلمت أن يده لا تصل إلى رده فاعذره في تأخير ما قبضه وإن طلب زيادةً زدته على شرطه واسكت عن طلبه ومن عرفت أنه قادر على رد ما قبضه ولم يعده إليك فأمسك عن طلبه وامنعه من مثله. وأنفذ العزيز إلى أبي عبد الله حسين بن البازيار ببلبيس وقد اشتد به الوجع فبكى رأه فقال له العزيز: تبكي يا حسين! لا تبك علي الساعة ولكن إذا ضرب مولاك الأمير ابني بيده على لحيته فابك البكاء الطويل إن قدرت. فلما كان في سنة أربع وتسعين قتل الحاكم ابن البازيار عند خروج لحيته. وكان رشيق الحمداني يقول عن الحاكم: هذا يقتلني. فسئل عن ذلك فقال: دخلت على العزيز وهو مطرق كأنه يخاطب نفسه فبعد وقت رفع رأسه وقال: أي وقت جئت فقلت: من ساعة. فقال: كنت مفكرا في قوم أشجو صدري وملأوا بالغيظ قلبي ولا أدري ما أعمل. فقال: ما هذا يكون بيدي ولكنه والله سوف يجيء من يقتلهم ويقتلك معهم. وأرى الحاكم قد قتل جماعة ولا بد له مني. وكذا كان. وقال القرطي: كان المثل يضرب بأيام العزيز في مصر لأنها كانت كلها أعياداً وأعراسا. وقال ابن الأثير: قيل إنه ولي عيسى بن نسطورس النصراني كتابته واستناب بالشام يهوديا اسمه منشا إبراهيم بن القزاز فاعتز بهما النصارى واليهود وآذوا المسلمين فعمد أهل مصر وكتبوا قصة وجعلوها في يد صورة عملوها من قراطيس فيها: بالذي أعز اليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي. وأقعدوا تلك الصورة على طريق العزيز والرقعة بيدها فلما رآها أمر بأخذها فإذا الصورة من قراطيس فعلم ما أريد بذلك فقبض عليهما وأخذ من عيسى بن نسطورس ثلاثمائة ألف دينار ومن اليهودي شيئاً كثيراً. وكان يحب العفو ويستعمله فمن حلمه: أنه كان بمصر شاعر اسمه الحسن بن بشر الدمشقي وكان كثير الهجاء فهجا يعقوب بن كلس وزير العزيز وكاتب الإنشاء من جهته أبا نصر عبد الله بن الحسين القيرواني فقال: قل لأبي نصرٍ كاتب القصر والمتأتي لنقض ذلك الأمر انقض عرى الملك الوزير تفز منه بحسن الثنا والذكر واعط وامنع ولا تخف أحدا فصاحب القصر ليس في القصر وليس يدري ماذا يراد به وهو إذا درى فما يدري فشكاه ابن كلس إلى العزيز وأنشده الشعر فقال: هذا شيء اشتركنا فيه في الهجاء فشاركني في العفو عنه. ثم قال هذا الشاعر أيضاً وعرض بالفضل القائد: تنصّر فالتنصر دين حقٍّ عليه زماننا هذا يدل وقل بثلاثة عزوا وجلوا وعطّل ما سواهم فهو عطل فيعقوب الوزير أبٌ وهذا العزيز ابنٌ وروح القدس فضل فشكاه الوزير إلى العزيز فامتعض منه إلا أنه قال: اعف عنه. ثم دخل الوزير على العزيز فقال: لم يبق للعفو عن هذا معنى وفيه غض من السياسة ونقص لهيبة الملك فإنه قد ذكرك وذكرني وذكر ابن رباح نديمك وسبك بقوله: زيارجيٌ نديمٌ وكليسيٌّ وزير نعم على قدر الكلب يصلح الساجور فغضب الوزير وأمر بالقبض عليه فقبض عليه لوقته ثم بدا للعزيز إطلاقه فأرسل إليه يستدعيه وكان للوزير عين في القصر فأخبره بذلك فأمر بقتله فقتل فلما وصل رسول العزيز في طلبه أراه رأسه مقطوعا فعاد إليه وأخبره فاغتم له. وقال ابن الأثير: أبو الفتيان محمد بن حيوس: لما مات العزيز وحضر الناس للتعزية بالقصر واجتمع الناس على اختلاف طبقاتهم افحم الناس بأجمعهم عن أن يوردوا في ذلك المقام شيئا مما يليق بالوقت ومكثوا مطرقين فقام صبي من أولاد الأمراء الكتاميين. وأنشد: انظر إلى العلياء كيف تضام ** ومآتم الأحساب كيف تقام خبّرتني ركب الركاب ولم يدع ** للسفر وجه ترحّل فأقاموا فاستحسن الناس من إيراد الصبي لذلك وطرق الناس إلى إيراد المراثي ونهض الشعراء والخطباء فعزوا وأنشد كل إنسان ما عمل في التعزية. وكان الصبي هو الذريعة إلى إيراد ما أوردوه وكشف ما نزل بهم من المهابة والمخافة. |
12-21-2012, 08:46 PM | #15 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
الجزء الثاني
الحاكم بأمر الله أبو علي منصور ابن العزيز بالله أبي المنصور نزار ابن المعز لدين الله أبي تميم معد ولد في القصر بالقاهرة ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلثمائة في الساعة التاسعة الموافق صبيحتها الثالث عشر من شهر آب. والطالع من السرطان سبع وعشرون درجة والشمس في برج الأسد على خمس وعشرين درجة والقمر بالجوزاء على إحدى عشرة درجة وزحل بالعقرب على أربع وعشرين درجة والمشتري بالميزان على ثمان درج والمريخ بالميزان على ثلاث عشرة درجة والزهرة بالميزان على تسع عشرة درجة وعطارد بالأسد على عشر درج والرأس بالدلو على خمس درج. وسلم عليه بالخلافة في الجيش بعد الظهر من يوم الثلاثاء ثامن عشري شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلثمائة. وسار إلى قصره في يوم الأربعاء بسائر أهل الدولة والعزيز في قبة على ناقة بين يديه وعلى الحاكم دراعة مصمتة وعمامة فيها الجوهر وبيده رمح وقد تقلد السيف فوصل إلى القصر ولم يفقد من جميع ما كان مع العساكر شيء ودخله قبل صلاة المغرب وأخذ في جهاز أبيه العزيز ودفنه. ثم بكر سائر أهل الدولة إلى القصر يوم الخميس وقد نصب للحاكم سرير من ذهب عليه مرتبة مذهبة في الإيوان الكبير. وخرج من قصره راكباً وعليه معممة الجوهر فوقف الناس بصحن الإيوان وقبلوا الأرض ومشوا بين يديه حتى جلس على السرير فوقف من مهمته الوقوف وجلس من له عادة الجلوس. فسلم عليه الجماعة بالإمامة واللقب الذي اختير له وهو الحاكم بأمر الله. وكان سنه يومئذ إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وستة أيام. وكان جماعة من شيوخ كتامة تخلفوا عن الحضور وتجمعوا نحو المصلى. فخرج إليهم أبو محمد بن الحسن بن عمار في طائفة من شيوخهم وما زالوا بهم حتى أحضروهم بعد امتناعهم من الحضور وشكوا من قيس بن نسطورس وسألوا صرفه وأن تكون الوساطة لرجل منهم فندب لذلك أبو محمد الحسن بن عمار. فقرر أحوالهم فيما يطلق لهم من الرزق بعد خطاب طويل على أن يطلق لهم ثماني إطلاقات في كل سنة وأن يكون لكل واحد ثمانية دنانير وأن يطلق هذا الفض في يومهم بحضرة أمير المؤمنين. فأحضر المال ودفع إليهم بحضرة الحاكم الفضل وهو وخلع على أبي الحسن يانس الخادم الصقلبي وحمل على فرسخين وقال: يتولى القصور. وفي أول شوال فرش على سرير الذهب في الإيوان مرتبة نسيج فضة وخرج الحاكم على فرس أدهم بمعممة الجوهر وقد تقلد السيف وفي ركابه الايمن حسين بن عبد الرحمن الرابض وفي ركابه الأيسر برجوان والناس قيام فقبلوا له الأرض ودعوا. فقال ابن عمار للقاضي محمد بن النعمان: مولانا يأمرك بالخوارج إلى المصلى للصلاة بالناس وإقامة الدعوة لأمير المؤمنين. فنهض قائما وقلده برجوان بسيف محلى بذهب من سيوف العزيز ومضى فصلى وأقام الدعوة ثم قدم. ونصب السرير الذهب في صفة الإيوان ونصب السماط الفضة وخرج الحاكم من القصر وكان قد دخل إليه وهو على فرس أشقر فجلس على السماط وحضر من له رسم فأكلوا وانصرفوا. وفي ثالثه خلع علي ابن عمار وقلد بسيف من سيوف العزيز وحمل على فرس بسرج ذهب وكناه الحاكم ولقبه بأمين الدولة وقال له: أنت أميني على دولتي ورجالي. وقاد بين الخيل وعمل خمسين ثوبا ملونة من البز الرفيع. ومضى في موكب عظيم إلى داره. وكتب سجل من إنشاء أبي منصور بن سيرين وبخطه قرأه القاضي محمد بن النعمان بالجامع يتضمن وراثة الحاكم الملك من أبيه ويعد الرعية فيه بحسن النظر لهم وأمر فيه بإسقاط مكوس كانت بالساحل. ففرح الناس. وكانت عدة ممن قتلهم ابن نسطورس لما احترق الأسطول على الخشبة فأمر بتسليمهم إلى أهليهم وأطلق لكل واحد عشرة دنانير من أجل كفنه فكثر الدعاء من الرعية للحاكم. وأمر بقلع الالواح التي على دور الأخباز وسلمت لأربابها ومستحقيها فبلغت شيئا كثيرا. وخلع على القائد أبي عبد الله الحسين بن جوهر القائد ورد إليه البريد والإنشاء فكان يخلفه ابن سورين وحمل بين يديه كثير من الخيل والثياب وحمل على فرس بمركبين. واستكتب أمين الدولة ابن عمار أبا عبد الله الموصلي واستخلفه على أخذ رقاع الناس وتوقيعاتهم. وأقر عيسى بن نسطورس على ديوان الخاص. وخلع على جماعة بولايات عديدة وقرىء سجل قرأه القاضي بالجامع يتضمن ولاية ابن عمار الوساطة وتلقيبه بأمين الدولة وأمر الناس كلهم أن يترجلوا لابن عمار فترجلوا بأسرهم له. وفي ثاني ذي القعدة تجمع الكتاميون عند المصلى فأنفذ إليهم واستحضرهم وتقرر أمرهم على النفقة فيهم فأنفق عليهم. وحمل راجلهم على الخيل وكانوا نحو الألف رجل وأركبت وفي ثاني عشره خلع على أبي تميم سلمان بن جعفر بن فلاح وقلد السيف وحمل على فرس بمركب ذهب وقيد بين يديه بأربعة أفراس مسرجة ملجمة وحمل بين يديه ثياب كثيرة من كل نوع وجرد معه عسكر ليسير إلى الشام. وسارت قافلة الحاج بكسوة الكعبة والصلات والنفقة على الرسم المعتاد في النصف منه. وركب الحاكم يوم الأضحى فصلى بالناس صلاة العيد بالمصلى وخطب وأصعد معه المنبر القاضي محمد بن النعمان وبرجوان وابن عمار وجماعة. سنة سبع وثمانين وثلثمائة في المحرم ورد سابق الحاج فأخبر بتمام الحج والدعاء للحاكم في الحرمين. وفيه نزع سعر القمح وغيره وعز وجوده واشتد الغلاء ووقع في البلد خوف شديد من طرف رجل من اللصوص في الليل وكبسه دور الناس فتحارسوا في الليل وأخذت نساء من الطرقات وعظم الأمر في ذلك. وفيه ضربت رقبة عيسى بن نسطورس. ووصل الحاج في رابع عشر صفر فخلع على سبكتكين مقدم القافلة وحمل على عدد من ووقف سعر الخبز على أربعة أرطال بدرهم. وسار أبو تميم سلمان بن جعفر بن فلاح بعد أن خلع عليه وقيد بين يديه عدة خيول وحمل معه شيء كثير من الثياب وأنفق في أهل عسكره فنزل مسجد تبر فأقام إلى تاسع عشر ربيع الأول فخرج إليه الحاكم وحلفه ومن معه وعاد. فرحل ابن فلاح إلى القصور فأقام بها. وقرىء سجل يوم الجمعة للنصف منه بمدح كتامة ولعن منجوتكين على سائر منابر مصر وفي القصر. وخلع على جماعة من الحمدانية وجهزوا إلى ابن فلاح فساروا معه. وفي آخره أخرج ابن عمار إلى سلمان بن جعفر بن فلاح بخزانة مال على ثمانية وستين بغلا في صناديق فيها أربعمائة ألف دينار وسبعمائة ألف درهم وستة وأربعين حملاً من السلاح وعشر جمازات عليها دروع وست قباب بفرشها وأهلتها ومناطقها وجميع آلاتها منها قبتان قرقرى مثقل وباقيها ديباج وست جمازات تجنب بآلة الديباج الملون وثلاثين جمازة بأجلتها وعشرة أفراس وثلاث بغلات بمراكبها ومنديل حمله خادم فيه ثياب مشرف بها من ثياب العزيز وسيف من سيوفه. وفي ثالث ربيع الآخر ركب الحاكم وابن عمار إلى القصور فودعا ابن فلاح وسار في ثلاثة من كتامة وسبعمائة فارس من الغلمان وانضم إليه من عرب الرملة ثمانية آلاف. وفي النصف منه شق الحاكم المدينة وقد زينت زينة عظيمة وزيدان يحمل مظلة عن يمينه وابن عمار عن يساره ويرجوان وحده خلفه فدخل الصناعة. وأما منجوتكين فإنه لما بلغه ما فعله ابن عمار من إكرام كتامة وحطه من مراتب المصطنعين الذين اصطنعهم العزيز من الأتراك خاف. فلم يكن غير قليل حتى بلغه خروج سلمان بن جعفر بن فلاح إلى الشام بالكتاميين فسار إلى الرملة مستعد القتال من يجيئه من مصر فالتقيا برفح. وكانت الوقعة بين الطوالع فانهزم أصحاب منجوتكين وسار ابن فلاح إلى منجوتكين فلقيه بظاهر عسقلان وقد انضم إليه ابن الجراح في كثير من العرب فاستأمن إلى ابن فلاح عدة من أصحاب منجوتكين. واقتتلا يوم الجمعة رابع جمادى الأولى فقتل كثير من أصحاب منجوتكين وأسر عدة منهم وانهزم منجوتكين بمن بقى معه فقطع من عسقلان إلى دمشق في ثلاثة أيام وأهلها في مجاعة من غلاء الأسعار وقلة الطعام وقد راجت الغلال. فاجتمع أهل البلد إلى الجامع وهم كثير فيهم حمال السلاح ومن يطلب الفتن. فقال الناس: نرح منجوتكين عنا وقال طلاب الفتن: لا ما نقاتل معه وساروا إلى داره ومعهم قوم من المرج يقال لهم الهياجنة أهل شر وفساد فنهبوها وما حولها من دور أمرائها. وخرج منهزما في يسير من الجند فراسخ فنزل على ابن الجراح. وبلغ ذلك ابن فلاح فأرسل بأخيه علي بن جعفر بن فلاح في ألفي رجل فنزل بظاهر دمشق لست بقين منه وبعث إلى ابن الجراح رسولاً بأن ينفذ منجوتكين إلى مولانا فإنا لا نريد به سوءاً وهو آمن وبذل له مالا. فسار منجوتكين ودخل القاهرة في ثاني عشري رجب فأنزله ابن عمار في دار وكان يركب في خدمته وإذا لقيه وهو راكب ترجل له. وكان ابن عمار ينزله أدون المراتب وغير رسومه كلها. وأما علي بن جعفر بن فلاح فإنه لما قدم من عند أخيه ولى البلد لرجل من المغاربة لم يكن عنده ما رآه بل كان فظا غليظاً فشاق العامة وواجههم فثاروا عليه بالسلاح وركب المغاربة وكانت بينهم حروب. ثم إن شيوخ البلد خرجوا إليه وأصلحوا الأمر. وسار علي من الرملة فنزل على دمشق في عسكر عظيم يوم الاثنين لست بقين من رجب وأقام لا يأمر بخير ولا شر. وأما ابن عمار فإنه لما نظر في الأمر كان ينزل على باب الحجرة التي فيها الحاكم ويدخل القصر راكبا فيشق قاعة الدواوين ويدخل من الباب الذي يجلس فيه خدم الخاصة ثم يعدل منه إلى باب الحجرة فينزل ويركب منه. وكان الناس من الشيوخ والرؤساء على سائر طبقاتهم يبكرون إلى داره والباب مغلق فيفتح بعد وقت فيدخل إليه الوجوه فيجلسون في قاعة الدار على حصير وهو في مجلسه لا يدخل إليه أحد فإذا مضت لهم ساعة أذن للوجوه فالقاضي وبعده كتامة والقواد فيدخل أعيانهم ثم يأذن لسائر الناس فلا يقدر أحد على الوصول إليه فمنهم من يومى إلى تقبيل الأرض ومنهم من يقبل الركاب ومنهم من يقبل ركبته. وتسلم النظر والإسطبلات عامرة فأخرج لرجال كتامة وأحداثهم ألفا وخمسمائة فرس ولم يبق من شيوخهم إلا من قاد إليه الفرسين والثلاثة بمراكبها. وحمل لسلمان بن جعفر ابن فلاح ما يتجاوز ألف رأس وجل رحل العزيز وأمتعته. وباع من الخيل والبغال والنجب والحمر ما يتجاوز الألوف حتى بيعت الناقة بستة دنانير والحمار الذي قيمته أربعون دينارا بأربعة دنانير. وقطع أكثر الرسوم التي كانت لأولياء الدولة من الأتراك والعبيد وقطع أكثر ما كان في المطابخ. وقطع أرزاق جماعة أرباب الراتب وفرق كثيرا من الجواري طلباً للتوفير. واصطنع أحداث المغاربة فكثر عبث أشرارهم وامتدت أيديهم إلى أخذ الحرم في الطرقات وعروا جماعة من الناس فكثرت الشكاية منهم ولم يبد كبير نكير فأفرط الأمر حتى تعرضوا إلى الأتراك يريدون أخذ ثيابهم فثار لذلك شر قتل فيه واحد من المغاربة وغلام تركي فسار أولياء الكتامى ليأخذوا التركي قاتله ويأتوا به إلى قبر المقتول فيعتقوه هناك فلما أخذوه قتلوه على قبر الكتامي. فاجتمعت أكابر الطائفتين وتحزبوا فوقعت الحرب بينهما وقتل جماعة وانطلقت ألسن كل منهما في الآخرين بالقبيح. وأقاموا على مصافهم يومين آخرهما تاسع شعبان فركب ابن عمار في عاشره بآلة الحرب وقد حفت به المغاربة وتبادر إليه الاتراك فاقتتل الفريقان وقتل منهما جماعة وجرح كثير. وجيء لابن عمار بعدة رؤوس طرحت بين يديه فأنكر ذلك وظهر له الخطأ في ركوبه فعاد إلى داره. وجاء برجوان ليصلح الأمر فثار الغلمان وركبوا دار ابن عمار للفتك به فأركب برجوان إلى القصر وانبسطت أيدي المغاربة وأحداث الغلمان والنهابة فانتهبوا دار ابن عمار واسطبلاته ودار رشا غلامه وأخذوا ما لا يحصى كثرة. وانعزل لثلاث بقين منه وتحول من القاهرة إلى داره بمصر. فكانت أيام نظره أحد عشر شهرا غير خمسة أيام. فأقام بمصر سبعة وعشرين يوماً ثم عاد إلى القاهرة بأمر الحاكم فأقام بها لا يركب ولا يجتمع به سوى خدمه وأطلقت له رسومه وجراياته وجرايات حشمه على رتبه في أيام نظره. وتقدم الحاكم إلى برجوان أن ينظر في التدبير على ما كان ابن عمار فنظر في ذلك لثلاث بقين من رمضان وسار إلى القصر وجمع الغلمان الأتراك ونهاهم عن التعرض لأحد من الكتاميين والمغاربة. وقبض على عريف الباطلية فإنهم كانوا قد نهبوا شيئا كثيرا لابن عمار وألزمه بإحضار ما نهب أصحابه. وأجرى الرسوم والرواتب التي قطعها ابن عمار وأجرى لابن عمار ما كان يجري له في أيام العزيز ولآله وحرمه ومبلغ ذلك من اللحم والتوابل والفاكهة خمسمائة دينار في كل شهر يزيد على ذلك تارة وينقص أخرى على قدر الأسعار مع ما كان له من الفاكهة وهو في كل يوم سلة بدينار وعشرة أرطال شمع كل يوم وحمل ثلج عن يومين فأجرى له ذلك مدة حياته. وجعل برجوان أبا العلا فهد بن إبراهيم النصراني كاتبه يوقع عنه فنظر في قصص الرافعين وظلاماتهم وطالعه بما يحتاج إليه فرتب الغلمان في القصر وأكد عليهم في ملازمة الخدمة وتفقد أحوالهم. وأزاح علل أولياء الدولة وتفقد أمور الناس وأزال ضروراتهم ومنع من الترجل له. وكان الناس يلقونه في داره فإذا تكاملوا ركب وهم بين يديه إلى القصر. ولقب كاتبه فهد بن إبراهيم بالرئيس فكان يخاطب بذلك ويكاتب به ويركب أكثر الناس إلى داره حتى يخرج برجوان إلى القصر فيجلس فيه في آخر دهاليزه ويجلس فهد في الدهليز الأول يوقع وينظر ويطالع برجوان بما يحتاج له فيخرج الأمر بما يكون. فلم يزل الأمر على ذلك حتى انتهت مدتهما. وكان الحاكم يركب كل يوم إلى الميدان فيجلس على سريره بالطارمة فتعرض عليه الخيل والقراء بين يديه وربما أنشده الشعراء ثم ينصرف إلى القصر فيجلس برجوان وكاتبه لأخذ رقاع المتظلمين وأرباب الحاجات فلا يزالان حتى لا يبقى منهم أحد ثم يدخلان. فإذا فرغ الحاكم من غدائه ورفعت المائدة تقدم أبو العلا فجلس بين يديه وبرجوان قائم على رأسه حتى يقرأ جميع تلك الرقاع ويوقع عليها الحاكم في أعلاها بما يراه ثم يخرج بها فتفرق كلها ويمضى بها إلى الديوان فتنفذ من غير مراجعة. وكان الحاكم إذا جلس في الطارمة وأنشده الشعراء تناول برجوان قصائدهم فجعلها في كمه فإذا عرض رقاع الناس وفرغ من التوقيع قرأ القصائد وقد حضر من له تمييز ومعرفة بالشعر. وكان الحاكم له من الحذق بذلك ما ليس لغيره فإذا أنشده الشاعر أو أنشد له أبو الحسن لا ينشد ويمر بالبيت النادر أو المعنى الحسن إلا نبه برجوان عليه واستعاده مراراً ثم يوقع لكل واحد منهم بقدر استحقاقه ومبلغه من صناعته فتخرج صلاتهم بحسب ذلك. وفي يوم الثلاثاء تاسع شعبان أهدت ست الملوك إلى أخيها الحاكم بأمر الله ثلاثين فرسا مسرجة أحدها مرصع وآخر بلور وبقيتها ذهب وعشرين بغلة مسرجة ملجمة وخمسين خادما منها عشرة صقالبة ومائة تخت ثياب وتاجا مرصعا وشاشية مرصعة وأسفاطا كثيرة من طيب وبستانا من الفضة مزروعا من أنواع الشجر. وصلى الحاكم بالناس صلاة عيد الفطر بالمصلى وخطب وأصعد معه المنبر الحسين بن جوهر والقاضي والأستاذ برجوان وجماعة. وسارت قافلة الحاج من بركة الجب بالكسوة للكعبة والزيت والدقيق والقمح والشمع والطيب لمكة والمدينة في تاسع ذي القعدة. وفيه خرج جيش بن الصمصامة إلى الشام مكان سلمان بن جعفر بن فلاح فرحل ابن فلاح عن دمشق في يوم الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة بعسكره وسار إلى الرملة. وفيها صلى الحاكم بالمصلى صلاة العيد يوم النحر بالناس وخطب على رسمه. وورد الخبر من مدينة قوص بأن شدةً نزلت بهم من برق ورعد ومطر وحجارة نزلت من السماء منها ما لم يسمع بمثله وأنهم زلزلوا زلزلة شديدة قصفت النخل والجميز واقتلعت خمسمائة نخلة من أصولها. وانبثق بقوص وأعمالها زرقة خضراء على ظهر الأرض وغرقت عدة مراكب مشحونة بغلال تساوى أموالا كثيرة. وفيها كتب الحاكم بأمر الله مع الشريف الداعي علي بن عبد الله سجلين لأبي مناد باديس ابن يوسف بن زيرى أحدهما بولايته المغرب وتلقيبه نصير دولة الحاكم والثاني بوفاة العزيز بالله وخلافة الحاكم وأخذه العهد على بني مناد. فأنزل وأكرم وأخذ العهد على جميع قبائل صنهاجة وعمومهم بالبيعة للحاكم في جمادى الآخرة ثم عاد فقدم إلى القاهرة يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة بعد أن وصله نصير الدولة بمال جليل وثياب وخيول. ودخلت سنة ثمان وثمانين وثلثمائة في المحرم كان غطاس النصارى فضربت الخيام والمضارب والأشرعة في عدة مواضع من شاطىء النيل ونصبت أسرة للرئيس فهد بن إبراهيم وأوقدت له الشموع والمشاعل وحضر المغنون والملهون وجلس مع أهله يشرب إلى أن جاء وقت الغطاس فغطس وانصرف. وورد سابق الحاج لثمان خلون منه. وخلع على أبي الحارث فحل بن إسماعيل بن تميم بن فحل الكتامي وقيد بين يديه وحمل إليه وقلد صور وخلع على أبي سعيد وقلد الحسبة. وخلع على أبي الحسن يانس الخادم الصقلبي وقلد بسيف ودفع إليه رمح وحمل على فرس بمركب ذهب ثقيل وحمل إليه خمسة آلاف دينار وعدة من الخيل والثياب ومائة غلام وسار لولاية برقة. وخلع على خود الصقلبي وقلد بسيف وحمل وقيد بين يديه فرس وحمل إليه ثياب وقلد ووصلت قافلة الحاج سابع عشر صفر. وسار ميسور الخادم الصقلبي والباعلي طرابلس وخلع على فائق الخادم الصقلبي وجعل على الأسطول. وفي سادس عشر ربيع الأول كان نوروز الفرس فأهدى الأتراك وقوادهم وجماعة الأولياء إلى الحاكم الخيل والسلاح الكثير فقبل يسيراً منه وشكر ذلك لهم ورد الباقي إليهم. وفي أول ربيع الآخر قدم سلمان بن فلاح وأخوه من الرملة. وفي سادس عشر كان فصح النصارى فخلع على فهد بن إبراهيم خلعة حملت إلى داره ومعها بغلتان بمركبيهما وألف دينار. وخلع على أبي سعادة أيمن الخادم أخي برجوان وقلد غزة وعسقلان في سادس جمادى الأولى. وورد الخبر بفتح صور. وذلك أن أهل صور ثاروا على من عندهم من المغاربة وقتلوا منهم جماعة وقتلوا من بقى وغلب على البلد رجل من البجوية يقال له العلاقة وأرسل إلى الروم فسيروا إليه بمراكب فيها رجال فخرج إليهم عسكره وسارت إليها المراكب من مصر فقاتلوا من بها من الروم فانهزموا عنها في مراكبهم وبدت أهل البلد فألح القتال عليهم حتى ملكت منهم. وامتنع العلاقة ومعه طائفة في بعض الأبرجة ثم طلبوا الأمان. فانتهبت المدينة وأخذ منها ما لا يعرف قدره كثرة في الرابع عشر من جمادى الآخرة. وحمل العلاقة مقيدا وسيق في جماعة معهم إلى القاهرة فشهروا وقد ألبس العلاقة طرطورا من رصاص له عظم وثقل على رأسه وكاد أن يغوص على رقبته ثم قتل وصلب وقتلت أصحابه. وفي شعبان ورد الخبر من جيش بمواقعة الروم على فامية وأنطاكية. وذلك أن جيشا نزل على دمشق ونزل بشارة إلى طبرية أيضاً لأربع خلون من رجب وكتب إلى بشارة بولاية دمشق فأقر عليا والياً من قبله وسار بعساكره هو جيش في رابع عشره إلى فامية وبها الروم. فاشتد القتال بينهم وبين الروم فانهزم المسلمون وملك الروم سوادهم. ثم غلبوا وعادوا إلى محاربة الروم فواقعوهم فانهزم الروم وقتل منهم نحو خمسة آلاف وقتل مقدمهم وذلك لتسع بقين من رجب. ورجع المنهزمون إلى جيش ابن الصمصامة وقد خافوه فسار بهم إلى نحو مرعش فأحرقوا وهدموا ولم يلقهم أحد ونزل على أنطاكية فقاتل أهلها أياماً ثم رحل عنها إلى شيزر. وسار بشارة إلى دمشق فنزلها للنصف من شوال على أنه قد ولى البلد فأقبل إليه جيش فنزل ظاهر المزة لسبع بقين من ذي القعدة وقد هجم الشتاء فوافى الكتاب من مصر بعزل بشارة عن دمشق وولايته طبرية واستقرار جيش على ولاية دمشق فدخلها واستقر بها. وفي شهر رمضان صلى الحاكم بجامع القاهرة بالناس بعد ما خطب وعليه رداء وهو متقلد سيفا وبيده قضيب وزرر عليه جلال القبة لما خطب وقال خطبة مختصرة سمعها من قرب منه. وهي أول جمعة صلاها ثم صلى جمعة أخرى وصلى صلاة عيد الفطر في المصلى وخطب على الرسم المعتاد وحضر السماط. وأحضرت امرأة من الشام في علبة طولها ذراع واحد من غير زيادة وافت من خراسان ومعها أخ لها في قد الرجال فأنزلت بالقصر وأقيم لها ولمن معها الأنزال وكانوا عدة وقطع لها في وقت واحد مائة ثوب مثقل وحرير. وكانت مليحة الكلام نظيفة ولبثت بضعة وثلاثين يوماً وماتت فكانت لها جنازة عظيمة. وسارت قافلة الحاج في ثالث عشر ذي القعدة بالكسوة والصلات على العادة. وصلى الحاكم يوم عيد النحر بالمصلى وخطب. ووصل خود من قبل جيش بن الصمصامة في عشري ذي القعدة ومعه عدة أسارى ورءوس كثيرة فطيف بهم في البلد ثم عفى عن الأسرى وأطلقوا سنة ثمان وثمانين وثلثمائة في حادي عشر المحرم ورد سابق الحاج فأخبر أن عدن احترقت كلها وتلف فيها من المال ما لا يعرف له قيمة لكثرته. وفي ليلة الرابع من صفر مات قاضي القضاة محمد بن النعمان فركب الحاكم وصلى عليه. وله من العمر تسع وأربعون سنة إلا يوما ومولده لثلاث خلون من صفر سنة أربعين وثلثمائة وكانت مدة ولايته القضاء بمصر وأعمالها أربع عشرة سنة وستة أشهر وعشرة أيام. ودفن بداره ثم نقل إلى القرافة وقيدت دوابه إلى الاصطبل. وترك عليه دينا للأيتام وغيرهم عشرين ألف دينار وقيل ستة وثلاثين ألف دينار فبعث برجوان كاتبه أبا العلاء فهد بن ابراهيم فختم على جميع ما ترك القاضي ولم يمكن ورثته من شيء وباع ذلك كله. وطالب الأمناء والعدول بأموال اليتامى المتبقية عليهم في ديوان القضاء فزعموا أن القاضي قبضها وأقام بعضهم بينة على ذلك وعجز بعضهم فأغرم من لم يقم بينة ما ثبت عليه. فاجتمع من البيع والأمناء ثمانية عشر ألف دينار أخذها الغرماء بحق النصف مما لهم. وأمر الحاكم ألا يودع عند عدل ولا أمين شيء من أموال اليتامى وأن يكتروا مخزنا في زقاق القناديل وتودع فيه أموال اليتامى فإذا أرادوا دفع أموال اليتامى حضر أربعة من ثقات القاضي وجاء كل أمين فأطلق لمن يلي عليه رزقه بعد مشورة القاضي في ذلك فكتب على الأمين وثيقة بما بقبضه من المال لمن يلي عليه. ورجم في ولايته رجلا زنى في ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة. وكان أكثر أيامه عليلا بالنقرس والقولنج وكان برجوان على كلالته يعوده إذا مرض فمن دونه. وكان يكاتب بقاضي القضاة. وعلت منزلته حتى جاز حد القضاة وكانت النعمة تليق به وعم إحسانه سائر أصحابه وأتباعه. وكان حسن الخلق ندي الوجه فاخر الزي يلبس الدراعة والعمامة بغير ولما مرض رأى كأن الحق تعالى نزل من السماء فلما بلغ باب داره مات فقال له ابن قديد عابر الرؤيا موت الحق إبطاله والله هو الحق ولا يزال الحق حيا حتى يصير إلى بابك فيموت فمات هو بعد ذلك بقليل. ومن شعره: أيا مشبه البدر بدر السماء ** لسبعٍ وخمسٍ مضت واثنتين ويا كامل الحسن في نعته ** شغلت فؤادي وأنهرت عيني فهل لي من مطمع أرتجيه ** وإلا انصرفت بخفّى حنين ويشمت بي شامت في ** هواك صفر اليديين فإمّا مننت وإمّا قتلت ** فأنت القدير على الحالتين ومنه: تأمل لذى الدنيا تجدها مشوبة ** سرورا بحزن في تقلّب أحوال وقد قسمت أشياؤها بين أهلها ** فمالٌ بلا أمنٍ وأمنٌ بلا مال وأقامت البلد بعد موته تسع عشرة ليلة بغير قاض. وفي ثالث عشر منه استدعى برجوان أبا عبد الله الحسين بن علي ابن النعمان إلى حضرة الحاكم بأمر الله وأضعف له أرزاق عمه وصلاته وإقطاعاته وقال له: قد أرحت عليك فلا توجد لي سبيلا إليك بتعرضك لدرهم من أموال المسلمين فقد أغنيتك عنها. ثم خلع عليه ثيابا بيضا ورداءً محشّى مذهبا وعمامة مذهبة وقلده سيفا وحمله على بغلة وقاد بين يديه بغلتين بسروجهما ولجمهما وحمل معه ثيابا كثيرة صحاحا ورد إليه القضاء بمصر وأعمالها ولم يظن ذلك أحد لضعف حاله وكان الناس يتخيلون ولاية عبد العزيز بن محمد بن النعمان بعد أبيه لأنه كان يخلف أباه فنزل إلى الجامع العتيق وقرئ سجله على منبره. فنظر بين الناس وأوقف شهادة جماعة من الشهود وندب أربعة لكشف أحوال الشهود وألزم ولاة أمور الأيتام برفع حسابهم. وطالب عبد العزيز بن النعمان بما على أبيه من أموال الأيتام. وجعل موضعا بزقاق القناديل يكون مودعا لأموال الأيتام وجعل خمسة من الشهود يضبطون ما يرد إليه وما يخرج منه بحجج يكتب فيها خطوطهم فاستحسن ذلك من فعله. وهو أول من اتخذ مودعا للأيتام من القضاة. واستخلف بمصر أبا عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر وبالقاهرة أبا الحسن مالك ابن سعيد الفارقي وعلى العرض والنظر بين المتحاكمين إذا غاب الحسن بن طاهر وأبا العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن العوام. واستكتب أبا طاهر زيد بن أحمد بن السندي وأبا القاسم علي بن عبد الرزاق وجعل إلى أخيه أبي النعمان المنذر بن علي النظر في العيار ودار الضرب. واستخلف على الإسكندرية وأعمالها. وقوى أمره وتشدد في الأحكام وقبل شهادة من أوقف شهادته وعزل آخرين واتخذ حاجبا. وتولى أمر الدعوة وقراءة ما يقرأ في القصر من مجالس الدعوة وكتبها وعلت منزلته. وفي خامس عشري صفر وصل حاج البيت. وصلى الحاكم في رمضان بالناس جمعتين وخطب وصلى صلاة عيد الفطر وخطب وأصعد القاضي معه في جماعة وجلس على السماط. وسارت قافلة الحاج أول ذي القعدة بالكسوة والصلات على العادة. وصلى الحاكم صلاة عيد النحر وخطب على الرسم وأجرى الناس في أضاحيهم على عوائدهم. وعمل عيد الغدير على العادة وطاف الناس بالقصر على رسمهم. سنة تسعين وثلثمائة في أول يوم من المحرم ظهر الحاكم ودخل الناس فهنئوه بالعام. كان سعر الخبز ستة عشر رطلاً بدرهم. وسقط إصطبل فهد بن ابراهيم فمات له نحو ستين وفي حادي عشر صفر وصلت قافلة الحاج من غير أن يدخلوا إلى المدينة النبوية. وفي سادس عشر من ربيع الآخر أنهد الحاكم إلى برجوان عشية يستدعيه للركوب معه إلى المقس فجاء بعد بطء وقد ضاق الوقت إلى القصر ودخل بالموكب ورؤساء الدولة والكتاب إلى الباب الذي يخرج منه الحاكم إلى المقس فلم يكن بأسرع من خروج عقيق الخادم وهو يصيح: قتل مولاي وكان عقيق عيناً لبرجوان في القصر وقد جعله على خزاناته الخاصة. فاضطرب الناس وبادروا إلى باب القصر الكبير فوقفوا عنده وأشرف عليهم الحاكم. وقام زيدان صاحب المظلة فصاح بهم: من كان في الطاعة فلينصرف إلى منزله ويبكر إلى القصر المعمور فانصرف الجميع. وكان قتل برجوان في بستان يعرف بدويرة التين والعناب كان الحاكم فيه مع زيدان فجاء برجوان ووقف مع زيدان. فسار الحاكم حتى خرج من باب الدويرة فعاجل زيدان وضرب برجوان بسكين كانت في خفه وابتدره قوم وقد أعدوا له السكاكين والخناجر فقتل مكانه وحزت رأسه وطرح عليه حائط. وسبب ذلك أن برجوان لما بلغ النهاية قصر في الخدمة واستقل بلذاته وأقبل على سماع الغناء وكان كثير الطرب شديد الشغف به فكان يجمع المغنين من الرجال والنساء بداره فيكون معهم كأحدهم ولا يخرج من داره حتى يمضى صدر من النهار ويتكامل الناس على بابه فيركب إلى وكان برجوان من استبداده يكثر من الدالة على الحاكم فحقد عليه أموراً منها أنه قال بعد قتله إنه كان سيىء الأدب جدا والله إني لأذكر وقد استدعيته يوما ونحن ركبان فصار إلي ورجله على عنق دابته وبطن خفه قبالة وجهي فشاغلته بالحديث ولم أره فكرةً في ذلك. وغير ذلك مما يطول شرحه. وأنهد الحاكم بعد قتل برجوان فأحضر كاتبه فهد بن إبراهيم في الليل وأمنه وقال: أنت كاتبي وصاحبك عبدي وهو كان الواسطة بيني وبينك وجرت منه أشياء أنكرتها عليه فجازيته عليها بما استوجبه فكن أنت على رسمك في كتابك آمناً على نفسك ومالك. فكانت مدة نظر برجوان سنتين وثمانية أشهر غير يوم واحد. وبرجوان بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الجيم والواو وبعد الألف نون. وبكر الناس إلى القصر فوقفوا بالباب ونزل القائد أبو عبد الله الحسين بن جوهر القائد وحده إلى القصر وأذن للناس فدخلوا إلى الحضرة وخرج الحاكم على فرس أشقر فوقف في صحن القصر قائماً وزيدان عن يمينه وأبو القاسم الفارقي عن يساره والناس قيام بين يديه فقال لهم بنفسه من غير واسطة: إن برجوان عبدي استخدمته فنصح فأحسنت إليه ثم أساء في أشياء عملها فقتلته والآن فأنتم شيوخ دولتي وأشار إلى كتامة وأنتم عندي الآن أفضل مما كنتم فيه مما تقدم. والتفت إلى الأتراك وقال لهم: أنتم تربية العزيز بالله وفي مقام الأولاد وما لكل أحد عنيد إلا ما يؤثره ويحبه فكونوا على رسومكم وامضوا إلى منازلكم وخذوا على أيدي سفهائكم. فدعوا جميعا وقبلوا الأرض وانصرفوا. وأمر بكتابة سجل أنشأه أبو منصور بن سورين كاتب الإنشاء قرىء بسائر الجوامع في مصر والقاهرة والجيزة والجزيرة نصه بعد البسملة: من عبد الله ووليه المنصور أبي علي الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين إلى سائر من شهد الصلاة الجامعة في مساجد القاهرة المعزية ومصر والجزيرة: سلام عليكم معاشر المسلمين المصلين في يومنا هذا في الجوامع وسائر الناس كافة أجمعين فإن أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ويسأله أن يصلي على جده محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى أهل بيته الطاهرين. أما بعد فالحمد لله الذي قال وقوله الحق المبين: " لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلَهِةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسّدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْش عَمَّا يَصِفُونَ * لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون * " يحمده أمير المؤمنين على ما أعطاه من خلافته وجعل إليه فيها دون بريته من الضبط والقبض والإبرام والنقض. معاشر الناس إن برجوان كان فيما مضى عبداً ناصحا أرضى أمير المؤمنين حينا فاستخدمهم كما يشاء فيما يشاء وفعل به ما شاء كما سبق في العلوم وجاز عليه في المختوم. قال الله عز وجل: " وَلَوْ بَسَطَ اللّهُ الرِّزْقَ لعِبَادِهِ لَبَغَوْا في الأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدرٍ مِا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ " * ولقد كان أمير المؤمنين ملكه فلما أساء ألبسه النقم لقول الله تعالى: " فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمُ " * وقوله عز وجل: " إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى " أن رآه استغنى * فحظره أمير المؤمنين عما صبا إليه ونزعه ما كان فيه وتمت مشيئة الله عز وجل ونفذ قضاؤه وتقديره فيه. "كَانَ ذَلِكَ في الْكِتَابِ مَسْطُوراً " * فأقبلوا معاشر التجار والرعية على معايشكم واشتغلوا بأشغالكم فهو أعود لشأنكم ولا تطغوا في أمر أنفسكم فلأمير المؤمنين الرأي فيه وفيكم. فمن كانت له منكم مطالبة أو حاجة فليمض إلى أمير المؤمنين بها فإنه مباشر ذلك لكم بنفسه وبابه مفتوح بينكم وبينه. " والله يَخْتَصُّ برَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم" وأنتم رعايا أمير المؤمنين المفتحة لها أبواب عدله وإحسانه وفضله. والله يريده فيما يريده ويعتمده من الخير لمن أطاعه من الأنام والحماية لحمى الإسلام " عَلَيْهٍ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ " والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب يوم الجمعة لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسعين وثلثمائة. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الأخيار وسلم تسليما. وكتبت سجلات على نسخة واحدة وأنفذت إلى سائر النواحي والأعمال. ولثلاث خلون من جمادى الأولى خلع على القائد الحسين بن جوهر ثوب ديباج أحمر ومنديل أزرق مذهب وتقلد سيفا عليه ذهب وحمل على فرس بسرج ولجام ذهب وبين يديه ثلاثة أفراس بمراكبها وخمسون ثوبا من كل فن. ورد إليه الحاكم التوقيعات والنظر في أمور الناس وتدبير المملكة وإنصاف المظلوم. وخلع على فهد بن إبراهيم وحمل على بغلة وبين يديه بغلة أخرى وعشرون ثوبا. فانصرف القائد وخلفه فهد وسائر الناس بين يديه إلى داره. وتقدم إلى فهد بالتوقيعات في رقاع الرافعين على رسمه وأن يعاضد القائد حسينا في النظر ويعاونه ويخلفه إذا غاب. فكان القائد يبكر إلى القصر ومعه الرئيس فهد فينظران في أمور الناس وينهيان الأمور إلى الحاكم والقائد متقدم وفهد يتبعه فإذا دخلا إلى حضرة الحاكم جلس القائد وقام فهد خلفه فيعرضان الكتب والرقاع عليه. وأمر القائد ألا يلقاه أحد من الناس على طريق ولا يركب إليه إلى داره أحد لقضاء حق ولا سؤال في مصلحة ومن كان له حاجة يلقاه في القصر. ونهى الناس أن يخاطبوه في الرقاع التي تكتب إليه بسيدنا ومولانا ولا يخاطبونه ويكاتبونه إلا بالقائد فقط ولا يخاطب فهد ويكاتب إلا بالرئيس فقط. وحمل فهد إلى الحاكم هدية منها ثلاثون بغلة بألوان من الأجلة وعشرون فرسا منها عشرة مسرجة ملجمة وعشرة بجلال ملونة وعشرون ألف دينار وسفط فيه حلة دبيقية مذهبة لم ير مثلها ودرج فيه جوهر وأسفاط كثيرة فيها البز الرفيع وخزانة مدهونة. وأمر أبو جعفر محمد بن حسين بن مهذب صاحب بيت المال بإحضار تركة برجوان فوجد فيها مائة منديل شرب ملونة معممة كلها على مائة شاشية وألف سروال دبيقي بألف تكة حرير أرمني ومن الثياب المخيطة والصحاح والحلى والمصاغ والطيب والفرش ما لا يحصى كثرة ومن العين ثلاثة وثلاثون ألف دينار ومائة وخمسون فرسا لركابه وخمسون بغلة وثلثمائة رأس من بغال النقل ودواب الغلمان ومائة وخمسون سرجا منها عشرون من ذهب ومن الكتب شيء كثير. لما ركب القائد حسين رأى جماعة من قواد الأتراك قياما على الطريق ينتظرونه فوقف وقال: كلنا عبيد مولانا صلوات الله عليه ومماليكه وليس والله أبرح من موضعي أو تنصرفوا عني ولا يلقاني أحد إلا في القصر فانصرفوا. وأقام خدما من الصقالبة بنوب على الطريق يمنعون الناس من المصير إلى داره ومن لقائه إلا في القصر وجلس في موضع رسم له بالجلوس فيه. وتقدم حسين بن جوهر إلى أبي الفتوح مسعود الصقلبي صاحب الستر بأن يوصل الناس بأسرهم إلى الحاكم ولا يمنع أحدا وأن يعرف رسم كل من يحضر من يجلس للتوقيع إذا وقع له. فدخل الناس ليأخذ رقاعهم وقصصهم ووقع فيها والحاكم في مكانه جالس يدخل إليه أرباب الحوائج ويشاور في الأمور المهمة. ووصل إلى الحاكم جماعة ممن كان يدخل في الليل إلى العزيز وأمروا بملازمة القصر وقت جلوسه ودوام الجلوس بالعشايا فدخل أول ليلة وهي ليلة الأربعاء سابع جمادى الأولى القائد الحسين والقائد فضل بن صالح والحسين بن الحسن البازيار. فجلس حسين بن جوهر من اليمين وإلى جانبه فضل بن صالح ودونه ابن البازيار وبعده أبو الحسن علي بن إبراهيم المرسي ويليه القاضي عبد العزيز بن محمد بن النعمان وجلس من اليسار رجاء ومسعود ابنا أبي الحسين ودونهما أبو الفتح منصور بن معشر الطبيب وأبو الحسين بن المغربي الكاتب وأخوه. ووقف عنده عدة من الأقارب وجماعة من القواد منهم منجوتكين وغيره ثم دخل بعد ذلك جماعة منهم ابن طاهر الوزان. فجرى الرسم على ذلك إلى اثني عشر جمادى الآخرة. ثم صار السلام يخرج فينصرفون إلا ابن البازيار وابن معشر الطبيب وعبد الأعلى بن هاشم من القرابة فإنهم يجلسون فربما أطالوا الجلوس وربما خدموا. وركب الحاكم عدة مرار إلى ناحية سردوس وإلى بركة الجب وإلى عين شمس وحلوان للصيد وغيره. وفي سابع عشري جمادى الآخرة قرئ سجل على سائر منابر المساجد الجامعة بأن يلقب القائد حسين بن جوهر بقائد القواد. وخلع على جابر بن منصور الجودري جبة مثقلة ومنديل بذهب وحمل بين يديه ثياب كثيرة وقلد بسيف وندب ناظرا في السواحل والحسبة بمصر. وأما الشام فإن جيش بن الصمصامة لما استقر بدمشق وقد خرب البلد وضعف وقل ناسه وطمعت رعيته فكان فيهم جهال يأخذون الخفارة ويطمعون في أموال أهل السلامة فصارت لهم أموال وخيول ومشى بين أيديهم الرجال وقويت نفوسهم وصاروا يوالون خروجهم مع جيش في وقائع الروم فوعدهم جيش بالأرزاق فاطمأنوا إليه. ثم إنه رتب جماعة وقبض على المذكورين وقيدهم وأمر بهم فحبسوا وأفاض عليهم العذاب حتى سلبهم جميع أموالهم وتتبع من استتر منهم فضرب أعناقهم وصلبهم على أبواب البلد فلم يبق منهم أحد. فلما خلا له البلد من حمال السلاح طمع في أهل القرى فعم كثيرا من الناس البلاء منه وشمل أهل المدينة والقرى ضرره حتى غلق أكثر الأسواق وضج الناس إلى الله بالدعاء وهو يعدهم بحريق البلد وبذل السيف فيهم فهرب كثير من الناس عن البلد. ووصل الخبر بقدوم عسكر الروم فأخذ جيش في جمع العرب ونزل ملك الروم على شيزر وفيها عسكر من قبل الحاكم فقاتلهم حتى ملكهم بأمان. ونزلت العرب الذين جمعهم جيش فيما بين حرستا والقابول وانتقل الروم من شيزر إلى حمص فأخذوها وسبوا أهلها وأحرقوا وذلك في ذي الحجة سنة تسع وثمانين وهي دخلة الروم الثالثة إلى حمص فأقاموا بها وقد اشتد البرد وغلت عليهم الأسعار حتى بيعت العليقة عندهم بدينار فرحلوا وقد مات أكثر دوابهم إلى طرابلس فنزلوا عليها وهم في ضيق ثم رحلوا عنها إلى ميافارقين وآمد وهادنوهم. ثم ساروا إلى أرمينية. وزاد جور جيش وأسرف في الظلم وكان به طرف جذام فاشتد به وسقط شعر بدنه ورشح جسمه واسود حتى انمحت سحنة وجهه وزاد وأروح سائر بدنه فكان يصيح: ويحكم ! اقتلوني أريحوني!! إلى أن هلك يوم الأحد لسبع خلون من ربيع الآخر. فكان مقامه بدمشق ستة عشر شهرا وستة عشر يوما. ووصل ابنه أبو عبد الله بتركته إلى القاهرة فخلع عليه الحاكم وحمله. ورفع زيدان إلى الحاكم درجاً بخط جيش وفيه وصية وثبت بما خلف مفصلاً مشروحا وأن ذلك جميعه لأمير المؤمنين الحاكم بأمر الله لا يستحق أحد من أولاده منه درهما وكان ذلك يبلغ نحو مائتي ألف دينار ما بين عين ورحل ومتاع. وقد قال فيه جيش: لو زيدان يتسلم ذلك فإنه على بغال تحت القصر بظاهر والقاهرة. فأخذ الحاكم الدرج وأوصله لابني جيش وخلع عليهما وقال لهما بحضرة أولياء الدولة ووجوهها: قد وقفت على وصية أبيكما رحمه الله من عين ومتاع فيما وصى به فخذوه هنيئاً مباركاً لكما فيه. فانصرفا بجميع التركة. وأقطعت سيدة الملك على عبرة سنة تسع وثمانين الخراجية إقطاعا مبلغه مائة ألف دينار منها ضياع في الصعيد وأسفل الأرض ثمانية وستون ألفا وأربعمائة وخمسون دينارا منها بوتيج ستة آلاف وسبعمائة وخمسون دينارا وصهرشت سبعة عشر ألف دينار ودمنهور خمسة آلاف دينار وباقي ذلك وهو أحد وثلاثون ألف دينار وخمسمائة وخمسون ديناراً من دور وبساتين ورسوم. وأما المغرب فإن الأستاذ برجوان لما ولى تدبير الدولة ثقل عليه أبو الحسن يانس الصقلبي العزيزي فإنه كان ينافسه في الرئاسة فتحيل حتى أخرجه إلى برقة كما تقدم فتوالت كتب تموصلت بن بكار يسأله أن يأتيه أحد ليسلمه مدينة أطرابلس وتقدم إلى الحضرة. فقصد برجوان إبعاد يانس فكتب إليه حتى سار إليها وقدم إليها للنصف من جمادى الأولى سنة سبعين فسلمه تموصلت البلد ومضى إلى القاهرة وقد تأخر أكثر عسكره مع يانس فاختلفوا مع أصحابه حتى اقتتلوا وخرجوا أقبح خروج إلى إفريقية وشكوا ما نزل بهم إلى نصير الدولة أبي مناد باديس. فبعث القائد جعفر بن حبيب على عسكر فقاتل يانس فقتل في رابع ذي القعدة. وبادر فتوح بن علي بن عقيان من أصحاب يانس إلى أطرابلس فدخلها وانضم إليه بقية أصحابه وقاتل بها جعفر بن حبيب سنة إحدى وتسعين واستمد الحاكم فأمده بيحيى بن علي بن الأندلسي على عسكر فاختلف عليه أصحابه وعاد أقبح عود إلى القاهرة. فأراد الحاكم قتله فأظهر كتاب زيدان صاحب المظلة بخطه أن يدفع إليه المال من برقة وأنه قبض ذلك من مال الحضرة فلم يجد ببرقة مالاً ينفقه على العساكر فقبل هذا العذر وقتل زيدان على ما فعل. وكان مع يحيى بن علي عند خروجه من المغرب جماعة من بني قرة فكسروا عسكره ورجعوا إلى موضعهم فبعث الحاكم يستدعيهم إلى القاهرة فخافوا وامتنعوا فأعرض عنهم مدة ثم كتب إليهم أمانا فبعثوا رهائن منهم فأمرهم بالوصول إلى الإسكندرية ليقفوا على ما يأمرهم به فحذر أكثرهم وقدمت طائفة إلى الإسكندرية فقتلوا وحملت رؤوسهم إلى القاهرة وقتل من كان بها من رهائنهم فنفرت عنه بنو قرة وكان منهم ما يأتي ذكره من قيامهم مع أبي ركوة. وفي ثالث رجب خلع على أبي القاسم عبد العزيز بن محمد بن النعمان ونزل إلى الجامع العتيق وبين يديه ثياب صحاح وحمل على بغلتين مسرجتين ملجمتين وقرئ له سجل بالنظر في المظالم وسماع البينة فيها. وحمل رحل برجوان إلى القصر على ثمانين حمارا. وقرئ سجل بالقصر نصه بعد البسملة: معاشر من يسمع هذا النداء من الناس أجمعين إن الله وله الكبرياء والعظمة أوجب اختصاص الأئمة بما لا يشركها فيه أحد من الأمة. فمن أقدم بعد قراءة هذا المنشور على فليبلغ الشاهد الغائب إن شاء الله. وأفطر في رمضان مع الحاكم جماعة رتبوا عن يمينه ويساره وصلى فيه جمعتين بالناس وركب لفتح الخليج. ووصل تموصلت بن بكار الأسود عبد ابن زيرى وكان قد ولاه طرابلس المغرب فجار على أهلها وأخذ منها مالا كثيرا وفر خوفا من مولاه فسار من طرابلس المغرب ومعه نيف وستون ولداً ما بين ذكر وأنثى في عسكر كبير بعد أن مر ببرقة ودفع ليانس العزيزي متوليها ثلاثين ألف دينار لخاصة نفقته وأنفق في عسكره ورجاله مالا كثيرا وسلم إليه مخازن فيها العسل والسمن والقمح والشعير والزيت وغيره. فجلس له الحاكم وأجلسه فكان من كلامه للحاكم: قد وصلت إلى حضرة مولانا بالأهل والمال والولد ومعي ما يكفيني ويكفي عقب عقبي ولكن الرجال الذين معي رجال مولانا وهو يحسن إليهم على ما يراه. وأهدى إلى الحاكم مائة ألف دينار ومائة ألف درهم ونيفا وخمسين حملا من البز والطرف وثمانين فرسا منها أربعون بسرجها ولجمها وأربعين بغلا وخمسين بختيا بأكوارها ومائتي جمل. فخلع عليه وعلى من حضر من أولاده وسار إلى دار قد أعدت له فيها خمس وثلاثون حجرة في كل حجرة آلاتها وفرشها فبلغت النفقة على هذه الدار خمسة آلاف دينار. وفي يوم عيد الفطر صلى الحاكم بالناس بالمصلى وخطب على رسمه وأصعد ابن النعمان وعدة من القواد معه المنبر فجلس على الدرج. ولخمس خلون من شوال أذن لابن عمار في الركوب إلى القصر فركب ونزل حيث ينزل سائر الناس وواصل الركوب إلى الرابع عشر منه فأحضر عشية إلى القصر فجلس إلى بعد العشاء الآخرة ثم أذن له في الانصراف فلما انصرف ابتدره جماعة من الأتراك قد أوقفوا لقتله فقتلوه واحتزوا رأسه ودفنوه هنالك ثم نقل إلى تربته بالقرافة فكانت مدة حياته بعد عزله ثلاث سنين وشهراً واحداً وثمانية عشر يوما. وسارت قافلة الحاج لاثنتي عشرة خلت من ذي القعدة. وعزل خود عن الشرطة السفلى وجمعت الشرطتان لمسعود الصقلبي فنزل بالخلع والطبول والبنود إلى الجامع العتيق حتى قرئ سجله على المنبر. وفي ثالث ذي الحجة أمر الناس بتعليق القنادل على سائر الحوانيت وأبواب الدور كلها وفي جميع المحال والسكك الشارعة وغير الشارعة ففعلوا. وصلى الحاكم صلاة عيد النحر بالمصلى وخطب ونحر في القصر على رسمه وجلس على السماط. وكان الناس بين عبد العزيز بن النعمان وبين قاضي القضاة الحسين بن النعمان في شرور وبلاء وذلك أن عبد العزيز قبل شهادة جماعة اختارهم فكان من حاكم خصمه إلى الحسين اختار خصمه بالمرافعة إلى عبد العزيز وبالعكس. وكان عبد العزيز إذا جلس للنظر في المظالم حضر شهوده عنده وسمع شهادتهم وأشهدهم فيما يقول ويمضى ولا يحضر أحد منهم عند الحسين ولا يقرب داره ويقيد الشهود القدماء يشهدون عنده غير أنهم لا يحضرون مجلس عبد العزيز مواصلين لذلك ولا يركبون معه. وفيها عقد ليانس الصقلبي على ولاية أطرابلس الغرب بعد موت المنصور من بلكين فوصل إليها في ألف وخمسمائة فارس وملكها. فبعث باديس بن جعفر بن حبيب على عسكر فلقيه على زنزوير واقتتلا يومين فانهزم عسكر يانس وقتل. |
12-21-2012, 08:46 PM | #16 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة إحدى وتسعين وثلثمائة
في المحرم واصل الحاكم الركوب في الليل في كل ليلة وكان يركب إلى موضع موضع وإلى شارع شارع وإلى زقاق زقاق. وأمر الناس بالوقيد فتزايدوا فيه بالشوارع والأزقة وزينت الأسواق والقياسر بأنواع الزينة وباعوا واشتروا وأوقدوا الشموع الكبيرة طول الليل وأنفقوا الأموال الكثيرة في المآكل والمشارب والغناء واللهو. ومنع الرجال المشاة بين يدي الحاكم أن يقرب أحد من الناس الحاكم فزجرهم وقال لا تمنعوا أحداً فأحدق الناس به وأكثروا من الدعاء له. وزينت الصناعة وخرج سائر الناس بالليل للتفرج وغلب النساء الرجال على الخروج في الليل وتزايد الزحام في الشوارع والطرقات وتجاهروا بكثير من المسكرات وأفرط الأمر من ليلة التاسع عشر إلى ليلة الرابع والعشرين فلما خرج الناس عن الحد أمر الحاكم ألا تخرج امرأة من العشاء فإن ظهرت نكل بها. ومنع الناس من الجلوس في الحوانيت. وهبت في أول يوم من طوبة سموم لم يعهد مثله. وورد سابق الحاج ثم قدمت قافلة الحاج في سادس عشر صفر. وفي خامس ربيع الأول أعتق الحاكم زيدان صاحب المظلة وأمر أن يكتب على مكاتباته من زيدان مولى أمير المؤمنين. وخلع على القاضي حسين بن النعمان وقيد بين يديه بغلتان بسروجهما ولجمهما وحمل إليه عدة ثياب لحضوره العتاقة. وكثر وقود المصابيح في الشوارع والطرقات وأمر الناس بالاستكثار منها وبكنس الطرقات وحفر الموارد وتنظيفها. وخلع على فتح غلام ابن فلاح وندب إلى الخروج على الأسطول. وقبض على رجل شامي قال: لا أعرف علي بن أبي طالب وأقول إن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل غير أني لا أعرف علي بن أبي طالب. فحبس وروجع فأصر على أنه لا يعرف عليا فرفق به القائد حسين فلم يعترف بمعرفة علي رضي الله عنه فخرج الأمر بقتله فضرب عنقه وصلب. وفي سادس عشر جمادى الآخرة وصل رسول ملك الروم فحشدت له العساكر من سائر الأعمال ووقفوا صفين والحاكم واقف ليراهم. وسار الرسول بين العساكر إلى باب الفتوح ونزل ومشى إلى القصر يقبل الأرض في طول المسافة حتى وصل إلى حضرة الحاكم بالقصر وقد فرش إيوان القصر وعلق فيه تعاليق غريبة يقال إنه أمر بتفتيش خزائن الفرش إلى أن وجد فيها أحداً وعشرين عدلا ذكرت السيدة رشيدة بنت المعز أنها كانت في قطار الفرش المحمولة من القيروان إلى مصر مع المعز في جملة أعدال وأن كتاب خزائن الفرش وجدوا على بعضها مكتوبا الحادي والثلاثون والثلثمائة من عمل العبيد ديباج خز ومذهب ففرش منه جميع الإيوان وستر جميع حيطانه بالتعاليق فكان جميع أرضه وحيطانه رفيعاً دليلا على عظمته وسعته. وعلقت بصدر الإيوان العسجدة وهي درقة مطعمة بفاخر الجوهر النفيس من كل أصنافه فأضاء لها ما حوله ووقعت عليها الشمس فلم تطق الأبصار تأملها كلالاً. فدخل الرسول وقبل الأرض وأنفذ الحاكم لأبي الحسن علي بن إبراهيم النرسي ألف دينار وأربعة وعشرين قطعة ثياب مختارة وسومح بمبلغ ثلاثة آلاف دينار كانت عليه. وجرى الرسم في الفطر طول شهر رمضان على مائدة الحاكم كما تقدم. ولما كثر النزاع بين عبد العزيز بن النعمان والقاضي حسين بن النعمان كتب الحاكم بخطه ورقة إلى الحسين نصها بعد البسملة: يا حسين أحسن الله عليك. اتصل بنا ما جرى من شناعات العوام ومن لا خير فيه وإرجافهم وأنكرنا أن يجري مثله فيمن يحل محلك من خدمتنا إذ أنت قاضينا وداعينا وثقتنا. ونحن نتقدم بما يزيل ذلك ولم نجعل لأحد غيرك نظراً في شيء من القضايا والحكم ولا في شيء مما استخدمناك فيه ولا مكاتبة أحد من خلفائك بالحضرة وغيرها وسائر النواحي ولا أن نكاتب أحدا منهم غيرك ومن تسمى غيرك بالقضاء فذلك على المجاز في اللفظ لا على الحقيقة. وقد منعنا غيرك أن يسجل في شيء فيتقدم إلى جميع الشهود والعدول بألا يشهدوا في سجل لأحد سواك. وإن تشاجر خصمان فدعى أحدهما إليك ودعى الآخر إلى غيرك كان الداعي إلى غيرك عليه الرجوع إليك طائعا مكرها فاجر على ما أنت عليه من تنفيذ القضايا والأحكام مستعينا بالله عز وجل ثم بنا ولك من جميل رأينا فيك ما يسعدك في الدنيا والآخرة. وقد أذنا لك أن يكاتب جميع من يكاتب القاضي بقاضي القضاة كما جعلناك وتكاتب من تكاتبه بذلك وتكتب به في سجلاتك. فاعلم ذلك وأشهر أمرنا بجميع ما يقتضيه هذا التوقيع ليمتثل ولا يتجاوز. وفقك الله لرضاه ورضانا وأيدك على ذلك وأعانك عليه إن شاء الله تعالى. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما. فقرأه القاضي على سائر الشهود وأمر أن يكتب في سجلاته قاضي القضاة وكوتب بذلك وكتب عليه. وجرى الرسم في ركوب الحاكم لفتح الخليج وفي يوم العيد إلى المصلى على العادات. وسارت قافلة الحاج للنصف من ذي القعدة بالكسوة والشمع والصلات وزينت البلد مرة في شوال ثلاثة أيام ومرة في ذي القعدة يوما. وجرى الرسم في صلاة عيد النحر على ما تقدم ثم انصرف فنحر ودخل تربة القصر وحضر السماط. وفيها توفي أبو الفضل جعفر بن الفرات في ثالث ربيع الأول عن اثنتين وثمانين سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام فصلى عليه القاضي حسين بن النعمان ودفن في داره. وكان من الفضل والعلم والدين بمنزلة وحدث وأسمع وأملى مجالس وكتب على الصحيحين مستخرجا وكان كثير البرد والصلات والصدقة شديد الغيرة حتى إنه ليحجب أولاده الأكابر عن حرمه وأهله وعن أمهاتم. فإنه بلغه عن بعض أولاده أنه واقع أختا له وأحبلها. وكان يتنسك منذ تجاوز أربعين سنة. ثم وفيها قتل الحاكم مؤدبه أبا القاسم سعيد بن سعيد الفارقي يوم السبت لثمان بقين من جمادى الأولى وهو يسايره بأن أشار إلى الأتراك بعينيه بعد أن بيت معهم قتله فأخذته السيوف وكان قد داخل الحاكم في أمور الدولة وقرأ عليه الرقاع واستأذنه في الأمور كهيئة الوزراء. سنة إحدى وتسعين وثلثمائة في المحرم قتل الحاكم ابن أبي نجدة وكان بقالا فترقت أحواله حتى ولى الحسبة ودخل فيما لا يليق به وأساء في معاملة الناس فاعتقل ثم قطعت يده ولسانه وشهر على جمل وضربت عنقه. وفي شعبان سارت هدية إلى المغرب فيها ثلثمائة فرس بجلال وعشرة بمراكب وخمسة وأربعون بغلا تحمل السلاح والكسوة وعشرون بغلا تحمل صناديق فيها ذهب وفضة. وفي شهر رمضان خلع على تموصلت بن بكار وقلد بسيف وحمل على عشرة أفراس بمراكبها وقلد إمارة الشام. وجرى الرسم في سماط رمضان وصلاتي العيدين وخروج قافلة الحاج على ما تقدم. وفيها توفي أبو تميم سلمان بن جعفر بن فلاح في ثامن جمادى الآخرة. وقتل عدة أناس في نصف صفر قدم الحاج. وفي ربيع الأول قرئ سجل برفع المنكرات وإبطالها وبمنع ذلك فختم على عدة مواضع فيها المسكرات لتراق. وابتدئ في عمارة جامع راشدة وكان مكانه كنيسة فبنى جامعاً وأقيمت فيه الجمعة وفي ثامن جمادى الآخرة ضربت رقبة فهد بن إبراهيم وله منذ نظر في الرئاسة خمس سنين وتسعة أشهر واثنا عشر يوما. فحمل أخوه أبو غالب إلى سقيفة القصر من مال أخيه فهد جرايات فيها خمسمائة ألف دينار. فلما خرج الحاكم سأل عنها فعرف خبرها فأعرض عنا وبقيت هناك مدة ثم أمر بها فردت إلى أولاد فهد وقال إنا لم نقتله على مال فحملت إليهم ثم رفع أصحاب الأخبار عن أبي غالب كلمة تكلم بها فقتل وأحرق بالنار. وخلع على أبي الحسن علي بن عمر بن العداس مكانه وخلع على ابنه محمد بن علي وعلى الحسين بن طاهر الوزان وحملوا في رابع عشره. وسار الأمير ياروخ متقلدا طبرية وأعمالها. وقبضت أموال من قبض عليه من النصارى الكتاب. وأمر بإتمام بناء الجامع الذي ابتدأ بعمارته العزيز على يد وزيره يعقوب بن كلس خارج باب وفي خامس عشر من شهر رجب ضرب عنق أبي طاهر محمود بن النحوي الناظر في أعمال الشام لكثرة تجبره وعسفه بالناس. وفي غرة شعبان جمع في الجامع الجديد بظاهر باب الفتوح. وقطع الحاكم الركوب في الليل. ورد إلى أولاد فهد بن ابراهيم سروجهم المحلاة وأمروا بالركوب بها. وأطلق من اعتقل من الكتاب النصارى. وصلى الحاكم في رمضان بالناس أجمعين بعد ما خطب وصلى صلاة عيد الفطر وخطب على الرسم. وأكثر من الحركة في شهري رمضان وشوال إلى دمنهور والأهرام وغيرهما. وسافر الحاج للنصف من ذي القعدة. وأما الشام فإنه لما مات جيش بن الصمصامة في شهر ربيع الآخر سنة تسعين ولي دمشق شيخ من المغاربة يقال له فحل بن تميم فلبث شهورا ومات فقدم عند الحاكم على ابن جعفر بن فلاح فنزل على دمشق ليومين بقيا من شوال وأقام بها غير منبسط اليد في ماله. فلما كان في شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين قدم من جهة الحاكم داع يقال له ختكين الملقب بالضيف إلى دمشق فبرز ابن فلاح وأقام بظاهر دمشق. فأراد الضيف أن ينقص الجند من أرزاقهم فشغبوا وساروا يريدون ابن عبدون النصراني وكان على تدبير المال وعطاء الأرزاق فمنعهم الضيف وأغلظ في القول لهم وكان قليل المداراة فرجعوا إليه وقتلوه وانتهبوا دور الكتاب والكنائس. وتحالف المغاربة والمشارقة من العسكر على أن يكونوا يداً واحدة في طلب الأرزاق وأنهم يمتنعون ممن يطالبهم بما فعلوه وحلف لهم علي بن جعفر بن فلاح أنه معهم على ما اجتمعوا عليه. فبلغ ذلك الحاكم فقال: هذا قد عمى. فبعث يعزله عن دمشق فسار عنها في يسير من أصحابه وذلك في شوال منها. وتأخر العسكر بدمشق فقدم إليها تموصلت بن بكار من قبل الحاكم فلم يزل عليها إلى أن ولي مفلح اللحياني دمشق في ذي الحجة سنة ثلاث وتسعين. وكان خادما وفي وجهه شعر فسار إليها. سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائه وفيها قتل أبو علي الحسن بن عسلوج في المحرم وأحرق. وقتل علي بن عمر بن العداس في شعبان وأحرق. وقتل الأستاذ أبو الفضل زيدان صاحب المظلة لعشر بقين من ذي الحجة ضرب عنقه. وفيها استأذن عبد الأعلى بن الأمير هاشم بن المنصور أن يخرج إلى بعض ضياعه فأذن له الحاكم فخرج بجماعة من ندمائه فبعث الحاكم عينا يأتيه بخبرهم فصاروا إلى متنزههم فأكلوا وشربوا وجرى من حديثهم أن قال أحد أولاد المغازلي المنجم لابن هاشم: لا بد لك من الخلافة فأنت إمام العصر. فلما عادوا ودخل ابن هاشم على الحاكم وجلس أخرج الحاكم من تحت فراشه سيفا مجردا وضربه به فحمل من داره وكتب يعتذر عن ذنبه إن كان قيل عنه ويحلف ويذكر أن ضربته سالمة ويسأل الإذن في طبيب يعالجه فأجيب إلى ذلك. فلما أفاق استأذن في الدخول إلى الحمام فأذن له فبعث الحاكم إلى الحمام من ذبحه فيه وأتاه برأسه. وبعث إلى من حضر المجلس فقتلوا وأحرقوا بالنار وفيهم أولاد المغازلي وابن خريطة وأولاد أبي الفضل بن الفرات وفتيان من كتامة. وتتابع القتل في الناس من الجند والرعية بضروب مختلفة. سنة أربع وتسعين وثلثمائة في محرم خلع على مظفر الخادم الصقلبي وحمل على ثلاث بغلات بمراكبها ومعه ثياب كثيرة وندب لحمل المظلة. وخلع على متولي الأسود وحمل لواؤه ببرقة. وقبض على أبي داود بن المطيع. وخلع على صاحب ديوان النفقات وضرب عنقه بسبب أنه سرق مائتي ألف دينار وقدم مفلح اللحياني إلى دمشق في المحرم فسار عنها تموصلت يريد مصر ونزل بداريا فمات بها في ثاني صفر. فلما ورد خبر موته إلى الحاكم خلع على ولديه وحملهما. وقدم الحاج في رابع عشريه. وفي ربيع الأول ألزم الناس بوقود القناديل بالليل في سائر الشوارع والأزقة بمصر. وخلع على أبي يعقوب بن نسطاس المتطبب وحمله على بغلتين ومعه ثياب كثيرة ومنحت لها دار بالقاهرة وفرشت وألزم بالخدمة وكان قد هلك منصور بن معشر الطبيب. وهدمت كنيستان بجانب جامع راشدة. وفي جمادى الآخرة حمل إلى الشريف أبي الحسن علي النرسي رسمه يجاري به العادة في كل سنة وهو من الثياب عشرون قطعة بنحو خمسمائة دينار. وفي رجب قرئ سجلان أحدهما فيه إنكار الحاكم على من يخاطبه في المكاتبة بمولى الخلق أجمعين والآخر بمسير الحاج أول ذي القعدة. وقبض على ثلاثة عشر رجلا ضربوا وشهروا على الجمال وحبسوا ثلاثة أيام بسبب أنهم صلوا صلاة الضحى وفي شعبان خرج الكتاميون إلى باب الفتوح فترجلوا وكشفوا رؤوسهم واستغاثوا بعفو أمير المؤمنين فأوصل إلى الحاكم جماعة منهم فوعدهم وكتب لهم سجل قرئ بالقصر والجوامع بالرضا عنهم وإعادتهم إلى رسومهم في التكرمة. وأمر بهدم جامع عمرو بن العاص بالإسكندرية. وصلى الحاكم بالناس في رمضان صلاة الجمعة مرتين وخطب. وفي سادس عشره صرف الحسين بن النعمان عن القضاء. وكان قد ضرب في الجامع فندب الحاكم جماعة من شيوخ الأضياف يركبون معه إلى كل مجلس فيه جماعة من الخاصة وأمر أصحاب سيوف الحلي بالمشي بين يديه في كل يوم. فكان إذا حضر إلى الجامع العتيق وقام يصلي وقف جماعة الأضياف صفا خلفه يسترونه ولا يصلي أحد منهم حتى يفرغ من صلاته ويعود إلى مجلسه فإذا جلس في مجلسه كانوا قياما عن يمينه وشماله. وهو أول قاض فعل ذلك معه وأول قاض كتب في سجلاته قاضي القضاة وعلت منزلته عند الحاكم وتخصص به. وكان له عند الحاكم جماعة يمدحونه ويبالغون في الثناء عليه منهم ريحان اللحياني وزيدان ومصلح اللحياني فانبسطت يده وعظم شأنه ولا عن بين رجل وامرأته وتشدد على الناس فكان إذا أبطأ شاهد يوم جلوسه في الجامع عن الحضور إلى داره والركوب معه رسم عليه وأغرمه مالاً ليأخذه. وألزم كتابه بملازمة داره دائما. وكانت إليه الدعوة أيضا. وكان قاضي القضاة وداعي فكانت مدة نظره في القضاء خمس سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما. ومولده لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين. وهو أول قاض أحرق بعد قتله فإن الحاكم أحرقه بعد ما قتله في سادس محرم الآتي ذكره. وفي سادس عشر رمضان قلد أبو القاسم عبد العزيز بن محمد بن النعمان القضاء إلى ما بيده من النظر في المظالم وخلع عليه وقلد سيفا محلى بذهب وحمل على بغلة وبين يديه سفط ثياب. فنزل في موكب عظيم إلى الجامع العتيق فجلس تحت المنبر ورقى أبو علي أحمد بن عبد السميع وقرأ سجله. وانصرف إلى داره فنزلها وحكم واستخلف على الحكم أبا الحسن مالك بن سعيد الفارقي مضافا إلى ما كان مستخلفاً عليه من الحكم في القاهرة. واستكتب أبا يوسف منال لحضرته والتوقيعات عنه ثم كتب له سجل بأخذ الفطرة والنجوى وحضور المجلس بالقصر وأخذ الدعوة على الناس وقراءة ما يقرأ على من دخل الدعوة. فحضر يوم الخميس الثاني عشر منه وقرأ ما جرى الرسم بقراءته في القصر وأخذ النجوى والفطرة وأوقف سائر الشهود الذين قبلهم حسين في أيامه وصرف عدة من المستخلفين بالأعمال واستكتب أبا طالب ابن السندي فوقع بين يديه واستكتب أبا القاسم علي ابن عمر الوراق وكتب السجلات وكتب القضايا والأحكام. ولزم حسين داره وقد استبد خوفه وفيه قرئ سجل بالإنكار على الكتاب ومن يجري مجراهم في أخذ شيء من البراطيل ونحوها. وركب الحاكم لصلاة العيد بالمصلى فصلى وخطب وحضر السماط بالقصر على رسمه في ذلك. وبرزت قافلة الحاج في ثامن ذي القعدة بالكسوة والصلات على العادة. وصلى الحاكم بالناس صلاة عيد النحر ونحر في الملعب. وفيها قتل سهل بن يوسف أخو يعقوب بن يوسف بن كلس الوزير بسبب قوة طمعه وكثرة شرهه وعندما قدم للقتل سأل أن يدفع الساعة ثلثمائة ألف دينار عيناً يفدى بها نفسه فلم يجب. وقتل أيضا القائد أبو عبد الله الحسين بن الحسن البازيار من أجل أنه كان إذا دخل من باب البحر تكون رجله على عنق دابته ويكون الحاكم في المنظرة التي على بابه فتصير رجله إلى وجه الحاكم وكان ابن البازيار قد اعتراه وجع النقرس فعد ذلك الحاكم عليه دينا قتله به في شوال لسوء التوفيق. وفيها قدم من برقة عدة من بني قرة إلى الإسكندرية فقتلوا عن آخرهم. وذلك أن يانس لما قتل وصل عسكره إلى طرابلس فنازلهم القائد جعفر بن حبيب فزحف إليه فلفول ابن خزرون ففر منه وخرج فتوح بن علي ومن معه من أصحاب يانس إلى فلفول وملكوه عليهم فقام بدعوة الحاكم وعقد الحاكم ليحيى بن علي بن حمدون الأندلسي على أطرابلس وكتب لبني قرة أن يسيروا معه فمضوا من برقة معه وخذلوه فعاد إلى القاهرة ورجع بنو قرة إلى برقة وأظهروا الخلاف فأمنهم الحاكم حتى قدموا وحدهم إلى إسكندرية فقتلوا. واستقرت أطرابلس بيد فلفول وتداولها بنوه. سنة خمس وتسعين وثلثمائة في سابع محرم قرئ سجل في الجوامع يأمر اليهود والنصارى بشد الزنار ولبس الغيار وشعارهم بالسواد شعار الغاصبين العباسيين. وفيه فحش كثير وقدح في حق الشيخين رضي الله عنهما. وقرئ سجل في الأطعمة بالمنع من أكل الملوخية المحببة كانت لمعاوية بن أبي سفيان والبقلة المسماة بالجرجير المنسوبة إلى عائشة رضي الله عنها والمتوكلية المنسوبة إلى المتوكل. وفيه المنع من عجن الخبز بالرجل والمنع من أكل الدلنيس والمنع من ذبح البقر التي لا عاقبة لها إلا في أيام الأضاحي وما سواها من الأيام لا يذبح منها إلا ما لا يصلح للحرث. وقرئ سجل آخر بأن يؤذن لصلاة الظهر في أول الساعة السابعة ويؤذن لصلاة العصر في أول الساعة التاسعة. وإصلاح المكاييل والموازين والنهي عن البخس فيهما والمنع من بيع الفقاع وعمله ألبتة لما يؤثر عن علي رضي الله عنه من كراهة شرب الفقاع. وضرب في الطرقات بالأجراس ونودي ألا يدخل الحمام أحد إلا بمئزر وألا تكشف امرأة وجهها في طريق ولا خلف جنازة ولا تتبرج. ولا يباع شيء من السمك بغير قشر ولا يصطاده أحد من الصيادين. وتتبعت الحمامات وقبض على جماعة وجدوا بغير مئزر فضربوا وشهروا. وفيه برزت العساكر لقتال بني قرة وسارت. وكتب في صفر على سائر المساجد وعلى الجامع العتيق من ظاهره وباطنه في جميع جوانبه وعلى أبواب الحوانيت والحجر والمقابر والصحراء بسب السلف ولعنهم ونقش ذلك ولون بالأصباغ والذهب وعمل كذلك على أبواب القياسر وأبواب الدور وأكره على عمل ذلك. وأقبل الناس من النواحي والضياع فدخلوا في الدعوة وجعل لهم يوم وللنساء يوم فكثر الازدحام ومات في الزحمة عدة. ولما دخل الحاج نالهم من العامة سب وبطش فإنهم طلبوا منهم سب السلف ولعنهم فامتنعوا. ونودي في القاهرة: لا يخرج أحد بعد المغرب إلى الطريق ولا يظهر بها لبيع ولا شراء فامتثل الناس لذلك. وفي ربيع الأول تتبعت الدور ومن يعرف بعمل المسكرات وكسر من أوعيتها شيء كثير. وفيه أمر الحاكم بشونة تحت الجبل ملئت بالسنط والبوص والحلفاء فتخوف الناس كافة من يتعلق بخدمة الدولة من الأولياء والقواد والكتاب وسائر الرعية من العوام. وقويت الشفاعات وكثر الاضطراب فاجتمع سائر الكتاب والمتصرفين من المسلمين والنصارى وخرجوا بأجمعهم في خامسة إلى الرياحين بالقاهرة وما زالوا يقبلون الأرض حتى وصلوا إلى القصر فوقفوا على بابه يدعون ويتضرعون ويضجون ويسألون العفو عنهم ومعهم رقعة قد كتبت عن الجميع. ثم دخلوا باب القصر وهم يسألون أن يعفى عنهم ولا يسأل فيهم قول ساع يسعى فيهم. وسلموا رقعتهم لقائد القواد فأوصلها إلى الحاكم فعفا عنهم وأمرهم على لسان قائد القواد بالانصراف والبكور لقراءة سجل بالعفو عنهم فانصرفوا بعد العصر. وقرئ من الغد سجل كتب نسخة للمسلمين ونسخة للنصارى ونسخة لليهود بالأمان والعفو عنهم. وفي ليلة التاسع منه ولد للحاكم ولد فجلس في صبيحتها للهناء وأمر بإحراق الشونة فأحرقت. وكان سابع المولود فأخرج على يد خادم إلى قائد القواد فتسلمه حتى أعد المزين شعره وذبح عنه الشريف أبو الحسن النرسي العقيقة بيده وحمل عثمان الحاجب الدم والعقيقة فأمر له بألف دينار وفرس ملجم وعدة ثياب من أجل حمل الدم والعقيقة ودفع إلى المزين مائتا دينار وفرس. وسمى المولود بالحارث وكنى بأبي الأشبال. وخرج قائد القواد إلى سائر الأتراك والديلم والعرفاء وقال: مولانا يقرأ عليكم السلام ويقول قد سميت مولاكم الأمير الحارث وكنيته أبا الأشبال. فقبل الجميع الأرض وأكثروا الدعاء وانصرفوا. وزينت البلد أربعة أيام. وفيه رسم الحاكم لجماعة من الأحداث أن يتقافزوا من موضع عال في القصر ورسم لكل منهم بصلة فحضر جماعة وتقافزوا فمات منهم نحو ثلاثين إنسانا من أجل سقوطهم خارجاً عن الماء على صخر هناك ووضع لمن قفز ماله. وفي ربيع الآخر اشتد خوف كافة الناس من الحاكم فكتب ما شاء الله من الأمانات للغلمان الأتراك الخاصة وزمامهم ومن معهم من الحمدانية والبكجورية والغلمان العرفاء والمماليك وصبيان الدار وأصحاب الإقطاعات والمرتزقة والغلمان الحاكمية القدم. وكتب أمان لجماعة من خدم القصر الموسومين بخدمة الحضرة بعد ما تجمعوا وساروا إلى تربة العزيز وضجوا بالبكاء وكشفوا رؤوسهم. وكتبت عدة سجلات بأمانات للديلم والخيل والغلمان الشرابية والغلمان المرتاحية والغلمان البشارية والغلمان المفرقة العجم وغيرهم والنقباء والروم المرتزقة. وكتبت عدة أخرى بأمان الزويلين والمنادين والبطالين والبرقيين والعطوفية والجوانية والجودرية والمظفرية والصنهاجيين وعبيد الشراء بالحسينية والميمونية والفرجية. وكتب أمان لمؤذني أبواب القصر وأمانات لسائر البيازرة والفهادين والحجالين وأمانات أخر لعدة أقوام كل ذلك بعد سؤالهم وتقربهم. وفيه أمر بقتل الكلاب فقتل منها ما لا يحصى حتى لم يبق منها بالأزقة والشوارع شيء وطرحت بالصحراء وبشاطىء النيل وأمر بكنس الأزقة والشوارع وأبواب الدور في كل مكان ففعل ذلك. وفي جمادى الآخرة فتحت دار الحكمة بالقاهرة وجلس الفقهاء فيها وحملت الكتب إليها ودخلها الناس للنسخ من كتبها وللقراءة. وانتصب فيها الفقراء والقراء والنحاة وغيرهم من أرباب العلوم وفرشت وأقيم فيها خدام لخدمتها وأجريت الأرزاق على من بها من فقيه وغيره وجعل فيها ما يحتاج إليه من الحبر والأوراق والأقلام. وفيه اشتد الطلب على الركابية المستخدمين في الركاب بعد أن قتل منهم في يومين أكثر من خمسين نفسا فتغيبوا وامتنع أحد من الناس أن يمشي بين يديه غلام أو شاكري فكانت القواد ومن جرى رسمه أن يكونوا بين يديه يسيرون وحدهم وإذا نزل أحدهم للسلام أمسك خادمه الدابة ثم عفى عنهم وكتب لهم أمان. وكتب لعدة من الناس عدة أمانات. وفيه منع كل أحد ممن يركب أن يدخل من باب القاهرة راكبا ومنع المكاريون أن يدخلوا بحميرهم ومنع الناس من الجلوس على باب الزهومة من التجار وغيرهم ومنع كل أحد أن يمشي ملاصق القصر من باب الزهومة إلى باب الزمرد. ثم أذن للمكاريين في الدخول وكتب لهم أمان. وتخوف الناس فخرج أهل الأسواق على طبقاتهم كل طائفة تسأل كتابة أمان فكتب ما ينيف عن المائة أمان لأهل الأسواق خاصة قرئت كلها في القصر ودفعت لأربابها وكلها على نسخة واحدة. وهي بعد البسملة: هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي علي الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين لأهل مشهد عبد الله إنكم من الآمنين بأمان الله الملك الحق المبين وأمان سيدنا محمد خاتم النبيين وأبينا علي خير الوصيين وذرية النبوة المهديين آبائنا صلى الله على الرسول ووصيه وعليهم أجمعين. وأمان أمير المؤمنين على النفس والأهل والدم والمال. لا خوف عليكم ولا تهديد بسوء إليكم إلا في حد يقام بواجبه وحق يوجد لمستوجبه. فليوثق بذلك وليعول بأمان الله. وكتب في جمادى الآخرة سنة خمسين وتسعين وثلثمائة. والحمد لله وصلى الله على محمد سيد وفي يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان ولد للحاكم ولد ذكر فجلس الحاكم يوم الخميس للهناء. وكان السابع يوم الثلاثاء فحمله شكر الخادم وحضر أبو الحسن علي ابن إبراهيم النرسي وعق عنه وحضر المزين فحلق شعره وتناول ماله من الرسم. وسماه الحاكم عليا وكناه أبا الحسن وهو الذي ولي الخلافة وتلقب بالظاهر. وفيه فرش جامع راشدة. وركب الحاكم يوم عيد الفطر وعليه ثوب مصمت أصفر وعلى رأسه منديل منكر وهو محنك بذؤابة والجوهر بين عينيه. وقيد بين يديه ستة أفراس بسروج مرصعة بالجوهر وست فيلة وخمس زرافات فصلى بالناس صلاة العيد وخطبهم فلعن في خطبته ظالمه حقه والمرجفين به وأصعد معه قائد القواد وقاضي القضاة عز الدين. وفيه اضطرب السعر واختلف الناس في الدراهم والصرف فكانت المعاملة بالدراهم الزائدة والقطع واستقر سعرها على ستة وعشرين درهما بدينار. وفي أول ذي القعدة برزت قافلة الحاج إلى مصلى القاهرة ثم رفعت إلى جب عميرة في سابعه وسارت ليلة العاشر منه بالكسوة للكعبة والرسوم على العادة. وفيه كسر الخليج والماء على خمسة عشر ذراعا وسبعة أصابع وهو آخر يوم من مسرى. وحضر الحاكم وعلى رأسه تاج مكلل بالجواهر. ونودي في الناس بأن يلعبوا بالماء في النوروز ونزل الحاكم يوم النحر إلى المصلى فصلى بالناس وخطب ونحر بها ثلاث بدن وعاد إلى القصر فحضر السماط ثم نحر في الملعب إحدى وعشرين بدنة وواصل النحر أياماً. وفيها قتل القاضي حسين بن النعمان ضربت رقبته ثم أحرق بالنار. وذلك أن متظلما رفع رقعةً إلى الحاكم يذكر فيها أن أباه توفي وترك له عشرين ألف دينار. وأنها في ديوان القاضي وقد أخذ منها رزق أوقاف معلومة وأن القاضي حسين بن النعمان عرفه أن ماله قد نجز. فدعا به وأوقفه على الرقعة فقال كقوله للرجل من أنه قد استوفى ماله من أجرة. وأمر بإحضار ديوان القاضي فأحضر من ساعته فوجد أن الذي وصل إلى الرجل أيسر ماله. فعدد على القاضي حسين ما أقطعه وأجرى له وما أزاح من علله لئلا يتعرض إلى ما نهاه عنه من هذا وأمثاله. فقال: العفو والتوبة فأمر به فضربت عنقه وأحرق. وقتل عدة أناس يزيد عددهم على مائة نفس ضربت أعناقهم وصلبوا وقتل عبد الأعلى بن هاشم من القرابة لأنه كان يتحدث بأنه يلي الخلافة وأنه كان يجمع قوما ويعدهم بولاية الأعمال. وقد تقدم خبره. سنة ست وتسعين وثلثمائة فيها ذكر المسبحي خبر أبي ركوة الوليد بن هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الأموي ولد بالأندلس وقدم القيروان فانتصب يعلم الصبيان بها القرآن ثم دخل إلى مصر فأقام بها وبأريافها يعلم الصبيان مدة ثم خرج إلى الإسكندرية وقد أكثر الحاكم من الإيقاع ببني قرة وأكثر من قتلهم وتحريقهم بالنار فخلعوا طاعته. وسبب ذلك أن بني قرة كان شيخهم مختار بن القاسم فلما بعث الحاكم يحيى بن علي الأندلسي يخرج فلفول بن سعيد بن خزرون بطرابلس على صنهاجة ساروا معه إلى طرابلس وجرت الهزيمة عليه ورجعوا إلى برقة. فتنكر لهم الحاكم فامتنعوا عليه فبعث لهم بالأمان فقدم وفدهم إلى الإسكندرية فقتلهم عن آخرهم سنة أربع وتسعين. وكان عندهم معلم القرآن واسمه الوليد بن هشام ينسب إلى المغيرة بن عبد الرحمن من بني أمية وكان يزعم أن له أثارة من علم ويخبر بأنه سيملك ما ملكه آباؤه وكان يقال له أبو ركوة. فدعاهم إلى نفسه فبايعوه وتلقب بأمير المؤمنين الناصر لدين الله. ثم بعث إلى لواتة ومزانة وزناتة فاستجابوا له ورحل إلى برقة والناس يباركونه في كل يوم فيسلمون عليه بالخلافة ويقبلون له الأرض فيجلس في وسطهم ويقول: أنا واحد منكم وما أريد شيئا من هذه الدنيا: ولا أطلبها إلا لكم وليس معي مال أعطيكم وإنما لي عليكم طاعة وإن نصرتموني نصرتم أنفسكم وإن قاتلتم معي أخذتم حقكم بأيديكم فيقولون له: يا أمير المؤمنين نحن فلم يزل معهم يطوف قرى برقة ويأخذ البيعة إلى أن عظم أمره وهو فيما بين الإسكندرية وبرقة. فبعث إليه الحاكم جيشا عليه ينال الطويل التركي في نصف شعبان سنة خمس وتسعين فواقعه أبو ركوة وقتله ومعظم عسكره وظفر من الأموال والخيل والسلاح والنعم الجليلة بما قوى به واشتد بأسه. وكان في ظهور أبي ركوة طلع كوكب الذؤابة فكان يضئ كالقمر وله بريق ولمعان ويقوى ويكثر نوره وأمر أبي ركوة يشتد ويعظم. فأقام هذا الكوكب شهورا ثم اضمحل نوره وضعف لمعانه وأخذ أمر أبي ركوة ينقص ويضعف إلى أن أخذ أسيراً فغاب الكوكب ولم ير بعد ذلك فكان شأن هذا الكوكب في دلالته على أبي ركوة من أعجب العجب. وابتدأ الحاكم في تجريد العساكر شيئا بعد شيء ونزل أبو ركوة بعد ظفره على برقة فحاصرها وصندل الحاكم أميرها يقاتله حتى اشتد الحصار ومنع أهل برقة من الميرة ففر صندل ومعه شيوخ البلد إلى الحاكم وحثه على بعث الجيوش وأعلمه بقوة أبي ركوة واستفحال أمره. ودخل أبو ركوة إلى مدينة برقة واستخرج الأموال وأقطع بني قرة أعمال مصر مثل دمياط وتنيس والمحلة وغيرها وكتب خطه بذلك وأقطع دور القواد والأكابر التي بالقاهرة ومصر وجدد البيعة لنفسه. فندب الحاكم لقتاله القائد أبا الفتوح فضل بن صالح في ربيع الأول سنة ست وتسعين وأتبعه بالعساكر فاجتمعت بالإسكندرية وسار بها فلقيه أبو ركوة بذات الحمام. وكانت بينهما حروب آلت إلى هزيمة العسكر والاحتواء على ما فيه من مال وسلاح فعظم شأن أبي ركوة. ووردت الجند على الحاكم بذلك للنصف من رمضان فكان من تدبير الحاكم أن دعا بوجوه رجاله وقواده فأمرهم أن يكاتبوا أبا ركوة ويعرفوه أنهم على مذهبه ورأيه وانه إن توجه إليهم وقرب منهم صاروا في جملته وقاتلوا معه وذكروا ما يقاسونه من قتل وجوههم وأكابرهم وأنهم لا يأمنون في ليلهم ولا نهارهم مع ما يسمعونه من انتقاص الشرف ونحو هذا. فكتبوا بذلك وأنفذوا إليه عدة كتب من كل واحد منهم كتابا مع رسوله. فلما تواتر ذلك عليه وثق به ولم يشك فيه وحشد جموعه ووعدهم بأموال مصر ونعمها وسار. فخلع الحاكم على أبي الحسن علي بن فلاح وسيره إلى ضبط بركة الحبش في عسكر فأقام بها أياما ثم عدى إلى الجيزة وتلاحقت به العساكر براً وبحراً. واضطربت الأسعار بمصر وعدم الخبز وبيع مبلولاً ستة أرطال بدرهم وكان يباع عشرة أرطال بدرهم وأنفق في العساكر المتوجهة لكل واحد أربعةً وعشرين دينارا. وكوتب على بن صفوح بن دغفل بن الجراح الطائي فحضر في سابع عشر شوال وخلع عليه وتزايد سعر الدقيق والخبز وروايا الماء وازدحم الناس عليها. وخلع على القائد فضل بن صالح ثوب ديباج مثقل طميم أحمر ومنديل ذهب وقلد بسيف وحمل على فرس بمركب ذهب وبين يديه تسعة من الخيل وثلاثون بندا مذهبة وأربعة عشر سفطا فيها أنواع الثياب. وسار إلى الجيزة وأكمل لكل واحد من العساكر السائرة خمسون دينارا. ونزلت إليه خزانة السلاح. وورد الخبر بنهب الفيوم فجهزت إليها سرية فأوقعوا بأصحاب أبي ركوة وبعثوا إلى القاهرة بعدة رؤوس طيف بها. وسار القائد فضل من الجيزة في رابع ذي القعدة والغلاء بالعسكر فبيعت الويبة من الشعير بخمسة دراهم والخبز ثلاثة أرطال بدرهم. وأقام على بن فلاح في مضاربه بالجيزة وحمل إليه خيمة وخمسة أفراس بمراكبها وسيف وألفا دينار وثلاثون ثوبا فأنفق في أصحابه. فلما كان في ثامن عشر ذي القعدة وقع في الناس خوف في الليل وضجيج فنزلت العساكر طائفة بعد طائفة والناس جلوس في الشوارع وعلى أبواب الدور ليلهم كله يبتهلون بالدعاء بالنصر فلحقت هذه العساكر بابن فلاح وهو بالجيزة فسير عسكراً إلى الفيوم وأقام على خوف ووجل. فبلغ أبا ركوة إقامة علي بن فلاح بالجيزة فأسرع إليه وكبس عسكره ونهب سواده وأخذت خزائن السلاح ووقع القتال الشديد فقتل خلق كثير من أصحابه وجرح خلق لا يحصى. ولما نزلت خزائن السلاح من عند الحاكم مع قائد القواد وعظم البكاء والضجيج على شاطىء النيل لكثرة القتلى في العسكر منع ابن فلاح من حمل الموتى إلى مصر وأمر بدفنهم في الجيزة. وافتقد كثير من العسكر فلم يعلم لهم خبر ولم يسلم من العسكر إلا القليل فغلقت الأسواق وجلس الناس بالشوارع غما لما جرى على العسكر وتزايد البكاء من الناس على فقد آبائهم ومعارفهم. وباتوا وأصبحوا يوم السبت العشرين منه فورد الخبر بدخول أبي ركوة في جموعه إلى الفيوم وسار فضل بن صالح لقتاله فالتقى معه في ثالث ذي الحجة وحاربه فكانت وقعة عظيمة قتل فيها ما لا يحصى كثرة. وانهزم أبو ركوة واستأمن بنو كلاب وغيرهم من العرب. فسارت العساكر في طلب أبي ركوة وحضرت الرؤوس من الفيوم ومعها الأسرى وهي تجاوز ستة آلاف ومائة أسير فطيف بها بالبلد وقتل الأسرى بالسيوف بع ما لحقهم أنواع البلاء بيد العامة يصفعون أقفيتهم وينتفون لحاهم ويضربونهم حتى تفتحت أكتاف كثير منهم فكان أمراً مهولاً. وتواتر مجيء من أخذ من عسكر أبي ركوة فجيء بخلق كثير وعدة رؤوس. ودخل ابن فلاح من الجيزة فخلع عليه. واستمر القائد فضل في طلب أبي ركوة هو يبعث بمن قبض عليه من الرجال وبرؤوس من يقتلهم شيئاً بعد شيء. وعاد علي بن الجراح من عند القائد فضل فخلع عليه. وفي الثاني من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ورد الخبر من القائد الفضل بن صالح بحصول أبي ركوة ووقوعه في يده فابتهج الناس لذلك وخلع على قائد القواد وعلى أولاده وعلى البدوي الذي خرج في طلب أبي ركوة حتى أدركه ببلد النوبة وعلى أبي القاسم علي بن القائد فضل وعلى ابنه. وذلك أن أبا ركوة دخل بعد هزيمته إلى بلد النوبة فتبعه القائد فضل وبعث إلى ملك النوبة بالقبض على أبي ركوة وسير إليه عسكراً مع الكتاب. فلما بلغوا أطراف النوبة وجدوا أبا ركوة قد اختفى بدير هناك وله فيه أربعة عشر يوماً فدلهم عليه رجل من العرب فقبضوا عليه في ربيع الأول منها وأتوا به إلى القائد فضل. فسار به إلى مصر ونزل بركة الحبش يوم الجمعة للنصف من جمادى الآخرة فخرج إليه قائد القواد بسائر رجال الدولة وسلم عليه وأبو ركوة في مضرب ومعه القائد فضل فأقام هناك إلى بكرة يوم الأحد سابع عشره فصار من بركة الحبش بعساكره وأبو ركوة على حمل فوق سرير وعليه ثوب مشهر وفوق رأسه طرطور طويل ومعه رجل يمسكه. وذلك أنه لما ألبس الطرطور صاح: يا فضل يا أبا الفتوح ما كذا ضمنت لي. فصفع صفعة منكرة وأمسك يديه هذا القائد خلفه وقد اجتمع الناس من كل جهة فكان جمعا لم ير مثله كثرة وأوجرت الدور والحوانيت بحمله وبات الناس على الطرقات حتى وصل به إلى القصر فأوقف ساعة على باب القصر وهو يشير بأصبعه ويطلب العفو والصفع في قفاه ويقال له قبل الأرض فيقبل ثم سير به إلى مسجد تبر. فلما خرج من باب القاهرة أشار إلى الناس يرجمونه بالحجر والاجر ويصفعونه وينتفون لحيته حتى عاين الموت مرارا إلى أن بلغ مسجد تبر فضرب عنقه وصلب جسده وحل رأسه إلى الحاكم فخلع على القائد فضل وغيره من القواد والعرفاء الذين كانوا معه وخلع على قائد القواد. فكان يوماً عظيما مهولاً لكثرة اجتماع الناس. وأقاموا ليلتين في الحوانيت والشوارع وعلى أبواب الدور يظهرون المسرة والفرح. وأظهر أبو ركوة في مواقف الألم صبرا وتجلدا وكان لا يخاطب القائد الفضل إلا باسمه أو بكنيته. ولما أقام في بركة الحبش وخرج الناس ورأوه كان يسأل من يلقاه عن اسمه وكان يتلو القرآن ويترحم على السلف. وكان شاباً أسمر تعلوه حمرة مستن الوجه طويل الجبهة أشهل بزرقة أقنى صغير اللحية أصهب إلى الشقرة ظاهر القلوب تبين فيه الجد لا يكاد يتجاوز ثلاثين سنة يوم قتل. ويقال إنه ولد رجل من موالي بني أمية. ولما قتل أبو ركوة نفذت الكتب إلى الأعمال كلها بخبر الفتح. فلما كان في رجب ورد شيوخ كل ناحية وقضاتها وقضاة الشام وشيوخه لتهنئة الحاكم بالظفر وأخذ أبي ركوة. وقدم أبو الفتوح حسن بن جعفر الحسني أمير مكة في شعبان لتهنئته فخلع عليه وأكرمه وأنزل بدار برجوان. وفيه أرجف الناس بأن القائد فضل بن صالح ينظر في أمور الدولة وتدبيرها بدل قائد القواد حسين بن جوهر وكان بينهما في الباطن تباعد من جهة الرتبة والحسد عليها: وكان القائد فضل قد تفاقم وعظم تيهه وترفعه على قائد القواد في قوله وفعله: قال المسبحي: قال لي الحاكم بأمر الله وقد جرى حديث أبي ركوة: ما أردت قتله ولكن جرى في أمره ما لم يكن عن اختياري فقلت له: يا أمير المؤمنين ما قصر عبدك الفضل بن صالح في خدمته قال: وإيش تظن أن فضل أخذ قلت: نعم يا أمير المؤمنين هذا قول الناس. فقال: والله العظيم ما أفلح فضل في حركته تلك ولا أنجح ميزاننا. أنفقنا ألف ألف دينار ذهبا صناعا وإنما أخذه ملك النوبة وأنفذ به إلي. فقلت صدقت يا أمير المؤمنين وعلمت أن هذا مما قرر قائد القواد الحسين بن جوهر في نفسه ليبطل فعل فضل وخدمته فاستقر. وأما خبر القاهرة فإنه جرى الأمر في يوم عاشوراء على العادة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين والناحة إلى جامع القاهرة فتظاهروا فيه بسب السلف فقبض على رجل ونودي عليه: هذا جزاء من سب عائشة وزوجها وضربت عنقه. وتقدم الأمر إلى أصحاب الشرطة ألا يتعرض أحد لسب السلف ومن فعل ذلك قبض عليه فانكف الرعاع عن السب والتعرض للحاج. وللنصف من صفر وردت قافلة الحاج. وفي نصف ربيع الأول جمع الحاكم نحو ألفي باقة نرجس وأتحف بها الأولياء. واستهل رجب بيوم الأربعاء فخرج أمر الحاكم إلى أصحاب الدواوين بأن يؤرخوه بيوم الثلاثاء. وفيه هبت ريح عاصفة ثم أرعدت ونزل المطر وفيه برد كهيئة الصفائح إذا سقط إلى الأرض تكسر فكان فيه ما يبلغ وزنه زيادة على أوقيتين وفيه ما هو قدر البيضة فغطى الأرض وأقام الناس أياما يتبعونه في الأسواق. ولم يعهد مثل ذلك بمصر. وجرى الرسم في شهر رمضان كل ليلة على العادة وصلى الحاكم فيه بالناس صلاة الجمعة وخطب ثلاث مرات. وصلى يوم عيد الفطر بالناس وخطب بالمصلى على عادته. وللنصف من ذي القعدة سارت قافلة الحاج بكسوة الكعبة وصلات الأشراف وغيرها على ما جرى به الرسم. وفتح الخليج في السابع والعشرين من مسرى والماء على خمس عشرة ذراعاً وأصابع فلم يركب الحاكم لفتحه ولم يوف ست عشرة ذراعاً إلى ثامن توت فخلع على ابن أبي الرداد وحمل. واجتمع الناس الذين جرت عادتهم بحضور القصر لسماع ما يقرأ من كتب مجالس الدعوة فضربوا بأجمعهم ولم يقرأ عليهم شيء. وفيها رجل بنو قرة من البحيرة بأرض مصر إلى ناحية من عمل برقة مع كبيرهم مختار بن قاسم. |
12-21-2012, 08:49 PM | #17 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة سبع وتسعين وثلثمائة
في شهر ربيع الأول تزايد أمر الدراهم القطع المتزايدة فبلغت أربعة وثلاثين درهما بدينار ونزع السعر واضطربت أمور الناس. فرفعت هذه الدراهم وأنزل من بيت المال بعشرين صندوقا فيها الدراهم الجدد لتفرق على الصيارفة. وقرئ سجل يرفع تلك الدراهم والمنع من المعاملة بها وأنظر من في يده منها شيء ثلاثة أيام وأمر الناس بحمل ما كان مها إلى دار الضرب فقلق الناس وبلغ كل درهم من الجدد أربعة دراهم من القطع. وبيع الخبز كل ثلاثة أرطال بدرهم فنودي أن يكون الخبز كل اثني عشر رطلا بدرهم جديد واللحم رطلين بدرهم وسعر أكثر الأشياء واستقر كل دينار بثمانين درهماً من الجدد. وسكن أمر الناس بعد ما ضرب كثير من الباعة بالسياط وشهروا. وقبض على جماعة من أصحاب الفقاع والسماكين وكبست الحمامات وضرب جماعة لمخالفتهم ما نهو عنه وشهروا. وفي تاسع ربيع الآخر أمر الحاكم بمحو ما هو مكتوب على المساجد والأبواب وغيرها من سب السلف فمحي بأسره وطاف متولي الشرطة حتى أزال سائر ما كان منه. وقرئ سجل بترك الخوض فيما لا يعنى واشتغال كل أحد بمعيشته عن الخوض في أعمال أمير المؤمنين وأوامره. وجرى الأمر في الفطر على السماط ليالي رمضان وفي صلاة الحاكم بالناس يوم الجمعة على ما تقدم. وركب الحاكم لفتح الخليج في ذي القعدة والماء على أربعة عشر ذراعا وأصابع وهو تاسع توت فانتهى بعد فتح الخليج ماء النيل إلى ستة عشر أصبعا من خمسة عشر ذراعا ثم نقص فتحرك السعر وازدحم الناس على شراء الغلال وابتدأت الشدة. وفيها مات يعقوب بن نسطاس النصراني طبيب الحاكم سكران في بركة ماء فحمل إلى الكنيسة في تابوت وشق به البلد ثم أعيد إلى داره فدفن بها وسائر أهل الدولة في جنازته ومعه شموع كثيرة تتقد ومداخن عدة فيها بخور. وكان طبيب وقته عارفا بالطب آية في الحفظ ما يغنى له قط صوت إلا حفظه. ولو غناه مائة مغن في مجلس واحد لحفظ سائر ما غنوه به وتكلم على ألحانها وأشعارها. وكانت له يد في الموسيقا وانفرد بخدمة الحاكم في الطب فأثرى وترك زيادة على عشرين ألف دينار عينا سوى الثياب وغيرها. وتوفى الأمير منجوتكين لأربع خلون من ذي الحجة فصلى عليه الحاكم. سنة ثمان وتسعين وثلثمائة في المحرم ابتدأ نقص ماء النيل من ثامن عشر توت فاشتد الأمر وبيع الخبز مبلولا وضرب جماعة من الخبازين وشهروا لتعذر وجود الخبز بالعشايا. ووصل الحاج لثمان بقين من صفر. وفي ربيع الأول خلع على علي بن جعفر بن فلاح بولاية دمشق حربا وخراجا. واشتد الغلاء. فلما كان ليلة عيد الشعانين منع النصارى من تزيين كنائسهم على ما هي عادتهم وقبض على جماعة منهم في رجب وأمر باحضار ما هو معلق على الكنائس وإثباته في دواوين السلطان وكتب إلى سائر الأعمال بذلك. وأحرق صلبان كثيرة على باب الجامع وفي وفي يوم الجمعة سادس عشر رجب ولي مالك بن سعيد الفارقي القضاء وخلع عليه في بيت المال قميص مصمت وعمامة مذهبة وطيلسان محشى مذهب وقلد بسيف. وقرأ سجله أحمد بن عبد السميع وهو قائم فخرج وبين يديه سفط ثياب وحمل على بغلة وبين يديه بغلتان وكان مالك بن سعيد لما قرئ سجله قائماً على قدميه وكلما مر ذكر أمير المؤمنين قبل الأرض. ثم سار من القصر إلى الجامع العتيق وكلما مر بباب من أبواب القصر نزل عن بغلته وقبل الباب. فلما وصل إلى الجامع وقف خلف المنبر قائما حتى انتهت قراءة السجل وقبل الأرض كلما ذكر أمير المؤمنين. ثم عاد إلى داره بالقاهرة وتسلم كتب الدعوة التي تقرأ بالقصر على الأولياء. وفي يوم الجمعة سابع شعبان اجتمع أهل الدولة في القصر بعد ما طلبوا لذلك وأمروا ألا يقام لأحد فخرج خادم وأسر إلى صاحب الستر كلاما فصاح: صالح بن علي فقام صالح بن علي الروزباري فأخذ بيده ولا يعلم أحد ما يراد به. فأدخل إلى بيت المال ثم خرج وعليه دراعة مصمتة وعمامة مذهبة ومعه مسعود صاحب الستر فجلس بحضرة قائد القواد وأخرج سجلا قرأه ابن عبد السميع فإذا فيه رد سائر الأمور التي ينظر فيها قائد القواد حسين بن جوهر إليه. فعندما سمع في السجل صالح ذكر قام وقبل الأرض. ولما انتهى ابن عبد السميع من القراءة قام قائد القواد وقبل خد صالح وهنأه وانصرف. فخرج صالح وبين يديه عدة أسفاط وثلاث بغلات بسروجها ولجمها. قال المسبحي: قال لي الحاكم بأمر الله أحضرت ابن سورين وحلفته على الإنجيل أن يكتب سجل صالح بن علي ولا يطلع عليه أحدا من ابن جوهر ولا غيره وقلت له إنك تعرف ما أجازي به من يخالف أمري فكن منه على يقين. فوالله ما اطلع عليه أحد غيري وغيره حتى كان. وجلس صالح في مجلس قائد القواد من القصر ووقع عن الحاكم: ورفع إليه الأولياء وسائر المتصرفين قصصهم وأحوالهم ونفذ أوامر الحاكم وطالع بما تجب مطالعته به. وقلد ديوان الشام الذي كان يتولاه لأبي عبد الله الموصلي الكاتب. وخلع علي الشريف أبي الحسن علي بن إبراهيم النرسي لنقابة الطالبيين وحمل على فرسين وقرئ سجله في القصر والجامع. وخلع على صقر اليهودي وحمل على بغلة وقيد إليه ثلاث بغلات بسروج ولجم ثقال وحمل معه عشرون سفط ثياب وأنزل في دار فرشت وزينت وعلق على أبوابها وحجرها الستور وأعطى فيها جميع ما يحتاج إليه وقيل له هذه دارك فحصل له في ساعة واحدة ما قيمته عشرة آلاف دينار. واستقر طبيب الحاكم عوضا عن ابن نسطاس. وورد الخبر بأن ابن الجراح فر بعد قتل جماعة من أصحابه. وخلع على ياروخ وسار إلى دمشق وتبعه عسكر كثير. واستهل رمضان فحضر الأسماط مع الحاكم القائد صالح قائد القواد والقاضي مالك بن سعيد وجلس فوق القاضي عبد العزيز بن النعمان. وقد صلى الحاكم بالناس صلاة الجمعة في جامع راشدة وصلى صلاة عيد الفطر وخطب على ما جرت عادته به وأصعد معه المنبر وقت الخطبة قائد القواد صالح بن علي ومالك بن سعيد القاضي والشريف النرسي وجماعة. وفي ثالث شوال أمر الحاكم قائد القواد السابق حسين بن جوهر والقاضي عبد العزيز بن النعمان بأن يلزما داريهما ومنعا من الركوب وسائر أولادهما فلبسوا الصوف وامتنع الداخل إليهم وجلسوا على الحصر. وفي ذي القعدة ولي غالب بن مالك الشرطتين والحسبة والنظر في البلد وقرئ سجله بالجامع العتيق وجامع ابن طولون وصرف خود ومسعود. وفي ثالث عشرة سارت قافلة الحاج. وفي تاسع عشره عفا الحاكم عن قائد القواد والقاضي عبد العزيز وأذن لهما في الركوب فركبا إلى القصر بزيهما من غير حلق شعر ولا تغيير حال. وتوقفت زيادة النيل فاستسقى الناس وخرجوا معهم النساء والصبيان مرتين. وقرئ سجل بإبطال المكوس والمؤن التي تؤخذ من المسافرين عن الغلال والأرز. وبيع الخبز ثلاثة أرطال بدرهم. وتعذر وجوده. وجرى الرسم في عيد الغدير على عادته. واشتد تكالب الناس على الخبز فاجتمعوا وضجوا من قلته وسواده ورفعوا للحاكم قصة مع رغيفة وكانت الحملة الدقيق قد بلغت ستة دنانير. وفتح الخليج في رابع توت والماء على خمسة عشر ذراعا فبلغ التليس أربعة دنانير والويبة من الأرز بدينار واللحم كل رطلين بدرهم ولحم البقر رطلين ونصفا بدرهم والبصل عشرة أرطال بدرهم والخبز ثمان أواق بدرهم وزيت الوقود الرطل بدرهم. وفيها خرج النصارى من مصر إلى القدس لحضور الفصح بقمامة على عادتهم في كل سنة بتجمل عظيم كما يخرج المسلمون إلى الحج فسأل الحاكم ختكين الضيف العضدي أحد قواده عن ذلك لمعرفته بأمر قمامة فقال هذه بيعة تعظمها النصارى ويحج إليها من جميع البلاد وتأتيها الملوك وتحمل إليها الأموال العظيمة والثياب والستور والفرش والقناديل والصلبان المصوغة من الذهب والفضة والأواني من ذلك وبها من ذلك شيء عظيم. فإذا كان يوم الفصح واجتمع النصارى بقمامة ونصبت الصلبان وعلقت القناديل في المذبح تحيلوا في إيصال النار إليه بدهن البيلسان مع دهن الزئبق فيحدث له ضياء ساطع يظن من يراه أنها نار نزلت من السماء. فأنكر الحاكم ذلك وتقدم إلى بشر بن سورين كاتب الإنشاء فكتب إلى أحمد بن يعقوب الداعي أن يقصد القدس ويهدم قمامة وينهبها الناس حتى يعفى أثرها ففعل ذلك. ثم أمر بهدم ما في أعمال مملكته من البيع والكنائس فخوف أن تهدم النصارى ما في بلادها من مساجد المسلمين فأمسك عن ذلك. سنة تسع وتسعين وثلثمائة في ثالث المحرم نظر أبو نصر بن عبدون الكاتب النصراني في ديوان الخراج بانفراده من غير شريك. وفي تاسعه وهو نصف توت أشيع وفاء النيل وخلع على ابن أبي الرداد فابتدأ في النقص قبل أن يوفى ستة عشر ذراعا من تاسع عشر توت فأمر الناس كافةً بألا يتظاهر أحد منهم على شاطىء النيل بشيء من الغناء ولا يسمع في دار ولا يشرب في المراكب. وكبست عدة دور وقبض على جماعة. وقدم الحاج في حادي عشري صفر. ونودي ألا يدخل أحد الحمام إلا بمئزر ولا يمشي اليهود والنصارى إلا بالغيار وضربوا على ترك ذلك. وكسبت الحمامات وأخذ منها جماعة وشهروا من أجل أنهم وجدوا بغير مئزر. ومنع أن يدخل أحد إلى سوق الرقيق إلا أن يكون بائعا أو مشتريا وأفرد الجواري من الغلمان وجعل لكل منهم يوم. ومنع من نصب الشراعات التي كانت النساء تنصبها في المقابر أيام الزيارة. وأشيع بين الناس بأن النبيذ يمنع من بيعه فازدحموا على شرائه وبيع منه شيء كثير فعز حتى بيع كل عشر جرار بدينار ولم يوجد لكثرة طلابه. ومنع كل أحد من الناس أن يخرج من منزله قبل صلاة الصبح وبعد صلاة العشاء واشتد الأمر في هذا واعتقل جماعة خالفوا ما أمر به. وقرئ سجل بترك الخوض فيما لا عيني والاشتغال بالصلوات في أوقاتها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وألا يخوض أحد في أحوال السلطان وأوامره وأسرار الملك. وقرئ سجل في ربيع الأول بالمنع من حمل النبيذ والموز وحذر من التظاهر بشيء منه أو من الفقاع والدلينس والسمك الذي لا قشر له والترمس المعفن. وقرئ آخر في سائر الجوامع بتسكين قلوب الناس وتطمينهم لكثرة ما اشتهر عندهم وداخلهم من الخوف بما يجري من أوامر الحضرة في البلد. وفي حادي عشر جمادى الآخرة قبض على عبد العزيز بن النعمان وطلب حسين بن جوهر ففر هو وابناه وجماعة. وكثر الصياح في دار عبد العزيز وغلقت حوانيت القاهرة وأسواقها. فأفرج عن عبد العزيز ونودي في القاهرة بألا يغلق أحد. ثم رد حسين بعد ثلاثة أيام بابنيه وصاروا إلى الحاكم فأمرهم بالانصراف إلى دورهم وخلع عليه وعلى عبد العزيز وعلى أولادهما وكتب لهما أمانان. وفي رجب كثرت الأمراض في الناس وفشا الموت. وتخوف الناس من الحاكم فكتب عدة أمانات لأناس شتى. وأقطع مالك بن سعيد ناحية برنشت. وفي شعبان تراخت الأسعار. وفي رمضان قرئ سجل فيه يصوم الصائمون على حسابهم ويفطرون ولا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون ويفطرون وصلاة الخمسين للذين بما جاءهم فيها يصلون وصلاة الضحى وصلاة التراويح لا مانع لهم منها ولاهم عنها يدفعون ويخمس في التكبير على الجنائز المخمسون ولا يمنع من التربيع عليها المربعون يؤذن بحي على خير العمل المؤذنون ولا يؤذى من بها لا يؤذنون لا يسب أحد من السلف ولا يحتسب على الواصف فيهم بما يصف والحالف منهم بما حلف لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاد. وفيه ركب سائر العرائف والأولياء وأكثر أهل البلد إلى القصر وقد عظمت الزحمة واصطفت العساكر حول القصر بالسلاح ولم يعرف أحد ما هذا الاجتماع فخرج صالح ابن علي بالخلع على فرس بسرج ولجام ذهب وبين يديه فرسان وسفط ثياب وسجل يتضمن أنه لقب بثقة ثقات السيف والقلم. وأعيد عبد العزيز بن النعمان إلى النظر في المظالم. وتزايدت الأمراض وكثر موت الناس وعزت الأدوية فبلغ السكر أربعة دراهم للرطل وبذر الرمان كل أوقية بدرهم ودهن البنفسج كل أوقية بدينار والعناب والإجاص كل أوقيتين بدرهم وباقة لينوفر بدينار والبطيخة بثلاثة دنانير. ولم يركب الحاكم لصلاة عيد الفطر وصلى القاضي مالك بن سعيد بالناس في المصلى وخطب. وفي ذي القعدة أعيدت المكوس التي كانت رفعت. وسارت قافلة الحاج في النصف منه. وحمل سماط عيد النحر يوم التاسع من ذي الحجة على عادته غير أنه أبطل منه الملاهي والخيال واللعب الذي كان يعمل في كل سنة. وصلى القاضي بالناس صلاة عيد النحر وخطب. وفي يوم عيد الغدير منع الناس من عمله. ودرست كنائس كانت بطريق المكس وكنيسة بحارة الروم من القاهرة ونهب ما فيها. وقتل في هذه الليلة كثير من الخدم والصقالبة والكتاب بعد أن قطعت أيديهم بالساطور على خشبة من وسط الذراع. وفيها مات أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس المنجم لثلاث خلون من جمادى الأولى وقتل القائد فضل بن صالح ضربت رقبته لتسع بقين من ذي القعدة. وقتل أبو أسامة جنادة أسامة بن محمد اللغوي لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة ومعه الحسن بن سليمان الأنطاكي النحوي واستتر عبد الغني بن سعيد وكان ذلك بسبب اجتماعهم بدار العلم وجلوسهم فيها. وقتل رجاء بن أبي الحسين من أجل أنه صلى صلاة التراويح في شهر رمضان. وقتل أصحاب الأخبار عن آخرهم لكثرة أذيتهم الناس بالكذب عليهم وأخذهم الأموال من الناس. وفيها قتل أبو علي بن ثمال الخفاجي متولي الرحبة من قبل الحاكم وملكها بعده صالح بن مرداس الكلابي متملك حلب. في حادي عشر صفر صرف أبو الفضل صالح بن علي الروزباري ثقة ثقات السيف والقلم وقرر مكانه أبو نصر بن عبدون الكاتب النصراني فوقع من الحاكم فيما كان يوقع فيه صالح ونظر فيما كان ينظر فيه وأذن لصالح في الركوب إلى القصر. وسار ابن عبدون في الموكب مع الشيوخ في المنتهى وقال مثلي لا يساير أمير المؤمنين بأعلى من ذلك. وكتب من إنشاء ابن سورين لخدم قمامة بالقدس. وأحدث الحاكم ديوانا سماه الديوان المفرد برسم من يقبض ماله من المقتولين وغيرهم. ووصل الحاج في حادي عشر منه. وفي ربيع الأول كثرت الأمراض والموت وعزت الأدوية المطلوبة للمرضى. وشهر جماعة وجد عندهم فقاع وملوخية وترمس ودلينس بعد ضربهم. وهدم دير القصير ونهب. ولقب ابن عبدون بالقاضي وكتب له سجل بذلك وحمل على بغلتين. واشتد الأمر على اليهود والنصارى في إلزامهم لبس الغيار. ورد إقطاع حسين بن جوهر إليه وإلى أولاده وصهره عبد العزيز بن النعمان وقرئ لهم بذلك وصلى القاضي بالناس صلاة عيد الفطر على الرسم. وقرئ سجل بإبطال ما كان يؤخذ على أيدي القضاة من الخمس والفطرة والنجوى. في تاسع ذي القعدة فر حسين بن جوهر وأولاده وصهره عبد العزيز بن النعمان وأولاده بجماعة منهم في أموال وسلاح وخرجوا ليلاً فلما أصبحوا سير الحاكم خيلا في طلبهم نحو وجرة فلم يدركوهم. وأحيط بدورهم فأخذت للديون المفرد. وفر أبو القاسم الحسين بن المغربي في زي حمال إلى حسان بن علي بن مفرج بن دغفل بن الجراح. وفيه قرىء عدة أمانات بالقصر للكتاميين من جند إفريقية والأتراك والقضاة والشهود وسائر الأولياء والأمناء والرعية والكتاب والأطباء والخدام السود والخدام الصقالبة لكل طائفة أمان. وحمل سائر ما في دور حسين بن جوهر وعبد العزيز بن النعمان إلى القصر بعد أن احصاه القاضي ملك بن سعيد وضبطه. وقرئ سجل بقطع مجالس الحكمة التي كانت تقرأ على الأولياء في يومي الخميس والجمعة. وقرئ سجل في الجامع العتيق بإقبال الناس على شأنهم وتركهم الخوض فيما لا يعنيهم وسجل آخر برد التثويب في الأذان والإذن للناس في صلاة الضحى وصلاة القنوت. ثم جمع في سائر الجوامع وقرئ عليهم سجل بأن يتركوا الأذان بحي على خير العمل ويزاد في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم وأن يكون ذلك من مؤذني القصر عند قولهم: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله فامتثل الناس وعمل. وسار محمد بن نزال بعسكر إلى الشام. وقرئ سجل مندد فيه بشرب النبيذ وجميع أنواع المسكر. وصلى الحاكم بالناس في المصلى صلاة عيد النحر وخطب ونحر وحضر السماط على رسمه. وقرئت عدة أمانات بالقصر. وفيه سارت العساكر بعدة مواضع تطلب قائد القواد حسين بن جوهر وصهره عبد العزيز وشاع الخبر بأنه عند بني قرة. وقرئ سجل في الجوامع بالرخصة فيما كان يشدد فيه في الجمعة الماضية من أمر النبيذ. وقتل في هذه السنة عدة كثيرة من الخدام والفراشين والكتاب وغيرهم. ومات أبو منصور بشر بن عبيد الله بن سورين كاتب السجلات في صفر. وتوفي صقر اليهودي طبيب الحاكم في ربيع الآخر. وتوفي أبو عبد الله اليمنى المؤرخ وله تاريخ النحاة وسيرة جوهر القائد. وقتل أبو الفضل صالح بن علي الروزباري ليلة الثاني عشر من شوال. وقتل غالب بن هلال متولي الشرطتين والحسبة في شوال. سنة احدى وأربعمائة في رابع المحرم صرف ابن عبدون النصراني وخلع على أحمد بن محمد القشوري الكاتب وقرئ سجله في القصر بأنه تقلد الوساطة والسفارة بين أولياء أمير المؤمنين الحاكم وبينه وأمر الرعايا وفوضت له الأمور وعول عليه فيها. وكان سبب صرف ابن عبدون عن الوساطة والسفارة أن كتب الحاكم تكررت إلى قائد القواد حسين بن جوهر وإلى صهره عبد العزيز بن النعمان بأمانهم وعودهم فأبى ابن جوهر أن يدخل وابن عبدون واسطة وقال: أنا أحسنت إليه نظري فسعى فيّ إلى أمير المؤمنين ونال مني كل منال لا أعود أبدا وهو وزير. فصرف لذلك وحضر حسين وعبد العزيز ومن خرج معهما فنزل سائر أهل الدولة إلى لقائه وتلقته الخلع وأفيضت عليه وعلى أولاده وصهره عبد العزيز وقيد بين أيديهم الدواب. فعندما وصلوا إلى باب القاهرة ترجلوا ومشوا ومشى معهم سائر الناس إلى القصر فمثلوا بحضرة الحاكم ثم خرجوا وقد عفى عنهم. وأذن للحسين أن يكاتب بقائد القواد ويكون اسمه تالياً للقبه وأن يخاطب بذلك فانصرف إلى داره فكان يوما عظيما. وحمل إليه جميع ما قبض له من مال وغيره وأنعم عليه. وواصل هو وعبد العزيز الركوب إلى القصر. وكتب لابن عبدون أمان خطه الحاكم بيده وكان يقول عنه: ما خدمني أحد ولا بلغ في خدمته ما بلغه ابن عبدون. ولقد جمع لي من الأموال ما هو خارج في أموال الدواوين ثلثمائة ألف دينار. وأقام ابن القشوري على رسمه ينظر عشرة أيام إلى ثالث عشره فبينا هو يوقع إذ قبض عليه وضربت رقبته من أجل أنه بلغ الحاكم عنه أنه يبالغ في تعظيم حسين بن جوهر وأكثر من السؤال في حوائجه. وفي يومه أجلس أبو الخير بن زرعة بن عيسى بن نسطورس الكاتب النصراني في مكان ابن القشوري وأمر أن يوقع عن الحاكم في أوامره فجلس ونظر في الوساطة والسفارة بغير خلع. ومنع من الركوب في المراكب بالخليج وسدت أبواب القاهرة التي مما يلي الخليج وأبواب الدور والطاقات المطلة عليه والخوخ. وخلع على قاضي القضاة مالك وقلد النظر في المظالم مع القضاء وقرئ سجله بالجامع. وكتب سجل بإعادة مجالس الحكمة. وأخذ النحوي. وشدد على النصارى في لبس الغيار بالعمائم الشديدة السواد دون ما عداها من الألوان. وفيه قبض على حسين بن جوهر وعبد العزيز بن النعمان واعتقلا ثلاثة أيام ثم حلفا أنهما لا يغيبان عن الحضرة وأشهدا على أنفسهما بذلك وأفرج عنهما وحلف لهما الحاكم في أمان كتبه لهما. واعتقل ابن عبدون وأمر بعمل حسابه ثم ضربت عنقه وقبض ماله. وفي سابع عشر صفر وصل الحاج من غير زيارة المدينة النبوية فأمر أن يكون مسير الحاج للنصف من شوال وأن يبدءوا بزيارة المدينة وكتب بذلك إلى سائر الأعمال. وفي سابع ربيع الآخر خلع على زرعة بن عيسى بن نسطورس وحمل وقرئ له سجل في القصر لقب فيه بالشافي. وخلع على أبي القاسم علي بن أحمد الزيدي وقرئ له سجل بنقابة الطالبيين. وقرئ سجل في سائر الجوامع فيه النهي عن معارضة الإمام فيما يفعله وترك الخوض فيما لا يعنى وأن يؤذن بحي على خير العمل ويترك من أذان الصبح قول: الصلاة خير من النوم والمنع من صلاة الضحى وصلاة التراويح وإعادة الدعوة والمجلس على الرسم. فكان بين المنع من ذلك وضرب جماعة وشهروا لبيعهم الملوخية والسمك الذي لا قشر له. وقبض على جماعة بسبب بيع النبيذ واعتقلوا وكبست مواضع ذلك. ومنع النصارى من الغطاس فلم يتظاهروا على شاطىء البحر بما جرت عادتهم به. وفي ثاني عشر جمادى الآخرة ركب حسين بن جوهر وعبد العزيز بن النعمان على رسمهما إلى القصر فلما خرج المتسلم قيل لحسين وعبد العزيز وأبي علي أخي الفضل أطيعوا لأمر تريده الحضرة منكم. فجلس الثلاثة وانصرف الناس فقبض على ثلاثتهم وقتلوا في وقت واحد وأحيط بأموالهم وضياعهم ودورهم فوجد لحسين بن جوهر في جملة ما وجد سبعة آلاف مبطنة حريرا من سائر أنواع الديباج والعتابي وغيره وتسع متارد صيني مملؤة حب كافور قنصوري وزن الحبة الواحدة ثلاثة مثاقيل. وأخذت الأمانات والسجلات التي كتبت لهم. واستدعي أولاد حسين وأولاد عبد العزيز ووعدوا بالجميل وخلع عليهم وحملوا على دواب. وفيه ذبحت نعجة فوجد في بطنها حمل وجهه كوجه إنسان. وفي شعبان وقع قاضي القضاة مالك إلى سائر الشهود بخروج الأمر العالي المعظم أن يكون الصوم يوم الجمعة والعيد يوم الأحد. واشتد الأمر في منع المسكرات وتتبع مواضعها. وأبطلت عدة جهات من جهات المكوس والرسوم. ومنع الغناء واللهو وأمر الاتباع مغنية وألا يجتمع الناس في الصحراء ومنع النساء من الحمام. وأن يكون الخروج للحج في سابع شوال. وركب الحاكم لصلاة العيد على رسمه. وفي ثاني شوال سار على بن جعفر بن فلاح بالعساكر لقتال حسان بن علي بن مفرج بن دغفل بن الجراح عند هزيمته ياروخ وقبضه عليه وعلى أصحابه بالرملة فقاتلهم في ثالث عشره وقتل منهم وظهر عليهم وخلع طاعة الحاكم وأقام الدعوة لأبي الفتوح حسين بن جعفر بن محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الحسني أمير مكة. وقتل ياروخ. وفيه تأخر الحاج إلى نصف ذي القعدة فخرجوا في سابع عشره ورجعوا في ثالث عشريه من القلزم فلم يحج أحد من مصر في هذه السنة. وصلى مالك بن سعيد بالناس صلاة عيد النحر وخطب ونحر في المصلى والملعب مدة أيام النحر. ولم يركب الحاكم ولا نحر. وفيها مات أبو الحسن علي بن ابراهيم النرسي نقيب الطالبيين في رابع ربيع الآخر وقد أناف على السبعين. وفيها خطب قرواش بن المقلد بن المسيب أمير بني عقيل للحاكم بالموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها فكان أول الخطبة: الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب وانهدت بعظمته أركان النصب وأطلع بقدرته شمس الحق من المغرب. ثم بطلت الخطبة بعد شهر وأعيدت لبني العباس. سنة اثنتين وأربعمائة في المحرم قلدت الشرطتان لمحمد بن نزال وأمر بتتبع المنكرات والمنع منها وألا يباع زبيب أكثر من خمسة أرطال ولا تباع الجرار. ومنع النصارى من الاجتماع في عيد الصليب وأن يظهروا في المضي إلى الكنائس. وأوفى النيل ستة عشر ذراعا في رابع عشر صفر وهو سادس عشر توت. وفي تاسع ربيع الآخر خلع على غين الخادم وقلد بسيف وقرئ سجله بأنه لقب بقائد القواد فليكاتب بذلك ويكاتب به وقيد معه عشرة أفراس بسروجها ولجمها. وهدمت اللؤلؤة. وفي جمادى الآخرة منع بيع قليل الزبيب وكثيره وكوتب بالمنع من حمله وألقى في النيل منه شيء كثير. وفي رجب قطع الرسم الجاري من الخبز والحلوى الذي كان يقام في الثلاثة أشهر لمن يبيت بجامع القاهرة في ليالي الجمع والأنصاف. وحضر القاضي مالك إلى جامع القاهرة في ليلة النصف من رجب. واجتمع الناس بالقرافة على عادتهم في كثرة اللعب والمزاح. وقرئ سجل في القصر بأن أحداً لا يلتمس من أمير المؤمنين زيادة رزق ولا صلة ولا إقطاع ولا غير ذلك من المنافع. واستهل شعبان يوم الاثنين فأمر أن يجعل أوله يوم الثلاثاء وأخذ جميع ما عند التجار من السلاح بثمنه للخزانة. ومنع النساء من الخروج بعد العشاء الآخرة. وفي ليلة النصف من شعبان كثر إيقاد القناديل في المساجد وتنافس الناس في ذلك. وصلى مالك بن سعيد بالناس صلاة العيد. وتشدد الأمر في الإنكار على بيع الفقاع والملوخية والسمك الذي لا قشر له. ومنع الناس من الاجتماع في المآتم ومن اتباع الجنائز. وأحرق زبيب كثير كان في محارق التجار. وجمع الشطرنج من أماكن متعددة وأحرق. وجمع الصيادون وحلفوا أنهم لا يصطادون سمكا بغير قشر ومن فعل ذلك ضربت رقبته وتوالى إحراق الزبيب عدة أيام بحضرة الشهود وتولى مؤنة الإنفاق على حمله وإحراقه متولى ديوان النفقات فأحرق منه ألفان وثمانمائة وأربعون قطعة بلغت مؤنة الإنفاق وقرئ سجل بمنع الناس من السفر إلى مكة في البر والبحر ومن حمل الأمتعة والأقوات إليها فرد قوم خرجوا إلى الحج من الطريق. ومرض غين الخادم فركب الحاكم لعيادته وسير إليه خمسة آلاف دينار وخمسة وعشرين فرسا مسرجة ملجمة وقلد الشرطة والحسبة بمصر والقاهرة والجزيرة والنظر في جميع الأموال والأحوال. ونزل إلى الجامع العتيق ومعه سائر العسكر بخلعه وقرئ سجله وفيه تشدده في المسكرات والمنع من بيع الفقاع والملوخية والسمك الذي لا قشر له والمنع من الملاهي ومن اجتماع الناس في المآتم واتباع الجنائز والمنع من بيع العسل إلا أن يكون ثلاثة أرطال فما دونها. وفي ذي الحجة وردت هدية تنيس على العادة في كل سنة. ولم يركب الحاكم لصلاة عيد النحر فصلى بالناس مالك بن سعيد وخطب. ولم يخرج من النساء إلى الصحراء فلم تر امرأة على قبر. ومنع من الاجتماع على شاطىء النيل ومن ركوب النساء المراكب مع الرجال وخروجهن إلى مواضع الحرج مع الرجال. وفيه عمل عيد الغدير على رسمه وفرقت فيه دراهم كثيرة. ومنع من بيع العنب وألا يتجاوز في بيعة أربعة أرطال ومنع من اعتصاره فبيع كل ثمانية أرطال بدرهم وطرح كثير منه في الطرقات وأمر بدوسه ومنع من بيعه ألبتة وغرق ما حمل منه في النيل. وبعث شاهدين إلى الجيزة فأخذ جميع ما على الكروم من الأعناب وطرحت تحت أرجل البقر لدوسه وبعث بذلك إلى عدة جهات. وتتبع من يبيع العنب واشتد الأمر فيه بحيث لم يستطع أحد بيعه فاتفق أن شيخا حمل خمرا له على حمار وهرب فصدفه الحاكم عند قائلة النهار على جسر ضيق فقال له: من أين أقبلت قال من أرض الله الضيقة. فقال: يا شيخ أرض الله ضيقة فقال: لو لم تكن ضيقة ما جمعتني وإياك على هذا الجسر. فضحك منه وتركه. وفيها أخذ بنو قرجه هدية باديس بن المنصور صاحب إفريقية وزحفوا إلى برقة ففر عاملها في البحر وفتحوها. وفيه نزع السعر. وفيها مات أبو القاسم ولى الدولة ابن خيران الكاتب في شهر رمضان. وانتهى ماء النيل في زيادته إلى ستة عشر ذراعا ونصف ذراع. سنة ثلاث وأربعمائة في محرم ختم على مخازن العسل وجميع ما عند التجار والباعة منه ورفعت مكوس الساحل. ومنع الناس من عمل حزن عاشوراء. وغرق في أربعة أيام خمسة آلاف وواحد وخمسون زيراً من أزيال العسل. ونزع السعر وكثر الازدحام على الخبز ففرق الحاكم مالاً على الفقراء. وكثر ابتياع الناس للسيوف والسكاكين والسلاح وحمله من لم يحمله قط من العوام والصناع وكثر الكلام فيه فقرئ سجل على منابر الجوامع بتطمين الناس وإعراضهم عن سماع أقوال المرجفين. وفي ثاني ربيع الأول خلع على أبي الحسن علي بن جعفر بن فلاح ولقب قطب الدولة وقرئ له سجل بالتقدم على سائر الكتاميين والنظر في أحوالهم والسفارة بينهم وبين أمير المؤمنين. وحمل على فرس وبين يديه ثياب. وهلك زرعة بن عيسى بن نسطورس من علته في ثاني عشره فكانت مدة نظره في الوساطة سنتين وشهرا فتأسف الحاكم على فقده من غير قتل وقال ما أسفت على شيء قط أسفي على خلاص ابن نسطورس من سيفي وكنت أود ضرب عنقه لأنه أفسد دولتي وخانني ونافق علي وكتب إلى حسان بن الجراح في المداجاة علي وأنه يبعث من يهرب به إليه. وخلع على إخوته الثلاثة وأقروا على ما بأيديهم من الدواوين. وأمر النصارى إلا الحبابرة بلبس العمائم السود والطيالسة السود وأن يعلق النصارى في أعناقهم صلبان الخشب ويكون ركب سروجهم من خشب ولا يركب أحد منهم خيلا وأنهم يركبون البغال والحمير وألا يركبوا السروج واللجم محلاةً وأن تكون سروجهم ولجمهم بسيور سود وأنهم يشدون الزنانير على أوساطهم ولا يستعملون مسلما ولا يشترون عبدا ولا أمة وأذن للناس في البحث عنهم وتتبع آثارهم في ذلك فأسلم عدة من النصارى الكتاب وغيرهم. وشدد الأمر عليهم ومنع المكاريون من تركيبهم وأخذوا بتسوية السروج والخفاف ومنعوا من ركوب النيل مع نواتية مسلمين. واستدعى الحاكم حسين بن طاهر الوزان وكان منقطعا إلى غين الخادم الأسود وعرض عليه الوساطة فأجاب بشريطة أن يكون لكل قبيل من طوائف العسكر زمام عليهم يرجعون إليه ويكون نظره على الأزمة فيجعل لكل طائفة يوما ينظر في أمورهم وخاصة زمامهم فقط ففعل ذلك وخلع عليه. وفوض في الوساطة والتوقيع وقرئ سجله بالقصر في تاسع عشر ربيع الأول. وأمر الحاكم فنقش على خاتمه: بنصر الله العظيم الولي ينتصر الإمام أبو علي. وفيه أمر النصارى بعمل ركب السروج من خشب الجميز. وقبض على جماعة بسبب اللعب بالشطرنج وضربوا وحبسوا. وألزم النصارى أن يكون الصليب الذي في أعناقهم طوله ذراع في مثله وكثرت إهاناتهم وضيق عليهم وأمروا أن تكون زنة الصليب خمسة أرطال وأن يكون فوق الثياب مكشوفا ففعلوا ذلك. ولما اشتدت عليهم الأمور تظاهر كثير منهم بالإسلام فوقع الأمر بهدم الكنائس وأقطعت بجميع مبانيها وبمالها من رباع وأراض لجماعة وعملت مساجد وأذن في بعضها وبيعت أوانيها. ووجد في المعلقة بمصر وفي كنيسة بو شنوده مال جزيل من مصاغ وثياب وغيره. وتتابع هدم الكنائس وكتب إلى الأعمال بهدمها فهدمت. وأشيع سير أبي الفتوح أمير مكة من الرملة إلى الحجاز وكان قد قدم إليها فبايعه ابن الجراح ولقبه بالراشد بالله أمير المؤمنين ودعا له بالرملة. وفي جمادى الأولى لقب الحسين بن طاهر الوزان بأمين الأمناء وكتب له سجل بذلك. وظهر لحسين بن جوهر مال عظيم فأنعم به الحاكم على ورثته ولم يعرض لشيء منه. وفي ذلك الحين كان وصول أبي الفتوح إلى مكة إقامته الدعوة للحاكم بها وضربت السكة باسمه. وابتدأ مالك بن سعيد بعمل رصد فلم يتم. وفي جمادى الآخرة اشتد الإنكار بسبب الفقاع والزبيب والسمك. وقبض على جماعة فاعتقلوا وأمر بضرب أعناقهم ثم أطلقوا. وتشدد في منع ذبح الأبقار السالمة من العيب ومنع النساء من الغناء والنشيد. وأقطعت الكنائس والديارات بنواحي بمصر لكل من التمسها. وفي رجب قرئ سجل بمنع الناس من تقبيل الأرض للحاكم وبمنعهم من تقبيل ركابه ويده عند السلام عليه في المواكب والانتهاء عن التخلق بأخلاق أهل الشرك من الانحناء إلى الأرض فإنه صنيع الروم وأمروا أن يكون للسلام عليه: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. ونهوا عن الصلاة عليه في المكاتبة والمخاطبة وأن تكون مكاتبتهم في رقاعهم ومراسلاتهم بإنهاء الحال ويقتصر في الدعاء على سلام الله وتحياته وتوالى بركاته على أمير المؤمنين ويدعى له بما سبق من الدعاء لا غير. فلما كان يوم الجمعة لم يقل الخطيب سوى: اللهم صل على محمد المصطفى وسلم على أمير المؤمنين علي المرتضى اللهم وسلم على أمراء المؤمنين آباء أمير المؤمنين اللهم اجعل أفضل سلامك على سرك وخليفتك. وأنزل من القصر سبع صناديق فيها ألف ومائتان وتسعون مصحفا إلى الجامع العتيق ليقرأ فيها الناس. وأحصيت المساجد التي لا غلة لها فكانت ثمانمائة مسجد ونيف فأطلق لها في كل شهر تسعة آلاف ومائتا درهم وعشرون درهما لكل مسجد اثنا عشر درهما. ومنع من ضرب الطبول والأبواق التي كانت تضرب حول القصر في الليل فصاروا يطوفون بغير طبل ولا بوق. وأنزل إلى جامع ابن طولون ثمانمائة مصحف وأربعة عشر مصحفا. وأبطلت مكوس الحسبة وأذن للناس بالتأهب للحج في البر والبحر. وفي رمضان صلى الحاكم بالناس مرة في جامعه براشدة ومرة بجامعه خارج باب الفتوح وفيه ظهر جراد كثير حتى أبيع في الأسواق. وصلى بالجامع العتيق بمصر جمعة وهو أول من صلى فيه من الخلفاء الفاطميين. ومنع النساء من الجلوس في الطرقات للنظر إليه. وأخذ القصص بيده ووقف لأهلها وسمع كلامهم وخالطه العوام وحالوا بينه وبين موكبه. واستماحه قوم فوصلهم بصلات كثيرة وأهدى إليه قوم مصاحف فقبلها وأجازهم عليها. ووقف عليه اثنان من تربة عمرو بن العاص وشكوا أن حبسهما قبض عليه للديوان من أيام العزيز فخلع عليهما ووصلهما بألف دينار. وكثرت في هذا الشهر إنعاماته فتوقف أمين الأمناء حسين بن طاهر الوزان في ذلك فكتب إليه الحاكم بخطه بعد البسملة: الحمد لله كما هو أهله. أصبحت لا أرجو ولا أتقي سوى إلهي وله الفضل جدّي نبيّي وإمامي أبي وديني الإخلاص والعدل المال مال الله عز وجل والخلق عباد الله ونحن أمناؤه في الأرض. أطلق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام. وركب في يوم الفطر إلى المصلى بغير شيء مما كان يظهر في هذا اليوم من الزينة والجنائب ونحوها فكان في عشرة أفراس جياد بين يديه بسروج ولجم محلاةً بالفضة البيضاء الخفيفة ومظلة بيضاء بغير ذهب وعليه بياض بغير طرز ولا ذهب ولا جوهر في عمامته ولم يفرش المنبر. وولد لعبد الرحيم بن إلياس ابن عم الحاكم مولود فبعث إليه ثلاثة أفراس مسرجة ملجمة ومائة قطعة من الثياب وخمسة آلاف دينار عينا وسائر ما كان لأبيه أبي الأشبال المتوفي وكان شيخا جليلا. ومنع الناس من سب السلف وضرب في ذلك رجل وشهر ونودي عليه: هذا جزاء من سب أبا بكر وعمر وتبرأ الناس. فشق هذا على كثير من الناس وتجمعوا يستغيثون وهم يستغيثون في الطرقات. فقرئ سجل بالقصر فيه الترحم على السلف من الصحابة والنهي عن الخوض في مثل ذلك. ورأى في طريقه وقد ركب لوحاً فيه سب على السلف فأنكره ووقف حتى قلع. وتتبع الألواح التي فيها شيء من ذلك فقلعت كلها ومحى ما كان على الحيطان منها حتى لم يبق لها أثر. وشدد في الإنكار على من خالف ذلك ووعد عليه بالعقوبة. وسارت قافلة الحاج في رابع عشر ذي القعدة إلى بركة الجب ثم رجعوا من ليلتهم. وخلع على قطب الدولة أبي الحسن على بن فلاح وسار في عسكر لقتال ابن الجراح. وأملك ابنا عبد الرحيم بن إلياس بزوجتي حسين بن جوهر وقرئ كتابهما في القصر وقد كتبا في ثوب مصمت وفي رأس كل منهما بخط الحاكم: يعقد هذا النكاح بمشيئة الله وعونه والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل. وخلع على ابني عبد الرحيم وحمل عنهما المهر وهو ألفا وصلى الحاكم بالناس صلاة عيد النحر كهيئته في عيد الفطر ونحر عنه عبد الرحيم والمؤذنون يكبرون خلفه كما يفعلون بين يدي الحاكم والقاضي مالك إلى جنبه ومعه الرمح وكلما رمى الرمح لينحر به قبله قبل أن ينحر به فعل ذلك ثمانية أيام فعبث إليه الحاكم ثياباً جليلة وجواهر ثمينة وحمله على فرس بسرج مرصع بالجوهر. وواصل الحاكم الركوب إلى الصحراء بحذاء في رجله وعلى رأسه فوطة. وكان يركب كل ليلة بعد المغرب. ووقف إليه خراساني يذكر أنه أخذ منه متاع برسم الخزانة ولم يدفع إليه ثمنه فدفع إليه جميع ما كان له وهو نحو خمسة آلاف دينار فشق به البلد وكثر الدعاء للحاكم. وحمل إلى عبد الرحيم عشرة ألاف دينار في أكياس مكتوب عليها: لابن عمنا وأعز الخلق علينا عبد الرحيم بن إلياس بن أحمد بن المهدي بالله سلمه الله وبلغنا فيه ما نؤمله. وبعث إلى ملك الروم هدية مبلغ سبعة آلاف دينار. وفيها وصلت هدية الحاكم إلى نصير الدولة أبي مناد مع عبد العزيز بن أبي كدينة لثلاث عشرة خلت من المحرم ومعه سجل بإضافة برقة وأعمالها إليه فخرج إلى لقائه ومعه القضاة والأعيان فكان يوماً مشهودا. وفي أواخر رجب فلج أبو الفتوح يوسف بن عبد الله بن أبي الحسين أمير صقلية فتعطل جانبه الأيسر فقام بالأمر ابنه أبو محمد جعفر بن يوسف وكان بيده سجل الحاكم بولايته بعد أبيه ثم وصل إليه سجل لقب فيه تاج الدولة وسيف الملك. ثم أنفذ إليه تشريف وعقد له لواء وزيد في لقبه الملك. وفي ذي القعدة مات مفرج بن دغفل بن الجراح برملة لد من فلسطين. سنة أربع وأربعمائة في محرم أمر ألا يدخل يهودي ولا نصراني الحمام إلا ويكون مع اليهودي جرس ومع النصارى صليب. ونهى عن الكلام في النجوم فتغيب عدة من المنجمين وبقي منهم جماعة وطردوا وحذر الناس أن يخفوا أحداً منهم فأظهر جماعة منهم التوبة فعفى عنهم وحلفوا ألا ينظروا في النجوم. وأمر بغلق سائر الدواوين وجميع الأماكن التي تباع فيها الغلال والفواكه وغيرها ثلاثة أيام من آخر حزن عاشوراء فلما كان يوم عاشوراء أغلقت سائر حوانيت مصر والقاهرة بأسرها إلا حوانيت الخبازين. ونزل الذين عادتهم النزول في يوم عاشوراء إلى القاهرة من المنشدين وغيرهم أفراداً غير مجتمعين ولا متكلمين فما اجتمع اثنان في موضع. وخرج الحاكم في أمره وبذيله وأكثر الحاكم في هذا الشهر من الصدقات وإعطاء الأموال الكثيرة جدا. وأعتق سائر مماليكه وجواريه. وفتح فيه الخليج يوم السابع عشر من مسرى والماء على أربعة عشر ذراعا وثمانية أصابع. وفي أول صفر صرف القائد غين عن الشرطتين والحسبة وتقلدها مظفر الصقلبي حامل المظلة. وأذن لليهود والنصارى في مسيرهم إلى حيث ساروا من بلاد الروم. وورد الخبر بوصول عساكر مصر ودمشق إلى الرملة وخروج العرب منها. وأمر ببناء جامع الإسكندرية وأطلق مالا كثيرا للصدقة والتفرقة. وفيه جمع سائر الناس على اختلافهم بالقصر وقرئ عليهم سجل بأن أبا القاسم عبد الرحيم بن إلياس بن أبي علي بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله قد جعله الحاكم بأمر الله ولي عهد المسلمين في حياته والخليفة بعد وفاته وأمر الناس بالسلام عليه وأن يقولوا له في سلامهم عليه: السلام على ابن عم أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين وتعين له محل يجلس فيه من القصر. ثم قرئ السجل على منابر البلد وبالإسكندرية وبعث بذلك سجلاً إلى إفريقية فقرئ بجامع القيروان وغيره وأثبت اسمه مع اسم الحاكم في البنود والسكة والطراز. فعظم ذلك على نصير الدولة أبي مناد باديس وقال: لولا أن الإمام لا يعترض عليه في تدبير لكاتبته ألا يصرف هذا الأمر وخلع على عبد الغني بن سعيد ودفع له ألف وخمسمائة دينار وخمس عشرة قطعة ثياب وحمل على بغلة ولرفيقه مثل ذاك. وسير مع رسول متملك الروم بهدية عظيمة. وبلغ الحاكم أن أبا القاسم علي بن أحمد الزيدي النقيب عليه عشرون ألف دينار فوقع له بها مما عليه من الخراج وبعث له بثلاثة آلاف دينار أخرى. وكثر ركوب الحاكم وهو بدراعة صوف وبيضاء وعمامة فوطة وفي رجله حذاء عربي بقبالين فأقبل الناس إليه بالرقاع ما بين متظلم أو مستمنح فأجزل في الصلات والعطايا ما بين دور ودراهم وثياب فلم يرد أحد خائبا. ورد ما كان في الديوان من الضياع والأملاك المأخوذة لأربابها وأقطع كثيرا من الناس عدة آدر. وفي ربيع الأول بسط الحاكم يده بالعطاء. وفي ثامن عشر ربيع الآخر أمر الحاكم بقطع يدي أبي القاسم أحمد بن علي الجرجرائي فقطعتا جميعاً وهو يومئذ كاتب قائد القواد غين. وسبب ذلك أنه كان في خدمة ست الملك أخت الحاكم فانفصل عنها وهي غير راضية عنه وخدم عند غين ثم بعث إليها رقعة يستعطفها فارتابت منه وسيرتها في طي درجها إلى الحاكم فأمر بقطع يديه وقد اشتد غيظه. ويقال بل كان عقيل صاحب الخبر يحمل الرقاع بالخبر إلى القائد غين ليوصلها إلى الحاكم وهي مختومة فجاءه في يوم بالرقاع على عادته فدفعها غين إلى كاتبه أبي القاسم الجرجرائي حتى يجد فراغا فيحملها إلى الحاكم ففك الجرجرائي الختم وقرأها فإذا في بعضها طعن على غين وذكره بسوء فقطع ذلك الموضع من الرقعة وحكه وأصلحه وأعاد الختم. فبلغ ذلك عقيلا فأوصله إلى الحاكم فأمر بقطع يديه. وفي ثالث جمادى الأولى قطعت يد غين بعد قطع يد كاتبه الجرجرائي بخمسة عشر يوماً وكانت يده الأخرى قد قطعت قبل ذلك بثلاث سنين وشهر فصار مقطوع اليدين. ثم إن الحاكم بعث إليه بآلاف من الذهب وعدة أسفاط من الثياب وأمر بمداواته. وأبطل عدة مكوس من جهات كثيرة. فلما كان في ثالث عشره أمر بقطع لسان غين فقطع. وفي رجب أمر برفع ما يؤخذ من الشرطتين وقتل الكلاب فقتلت بأجمعها وأبطل مكس الرطب ومكس دار الصابون ومبلغه ستة عشر ألف دينار وأطلق أموالا جزيلة للصدقة. وأكثر من الركوب في الليل. ونزل ليلة النصف من شعبان إلى القرافة ومشى فيها وتصدق بشيء كثير وأبطل عدة جهات من جهات المكس. ومنع النساء أن يخرجن إلى الطرقات في ليل أو نهار سواء أكانت المرأة شابةً أم عجوزاً فاحتبسن في بيوتهن ولم تر امرأة في طريق وأغلقت حماماتهن وامتنع الأساكفة من عمل خفاف النساء وتعطلت حوانيتهم. وفي سادس عشره وقع في الناس خوف وفزع من شناعة القول وكثرة إشاعته بأن السيف قد وقع في الناس فتهارب الناس وغلقت الحوانيت فلم يكن سوى القلب. وضرب قوم خالفوا النهي عن بيع الملوخية والسمك الذي لا قشر له وشهروا. وضرب كثير من النساء من أجل خروجهن من البيوت وحبسن. وقرئ سجل بالمنع من تفتيش المسافرين في البحر والبر وانهي عن التعرض. وفي رمضان صلى بالناس في الجوامع الأربعة: جامع القاهرة والجامع خارج باب الفتوح وجامع عمرو وجامع راشدة وتصدق بأموال كثيرة ودعا فوق المنابر بنفسه لعبد الرحيم بن إلياس فقال: اللهم استجب منى في ابن عمي وولي عهدي والخليفة من بعدي عبد الرحيم بن إلياس بن أحمد بن المهدي بالله أمير المؤمنين كما استجبت من موسى في أخيه هرون. وفيه ركب قائد القواد غين إلى القصر في موكب عظيم فخلع عليه. وضرب على السكة اسم عبد الرحيم ولي عهد المسلمين. ومنع من عادته الطواف في الأعياد بالأسواق لأخذ الهبات من الرجالة والبواقين. واجتمع الأولياء وغيرهم بالقصر في يوم الخميس ثامن عشريه لسماع ما يقرؤه القاضي من كتب مجالس الحكم فمنعوا من ذلك. وركب لصلاة الجمعة بجامع القاهرة فازدحم الناس عليه بعد ركوبه من الجامع إلى القصر فوقف لهم وأخذ رقاعهم وحادثهم وضاحكهم فلم يرجع إلى القصر من كثرة وقوفه ومحادثته العوام إلى غروب الشمس ووقع صلات كثيرة. وركب لصلاة العيد بغير زي الخلافة ومظلته بيضاء وعبد الرحيم يسايره وهو حامل الرمح الذي من عادة الخليفة حمله وأصعده معه المنبر ودعا له. ولم يعمل في القصر سماط ولا رؤيت امرأة ولا أبيع شيء مما عادته يباع في الأعياد من اللعب والتماثيل. واشتد الأمر في منع النساء من الخروج وحبس عدة عجائز وخدم وجدن في الطرقات. وواصل الركوب في الليل. وأطلق لخليج الإسكندرية خمسة عشر ألف دينار. وقرئ سجل بأن كل من كانت له مظلمة فليرفعها إلى ولي العهد فجلس عبد الرحيم ورفعت إليه الرقاع فوقع عليها. وللنصف من ذي القعدة سار الحاج. وفي يوم النحر ركب عبد الرحيم بالعساكر إلى المصلى فصلى بالناس وخطب ونحر بالمصلى وبالملعب ولم يعمل سماط بالقصر. وواصل الحاكم الركوب في العشايا. واصطنع خادما وكاتبا أسود كناه بأبي الرضا سعد وأعطاه من الجواهر والأموال ما يجل وصفها وأقطعه إقطاعات كثيرة فقصده الناس لحوائجهم ولزموا بابه لمهماتهم فتكلم لهم مع الحاكم فلم يرد سؤاله في شيء. وكان مما يسأل فيه إقطاعات للناس تتجاوز خمسين ألف دينار. وفيه بعث أبو مناد باديس أمير إفريقية حميد بن تموصلت على عسكر إلى برقة فخرج منها سنة خمس وأربعمائة في المحرم تزايد وقوع النار وكثر الحرق في الأماكن فأمر الناس باتخاذ القناديل على الحوانيت وعلى أريافها وطرحت السقائف والرواشن وأمر بقتل الكلاب فقتل منها كثير. وعظم الحريق ووقعت في أمره شناعات من القول فقرئ سجل في الجوامع بزجر السفهاء والكف عن أحوال تفعل وأن يدخل الناس إلى دورهم من بعد صلاة العشاء. فأغلقت الدور والحوانيت والدروب من بعد صلاة المغرب وكثر الكلام وعظم الترحم في الليل. وفيه وصل علي بن جعفر بن فلاح من الشام. ووصلت قافلة الحاج في تاسع صفر من غير زيارة المدينة وقد أصابهم خوف شديد وهلك منهم خلق كثير من الجوع والعطش. وفيه ركب الحاكم مرتين فرفعت إليه الرقاع فأمر برافعيها فحبسوا. وحبس عدة قياسر وأملاك مع سبع ضياع بإطفيح وطوخ على القراء والمؤذنين بالجوامع وعلى ملء المصانع والمارستان وثمن الأكفان. وفي ربيع الأول واصل الركوب وأخذ الرقاع ووقف مع الناس طويلا ثم امتنع من أخذ الرقاع وأمر أن ترفع إلى عبد الرحيم وإلى القاضي مالك وإلى أمين الأمناء فتناولوا الرقاع. وأكثر من فلما كان يوم السبت سادس عشري ربيع الآخر ركب في الليل على رسمه إلى الجب وتلاحق به الناس وفيهم قاضي القضاة مالك بن سعيد فلما أقبل على الحاكم أعرض عنه فتأخر وإذا بصقلبي يقال له غادى يتولى الستر والحجية أخذه وسار به إلى القصور وألقاه مطروحا بالأرض فمر به الحاكم وأمر بمواراته فدفن هناك بثيابه وخفيه. وكانت مدة نظره في الأحكام عشرين سنة منها ست سنين وتسعة أشهر قاضي القضاة وباقيها خلافة لبني النعمان. وكان ينظر في القضاء والمظالم والأحباس والدعوة ودار الضرب ودار العيار وأمر الأضياف فعلت منزلته وقصده الناس في حوائجهم لكثرة اختصاصه بالحاكم وتزايد إقطاعاته من الدور بفرشها والضياع العديدة ومواصلة الركوب مع ليلا ونهارا ومشاورته في أمور الدولة ونظره في أمور الدواوين كلها. وكان سخياً جواداً فصيحا بليغاً لم يضبط عليه قط صياح ولا حدة ولا سمعت منه في خطاباته أبداً كلمة فيها فحش ولا قذع ولا قبح. وكان سبب قتله أنه اتهم بموالاة سيدة الملك ومراعاتها وكان الحاكم قد انفلق منها فلما قتل استدعى الحاكم أولاده وخاطبهم ولم يتعرض لشيء من تركة أبيهم وأمر ابنه أبا الفرج أن يركب في الموكب وأقره على إقطاعه ومبلغه في السنة خمسة عشر ألف دينار. وفي جمادى الأولى رد الحاكم على بني عمرو بن العاص حبس جدهم عمرو بن العاص ومبلغه وتزايد ركوب الحاكم حتى كان يركب في اليوم الواحد عدة مرات وعظمت هباته وعطياته. ثم أمر بابتياع الحمير وصار يركبها من تحت السرداب إلى باب البستان إلى المقس ويغلق الأبواب التي يتوصل منها إلى المقس وقت ركوبه ومنع الناس من الخروج إلى هذه المواضع. وفي جمادى الآخرة قدم رسول ملك الروم فاصطفت العساكر من باب القصر إلى سقاية ريدان بعددها وأسلحتها وركب الحاكم بصوف أبيض وعمامة مفوطة بمظلة مثلها وولي العهد يسايره وعليه ثوب مثقل ومعهم الجواهر. وأحضر الرسول ومعه عبد الغني بن سعيد بهدية إلى القصر فخلع على عبد الغني وأنزل الرسول في دار بالقاهرة وبلغ الحاكم أن ثلاثة من الركابية أخذوا هبة من الرسول فأمر بقتلهم فقتلوا من أجل ذلك. وفي جمادى الآخرة ركب الحاكم ومعه أمين الأمناء الحسين بن طاهر الوزان على رسمه فلما انتهى إلى حارة كتامة خارج باب القاهرة أمر فضربت رقبة ابن الوزان ودفن مكانه. فكانت مدة نظره في الوساطة سنتين وشهرين وعشرين يوما وكان توقيعه عن الحاكم: الحمد لله وعليه توكلي. وتقدم الأمر لسائر أرباب الدواوين بلزوم دواوينهم. واعتل الحاكم أياما فركب على حمار بشاشية مكشوفة وأكثر من الحركة في العشيات إلى المقس والتعدية إلى الجيزة وهو على الحمار. وأكثر من الركوب في النيل. وفي حادي عشر شعبان أمر أصحاب الدواوين بأن يمتثلوا ما يرسم به عبد الرحيم بن أبي السيد الكاتب متولي ديوان النفقات وأخوه أبو عبد الله الحسين وجعلا في الوساطة والسفارة ثم قرئ لهما سجل بذلك وخلع عليهما وحملا فوقعا وكان توقيعهما: الحمد لله حمدا يرضاه. وفي حادي عشريه خلع على أبي العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوام وأعطى سجلاً بتقليده قضاء القضاة وحمل على بغلة بسرج ولجام مصفح بالذهب وقيد بين يديه بغلة أخرى ونزل إلى الجامع فقرئ سجله على المنبر وفيه: فقلدك أمير المؤمنين القضاة والصلاة والخطابة بحضرته والحكم فيها وراء حجابه من القاهرة المعزية ومصر وأعمالها والإسكندرية والحرمين وبرقة والمغرب وصقلية مع الإشراف على دور الضرب بهذه الأعمال والنظر في أحباس الجوامع والمساجد وأرزاق المرتزقة ووجوه البر وتستخلف على الحكم. ونقل ديوان الحكم من بيت مالك بن سعيد إلى بيت المال بالجامع العتيق وهو أول من فعل ذلك من القضاة. وكانت دواوين الحكام في دورهم فجعلها بالجامع وجعل جلوسه بالجامع العتيق يومي الاثنين والخميس وبالقاهرة يوم الثلاثاء ولحضور القصر يوم السبت. وفي يوم الجمعة رابع رمضان ركب ولي العهد فصلى بالجامع الأنور الجديد بباب الفتوح في موكب الخلافة ثم صلى جمعة أخرى بجامع القاهرة ثم جمعتين بالجامع الجديد. وفيه كثرت صلات الحاكم ومواهبه وإقطاعاته للناس حتى خرج في ذلك عن الحد. وركب ولي العهد يوم الفطر في موكب الخلافة وصلى بالناس في المصلى وخطب. وخرج الحاكم عن المعهود في العطاء والإقطاعات حتى أقطع النواتية الذين يجدفون به في العشاري وأقطع المشاعلية وكثيرا من الوجوه والأقارب وبني قرة فكان مما أقطع الإسكندرية والبحيرة ونواحيها. وفي نصفه قتل ابنا أبي السيد حسين وعبد الرحيم ضربت أعناقهما بالقصر فكانت مدة نظرهما اثنين وتسعين يوما. وواصل الركوب في كل غداة وهو على الحمار. وقرئ سجل بأن يكون ما يرفعه الناس من حوائجهم في ثلاثة أيام يوم السبت للكتاميين والمغاربة ويوم الاثنين للمشارقة ويوم الخميس لسائر الناس كافة وأن يتجنبوا لقاء أمير المؤمنين ليلاً ونهاراً بالرقاع فما يتعلق بالمظالم فإلى ولي العهد وما يتعلق بالدعاوى فإلى قاضي القضاة وما استصعب من ذلك ينتهي إلى أمير المؤمنين. وفي سابع عشره تقلد أبو العباس فضل بن جعفر بن الفرات الوساطة ولم يخلع عليه فجلس ووقع ثم قتل في اليوم الخامس من جلوسه. وتشدد الأمر في منع النساء من الخروج في الطرقات ومن التطلع في الطيقان بأسرهن شبابهن وعجائزهن. ومنع مؤذنو القصر وجامع القاهرة من قولهم بعد الأذان: السلام على أمير المؤمنين وأن يقولوا بعد الأذان: السلام من الله. وفيه غلب بنو قرة على الإسكندرية وأعمالهما. وأقطع القاضي ابن أبي العوام ناحية تلبانة عدي. وأكثر الحاكم فيه من الركوب فركب في يوم واحد ست مرات تارة على فرس وأخرى على حمار ومرة في محفة تحمل على الأعناق ومرة في عشارى في النيل بشاشية لا عمامة عليها. وأكثر من إقطاع الإقطاعات للجند وعبيد الشراء. واستمر على مواصلة الركوب إلى ليلة النحر قرب العشاء وشق البلد والطرادون يفرقون الناس عنه. وصلى ولي العهد صلاة عيد النحر ولم يضح بشيء ونهى الناس عن ذبح البقر. وفيه قلد ذو الرياستين قطب الدولة أبو الحسن علي بن جعفر بن فلاح الوساطة والسفارة. وفيها بعث نصير الدولة أبو مناد باديس من إفريقية هدية عظيمة إلى الغاية للحاكم بأمر الله فوصلت إلى مدينة برقة لأربع عشرة بقيت من رجب وسارت منها في سابع رمضان حتى ولت لك فأخذها بنو قرة عن آخرها. وكانوا قد انتجعوا مع كبيرهم مختار بن قاسم من البحيرة ومعهم مواشيهم وقصدوا مدينة برقة ففر منها حميد بن تموصلت إلى إفريقية فملك برقة مختار بن قاسم. وفيها بعث الحاكم عبد العزيز بن أبي كدينة ومعه أبو القاسم بن حسن إلى إفريقية بخلع وسيول وتشريف لمنصور بن نصير الدولة أبي مناد باديس لولاية ما يتولاه أبوه في حياته وبعد وفاته ولقبه عزيز الدولة. |
12-21-2012, 08:49 PM | #18 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة ست وأربعمائة
فيها عرض الاستيمار على الحاكم بأسماء الفقهاء والقراء والمؤذنين بالقاهرة ومصر فكانت جملته في كل سنة واحداً وسبعين ألفا وسبعمائة وثلاثة وثلاثين دينارا وثلثي وربع دينار فأمضى جميع ذلك. وفيها زاد ماء النيل وغرق الضياع وغلت الأسعار وهلكت البساتين وامتلأ كل مكان من المدينة وغرق المقياس وانتهت الزيادة إلى ثلاث أصابع من إحدى وعشرين ذراعا وبلغ الماء إلى نصف النخل مما يلي بركة الحبش وغرق المعتوق!. ولم يبق طريق يسلك إلى القاهرة إلا من الشارع والصحراء. سنة ثمان وأربعمائة قدم مصر داع عجمي اسمه محمد بن اسماعيل الدرزي واتصل بالحاكم فأنعم عليه. ودعا الناس إلى القول بإلهية الحاكم فأنكر الناس عليه ذلك ووثب به أحد الأتراك ومحمد في موكب الحاكم فقتله وثارت الفتنة فنهبت داره وغلقت أبواب القاهرة. واستمرت الفتنة ثلاثة أيام قتل فيها جماعة من الدرزية وقبض على التركي قاتل الدرزي وحبس ثم قتل. ثم ظهر داع آخر اسمه حمزة بن أحمد وتلقب بالهادي وأقام بمسجد تبر خارج القاهرة ودعا إلى مقالة الدرزي وبث دعاته في أعمال مصر والشام وترخص في أعمال الشريعة وأباح الأمهات والبنات ونحوهن وأسقط جميع التكاليف في الصلاة والصوم ونحو ذلك. فاستجاب له خلق كثير فظهر من حينئذ مذهب الدرزية ببلاد صيدا وبيروت وساحل الشام سنة تسع وأربعمائة في آخر شوال ركب الوزير علي بن جعفر بن فلاح إلى البرك التي قبل الخليج خارج القاهرة فثار عليه فارسان فأخذه أحدهما فألقاه وفرا فلم يعرف خبرهما وحمل إلى داره فمات من الأخذ. وولى الوزارة بعده الظهير صاعد بن عيسى بن نسطورس فأقام إلى رابع ذي الحجة. وقيل تولى بعده شمس الملك مسعود بن طاهر الوزان. وفيها عزل الحاكم سديد الدولة عن دمشق ووليها عبد الرحيم بن إلياس وسار إليها لعشرين من جمادى الآخرة فبينما هو قصره إذ هجم عليه قوم ملثمون فقتلوا جماعةً من غلمانه ثم أخذوه ووضعوه في صندوق وحملوه إلى مصر. فلم يكن بها أكثر من شهرين ثم أعيد إلى دمشق فأقام بها ليلة العيد. وورد من مصر رجل يقال له أبو الداود المغربي ومعه جماعة وأخرجوا عبد الرحيم وضربوا وجهه وأصبح الناس يوم العيد وليس لهم من يصلي بهم. وعجب الناس من هذه الأمور. وفيها سومح ضامن الصعيد الأعلى بما عليه وهو أربعة وستون ألف دينار وسبعمائة وخمسة وستون دينارا. سنة عشر وأربعمائة فيها اشتد الغلاء بديار مصر حتى أبيع الدقيق رطلا بدرهم واللحم أربع أواق بدرهم ومات كثير من الناس بالجوع. وبلغت عدة من مات في مدة رمضان وشوال وذي القعدة مائتي ألف وسبعين ألفا سوى الغرباء وهم أكثر من ذلك وفي سنة عشر وأربعمائة سير الحاكم بأمر الله أبا القاسم بن اليزيد إلى شرف الدولة الحاكمية أبي تميم المعز بن نصير الدولة أبي مناد باديس ومعه سيف مكلل بنفيس الجوهر وخلعة من سنة إحدى عشرة وأربعمائة فقدم المنصورية لست بقين من صفر سنة إحدى عشرة. وتلقاه شرف الدولة ونزل إليه فقرأ عليه سجلاً عظيما فكانت أيام فرح. ثم ورد بعده محمد بن عبد العزيز بن أبي كدينة بسجل آخر ومعه خمسة عشر علما منسوجة بالذهب فخلع على أبي القاسم ومحمد وحملا وطيف بهما في القيروان والأعلام المذكورة بين أيديهما. مقتل الحاكم ولليلتين بقيتا من شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة فقد الحاكم. وسبب فقده أن أخته ست الكل سلطانة كانت امرأة حازمة وكانت أسن منه فدار بينها وبينه يوما كلام فرماها بالفجور وقال لها: أنت حامل. فراسلت سيف الدين حسين بن علي بن دواس من مقدمي كتامة وكان قد تخوف من الحاكم وتواعدا على قتل الحاكم وتحالفا عليه. فأحضرت ست الكل عبدين وحلفتهما على كتمان الأمر ودفعت إليهما ألف دينار ليقتلا الحاكم. فأصعد إلى الجبل في الليل وكان الحاكم قد رأى أن عليه قطعا فلما كان في الليلة التي فيها قال لأمه: علي قطع في هذه الليلة وعلامة ذلك ظهور كوكب الذنابة ودفع إليهما خمسمائة ألف دينار ذخيرة لها فمنعته من الركوب ونام. ثم انتبه آخر الليل وقام ليركب فتعلقت به فامتنع ومضى وركب الحمار إلى باب القاهرة ففتح له أبو عروس صاحب الشرطة الباب وأغلقه خلفه وخرج متبعا له. قال: فسمعته يقول: ظهر والله الكوكب ولم يكن معه سوى ركابي وصبي يحمل دواته. فعارضه وسط الجبل سبع فوارس من بني قرة فخدموه وسألوه الأمان وأن يسعفهم بما يصلح شأنهم فأمنهم وأمر الركابي أن يحملهم إلى الخازن يدفع إليهم عشرة آلاف درهم. ودخل الشعب الذي كان يدخله وقد وقف العبدان له فضرباه حتى مات وطرحاه وشقا جوفه ولفاه في كساء وقتلا الصبي وغرقا حماره وحملا الحاكم في كساء إلى أخته فدفنته. وأقامت مدة وأحضرت الوزير خطير الملك وعرفته الحال وأمرته أن يكاتب عبد الرحيم بن إلياس يستدعيه من دمشق. فكتب إليه على لسان الحاكم يأمره بالمبادرة واستدعت ألف ألف دينار فرقتها في الأولياء وبعثت قائد السواحل. فلما قدم عبد الرحيم عدل به إلى تنيس فقتل بها. واضطرب الناس لغيبة الحاكم فأرسلت إليهم: إنه أخبرني أنه يغيب سبعة أيام وإنه يواصلني بأوامره. ورتبت رسلا يمضون عنها إلى الحاكم ويجيئون منه إليها. ففي أثناء ذلك اشتدت شوكتها وكف الناس عن الاستقصاء في المسألة. وأحضرت ابن دواس وواطأته على أخذ البيعة للظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم وأظهرته وعلى رأسه تاج جده العزيز. وقام ابن دواس فقال لمن حضر من أهل الدولة تقول لكم مولاتنا هذا مولاكم فسلموا عليه. وقبل ابن دواس الأرض فبايع الناس إلا غلاما تركيا كان عمل ليلا بين يدي الحاكم فإنه قال: لا أبايع حتى أعرف خبر مولاي. فقتل وقام ابن دواس بتدبير الأمر. ثم إن ست الملك دست عليه وقتلته وقتلت جميع من اطلع على سرها وقتلت جماعة خافتهم. ثم لم تطل أيامها وماتت بعد أيام. قال ابن أبي طي لما ذكر هذا الخبر في كيفية قتل الحاكم: وكان الحاكم شديد السطوة عظيم الهيبة جريئا على سفك الدماء. خطب له على منابر مصر والشام وإفريقية. وكان يتشبه بالمأمون ويقصد مقاصده واشتغل بعلوم الأوائل واعتد بعلوم النجوم وعمل له رصدا ووقف الكواكب واتخذ بيتا بالمقطم فيه عن الناس ويخلو لمخاطبة الكواكب. وكان يركب الحمار وعليه ثياب الرهبان ووراءه غلام اسمه مفلح يحمل الدواة والسيف والورق في كيس معلق في كتفه وهو يمشي وراءه فإذا مر بسوق انهزم الناس واستتروا عنه ويطرق أبواب الحوانيت فلا ينظرون إليه إلا أن يكون لأحد منهم حاجة فإنه يقف عليه ويكتب العبد بين يديه ما يأمره به في رقعة إلى الوزير. وكان لا يحضره الجيش إلا في الأعياد فيركب في ذلك اليوم بثيابه على الفرس. وكان مهاباً عند أهل مملكته وكان لا يحضر مجالس الجدل ويحتجب أياما كثيرة مشتغلا بما هو فيه وكان له سعي في إظهار كلمته فبعث دعاته إلى خراسان وأقام فيها مذهب الشيعة واستجاب له عالم وكان أبو عبد الله أنوشتكين النجري الدرزي أول رجل تكلم بدعوته وأمر برفع ما جاء به السرع وسير مذهبه إلى بلاد الشام والساحل ولهم مذهب في كتمان السر لا يطلعون عليه من ليس منهم. وكان الدرزي يبيح البنات والأمهات والأخوات. فقام الناس عليه بمصر وقتلوه فقتل الحاكم به سبعين رجلا. وأنفذ الدرزي إلى الحجر الأسود برجل ضربه وكسره وادعى الربوبية. وقدم رجل يقال له يحيى اللباد ويعرف بالزوزني الأخرم فساعده على ذلك ونشط جماعة على الخروج عن الشريعة. وركب يوما من القاهرة في خمسين رجلا من أصحابه إلى مصر ودخل الجامع بدابته وأصحابه كذلك فسلم إلى القاضي رقعة فيها: باسم الحاكم الرحمن الرحيم فأنكر القاضي ذلك وثار الناس بهم وقتلوهم وشاع هذا في الناس فلعنوه. ويقال إنه خرج يوما وعليه قباء أطلس وفي وسطه سيف فخلع القباء وقال: هذا الظاهر قد خلعته ثم جرد السيف وقال: هذا الباطن قد سللته. قال: وفي السنة التي قتل فيها الحاكم أشاع أنه يريد أن ينزل في أول رمضان إلى الجامع ومعه الطعام فمن أبى الأكل قتله. وكان دعاته إذا ركب يقولون: السلام عليك يا واحد يا أحد ويغلون فيه الغلو المفرط. وادعى أنه حصل له كتاب الجفر. ولما غلب على الحرمين وعد العلويين أهل المدينة إذا هم مكنوه من فتح دار جعفر بن محمد الصادق بوعود كثيرة ففتحها وكانت مغلقة فإذا فيها قعب خشب ومصحف وسرير سعف وقدره ولم تكن فتحت قبل ذلك فرأى بالسرير وأخذ أعداءه وهدم بيعة ثمامة في سنة ثمان وثمانين وثلثمائة وخرج رسمه إلى الوزير على لسان خادم أن يتب: أمرت حضرة الإمامة بهدم قمامة وأن يجعل علوها خفضا وسماؤها أرضا. وبلغه أن المغاربة تلعنه فقرب الفقهاء المالكية وأمرهم بتدريس مذهب مالك بن أنس في الجامع. وكان يحب العلماء ويقدم ما يرد فيه وإذا رأى رأيا عزم عليه وأمضاه. وكتب إليه رجل: إن فلانا مات وخلف مالا فوقع بخطه على ظهر الرقعة: السعاية قبيحة إن كانت صحيحة. وكتب إليه آخر: إن فلانا مات وخلف بنتا وقد أخذت جميع مال أبيها فوقع على ظهر الرقعة: المال مال الله واليتيم جبره الله والساعي لعنه الله وعلى مذهبنا يجوز أن ترث البنت جميع مال أبيها. ومنع النساء الخروج من البيوت فقيل إن فيهن من لا تجد من يقوم بشأنها فتموت جوعا فأمر الباعة بالتطواف في السكك وأن يبيعوهن من خلف الأبواب ويناولوهن بمغارف طوال السواعد. وكان أمر ألا يكشف مغطى فسكر رجل ونام في قارعة الطريق وغطى نفسه بمنديل فصار الناس يمرون به ولا يقدر أحد أن يكشف عنه. فمر به الحاكم وهو كذلك فوقف عليه وقال له: ما أنت فقال: أنا مغطى وقد أمر أمير المؤمنين ألا يكشف مغطى. فضحك وطرح عنده مالا وقال: استعن بهذا على ستر أمرك. وقرر الحاكم بعد ابن الفرات ذا الرياستين قطب الدولة أبا الحسن علي بن جعفر بن فلاح واستمر إلى أن قتل الحاكم. انتهى ما ذكره ابن أبي طي وفيه تحامل شعر به واحد من مؤرخي مصر ذكره. وقال الروحي على ما حكاه عنه ابن سعيد: ولم يزل الحاكم خليفة إلى سنة إحدى عشرة وأربعمائة فخرج ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوال فطاف ليلته كلها على رسمه وأصبح عند قبر الفقاعي ثم توجه إلى شرقي حلوان وتبعه ركابيان فأعادهما. وبقي الناس على رسومهم يخرجون يلتمسون رجوعه إلى يوم الخميس سلخ الشهر المذكور ثم خرج خواص من بطانته فبلغوا دير القصير ثم أمعنوا في الدخول في الجبل فبينما هم كذلك إذ بصروا بالحمار الذي كان راكبه على قنة الجبل وقد ضربت يداه بسيف فأثر فيهما وعليه سرجه ولجامه. وتتبع الأثر فقاد إلى أثر الحمار في الأرض وأثر راجل خلفه وراجل قدامه فلم يزالوا يقصون هذا القص حتى انتهوا إلى البركة التي في شرقي حلوان فنزل فيها رجل فوجد فيها ثيابه وهي سبع جباب ووجدت مزررة فيها آثار السكاكين فلم يشك في قتله. فكانت مدته ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر وكانت ولايته خمسا وعشرين سنة وشهرا. وكسفت الشمس يوم موته. وكان جوادا بالمال سفاكا للدماء قتل عددا كثيرا من أماثل دولته وغيرهم صبرا وكانت سيرته من أعجب السير. قال: ومنع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلا ونهارا ومنع الأساكفة من عمل الخفاف المنجة لهن فأقمن على ذلك سبع سنين وسبعة أشهر إلى خلافة الظاهر. قال أحمد بن الحسين بن أحمد الروذباري في كتاب الأدباء على ما نقله ابن سعيد: وقتل الحاكم ركابيا له بحربة في يده على باب جامع عمرو بن العاص وشق بطنه بيده. وعم بالقتل بين وزير وكاتب وقاض وطبيب وشاعر ونحوي ومغن ومختار وصاحب ستر وحمامي وطباخ وابن عم وصاحب حرب وصاحب خبر ويهودي ونصراني وقطع حتى أيدي الجواري في قصره. وكان في مدته القتل والغيلة حتى على الوزراء وأعيان الدولة يخرج عليهم من يقتلهم ويجرحهم. وخطفت العمائم جهاراً بالنهار وكان لعبيد الشراء في مدته مصائب وخطوب في الناس. وكان المقتول ربما جر في الأسواق فأوقع ذلك فتنة عظيمة. قال: كان الحاكم يركب حمارا يسمى القمر ويعبر به على الناس. وكان له صوفية يرقصون بين يديه ولهم عليه جار مستمر. ووقف رجل للحاكم فصاح عليه فمات لوقته. وكانت غيبته إلى يوم جلوس ولده الظاهر ثلاثة وأربعين يوما. قال ابن سعيد عن مجموع وقف عليه: وواصل الحاكم في ركوبه الوقوف على المعروف بابن الأرزق الشواء ومحادثته بدار فرح وخلع عليه وأجازه. وفي يوم استدعى الحاكم أحد الركابية السودان المصطنعة ليحضر إلى حانوت ابن الأزرق الشواء فوقفه بين اثنين ورماه برمح ثم أضجعه واستدعى سكينا فذبحه بيده ثم استدعى شاطورا ففرق بين رأسه وجسده ثم استدعى ماء فغسل يده بأشنان ثم ركب. وحمل المقتول إلى الشرطة فأقام ليلة ثم دفن بالصحراء. ثم بعث المؤتمن بعد ثلاثة أيام فنبشه وغسله وأنفذ إليه أكفانا كفن بها ثم أمر قاضي القضاة بالصلاة عليه وأمر ألا يتخلف أحد فحضر الشهود وأهل السوق وصلى عليه قاضي القضاة ودفن بالقرافة وواراه قاضي القضاة وجعل التراب تحت خده وأمر ببناء قبره وتبيضه في وقته ففعل ذلك. وتظلم إليه رجل في ركوبه إلى مصر في ناصح الركابي فوقف عليه وسأل ناصحا عن دعواه فظهر أنها صحيحة فأمر أن يدفع ماله إليه فلم يجد معه في الوقت ذلك القدر فألزمه ببيع فرسه الذي كان راكبا عليه فباعه ووفى الرجل ما كان له عليه كل ذلك بحضرته وهو واقف على ظهر دابته ثم سار. وقال الفوطي: كان الحاكم أجود الخلفاء بماله وبه تفشت حاله فيما سفكه من الدماء التي لا يحصيها إلا الله. وكان الأمر في مدة العزيز فيه انحلال وعفو كبير عن الناس وظنوا أن ذلك يجوز في مدة الحاكم وجروا على رسمهم فتجرد له منهم مطلع على جميع أمورهم غير مطرح لعقوبة فهلك الجم الغفير منهم. وكان في مدة أبيه العزيز بالله قد تكشف على أقوام ممن يطعن في الدولة ويسىء المقالة فيها فلما صارت له الخلافة انتقم منهم أشد انتقام وعمهم بالعقوبة. قال: ومن حكايته المشهورة في العدل أن رجلا عربيا ورد على مصر من سجلماسة يريد الحج فأودع ماله عند رجل في السوق فلما عاد من الحج طلب ماله فأبى أن يدفعه إليه. فتوصل إلى أن أطلع الحاكم على أمره فقال له اجلس في دكان مقابلا لدكانه فإذا جزت في ذلك السوق فاعمل كأنك تعرفني وكأني أعرفك. فلما مر الحاكم وقف على الرجل وسأل عن حاله وأكثر معه الوقوف وانصرف فجاء الرجل الذي عنده الوديعة إلى الرجل وأكب عليه وسأله الصفح عما سلف منه وأحضر إليه جميع ماله. فعرف الحاكم بذلك فأصبح الذي أنكر الوديعة مقتولا معلقا برجله. وكان نقش خاتمه: بنصر الولي العلي ينتصر الإمام أبو علي. وخطب له معتمد الدولة أبو المنيع قرواش بن المقلد بالموصل والأنبار وقصر ابن هبيرة والمدائن. ومن خط ابن الصيرفي يروي أن الإمام الحاكم بأمر الله قال لبعض الأعيان الذين شرفهم بمجالسته وميزهم بمحاورته فقال: أكلت حتى شبعت وشربت حتى رويت والشبع والري غايتا الأكل والشرب فإذا قلت ونمت فنقول: حتى إذا أي شيء جعلته غاية النوم فلم يحر جوابا ورغب إلى كرمه في الإفادة فقال نمت حتى ريثت والروث غاية النوم وأنشد: فأما تميم بن مرّ فألفاهم القوم روثاً نياما |
12-21-2012, 08:50 PM | #19 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
الظاهر لإعزاز دين الله
أبو الحسن علي ابن الحاكم بأمر الله أبي علي منصور أمه أم ولد تدعى رقية ويقال اسمها آمنة بنت الأمير عبد الله بن المعز وإن ست الملك سلطانة أخت الحاكم كانت تعادي آمنة هذه. ومولده بالقصر من القاهرة على مضي ثلاث ساعات من ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان سنة خمس وتسعين وثلمثائة وبويع بالخلافة في يوم عيد الأضحى سنة إحدى عشرة وأربعمائة وله من العمر ست عشرة سنة وثلاثة أشهر واتفق في هذا اليوم أن صلى للحاكم في خطبة العيد ثم بويع الظاهر بعد عودة القاضي من المصلى فكان بين الدعاء في الخطبة للحاكم وبين أخذ البيعة للظاهر ثلاث ساعات ولم يتفق مثل ذلك. وتوفي ببستان الدكة خارج القاهرة في ليلة الأحد النصف من شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة وعمره إحدى وثلاثون سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيام. ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام كانت فيها قصص وأنباء. ذلك أنه لما فقد الحاكم استدعت السيدة ست الملك سيف الدولة حسين بن علي بن دواس الكتامي إلى حيث كانت جالسة وقالت له: المعول في قيام هذه الدعوة عليك وهذا الصبي ولدك وينبغي أن تتولى الخدمة إلى غاية وسعك وتبذل فيها كل ما عندك. فقبل الأرض وشكر ودعا ووعد بالإخلاص في الطاعة وبلوغ ما في القدرة والاستطاعة. فأخرجت علي بن الحاكم بأمر الله ولقبته الظاهر لإعزاز دين الله وألبسته تاج المعز جد أبيه وهو تاج مرصع بالجواهر الفاخرة وجعلت على رأسه مظلة مرصعة. وأركبته فرسا رائعا بمركب ذهب مرصع وأخرجت بين يديه الأمير الوزير رئيس الرؤساء خطير الملك أبا الحسن عمار بن محمد ونسيماً صاحب السيف في عدة من الأستاذين تخدم. فلما برز وشوهد تقدم الوزير وصاح: يا عبيد الدولة مولاتنا تقول لكم هذا مولاكم أمير المؤمنين فسلموا عليه فقبل ابن دواس الأرض ومرغ خديه بين يديه وفعل ما يتلوه من سائر طبقات العسكر مثل ذلك وضربت البوقات والطبول وعلا الصياح بالتكبير والتهليل والظاهر يسلم على الناس يمينا وشمالا. وفتحت أبواب القصر وأدخل الناس على العموم حتى سلموا ومدحوا ولم يزل واقفاً لهم إلى الظهر. ثم صرفوا وجمعوا من غد وأخذت البيعة عليهم ووضع العطاء وأطلق مال الفضل للجند كافة ولم يجر خلاف من أحد إلا أن غلاما تركيا كان يحمل الرمح بين يدي الحاكم قال لا أبايع حتى أعرف خبر مولاي فأخذ وسحب على وجهه وغرق في النيل وقامت الهيبة. وكتب إلى بلاد الشام والمغرب بوفاة الحاكم وقيام الظاهر ورسم لهم أخذ البيعة على نفوسهم ومن عندهم من سائر طبقات الناس. وأقيمت المآتم على الحاكم في القصور والقاهرة ثلاثة أيام. وجمعت السيدة عامة أهل مصر وخاطبتهم بالجميل والملاطفة ووعدتهم حسن السيرة والمعاملة وأمرتهم بذكر حوائجهم ومصالحهم في كل وقت والمطالعة بحيف إن لحقهم من عامل أو ناظر ليفعل في ذلك ما توجبه السياسة العادلة. وأطلقت للنساء الخروج من منازلهن والتصرف في أمورهن. وارتجعت جواهر كان الحاكم وهبها وحلت إقطاعا أقطعها ورتبت الأمور ترتيبا أصلحها وهذبها. وزارت ابن دواس في منزله وجعلت مصادر التدبير على يده. فلما أحكمت ما أحكمته وأكدت ما أكدته أحضرت ابن دواس وقالت له: قد علمت ما بيني وبينك من المواثيق والعهود وأنا امرأة وإنما أريد هذا الملك لهذا الصبي وقد أحسن الله المعونة وأجرى الأمور على المحبة وأنت زعيم الدولة فيها والمنظور إليه منها وقد رأيت أن أنجز وعدك وأظهره وأرد إليك أمر السيادتين مضافا إلى الشرطتين وأجعل أمرك في الأمور والخزائن نافذا ورأيك في التقريرات والتدبيرات معتمدا إذ كنت المولى المخلص والشريك المخالط وأشرفك بخلع وحملان يظهر للخاص والعام بها موضعك ومحلك وتخصصك وتحققك. فادخل الخزائن واختر كل ما تريد لفخامته ولجلالته واطلب يوماً تختار لتفاض فيه عليك الخلع ويقرأ العهد بتقليدك. فلما سمع من ذلك ما سمع سر به وقبل الأرض شكرا عليه. وشاع هذا الحديث فركب الناس إليه وهنئوه بالنعم المتجردة له. وأحضرت السيدة بعد ذلك كاتب ابن دواس وقالت له: قد تقدمنا إلى سيف الدولة بما عرفته وبما اعتمد التخفيف فيما أطعمه أو وقف فيه دون الغاية التي نريدها وينبغي لك أن تعمل أنت تذكرة بجميع ما يستوفي فيه شروط المنزلة التي قدمناه إليها والحال التي أهلناه لها وتستظهر له لا عليه في ذلك وتحضرها لنقف عليها وننجز ما فيها. فقبل الأرض وقال: السمع والطاعة. فقالت له واكتب أيضا رقعةً واذكر فيها مبلغ جاريك لنوقع بإضعافه وقد أمرنا عاجلاً باعطائك ألف دينار وعشرين قطعةً ثياباً وبغلين بمركبين. فأعاد الشكر والدعاء وصار إلى ابن دواس فأعلمه ما خوطب به وعومل به من حسن الاعتقاد فيه فتضاعف سروره بذلك ووافقه على ما كتب به التذكرة من الثياب والسيوف المحلاة والمناطق المرصعة والدواب والمراكب الذهب الثقيلة وغير ذلك من أسباب التشريفات الزائدة وعاد الكاتب بها فعرضها وتقدم باعداد جميع ما فيها وكتب له العهد. وأحضر ابن دواس وبنو عمه وكاتبه وامتلأ القصر بالخاصة والعامة وخرج معضاد الخادم وكان قريبا من السيدة وهو أستاذ الظاهر فحمل ابن دواس إلى الخزانة حتى يشاهد ما أعد له وكان عظيما جليلا وقال له: السيدة تقول لك إن أردت مزيدا فاطلبه فقبل الأرض ودعا وعاد فجلس في صفة على باب الستر ووجوه الدولة بين يديه وكل منهم يتطأطأ له ويعطيه من نفسه كل ما يتقرب إليه به. فلما تعالى النهار خرج نسيم الصقلبي صاحب الستر والسيف وبين يديه مائة رجل تعرف بالسعدية يختصون بركاب السلطان ويحملون سيوفا محلاة بين يديه ويعرفون لأجلها بأصحاب سيوف الحلي وقد جرت عادتهم في أيام الحاكم بأن يتولوا قتل من يؤمر بقتله. وقال لابن دواس: أمير المؤمنين يسلم عليك. فقام وقبل الأرض وفعل الناس مثل ما فعله وقال: قد جعل هؤلاء القوم يعني أصحاب السيوف برسمك إكراما لك وتنويها بك. فقبل الأرض ثلاثا ومرغ خديه ودعا هو والحاضرون للظاهر بما يدعى لمثله به ووقف القوم قياما بين يديه. فعاد نسيم فألقى ما جرى فرسمت له السيدة أن يخرج ويضبط أبواب القصر بالخدم والصقالبة ففعل. وقالت له بعد ذلك اخرج وقف بين يدي ابن دواس وقل: يا عبيد مولانا أمير المؤمنين يقول لكم هذا قاتل مولانا الحاكم. واعله بالسيف وأمر العبيد السعدية بأن يقتلوه. فخرج نسيم ومعه جماعة من الصقالبة وفعل ما أمر به وأخذ رأس ابن دواس ودخل به إلى حضرة السيدة فوضعه بين يديها. فأمرته بإيفاد الصقالبة إلى دوره والتوكيل به والقبض على جميع أسبابه وقتل كاتبه وإخراج جثته ورميها على باب القصر ففعل جميع ذلك. ولم يعترض فيه معترض وتفرق الناس. وأحضر موجود ابن دواس فوجدت في بعض صناديقه السكين التي كان يحملها الحاكم في كمه أخذت عند قتله. وأقامت جثة ابن دواس ثلاثة أيام ومناد ينادي عليها: هذا جزاء من غدر بمواليه ثم دفع إلى عبيده فدفنوه. وقبضت السيدة بعد هذا على خطير الملك عمار بن محمد. وكان يتولى ديوان الإنشاء وإليه زم المشارقة والأتراك وهو الواسطة بين الحضرة وبين هذه الطوائف ثم خلع عليه في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وأربعمائة ووقع عن حضرة أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله على ما يوقع عليه الحاكم فجعل توقيعه: الحمد لله رب العالمين ثم قام بعد الحاكم بالبيعة لأمير المؤمنين الظاهر كما تقدم. فيها خلع عليه للوساطة وكتب سجله بذلك وزال أمره في ذي القعدة من السنة المذكورة فكانت مدة سبعة أشهر وأياما وقتل في الحج. وولى بعده بدر الدولة أبو الفتوح موسى بن الحسن وكان يتولى الشرطة السفلى ثم خلع عليه أولا بالصعيد في جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة ثم ولى ديوان الإنشاء عوضا عن ابن خيران وخلع عليه للوساطة في محرم سنة ثلاث عشرة عوضا عن خطير الملك. سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ثم قبض عليه في العشرين من شوال منها في القصر فاعتقل وزال أمره وكانت مدة وساطته تسعة أشهر. ثم أخرج في يومه مسحوبا وسجن ثم أخرج من الغد وقتل في الفج فوجد له من العين ستمائة وعشرون ألف دينار. وقتلت السيدة جماعة ممن كان اطلع على سرها في قتل الحاكم وعظمت هيبتها في نفوس الأباعد والأقارب. وفي سنة ثمان عشرة شرب الظاهر الخمر وترخص فيه للناس وفي سماع الغناء وشرب الفقاع وأكل الملوخية وسائر أصناف السمك فأقبل الناس على اللهو. وكان قد ولى حلب غلام يعرف بأمير الأمراء عزيز الدولة أبي شجاع فاتك الوحيدي غلام منجوتكين في شهر رمضان سنة سبع وأربعمائة وكان أرمنيا دينا عاقلاً فولاه الحاكم بأمر الله حلب وأعمالها ولقبه أمير الأمراء وعزيز الدولة تاج الملة. ودخل حلب يوم الأحد ثاني شهر رمضان منها وتمكن من البلد واستفحل أمره وعظم شأنه فعصى الحاكم ودعا لنفسه على المنبر وضرب السكة باسمه. فمات الحاكم عقب ذلك. فلاطفته السيدة وآنسته وواصلته بما مال إليه من حمل الخلع والخيول بالمراكب في سنة اثنتي عشرة حتى استمالت قلبه. ولم تزل تعمل الحيلة حتى أفسدت عليه غلاماً له يعرف ببدر كان يملك أمره وغلمانه تحت يده وبذلت له العطاء الجزيل على الفتك به ووعدته أن تقيمه مقامه في موضعه. وكان لعزيز الدولة غلام هندي يهواه ويحبه حبا شديدا فاستغواه بدر وقال له: قد عرفت من مولاك ملالاً لك وتغيراً منه فيك واطلعت منه على عزمة في قتلك ودفعته دفعات عنك لأنني لا أشتهي أن يتم مكروه عليك. وتركه مدة ووهب له دنانير وثيابا وأظهر له المحبة وتوصل إلى أن خلابه ثم قال له: إن علم نبأ التعير عزيز الدولة قتلنا وما إشفاقي على نفسي وإنما إشفاقي عليك. فقال له الصبي: فأي شيء أعمل يا مولاي قال: قد عرفت محبتي لك وإن ساعدتني اصطنعتك وأعطيتك وعشنا جميعا في خفض وأمن. قال له: فارسم ما شئت حتى أفعله قال: تحلف لي حتى أقول لك فاستحلفه وخدعه ووافقه على قتل عزيز الدولة. فقال له الصبي كيف أقتله قال: الليلة يشرب وسأزيد في سقيه حتى أسكره فإذا استدعاك على الرسم لغمزه ونام فقم كأنك تهريق ماء فخذ سيفه واضربه حتى تفرغ منه. فقبل الصبي وصيته. وكان عزيز الدولة في الصيد فلما عاد دخل الحمام وخرج منه فأكل ثم انتقل إلى مجلس الشراب وحضر من جرت العادة بحضوره من ندمائه ثم قام في آخر وقت وقد تبين فيه السكر والصبي بين يديه يحمل سيفه حتى وافى إلى مرقده واستلقى على فراشه وأمر الغلام أن يغمزه. فلما مضى هزيل من الليل وثقل عزيز الدولة في النوم وتحقق الصبي ذلك سل السيف وضربه به وكان سيفا ماضيا ففلق رأسه وأتبع الضربة بأخرى فقتله. ودخل بدر وشاهده ميتا فصاح واستدعى غلمان الدولة وأمرهم بقتل الصبي فقتلوه وحوط الخزائن والقلعة. وشاع قتل عزيز الدولة وكان ذلك في ليلة السبت الرابع من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة. وكتب بدر إلى السيدة بقتله فأجابته وأظهرت الوجد على عزيز الدولة وشكرت بدراً على ما كان منه في ضبط الأمر وحراسة الخزائن ولقبته وفي الدولة وقلدته موضع مولاه ووهبت له جميع ما حازه. وكان سديد الدولة علي بن أحمد الضيف ناظرا بالشام فتلطف ببدر غلام عزيز الدولة حتى تسلم البلد منه والقلعة وولاها أصحاب الظاهر. وسبب ذلك أن كتابا وصل إليه من الظاهر بخطه يطيب نفسه وأظهر هذا الكتاب في حلب في أيام الملك رضوان أخذه من بعض أهلها وكان في ورق إبريسم أسم عريض فيه ثلاثون سطرا بخط وسط. وكان صدر الكتاب: عرض بحضرتنا يا بدر سلمك الله ما كتبت على يد كاتبك ابن مدبر وعرفنا ما قصدته ولم نسىء ظناً بك لقول فيك ولا شناعة ذكر. وقد بعثنا بأحد ثقاتنا إليك وهو علي بن أحمد الضيف ليجدد الأخذ عليك. فلما دخل ابن الضيف على بدر بالكتاب استرسل إليه وطرح القيد في رجليه فقبض عليه وأنزله من القلعة. وأقام بحلب سنة. وسلمها موصوف الخادم إلى أصحاب الظاهر وثقاته. وفي سنة ثمان عشرة وأربعمائة في ذي الحجة والناس يطوفون بالكعبة قصد رجل ديلمي من الباطنية الحجر الأسود فضربه بدبوس فكسره وقتل في الحال وقتل معه جماعة ذكر أنهم كانوا معه وعلى اعتقاده الخبيث. |
12-21-2012, 08:52 PM | #20 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة أربع عشرة وأربعمائة
ولما تسلم بدر مدينة حلب من عزيز الدولة فاتك بقي بها سنتين ثم ملكها موصوف الخادم. واستدعى منتخب الدولة أنوشتكين الدزبري من قيسارية فلما كان في الرملة خرج إليه توقيع بولاية فلسطين فدخلها في المحرم سنة أربع عشرة فخافه حسان بن مفرج بن دغفل بن الجراح وجرت له معه وقائع وحروب انتصر فيها الدزبري على حسان وعظم أمره. فسعى إلى به الوزير فقبض عليه بعسقلان. وكان قد ولى الوزارة الأمير شمس الملك المكين الأمين أبو الفتح مسعود بن طاهر الوزان بعد قتل بدر الدولة أبي الفتوح موسى بن الحسن في المحرم سنة أربع عشرة ورد إليه النظر في الرجال والأموال. فجرى له معه نجيب الدولة على رسمه فيما يتولاه من ديوان تنيس ودمياط والجيش الحاكمي ودواوين السيدة ست الملك ولا يكون لشمس الملك في ذلك نظر. وبعث الظاهر رسولا إلى بلاد إفريقية فقدم مدينة المنصورية لأربع بقين من جمادى الأولى ومعه تشريف جليل لشريف الدولة أبي تميم المعز بن باديس وثلاثة أفراس بسروج ثقيلة وخلعة ومنجوقان قد نسجا بالذهب على قصب من الفضة وعشرون بندا مذهبة وسجل لقب فيه بشرف الدولة وعضدها. فتلقاه شرف الدولة وقرئ السجل بجامع القيروان. وأهل جمادى الآخرة سنة أربع عشرة وأربعمائة بيوم الثلاثاء ففيه خلع على أبي الفرج بن مالك بن سعيد ثوب وعمامة مذهبان ورداء محشى مذهب وحمل على بغلة بسرج ولجام محلى وقلد قضاء تنيس وسار إليها. وخلع على أحد أولاد ابن جراح ثوب مثقف مذهب وعمامة طائرة وحمل على فرسين بسرجين ولجامين مذهبين. وفي غده ركب الظاهر إلى نواحي القصور وعاد. وفي ثالثه وصلت نحو المائة رأس من جهة ابن البازيار وشهرت. وهلك محمد بن عبد الله بن المدبر بأخذ الخطير عمار في القصر. وفي رابعه وكل بدكاكين الرواسين في جميع الأسواق وأخذ ما فيها من الرؤوس وكان قد طلب خمسمائة رأس وألف رطل رقاقا. وفي سادسه جلس الظاهر للسلام ودخل الناس على رسومهم وانصرفوا. وفي ثامنه جمع الناس كافةً إلى صحن الإيوان بالقصر وخرج رفق الخادم ومعه منشور وسجل فسلم المنشور إلى أبي طالب علي بن عبد السميع العباسي الخطيب فرقى المنبر وقرأه على الكافة. فتضمن أن جماعة من أوغاد الأرياف يرتكبون الجرائم ويحتمون بأهل الدولة من الولاة. فنهوا عن حمايتهم. فلما فرغ من قراءته استدعى أبو عبد الله محمد بن علي بن ابراهيم النرسي نقيب الطالبيين إلى الخزانة الخاصة فخلع عليه ثوب دبيقي مذهب مصفف بأطواق ومن تحته ثوب مصمت مذهب وغلالة مذهبة وعلى رأسه عمامة شرب مذهبة. وخرج وفي يده سجل وفي تاسعه ركب الظاهر في عساكره إلى عين شمس وعاد. وفي يوم الجمعة حادي عشره كان نوروز القبط وانتهت زيادة النيل فيه إلى أربعة عشر ذراعا وأصبع واحد. وفيه خطب بجامع راشدة على منبره خطبتان في وقت واحد. وذلك أن أبا طالب علي ابن عبد السميع خطب بهذا الجامع بعد سفر العفيف البخاري إلى الشام بأمر قاضي القضاة فسعى ابن عصفورة ببعض الخدام حتى خرج له الأمر بأن يخطب فخطبا معاً أحدهما دون الآخر. ثم استقر أبو طالب في الخطاب وأن يخلفه ابن عصفورة. وفي ثالث عشره ركب الظاهر لفتح الخليج وسد البلد إلى الصناعة فطرح بين يديه عشارى. ثم سار على شارع الحمر إلى سد الخليج ففتح بين يديه ولعبت العشاريات فيه وكان يوما حسنا. وكان عليه وقت نزوله إلى مصر قميص طميم مذهب وعلى رأسه شاشية مرصعة وعاد وعليه ثياب بيض دبيقية مذهبة وعمامة شرب مسكى مذهبة. وفي ثاني عشريه وصلت هدية من المحدث بأسوان وهي عشرون فرسا وثمانون بختيا وعدة عبيد وإماء سودان وفهد وغنم نوبية وطيور ونسانس وأنياب فيلة. وفي ثلاثة أيام آخرها سلخه انصرف ماء النيل انصرافاً فاحشا ولم ترو منه الضياع وكثر ضجيج الناس واستغاثتهم وخرج أكثرهم بالمصاحف منشورةً إلى الجبل يدعون الله فلم يغاثوا. وتعذر وجود الخبز وازدحم الناس على شراء الغلال ووقف سعر التليس على دينار إلا أنه لا يوجد إذا طلب وأبيع سراً التليس القمح بدينارين والحملة الدقيق بدينارين وربع والخبز أربعة أرطال بدرهم وثمن الحمل الدقيق بعشرين درهماً وأهل شهر رجب بيوم الأربعاء. وفي ثالثه توجه أبو القاسم بن رزق البغدادي في الرسالة إلى الحجاز. وفي خامسه خلع على داوود بن يعقوب الكتامي ثوب مثقل وعمامة وقلد الحسبة والأسواق والسواحل فنزل في موكب عظيم وبين يديه اثنتا عشرة نجيبة تحيط به إلى مجلس الحسبة بمصر فنظر في الأسعار عوضا عن ابن غرة فاستقامت الأحوال. وقلد ذو القرنين أبو المطاع بن الحسن بن حمدان الإسكندرية وأعمالها غربا وأمر ولده فاضل ولقب عظيم الدولة واستقر عوضه والي البلد. وفيه قرىء بالإشراق سجل برفع المناكر وترك التظاهر بشيء منها وألا يخرج النساء من بعد العصر إلى الطرقات بالقرافة وأن تنزه هذه الأشهر الشريفة عن المناكير وألا يجتمع الناس كما كانوا يجتمعون بالجزيرة والجيزة وبالقرافة على شيء منها ومن المحظورات وأن يمنع الغناء ظاهرا إلا بالقضيب فإنه مباح. وفي ثامن قلد محمد بن عبد الله بن مدبر ديوان الخراج شركةً. وركب الظاهر إلى مسجد تبر وعاد. وفي غده تعذر وجود الخبز وأمر ببله في الماء في القصارى قيل وبيع ثلاثة أرطال بدرهم ثم وجد. وفتحت مخازن جماعة من أهل الدولة. سنة خمس عشرة وأربعمائة أهل المحرم بيوم السبت. وفي تاسعه أخذ رجل يقال له أبو زكريا كان نصرانيا فأسلم وكتب الحديث وقرأ القرآن وحج ثم ارتد إلى النصرانية وقال: ما عمل فيّ سحر نبيكم فضرب عنقه بعد ما ثبت عليه هذا. وفي ثالث عشره أخذ كتابي يعرف بأحمد بن طاطوا وعليه أثر السفر فزعم أنه ورد من الكوفة وأنه كان مع الحاكم بأمر الله أرسله إلى الناس لينتهوا عما هم عليه فضرب عنقه. ولسبع عشرة بقيت منه سار أبو القاسم بن رزق البغدادي إلى صقلية بسجل وهدية فيها مغنيات من القصر. وفيه ركب الظاهر إلى نواحي عين شمس وعليه ثوب بنكي أحمر معلم مذهب على رأسه عمامة شرب بنكي مذهب وعاد. ولعشر بقين منه امتنع شمس الملك الأمين المكين أبو الفتح مسعود بن طاهر الوزان من النظر في الوساطة حنقا من الشريفين العجميين. لأنهما يتوليان الأمر دونه ومكاتبة أعمال الشام وغيره وقراءة التخريج وعرض كتب البريد وكتب المطلقات وأقام في داره ثلاثة أيام. فاستدعاه الظاهر وأمره بالعود إلى خدمته فعاد إلى النظر وجلس على رسمه على باب الذهب يأمر وينهي. ولخمس بقين منه كان ثالث فصح النصارى فاجتمع بقنطرة المقس من النصارى والمسلمين في الخيام المنصوبة وغيرها خلق كثير طول نهارهم في لهو وتهتك قبيح واختلط الرجال بالنساء وهم يعاقرون الخمر حتى حملت النساء في قفاف الحمالين من شدة السكر فكان المنكر شديدا في هذا اليوم. وركب الظاهر في موكب إلى المقس بعمامة شرب مفوطة بسواد وثوب دبيقي مدير بسواد فدار هناك طويلا وعاد. ولثلاث بقين منه ورد من أهل الريف زيادة على خمسة آلاف رجل فارين من عدة الدولة وعمادها رفق الخادم متولى السيارة بأسفل الأرض لعسفه. وقدم الخبر باجتماع العرب الهلاليين والكلابيين وبني قرة وجهينة على الخارجي بالصعيد وبعث حيدرة بن نقيايان متولى الصعيد يطلب عسكرا فسير إليه خلق من العبيد والباطلية والبرقية وغيرهم. وأهل صفر وأوله الاثنين. في ثلاث قدم الحاج وفيه خلائق من أهل خراسان معهم أمتعة ورسول صاحب خراسان بهدية إلى الظاهر فأكرم وأنزل. وكان من خبرهم أن حاج خراسان تأخر عن الحج في سنتي عشرة وإحدى عشرة فاستغاث الناس بالسلطان يمين الدولة أبي القاسم محمود بن سبكتكين فتقدم إلى قاضي مملكته أبي محمد الناصحي في الحج ونادى بذلك في أعمال خراسان وأطلق للعريان ثلاثين ألف دينار سوى ما سيره للصدقات فساروا وحجوا وعادوا سالمين. ثم حجوا بعد ذلك في سنة أربع عشرة ومنهم أبو علي الحسن بن محمد المعروف بحسنك صاحب عين الدولة والخصيص به وفي مهمته ما يدفع إلى العرب في طريق مكة وغيرها من رسومهم فدفع كل من استضعفه ووعد من قوي جانبه وخيفت أذيته بإزاحة علتهم عند مرجعه واحتج عليهم بالوقت وضيقه وخيفة الفوت فأخروا مطالبته. فلما قضي الحج وعاد ممن معه إلى المدينة النبوية اجتمع هو وأبو الحسن محمد بن الحسن الأقساسي العلوي أمير الحاج البغدادي وعدة من وجوه الناس للنظر في أمر العرب فاستقر رأيهم على السير إلى الرملة من وادي القرى والمضي على الشام إلى بغداد. فساروا إلى الرملة وقدم الخبر بقدومهم إليها على الظاهر في ثاني عشر صفر وقالوا إنهم في ستين ألف جمل ومائتي ألف إنسان بكتاب بعث به إليه الأقساسي يستأذنه فيه على عبور بلاد الشام. فسر بذلك وكتب إلى جميع ولاة الشام بتلقيهم وإنزالهم وإكرام مقدمهم وعمارة البلاد لهم بالطعام والعلف وإطلاق الصلات للفقهاء والقراء وإقامة الأنزال الكثيرة لحسنك صاحب عين الدولة والتناهي في إكرامه. وتقدم إلى مقدمي عساكر الشام بحفظهم والمسير في صحبتهم وأن يتسلمهم صالح بن مرداس من دمشق ويوصلهم الرحبة ويدفع إلى الأقساسي ألف دينار وعدةً كثيرة من الثياب وإلى حسنك مثل ذلك وقيد إليه فرس بمركب ذهب. فساروا من الرملة موقورين مجبورين شاكرين حتى وصلوا إلى بغداد وعرج حسنك عنها خوفا من الإنكار عليه. فاشتد ما فعله الظاهر على الخليفة القادر بالله وأنكر عودتهم على الشام وصرف الأقساسي عما كان إليه وقبضه وأنكر على حسنك وكتب فيه إلى عين الدولة واستدعى منه الفرس والقماش والخلع الواصلة إلى حسنك لتحرق ببغداد فبعث بها في جمادى الآخرة سنة ست عشرة فأحرقت بمحضر من الناس وسبك الذهب وفرق على الفقراء وغنم الظاهر حسن الثناء عليه من حاج خراسان وما وراء النهر لما كان من إحسانه إليهم وزيارتهم بيت المقدس. وفي ثاني عشره وافى عماد الدولة رفق من السيارة بعدة عظيمة وثلاثمائة رأس من الخيل والبغال فإنه أخذ كل فرس وجده وبين يديه سبعون بنداً مذهبة وعشرون منجوقاً فتلقاه جميع أهل الدولة. وكانت عدة من قتله في هذه السفرة وهي خمسة وثلاثون يوما مائتين وثلاثة أنفس. وقدم زين الملك إبراهيم بن علي بن مسعود مصروفا عن مدينة منور فتلقى وأكرم. وفي سادس عشره ركب الظاهر إلى ناحية عين شمس وعاد. وقدم الخبر من حسن بن جعفر الحسني أنه أقام الدعوة للظاهر بعرفات وغيرها ومنع أهل خراسان من الدعوة لصاحبهم. ولثلاث عشرة بقيت منه ركب الظاهر إلى المشتهى ودخل حمام نجاح الطولوني ثم ركب العشاريات في النيل إلى المعتوق بالكوم الأحمر وقطع له الجسر حتى عبره ثم عاد إلى القصر. وفي يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت منه جمع الناس كافة إلى الإيوان بالقصر فلما اجتمع الناس في صحن الإيوان خرج القائد أبو الفوارس معضاد الخادم الأسود وعليه ثوب طميم حسن وعلى رأسه عمامة شرب طائرة كثيرا بالذهب محرق اللون ومعه سجل قرىء على العامة والخاصة بتلقيبه بالقائد عز الدولة وسنانها أبي الفوارس معضاد الظاهري وأن أمير المؤمنين لقبه وكناه وهو سجل بليغ. ثم حمل بعد قراءته على أربعة من الخيل بسروج مصفحة ثقال وعليه سيف ذهب تقلد به وخرج جميع المصطنعة وسائر القواد والناس معه إلى داره فكان يوما حسنا. وفيه ورد الخبر بأن الثائر الذي قام بالصعيد الأعلى أنزل حيدرة بن نقيايان حتى حصل في يده وكان شريفاً حسنيا فأقر أنه قتل الحاكم بأمر الله في جملة أربعة أنفس تفرقوا في البلاد فمنهم من مضى إلى برقة ومنهم من مضى إلى العراق وأنه أظهر له قطعة من جلد رأسه وقطعة من الفوطة التي كانت عليه. فقال له حيدرة ولم قتلته فقال: غرت لله وللإسلام فقال: وكيف قتلته فأخرج سكينا فضرب بها فؤاد نفسه فمات بعدما قال هكذا قتلته. فقطع حيدرة رأسه وأنفذه إلى الحضرة مع ما وجده معه. وقدم الخبر بوقوع الحرب بين بني قرة ببرقة. ولعشر بقين منه جلس الظاهر في قصر الذهب بعد أن زين وبسط وعلقت فيه الستائر الديباج والستور المذهبة وعلق جميع السقائف كلها بالستور وفرشت بالفروش. وحضر أمراء الأتراك وقد لبسوا أفخر ثياب من المثقل والطميم وحضر جميع الكتاميين وسائر الجند ودخل الناس أجمعون ووقف شمس الملك مسعود بن طاهر الوزان على يمين السرير وبقية الناس وكافة عبيد الدولة قيام فلم يجلس أحد. وجي بالرسول الوارد من خراسان ومعه ابن له صغير فقبل التراب للظاهر ثم أمر أن يطوف به القصر كله فطاف جميع القصور المعمورة وقام الظاهر وانصرف الناس. ولثمان بقين منه أهدى هذا الرسول إلى الحضرة المطهرة نحو خمس عشرة ناقة محملة ورقاً طلحا وإهليلجا وغير ذلك فقبل منه. ولسبع بقين منه تسلم ديوان الكتاميين من الأمير شمس الملك مسعود بن طاهر الوزان ورد النظر فيه إلى القائد عز الدولة معضاد فاستخدم في تدبير أمواله أبا اليسر اصطخر بن مينا الأسيوطي شركةً بينه وبين صدقة بن يوسف الفلاحي اليهودي الوافد ونظر هو في أمر رجاله وفي التوقيع في أيامهم. ثم بعد أيام أخذ من شمس الملك بعض إقطاعه وقبض منه ورد إلى يمين الدولة سعادة وبقيت في يده بقية الأعمال. وفي هذا الشهر سار ذو القرنين ابن حمدان إلى دمشق. شهر ربيع الأول أوله الثلاثاء. في خامسه وصلت هدية والي الفيوم وهي مائة وخمسون فرسا بأجلة. وفي سادسه خرج الأمر لابن خالد الغرابيلي متولى ديوان البريد بأن يسلم إلى صاحب ديوان الشام جميع ما يرد من حساب الشام ورفعت يد شمس الملك عنه. ورسم أن يكون الشيخ العميد محسن بن بدواس زماماً على أبي عبد الله محمد بن أحمد الجرجرائي في ديوان الشام مفرداً عن نظر شمس الملك كما أفرد ديوان الكتاميين عن نظره. فصارت هذه العصبة منفردة بمعضاد في التدبير والتقرير وهم الشريفان العجميان والجرجرائيان عصب الدولة أبو القاسم علي بن أحمد وأخوه أبو عبد الله محمد بن أحمد ومحسن بن بدواس وابن خيران. وفي رابع عشره خلع على جناح بن يزيد الكتامي وحمل على فرسين وقلد طبرية. وفي سابع عشره ركب الظاهر وعاد. وفي هذا الشهر اشتد غلاء القمح وبيع التليس بثلاثة دنانير والشعير بأربع ويبات بدينار والخبز رطلين ونصفا بدرهم. وعز وجود التبن فأبيع الحمل بدينار وغلت أصناف الحبوب وعامة ما يؤكل. ولم ير النيل فيما تقدم من السنين أقل نقصانا منه في هذه السنة. وفي ثالث عشريه ركب الظاهر إلى مسجد تبر وعاد. وفيه نزل القائد الأجل معضاد والشيخ العميد أبو القاسم الجرجرائي ومحسن بن بدواس صاحب بيت المال إلى مصر فأثبتوا تركة بنت أبي عبد الله بن نصر امرأة أبي جعفر بن قائد القواد الحسين بن جوهر فوجد فيها وبرادات مكللة بالجوهر وأمر جليل من المال والجوهر لأن للسلطان منها الثلث. وفي هذا الشهر أمر ببناء حظير دائر على مقياس النيل بالجزيرة ووكل به الشريف أبو طالب محمد بن العجمي متولى الصناعة فبناه بالحجر الأبيض وأنفق عليه مالا كثيرا. ونقل إليه الحجر من حظير كبير كان مبنيا على الشاطىء بناحية طرا. وفيه دخل كلب إلى الجامع العتيق بمصر فطاف بالجامع بأسره فقام إليه الناس وقتلوه في الصحن فجرى دمه على الحصر فغسلت بعد إخراجه من الجامع. وقد وصلت هدية من بلد النوبة فيها عبيد وإماء وخشب أبنوس وفيلة وزرافات شهر ربيع الآخر أوله الخميس. في رابعه ورد الخبر بأن عبد الله ابن إدريس الجعفري ومعه أحد بني جراح طرق أيلة ونهبها وأخذ منها نحو الثلاثة آلاف دينار وغلالا وسبى النساء والأطفال. وسبب ذلك أنه سأل حسان بن جراح أن يرد إلى ولايته على وادي القرى ورغب أن يتوسط له مع الظاهر فلم يجبه ففعل ما فعل. فخرجت سرية من القاهرة لحربه. وفيه نزل الظاهر إلى البيمارستان متنكرا في عبيده فطافه وأطلق لكل من المجانين خمسين درهما وللقيم عليهم خمسمائة درهم ورسم بعمارته وإجراء الماء إليه على رسمه وأن يطبخ للمجانين كل يوم ما يأكلونه بعد أدويتهم. وفي ثامنه قدم الخبر بنهب عبد الله بن إدريس بلد العريش وإحراقه وأخذ جميع ما كان فيه بمعاونة بعض أولاد ابن جراح. وفيه اجتمع في قافلة المغرب خلق من التجار ومعهم من الأموال قريب من مائتي ألف دينار بالجيزة فأنذروا بطائفة من العبيد والجوالة والقيصرية قد تجمعوا لنهبهم فبعث معهم نحو ثلثمائة فارس وأربعمائة راجل وساروا إلى المغرب. وفي ثامن عشره جلس الظاهر للناس في المجلس الذي كان يجلس فيه أبوه بقصر الذهب ودخل الناس إليه من باب العيد على طبقاتهم. ودخل ناصر الدولة حسين بن الحسن ابن حمدان متولى طرابلس وقد صرف عنها فتلقى بالبنود وعدتها أربعون بنداً ملونة وخمس بنود مذهبة وعدة من الطبول فقبل التراب ثم قبل يد الظاهر هو والشريف الحسني ابن موسى المقيم بدمشق ووقفا فأمرا بالجلوس على يسار القائد معضاد فجلسا. ثم انقضى السلام وانصرف الناس. فلما كان وسط النهار نزلت طائفة من جواري القصر في طائفة من الخدم إلى دار الجوهر ودار الصرف ودار الأنماط فابتاعوا ما أحبوا وعادوا. ولسبع بقين منه ركب الظاهر بغير مظلة في عساكره ومراكبه إلى مسجد تبر وعاد ثم نزل عقب ذلك مختفيا إلى الجزيرة والبساتين. وركب من الغد في العشاريات إلى الجيزة وما والاها وعاد. وفي عشية السبت لست بقين منه غرق حدث في النيل فطرده الماء إلى الشط وأراد أهله حمله فمنعهم أصحاب الشريف أبي طالب العجمي متولى الصناعة من ذلك وطالبوهم عنه بدينارين وقيراطين واجب الصناعة من حق من غرق في النيل فدفع إليهم ذلك وحمل الرجل حتى غسل ودفن في يوم الأربعاء. ولليلتين بقيتا منه جلس الظاهر في قصر أبيه بباب الذهب على سريره المصقول المذهب وعليه ثوب دبيقي معلم وعمامة شرب مثقل مذهبة وتحته فرش دبيقي مذهب ودخل الناس من باب العيد فسلموا وجلس من عادته الجلوس ساعة ثم انصرفوا. وفي هذا الشهر ارتفع السعر من أجل أن المراكب الواصلة بالقمح أخذت كلها ورفعت إلى القصر من المقس. وفيه طاف العامة والسوقة أسواق مصر بالطبول والأبواق يجمعون من التجار والباعة ما ينفقونه في مضيهم إلى سجن يوسف فقيل لهم شغلنا بعدم الأقوات يمنعنا عن هذا. فأنهوا حالهم إلى الظاهر فرسم لشافي الدولة أبي طاهر بن كافي متولي الشرطة السفلى بتقرير الرسم على التجار حتى يدفعوا إلى العامة ما جرت به رسومهم وأذن لهم في الخروج إلى سجن يوسف ووعدوا أن يطلق لهم الظاهر ضعف ما أطلق لهم في السنة الماضية من الهبة فخرجوا. شهر جمادى الأولى أوله الجمعة. فيه ركب الظاهر مبكرا مع حرمه وخدمه إلى المشتهى فأقام يومه. وفي ثالثه ركب بعساكره إلى عين شمس وعاد. وكان الشريف أبو طالب بن العجمي صاحب الصناعة قد تنكر على ابن أبي الرداد وأهانه وتقابحا في الخطاب فضربه الشريف واعتقله. فأقام قاضي القضاة أبو العباس أحمد بن أبي العوام مشارفين على ابن أبي الرداد لسؤاله القاضي في ذلك وهما أبو الحسن سليمان بن رستم والخليل بن أحمد بن خليل لينهيا إليه ما يصح من أمر المقياس فوجدا مجاري الماء مسددة ووجدا ابن الرداد يتناول في كل سنة خمسين ديناراً لكنس المجاري ووجدا الماء قد انتهى إلى حد فلما فتحت المجاري طلع الماء إلى حد أكثر من الحد الذي كان عليه وفي رابعه نزل صقلبي من صقالبة القصر بمنشور معظم إلى قاضي القضاة وهو بالجامع العتيق فأمره بقراءته على المنبر فأراد أبو طالب علي بن عبد السميع العباسي أن يتولى قراءته دون أخيه أبي جعفر وهو الأكبر وقد صرف عن قراءة السجلات وليس له إلا خطابة الجامع العتيق. فقال له أبو جعفر: ويحك: ما تحتشم مني لسني ولأنني أخوك الأكبر ولأنني هرعت لمولانا الحاكم بأمر الله قدس الله روحه وقدهم بضرب عنقك حتى خلصتك من القتل وضمنت له عنك التوبة والإنابة!! فدفع القاضي السجل إلى أبي جعفر فقرأه فوق المنبر على كافة الناس. ومضمونه أنه انتهى إلى أمير المؤمنين أن المستخدمين في الصناعة يعتمدون تعويق من ينزل البحر من الناس ويمنعون القوارب من إنقاذ من يلتمس الخلاص منهم ليأخذوا على ذلك واجباً قد أقامه متولى الصناعة محمد الحسيني العجمي على كل غريق دينارين ونصفا وأن ذلك لما أنهى إلى حضرة أمير المؤمنين أنكره وأكبره ومنع من أخذ درهم واحد فما فوقه عما هذا سببه والمنع منه. فكثر الدعاء للظاهر. وفي ثامنه ركب الظاهر في خاصته وخدمه إلى الرميلة بظاهر المقس فطاف طويلا ثم عاد. وفي تاسعه ركب القائد الأجل عز الدولة ومصطفاها معضاد الخادم الأسود في جميع الأتراك ووجوه القواد وشق مدينة مصر إلى الصناعة ثم خرج منها وعدى بمن معه إلى الجيزة حتى رتب للظاهر عسكرا يقيم معه هناك وأخذ في يوم الاثنين حادي عشره أربع عشاريات وأربعة عشر بغلا من بغال النقل ومعه خاصته وحرمه إلى سجن يوسف. وعاد منه يوم الأربعاء وأقام أهل الأسواق نحو الأسبوعين يطوفون الشوارع بالخيال والسماجات والتماثيل ويطلعون إلى القاهرة بذلك يرسم أمير المؤمنين ويعودون ومعهم سجل قد كتب لهم بألا يعارض أحد منهم في ذهابه وعودته. ولم يزالوا على ذلك إلى أن تكامل جميعهم. وكان دخولهم من سجن يوسف في سادس عشره فشقوا الشارع بالخيال والسماجات والتماثيل وتعطل الناس في ذلك اليوم عن أشغالهم ومعايشهم واجتمع خلق لنظرهم. وظل الناس أكثر هذا اليوم على ذلك وأطلق لهم ثمانية آلاف درهم وكانوا في اثني عشر سوقا. وفي عشريه قتل طائفة من القيصرية غلاما من الأتراك فركب الأتراك بالسلاح وقاتلوا القيصرية فتكافوا ولم يجسر أحد منهم على الإيقاع بصاحبه. وفي ثاني عشريه ركب الظاهر النيل ومضى إلى بستان السيدة العمة ثم إلى خيمة وردان لأنهم مقيمون في الجزيرة للتنزه هناك. ولم تزل العشاريات تلعب في البحر الليل كله والمسرة متصلة بينهم فقدم في آخر النهار مركب يحمل حطبا من الصعيد فقلب نوتيته وقطع الجسر وغرق مركبان منه وقطع ثلاث قطع وغرق عشاريان بمن فيهما. وفي هذا الشهر كوتب أبو الحارث نقيان بن محمد بن نقيان الخيملي متولى حرب تنيس ودمياط بالمسير إلى حلب ليتسلمها عوضا عن محمد سند الدولة أبي محمد الحسن ابن محمد بن نقيان الكتامي عند وصول هديته إلى الحضرة فسار. وكان من خبر مدينة حلب أن عزيز الدولة فاتكا لما قتل وأقيم من بعده غلامه بدر مكانه ثم قبض عليه علي بن الضيف وأقام بحلب سنة وولى سند الدولة أبو محمد الحسن بن نقيان فنزل صالح بن مرداس الكلابي على حلب ونازلها وقد كره الناس ابن نقيان وموصوفاً الخادم لسوء سيرتهما فسلموا البلد إلى صالح. والتجأ ابن نقيان وموصوف إلى القلعة وتحصنا بها فاستخلف صالح على مدينة حلب أبا منصور سليمان بن طوق ومضى إلى بعلبك فملك قلعتها بعد حرب وقتل جماعة من أصحاب الظاهر. واجتمع هو وحسان بن جراح وإخوته وسنان ابن عليان على فلسطين وتحالفوا على اجتماع كلمتهم ومحاربة الظاهر وتقاسموا البلاد كما سيأتي ذكره إن شاء الله. وأما ابن طوق فإنه حصر قلعة حلب حتى أخذها بمباطنة من أهلها وأمسك ابن نقيان وموصوفا فقتل ابن نقيان في يوم الخميس لثمان بقين من ربيع الآخر من هذه السنة واعتقل موصوفا. فركب أبو الحارث بن نقيان البحر من تنيس إلى طرابلس ودخل حلب يوم الأحد سابع عشري جمادى الأولى هذا وملكها وسمى سابق الدولة أبو طاهر بن كافي متولي الشرطة السفلى بمصر من قبل بدر الدولة بأخذ تنيس ودمياط واستخلف أخاه جلال الدين على الشرطتين العليا والسفلى من قبل بدر الدولة. وفي رابع عشريه ركب الظاهر إلى طرف الخندق وعاد ثم ركب من الغد إلى مسجد تبر وعاد. شهر جمادى الآخرة أوله الأحد. فيه جلس الظاهر للناس للسلام عليه فدخلوا على رسومهم فسلموا وانصرفوا. وفي رابعه ركب إلى مسجد تبر في عساكره وعاد فطلب الببغاء من الطيور فحمل إليهم منها شيء كثير فابتاع ما أحب بأوفر الأثمان. وفي ثامنه جلس للسلام فدخل الناس فسلموا وانصرفوا ثم ركب إلى المشتهى. وركب في ثاني عشره إلى مسجد تبر في مواكبه فلقيه عند سقاية ريدان خادم أسود يقال له عنبر كان مقربا للحاكم بأمر الله كثر كلامه فطردته السيدة فقال: يا أمير المؤمنين خذ لنفسك فوحق ما في هذا المصحف وأخرج مصحفا إن أباك باق وبعد قليل يجيء إلى قصره وقد نصحتك. فقبض عليه واعتقل وقيل إنه اختل عقله. وفيه قرر الشريف الكبير أبو طالب الحسني العجمي القزويني والشيخ نجيب الدولة أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي والشيخ العميد محسن بن بدواس مع القائد الأجل معضاد أن يكون دخولهم على الظاهر الأخير في كل خلوة وأنهم يكفونه أمر الاهتمام بالدولة ليتوفر على لذاته وينفردوا بالتدبير. واستقر أمر الثلاثة على الدخول في كل يوم على الانفراد وألا يستدعي معهم أحد. وصار شمس الملك مسعود بن طاهر الوزان ومظفر صاحب المظلة وولى الدولة ابن خيران وداعي الدعاة ونقيب نقباء الطالبيين وقاضي القضاة ربما دخلوا في كل عشرين يوما مرة وهؤلاء الثلاثة الذين يقضون ويمضون ويشيرون ويفعلون في أمر الدولة ما يرونه مع اجتماعهم بمعضاد دون كل أحد. وفي سابع عشره ركب الظاهر في العساكر ورجال الدولة بأحسن زي وأكمل عدة وركب عبيد الدولة بالآلات والسلاح والطريقة الحسنة والعدة الكاملة. وشق شارع مصر إلى صناعة الجسر وعليه ثوب طميم مثقل وعمامة مذهبة طميم وعلى رأسه مظلة حمراء مثقلة مذهبة فغير ولبس ثوبا دبيقيا أبيض مذهبا وعمامة شرب بيضاء مذهبة وركب فرساً كميتاً وقف عند الصناعة ووجد الجد في طرح مركب حربي جديد فتعذر طرحه فتركه وسار لفتح الخليج. فورد الخبر بأن سيار الضيف متولى سد الخليج أمر بتخفيضه ليقرب أمره عند حضور أمير المؤمنين لفتحه فغلبه الماء وانكسر السد. فلما وصل الظاهر إلى السد وقف بجانبه الشرقي وعبرت العشاريات مزينةً على العادة ولعبت ثم عاد إلى قصره فكان من الأيام المشهودة. وفي تاسع عشره نودي في مدينة مصر بألا يتعرض أحد لذبح شيء من الأبقار بوجه ولا سبب فإن من تعرض لذلك حل دمه وماله لأن الناس عدموا العوامل في هذه السنة وكانوا على عادتهم في ابتياع الفواكه والخمور والحيوانات إلا أن أمرهم في ذلك كان أقل للغلاء وتعذر الأصناف. وضرب فيه بالأجراس في آخر النهار ألا يلعب أحد بالماء ببلد مصر في يوم النوروز ولا في القاهرة. فطلع الجزارون يستغيثون في منعهم من ذبح الأبقار وأن عندهم منها ما ابتاعوه وأنفقوا عليه في علفه حمل الدنانير وليس هو ما يعمل ولا يصلح للزراعة فإن الرأس من البقر يقوم عليهم بمائة دينار وأكثر. وسألوا الإذن في ذبح ما عندهم فأجيبوا إلى ذلك. وذبحوا في هذه الثلاثة الأيام ما لا يحصى كثرة وبيع بطن البقر ولحمه رطلا بدرهم وازدحم الناس في طلبه. فلما كان آخر نهار الثلاثاء رابع عشريه وهو رابع النوروز أحضر المحتسب الجزارين والهراسين ومنعهم من ذبح الأبقار فانقطع بيع لحمها من الأسواق. وفي خامس عشريه ركب الظاهر إلى مسجد تبر في عساكره وعاد. شهر رجب أوله الاثنين. في ثانيه ركب الظاهر إلى نواحي القصور وعليه عمامة ياقوتية مذهبة وثوب دبيقي بياض مذهب بغير مظلة وعاد. وفيه قدم الخبر بأن منتخب الدولة أنوشتكين الدزبري متولى حرب فلسطين أنفذ إلى بيت جبرين إقطاع حسان بن جراح من قبض على أمواله فبعث إلى أعوان الدزبري وأخذهم وضرب أعناقهم. فلما بلغ ذلك الدزبري قبض بالرملة على أبي الغول الحسن بن فيروز صاحب حسان وعلى كاتبه وسجنهما في حصن يافا مقيدين. وفي رابعه زين العامة أسواق البلد وخلقوا وجوه الصبيان ونادوا بوفاء النيل ستة عشرة ذراعا فخلع على ابن أبي الرداد خلعا دبيقية مذهبة ورداءً محشواً مذهبا وعمامة شرب مذهبة وحمل على بغلين بسرجين ولجامين مذهبين أحد السرجين مصفح وأعطى ست عشرة قطعة ثياب وثلاثة آلاف درهم. وبلغ الماء اصبعين من سبعة عشر ذراعا فكان يوما حسنا كثر فيه سرور الناس. وفيه خلع على بقي الخادم الأسود غلام بدر الدولة نافذ ثوب مثقل طميم وعمامة قاضي مذهبة وسيف ذهب وقلد الشرطتين بمصر وحمل على فرس بسرج ولجام مذهب عوضا عن جلال الدولة ابن كافي. ونزل إلى الشرطة السفلى في جمع كثير فنظر في الحسبة مضافا إلى الشرطتين وأمر أن يباع الخبز الجشكار كل خمسة أرطال بدرهم والحواري أربعة أرطال بدرهم. فغلقت الطواحين والحوانيت جميعها وأصبح البلد يوم الجمعة خامسه على حال صعبة من تعذر الأخبار وعدم الدقيق. فلما كان غداةً يوم السبت سادسه أعيد دواس بن يعقوب الكتامي للحسبة وصرف بقي عن الحسبة والشرطة فأقام يوما واحدا وانصرف. ونودي أن يكون الخبز الذي يباع في الأفران خمسة أرطال بدرهم وتباع بقية الأخباز بغير تسعير فظهرت الأخباز بالأسواق وبيع الخبز السميد رطلين ونصفاً بدرهم وما دونه ثلاثة أرطال بدرهم. وفي عاشره ركب الظاهر إلى نواحي القصور بغير مظلة وعاد. وكانت ليلة النصف من رجب ليلةً مشهودة حضرها الظاهر والسيدات وخدم الخاصة والمصطنعة وغيرهم وسائر العوام والرعايا وكان مجمعا لم يشهد مثله من أيام العزيز بالله. وأوقدت المساجد كلها أحسن وقيد. وفيه ورد الخبر بأن حسان بن جراح خرج عن الطاعة. وكان سبب ذلك أنه فسد ما بينه وبين الدزبري واستوحش كل واحد من الآخر فكتب الدزبري إلى الظاهر يذكر له تغير حسان في خدمته وفساد نيته في طاعته ويستأذنه في حربه فكان ما تقدم ذكره. ثم اتفق أن اعتل حسان علة أشفى منها وكثر الإرجاف به فيها وكتب أصحاب الأخبار بذكرها إلى الظاهر فكاتب الدزبري بقصده وانتهاز الفرصة في أمره فسار إليه وهو بناحية نابلس. فبلغ حسان عن سيره وقد أبل من مرضه فاستنهض أهله وأصحابه وجمع نحواً من ثلاثة آلاف فارس وتلقى الدزبري فعاد إلى الرملة وحسان في إثره فحصره واستدعى رجاله من الجبال والشراة إليه فصار إليه منهم عدد كثير. وقاتله الدزبري على باب الرملة ثلاثة أيام بلياليها بعد ما كبس حسان طبرية ونهبها وقتل من بها وفر منها متوليها مجد الدولة فتاح بن بويه الكتامي إلى عكا. فبلغ حسان عن أخيه ثابت أنه انتهى إلى الدزبري فبعث جريدة كبست حلة ثابت ونهبتها. وفيه أفرد صدقة بن يوسف الفلاحي بالنظر في ديوان الكتاميين. وأقام الظاهر أياما لم يركب ولم يدخل إليه أحد. وفي حادي عشريه ورد الخبر بأن حسان بن جراح اجتمع مع سنان بن عليان بن البنا وانضم إليه سائر إخوته وساروا جميعا بظاهر فلسطين فقابلهم الدزبري كما تقدم إلى أن فارقه ثابت بن جراح ولحق بأخيه حسان. وقدمت نجدة من صالح بن مرداس لحسان فبعث الدزبري يطلب من الظاهر نجدةً بألف فارس وألف راجل فجردت جماعة يسيرة ودفع إلى كل فارس أربعون دينارا فاشتملت الجريدة على ألفي فارس وراجل تولى النفقة فيهم معضاد الخادم والشريف العجمي ونجيب الدولة الجرجرائي. فلم يخرج من الجريدة إلا طائفة يسيرة مضوا إلى العريش وبطل أمر من تجرد بعد ذلك. وسعي بمحسن بن بدواس بأنه كاتب حسان بن جراح يحرضه على الفتنة وكاتب ملك الروم وفي ثاني عشريه ورد الخبر بأن الدزبري غلب عن مقاومة حسان ففر من الرملة آخر الليل في عشرة من الغلمان الأتراك وسار في ليلته إلى قيسارية. وذلك أن حسانا هجم برجاله على بعض حوانيت الرملة وطرح النار ووضع السيف ثم دخل بجموعه بعد فرار الدزبري إلى المدينة فنهبوا الأموال واستباحوا الحرم وقتلوا القتل الذريع. وعندما دخل حسان إلى المدينة ترجل من باب البلد وقبل التراب من باب المدينة إلى دار الإمارة ثم أحضر القاضي وشيوخ فلسطين وأشهدهم أنه عبد الدولة وخادمها وصنيعتها وداخل تحت طاعتها وأنه لا يبدأ أحداً من أهل البلد بسوء وإنما كره مقام الدزبري في الرملة وذكر سوء ما عامله به وأن ذلك أوجب قتاله وأن البلد لأمير المؤمنين يولي فيه من رغب فيه من عبيده فيسمع له ويطيع ويخدمه طاعة لله ولمولانا صلوات الله عليه. وأقام نصر الدين نزال واليا على الرملة وقال هذا عبد أمير المؤمنين وابن عبده يضبط البلد إلى أن يصل أمر أمير المؤمنين. فخلع على القادم بهذا الخبر وكثر السرور به. وفي ثالث عشريه خلع على سني الدولة حمد ابن أخي الباهر وقلد سيارات أسفل الأرض عوضا عن عدة الدولة بقي الخادم الأسود وحمل على فرس بسرج مصفح مغموس وألبس عمامة مذهبة وثوبا طميما. وفي آخره ورد الخبر بأن حسان بن جراح إنما أظهر ما تقدم ذكره حيلةً وخديعة. وذلك أنه أحضر العسكرية بالرملة وقرأ عليهم ملطفا وصل إليه من الحضرة يعتذر إليه فيه ويعلم أن اعتقال أبي الغول وكاتبه لم يكن عن رأي أمير المؤمنين وإنما جرى من الدزبري برأيه. فلما أوقف العسكرية على الملطف قبلوا خط أمير المؤمنين وعرفوه أمرهم أن يسيروا به إلى عسقلان ويوقفوا أهلها عليه فإن كانوا تحت السمع والطاعة لأمر أمير المؤمنين فليسلم الحسن بن سرور الأنصاري الكاتب إلي وإلا سرت إلى عسقلان ونقضتها حجرا حجرا ونهبتها وقتلت أهلها. فمضى العسكرية بالملطف إلى عسقلان وأوقفوا عليه الوالي والعسكر فسلم إليهم أبو الغول ورفيقه. فلما وصلا إلى حسان ركب لوقته وخشب سبعين رجلا من العسكرية وقتل طائفة من الحمدانية وغيرهم ووضع السيف والنهب في الرملة وأضرم النار في الدور والحوانيت حتى جعلها دكاً وسبى النساء والأولاد وقبض على نحرير الوحيدي وأخذ منه أربعين ألف دينار. وأخذ من مبارك الدولة فتح المقيم بالقدس ثلاثين ألف دينار وأخذ جميع ما جمع الدزبري. وأرجف بمصر أن خمسمائة فارس بعثها حسان إلى العريش ثم لم يعلم أين قصدت فخاف الناس أن يطرقهم في القرافة فانتقل أهل القرافة إلى مصر وانتقل جماعة من بلبيس إلى مصر. فسار بديع الصقلبي في الرسالة إلى حسان. وتحرك السعر بمصر واضطربت العامة. وندب مائة فارس من القيصرية للإقامة بالقرافة لحفظ الناس فإن الخوف اشتد حتى لم يطلع أحد إلى القرافة وتحملوا منها فمنعوا من النقلة وأعيدوا إليها. وجرت الأمور في هذه الشهور المباركة على ما كان الرسم جرى به من عمارة المساجد والجوامع وتكثير القناديل والزيت وكثرة الوقيد. وقد دخل الشريف العجمي إلى الظاهر فأظهر أنه يراعي أمر الدولة ويتخوف ما يجري من الفساد فأمر الظاهر بأن يجتمع مع الشيخ نجيب الدولة أبي القاسم الجرجرائي والشيخ العميد محسن بن بدواس صاحب بيت المال وأن يدبر الأمراء بما يراه. فاستدعى المذكورين وقال لابن بدواس: احمل المال الذي عندك لينفق في الرجال. قال: ما عندي إلا يسير ووالله لو طلبتم مني ينارا واحدا ما مكنتكم منه لأنه موفور لخواص مهمات مولانا صلوات الله عليه. فقال الشريف: فتقترض من التجار وتصادر من تجب مصادرته فقال الجرجرائي: وأي مال مع التجار وتجار مصر هلكي من الغلاء لكن إن أردتم المال فمن أم الحاكم بأمر الله قدس الله روحه وعمته وبالجملة فقد أغنى الله مولانا صلوات الله عليه بتوافر أمواله وتراث آبائه الأئمة الطاهرين عما نراه نحن أو نقوله بآرائنا. فأمسك الشريف عن غير رضا. وفيه سير جماعة من المجردين في المراكب الحربية لحفظ حصون الشام إلى تنيس ودمياط شهر شعبان أوله الأربعاء. فيه قدم أحد إخوة حسان بن جراح فتلقى وأكرم وأنزل في دار حسين بن جوهر وحمل إليه الفرش والآلات الفضة ونحو ذلك مما يصلح لمثله وأقيمت له الجراية. وضمن أنه يخرج من العسكر إلى الرملة فخلع عليه وحمل على فرسين وقلد بسيف ومنطقه ذهب. وفي خامسه جلس الظاهر في قصره للسلام ودخل الناس. فقال الكتاميون: يا مولانا صلوات الله عليك بلغنا شغل قلب مولانا بأمر ابن جراح ومن هذا الكلب حتى يشغل قلب مولانا صلوات الله عليه به وما مقداره! والله يا مولانا إن لك من العبيد ما لو أطلق مولانا سبيلهم عليه لقلعوه شعرة شعرة من عبيدك الكتاميين وعبيدك القيصرية والعبيد والباطلية والأتراك وسائر العرائف والقبائل. غير أننا قد هلكنا والله يا مولانا فقرا وجوعا وليس لواحد منا مال يرجع إليه ولو كانت لنا أموال لكفينا هذا الأمر وغيره. فقال لهم: نسيم صاحب الستر: حسبكم يا شيوخ حسبكم! فأمسكوا ولم يكن من الظاهر جواب. وفيه ورد الخبر بأن حسان بن جراح كتب إلى صالح بن مرداس يستدنيه ليقع الاجتماع على ما يدبران أمرهما فسار صالح ونزل على حلب ونازلها وأخذها كما تقدم وأخذ بعلبك وعظم أمره. واجتمع هو وصمصام الدولة سنان بن عليان بن البنا على حسان بفلسطين وتحالفوا على اجتماع الكلمة وأن يكونوا يداً واحدة على صاحب مصر وقسموا البلاد بينهم فصار لحسان الرملة إلى باب مصر ولمحمود أخيه طبرية وما يتصل بها من الساحل ولسان بن عليان دمشق وسوادها ولصالح ما بقى من الشام إلى عانة. فاجتمع سنان مع صالح ومعهما حشود العرب وحصروا دمشق ونهبوا الغوطة وسائر السواد وقتلوا فلاحي الضياع وانتهبوا أموالها وألحوا في قتال أهل دمشق. فاجتمع الناس بدمشق إلى ذي القرنين ابن حمدان متوليها وقرروا أن يكون القتال يوما يكون أمره إليهم ويوما يقاتل فيه عسكر السلطان. فاتصلت الحرب كل يوم وقتل من العسكر ومن أهل دمشق ومن العرب خلائق. ونهبت مواشي الناس من الضياع وغلاتهم وأموالهم فأخذ لمعتمد الدولة. من ضياعه عشرة آلاف غرارة من القمح. وبعث حسان نجدة من رجاله إلى سنان وكان الشام بأسره قد اضطربت أحواله. وتغلبت العربان على البلاد ونهبوا عامة أموال أهلها. وفيه قدم صاعد بن مسعود عامل الصعيد الأعلى باستدعاء فغدا في سادسه شريكا لصدقة الفلاحي في ديوان الكتاميين. وفي ثامنه قدم الخبر من دمشق بأن سنان بن عليان بن البنا لما وصلت إليه سرية حسان ابن جارح وهي نحو الثلاثة آلاف فارس طلب من أهل دمشق ثلاثين ألف دينار يقومون له بها معجلة ومؤجلة فمنعهم القاضي الشريف فخر الدولة أبو يعلى حمزة ابن الحسن بن العباس بن الحسن بن أبي الجن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن إسماعيل ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ورأى أن يجمع ذلك وينفقه في قتال العرب فوافقوه على ذلك وحلف الناس. وهدم دروب البلد وحملها إلى الجامع حتى لا يمتنع أهل البلد بالدروب ويخلوا بين العسكر والعرب. ورجف بالناس فاشتد القتال بينهم وبين العرب وقتل من العرب نحو المائتي فارس وأصيب سنان بسهم فطلب من الناس الصلح على ترك الحرب أربعين يوما. فلما تقرر ذلك خرج إليه الشريف ابن أبي الجن وشيوخ دمشق ووجوه الجند وحلفوا سنانا ووجوه العرب فاستقر الأمر بينهم على هذا. وورد الخبر بأني بني قرة أقاموا إنسانا دعوه بأمير المؤمنين ببرقة وحملوا على رأسه المظلة. وفيه ظهر في النيل بأعمال أسفل الأرض فرس البحر. وفيه ورد الخبر بأن التجريدة التي توجهت إلى تنيس طلبوا أرزاقهم وضيقوا على العامل ففر منهم إلى دمياط فعاثوا في البلد وأفسدوا وقطعوا من يد عامل السلطان خمسة وعشرين قطعة وأخذوا من المودع ألفا وخمسمائة دينار. فخرج إليهم عنبر الزمام في خمسين فارسا من عرفائهم للقبض على الجناة وتأديبهم واسترجاع ما أخذوه. وقدم الخبر بأن حسان بن الجراح كتب إلى سنان يوبخه على ما فعل ويحثه على معاودة الحرب ويعده بالمدد فعاد إلى قتال أهل دمشق بعد ما كان قد انصرف عنها. فإن حسانا بعد ما نهب الرملة وحمل منها أربعمائة جمل موقرة مالاً وثياباً ومصاغا وغير ذلك بعثها إلى حلله وأضرم النار في شوارعها وكسر الأمتعة حتى كان الناس يمشون في بحار من الصابون والزيت في أسواق مدينة الرملة ثم وصل كتابه يسأل فيه إضافة القدس ونابلس إلى إقطاعه مصانعةً له على الكف عن القتال وأن ينفذ إلى أبي الغول ثياب من ثياب الظاهر التي يلبسها وشاشية من شواشيه. فأنفذ إليه ذلك وأجيب إلى إقطاع نابلس مضافا إلى إقطاعه ولم يجب إلى القدس. وفي يوم السبت ثامن عشره دخل نسيم صاحب الستر بطائفة من الصقالبة إلى بيت المال والشيخ العميد محسن بن بدواس جالس وبين يديه حسباناته فقال له: اجمع يا شيخ هذه القراطيس واختمها. فجمعها وختمها بخاتمه ثم أقامه وختم الخزائن وأخرجه راجلاً فاعتقله بحجرة من القصر. وركب رفق فختم بيت المال والخزانة الخاصة ودار ابن بدواس وسائر ما يتعلق به. فلما كان العشاء أخرج ابن بدواس فضربت عنقه وهو يصيح: والله ما خنت ولا سرقت ولا غششت وهذه منصوبة نصبت علي. وقيل إنه وجد عنده خط حسان بن جراح وخطه عند حسان يحثه على الإيقاع بالدولة. وقيل إن هذا صنع عليه من أعمال الشريف العجمي. وقيل في سبب قتله معاندته لمعضاد وعدوله عنه إلى رفق الخادم وأنه كان استشار خليل الدولة محمد بن علي بن العداس صديقه لما عاداه هذه الطائفة فأشار عليه أن يباينهم بالعداوة ويكاشفهم بها. واستشار أيضا شمس الملك مسعود بن الوزان مع ما بينه وبينه من العداوة فأشار عليه مثل ذلك. وقيل إن الظاهر أخرج كتاما مختوما إلى الشريف العجمي فنظره ثم رفعه إلى أبي القاسم الجرجرائي فنظره ثم قال: هذا خط ابن بدواس فقرئ فإذا فيه طعن على الدولة وبآخره: إذا وافيت بالعساكر لم تجد أحدا تلقاك ولا يمانعك وإذا كاتبتني فلا تنفذ كتبك إلا على أيدي الرهبان فإنهم الثقات المأمونون. فقال الظاهر: أي شيء يستحق هذا فقال الجرجرائي: مولانا مالك العفو والسيف. فقال: انصرفوا. فلما خرجوا أمر بضرب عنقه. وقيل إنه وجد أغلف لأنه كان نصرانيا. ومن العجب أنه كان في غاية التحفظ والتحرز وكان يخاف أن يقتله الحاكم بأمر الله فنجا منه ثم لما أمن واطمأن كان حتفه. في يوم الثلاثاء لليلة بقيت منه أحضر عز الدولة معضاد الكتاميين وأمرهم بالبكور من الغد وأمر الأتراك وجميع العسكر بلبس السلاح وأن يتسلموا من الخزانة ما يخرج لهم من ذلك ويقف الجميع حول القصر حتى يؤمروا بما يفعلونه. فوقفوا من الغد بأجمعهم حول القصر إلى ضحوة النهار فجاءهم الأمر بأن مولانا صلوات الله عليه يركب في غد فليحضر من ليس له منكم سلاح ليدفع إليه من الخزانة فقال الكتاميون قد شغلنا الجوع وطلب الخبز عن هذا. فلما كان آخر النهار حمل قوم من متر جلة الكتاميين على سبعين فرسا وفرق فيهم وفي غيرهم السلاح. شهر رمضان أوله الخميس. فيه ركب الظاهر في عساكره وعليه قميص مدير مذهب دبيقي وعمامة مثله وعلى رأسه المظلة المذهبة يحملها بهاء الدولة مظفر الصقلبي وخلفه ابن فتوح الكتامي يحمل الرمح وبين يديه الأتراك والكتاميون والقيصرية والعبيد والباطلية والديلم وسائر الطوائف وركب رجال الدولة خلفه مع نسيم الصقلبي وسار إلى مسجد تبر وعاد. وكان يوما حسنا من توافر الناس وكثرة الجمع والزي الحسن. وفي يوم الجمعة ثانيه ركب أيضا إلى صلاة الجمعة في الجامع الأزهر وعليه طيلسان شرب مفوط بعمامة بياض مذهبة وثياب دبيقية والمظلة دبيقية مذهبة وطلع معه المنبر قاضي القضاة أحمد بن أبي العوام وإبراهيم الصانع المؤدب المعروف بالجليس فأرخيا عليه سجف القبة التي في أعلا المنبر وهي مغشاة بمصمت بياض والعنبر يبخر بين يديه في المباخر الذهب والفضة والجوهر. فخطب ثم كشف عنه القاضي ونزل فصلى وعاد إلى قصره. في رابعه ورد الخبر بانصراف صالح بن مرداس عن دمشق إلى حلب وأن كاتبه باع جميع ما كان له بحلب من غلة ودار وآلة وخرج فجمع العرب وقصد حصار المدينة. في خامسه ولي طيب الخازن بيت المال وخلع عليه وحمل على بغلة بسرج ولجام وخلع على ميسرة الخازن وحمل على فرس بسرج ولجام مذهب وولى خزانة الخاصة وجعل عدة الدولة رفق الخادم الأسود يخرج إليهما بالأوامر ويدخل. وخلع على ثلاثة من أولاد ابن الجراح وحملوا على ستة أفراس. وفي ثاني عشره أخذ ديوان الشام من محمد بن أحمد الجرجرائي ورد إلى أبي طالب الغرابيلي. وفي يوم الجمعة سادس عشره ركب الظاهر إلى الجامع الأنور خارج باب الفتوح وعليه رداء بياض محشى قصبا وثياب بياض دبيقية وعمامة بيضا مذهبة وفي يده القضيب الجوهر وعلى رأسه مظلة مديرة فخطب ثم صلى وعاد. وقدم الخبر بأن أهل دمشق هادنوا سنان بن علوان إلى آخر الكوانين. وقدم كتاب حسان بن جراح بأنه تحت الطاعة فلا يجب أن يشغل السلطان قلبه بأمر الشام وأنه يقوم بأمر فلسطين ويجبي خراجه وينفقه في رجاله ودمشق فيها ابن عمه سنان صمصام الدولة وحلب مردود تدبيرها إلى صالح بن مرداس أسد الدولة وأنه قد كفى السلطان أمر الشام كله. فطرد رسوله ولم يكتب له جواب. وفي خامس عشريه زيد في لقب منتخب الدولة أنوشتكين الدزبري أمير الأمراء. وفي سابع عشريه هرب ابنا جراح ولحقا بحسان بن جراح وأخذا جميع ما كان في الدار التي أنزلا فيها وتركا أخاً لهما مريضا فوكل به. في سلخه حمل نجيب الدولة أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي سماط العيد على العادة وفيه مائتا قطعة من التماثيل السكر وسبعة قصور كبار من السكر وشق البلد بالخيال والطبالين والفرحية. شهر شوال أوله السبت. فيه ركب الظاهر في عساكره وبين يديه فيل وزرافات وبنود مذهبة بقصب وفضة والطبول تضرب والجنائب تقاد أمامه وجميع قواد الأتراك والمصطنعة في السلاح وعليه ثوب خز بعمامة نظيره وفي يده القضيب وعليه السيف ومعه الرمح وعلى رأسه المظلة المذهبة يحملها مظفر وبين يديه الخدم السودان وعليهم أصناف المذهبات إلى المصلى. فصلى ورقى المنبر واستدعى قاضي القضاة فطلع ثم استدعى إبراهيم الجليس المؤدب فطلع ثم استدعى شمس الملك أبا الفتح مسعود بن طاهر الوزان فطلع ثم استدعى تاج الدولة ابن أبي الحسين صاحب صقلية كان ثم استدعى زين الملك على بن مسعود بن أبي الحسين ثم استدعى علي بن فضل ثم عبد الله بن الحاجب ثم جدل بالبندين المنصوبين على المنبر وخطب ثم نزل وعاد إلى قصره. وأحضر السماط فحضر أهل الدولة ولم يحضر الظاهر وكان في منظرة يشاهدونه. وفي ثامنه صرف نجيب الدولة مجلى بن نسطورس عن ديوان الأحباس بأبي غالب الصيفي النصراني كاتب ديوان الخراج. فيه ضربت خيمة بظاهر باب الفتوح ووقع الاهتمام بتجريد العساكر إلى الشام. وفي هذا الشهر تحرك السعر وبلغ التليس القمح دينارين وثلثين والتليس الشعير دينارا واحدا والخبز رطلين بدرهم. وقدم الخبر بأن الحرب بمكة قامت بين الحسنيين والصليحيين فخرج منها أبو الفتوح حسن بن جعفر وأن الغلاء بها شديد. وقدم الخبر بمحاربة الدزبري لأصحاب حسان بن جراح على عسقلان وأن عدة جند الدزبري خمسة آلاف قد نهكتهم الحرب والغارات. وقبض على رجل قدمه حسان بن جراح إلى بني قرة بالبحيرة يدعوهم إلى نصرته ويعدهم مواعيد كثيرة فأجابوه بالموافقة وأخذت منه الكتب وحبس. وكانت ليلة الميلاد في يوم الخميس عشريه فاشتغل الناس عما كانوا يبتاعونه فيها من الفواكه والحلوى بما هم فيها من الأمراض وتواتر الموت بحيث لم تخل دار أحد من عدة مرضى من الدم وأوجاع الحلق وبلغت الرمانة ثلاثة دراهم والبطيخة البرلسي ثلاثين درهما والأوقية الشراب بدرهم والقمح ثلاثة دنانير التليس والأردب الشعير بدينار والرطل اللحم ثمانية دراهم. وعز وجود شيء من الحيوان مثل الدجاج والفراريج وبلغت راوية الماء ثلاثة دراهم. فتهالك الناس من كل جهة وكسرت الأسواق فكانت الثياب والأمتعة ينادي عليها فلا يوجد من يدفع درهماً فما فوقه. وفيه قطع على حاج المغاربة الخارجين في البر عند تعذر أمر الحج فتقدمت جماعة من المغاربة القادمين من بلاد المغرب بغير أمير فلما جاوزوا بركة الجب قطع عليهم الطريق وأخذت أموالهم فهلك منهم عدة وعاد من بقى. ذو القعدة أوله الأحد. فيه اشتدت عقوبة جواري محسن بن بدواس في طلب المال. وكانت ليلة الغطاس في ليلة الأربعاء رابعه فجرى من هو صحيح على العادة في شراء الفواكه والحملان وغير ذلك. ونزل الظاهر إلى قصر جده العزيز بالله بمصر لنظر الغطاس شكراً مع حرمه بعد ما نزل القائد عدة الدولة رفق بأصناف الفرش لبسطه ونقل جميع المجاورين له ممن يسكن على النيل بالقرب منه وأزال المراكب المرساة هناك. وضرب بدر الدولة نافذ الخادم الأسود متولي الشرطتين خيمة عند رأس الجسر وجلس على مرتبة مثقلة ومرتبة ديباج ووقف ابن كافي متولي الشرطة السفلى بين يديه. ونودي في الناس ألا يختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم في البحر بالليل. وأمر الظاهر القائد نافذاً أن يزيد في وقيد النار والمشاعل في الليل ففعل وكان وقيداً طويى. وحضر القسيسون والشماسة بالصلبان والنيران فقسسوا طويلاً وانصرفوا إلى حيث يغطسون. فمات في هذه الليلة للظاهر طفلة سنها ثلاث سنين وشهور وهي آخر ولد بقي له فعاد من آخر الليل إلى قصره بالقاهرة فشاهد في طريقه عدة أموات على الطرقات فأمر لهم بخمسمائة شقة لأكفانهم والنفقة عليهم حتى يدفنوا. وفي ثامنه حنك ثلاثة من الخدم وألبسوا العمائم الشرب البيض فتشبهوا ممن تقدم من مقدمي قواد الخدم كميمون وبدر ونصر العزيزي ونظرائهم. وهؤلاء المقودن هم معضاد ومناد ورفق وأضيف إليهم فاتك ورجاء وسرور النصارى ونامق فجلسوا بحضرة الظاهر وهنأهم الناس بذلك. وفيه اجتمع وفد الحجاز بباب القصر واستغاثوا وقالوا: يا قوم قد جئناكم وفارقنا أهلينا وقد هلكنا من الجوع فإن لم يكن لكم حاجة بإقامة الدعوة بمكة والمدينة فاصرفونا فإنا قد بذل لنا الرغائب في إقامة الدعوة لغير إمامكم فلم نأخذها ونريد إنسانا يكلمنا. فلم يجابوا بشيء. وكانوا قد مضوا قبل ذلك إلى رجال الدولة كمعضاد وغيره فصار يدفعهم هذا إلى هذا. فلما انصرفوا عن باب القصر خائبين بعث إليهم جمال الدولة مظفر الصقلبي صاحب المظلة ألف دينار من ماله فقالوا: لا نأخذ إلا ما يصلنا به أمير المؤمنين وهذه الصلة قد قبلناها والله مجازيك عليها ونحن نفرقها على ضعفائنا وعبيدنا ففرقوها على خمسمائة نفس لكل واحد ديناران. واشتد الغلاء والقحط بمصر فبيع الخبز السميد رطلين بدرهم والحملة الدقيق بأربعة دنانير وثلثين والتليس القمح بثلاثة دنانير واللحم أربع أواق بدرهم. وعظم الموت سيما في الفقراء وبلغ الناس الجهد حتى إن جزاراً طرح عظما لكلب فطرد رجل الكلب وأخذ العظم منه وابتلعه نيئا وأكل المساكين الصماليخ من القنبيط واقتاتوا باليسير من كسب الوز وكسب السمسم وغلت عامة الحبوب. وغلا الماء لتعذر علف الدواب وعدم من يستقي عليها وبيعت راوية الجمل بثلاثة دراهم وراوية البغل بدرهمين واشتدت المسغبة. وقدم الخبر بشدة الموت بدمشق فمات من أهلها ألوف. وفي نصفه ركب الظاهر وشق مدينة مصر وخلفه المقودون والمصطنعة وبين يديه الرقاصون فاستغاث الناس بضجة واحدة: الجوع يا أمير المؤمنين الجوع لم يصنع بنا هكذا أبوك ولا جدك فالله الله في أمرنا. فارتجت البلد بالضجيج حتى نزل إلى قصر العزيز على البحر فحضر أبو عبد الله محمد بن جيش بن الصمصامة الكتامي وقد اختل عقله وحاله فوقف تحت القصر وشتمه أقبح شتم وبالغ فيما شتم به فضربه الرقاصون حتى سقط وجروه برجله وسحبوه وتزايد أمر الغلاء ونزل دواس المحتسب برجاله ومعه السعدية وكتب مائة وخمسين مخزنا قمحا وختم عليها فأصبح الناس يوم الاثنين سادس عشره على أقبح صورة وكثر الصياح: الجوع الجوع ولم يظهر خبز ولا دقيق. وبيع الدقيق رطلا ونصفا بدرهم والخبز الأسود رطلين بدرهم وربع. وفيه خرج حاج المغاربة إلى مكة فلم يصحبهم أحد من أهل مصر وعندما عدوا بركة الجب خرج عليهم طائفة من القيصرية والعبيد وكانت بينهم وقعة هزمهم فيها المغاربة وجرحوا كثيرا منهم. وفيه طلب المحتسب إلى القصر وهدد وقيل له: قد قتلت الناس جوعا وخربت البلاد على مولانا وهذا خطك بضمانك عمارة البلد بالأخباز والقمح إلى حين إدراك الغلة. فوعد بتلافي الأمر ونزل وأطلق القمح من المخازن للطحانين وسعر عليهم دينارين ونصفا للتليس وأمرهم ببيع الحملة الدقيق بأربعة دنانير والخبز رطلين ونصفا بدرهم فسكن الحال قليلا. وفيه أفرج عن محمد بن جيش بن الصمصامة. وفي عشريه ركب الظاهر إلى الصيد بسردوس وعاد. وفي ثالث عشريه عاد من خرج من حاج المغاربة بعدما نهبوا وجرحوا وسلبوا فلم يحج أحد في هذه السنة من مصر. وفيه قرئ سجل بحطيطة جميع مكوس الغلة المباعة بساحل مصر وأن يبيع الناس بغير تسعير. وكثرت الأخباز وبيع القمح بدينارين ونصف وربع للتليس والخبز السميد رطلان بدرهم وربع والخبز الحواري رطلان بدرهم. وضرب عدة من الخبازين على خلطهم الطفل المسحوق في الأخباز. وقدم الخبر أن حسان بن جراح أنفذ ألفي فارس فلم يعلم جهة قصدهم فاضطرب الناس لذلك ثم تبين أنها وردت إلى الفرما مع أبي الغول ففر الناس في المراكب إلى تنيس وأخذ الناس بمصر في إحراز أموالهم وفقد الخبز القمح والدقيق. ونفذت الكتب إلى الحوف بدخول الرجال الجوالة إلى الحضرة لتجدد عسكراً لحفظ البلاد ثم أبطل ذلك خوفاً من نهبهم المدينة وكثرة كلفتهم. ذو الحجة وأوله الثلاثاء. في رابعه ركب الظاهر في خاصته إلى عين شمس وعاد. وفي خامسه أطلق لوفد مكة ألف دينار يرتفقون بها وأمرت لهم أم الظاهر أيضا بشيء من عندها. وكثرت نقل الناس خوفاً من النهب في يوم الأضحى. وعمل سماط العيد السكر من عند نجيب الدولة على بن أحمد الجرجرائي وعدد قطعه وتماثيله مائة وسبع وخمسون قطعة وسبعة قصور كبار كلها من السكر وحمل في تاسعه إلى القصر ومعه الفرحية الطبالون وأفراس الخيل وفي عشية النهار تهارب الناس من دب عظيم سقط من الجبل إلى المقابر فانجفل الناس في درب الصحراء ظنا أن العبيد كبستهم فكان خوف شديد. وفي يوم الخميس عاشره كان عيد النحر فركب الظاهر إلى المصلى من باب الفتوح على عادته بعد أن رسم لسائر العرائف أن تلزم كل عرافة مكانها وحارتها وتكون صلاة العسكر بأجمعهم في حاراتهم مع أزمتهم فامتثلوا ذلك. وصلى وخطب بعد أن استدعى داعي الدعاة قاسم بن عبد العزيز بن النعمان وسلمه الثبت بأسماء من جرت عادته بطلوع المنبر فاستدعى شمس الملك وبهاء الدولة مظفر صاحب المظلة وعلي بن مسعود وحسن ابن رجاء بن أبي الحسين وعلي بن فضل وابراهيم الجليس وعبد الله بن الحاجب وتأخر القاضي وغيره لمرضهم فلم يشهدوا صلاة العيد. فلما انقضت الخطبة نزل الظاهر إلى المنحر بالمصلى فنحر ناقةً وعاد إلى قصره ومشى إلى المنحر بصحن القصر تجاه ديوان الخراج فنحر تسعاً من النوق ثم انصرف. فحضر أبو الحسن على بن محمد الطريقي كاتب قاضي القضاة لتفرقة لحم الأضاحي على أرباب الرسم فنهبته العسكر وجرى عليه كل قبيح. ومد السماط بحضرة الظاهر فلما جلس أهل الدولة عليه للأكل كبس العبيد القصر وهم يصيحون: الجوع نحن أحق بسماط مولانا عليه السلام ونهبوا جميع ما على السماط وضرب بعضهم بعضاً والصقالبة تضربهم فلا يبالون. فكان فلما كان الغد ركب الظاهر إلى الرحبة في القصر تجاه ديوان الخراج فنحر ثلاث عشرة ناقة وعاد ففرقها الطريقي. وشد من الغد ثالث عيد النحر في مكان النحر خمس عشرة ناقة لتنحر فلم يخرج الظاهر فخلى عنها ثم شد خمس نوق غيرها نحرها الطريقي وفرقها. وقدم الخبر بنهب العبيد الجوالة بلداً بالأشمونين حصل لرجل واحد تسعمائة رأس من البقر وثلاثة آلاف رأس من الضأن. وفي ثالث عشره ورد الخبر بأن الدزبري أسرى من عسقلان وكبس حلةً لحسان بن جراح فقتل ثلاثين أسيراً وعدةً من الناس يبلغون آلافاً ونهب نساء العرب وطلب نجدة ولو بألف فرس وأخبر أنه نزل فلسطين وصلى بها العيد وهو خائف من اجتماع العرب لحربه. فأخرج مضرب ظاهر باب الفتوح لتجرد العساكر فدافع أهل الدولة عن إمضاء ذلك. فورد الخبر بأن الدزبري بعد ما صلى العيد بمدينة الرملة انتقل إلى لد بعد ما أوقع بحلة فيها ولد لأبي الغول فقتله وضرب أعناق أربعين رجلا من الغمازين الذين كانوا يدلون حسان بن جراح على الناس وأنه ينتظر النجدة بلد فلم يخرج إليه أحد. وفيه يوم عيد الغدير ورد الخبر بإقامة الدعوة الظاهرية بالبصرة والكوفة والموصل وعدة من بلاد المشرق وذلك لغلبة الأتراك على بغداد وإخراج الديلم عنها إلى البصرة فدعا الديلم للظاهر بها وبالكرخ ودعا الأتراك ببغداد للقادر. وفيه جرى الناس بمصر في عيد الغدير على رسمهم وتزيوا بأفخر زيهم وطلع المنشدون إلى القصر يدعون وينشدون. وفيه نصبت خيمة خارج باب الفتوح ليخرج تجريدة الدزبري. وفي حادي عشريه نهبت الدواب بسفط ونهيا من ثلاثين رجلاً من بني قرة وقتلوا قاضي سفط واستاقوا مائة وخمسين فرسا لأهل الدولة وساقوا ثلاثمائة مكة لمعضاد وأربعة آلاف رأس من الضأن فلم يخرج أحد لطلبهم ولا أنكر شيء من ذلك. وفي ثاني عشريه خرج معضاد والشريفان وابن حماد الغرابيلي ونجيب الدولة الجرجرائي إلى الخيمة خارج باب الفتوح وحضر الكتاميون فطلب منهم مائة فارس لينفق فيهم فلم يحضروهم ونزعت الخيمة فعادوا أقبح عود. وفي خامس عشريه سار وفد مكة وقد دفع إليهم نصف واجبهم ولم يرسل إلى أبي الفتوح بشيء فمضوا غير راضين. وفيه حمل مظفر صاحب المظلة إلى الحضرة عشرة آلاف دينار قرضاً واستدعى من الشريف أبي طالب العجمي متولي الصناعة عشرة آلاف قرضا فدافع ثم أجاب إلى حمل خمسة آلاف بعد أن يضمن له أمر عادتها إليه فضمن له الشيخ نجيب الدولة أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي ذلك فحملها. واشتد الغلاء فبيع القمح بأربعة دنانير وثلث التليس والحملة الدقيق بستة دنانير والخبز رطل وربع بدرهم ونزل بالناس مسغبة شديدة. وفي ثالث عشريه تجمع العبيد ومعهم عدة من النهابة فبلغوا نحو الألفين يريدون نهب مدينة مصر فركب إليهم بدر الدولة نافذ في عسكر بالسلاح وأذن للناس عامة بأن من تعرض لهم من العبيد فليقتلوه فتحفظ الناس واستعدوا. ثم ركب معضاد ونسيم إلى حيث تجمع العبيد وأحضروا أزمتهم وألزموهم بعود العبيد إلى حارتهم فقالوا: ما أردنا النهب ولا نريد إلا ما نأكله من الجوع فإن الجوع قد اشتد بنا وأكلنا الكلاب. فوعدوا بالنفقة من الغد فعاد الجميع إلى حاراتهم. واجتمعوا من الغد وقصدوا الساحل ونهبوا دوراً وطرحوا فيها النار وأخذوا ما وجدوه في الساحل من القمح والشعير وغير ذلك مما في الحوانيت ودخلوا إلى منازل أهل السلاح فنهبوا ما وجدوا. فركب إليهم نافذ وقاتلهم فجرح له فرس وقتل فارس من غلمانه فانصرف عنهم. وخرج إليهم عامة المصريين بالسلاح فقاتلوهم ورماهم النساء من أعلا الدور بالحجارة والطوب والجرار حتى هزموهم وأغلق الناس دورهم وحفروا دونها خنادق. وركب معضاد وجميع الصقالبة والقواد فطردوا العبيد عن البلد إلى المقس ولقوا في طريقهم قوماً معهم كثير من أمتعة الناس التي نهبت فقبضوا عليهم وضرب معضاد رقاب تسعة أنفس منهم ورمى جثثهم إلى الكلاب عند الحمراء وتعذر وجود الخبز فلم يقدر عليه وبيع رطلاً بدرهم. وبات الناس ليلة الجمعة على حرس وأصبحوا يترقبون المكروه فطاف النهابة أسواق القاهرة والسويقة التي عند باب زويلة فخرج إليهم حظي الصقلبي ومعه سيف من الحضرة فقبض على طائفة منهم ضرب رقابهم ورمى جثثهم إلى الكلاب على باب زويلة وعلى باب الفتوح وفي سوق السلاح وعند شرطة القاهرة وعدتهم اثنا عشر رجلا. ووجد كتاميا يقال له سليمان قد أخذ حمارا محملاً دقيقا فضرب عنقه. وأحضر عرفاء العبيد إلى القصر وشدد عليهم في إحضار الجناة من العبيد ووعدهم بالنفقة في العبيد. وأصبح الناس يوم الأحد سابع عشريه يستغيثون إلى متولي الشرطة السفلى من العامة التي نهبتهم فقبض على طائفة منهم بكوم دينار وعوقبوا حتى أقروا بما عندهم من النهب فسيقوا حتى أخرجوه من كوم دينار وأخذه أربابه. وقدم الخبر من حلب بأن صالح بن مرداس حاصر حلب وما زال بأهل البلد حتى فتحوا له أبوابها فدخل أصحابه وشرعوا في هدم أبراج السور فظن الناس أنه يريد بذلك أن يسلم حلب إلى الروم فاجتمعوا بمن في القلعة وقد تحصن بها موصوف الصقلبي وحاربوا أصحاب صالح حتى أخرجوهم وقتلوا منهم مائتين وخمسين رجلا وامتنعوا منهم بالمدينة. ومن خبر ذلك أن صالح بن مرداس نزل على مدينة حلب في جمع كثير من بني كلاب وغيرهم فحصرها أشد حصر حتى أخذ المدينة صلحاً من أهلها ودخلها في رابع عشر ذي القعدة سنة خمس عشرة هذه وتلقب بأسد الدولة. وامتنع موصوف الصقلبي بالقلعة فاستخلف صالح على مدينة حلب كاتبه أبو منصور سليمان بن طوق ومضى إلى بلعبك فأخذه عنوة وقتل بها خلائق. واشتدت محاصرة سليمان بن طوق لقلعة حلب وصعد قلعتها حتى قل الماء والزاد بها فطلب موصوف منه أشياء اشترطها عليه وسلمه القلعة فأتى صالح حلب وصعد قلعتها وقتل موصوفاً ورتب أموره وصار بيده من بعلبك إلى عانة. وقدم الخبر بأن حسان بن جراح جمع من العرب خلائق وقصد الرملة فمضى الدزبري إلى عسقلان وتحصن بها فقبض حسان على جماعة من أهل الرملة ممن سعى به وبأصحابه إلى الدزبري وضرب أعناقهم وملك المدينة. فاجتمع الدزبري مع مبارك الدولة فتح متولي القدس وفتاح بن بويه الكتامي وصار إليهم نحو الخمسة آلاف مقاتل وأوقعوا بحلة كبيرة لإخوة حسان وقتلوا ولداً لعلي بن جراح وهزموا من بها. وقال ابن الرقيق: وكان بمصر من الغلاء والشدة وعدم الأقوات ما لم ير مثله من زمن بعيد. بلغ الخبز إذا وجد رطلا بدرهم واللحم أربع أواق بدرهم والرمانة الواحدة بدينار. وكان الناس في كل ناحية يصيحون بالجوع حتى يموتوا ويكون مع الرجل جملة من الدنانير فيطلب من يشبعه خبزا فلا يجده هذا مع الموت الذريع والوباء الفظيع. وورد كتاب بعض ثقات التجار يصف أنه أحصى من مات ممن عرف وكفن ودفن من آخر شهر رمضان إلى بعض ذي القعدة فكانوا مائة ألف وسبعين ألف نفس وأما الغريب ومن لا يعرف ومن يلقى في النيل ولا يجد من يقبره فأكثر من هذه العدة أضعافاً لا تحصى. وبلغ ماء النيل ستة عشر ذراعا وثمان أصابع. ومات في هذه السنة ممن له ذكر أبو جعفر بن الوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات المعروف بابن حنزابة يوم الخميس سادس المحرم وكان يعمل بيده أعمالا متقنة. وفي يوم الأربعاء عاشر صفر توفى مفضل بن أبي أحمد المهلبي بعد ما ساءت حاله وكان أديبا جم الأدب غير منكور السيرة. وفي سابع عشره توفي أبو محمد بن يحيى الدقاق من شيوخ الحديث ومؤرخي أخبار مصر. وفي يوم الأربعاء ثالث عشري ربيع الأول توفى ابن أبي الحسين بن زولاق وكان أديبا ذيل على تاريخ أبيه المعروف بأبي الحسين. وفي يوم الخميس ثاني عشري ربيع الآخر توفى أبو الحسن بن نحرير الشويزاني وهو أكبر من بقي من عرفاء الإخشيذية فبعث الظاهر لكفنه مائتي دينار وعدة ثياب وطيبا كثيرا. وفي يوم الأحد عاشر جمادى الأولى توفي النمل الشاعر وتوفى سند الدولة أبو محمد حسن بن محمد بن محمد بن نقيان الكتامي متولي مدينة حلب بها في يوم الخميس لثمان بقين من ربيع الآخر. وفي يوم الاثنين سادس شعبان توفى عصب الدولة الحسين بن مفلح ابن أبي صالح القلعي وقد ساءت حاله وغلبه الدين. وفي ليلة الأحد تاسع عشره قتل الشيخ العميد محسن بن بدواس متولى بيت المال وجابي الضرائب. وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر رمضان توفى نزار بن حسين بن يمن الكتامي متولى الشرطة السفلى بمصر بعدما ساءت حاله. وفي رابع عشره توفى الشريف العباسي الرابض لدواب الحاكم بأمر الله وكان شريرا فلم يشهد أحد جنازته بغضاً له. وفي يوم الخميس سادس شوال توفى أبو عيسى ملامان بن محساس بن بيوط الكتامي فصلى عليه الظاهر. وفي تاسعه توفى مخلص الدولة منصور البكجوري أحد وجوه القواد الحمدانية القادمين من الشام وترك ستين ألف دينار ورثها ابنه فدفن في مقابر القاهرة. وفي ثالث عشريه توفى الأمير أبو هاشم العباس بن شعيب بن داود بن عبيد الله المهدي ولي عهد المؤمنين كان فدفن في تربة القصر وترك ولداً اسمه مسلم. وفيه توفيت عائشة جارية الأمير عبد الله بن المعز لدين الله وكانت من وجوه عجائز القصر وخلفت أربعمائة ألف دينار. وفي يوم السبت رابع عشر ذي القعدة توفى جعفر بن أبي فروخ الكتامي الذي كان يتولى الشرطة بمصر. وفي سابع عشريه توفى أبو الفتح منصور شديدٌ من الدّنيا على الحرّ حاجة يؤمّ بها من ليس من نظرانه وقال من أبيات: وما الناس إلاّ كالنّبات: مصوّح ليذوي ومخضرّ لينمى ومعشب يسربله ماء الشّباب نضارةٌ ويفرغ عنه حسنه حين ينضب ومنها: تفرّق أنواع المذمّات في الورى ويجمعها خلق الفتى حين يكذب إذا كان للإنسان عقلٌ فحيثما توجّه لاقاه صديقٌ ومكسب ينال الفتى بالخفض بلغة عيشه فيسعى إلى شيءٍ سواها وينصب يخرّب من أُخراه ما ليس فانياً ويعمر من دنياه ما يتخرّب على أنّ في الأيّام للمرء واعظاً بليغاً وفي صرف الزّمان مؤدّب وماتت السيدة العزيزة ست الملك ابنة العزيز بالله أبي منصور نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد مستهل جمادى الآخرة بعلة الذرب. وقد دبرت أمور الدولة بعد فقد أخيها الحاكم بأمر الله خمس سنين وثمانية أشهر أعادت فيها للملك غضارته واستردت بهجته وملأت الخزائن بأصناف الأموال وقلدت الأكفاء جلائل الأعمال واصطنعت الرجال. فيها أمر الظاهر بنفي من وجد من الفقهاء المالكية وغيرهم. وأمر الدعاة أن يحفظوا الناس كتاب دعائم الإسلام وكتاب الوزير يعقوب بن كلس في الفقه على مذهب آل البيت وفرض المظاهر لن يحفظ ذلك مالا. وجلس الدعاة بالجامع للمناظرة. |
12-21-2012, 08:53 PM | #21 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة سبع عشرة وأربعمائة
فيها ثار بالناس في مصر رعاف عظيم. وزاد النيل فوق المعتاد حتى غرقت القرى. وفيها سقط الظاهر عن فرس وأرجف بموته ثم عوفي فتصدق بمائة ألف دينار حمل منها إلى مكة والمدينة أربعون ألف دينار وإلى بلاد الشام عشرون ألف دينار وإلى بلاد المغرب عشرون ألف دينار وفرق بمصر عشرون ألف دينار. سنة ثمان عشرة وأربعمائة فيها وقعت الهدنة بين متملك الروم وبين الظاهر عن ديار مصر والشام وكتب بينهما كتاب وتفردت الخطبة للظاهر ببلاد الروم. وفتح الجامع الذي بقسطنطينية وعمل له الحصر والقناديل وأقيم به مؤذن وعند ذلك أذن الظاهر في فتح كنيسة القمامة التي بالقدس فحمل إليها ملوك النصارى الأموال والآلات وأعادوها وارتد إلى دين النصرانية كثير ممن أسلم كرها في أيام الحاكم وفيها عزل الظاهر عميد الدولة وناصحها أبا محمد الحسن بن صالح الروذباري وولى عوضه الوزير الأجل الكامل أوحد أمير المؤمنين وخالصته أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي. وفيها اجتمع عسكر مصر ورافع بن أبي الليل مقدم طائفة الكلبيين وأنوشتكين الدزبري لحرب حسان بن جراح فالتقوا لخمس بقين من ربيع الآخر على الأقحوانة فقتل صالح بن مرداس وانهزم حسان وقتل عدة ممن معه واستولى الدزبري على البلاد فقدم شبل الدولة نصر ومعز الدولة ثمال بعد أبيهما صالح بن مرداس وملكا أيضا الرحبة إلى بالس ومنبج. سنة عشرين وأربعمائة فيها كانت فتنة بمصر بين المغاربة والأتراك قتل فيها جماعة وكان الظفر للأتراك ثم استظهرت المغاربة بمعاونة العامة لهم فقتلوا عدة كثيرة من الأتراك وأخرجوا من بقي منهم عن مصر. وكان خبط عظيم فأخرج الظاهر رأسه من المنظرة وأشار إلى الناس فقبلوا الأرض ثم بعث إليهم بالصلح فمشى الدعاة بينهم حتى اصطلحوا. وفيه بعث المعز بن المنصور بن بلكين بن زيرى هدية فيها عشرون جارية لم ير كحسنهن وعى نهودهن حقاق الفضة وثلاثة أفراس فيها كميت بسرج ذهب زنته قنطار ذهب وأشقر بسرج لؤلؤ وأدهم بسرج فضة زنتها قنطار وثلاثة آلاف منا زعفراناً وخمسون درقة بأغشية ديباج واثنا عشر صقلبيا وعشرون خادما سوداً وألف وخمسمائة ثوب خز وأربعمائة غفارة ورماح كثيرة جدا وألف قنطار شمعاً وثياب سوسية وصقلية وعمائم عدة ألوف. فجلس الظاهر في الإيوان على السرير الذهب وقرئ عليه كتابه وعرضت هديته في يوم الأحد ثامن شوال. وبعث إليه بهدية من دق تنيس ودمياط وطرائف الهند واليمن وزرافة وبختاً خراسانية تحمل قباباً فيها جواري وأشياء عظيمة. وفيها جهز الظاهر أمير الجيوش أنوشتكين الدزبري لقتال صالح بن مرداس فالتقيا بالأقحوانة من عمل طبرية على نهر الأردن واقتتلا أشد قتال فقتل صالح وولده الأصغر في جمادى الأولى من سنة عشرين هذه وحمل رأساهما إلى القاهرة. ونجا شبل الدولة أبو كامل نصر بن صالح وأخوه أبو علوان عز الدولة ثمال إلى حلب فملكاها شركة بينهما. فكانت مدة ملك صالح لحلب أربع سنين وأشهرا. سنة إحدى وعشرين وأربعمائة بايع الناس بولاية العهد للمستنصر بن الظاهر وعمره ثمانية أشهر فخلع على كافة أهل الدولة وعمل من الطعام ما كفى أهل القاهرة ومصر والطارئين من البلاد ونثر مال عظيم فلم يبق أحد حتى وصل إليه من خير هذه البيعة. واجتمعت العامة تحت المنظرة من القصر واستغاثوا أن يشرفوا برؤية أمير المؤمنين فأشرف عليهم الظاهر من المنظرة فقبلوا الأرض وانصرفوا. وكان مرتضى الدولة أبو نصر منصور بن لؤلؤ قد طمع في حلب بعد تملك صالح بن مرداس لها فكاتب متملك الروم يرغبه في حلب ويعده إلى أن خرج من القسطنطينية في هذه السنة ومعه ثلثمائة ألف حتى لم يبق بينه وبين حلب سوى يوم واحد اعتزل عنه ابن لؤلؤ ومعه رجل جليل من الروم يقال له ابن الدوقس في عشرة آلاف فخاف متملك الروم ورحل ثم قبض على ابن لؤلؤ وابن الدوقس في جماعة وولى منهزما لا يلوى على شيء. وتبعه من عرب كلاب ونمير نحو الألفي فارس في طائفة الأرمن ونهبوا الروم فاخذوا من خاص الملك أربعمائة بغلة تحمل المال والثياب سوى ما ظفروا به لعامتهم بحيث أبيع البغل في حلب بدينارين ولولا أن العرب تشاغلت بالغنيمة لما أفلت أحد من الروم. ووجد من الروم آلاف كثيرة موتى عطشاً. وكانت هذه الهزيمة يوم السبت خامس شعبان. سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة فيه نقص النيل نقصانا فاحشا فتحرك السعر وحملت غلال كثيرة من الشام إلى مصر ثم زاد النيل بعد أوان الزيادة بأربعة أشهر فكثر العجب من ذلك. وكان الدزبري لما استرجع البلاد الشامية من أيدي المتغلبين عليها إلا حلب فإنها بقيت بيد بني صالح بن مرداس انهزم حسان بن جراح وإخوته من الدزبري ولم يجدوا ملجأ فحملهم ذلك على أن دخل حسان في طاعة ملك الروم وحمل على رأسه صليباً وصار في جملته. ثم سار في هذه السنة بعسكر الروم وعلى رأسه الصليب ووصل إلى أفامية وهي من عمل الدزبري فهزمها وسبى كثيرا منها. فنادى الدزبري بالغزاة وخرج فخافه نصر بن صالح وقرر لملك الروم على نفسه خمسمائة ألف درهم صرف ستين درهما بدينار على أن يحميه وذلك في جمادى الأولى فاتفق مرض الدزبري بدمشق وأرجف به ثم عوفى. سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فيها أمر الظاهر بقتل دعاته فاضطربت الرعية وكثير من الجند لذلك وأخذ الدعاة في إفساد أمره والتحدث بخلعه فأنفق أموالاً جمة حتى استقر أمره. سنة أربع وعشرين وأربعمائة ركب ولي العهد ابن الظاهر من القاهرة إلى مصر وقد زينت فكان إذا أقبل على الناس قبلوا له الأرض. ونثر يومئذ على العامة خمسة آلاف دينار ونثر على الخاصة عشرون ألف دينار فكان يوماً عظيما. وفي يوم الأحد ثامن عشر ذي القعدة قدمت هدية المعز بن باديس وهي جليلة القدر. سنة خمس وعشرين وأربعمائة فيها قدم الخبر باستيلاء الأتراك على الأمر ببغداد وقلت بها الأموال والرجال فبث الظاهر دعاته فنشروا دعوته ببغداد في الناس. وفيها ظهرت الطائفة الدرزية بجبل السماق من الشام يدعون إلى الحاكم بأمر الله. فيها ظهرت الزلازل ببلاد الشام فخربت ريحا ونصف الرملة وأكثر عكا في قرى كثيرة وبعد الماء من سواحل البحر المالح ساعتين ثم عاد كما كان. سنة ست وعشرين وأربعمائة فيها كثر الفأر بأراضي مصر وأكل زروعاً كثيرة. وفيها كثر الوباء بمصر. وفيها قتل الدزبري شبل الدولة ثمال بن صالح بن مرداس في شعبان وملك حلب وبعث إلى سنة سبع وعشرين وأربعمائة فيها انعقدت الهدنة بين الظاهر وبين ميخائيل ملك الروم عشر سنين متوالية. وفيها توفي الظاهر عن استسقاء طال به من نيف وعشرين سنة في يوم الأحد النصف من شعبان فكانت مدته خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وسبعة عشر يوما. وكانت أيامه كلها سكونا ولينا وهو مشغول بملاذه ونزهه وسماع المغنى وأمور الدولة بيد عمته السيدة العزيز ست الملك وهي التي عدلت بالخلافة إليه عن ولي العهد أبي هاشم العباس بن دواد ابن عبيد الله المهدي وجيء بأبي هاشم فبايع والسيف على رأسه ثم جلس فكان آخر العهد به. وكان يشار بالخلافة إلى عبد الرحيم بن إلياس بن أحمد بن المهدي فأدخل عليه الشهود وهو يتشحط في دمه فأشهد أنه فعل ذلك بنفسه ثم قضى نحبه. وأقامت سيدة الملك سيف الدين الحسين بن دواس والوزير عمار بن محمد في تدبير الدولة عن رأيها حتى قتلت ابن دواس فانفرد عمار بالأمور إلى أن رتبت له في دهليز القصر من قتله. فتحدث حسن بن موسى الكاتب والأمر لست الملك ولسانها ويدها أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي. |
12-21-2012, 08:54 PM | #22 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
المستنصر فلما ماتت السيدة ست الملك استقل الجرجرائي بالتدبير لإعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله أبي علي منصور أمه السيدة رصد. ولد يوم الثلاثاء السادس عشر من جمادى الأولى سنة عشرين وأربعمائة بالقاهرة والطالع عند ولادته من برج السلطان ثمان درج والشمس فيه على خمس عشرة درجة والمشتري فيه على ست درج وعطارد فيه على اثنتي عشرة درجة والقمر في الدلو على ثلاث عشرة درجة وزحل في برج الثور على تسع وعشرين درجة والمريخ فيه أيضا على إحدى عشرة درجة والزهرة في برج الجوزاء على ثلاث عشرة درجة والجوزهر في برج السنبلة على خمس وعشرين درجة. وبويع بالخلافة يوم الأحد للنصف من شعبان سنة سبع وعشرين وأربعمائة والطالع عند ولادته من برج السنبلة إحدى وعشرون درجة وزحل في برج السنبلة على اثنتين وعشرين درجة والمشتري في برج الدلو على ثماني درج والمريخ فيه أيضا على اثنتي عشرة درجة والشمس في برج الجوزاء على ثمان وعشرين درجة والزهرة في برج السرطان على ثلاث درج وعطارد في برج الجوزاء على ست عشرة درجة والقمر في برج الجدي على ثماني عشرة درجة والجوزهر في برج الثور على إحدى وعشرين درجة. وأقام في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر وثلاثة أيام. وقام بأمره الوزير أبو القاسم الجرجرائي وأخذ له البيعة على الناس وأطلق للجند أرزاقهم وشيئا آخر على سبيل الصلة وسكنت الأمور واستقامت الأحوال وكتب له المستنصر سجلا بإقراره على الوزارة. وفيها سير من القاهرة مبلغ ألفي دينار على يد بدوي لعمارة قنطرة الجاروفة التي منها شرب الكوفة وقد خربت وفسدت الجهات التي تحتها بفسادها. وكانت تلك الجهات جاريةً في إقطاع العربان بالعراق فأريد بذلك استمالة من هناك إلى الطاعة فقام بنو خفاجة مع البدوي في الإنفاق على عمارة القنطرة. فبلغ ذلك الخليفة القادر بالله أبا العباس أحمد بن اسحق بن المقتدر فلم يجد مالاً يبعثه عوضاً من المال المذكور ولم يمكنه الرد فدعته الضرورة إلى التغاضي. فشرع البدوي في العمل ثم منع بعد ما تم منه جانب كبير. سنة ثمان وعشرين وأربعمائة فيها فسد ما بين نصر بن صالح بن مرداس وبين المستنصر فكاتب ملك الروم وبعث إليه بما عليه من القطيعة مع هدية فأشار عليه بالدخول في طاعة المستنصر فقبل منه. وبعث بهدية جليلة إلى القاهرة مع وفد كبير فحصل الرضا عنه وأضيف إليه أعمال حمص ولقب بمختص الأمراء خاصة الإمام شمس الدولة ومجدها ذي العزمتين. فشق ذلك على الدزبري متولى دمشق وأخذ في مناكدة أصحاب نصر بن صالح. سنة تسع وعشرين وأربعمائة فيها بعث الدزبري عساكره إلى حماة فأخذها. وخرج شبل الدولة نصر بن صالح لدفعه فالتقيا بلطمين من عمل كفرطاب فانكسر وقتل في يوم الاثنين نصف شعبان وحمل رأسه إلى دمشق. فبادر أخوه معز الدولة ثمال بن صالح إلى حلب وملكها من الغد وأخذ قلعتها واستخلف فيها ابن عمه مقلد بن كامل بن مرداس وفي المدينة خليفة بن جابر الكعبي. وشرق بأهله ليستنجد بأخواله بني خفاجة فنزلت عساكر الدزبري على حلب وأخذت المدينة ثم قدم إليها الدزبري وتسلم القلعة في يوم الثلاثاء ثامن رمضان وأخرج منها إلى درباس واستولى على بالس ومنبج وولى قلعة لغلاميه فاتك وسبكتكين. وعاد إلى دمشق يوم الخميس تاسع عشر ذي الحجة. وعمل في طريقه على أخذ جبلة فلم يطق. وفيها ثار علي بن محمد بن علي الصليحي في اليمن في ستين رجلا على رأس جبل وأقام دعوة المستنصر وما زال أمره يزيد حتى استولى على ممالك اليمن. وفيها هادن المستنصر ملك الروم على أن يطلق خمسة آلاف أسير ليمكن من عمارة قمامة التي فر بها الحاكم فأطلق الأسرى وعمر قمامة وأطلق عيها مالاً جل وصفه. سنة ثلاثين وأربعمائة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة فيها أقيمت دعوة المستنصر بحران: سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة: فيها نقض ملك الروم الهدنة وأغار على بلاد حلب وعلى بلاد أفامية وكسر عسكر الدزبري المقيم هناك فخرج إليه عسكر حلب فكسرهم على أرمناز. وكان ثمال بن صالح وعمه المقلد بالرقة مالكين لها فبعثنا إلى متملك الروم بمال وثياب فطلب منهما ابتياع الرقة كما ابتيعت الرها فضاق الدزبري ذرعاً بذلك وكتب إليهما يرغبهما ويرهبهما فأجاباه بالاعتذار. وكان قد مضى قوم من بني جعفر بن كلاب إلى مضيق أفامية وعاثوا في أعمال الروم فمكن لهم الروم ثم أوقعوا بهم. فبعث الدزبري عسكرا فلقي الروم فيها حماة وأفامية فظهر المسلمون عليهم وقتلوا منهم عدة كبيرة فأجمع الدزبري على النهوض إليهم فهادنوه وما زالوا به حتى سكنت الحرب بينهم وبينه. ثم إن الجند طمعوا في الدزبري وهموا به فساروا له إلى حماة فقضى عليه أهلها فكاتب مقلد بن منقذ فحضر إليه من كفرطاب في ألفي راجل واجتمع به ومضى إلى حلب فأقام بها مريضا إلى أن مات يوم الأحد نصف جمادى الآخرة. سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وبعد ما أقام بحلب اثنين وأربعين يوما قدم إليها ثمال بن صالح وعمه المقلد وحصرا القلعة سبعة أشهر وتسلماها في صفر سنة خمس وثلاثين وأربعمائة وقتلا من بها. فلما بلغ ذلك المستنصر بعث إلى ثمال الخلع والتحف وسجلا بتوليته وكان بقلعة حلب مائتا ألف دينار فأخذها ثمال. وفيها توفى شهم الدولة ميمون صاحب السيارة في أسفل الأرض في شهر ربيع الآخر وحمل إلى مصر فوصلوا به يوم الثلاثاء تاسعه ودفن بتربته بالقرافة. وكان من أهل الخير وحج بالناس من مصر في سنة ست وعشرين وأربعمائة. سنة أربع وثلاثين وأربعمائة فيها خرج بالقاهرة في شهر رجب شخص اسمه سليمان كان يشبه الحاكم بأمر الله وأدعى أنه الحاكم وبث دعاته سراً في البلاد وقصد القصر وقت خلوه من العساكر وقال للخدام: قولوا هذا الحاكم. فارتاع من كان في باب القصر وثارت ضجة فقبض عليه وصلب وأخذت أصحابه فقتلوا ومن جملتهم محمد بن عاني الكتامي أحد دعاته. سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فيها قطع المعز بن باديس الخطبة للمستنصر ودعا ببلاد إفريقية للخليفة القائم بأمر الله العباسي فبعث إليه الخلع من بغداد على طريق القسطنطينية. سنة ست وثلاثين وأربعمائة فيها توفى الوزير الأجل أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي يوم الأربعاء سادس شهر رمضان. والحاصل يومئذ في بيت المال البراني تحت يد أمين الدولة مسرة الرومي برسم النفقات ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار وستمائة دينار وواحد وعشرون ديناراً ونصف وثمن دينار. ووجد له سبعمائة صينية من ذهب وفضة ومائة ألف مثقال من العنبر وغير ذلك. وكان عالما فطناً نحريرا وقع مرة بين يدي الظاهر لإعزاز دين الله على مائة كتاب فلم تتشابه فيها لفظة بلفظة. وكانت مدة ولايته للظاهر والمستنصر سبع عشرة سنة وثمانية أشهر ووزر بعده أبو علي الحسن بن علي الأنباري فانفسد أمره بسبب أبي سعيد سهل بن هرون التستري وأخيه أبي ثمر إبراهيم اليهوديين. وكان من أمرهما أن أبا سعيد هذا كان قد استخدمه الظاهر لبيوعه فباع عليه في جملة ما باع جارية سوداء تحظاها الظاهر فولدت له المستنصر فراعت ذلك لأبي سعيد وقدمته عند ولدها المستنصر لما صارت الخلافة إليه ورتبته فيما يخصها فعظم شأنه إلى أن صار ناظراً في جميع أمور الدولة. فلما وزر الأنباري قصده أبو ثمر إبراهيم فجبهه غلام له فأحفظه وأعلم أخاه أبا سعيد فثنى رأى المستنصر عن ابن الأنباري لهذا السبب وأشار عليه أن يستوزر أبا نصر صدقة بن يوسف الفلاحي وكان يهودياً قد أسلم فاستوزره بعد الجرجرائي في يوم الثلاثاء حادي عشر شهر رمضان ولقب بالوزير الأجل تاج الرئاسة فخر الملك مصطفى أمير المؤمنين. وكان يهودياً موصوفاً بالبراعة في ضروب الكتابة. ولى أولاً نظر الشم ثم خاف أمير الجيوش أنوشتكين الدزبري ففر منه وقد اجتهد في طلبه فلم يظفر به. وقدم إلى القاهرة فرعى له الجرجرائي حرمة انفصاله عن الدزبري ورقاه وأشار في مرضه بأن يستوزر من بعده. فلما تقررت له الوزارة أملى سجل تقليده ليلة اليوم الذي خلع عليه فيه. وتولى أبو سعيد التستري الإشراف عليه. وقبض على ابن الأنباري وصودر حتى هلك تحت العقوبة ودفن بخزانة البنود وكان مسجوناً بها. وكان المستنصر قد بث دعاته سراً إلى الآفاق يدعون إليه ويستميلون من تصل القدرة إلى استمالته. فلما كان في هذه السنة دفع جماعةً منهم إلى ما وراء النهر ودعوا هناك بعد أن دعوا بخراسان فاستجاب لهم طوائف من الناس. وحصلوا عند بغراخان أخي رسلان خان صاحب ما وراء النهر. فلما علم بهم تلطف في الكشف عنهم بأن استمالهم وقربهم وأطمعهم أنه يريد الدخول فيما هم فيه فأنس به طائفة منهم وأرادوا أن يأخذوا عليه العهود والمواثيق فخدعهم بإطلاق المال واستخبر به ما عندهم حيث إنه أنفق عليهم في مدة سنتين ثلثمائة ألف درهم حتى اطلع على عددهم وعرف مواضعهم وهم يطالبونه باليمين والعهد إلى أن أجابهم على شرط أن يكتبوا أيمانهم ويطلعوه على باطنهم. فكتبوا ذلك ودفعوه إليه ليتفكر به وقد كتب كتاباً على قدر كتابهم وشكله يقسم فيه بالأيمان المغلظة أنه متى انكشف له من أمرهم ما يدل على الإلحاد والخروج عن تشريع الإسلام ذبحهم بيده تقرباً إلى الله تعالى. ثم استدعاهم وأعلمهم استجابته إلى ما دعوه إليه ورد إليهم الكتاب حتى شاهدوه وعرفوه واستعاده ليحلف به. فلما حصل في يده أخرج الكتاب الذي كتبه وحلف أنه يفي بجميع ما تضمنه ولا يعدل عنه فوثقوا بذلك وخفى عليهم فرق ما بين الكتابين. ثم جمعهم وقال لهم ما أتمكن من إظهار نفسي والمبادرة بنصرتكم إلا في عدد قوي فإن بلاد الترك تشتمل على ثلثمائة ألف سيف مشهور تخالف هذا المذهب فإن كنتم في عدد قويت به. فذكروا له دعاتهم ببلاد المشرق وسموهم له وأفضوا إليه بجميع سرهم ودفعوا إليه كتبهم إلى جميع أصحابهم بما استقر العزم عليه. ثم جمعهم وأحضر فقهاء بلده لمناظرتهم وفيهم عبد الملك بن محمد البلخي الفقيه بن محمد شيخ البلد ونصر بن عطاء وجعلهما من وراء ستر فذكر الدعاة أسرار مذهبهم على غرة منهم وغفلة بما دبر عليهم وبغراخان يستخبرهم حتى صرحوا بعقائدهم. فأخرج حينئذ عبد الملك ونصراً وقبض على الدعاة وقيدهم ونادى في الناس ليجتمعوا وقد نصب جذعا وصلب عليه الدعاة واحدا بعد واحد ورماهم بالنشاب فقتل منهم ستة عشر رجلا وذبح منهم واحدا بين يديه ذبحه بعض عبيده فأعتقه وتصدق بمائة ألف درهم. وتتبع كل من في أعماله من الدعاة فقبض على مائة وثلاثة وثلاثين رجلا وأوثقهم بالحديد وألقاهم في جب مظلم وكتب إلى جميع بلاد ما وراء النهر بقتل من عندهم من هذه الطائفة. وكتب إلى بغداد بما فعله فقدم رسوله في هذه السنة فأجيب بالشكر والثناء. وفيها سير المستنصر إلى قرواش بن المقلد أعلاماً وخلعاً فلبسها فأنفذ إليه الخليفة القائم من بغداد يعاتبه على ذلك فاعتذر ولبس السواد ورجع عن دعوة المستنصر. اشتهر انتقاض الهدنة التي قررها الظاهر لإعزاز دين الله بين وبين متملك الروم وسعى الرسل في تقريرها بين المستنصر وبينه وكان انتقاضها على الحقيقة من مدة أربع سنين مضين. فلما كان في ثامن ذي الحجة وردت هدية متملك الروم من القسطنطينية إلى القاهرة وقيمتها ثلاثون قنطارا من الذهب والقنطار عندهم سبعة آلاف دينار ومائتا دينار. وكان من جملتها بغل وحصان من أحسن الدواب وأعلاها قيمة كل منهما عليه ثوب ديباج رومي منقوش ثقيل وخمسون بغلا عليها مائة صندوق مصفحة بالفضة فيها آنية الذهب والفضة منها مائة قطعة بميناء وفيها من الديباج والسندس والإبريسم والعمائم المعلمة ما لا يقدر على مثله. فعوض عن هديته بمثلها من حق مصر ومن الجوهر والمسك والعود والطراز عمل تنيس ودمياط ما هو أكثر قيمة مما بعثه. سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة في سادس عشر المحرم قتل أبو علي الحسن بن علي الأنباري في خزانة البنود بالقاهرة. سنة تسع وثلاثين وأربعمائة فيها عمل الوزير أبو منصور الفلاحي على أبي سعيد سهل بن هرون التستري اليهودي وقتله عند خان العبيد. وذلك أن أم المستنصر كانت جارية أبي سعيد هذا فأخذها منه الظاهر وتسراها فولدت له ابنه المستنصر فرقت أبا سعيد درجةً عليه بعد وفاة الظاهر. وكان يخاف الوزير الجرجرائي فلم يظهر ما في نفسه. فلما مات الجرجرائي وتولى الفلاحي انبسطت كلمة أبي سعيد في الدولة بحيث لم يبق للفلاحي معه في الوزارة أمر ولا نهي سوى الاسم فقط وبعض التنفيذ لا غير وأبو سعيد يتولى ديوان أم الخليفة المستنصر. فغض الفلاحي بأبي سعيد وشغب عليه الجند حتى قتلوه. وذلك أن بني قرة عرب البحيرة أفسدوا في الأعمال فخرج إليهم الخادم عزيز الدولة ريحان وأوقع بهم وقتل منهم وعاد وقد عظم في نفسه لمعالجة النصر على بني قرة والظفر بهم. فثقل على أبي سعيد أمره واستمال المغاربة وزاد في واجباتهم ونقص من أرزاق الأتراك ومن ينضاف إليهم فجرى بين الطائفتين حرب بباب زويلة. واتفق مرض ريحان وموته فاتهم أبو سعيد أنه سمه وتجمع الطوائف المنحرفة عنه على قتله. فركب من داره على العادة يريد القصر في يوم الأحد لثلاث خلون من جمادى الأولى في موكب عظيم فلما قرب من القصر اعترضه ثلاثة من الأتراك وضربوه حتى مات. فأمر المستنصر بإحضار من قتله فاجتمع الطوائف وقالوا نحن قتلناه. فلم يجد المستنصر بداً من الإغضاء. وقطع الأتراك أبا سعيد قطعاً وتناولت الأيدي أعضاءه فتمزقت واشترى أهله ما قدروا على تحصيله من جثته بمال. وجمع الأتراك ما قدروا عليه من أعضائه ورمته وحرقوا ذلك بالنار وألقوا عليه من التراب ما صار به تلا مرتفعا. وضم أهله ما وصل إليهم منه في تابوت وأسدلوا عليه ستراً وتركوه في بيت مؤزر بالستور وأوقدوا الشموع وأقاموا عزاءه. فتعلقت من بعض الشموع شرارة في الستور التي هناك ومضت فيها فاحترق التابوت بما فيه. وكان مقدار ما حصل في بيت المال البراني على يدي أبي نصر صدقة الوزير وأبي سعيد إبراهيم التستري من يوم مات الوزير علي بن أحمد الجرجرائي وإلى أن قتل أبو سعيد سبعمائة ألف دينار. والذي مات عنه الجرجرائي وهو حاصل بيت المال المذكور برسم النفقات ألف وسبعمائة ألف وستمائة وواحد وعشرون ديناراً ونصف ونصف ثمن دينار. فصار حاصل بيت المال برسم النفقات إلى أن قتل أبو سعيد ألقى ألف دينار وأربعمائة ألف دينار وستمائة دينار وواحد وعشرون ديناراً ونصف ونصف ثمن دينار. ورد المستنصر لأبي نصر أخي أبي سعيد خزانة الخاص ولولدي أبي سعيد النظر في بعض الدواوين. وحقدت أم المستنصر على الوزير أبي منصور صدقة بن يوسف الفلاحي بسبب قتل أبي سعيد وما زالت به حتى صرفته عن الوزارة واعتقلته بخزانة البنود. وقيل كان صرفه في سادس المحرم سنة أربعين. واتفق أنه لما قبض عليه وسجن بخزانة البنود وأمر بقتله بها حفرت له حفيرة ليوارى فيها فظهر للفعلة عند الحفر رأس فلما رفع سئل عنه الفلاحي فقال هذا رأس ابن الأنباري وأنا قتلته ودفن في هذا الموضع وأنشد: ربّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً ضاحكٍ من تزاحم الأضداد وكان أبوه أحد الكتاب البلغاء وتولى ديوان دمشق. ومن أحسن ما قيل في أبي سعيد وقد كره أذاه للمسلمين أنه كان يحلف: وحق النعمة على بني إسرائيل قول الرضي فيه: يهود هذا الزّمان قد بلغوا غاية آمالهم وقد ملكوا العزّ فيهم والمال عندهم ومنهم المستشار والملك يأهل مصر إنّي قد نصحت لكم تهوّدوا قد تهوّد الفلك وفيها استقر في الوزارة بعد الفلاحي أبو البركات الحسين بن عماد الدولة بن محمد بن أحمد الجرجرائي ابن أخي الوزير صفي الدين ولقب بالوزير الأجل الكامل الأوحد علم الكفاة سيد الوزراء ظهير الأئمة عماد الرؤساء فخر الأمة ذي الرئاستين صفى أمير المؤمنين. وفيها ابتدأ أمر أبي محمد الحسن بن علي بن عبد الرحمن اليازوري. وكان من خبره أن أباه علي بن عبد الرحمن كانت له حال واسعة ببلد يعرف بيازور من ضياع فلسطين وكان مقدماً فيها فلما كبرت حاله انتقل إلى الرملة واستوطنها وصارت له وكلاء في الضياع. فاشتهر هناك وعرف بالعفة والصدق وسماح النفس فرد إليه قضاء بعض أعمال الرملة. ونشأ له ابنان نجيبان ولي أحدهما الحكم بعد أبيه إلى أن توفى ثم خلفه أخوه عبد الرحمن هذا من بعده فعرف بسعة النفس وسعة الأخلاق فاتصل بخدمة الوزير الجرجرائي فصر بذلك ممنوعاً ممن يريده بسوء. واتفق أنه حج قبل قدومه إلى مصر فلما زار قبر رسول الله نام في الحجرة الشريفة فسقط عليه خلوق من الزعفران الملطخ في حوائط الحجرة فجاء بعض الخدام وأيقظه من نومه وقال: أيها الرجل إنك تلي ولايةً عظيمة وقد بشرتك فلي منك الحباء والكرامة. ثم انتقل بتلطفه وكثرة مداخلته إلى خدمة السيدة أم المستنصر فتقرب بخدمتها ولازم بابها عندما صرف عن الحكم بفلسطين يسأل عوده إلى وطنه وخدمته فيها وهو مع ذلك يواصل الوزير الفلاحي ويؤانسه فيبدأه بما في نفسه من أبي سعيد التستري فيفاوضه في التدبير على المذكور ويفتح له من العمل عليه ما يظهر له صوابه. فثقل مكانه على أبي منذر لقربه من أم المستنصر ولمما لأنه الوزير الفلاحي وهم به ثم تراخى عنه حتى كان من أمره ما كان وأمر اليازوري في كل يوم يتزايد وحاله يقوى. إلا أن قاضي القضاة وداعي الدعاة قاسم بن تاميلا كان يمتنع من رد الحكم إليه ببلده لما يعلم من سوء رأي أبي سعيد فيه وأنه يريد القبض عليه فكان ينحرف عنه ولا يلتفت إليه. واتفق أن حضر قاضي القضاة ذات يوم بباب البحر من القصر على عادته في كل يوم اثنين لتقبيل الأرض والسلام أو خروج السلام عليه ويجلس معه من الشهود من جرى رسمه بذلك. فلما جلس بباب البحر وخليفتاه القضاعي وابن أبي زكرى والشهود دخل أبو محمد اليازوري وجلس معهم فقال له قاضي القضاة: بأمر من جلست ههنا! أتظن أن المجالس كلها مبذولة لكل أحد أن يجلس فيها هذا مجلس لا يجلس فيه إلا من أذنت له حضرة الإمامة وشرفته به اخرج فوالله لا تضرفت على أيامي أبدا. فخرج ورجلاه لا تكادان تحملانه فوقف بباب البحر إلى أن خرج قاضي القضاة فسار وخليفتاه والشهود معه فسار في أعقابهم وسبقهم ووقف بباب دار القاضي فلما نزل صنع له استعطافا فلم يعره طرفه وانصرف. فلقيه القضاعي وقال: يا أبا محمد كان يجب ألا تريه وجهك عقب ما جرى لك معه. وفارقه. فلقيه ابن زكرى وخطابه بجفاء. فرد إلى داره مغموماً فوجد ثلاثين حملاً من تفاح قد وصلت إليه من ضياعه لتباع بمصر فأنفذ منها خمسة أحمال إلى الوزير ولقاضي القضاة خمسة أحمال وللقائد الأجل عدة الدولة رفق خمسة أحمال ولمعز الدولة معضاد خمسة أحمال ولابن أبي زكريا ثلاثة أحمال وللقضاعي خمسة أحمال وفرق حملين على حراسهم. فلم يلتفت أحد منهم إليه ولا عطف عليه ما خلا القائد الأجل عدة الدولة رفق فإنه شكره وأثنى عليه. وهو مع ذلك يقف بباب البحر فإذا أقبل عدة الدولة رفق يريد القصر تلقاه وسلم عليه فيكرمه ويسأل عن حاله ثم يدخل إلى القصر فإذا خرج وجده واقفاً على حاله فيسلم عليه ويتبعه إلى داره فإذا دخل انصرف عنه. فأقام على ذلك أياما فخف على قلبه ورغب في اصطناعه فصار إذا وصل إلى داره أمره بالنزول معه فينزل ويتحدثان وكان حلو الحديث فيطيل عنده ثم ينصرف. فصار يشتاقه إذا غاب ويمسكه إذا أراد الانصراف حتى تحضر المائدة. وكانت أم المستنصر لما هلك أبو سعيد توقفت أمور خدمتها فأحضرت أخاه وأمرته بخدمتها فامتنع خوفا من الوزير والأتراك واستمرت ثلاثة أشهر تسأله وهو يمتنع. فحضر أبو محمد اليازوري يوماً فجلس عدة الدولة رفق وجرى بينهما امتناع أبي نصر أخي أبي سعيد من خدمة أم المستنصر فقال له رفق: أرى أن تكتب رقعة تلتمس خدمتها وتعرض نفسك عليها. فقال أبو محمد: قد كنت أظن جميل رأيك فيّ وإيثارك مصلحة حالي وأكذبني ظني. فقال: بماذا فقال: الهزء بي فإني قد أجهدت في العود إلى قرية كنت فيها فبخل علي بها. فكيف أتعرض لهذا الأمر الكبير ومناوأة الوزراء! فقال له: أما ترضاني سفيراً لك في هذا الأمر وعلي استفراغ الوسع فيه لوجوب حقك علي فإن قضت الأقدار ببلوغ الغرض في ذلك فقد أدركنا ما نؤثره وإن تكن الأخرى فقد أكثر من العطلة ما تحصل. فأجاب إلى ذلك وكتب إلى السيدة رقعة يعرض نفسه وماله عليها ويخطب خدمتها ويبذل الاجتهاد فيها وأخذها منه رفق. فلما كان من الغد ركب إلى القصر ودخل إلى السيدة وقد أحضر أبو نصر وعاودته الخطاب في خدمتها وهو يمتنع حتى أضجرها فانتهز عز الدولة رفق الفرصة بضجرها وقال: يا مولاتنا قط طال غلق بابك ووقف خدمتك في امتناع الشيخ أبي نصر مما نريده منه وههنا من أنت تعرفينه وهو رجل مسلم وقاض وكبير المروءة وهو مستغن بماله وأملاكه عن التعرض لما لك وهو ثقة ناهض كاف فقالت: من هو فقال القاضي أبو محمد اليازوري وهذه رقعته. فأمرته بتسليمها إلى أبي نصر وقالت: ما تقول فيه فلم يصدق بذلك. فقال يا مولاتنا هو والله الثقة الأمين الناهض الذي يصلح لخدمتك وفيه لها جمال وما تظفرين بمثله. فوقع ذاك منها بالموافقة. فقال لرفق: قل له يجلس في داره غداً حتى أنفذ إليه فسر بذلك وخرج فإذا أبو محمد في انتظاره على عادته فسار ولحق به أبو محمد فقال له: أقمح أم شعير فقال: بل بر يوسفي وقص عليه الخبر. فلما كان الغد جاء الرسول مستدعياً له فركب إلى بابها فأحضرته وأدخلته وراء المقطع وردت إليه أمر بابها والنظر في ديوانها الذي هو باب الريح وجميع أحوالها ونزل. فبلغ ذلك الوزير فكبر عليه وأقلقه أن تم على غير يده وأنه لا يقبل قوله عند السيدة لما في نفسها منه لقتل أبي سعيد. وأقبل الأمراء الأتراك إلى القاضي أبي محمد فهنئوه بما صار إليه فقام إليهم وتلقاهم وأعظم سعيهم إليه وشكرهم وقال: ما أنا إلا خادم ونائب لموالي الأمر أسأل في تشريفي بما يعين لهم من خدمة لأنهض فيها. ثم لما قاموا نهض قائما لوداعهم. وأخذ الوزير الفلاحي في العمل عليه فلم يمض إلا أيام حتى قبض عليه وقتل. سنة أربعين وأربعمائة
فيها سار ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن الحسين بن الحسن بن حمدان أمير دمشق وشجاع الدولة جعفر بن كليد والي حمص بالعساكر وقبائل العربان إلى حلب لقتال أميرها ثمال بن صالح بن مرداس. وذلك أن ثمال بن صالح كان قد قرر على نفسه في وزارة الفلاحي أن يحمل كل سنة عشرين ألفا فأخل الحمل سنتين وأخذ شجاع الدولة يغرى الوزير على ثمال ويسهل أمر حلب. فخرج الأمر إلى ابن حمدان أن يسير هو ووالي حمص بجموع العرب فنزل بمن معه على حماة وفتحها وأخذ المعرة وأقدم فنزل على حلب لخمس بقين من ربيع الآخر. وحارب ابن مرداس حروباً آلت إلى رحيل ابن حمدان بغير طائل في سادس عشر جمادى الأولى. ففي عوده أصابه سيل هلك فيه أكثر ما معه من الخيل والرجال والأمتعة وعاد إلى دمشق. فبعث ثمال إلى المستنصر يسأل عفوه وكان المتوسط بينهما أبو نصر إبراهيم أخو سعيد التستري فأجيب إلى ذلك وانفصل رسول من الحضرة. فورد الخبر بأن ثمال بعث والياً إلى معرة النعمان وأنه أساء التدبير فانحرف عنه الناس وفر منهم إلى حلب وأن جعفراً أمير حمص بادر إلى المعرة فلقيه مقلد بن كامل بن مرداس وحاربه فقتل في الوقعة لست بقين من شعبان وحملت رأسه وشهرت بحلب وأسر كثير من عسكره فبعث المستنصر إلى رسول ثمال ورده وأفهمه ما ورد من المكاتبة. ووجد الوزير أبو البركات السبيل إلى الإغراء بأبي نصر إبراهيم فما زال يبلغ المستنصر بأنه حمله الحقد لقتل أخيه على السعي فيما يضر الدولة من التوسط بين ثمال والحضرة وأن ابن حمدان أساء التدبير في رجوعه عن حلب. فقبض على أبي نصر وأخذت عامة أمواله وعوقب حتى مات. وولي دمشق بهاء الدولة مظفر الخادم الصقلبي وخرج إليها على جرائد الخيل فدخلها على حين غفلة وقبض على ناصر الدولة ابن حمدان وحمله إلى صور ونقله إلى الرملة وصودر وأقام مظفر الخدمة بدمشق. وقبض على راشد بن سنان بن عليان أمير بني كلاب واعتقله بصور. وخرج أمير الأمراء المظفر فخر الملك عدة الدولة وعمادها رفق الخادم في ثامن عشر ذي القعدة بتجمل كثير وأبهة عظيمة وقوة قوية وعدة وافرة وآلات طبله وعساكر تبلغ عدتهم ثلاثين ألفا وكان المنفق فيه عيناً مع قيمة العروض أربعمائة ألف دينار. فبرز ظاهر القاهرة يريد حلب وخرج المستنصر لتشييعه وكتب لجميع أمراء الشام بالانقياد له والطاعة لأمره وأن يترجلوا له إذا لقوه. وسار فوافى الرملة وقد وصل رسول صاحب القسطنطينية بالصلح بين المستنصر وبين بني مرداس ففشل رفق وانخرقت حرمته وجرت بالرملة وبدمشق أمور آلت إلى حرب بين العسكر عدة أيام فبات يوماً ظاهر دمشق. وفيها قتل الوزير صدقة بن يوسف الفلاحي يوم الاثنين النصف من المحرم بخزانة البنود ودفن فيها. واتفق في وفاته عجب وهو أنه لما ولى الوزارة سعى في اعتقال أبي علي الحسن بن علي الأنباري واعتقله بخزانة البنود ثم قتله في سنة ست وثلاثين وأربعمائة ودفنه بخزانة البنود. فلما قبض عليه بعد صرفه عن الوزارة سجن في المكان الذي كان فيه ابن الأنباري من خزانة البنود وقتل فيها ودفن معه. وكان ابن الأنباري من جماعة الوزير الجرجرائي ورفيقاً للفلاحي وصاحبه ولما ولي الوزارة تخوف منه وما زال يعمل عليه حتى قتله كما تقدم. وفيها أقبلت حال أبي محمد اليازوري تزيد ومنزلته ترتفع وخلع عليه ثانيا وأمر ألا يقوم لأحد إذا دخل عليه ولو عظم قدره فكان يعتذر إلى من يغشاه من الجلة والرؤساء الأكابر وأنه ملك اختياره لبالغ في تكرمتهم بما يستحقونه خلا القائد عدة الدولة الذي كان سفيره فإنه كان إذا أقبل وثب إليه قائما. فبلغ السيدة ذلك فقالت له: لا تتحرك لأحد بالجملة فكان إذا جاءه اعتذار إليه. ولقب بالمكين عمدة أمير المؤمنين وترقت أحواله حتى صار يحضر بحضرة الخليفة إذا أراد أن يستدعي الوزير كما كان أبو سعيد مع الفلاحي. فعظم ذلك على الوزير لأنه كان إذا حضر القاضي أبو محمد اليازوري تحدث طويلاً والسيدة من وراء المقطع ثم يستدعي الوزير فيعرض ما يريد من أمر الدولة ولا يكون المجيب له إلا القاضي أبو محمد فإذا أجابه التفت إلى المستنصر وقال أليس هذا الصواب فيقول المستنصر نعم ثم يخرج الرسول من وراء المقطع ويقول هذا الصواب. فكان الوزير كأنه يعرض على اليازوري الأمور دون الخليفة فيشق عليه ذلك ولا يتمكن من مخالفته ولا يستطيع الصبر على ما به. وكان من جملة أصحاب الدواوين رجل يعرف بالشيخ الأجل عبد الملك زين الكفاة أبي المفضل صاعد بن مسعود وإليه ديوان الشام يومئذ وهو شيخ خود وكان الوزراء يعتمدون عليه ويرجعون إلى رأيه. فأحضره الوزير وفاوضه في أمر اليازوري وأخذ رأيه فيما يعمل مع فأشار عليه بأن يحسن للخليفة أن يقلده القضاء ظنا منه أنه إذا تقلد القضاء فإنه يقع في أمر كبير ويشغله ذلك عن ملازمة السيدة فيجد الوزير سبيلاً إلى استخدام ولده مكانه ويتقوى له الأمر فيه ويملك جهة الخليفة والسيدة. وكان قد تكلم في قاضي القضاة من أيام أبي سعيد وذكر أن أمور الناس ناقصة في حكوماته وأن له غلمانا قد استحوذوا على الحكم وهم الذين يوقفون أمور الناس فاستخدم أبو سعيد شاهداً يعرف بابن عبدون خليفة القاهرة وتقدم إلى قاضي القضاة ألا يفصل حكما بين اثنين إلا بحضوره. وضبط ابن عبدون أمر الحكم ضبطا شديدا وكان الخصوم يجتمعون بباب القاضي والشهود بين يديه فلا يمضي حكما إلا في دعوى بين اثنين وما يحتاج إليه من إقامة بينة أو منازعة أمرأة مع بعل لها في فرض وما يجري هذا المجرى. وأما في تثبيت أو قصص مستعجمة الحكم وما يحتاج فيه إلى مناظرات ومنازعات فلا يتكلم في شيء من ذلك إلا عند حضور ابن عبدون وحجج الناس يحتاط عليها في قمطر وتحمل بين يدي القاضي فإذا حضر ابن عبدون أحضرت وفصل الحكم فيما بين أصحابها. وما زال كذلك حتى حضر إليه خصم في مرات فخاف عليه وتشفع إليه بأصدقائه فلم يعره فرضة يوما حتى خرج من مجلس قاضي القضاة وركب فتقدم إليه وقبل ركابه وخضع له وتلطف في أمره فلم يلتفت إليه فعاد إلى من خرج إليه من الشهود وسألهم سؤاله فانتهره. فلما أيس منه وثب عليه بخنجر وخرق به بطنه فخر إلى الأرض ميتا. وأخذ الرجل إلى أبي سعيد فنكل به وقطع يديه ورجليه وضرب عنقه. ثم استخدم أبو سعيد بعد ابن عبدون القضاعي وابن أبي زكرى وأقامهما خليفتي قاضي القضاة وأمرهما بسلوك طريق ابن عبدون في الأحكام فلم يقوما مقامه وكانا يجاملان القاضي فعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل ابن عبدون إلا في فصل الأحكام فإنها كانت لا تنفصل إلا بحضورهما. فثقل ذلك على القاضي لاستيلاء غلمانه عليه واتهامه أن أمور الناس واقفة وأنه لا ينفذ له حكم ولا أمر ولا نهي. وكان يحضر مجلس الوزير يوم الخميس في القصر بعد قضاء خدمة المجالس ثم في الدار يوم الاثنين مسلما عليه. فحضر دار الوزارة يوم الاثنين على رغمه فقربه الوزير وسأل عن حاله فأجاب بأنه لا حكم له ولا أمر والأحكام مردودة إلى خليفته ولهما الحكم دونه فإذا حضرا فتح باب الحكم وإذا غابا أغلق بابه. فقال له: كفيت يا قاضي القضاة. وخرج من عنده وحضر بعده القضاعي وابن أبي زكرى فقال لهما الوزير: ما لقاضي القضاة يتضرر منكما ويشكو استيلاءكما على الحكم دونه وأنه لا تنفذ أوامره معكما فقالا: وأي أمر لنا دونه هل أوقفنا أمر أحكامه أولنا غلمان يمسكون حجج الناس حتى يصانعوهم عليها يعرضان بغلمان القاضي! إنما نحن في حضورنا كبعض الشهود والأمر إليه في إمضاء الأحكام وإنا لنشاهد ما لا يتسع لنا الكلام فيه. فقال: كفيتما أيها القضاة. وانصرفا وقد انفتح له باب الحيلة في صرف القاضي وتولية أبي محمد اليازوري. واتفق مع ذلك توعك أبي محمد وانقطاعه أياما في داره عن مجلس الخليفة فخلا له وجه السلطان وأعاد عليه النوبة ثم قال له: أنت يا أمير المؤمنين لسان الشرع ومقيم مناره ومنفذ أحكامه وقاضي القضاة إنما ينطق بلسانك وينفذ الأحكام عنك فإذا اشتهر في الأقطار ما يتم على الناس في أحكامهم كان سوء السمعة في ذلك على الدولة وإثارة الشناعة القبيحة عليها وفي الخصوم من هو من المشرق والمغرب واليمن وما وراءه والروم وفي استفاضة ذلك غضاضة على الدولة. ونحن إنما نطول على الممالك والدول بإقامة سنن الشريعة وإظهار العدل الذي عفت آثاره في غيرها من الدول وقد كبر قاضي القضاة واستولى عليه غلمانه وغلبوا على أمره. فقال المستنصر: نحن نحفظ فيه خدمة سلفه لنا ومهاجرتهم معنا. فقال: يا أمير المؤمنين حفظك الله وشكرك أما كان من كرامة سلفه أن يستتر حتى لا يشيع هذا عنه وما زال حتى قال الخليفة: من في الدولة يجري مجراه فقال: يا أمير المؤمنين: عبيدك كثير ومع ذلك فبين يديك من يتحمل الحكم به مع ثقته وأمانته وقربه من خدمتك القاضي أبو محمد. فقال: ذلك في خدمة مولاتنا الوالدة ولا يفسح له في ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين هي خلد الله ملكها أغير على دولتك وأحسن نظراً لها من أن تحول بينها وبين ما يجملها ومع ذلك فلم ينقل مما هو فيه إلى ما هو دونه بل إلى ما هو أوفى منه. فأجاب إلى ذلك وقام فشرع في كتب سجله وإعداد الخلع له. وسمع هذه النوبة القائد عدة الدولة فأوفد إلى أبي محمد يخبره وقال له تلطف في أمرك كما تريد. فعظم ذلك عليه وخاف من بعده عن خدمة السيدة إذ كانت أجل الخدم فإن كل من في الدولة من وزير وأمير وغيرهما محتاج. فلما كان عشاء الآخرة حمل على نفسه وهو محموم وركب إلى باب الريح ودخل وأنفذ يعلم السيدة مكانه فخرجت وراء المقطع وسألته عن حال مرضه وما الذي دعاه للعناء في هذا الوقت. فقص عليها القصة وقال: إنما الغرض إبعادي عن خدمتك ليقع التمكن مني. فقالت: وما الذي تكره من ذلك فقال: يا مولاتنا هوى الحكم واسع وأحوال قاضي القضاة ابن النعمان فيه مشهورة ولو كانت جارية على النظام المستقيم لشغلت عن خدمتك فكيف والحاجة داعية إلى إصلاحه وإحكام نظامه وفي هذا شغل كبير. فقالت: لا يضيق صدرك بهذا الأمر فبابي لك وخدمتي موفورة عليك ولا أستبدل بك أبداً. فقال: يا مولاتنا قد قدمت القول أن هوى الحكم كبير واسع وانشغالي به يحول بيني وبين ملازمة بابك. فقالت: خليفتاك في الحكم القضاعي وابن أبي زكرى هما ينفذان من الأحكام ما يجوز تنفيذه فإذا تحررت إلى فصل الأحكام نزلت ففصلت ذلك وقررت لنزولك يومين في الجمعة لفصل الأحكام وإذا نزلت كان ولداك ينوبان عنك في تنفيذ أمور خدمتي وهذا التقرير لا يغلبك فعله. فقبل الأرض ودعا وشكر وانصرف. وكانت إذا قالت قولاً وفت به وثبتت عليه فإنها كانت وثيقة العقد حافظة العهد غير ناقضة له ولا متغيرة عنه مع من تطلع من أمره على ما يقتضي التغيير عليه فكيف بمن ترتضي طريقته وتحمد خلائقه. وفيها ولي القائد بهاء الدولة وصارمها طارق الصقلبي المستنصري دمشق فقدمها صبيحة يوم الجمعة مستهل شهر رجب وساعة وصوله دخل القصر وقبض على ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان. |
12-21-2012, 08:55 PM | #23 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة إحدى وأربعين وأربعمائة
في ثاني المحرم صرف قاضي القضاة أحمد بن عبد العزيز بن النعمان عن القضاء. وكانت هذه ولايته الثانية وله فيه ثلاث عشرة سنة وشهر وأربعة أيام. واستدعي إلى حضرة المستنصر القاضي أبو محمد اليازوري وخلع عليه مكانه في رابع عشره وقرئ سجله في الديوان وخرج والدولة بأسرها بين يديه. واستناب ابنه الأكبر أبا الحسن محمداً ولقب بالقاضي الأجل خطير الملك وأقام ابنه الآخر في جهات السيدة. وشرع الوزير في الإرسال إلى السيدة بأن يستقر ابنه في بابها فامتنعت من ذلك وقالت ما كنت بالذي يستبدل به بوجه ولا سبب. فسقط في يده وقال: أردنا وضعه والله تعالى يريد رفعه. فقال له أبو الفضل: أما إذ جرى الأمر بخلاف ما ظنناه فليس إلا مجاملة الرجل. وكان أبو محمد اليازوري لا يسلم على الوزير ولا يجتمعان إلا يوماً في الشهر يحضر إلى دار الوزير فإذا حضر إليه احتجب عن كل أحد وتلقاه قائما وأجلسه على مخدة وأعطه من المجاملة فوق ما يؤثره منه وهو مع ذلك يبطن له السوء ويعمل في التدبير عليه. وكانت أيام الوزير كلها رديئة لكثرة القبض على الناس والمصادرات واصطفاء الأموال والنفي ونحو ذلك فكثر الذام له. وكان أيضاً يبطش بمن يبطش به من غير علم الخليفة ولا استئذانه فتغير خاطر الخليفة عليه وتكثر منه تغيظه. إلا أن العادة جرت بألا يعترض الوزير فيما يفعله ويمد له في النفس ويصبر على ما يكون منه. وفيها قبض على أبي نصر إبراهيم بن سهل واتهم أنه مالأ ثمال بن صالح حتى قتل جعفر بن كليد صاحب حمص وسلم إلى الوزير أبي البركات الجرجرائي فضيق عليه وصادره حتى مات تحت العقوبة. وكان هو الذي سعى به إلى المستنصر فقال إنه عين لثمال. واتفق وصول الخادم رفق إلى دمشق وخروجه منها في سادس صفر يريد حلب فوصل إلى جبل جوشن في ثاني عشري ربيع الأول وأقام هناك ثم بدا له فبعث بما معه من الأثقال إلى المعرة فظن من معه من العساكر أنه يريد أن ينهزم فأجدوا في الرحيل وقد حاصر قلوبهم الوجل وداخلهم الخوف فأمر بردهم إليه فأبوا ذلك عليه. وفطن أهل حلب لهم. فتبعوهم ونهبوا ما قدروا عليه منهم وكانت بينهما حرب جرح فيها رفق في عدة مواضع من رأسه وبدنه وأسر وانهزم العسكر بأسره. وحمل رفق على بغل وهو مكشوف الرأس ومعه جماعة من وجوه عسكره فلم يحتمل ما أصابه واختلط عقله ومات بقلعة حلب بعد ثلاثة أيام في مستهل ربيع الآخر واعتقل عامة من كان معه من القواد والكتاب بحلب. فلما ورد الخبر بذلك على المستنصر أمر بالإفراج عن ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان من الاعتقال وقلد إمارة دمشق الأمير المؤيد مصطفى الملك معز الدولة ذا الرئاستين حيدرة بن الأمير عصب الدولة حسين بن مفلح في رجب وخرج معه ناظرا في أعمال الشام أبو ووجد أعداء الوزير أبي البركات الحسين بن محمد الجرجرائي سبيلاً إلى إغراء المستنصر به وأنه تسرع فيما عادت مضرته على الدولة من تجهيز العساكر إلى حلب. فحركت هذه الأقوال وما يشبهها عليه ما يحقده الخليفة من استبداده بأمور من غير أمر ولا استئذان فأمر به فقبض عليه ونفى إلى صور في منتصف شوال فاعتقل بصور. فكانت وزارته سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام. ثم أفرج عنه ومضى إلى دمشق. وبقي الأمر في الوزارة عدة أيام والخليفة يعرض لقاضي القضاة أبي محمد اليازوري بالوزارة وهو يمتنع عليه فأسند إلى أبي الفضل صاعد بن مسعود من الأمراء وأقيم واسطةً لا وزيرا وخلع عليه ولقب بعميد الملك زين الكفاة وجعل يرسم عليه عرض ما يختص بالرجال دون الأموال. وكان إذا أراد الاستئذان على ما يفعل جلس اليازوري بحضرة الخليفة واستدعى أبو الفضل فعرض ما يحتاج إليه فيتقدم إليه اليازوري بما يفعله. ويخرج في نفسه من اليازوري ما كان يدور بينه وبين الوزراء في معناه. فأخذ يحمل عليه الرجال ويوهمهم أنه إذا سأل لهم في زيادة أو ولاية يعترضه اليازوري ويفسد عليه. فلما كان في بعض الأيام قال ناصر الدولة حسن بن حسين بن حمدان لبعض ثقاته: اعلم أن القاضي له الثناء الجميل الكثير ونحن شاكرون له مقيدون بجميله مفتقرون إلى جاهه في جميع أمورنا واعتفاؤه من هذا الأمر لا يبرئه من ذمنا إن وقفت حوائجنا ويكون الشكر فيه لغيره إن قضيت وهذا الرجل عميد الملك هوذا يحمل الرجال عليه ويشعرهم أنه يجتهد في قضاء حوائجهم وأنه يعترضه بما يبطلها عليهم وفي هذا الأمر ما تعلمه. فقل أنت له عني: يا سيدنا إما أن تزيد شكر الرجال وسلامة صدورهم لك وخلاص نياتهم في طاعتك فادخل في هذا الأمر فإن أحسنت عرفوا ذلك لك وشكروه منك وإن أسأت كان عليك ضرره وشره وإلا فاعتزل جانبا ولا تلعب بروحك مع الرجال وإلا أبلغك أبو الفضل. فبلغه الرجل ذلك فقال: أمهلني الليلة ثم بكر إلي. فلما كان في السحر بكر إليه فقال: أعد علي قول ناصر الدولة فأعاده. فقال: أقره عني السلام وقل له: والله إلا أدخل فيه ويكون لي خيره وشره. وأبلغ ناصر الدولة رسالته فقال: هذا هو الصواب. سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة في سابع المحرم قرىء سجل القاضي أبي محمد اليازوري بالوزارة ولقب بالوزير الأجل المكين سيد الوزراء تاج الأصفياء قاضي القضاة وداعي الدعاة علم المجد خالصة أمير المؤمنين وخلع عليه. فنظر في الوزارة وليس من أهلها ولا من أرباب الكتابة فمضى فيها مضي الجواد ونهض مسرعاً نهوضا عز به في وجوه من تقدمه مع ما بيده من قضاء القضاء والدعوة والنظر في ديوان السيدة. وكاتب ملوك الأطراف فأجابوه بوفور حقه إلا معز الدولة بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية فإنه قصر في المكاتبة عما كان يكاتب به من تقدم من الوزراء فإنه كان يكاتب كلا منهم بعبده فجعل مكاتبته صنيعته. فاستدعى الوزير أبا القاسم ابن الإخوة وكيل ابن باديس بمصر وعتب صاحبه عنده وقال: أن معزاً ينقصني عمن تقدمني إذا لم أكن من أهل صناعة الكتابة وإن لم أكن أوفى منهم فما أنا دونهم ومن رفعه السلطان ارتفع وإن كان خاملاً ومن وضع اتضع وإن كان جليلا نبيلاً فاكتب إليه بما يرجعه إلى الصواب. فكتب إليه بذلك وقد أذكى الوزير عليه عيونا يطالعونه بأنفاسه. فلما وقف على كتاب ابن الإخوة قال: ما الذي يريد مني هذا الفلاح لا كنت عبده ولا كان هذا لا يكون أبدا وما كتبت إليه فكثير. فطالعه عيونه بقوله فأحضر ابن الإخوة وقال له: قد جرى صاحبك على عادته في الجهل فاكتب إليه بما يردعه فيه وإلا عرفته بنفسي إذ لم يعرفني. فكتب إليه بذلك فأجاب بما هو أقبح من الأول. فدس إليه الوزير من تلطف في أخذ سكين دواته فلما وصلت إليه أحضر ابن الإخوة وقال له: كنت أظن بصاحبك أن الذي حمله على ما كان منه ثروة الشبيبة وقلة خبره بما تقضي به الأقدار وأنه إذا نبه تنبه فإذا الجهل مستول عليه وظنه أن بعد المسافة بيننا وبينه يمنع من الانتصاف منه والوصول إليه بما يكره وقد تلطفنا في أخذ سكين دواته وها هي ذي فأنفذها إليه وأعلمه أنا كما تلطفنا في أخذها أنا نتلطف في ذبحه بها. ودفعها إليه. فكتب ابن الإخوة بذلك فازداد شراً وبطراً. فدس عليه من أخذ نعله وكان يمشي في الأحذية السندية فلما وصلت إليه أحضر ابن الإخوة وقال له: اكتب إلى هذا البربري الأحمق وقل له إن عقلت وأحسنت أدبك وإلا جعلنا تأديبك بهذه فجرى على عادته في القول القبيح. وفيها توسل ثمال بن صالح في الصفح عنه وأطلق المأسورين وسعى في ذلك علي ين عياض قاضي صور وسير ثمال زوجته علية بنت وثاب بن جعفر النميري وولده وثابا إلى القاهرة ومعهما مال سنتين أربعون ألف دينار. فقام اليازوري بأمرهم فقبلهم المستنصر وبالغ في الإحسان إليهم وزاد في ألقاب ثمال وألقاب مقلد ابن عمه ولقب قاضي صور عين الدولة. وفيها ملك المستنصر حصن المنيعة بالشام. سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة فيها أظهر المعز بن باديس صاحب إفريقية الخلاف على المستنصر وسير رسولاً إلى بغداد ليقيم الدعوة العباسية واستدعى منهم الخلع فأجيب إلى ذلك. وجهزت الخلع على يد رسول يقال له أبو غالب الشيزري ومعه العهد واللواء الأسود فمر ببلاد الروم ليعدى منها إلى إفريقية فقبض عليه صاحب الروم. وبلغ ذلك المعز بن باديس فأرسل إلى قسطنطين ملك الروم في أمره فلم يجبه رعايةً لحق المستنصر. واتفق قدوم رسول طغرلبك يستأذنه في مسيره إلى مصر فأظهر المودة التي بينه وبين المستنصر وأنه لا يرخص في أذيته. واتفق قدوم رسول المستنصر إليه بهدية عظيمة فبعث معه برسول القائم بما على يده فدخل إلى القاهرة على جمل وأحرق العهد واللواء والهدية في حفرة بين القصرين وكان القادر قد فعل مع الظاهر والد المستنصر مثل ذلك بالخلعة التي سيرها إلى محمود بن سبكتكين. ثم أقر المستنصر رد الرسول إلى صاحب القسطنطينية. وكان سبب عصيان ابن باديس ما تقدم من تقصيره في مكاتبة الوزير اليازوري وما دار في ذلك. وكان بطرابلس الغرب وما والاها زغبة ورياح وهما قبيلتان من العرب وبينهما حروب وعداوة فأحضر الوزير مكين الدولة أبا علي الحسن بن علي بن ملهم بن دينار العقيلي أحد أمراء الدولة وكان رجلا عاقلا وسيره إلى زغبة ورياح بخلع سنية وأنعام كثيرة وأمره أن يصلح ذات بينهما ويتحمل ما بينهما من ديات ويفديه بالزيادة في إقطاعاتهما. فلما تم له ذلك أمرهم بالمسير إلى المعز بن باديس وأباحهم دياره وتشدد في هذا الأمر حتى توجه المذكورون إلى ديار ابن باديس وملكوها وجمعوا ذيوله عليه وقلموا أظفاره وضيقوا خناقه حتى لم يتمكن من قتالهم إلا مستنداً إلى حيطان إفريقية. وذلك أنهم ملكوا برقة فسار إليهم المعز فهزموه وتبعوه إلى إفريقية وحصروا المدن فنزل بأهل إفريقية بلاء لا يوصف فخرج إليهم المعز في أربعين ألفا وقاتلهم فهزموه إلى القيروان. ثم جمع ثمانين ألفا وقاتلهم فهزموه وأكثروا من القتل في أصحابه وحصروه بالقيروان. وأقاموا يحاصرون البلاد وينهبون إلى سنة تسع وأربعين فانتقل المعز إلى المهدية في شهر رمضان منها حتى نفدت أمواله وقلت عدده وتفلت منه رجاله وأشرف على التلف فلم يجد سبيلاً غير إعمال الحيلة في خلاصه. فخرج متخفياً في زي امرأة حتى انتهى إلى المهدية فاستولت العربان على حرمه وداره وغلمانه وقتلوا الرجال وسبوا النساء وانتهبوا ما كان في دوره وقصوره وعاثوا في البلد ينهبون ويأسرون ويقتلون فخربت القيروان حينئذ إلى اليوم. ووصل كثير مما نهب من قصور بني باديس من الأسلحة والعدد والآلات والخيام وغيرها إلى القاهرة فكان ليوم دخولها إلى القاهرة أمر عظيم من اجتماع الناس واعتبار أهل البصائر بتقلب الأحوال. وكان من خبر دخول العرب إلى المغرب أن بطون هلال وسليم من مضر لم يزالوا في البادية ونجعوا من نجد إلى الحجاز فنزل بنو سليم مما يلي المدينة النبوية ونزل بنو هلال في جبل غزوان عند الطائف وكانوا يطرقون العراق في رحلة الشتاء والصيف فيغيرون على أطراف الشام والعراق وكانت بنو سليم تغير على الحاج أيام الموسم وزيارتهم المدينة. ثم تجهز بنو سليم وكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم وصاروا جنداً لهم بالبحرين وعمان وقدموا معهم إلى الشام. فلما غلبت القرامطة في أيام المعز لدين الله أبي تميم معد ثم في أيام ابنه العزيز بالله أبي منصور نزار وانهزموا من الشام إلى البحرين نقل العزيز بالله من كان معهم من بني هلال وسليم إلى مصر وأنزلهم بالجانب الشرقي من بلاد الصعيد. وأقاموا هنالك وأضروا بالبلاد إلى أن ملك المعز بن باديس القيروان في سنة صمان وأربعمائة وهو ابن ثماني سنين من قبل الظاهر لإعزاز دين الله علي بن الحاكم بأمر الله فامتدت أيامه حتى قام في الخلافة المستنصر بالله أبو تميم معد بن الظاهر واستوزر أبا محمد اليازوري فأنف من مكاتبته بالمولى وكان ما تقدم ذكره. فحلف المعز بن باديس ليحلون الدعوة إلى بني العباس ولج في ذلك وقطع الدعاء للمستنصر وأزال اسمه من الطرز والرايات ودعا للقائم أبي جعفر بن القادر في سنة أربعين وأربعمائة وكتب إليه بذلك. فكتب إليه بالعهد صحبة أبي الفضل بن عبد الواحد التميمي فقرأ كتابه بجامع القيروان ونشر الرايات السود وهدم دار الإسماعيلية. ووصل الخبر بذلك إلى القاهرة فأشار اليازوري بتجهيز أحياء هلال بن جشم. والأشروزينية ورياح وعدي وربيعة إلى المغرب وتولية مشايخهم أعمال إفريقية. فقبلت مشورته. وأرسل إليهم في سنة إحدى وأربعين وحمل إلى مشايخهم الأموال وأنعم على سائرهم بفرو ودينار لكل أحد وأبيح لهم حمى المغرب. وكتب اليازوري إلى المعز بن باديس: أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا وأرسلنا عليها رجالا كهولا ليقتضي الله أمراً كان مفعولاً. فسارت العرب إلى برقة وفتحوا أمصارها وكتبوا لإخوانهم الذين بشرقي الصعيد يرغبونهم في البلاد فأعطوا من الدولة دينارين لكل واحد ومضوا إلى أصحابهم فتصارعوا على البلاد فحصل لسليم الشرق ولهلال المغرب. وخربوا المدينة الحمراء وأجدابية وسرت. وأقامت بطون من سليم وأحلافها بأرض برقة وسارت قبائل دياب وعرق وزغب وجميع بطون هلال إلى إفريقية كالجراد المنتشر لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه حتى وصلوا إلى إفريقية سنة ثلاث وأربعين. وكان أول من وصل منهم أمير رياح مؤنس بن يحيى العنزي فاستماله المعز بن باديس وكثر عيثهم في البلاد ونادوا بشعار المستنصر. فبعث إليهم المعز العسار فأوقعوا بها فخرج إليهم في ثلاثين ألفا فهزموه وفر بنفسه وخاصته إلى القيروان فنهبوا جميع ما كان معه وقتلوا واقتسم العرب بلاد إفريقية في سنة ست وأربعين وكان لزغبة طرابلس وما يليها ولمرداس بن رياح باجة وما يليها. ثم اقتسموا البلاد ثانيا وكان لهلال من قابس إلى المغرب وهم رياح وزغبة والمعقل وجشم وترنجة والأسيح وشداد والخلط وسفيان. ونصوح الملك من المعز بن باديس فركب البحر في سنة تسع وأربعين فدخل العرب القيروان واستباحوه وخربوا مبانيه فتفرق أهله في البلاد. ثم أخذوا المهدية وحاربوا زناتة من بعد صنهاجة وغلبوهم على الضواحي واتصلت الفتنة بينهم فخربت إفريقية بأسرها وصيروا البربر لهم خولاً. ومات المعز بن باديس سنة أربع وخمسين وأربعمائة. وكان المستنصر لما بعثهم إلى إفريقية جعل المؤنس بن يحيى المرداسي ولاية القيروان وباجة وأعطى زغبة طرابلس وقابس وجعل الحسن بن مسرة في ولاية قسنطينة فلما غلبوا صنهاجة ملك كل منهم ما عقد عليه فاشتد عيثهم وإفسادهم. وفيها كانت وقعة البحيرة. وذلك أنها في إقطاع بني قرة وقد ملكوها وعمروا ضياعها وكثرت فيها أموالهم واشتدت شوكتهم وخشن جانبهم وكثر المقدمون فيهم حتى انتشر ذكرهم وذل لهم عددهم وثقل أمرهم على الولاية بالإسكندرية فجاورهم الطلحيون واستذموا منهم وكانت لهم واجبات على الدولة من غير إقطاع وهم يأخذون واجباتهم محمولة مع واجبات العسكر بالإسكندرية عندما تحمل إليها. فاتفق أن ناصر الدولة ابن حمدان أبا نصر الدولة حسين كان واليا بالإسكندرية. فاستحق الطلحيون على الدولة عن واجباتهم المذكورة ثلاثة آلاف دينار فواصلوا اقتضاء ناصر الدولة إنفاقهم فيهم فوعدهم وكتب إلى الحضرة يلتمس ذلك فوعده الوزير أنه إذا حمل إلى رجال العسكر استحقاقهم حمل ذلك في جملته. وكان قد بقى على حمل المال شهران فاستبعدوا الصبر إلى ذلك الوقت وواصلوا مطالبته وحملوا القريين على معونتهم عليه فاضطروه إلى المسير معهم إلى الحضرة لالتماس ذلك فسار إلى الجيزة وطلع إلى الوزير وعرفه الحال فقال ما أخرنا ذلك عنهم إلا أن السنة كثيرة النفقات والطوارئ وهذه ألف دينار أنفقها فيهم إلى أن تحمل باق مالهم مع مال العسكر. فأخذ الألف وعرفهم ما قال الوزير. فامتنعوا عن الأخذ وأبوا إلا قبض الثلاثة آلاف وألزموه بالعود. فعاد وعرف الوزير فاغتاظ وأمر لهم بألف أخرى. فنزل إليهم فأبوا إلا أخذ الجميع وجفوا في الخطاب فعاد إلى الوزير وعرفه فغضب وقال: إجابتهم إلى ما التمسوه دفعةً بعد أخرى طمعهم طمعهم والله لا أطلق لهم درهماً واحداً. واستعاد الألفي دينار وتقدم بتجريد العسكر لهم فتسرع يزحف مع ليث الدولة كافور الشرابي ونزل إليهم فإذا هم قد تأهبوا للقائهم. فجرت بينهم وقفة قتل فيها اثنان من العسكر وحجز بينهما الليل. وبلغ الوزير ذلك فشق عليه إقدامهم على المحاربة سيما بنو قرة فإنهم صلوا الحرب وكانوا فيها أشد من الطلحيين. فأخذ الوزير يجرد إليهم العساكر فانطردوا وجمعوا حشودهم والتقوا بكوم شريك وكانت الدائرة عليهم وقتل منهم خلق كثير. وأنهزموا والعساكر تتبعهم فأحاطت بأموالهم من كل ما يملكونه وفر بنو قرة على وجوههم إلى برقة ومعهم الطلحيون فانقطع أثرهم من البحيرة إلى اليوم وصاروا مطردين في قبائل العرب نحواً من أربعين سنة. وكان كل من بالحضرة يفند رأى الوزير في تجهيز العساكر إليهم ويحكمون بأنهم لا يفارقون إلى البحيرة فجاء الأمر بخلاف ظنهم. ثم إن الوزير رأى أن في إقامة العساكر في أعمال البحيرة كلفةً كبيرة فأرسل إلى بني سنبس وكانوا بالداروم وفلسطين وقد ثقلت وطأتهم هنالك وصعب أمرهم فعدى بهم إلى البحيرة وهم أعداء قيس وأوطأهم ديارهم وأقطعهم أرضهم فمحى اسم بني قرة من هناك. وكان تجهيزه للعسكر في شهر رمضان وتسييره لهم إلى بني قرة في مستله شوال فخطأه الناس في فعله وقالوا لم يجرد عسكر قط في شوال فظنوا أنه لا يؤمن على العسكر أن ينهزم وينكسر. وكان شمس الدولة زمام الأتراك والقيصرية وإليه زم القصور والخدمة في الرسالة وليس أحد في الدولة يجري مجراه جلالة وتقدما بينه وبين الوزير مباينة شديدة ويتربص به الدوائر ويغتال له الغوائل فكان ينتظر إنهزام العسكر ليقبض عليه. فلما أراد العسكر أن يسير من الجيزة ومقدمه ناصر الدولة قرر معه لقاءهم في اليوم الخامس من شوال بطالع يخبره به وسير معه عدة طيور من الحمام ليطالعه بما يكون يوما بيوم. فلما كان في ذلك اليوم وهو يوم خميس جلس في داره وقد اشتد قلقه وكثر اهتمامه بما يكون من العسكر واحتجب عن الناس لشغل سره وجلس ينتظر الطائر. فلم يزل كذلك إلى الساعة الخامسة من نهاره فقام ليجدد طهارة فعبر البستان وقد أطلق الماء في مجاريه فرأى ورقة تمر على وجه الماء فأخذها متفائلاً بها فوجدها أول كتاب كان قد وصل من القائد فضل إلى الحاكم بأمر الله قد ذهبت طرته وعنوانه وبقى صدره وهو: كتب عبد مولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين من المخيم المنصور في الساعة الخامسة من نهار الخميس الخامس من شوال وقد أظفره الله عز وجل بعدو الله تعالى وعدو الحضرة المطهرة أبي ركوة المخذول وهو في قبضة الأسارى والحمد لله رب العالمين. فلما وقف على ذلك سجد شكراً لله تعالى وعجب من موافقة اليوم وعدة الأيام من شوال والأعلام بالظفر. ثم تجهز للصلاة فما فرغ حتى سقط الطائر بانكسار بني قرة وانهزامهم وما من الله تعالى به من الظفر بهم. فأخذ الكتاب والطائر وركب إلى القصر ودخل إلى المستنصر وأوقفه على الكتاب فسر بذلك وأراه الطير ثم تواصلت رسل ناصر الدولة بالبشرى وشرح الحال في الظفر وانهزام القوم فخلع على الوزير وزيد في ألقابه للدين غياث الدين فتم له النظر وقوى أمره وذلك من كان يعاديه فجرى على عادته في العفو والمجاملة. وكان أهل جزيرة صقلية قد خالفوا الدولة غير مرة لما فيهم من الشر والغلظة وطردوا الولاة. وصار إليهم المعز ابن باديس فملكوه عليهم وقد خرج عن طاعة الدولة فأساء السيرة فيهم وثقل عليهم فوثبوا عليه وأخرجوه منها. وكاتبوا ملك الروم فسار إليهم بطريق كبير فولوه أمرهم مدة ثم وثبوا به وأخرجوه عنهم. وبعثوا إلى الحضرة يسألون إقالة عثرتهم والعفو عنهم ويسألون إيفاد وال. وكان بصقلية بنو أبي الحسين لهم رئاسة وفيهم من يؤهل نفسه لولايتها فسارت الخلع إلى رجل منهم يعرف بمستخلص الدولة فمكث فيهم زمانا ثم نفروا منه وبعثوا يسألون تغييره عنهم. فسير الوزير رجلاً من أمراء الدولة يعرف بصمصام الدولة ابن لؤلؤ وأسر إليه أن يتلطف في إخراج بني أبي الحسين من صقلية ويسيرهم إلى الحضرة. فدخل إليها وساس أمره حتى بعث بجميع من كان فيها من بني أبي الحسين. واستقام الأمر في صقلية بخروجهم عنها. وقام ببلاد اليمن رجل يعرف بعلي بن محمد الصليحي يتشيع فحسن له الدعاة الدخول في نصرة خلفاء مصر فأعلن ذلك بها ودعا أهل اليمن إليها وحمل تجارتهم مع هدية جليلة القدر تبلغ زهاء عشرة آلاف دينار إلى المستنصر. وكان أبوه قاضياً باليمن سني المذهب وزوجته أسماء ابنة عمه شهاب وكانت أجمل خلق الله وهي أم الدعاة باليمن وعرفت بالحرة. وكانت ذات عز وكرم وتفاخر بنوها بها ومدحت. وكان باليمن الداعي عامر بن عبد الله الرواحي فاستمال أبا الحسن علي بن محمد بن علي الصليحي وهو صغير حتى مال إليه فلما مات عامر أوصى له بكتبه وعلومه فدرسها حتى تضلع من معارفه وصار من فقهاء الشيعة وحج بالناس دليلاً خمس عشرة سنة. ثم ثار في سنة تسع وعشرين وأربعمائة وتزايد أمره ودعا للمستنصر وكتب إليه بما هو عليه واستأذنه في المسير إلى تهامة فأذن له. ولم تخرج سنة خمسين وأربعمائة حتى ملك السهل والجبل الوعر من بلاد اليمن. وجهز الوزير إلى النوبة فأضعف عليهم البقط وحملوه واستقر الأمر على ذلك. سنة أربع وأربعين وأربعمائة فيها كتبت بغداد محاضر تتضمن القدح في نسب الخلفاء المصريين ونفيهم من الالتحاق بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وجمع سائر أعيان الفقهاء ببغداد وأشرافها وقضاتها وعزوا نسبهم في الديصانية من المجوس. وسيرت المحاضر إلى البلاد وشنع عليهم تشنيع كبير. وسبب ذلك الغضب ما عمل مع الرسول المرسل من المعز بن باديس فإنه لما شهر بالقاهرة على جمل مقلوب وكتاب العقد في عنقه والهدية بين يديه ثم أحرقت الخلع والتقليد أعيد الرسول إلى ملك الروم فعز عليه ما فعل واعتذر إليه منه فإنه كان قد ضمن له من مصر إعادته إليه سالماً بعد ما جرت مخاطبة في طلبه. ثم أعاده ملك الروم إلى بغداد فوصل في سنة أربع وأربعين هذه. وسبب عوده أن المعز بن باديس بعث رسوله أبا القاسم بن عبد الرحمن إلى بغداد في ذلكن فبعث معه الملك طغرلبك أبا علي بن كبير ليخاطب ملك الروم في رد أبي غالب وكتب معه كتابا عنوانه: من ركن الدين وغياث المسلمين بهاء دين الله وسلطان بلاد الله ومغيث عباد الله أبي طالب يمين الخليفة أمير المؤمنين إلى عظيم الروم. ومضمونه بعد البسملة: الحمد لله القاهر سلطانه الباهر برهانه العلي شأنه السابغ إحسانه ثم مر فيه إلى أن قال: وقد نجم بمصر منذ سنين ناجم ضلالة يدعو إلى نفسه ويغتر بمن أغواه من حزبه ويعتقد من الدين ما لا يستجيزه أحد من أهل العلم في الأئمة الأول وهذا العصر ولا يستحسنه عاقل من أهل الإسلام والكفر. ثم ذكر رسول أبا غالب وعاتب في أمره وطلب تسييره مخفوراً إلى المعز بن باديس. فقدم إلى قسطنطين. متملك الروم بالقسطنطينية في صفر من هذه السنة فتلقاه الملك وأدخله عليه وسأله عن السلطان طغرلبك فذكر له الرسالة وطلب منه مقاطعة صاحب مصر وإطلاق أبي غالب وإرسال رسول المعز إليه. فقال له: صاحب مصر مجاور لنا وبيننا وبينه عهود وهدنة وقد بقي منها سنتان ولا يمكن فسخها وأما رسل المعز والرسل إليه فهم قوم يسعون في الفساد. وتردد القول إلى أن أطلق أبا غالب وأجازه إلى المعز وعاد أبو علي ورفيقه إلى بغداد في بقية السنة. وفيها قصر مد النيل ولم يكن في المخازن السلطانية شيء من الغلال فاشتدت المسغبة بمصر. وكان لخلو المخازن السلطانية من الغلال سبب وهو أن الوزير اليازوري لما تقلد وظيفة قضاء القضاة في وزارة أبي البركات الجرجرائي كان ينزل إلى الجامع بمصر في يومي السبت والثلاثاء من كل جمعة فيجلس في الزيادة منه للحكم على رسم من تقدمه من القضاة وإذا أقبل العصر طلع إلى القاهرة. وكان في كل سوق من أسواق مصر على أرباب كل صنعة من الصنائع عريف يتولى أمورهم وكانت عادة أخباز مصر في أزمنة المساغبة متى بردت لا يرجع منها إلى شيء لكثرة ما تغش به. وكان لعريف الخبازين دكان وكان يبيع الخبز وبحذانها دكان لصعلوك يبيع الخبز أيضاً وكان سعره يومئذ أربعة أرطال بدرهم وثمن. فرأى الصعلوك أن خبزه قد كاد يبرد فخاف من كساده فنادى عليه أربعة أرطال بدرهم ليرغب الناس فيه فمال إليه الزبون فاشتروا خبزه لأجل تسمحه بثمن درهم وبار خبز العريف فغضب ووكل به عونين من الحسبة أغرماه دراهم. ووافق ذلك نزول قاضي القضاة إلى الجامع فاستغاث به فأمر بإحضار المحتسب وأنكر ما فعله واعتذر بأن هذا من العريف وأنه لم يتحقق باطن الحال. فأمر القاضي بصرف ذلك العريف وأن يغرم ما أخذ من الخباز والتفت إلى صاحب ديوانه وقال: ما معك فادفعه إلى هذا الخباز. فناوله قرطاسا فيه ثلاثون رباعيان فكاد عقله يطير فرحا. وعاد فنادى على الخبز خمسة أرطال بدرهم فمال إليه الناس وهو ينادي بزيادة رطل برطل إلى أن بلغ عشرة أرطال بدرهم. وانتشر ذلك في البلد جميعه وتسامح الناس به فتسارعوا إليه فلم يبق في البلد خباز حتى باع عشرة أرطال بدرهم. وكانت العادة أن يبتاع في كل سنة غلة للسلطان بمائة ألف دينار ويمحل متجرا. فلما عاد القاضي إلى القاهرة مثل بحضرة الخليفة وعرفه ما مر به في يومه من إرخاص السعر بغير موجب وقال: يا مولانا إن المتجر الذي يقام بالغلة فيه مضرة كبيرة على المسلمين وربما انحط السعر عن مشتراها فلا يمكن بيعها فتتغير في المخازن وتتلف وأنه يقام متجر لا كلفة على الناس فيه ويفيد أضعاف فائدة الغلة ولا يخشى عليه من تغير في المخازن ولا انحطاط سعر وهو الخشب والصابون والحديد والرصاص والعسل وما أشبه ذلك. فأمضى الخليفة ما رآه وبطل المتجر في الغلة وتوسع الناس بذلك. سنة خمس وأربعين وأربعمائة سنة ست وأربعين وأربعمائة فيها أيضا قصر مد النيل ونزع السعر ووقع الوباء. ولم يكن في المخازن السلطانية إلا ما ينصرف في جرايات من في القصور ومطبخ الخليفة وحواشيه لا غير فورد على الوزير من ذلك ما أهمه. وصار سعر التليس ثمانية دنانير واشتد الأمر على الناس. وكان التجار بين نار المعاملين وضيق الحال عليهم في القيام للديوان بما يجب عليهم من الخراج ومطالبة الفلاحين بالقيام به يبتاعون منهم غلاتهم على أن يصبروا عليهم إلى حين إدراكه بسعر يربحون فيه. فإذا استقرت مبايعتهم لهم حضروا معهم للديوان وقاموا عنهم للجند بما يجب عليهم وكتب ذلك في روزنامج الجند مع مبلغ الغلة فإذا أدركت الغلة وصارت الأجران يكتالونها ويحملونها إلى مخازنهم. فمنعهم الوزير من ذلك وكتب إلى العمال بجميع النواحي أن يستعرضوا روزنامجات الجهابذة ويحضروا منها ما قام به التجار من المعاملين ومبلغ الغلة الذي رفع الإيقاع إليه وأن يقدموا للتجار ما وزنوه للديوان ويربحوهم في كل دينار ثمن دينار ويضعوا ختومهم على المخازن ويطالعوا ما يحصل تحت أيديهم بها. فلما تحصلت بالنواحي جهز المراك بحمل العلات وأودعها المخازن السلطانية بمصر وقرر ثمن كل تليس ثلاثة دنانير بعد أن كان ثمانية دنانير. وسلم إلى الخبازين ما يبتاعونه لعمارة الأسواق ووظف ما تحتاج إليه القاهرة ومصر فكان ألف تليس في كل يوم لمصر سبعمائة وللقاهرة ثلثمائة. فقام بالتدبير أحسن قيام مدة عشرين شهرا حتى أدركت الغلة فتوسع الناس بها وزال عنهم الغلاء. وكان عند استقرار الهدنة مع قسطنطين ملك الروم في أيام وزارة أبي نصر الفلاحي قد وصل رسولان أحدهما هو المتكلم المترجم وكان داهيةً أديبا شاعرا نحويا فيلسوفا ولد بالروم ونشأ بأنطاكية ودخل العراق ولقن من العلوم والآداب ما بعد به صيته وكان يعرف بابن أصطفانوس والآخر متحمل الهدية وهو صاحب حرب يعرف بميخائيل. فرأيا من حسن زي الدولة وجميل سيرتها ما أعجبا به لا سيما ميخائيل فإنه أطربه ما رأى وحسن موقعه في نفسه. وساروا وقد امتلأت قلوبهما بمحبة ما شاهداه. فاتفق ملك الروم وتمليك ميخائيل هذا فبلغه ما بمصر من الغلاء فحمل إليها مائة ألف قفيز قمحا وقدم كتابه أمامها يعين الغلة والكيل الذي تستوفي به إذا وصلت فانتهت إلى أنطاكية. وأعد هدية الهدنة على ما جرت به العادة وهديةً من ماله. فلما رأى الروم ذلك ظنوا به الميل إلى الإسلام فقتلوه في ثامن شوال فكانت مدة ملكه اثنتي عشرة سنة سبعة أشهر وعمره أربع وخمسون سنة وشهر واحد. وأقاموا رجلا يعرف بابن سقلاروس من أهل أنطاكية وكان لجوجاً خبيثاً حديدا فاعترض الهديتين وأخذهما وقال: أنا أنتفع بهما وأنفق ثمنهما على قتال المسلمين. وكانت للوزير بالقسطنطينية عيون فكتبوا إليه بذلك فسير مكين الدولة الحسن ابن علي بن ملهم الكتامي إلى اللاذقية في عسكر لحصارها والتضييق على من فيها فحاصرها حتى اشتد على من فيها الأمر. فكتب ابن سقلاروس متملك الروم إلى الحضرة يستوضح ما الذي أوجب ذلك فأجيب أن الذي أوجبه ما كان فعله في نقض ما استقر مع من تقدمه من الهدنة وقبض الهدية والهدية التي ليست من ماله. فأجاب بأنه يحمل الهدية فاشترط عليه إطلاق من في بلاد الروم الأسرى. فأجاب بأنه إذا أطلق من لهم في بلاد الإسلام من أسرى الروم أطلق من في بلاد الروم من أسرى المسلمين. فأجيب بأنه لا يصح التماسه لذلك لأن من أسر من بلاد الروم تفرقوا في الممالك بالعراق والدولة الفاطمية والمغرب واليمن وغير ذلك ولا حكم للحضرة على جميع الممالك ويرتجع منها ما صار في أيدي أهلها وبلاد الروم بخلاف ذلك ومن حصل فيها من المسلمين كمن هو معتقل في دار واحدة لا يمكنه الخروج منها إلا بإذن أهلها وبين الحالين فرق كبير. فأجاب بأنه لا يطلق من في بلاده من أسرى المسلمين. فاشترط عليه النزول عما صار في أيدي الروم من الحصون الإسلامية فامتنع من ذلك وقال إذا سلم إلينا ما صار في أيدي المسلمين من حصون المسلمين من حصون الروم سلم ما في أيديهم من حصون المسلمين. فبدل الجيش بجيش آخر وخرج مع مقدمه الأمير السعيد ليث الدولة فنازل اللاذقية حتى فتحها ووقع العنف فيها. وأجيب بأنه لا يصح أن يسلم إليهم ما صار في أيدي المسلمين من الحصون لأنهم قد أنبتوا فيها العقارات وأنشئوا فيها البساتين. فقال: يدفع لهم عن أملاكهم وما أنشئوه من البساتين وغيرها وما أنفقوه فيها وينتقلون عنها إلى غيرها من بلاد المسلمين. فأجابوا إلى أن يسلموا ما في أيديهم من الحصون الإسلامية. وكانت العادة جارية بأنه إذا وصلت هدية من الروم إلى الحضرة تقوم ويحمل إليهم هدية موضعها بثلثي قيمتها ليكون للإسلام مزية عليهم بالثلث فاشترط أن يكون فيمة ما يحمل إليهم من الهدية عوضاً عن قيمة هديتهم النصف فأجابوا إلى ذلك أيضا. فاشترط عليهم أن يردوا كل من تضمه دار البلاد التي هي دار الملك ومحله فامتنع من ذلك. فأمد الجيش بجيش ثالث وعليه أميران هما موفق الدولة حفاظ بن فاتك وأبو الجيش عسكر بن الحلي ومقاد جميع الجيش إلى الأمير مكين الدولة وأمينها ابن ملهم. فأوغلوا في بلاد الروم ينهبون ويقتلون ويأسرون حتى أعظموا النكاية فيها والرسل والمكاتبات تتردد إلى أن استقر القيام بالجزية التي التمسها أمراء البلاط وجهزت الهدية. وبلغت الجزية المذكورة نيفا وثلاثين ألف دينار. وحمل ذلك إلى أنطاكية فبلغهم قتل الوزير فأعيدت إلى القسطنطينية. وزينت بلاد الروم لموته وكثر ابتهاجهم بما صرف عنهم من خشونة جانبه عليهم وشدة شكيمته. وأما ابن ملهم فإنه لما أوغل في بلاد الروم وقارب أفامية وجال في أعمال أنطاكية نهب وسبى فقدمت من القسطنطينية قطائع يقال إن عدتها ثمانون قطعة فكانت بينها وبين ابن ملهم حروب آلت إلى أن أسر هو وجماعة من أعيان العرب في آخر ربيع الآخر. وفيها استدعى راشد بن عليان بن سنان أمير الكلبيين فاعتقل بالقاهرة وردت إمارة بني كليب لنبهان القريطي. وقبض على إقطاع راشد وأخيه مسمار وهو مقيم بظاهر دمشق ففر إلى غالب بن صالح. فكتب المستنصر إلى ثمال ينكر عليه تسيير هدية إلى ملك الروم فتحير في أمره واعتذر. |
12-21-2012, 08:56 PM | #24 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة سبع وأربعين وأربعمائة
فيها سير المستنصر إلى كنيسة قمامة فأحتاط بجميع ما فيها. وذلك أن القاضي أبا عبد الله القضاعي كان قد توجه من عند الخليفة برسالة إلى متملك الروم فقدم وهو بالقسطنطينية رسول السلطان طغرلبك بن سلجوق يلتمس من الملكة تيودورا أن تمكن رسوله من الصلاة في جامع قسطنطينية فأذنت له في ذلك فدخل إليه وصلى به وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسي. فبعث القضاعي بذلك إلى المستنصر فأحاط بما في قمامة وأخذه وأخرج البطرك منها إلى دار مفردة وأغلق أبواب كنائس مصر والشام وطالب الرهبان بالجزية لأربع سنين وزاد على النصارى في الجزية. وكان هذا ابتداء فساد ما بين الروم والمصريين. وفيها تجمع كثير من التركمان بحلب وغيرها وأفسدوا في أعمال الشام. وفيها تزايد الغلاء وكثر الوباء وعم الموتان بديار مصر. وفيها سار مكين الدولة الحسن بن علي بن ملهم من القاهرة بالعساكر ونودي في بلاد الشام بالغزو والجهاد. واستدعى راشد بن عليان بن سنان إلى القاهرة وقرر معه أن يسير في قومه الكلبيين مع ابن ملهم ثم قبض عليه. وعقدت إمارة الكلبيين لنبهان وقيل لسنان فنزل ابن ملهم أفامية ثم سار إلى حسن قسطول فحصره عشرين يوما حتى أخذه بالأمان في ثامن ربيع الأول سنة سبع وأربعين. وعاد إلى أفامية فحصرها ورماها بالمجانيق فطلبوا الأمان على أن يرحل عنهم فلما رحل أحرقوا القلعة وانهزموا فلحقهم وقتلهم وأطفأ النار من القلعة وأغار على البلاد فلم يكن بأنطاكية من يذب عنها وجمع كل طامع في النهب بحجة ابن ملهم. وتوسط ثمال بن صالح للصلح فلم يتم. وسيرت الملكة تيودورا أسطولا إلى أنطاكية فوصل اللاذقية ثمانون قطعة وخرج دوقس أنطاكية وبطركها في جماعة فظفروا بشينيين للمسلمين معهما الغنائم فسار ابن مهلم نحوهم وكشف الروم إلى طرف أنطاكية واستنقذ الأسرى منهم وقتل منهم خلقا كثيرا. فدار الأسطول إلى طرابلس وقاتلوا أهلها فقتل من الفريقين خلائق. وعاد الأسطول الرومي إلى اللاذقية فماتت الملكة تيودورا بعد سبع سنين من ملكها وتسعة أشهر واثنتي عشرة ليلة وملك بعدها ميخائيل. سنة ثمان وأربعين وأربعمائة فيها جهزت الأموال لأبي الحارث البساسيري فخرج بها المؤيد في الله عبد الله بن موسى وجملتها ألفا ألف وثلثمائة ألف دينار العين ألف ألف وتسعمائة ألف دينار والعروض أربعمائة ألف دينار. وكان من خبره أنه كان من جملة المماليك الأتراك فصار إلى بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه رجل من أهل فسا إحدى مدائن فارس فلذلك قيل له البساسيري وتنقل في الخدم حتى صار مقدم الأتراك ببغداد في أيام الخليفة القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن أحمد القادر وتلقب بالمظفر. وكان القائم لا يقطع أمراً دونه. فطار اسمه وتهيبته أمراء العرب والعجم ودعى له على منابر العراق والأهواز وتجبر. وأراد في سنة ست وأربعين من الخليفة أن يسلم إليه أبا الغنائم وأبا سعد ابني المحلبنا صاحبي قريش ابن بدران صاحب الموصل فلم يمكنه من ذلك. فسار إلى الأنبار ونصب عليها المجانيق وهدم سورها وأخذها قهرا وأسر أبا الغنائم ابن المحلبان ومائة رجل من بني خفاجة وكثيراً من أهل الأنبار. ورجع إلى بغداد وأبو الغنائم بين يديه على جمل في رجليه قيد فصلب كثيراً من الأسرى. واتفق في شهر ربيع الآخر من سنة سبع وصول زورق فيه ثمر للبساسيري فخرج إليه ابن سكرة الهاشمي في جماعة فأراقوه ونهبوا دوره وأخذوا دوابه وكان هو إذ ذاك في نواحي واسط. فلما بلغه ذلك نسبه إلى الوزير رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة فعظمت الوحشة بين وبين الوزير. وسار إلى دبيس بن بدران وهو مستوحش فوافت رسل طغرلبك بن ميكال بن سلجوق إلى الخليفة القائم بإظهار الطاعة فتقرر الأمر مع الملك الرحيم خسرو فيروز بن أبي كاليجار المرزبان ابن سلطان الدولة أبي شجاع على أن يخطب لطغرلبك ببغداد فخطب له لثمان بقين من شهر رمضان منها. ثم إنه قدم إلى بغداد وقبض على الملك الرحيم وعلى جماعة ثم بعث به إلى قلعة السيروان وفر منه قريش ثم إنه خلع عليه ورده إلى أهله وأخذ أموال الاجناد البغداديين وأمرهم بالسعي في طلب الرزق فسار أكثرهم إلى البساسيري. وبعث طغرلبك إلى الأمير نور الدين دبيس بن بدران أن يحضر إليه البساسيري فالتزم له بذلك. وبلغ البساسيري الخبر فسار إلى رحبة مالك بن طوق وكاتب المستنصر يطلب منه الإذن له في الدخول إلى حضرته فأشير على المستنصر بألا يمكنه من الحضور وأن يعده بما يرضيه وسير إليه الخلع. فبعث يسأل في النجدة ويلتزم بأخذ بغداد وإقامة الخطبة بها للمستنصر وإزالة دولة بني العباس وأنه يكفي في رد طغرلبك عن قصده البلاد الشامية. فجهزت إليه خزائن الأموال العظيمة على يد المؤيد في الدين أبي نصر هبة الله بن موسى في سنة ثمان وأربعين حيث لم يترك في خزائن أموال القصر شيء ألبتة. وخرج خطير الملك محمد بن الوزير من القاهرة في تجمل عظيم ومعه من كل ما يريد حتى أخذ أحواض الخشب وفيها الطين المزروع فيه سائر البقول برسم مائدته. ومعه من خزائن الأموال والأسلحة والآلات والأمتعة ما يجل وصفه. فسار إلى القدس ورحل منها إلى اللاذقية يريد فتحها. فلما كان في شوال منها واقع البساسيري ودبيس قريش ابن بدران العقيلي صاحب الموصل وقتلمش ابن عم طغرلبك وكان طغرلبك قد سيره إلى سنجار في ألفين وخمسمائة فارس. فكانت الوقعة المشهورة التي لم يفلت منها إلا مائتا فارس أو دونها. وانهزم قريش وقتلمش واستولى البساسيري ودبيس على الموصل وأقاما بها الدعوة للمستنصر وكتبا إليه بذلك فسيرت إليهما الخلع ولجماعة أمراء العرب. وعمل الشعر في هذه الواقعة. فمن مليح ما قيل لابن حيوس: عجبت لمدّعى الآفاق ملكا وغايته ببغداد الرّكود ومن مستخلفٍ بالهون يرضى يذاد عن الحياض ولا يذود وأعجب منهما شعبٌ بمصر تقام له بسنجار الحدود وبلغ ذلك طغرلبك فسار يريد الموصل حتى بلغ نصيبين فأوقع بالعرب وألقاهم بين يدي الفيلة فقتلهم شر قتلة. وبعث إليه دبيس وقريش بالطاعة فقبل منهما. وسار إلى دياربكر وجهز أخاه داود إلى الموصل فتسلمها وعاد إلى بغداد. سنة تسع وأربعين وأربعمائة فيها تسلم مكين الدولة ابن ملهم من ثمال بن صالح مدينة حلب في آخر ذي القعدة وانكفت أيدي التركمان عنها وأقيمت خطبة المستنصر فيها وقطعت خطبة القائم وذلك بعد حروب عظيمة. وكان دخول ابن ملهم حلب يوم الخميس لثلاث بقين من ذي القعدة فبقي على ملكها أربع سنين. وفيها قدم كتاب من بخارى أنه وقع بها وباء عظيم حتى هلك من ذلك الإقليم ألف ألف وستمائة ألف وخمسون ألف إنسان وخلت الأسواق وأغلقت الأبواب. وتعدى الوباء إلى آذربيجان فالأهواز والبصرة وواسط وعامة تلك الأعمال فكانت الحفيرة تحفر ويلقى فيها العشرون والثلاثون من الأموات. وكان سببه قلة القوت والجوع فنبشت الأموات وأكلهم الناس. وكان الموت إذا وقع في دار مات جميع من فيها وكان المريض ينشق قلبه عن دم المهجة فيخرج من فمه قطرة فيموت أو يخرج من في دود فيموت. وكل دار كان فيها خمر مات أهلها كلهم في ليلة واحدة ومن كانت امرأته حراماً ماتا معاً ومات قيم مسجد وله خمسون ألف درهم فلم يقبلها أحد ووضعت في المسجد تسعة أيام فدخل أربعة من الشلوح إليها ليلا ليأخذوها فمات الأربعة عليها. وكان يموت الوصي قبل الموصى وكل مسلمين كان بينهما تفاخر ولم يصطلحا ماتا. وابتدأ هذا الوباء من تركستان ودب منها إلى كاشغر والشاش وفرغانة وعم النساء والصبيان فمات الصبيان والكهول والفتيان من سائر الناس إلا الملوك والعساكر فإنه لم يمت منهم ولا من الشيوخ والعجائز إلا القليل!! في أول المحرم قبض المستنصر على وزيره الناصر للدين غياث المسلمين أبي محمد اليازوري وكان قد جمع له ما لم يجتمع لغيره من تقليد الوزارة وقضاء القضاء وداعي الدعاة. وكان للقبض عليه أسباب منها أن طغرلبك لما ملك بغداد كان بها لليازوري عيون كثيرة يطالعونه بدفين الأمور وجليلها فوصلت كتبهم بوصوله وأنهم سمعوه يذكر إزماعه على التوجه نحو الشام ليملكه. فقل لذلك ورأى أن الحيلة أبلغ من الاستعداد له فكتب إليه يهنئه بوصوله إلى العراق ويبذل له من الخدمة ما يوفى على أمله وأن مصر وأعمالها بحكمه وأنه وإن كان مستخدماً لدولة ويدعو إليها فإنه يعلم كثرة الاختلاف فمن تجاوزها في نسبها واتفاق الكلمة ووقوع الإجماع على الرضا بالخليفة الصحيح النسب الصريح الحسب الهاشمي العباسي وأنه لا يمتنع عن الإقرار له بذلك. وأعطاه صفقة يده على مبايعته وتسليم الدولة له. وأنه قد اتصل به إزماع حضرته على التوجه إلى الشام وأنه أشفق من تسليمها إليه فتطأها عساكره مع كثرتها وتجمعها فيخربها ويعفى آثارها ولا يقع بملكها انتفاع ولا يرجى لها ارتفاع فإن رأى أعفاها من وطء العساكر لها ووصول ركابها إليها على وجه الفرجة والنظر إلى دمشق وحصنها فلها عالي رأيها. فلما وقف طغرلبك على كتابه قال هذا كتاب رجل عاقل ويجب أن يعتمد ما أشار به بالإذن للعسكر في عودتهم إلى بلادهم فمضى كل منهم لوجهه. ثم أمر فضرب فساطيطه في الجانب الغربي من بغداد فكتب بذلك عيون اليازوري إليه فقلق ثم كتب إليه: لا تغرنك الأماني والخدع بأن أسلم إليك أعمال الدولة وأخون أمانتي لمن غذاني فضله وغمرني إحسانه وتتعين علي طاعته وموالاته. فإن كنت تسلم إلي ما في يدك لصاحبك من العراق وأعماله سلمت إليك ما في يدي لصاحبي بل الواجب أن تكون كلمة الإسلام مجموعة لابن بنت النبي الذي هو أولى بمكانه من غيره. وإن رغبت في المهادنة والموادعة انتظمت الحال بين الدولتين وأمن الناس بينهما. فإن أبيت إلا الخلاف ونزع الهوى بك إلى الظنون الفاسدة والأطماع الكاذبة فليس لك عندي إلا السيف. فإن شئت فأقم وإن شئت فسر. فغاظ ذلك طغرلبك وقال: خدعني هذا الفلاح وسخر مني. وكتب إلى إبراهيم بن ينال أخي طغرلبك لأمه برد العسكر مسرعا فلم يتأت له اجتماعهم. وكان اليازوري قد بث عيونه وجواشيه في عسكر طغرلبك واستفسد أعيانهم بكثرة الأماني والمواعيد مثل خاتون زوج طغرلبك والكندري وزيره وابراهيم ينال أخيه وصاحب جيشه فمالوا إليه وقعدوا عن صاحبهم. وحمل خاتون على قتله فامتنعت من ذلك وواعدته أنها تتحيز بغلمانها وهم نحو اثني عشر ألفا عنه فاعتزلت بهم. وكان ذلك ظفر البساسيري بعسكر طغرلبك وظفر كثير منهم ورجوع طغرلبك من بغداد طالباً لجمع عسكره الذي تفرق عنه. وهو أنه سار في هذه السنة ملك البساسيري وقريش الموصل بعد حصار شديد نحو أربعة أشهر حتى هدم قلعتها. فخرج طغرلبك يريدهما فسارا عن الموصل وهو يتبعهما إلى نصيبين ففارقه إبراهيم ينال وقصد همذان ولحقه الأتراك الذين كانوا ببغداد. ففت ذلك في عضد طغرلبك وترك ما هو فيه ورجع ليضم إليه من تفرق عنه وترك بغداد. فقوى أبو الحارث البساسيري وكثف جمعه وقصد أعمال العراق ففتح بلداً بلداً وتملك الأعمال والرساتيق طوعاً وكرهاً والدولة المصرية تمده بما يستعين به على ذلك وهو لا ينفذ في أمر من الأمور إلا بما يقرره اليازوري. فكثرت حساده على ما يتوالى من سعادته في كل يوم وما يتجدد له من رئاسة يقتضيها حسن آثاره في الدولة وتأثيراته في جميع الأطراف والممالك بلطف السياسة ومحكم التدبير الذي يبلغ به غاية آماله بحيث لا يبلغ غيره بعضها إلا بإنفاق الجمل العظيمة وتفريغ بيوت الأموال ثم لا يكاد يظفر ببلوغ أمل في جهة من الجهات إلا دوخها وثبتت آثاره فيها الدهر الطويل. وصار أعداؤه يتعجبون مما يتأتى له من السعادة وتعينه عليه الأقدار. واستطالوا مدته فابتغوا له الغوائل ونصبوا له الحبائل وركبوا عليه المناصب حتى كان هلاكه بأقل الناس وأحقرهم وأدناهم منزلة وأضعفهم قدرة وهم من أطراف الخدام. فأقاموا رجلين أحدهما خادم يعرف بمفرج المغربي كان في حاشيته والآخر خازن يتولى خزانة الفرش يعرف بتنا. وحكوا أنه نقل الأموال إلى الشام في التوابيت وفي شمع سبكه وأعده إلى القدس وإلى الخليل وأنه قد عول على الهرب إلى بغداد واستظهروا بكتابه الذي ذكر إلى طغرلبك مع ما في طبيعة الملك من الحسد والملل والأنفة من الاستبداد عليهم ومحبة الانفراد بالمجد. وكان من أسباب الخذلان أن المستنصر التمس من صفي الملك ولد اليازوري عمل دعوة يدعوه إليها فدافعه عن ذلك استعظاماً لحضوره عنده فأقام مدة حتى بعثه والده الوزير على تكلف عملها له فتهمم لذلك واصطنع ما يجب إعداده وتقرر الحال على يوم يحضر فيه. فلما كان قبل ذلك بيوم حضر صفي الملك عند الوزير وأعلمه بإنجاز ما يحتاج إليه فصار معه إلى الدار واستصحب خواصه فرأى ما يقصر عنه الوصف. وفرش مجلسين بديباج بياض كله وفيه جامات كبار وحمر منقوش كل مجلس بثلاث مراتب وبساط ملء المجلس وسراديق وحجلين للصدر والباب كله جديد كما حمل من الأعدال فقدر ذلك بخمسة آلاف دينار. فأقبل كل من حضر يبالغ في صفته ويدعو وشخص منهم ساكت. فلحظ الوزير وأمسك حتى فرغ من تطواف المجالس وعرض كل ما أعده وعدل إلى بيت الطهارة وقد أعد في دهليزه من الفرش والآلات والطيب وداخله من الفواكه والمشمومات كل مستحسن. ودعا الوزير الرجل الذي سكت عند مبالغة من حضر في الوصف وقال: يا عمدة الملك مالي لم أسمعك تؤمن على ما قال الجماعة فقال له بد ما سأله الإعفاء عنه وتركه من القول فأبى إلا أن يقول: سيدنا فيما أعده من هذا الجمال بين أحد رأيين إما أن يأمر بإزالته ونصب غيره مما قد استعمل وإما يحمل إلى الخليفة إذا انقضى جلوسه عليه. فقال: وما هو هذا أليس هو مما أنعم به وصار إلي من فضله وما قدره حتى تمتد عينه إليه أو تتطلع له نفسه! واما إزالته ونصب غيره فما كنت أكسر في نفس هذا الصب شهوةً فإني متى أمرت بإزالته حزن لذلك وافترقا. فلما كان الغد جاء المستنصر وأقام يومه ذلك في الدار وأحضر إليه الطعام مما حوله من الطرف ثم عاد آخر النهار. وحضر عند الوزير أصدقاؤه فانفرد بذلك الرجل وقال: يا عمدة الدولة والله ما أخطأ حزرك فيما قلته بالأمس منذ دخل الخليفة إلى الدار إلى أن خرج لم يطرف طرفةً عن تأمل الفرش فإذا وجهت طرفي نحوه أطرق وتشاغل. فقال له: يا سيدنا أما إذ فات الأمر الأول فلا يفوت الثاني. فقال: والله لا فعلت ولا غممت صفي الملك. واتفق أنه خرج يوما وعليه ثوب بديع فلما عاد قال لصديقه: يا عمدة الدولة لحظتك اليوم تنظر الثوب الذي كان علي فعجبت من ذلك فلما مثلت بحضرة مولانا أقبل يتأمل الثوب ولم يزل يزحف من الدست حتى مد يده إلى الثوب وتلمسه فزال عجبي منك إذ كان الخليفة يتأمله وكان راتب مائدته في كل يوم كوائد الملوك في الأعياد والولائم. وكان لا يبتاع لمطبخه من الطير ما هو معرق ولا مصدر وكان سعر المعرق ستة بدينار والمصدر أربعة بدينار والمسمن ثلاثة بدينار والفائق اثنان بدينار وكان يعمل لداره ومن فيها المسمن وأما مائدته فلا يقدم عليها إلا الفائق. فلما كان في سنة سبع وأربعين وقصر النيل نزع السعر وغلا حتى بلغ التليس ثمانية دنانير وصار الخبز طرفة. وكان المستنصر يحضر دار اليازوري كل يوم ثلاثاء على عادته فتقدم إليه المائدة فإذا هي على ما يعهد لم يخل منها بشيء حتى الدجاج الفائق فقال لصاحب مطبخه: ويلك يكون راتب مائدة الوزير الدجاج الفائق ومائدتي دون ذلك! فقال: يا مولانا ما ذنبي إذا قصر بك أصحاب دواوينك ولم يطلقوا لمائدتك ما ألتمسه منهم والوزير فلا تتجاسر وكلاؤه أن يقصروا في شيء مما جرت العادة به في راتب مائدته وغيرها مع تقدمه إليهم في كل يوم بالزيادة فيها وفي راتب داره. فلما تظافر عداه عليه لم يشعر إلا في ساعة القبض فكتب إلى أبي الفرج البابلي وكان قد قدمه وأحسن إليه ورفعه على جميع أصحاب الدواوين واستخلصه دونهم كما يأتي إن شاء الله عند ذكر وفاته بعد البسملة: عرفنا يا أبا الفرج أطال الله بقاءك وأدام عزك تغير الرأي فينا وسوء النية والطوية فإن يكن هذا الأمر صائراً إليك فاحفظ الصحبة وارع واجب الحرمة وإن يكن صائراً إلى غيرك فابتغ لنفسك نفقا في الأرض. على أنا نشير عليك: إن دعيت إليه فأبى عنه فإنه أصلح لك وأعود علينا والسلام. ودعى البابلي للأمر ووزر لأنه لم يكن في الدولة من يتقدمه لما وطأة اليازوري وأمله من تقديمه وتمييزه. وكان اعتزاله يغطي على عيوبه فلما ولي الوزارة بان للناس من رقاعته وحدته وكثرة شره ما افتضح به وتجرد لمقابلة إحسان اليازوري بكل قبيح وذكره بما لا يستحق من الغض. وكانت الرقعة التي كتبها إليه من أعظم ذنوبه عنده فكان يقول يخاطبني وهو على شفير القبر بنون العظمة! ولا يذكره إلا بالسفاهة واللغو فسقط قدره من أعين الكافة وحذره كل أحد. ثم لم يقنعه كون اليازري في الاعتقال بمصر حتى نفاه إلى تنيس في صفر ومعه نساؤه وأولاده وحاشيته فاعتقلوا بها. ثم شرع البابلي في التدبير على قتله. قال الشريف فخر الدولة ومجدها نقيب نقباء الطالبيين: قال لي مولانا يعني المستنصر يا فخر الدولة ما رأيت أوقع من البابلي وذلك أن اليازوري لم ينته إلى ما صار إليه من عظيم المنزلة إلا بعد أن تقدم له من المآثر والآثار في الدولة وما فتح على يديه ما هو معلوم مشهور وكان يرتقي بذلك درجة بعد درجة إلى أن انتهى إلى ما انتهى إليه والبابلي فمن أول يوم استخدمناه استدعى المنزلة التي لم يصر ذلك إليها إلا بعد عدة سنين فأجبته إليها وقلت ترى تساعده الأقدار بأن يكون مثل ما كان ذلك الرجل. ومنها أنه كان إذا حضر بين يدي يكثر التثريب على اليازوري ويذكره بالقبيح ظناً منه تطلعنا إلى عوده إلى الأمر وليثبت في نفوسنا سوء الرأي فيه. ولم نعلم أن غرضه قتله إلى أن كان اليوم الذي سقت عليه الأتراك ووطئوا دراعته فإنه لما دخل إلي قال: يا أمير المؤمنين إنه لا ينفذ لك أمر ولا يتم لي نظر وهذا الكليب في قيد الحياة. فقلت: ومن هو ذلك الكليب فقال: علي ابن عبد الرحمن اليازوري. فقلت: أيها الوزير اعلم أني لم أصرف الوزير عن خدمتنا ولنا في إعادته رغبة فطب نفساً ودع ذكره فأنت آمن مما تخافه من جهته. فقال: والله إن هذا لعجب من حسن مقامك يا أمير المؤمنين عنه مع قبيح فعله وما هم به من قتلك حتى إن السقية أقامت تدور في قصرك أسبوعاً كاملاً. فقلت: أيها الوزير أقامت السقية تدور علي في قصري أسبوعا كاملا فقال: نعم. فأطرقت متعجباً وبقيت متفكراً في ذلك أصرف الظن بين تصديقه وتكذيبه ثم أقول لو لم يطلع على ذلك لم يذكره. فأمسكت فظن بإمساكي أنني راض بما يفعله معه وخرج فاستدعى طاهراً كاتب السر وسيره لقتله. ونمى الخبر إلى مولاتنا الوالدة فأنكرت ذلك ودخلت إلي فقالت: أنت يا مولانا أمرت البابلي بقتل اليازوري! فقلت: لا. فقالت: قد سير طاهر ابن غلام لقتله. فاستدعيت سعيد السعداء وأنفذته إليه وقلت له: قل له لم يأمرك بقتله فأنفذ من يعيد طاهراً ويمنعه من النفوذ. فألفاه صاحب الرسالة في الحمام فاعتذر إليه فقال: لا بد من الدخول ودخل وأدى الرسالة إليه فقال: أخرج وأسير من يعيده. وطول في الحمام ثم خرج فإلى أن كتب الكتاب وسير به النجاب سبقه ذلك إلى تنيس فلم يصل حتى نفذ الحكم فيه. ولما وصل طاهر إلى تنيس أوصل كتاب البابلي إلى جمال الدين صبح يذكر فيه: إنا قد سيرنا طاهراً فيما أنت تقف عليه من جهته فتثبت منه وتحضر معه لإنجازه وتحذر من تأخيره من اليوم إلى الغد. فقال: وما الذي وصلت فيه فأخرج تذكرة بخط البابلي فيها: إذا وصلت يا طاهر أعزك الله إلى تنيس وقد سغبت ولهثت من العطش فلا تبل ريقك بقطرة دون أن يحضر علي بن حسن بن عبد الرحمن اليازوري إلى دار الخدمة وتمضى حكم السيف فيه فد كتبنا إلى الأمير جمال الدولة بمعونتك على ما يستدعيه ذلك فقدمه ولا تؤخره إن شاء أحد. فقال له: أنت خليفة صاحب الستر ومرسل من جهة السلطان والأمر الذي وصلت فيه ممتثل فأمض الحكم فيه. وأنفذ من يحضر اليازوري من معتقله والصقالبة والسعدية خدام الستر وقوف والسياف قائم. فقال له طاهر: يا حسن يقول لك مولانا أين أموالي فلم يجبه ولم يرفع طرفه إليه. فقال له: إياك أخاطب يا حسن بن علي بن عبد الرحمن يقول لك أمير المؤمنين أين أموالي فلم تجبه. فرفع طرفه ونظر إليه وإلى الجماعة وفيهم حيدرة السياف وقال لطاهر: يا كلب تجيء وهذا معك وأشار بيده إلى السياف وتسألني بعد ذلك ولكن قل له يا مولانا قبض علي وأنا آمن على نفسي فإن يكن عندي مال فقد وجدته في داري وكنت داعيك وثقتك المؤيد في الدين. في القمطرة الفلانية ما يشهد بذكر مالك أين هو. فأشار طاهر إلى أولئك فأخذوه وضربت عنقه في ليلة الثاني والعشرين من صفر وحملت رأسه مع طاهر إلى القاهرة وطرحت جثته على مزبلة ثلاثة أيام. ثم ورد الأمر بتكفينه فكفن بعد أن غسل وحنط بحنوط كثير وحمل ليلاً ودفن وقد وضع رأسه مع جثته. وكان له من المآثر المرضية والخلال الحميدة والأفعال الجميلة والخلائق الرضية ما يتجمل الملوك بذكره. منها أنه كنت له مائدة يحضرها كل قاض فقيه وأديب جليل القدر فإذا قدمت فكأنها الرياض من حسنها وسعة نفسه. وكان الملازمون لمائدته نحو العشرين نسمة فيكون عليها كأحدهم. وقال عميد الدولة: أقمت معه خمس عشرة سنة قبل وزارته ملازماً له في المبيت والصباح فكنت أراعيه في حالاته كلها ليلاً ونهاراً فلا أرى يتغير علي منها شيء ولا يتبين لي منه غضب من رضا فأقبلت أدقق التأمل له في حالتي غضبه ورضاه شهورا حتى تبين لي فكان إذ رضى توردت وجنتاه بحمرة وإذا غضب اصفرت محاجر عينيه فعرفت أبي بذلك فقال: يا بني هذا غاية في سكون النفس وصحة الطباع واعتدال المزاج. وكانت طبائعه الأربعة على السواء فإذا أخل عمل طبيعة منها عهده أخذ بإصلاحها حتى يعود إلى ما يعهده من استقامتها. وكان لا يعطل شرب الدواء يوماً واحداً فيشرب السكنجيين والورد أسبوعا ثم يريح نفسه ثلاثة أيام ثم يشرب النقوع المغلى في الشتاء والمنجم منه في الصيف أسبوعا لكل منهما ويشرب ماء البذور أسبوعا ويشرب ماء الجين ثمانية أيام ويشرب ماء البقل أسبوعا ثم يشرب الراوند المنقوع كذلك ويريح نفسه بين كل دوائين ثلاثة أيام لا يخل بذلك في صيف ولا في شتاء. وكان ندي الوجه كثير الحياء لا يكاد يرفع طرفاً إلا لضرورة ولم يسمع منه قط في سؤال لفظة لا. بل كان إذا سئل فما يرى إجابة سؤاله إليه يقول نعم بانخفاض من طرفه وخفوت من صوته فإذا سئل فما يرى الإجابة إليه يطرف ولا يرفع طرفه وعرف هذا منه فلا يراجع فيه إلا بعد مدة. وكان كل من يحضر مائدته يستدعى منه الحضور بين يديه لئلا يستمروا عنده وكان فيهم من يشرب السكر فإذا حضروا عرفوا مجالسهم وما قرره لهم فكان من لا يشرب النبيذ يجلس عن يمينهن ومن يستعمله يجلس عن يساره وبين يدي كل منهم الفواكه الرطبة واليابسة والحلاوة وستارة الغناء مضروبة فيجلسون وهو مشغول يوقع وهم يتحدثون همساً وإشارةً وإيماءً إلى أن ينقضي أربه من التواقيع فيستند وينشطهم بالحديث ويقول: قد تجدد اليوم كذا وكذا فما عندكم فيه. فيقول كل أحد ما يراه وهو يسمع لهم حتى يستكمل الجماعة الذين عن يمينه ثم يعطف على شماله فيقول: من هناك قولوا فيقولون وهو يسمع ولا يرد على أحد شيئا فلا يصوب المصوب ولا يخطىء المخطىء ويبيت يضرب الآراء بعضها ببعض حتى يمحض له الصواب ويصبح يرمي فلا يخطىء. فكانت أفعاله هكذا طول مدته لا يستبد قط برأيه ولا يأنف من المشورة بل يقول: المستبد برأيه واقف على مداحض الزلل وفي الاستشارة كل عقول الرجال. وبهذا تم له ما كان يدبره حتى ترك فيما رامه من الطرز الآثار الباقي ذكرها. وجاء ارتفاع الدولة في أيامه ألفي ألف دينار يقف منها ويسكن وينصرف للرجال وللقصور وللعمائر وغيرها ويبقى بعد ذلك مائتا ألف دينار حاصلة يحملها كل سنة إلى بيت المال. فحظى بذلك عند سلطانه وتمكن منه وارتفع قدره حتى سأل أن يكتب على سكة نقش عليها: ضربت في دولة آل الهدى من آل طه وياسين مستنصر بالله جل اسمه وعبده الناصر للدين سنة كذا وطبعت عليها الدنانير مدة شهر ثم أمر المستنصر بمنعها ونهى أن تسطر في السير. وكانت أيام نظره حوامل لتوالي الفتوحات وعمارة الأعمال. وكان شريف الأخلاق عالي الهمة كريم الطباع وطىء الأكناف مستحكم الحلم واسع الصدر ندي الوجه يستقل الكثير ويستصغر كل كبير. وكان إذا أعطى أهنأ وإذا أنعم على إنسان أسبغ وإذا اصطنع أحداً رفعه إلى ما تقصر الآمال والأماني عنه مع عظيم الصدقة وجزيل البر الذي عم به أهل البيوتات مما جعله لهم من المشاهرات على مقاديرهم. وكذلك الأشراف والفقراء وأهل الستر بالقرافة فكان يجري عليهم البر والكساء على يد بعض اليهود ويعرف بابن عصفورة وكيل السيدة أم المستنصر فكانوا يظنون أنه من إنعامها فلما زالت أيامه انقطع عنهم ما كان يصل إليهم من البر فخاطبوا ابن عصفورة وقالوا: قد جفينا من مولانا ومولاتنا فلو أدركتهما بنا فقال لهم: ما ترون ما كان يجيئكم حتى يتولى الله ناصر الدين أخي. فقالوا: نحن التمسنا من مولانا المستنصر ومولاتنا السيدة الوالدة ولم نلتمس من ناصر الدين. فقال: ما كان يجيئكم ذاك إلا من الوزير. فعجبوا من ذاك وأكثروا من الترحم عليه. ومما يذكر عنه أنه كتب: العالي بالله إدريس بن المعتلى بالله يحيى بن الناصر لدين الله علي بن حمود من خالقه إلى مصر مكاتبة يقول فيها: من أمير المؤمنين العالي بالله إلى أمير المؤمنين المستنصر بالله. فعيب عليه بمصر قلة تصوره ومعرفته بأنه لا يجوز أن يكون أمير المؤمنين في زمان واحد اثنان. ثم ألجأت الضرورة إلى مكاتبته بنحو مما كتب وكان اليازوري إذ ذاك وزيرا فقال أنا أخلص هذه القضية وأعلقها بمعنى دقيق لا يبين للمكاتب وكان صاحب حيل يكتب إليه: من أمير المؤمنين المستنصر بالله معد إلى العالي بالله أمير المؤمنين خالقه وهذا من طريف التخلصات التي تميز بها. وحكى عظيم الدولة متولى السر قال: كنت في جملة الموكلين على الناصر ثم على البابلي بعده فكنت أرى من رئاسة الوزير الأول يعني اليازوري على شبيبته ورجاحته وسكون حاشيته ومن طيش البابلي وخفته ونقصه ما أعجب منه وهو أني لما كنت موكلا باليازوري كنت أراه ملازماً لعتبة باب المجلس في القاعة لا يتغير مكانه منها. وكان البابلي يراسله بما يمضى ويوصينا إذا مضينا إليه بالإزعاج عند فتح الباب وإكثار قلقلته لنزعجه ونروعه بذلك فوالله ما كان يكترث ولا ينزعج. وإذا دخل متولى الستر يكون جلوسه منه في الاعتقال كجلوسه منه في حال نظره ويخاطب بما يرضى فيجيب بسكون وهدوء وكأنه في الدست جالس. فدخل إليه في أكثر من ثلاثين صقلبيا وبلغهما أوصاه البابلي فأجابه ثم نهض وقال: يا سيدي صرفتني من الستر بغير ذنب ثم أعدتني إليه بغير مسألة فما كان سبب ذلك فرفع طرفه إليه كأنه يخاطبه من دست الوزارة وقال له: كان صرفك في الأول برأيي واختياري ثم أعدتك لما عرفت من ميل مولانا إلى استخدامك. فخرج متولي الستر وهو يعجب من سكون حاله وقلة احتفاله في الجواب مع حاجته إليه في مثل ذلك الوقت الذي يقدر فيه على الإحسان إليه وعلى الإساءة وكان يظن أنه يعتذر إليه فلم يكن منه غير ما تقدم ذكره. وكان أكثر وقته صائماً وهو يتلو القرآن ولا يسأل عن طعام ولا شراب. وكان في حال وزارته كثير الصمت مواصل الإطراق ساكن النفس هادئ الطباع فكان يظن أن ذلك من تيه وصلف وإعجاب وقلة احتفال بالناس فلما صار في الاعتقال بعد القبض عليه كان حاله على ما كان مما ذكر. ومن عجيب ما وقع أن خطير الملك محمد بن الوزير اليازوري كان ينوب عن أبيه في قضاء القضاة فلما سار إلى الشام بالعساكر الكثيرة معه كان في حال من البذخ والتجمل في حال لا يمكن شرحها فلما نكب أبوه آل حاله إلى أن يرى في مسجد بمدينة فوة يخيط للناس بالأجرة وقد نزل به من الفقر والبلاء شدائد وهو يبالغ في مطالبة شخص بأجرة ما خاطه له والرجل يماطله. فلما ألح في المطالبة قال له: يا سيدنا اجعل هذا القدر اليسير من جملة ما ذهب منك في السفرة الشامية. فقال: دع ذكر ما مضى. فسأله رجل عن ذلك فلم يجبه فسأل عبده فقال الذي ذهب منه في تلك السفرة على نفقات سماطه مقدار ستة عشر ألف دينار. فسبحان من لا يزول ملكه. وفيها ولي الوزارة بع اليازوري أبو الفرج عبد الله بن محمد البابلي وكان أولا من جملة أصحاب الدواوين فقبض عليه الوزير أبو البركات ابن الجرجرائي وصادره على عشرة آلاف دينار أخذ خطه بها فباع موجوده بستة آلاف دينار وبقي عليه أربعة آلاف دينار فانطرح على اليازوري وسأله الشفاعة له وكان يومئذ ينظر لأم الخليفة فسأل الخليفة له في ذلك فوقع بمسامحته منها بألفي دينار فلما صرف الوزير أبو البركات وتولى اليازوري الوزارة وقع بمسامحة البابلي بالألفين الباقية واستخدمه في التوقيع ورد إليه ديوان تنيس ودمياط وديوان الخاص وغيره من الدواوين حتى كان في يده ستة دواوين. وكان رسم لأصحاب الدواوين أن يحضروا كل يوم بين يدي الوزير فرفع منزلة البابلي عن ذلك وميزه عن أصحاب الدواوين فكان لا يحضر عنده إلا في كل ثلاثة من الجمعة فإذا حضر حجب كل أحد من الرؤساء فلا يدخل إلى الوزير أحد ما دام عنده. فمهما قرره مع الوزير لا ينتقض. وإذا عرض له في باقي الجمعة أمر كتب رقعةً إلى الوزير فيجيبه في تضاعيف سطوره فعل الأكفاء بالأكفاء. وبلغ جاريه على ما بيده من الدواوين والتوقيع في كل سنة عشرة آلاف دينار. وكتب مرة إلى الوزير اليازوري رقعة يذكر فيها أنه ليس له دار يسكنها وأن بجوار داره حماماً سلطانيا من جملة المقبوض عن تركة أمير الأمراء رفق بذل فيها خمسمائة دينار وسأل التوقيع بمبايعته منه على أن يقتطع ثمنه من جاريه مائة دينار في الشهر فوقع له بذلك ثم تقدم إلى متولي بيت المال بأن يكتب له منه رصدا بخمسمائة دينار ووهبها له. فكتب رقعة ثانية أنه لما شرع في بناء الدار احتاج إلى ما يكمل به عمارتها وأن في المقبوض من أمير الأمراء أيضاً من الأخشاب والرخام ما يسأل الإنعام عليه منه بما يعمرها به فوقع بتسليم جميع ذلك إليه. فعمر الدار وخدمه فيها جميع من في الدولة فجاءت تضاهي القصور. واتفق أنه مرض في بعض السنين مرضةً أشفى فيها على التلف فكتب إلى الوزير اليازوري رقعةً يذكر فيها ما انتهت حاله إليه وأنه على آخر رمق وأن عليه من الدين ثلاثة آلاف دينار ويخاف إن حدث به حادث الموت أن يعنت الغرماء ولديه ويسأل تمام الاصطناع بالمنع منهما وأن يقرر حالهما في القيام للعرفاء بما تصل قدرتهما إليه وينجم الباقي عليهما. فلما وقف الوزير عليها استرجع وتغمم له وقال: ما ظننا إلا أنا قد أغنينا أبا الفرج وأن حاله لم تصل إلى هذا الحد! ثم رفع رأسه إلى أبي العلاء عبد الغني بن الضيف وكان يحمل دواة الوزير ولقبه بالصادق المأمون وقال: أسرع إلى أبي العباس الشاشي وكان يتولى ديوانه فلما حضر قال: ما في حاصلك من إقطاعنا فقال: ثلاثة آلاف دينار وكسر فأحضرها وقال لأبي العلاء: خذ هذه الثلاثة آلاف دينار وامض بها إلى البابلي وخصه بسلامنا وقل له: قد سوأتنا بما ذكرته من مرضك وما انتهت إليه حالك والله تعالى يهب عافيتك ولا يغمنا بك. فأما ما سألت من مراعاتك في ولديك والمنع منهما فلو لم تسأل في ذلك حفظناك فيهما وراعيناهما لك. وأما ما ذكرته من دينك فقد أنفذنا إليك ما تقضيه به. فلما أخذ المال وخرج من القبة قال ارجع يا عبد الغني فعاد إليه فأخذ درجاً ووقع إلى ديوان الخاص بثلاثة آلاف دينار وكان له فيه إقطاع وقال امض إلى الجهبذ بهذا التوقيع فإن كان في حاصله هذا القدر وإلا قل له يقترض من بيت المال إلى أن يستخرج شيئاً فيحمله إليه به عوضاً عنها واحمل الجميع إلى البابلي. فلم يحتمل أبو العلاء الصبر عن الكلام وقال: يا سيدنا ما يقنعك تحمل إليه ثلاثة آلاف دينار حتى تضيف إليها مثلها فتصير ستة! فقال: يا وحش إذا قضى دينه بهذه الثلاثة الآلاف ما يحتاج أن يستدين بعدها فينفق من هذه الأخرى ولا يستدين. فقال له: والله يا سيدنا إنك لأكرم نفساً من البرامكة لأن أولئك كانوا يجودون من سعة وأنت تجود من ضيق ولا نسبة بين ما تنظر فيه وما كانوا ينظرون فيه. وخرج فأوصلها إليه. فلما قبض على اليازوري كان أعدى العالم له وكفر نعمته وإحسانه وتجرد له حتى قتله. وحكى فخر الدولة قال: استدعاني مولانا المستنصر وقال لي يا فخر الدولة هل يكون في اختيار الإنسان إلى من تطمح إليه الأبصار أو تتطلع إليه النفوس أوفى من شخص البابلي مع شيبته وظاهر سمته وهيبته فقلت: لا يا أمير المؤمنين. فقال: والله لقد ظننت أن الدولة تتضاعف قدرتها بنظره وينضاف إليها مثلها بحسن تدبيره وأن من وراء هذا الشخص ما وفى عليه فإذا ثيابه لا تسع رقاعته وغمته والحية قد نشفت قرعته. وذلك أن اليازوري أقام في خدمتنا عشر سنين عددنا عليه ثمانية عشر ذنبا وأقام البابلي اثنين وسبعين يوماً نقمنا عليه تسعة عشر ذنباً مع ظاهر كذبه وقلة احتشامه عندي وذلك أنه ذكر لي من حال السقية ما كثر تعجبي منه وأنا بين تصديق الحكاية وتكذيبها واحتشمت أن أرد عليه فيتحقق تكذيبي له. وكان من إقدامه على قتل اليازوري ما كان وساء لنا ذلك إذ لم نكن نريد قتله. فلما كان بعد ذلك بأيام يسيرة أمرته بشيء فعارضني وضرب الأمثال بما يصدني عن ذلك الأمر فقلت له أيها الوزير اعلم أن اليازوري لم تطل مدته معنا وتثبت قدمه إلا أنا كنا إذا أمرناه بشيء انتهى إليه ولم يتجاوزه. فقال لي مجيبا: يا مولانا وكأن اليازوري كان ينقط نقطة إلا ما أمثله له وأوقفه عليه ! يريد أنه كان يدبر اليازوري ويعلمه ويفهمه فلم يتأمل ما عليه فيه ولا ذكر ما كان قاله من حال السقية وأذكرني قوله هذا حال السقية فقلت له وقد اغتظت منه: يخرس الله الوزير فإذاً كانت السقية برأيه! فلما سمع ذلك مني دهش وقال: أعوذ بالله يا مولانا ولكنني كنت أبصره صواب الرأي وأشير عيه بما فيه حميد العاقبة. فعند ذلك تحققت من كذبه على الرجل ما كنت شاكاً فيه. ووجه كذبه فيما حكاه من ذلك أن الرئيس الجليل القدر إذا أراد أن يهم بمثل هذا الأمر في سائسه أو من يجري مجراه لم يكد يعلم ولده بما يريده منه فكيف إذا عزم على فعل ذلك مع مثلى هل يسوغ أن يطلع أحداً عليه ومع هذا فما الذي يدعوه أن يخرج بذلك إلى غيره وربما نم عليه وتقرب إلي بإطلاعي عليه وإلا تولى بنفسه مع إكثاري كان من زيارته وسكوني إليه وأني لم أتهمه بذلك فط فآخذ حذري منه وكان بهذا الحكم يتمكن من بلوغ غرضه مني بحيث لا يعلم به أحد. فتحقق لي كذبه فيما حكاه وهذا أقوى الأسباب في صرفه لأن من ليس له عقل يميز به ما يخرج من فمه لا سيما في مثل هذا الأمر الخطر الكبير لم يجز أن يوثق به في تدبير مزبلة والخوف من جنايته على الدولة برقاعته ونقص عقله أكثر من الطمع في الانتفاع بنظره. وكان صرف البابلي على الوزارة في شهر ربيع الأول وله في الوزارة اثنان وسبعون يوماً فلما صرف قبض عليه واعتقل. وكان النهار لا يكاد يرتفع ويتأخر ما يحمل إليه من الطعام إلا ويتسغيث ويقول: ما يتم حبس وجوع. وكان يبدو منه في محبسه من القول ما يعرب به عن مستحكم الرقاعة والجهل فكان الموكلون به يتعجبون من فرق ما بينه وبين اليازوري فإن ذاك كان ساكن الطباع كثير الصمت شريف النفس مع حداثة سنه وهذا شيخ يظهر منه من الخفة فيها تولى الوزارة بعد البابلي أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين بن المغربي. وفيها تولى قضاء القضاة عوضاً عن اليازوري أبو علي أحمد بن عبد الحكم بن سعيد إلى ذي القعدة وصرف بأبي القاسم عبد الحاكم بن وهب بن عبد الرحمن المليجي. وتولى المؤيد في الدين أبو نصر هبة الله بن موسى داعي الدعاة. فيها قصد الأمير أبو الحارث أرسلان البساسيري الموصل ومعه قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي أمير الغرب فملكها. وخرج إليه السلطان ركن الدين أبو طالب طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق ففارقها واتجه طغرلبك إلى نصيبين فخالف عليه أخوه لأمه إبراهيم بن ينال وسار إلى همذان فرجع في إثره وتلاحقت الأتراك فاستدعى الخليفة القائم دبيس من مزيد فوصل إليه وقد أرجف بمسير البساسيري إلى بغداد فعظم الخوف منه فرجع دبيس إلى بلاده. فلما كان يوم الأحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة وصل البساسيري إلى بغداد ومعه قريش بن بدران وخطب في جامع المنصور للمستنصر بالله الفاطمي وقطع الخطبة لبني العباس وعقد الجسر وعبر عسكره. فلما كانت الجمعة الثانية خطب بجامع الرصافة للمستنصر. وكانت بينه وبين أهل بغداد حروب آلت إلى هزيمة رئيس الرؤساء وزير القائم والعسكر وقتل جماعة من الأعيان. ووقع النهب في البلد ودخل أصحاب البساسيري إلى البلد ووصلوا إلى باب النوبي الشريف فركب القائم بسواده وعلى كتفه البردة وبيده السيف وعلى رأسه اللواء وحوله جماعة بني العباس والخدم بالسيوف المسللة فرأى الأمر شديداً فعاد وأبعد المنظرة ونادى رئيس الرؤساء: يا علم الدين قريش أمير المؤمنين يستدنيك. فدنا منه فقال رئيس الرؤساء له: قد آتاك الله منزلة لم ينلها أمثالك وطلب منه الأمان للخليفة القائم فأمنه. ونزل إليه الخليفة والوزير رئيس الرؤساء وصاروا معه. فبعث إليه البساسيري: تخالف ما استقر بيننا! فقال قريش: لا. وكانا قد تعاهدا على المشاركة في جميع ما يحصل لهما فاستقر الأمر على أن البساسيري يتسلم الوزير رئيس الرؤساء وأن قريش ابن بدران يتسلم الخليفة القائم فيكون عنده. فبعث حينئذ قريش بالوزير إلى البساسيري فلما مثل بين يديه قال له: العفو عند المقدرة. فقال البساسيري: أنت صاحب الطيلسان ما عفوت عن داري وحرمى وأطفالي فكيف أعفو وأنا صاحب سيف. ثم إن قريش بن بدران سار في خدمة الخليفة وهو راكب بالصفة التي تقدم ذكرها إلى معسكره فأنزله في خيمة وهيأ له ما يقوم به ووقع النهب في دار الخلافة مدة أيام وأخذ منها ما لا يحصى كثرة وبعث منها إلى مصر منديل القائم الذي عممه بيده قد جعل في قالب رخام لكيلا ينحل مع ردائه والشباك الذي كان يتوكأ عليه فعمل في دار الوزارة بالقاهرة. وأما العمامة والرداء فبعثهما السلطان صلاح الدين يوسف لما استولى على القصر إلى الخليفة المستضيء ببغداد مع الكتاب الذي كتبه على نفسه القائم وأشهد على نفسه العدول فيه أنه لا حق لبني العباس في الخلافة مع وجود فاطمة الزهراء. وحمل أيضاً إلى القاهرة الذخائر والكتب والقضيب والبردة. وسلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارس بن المجلى وكان رجلاً متديناً فحمله في هودج إلى مدينة عانة وأنزله بها وفر أصحاب الخليفة القائم إلى طغرلبك فصاروا في جملته فلما كان يوم عيد النحر ركب البساسيري إلى المصلى وعلى رأسه ألوية المستنصر وقد استمال الناس بكثرة الإحسان وإجراء الأرزاق وكسر منبر المسجد الجامع ببغداد وقال: هذا منبر نحس أعلن عله بغض آل محمد عليهم السلام وأنشأ منبرا آخر وخطب عليه باسم المستنصر. ثم أخرج الوزير رئيس الرؤساء أبا القاسم علي بن المسلمة وهو مقيد وعليه جبة صوف وطرطور أحمر من لبد وفي عنقه مخنقة فشهره ثم أعاده إلى المعسكر وقد نصبت له خشبة فألبس جلد ثور طري وجعل في فكيه كلابين من حديد وعلقه بهما فبقي يضطرب إلى آخر النهار حتى مات وعمره نحو من ثلاث وخمسين سنة وكان حسن التلاوة للقرآن جيد المعرفة بالأدب. ولما ورد الخبر بذلك إلى المستنصر سر سرورا كثيرا وزينت القاهرة ومصر وجاءت نسب الطبالة فغنت بالطبل في القصر بين يدي المستنصر: يا بني العباس ردّوا ملك الأمر معدّ ملككم ملكٌ معار والعوارى تستردّ فقال لها المستنصر: تمنى فلك حكمك فسألت الأرض المجاورة للمقس فأقطعها إياها فعرفت بها وقيل لها إلى اليوم أرض الطبالة. وأمر المستنصر في أن يحمل إلى مهارش عشرة آلاف دينار ليسير إليه الخليفة القائم على حال جميلة وعزم على أنه إذا وصل تلقاه أحسن لقاء وبالغ في إكرامه. ويقال إنه بنى القصر الغربي لينزله فيه ويحمل إليه ما ينسيه به ما كان فيه من إقامة الرواتب السنية وأن يقرر له في كل يوم مائة دينار وأنه إذا ركب المستنصر في أوقات ركوبه قدمه بين يديه يحجبه. فإذا أقام على ذلك مدة وبات وانتشر في الأقطار خبر ذلك خلع عليه وعقد له ألوية الولاية للعراق وكتب عهده بتقليده إياه وسيره إليه وأعاده إلى مملكته وخلافته من قبله. فمنعه حادث القدر قبل إدراك ذلك. وكان من جملة أسباب فوات هذا أن البساسيري لما بعث الكتب إلى المستنصر يعرفه بإقامة الخطبة له ببغداد كان الوزير حينئذ أبو الفرج محمد بن المغربي وهو ممن فر من البساسيري وصار إلى القاهرة فحذر المستنصر من البساسيري وخوفه عاقبته فتركت أجوبته مدة ثم عادت الأجوبة بخلاف ما أمله البساسيري ثم قدم طغرلبك فانتصر عليه. وفيها بنيت القبة التي بصحن جامع دمشق شرقي الجامع على باب مشهد علي وكتب عليها اسم المستنصر. وفيها ولى المستنصر ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان دمشق في شهر رجب سنة إحدى وخمسين وأربعمائة: فيها سار الأمير أبو الحارث البساسيري من بغداد فملك البصرة وواسط وأقام بهما الدعوة للمستنصر وخطب له في عامة تلك الأعمال. وبلغ طغرلبك ما كان من أخذ بغداد وقطع الخطبة العباسية منها فكاتب ألب أرسلان بن داود أخيه فقدم عليه في إخوته بعسكر كبير واجتمعوا على محاربة إبراهيم بن ينال فكانت الغلبة لطغرلبك فأخذه أسيراً وقتله في تاسع جمادى الآخرة. وتوجه يريد بغداد وبعث إلى البساسيري وإلى قريش بن بدران يأمرهما برد الخليفة القائم إلى بغداد وإقامة الخطبة له على عادته ورده إلى تخت خلافته ويعدهما أنهما إن فعلا ذلك رجع عن العراق ولم يدخل بغداد وأنه يقنع بأن يخطب له فيها وتضرب السكة باسمه. فامتنع البساسيري أولاده وحرمه من بغداد إلى واسط ونوى العود. وعند ما قارب طغرلبك بغداد بعث إلى قريش يشكر ما كان من صنيعه مع الخليفة القائم وجهز إلى بكر بن فورك لإحضار الخليفة فوافى حلة بدر بن مهلهل وقد وصل الخليفة وابن مهارش في تلك الساعة فركب هو وابن فورك وأركبا الخليفة وخدماه وأتته هدايا بدر. وبعث طغرلبك بوزيره عميد الملك أبي نصر منصور الكندري والأمراء والحجاب بالخيام الكثيرة والسرادقات العظيمة والخيول العدة بالمراكب الذهب إلى الخليفة القائم فرحل وهم في خدمته وقد خرج طغرلبك إلى لقائه فعندما شاهده وقع إلى الأرض يقبلها ثم قام وهنأه بالسلامة وأظهر السرور الزائد والابتهاج الكبير واعتذر عن تأخره بما كان من عصيان إبراهيم ينال. فقال الخليفة بسيف كان قد تأخر عنه وسار معه طغرلبك إلى بغداد وجلس على باب النوبى الشريف مكان حاجب الباب حتى وصل الخليفة فعندما شاهده مثل قائما وأخذ بلجام بغلته حتى انتهى إلى باب الحجرة الشريفة وذلك في يوم الاثنين لخمس بقين من ذي الحجة. ثم عاد طغرلبك إلى معسكره وسير العساكر لمحاربة البساسيري وخرج في إثره فوافت العساكر البساسيري ودبيس بن مزيد فكانت بينهم حروب آلت إلى انهزام دبيس ووقوع ضربة في وجه البساسيري سقط منها عن فرسه فأخذ وقتل وحملت رأسه إلى طغرلبك فبعث بها إلى الخليفة القائم فطيف بها على قناة في بغداد للنصف من ذي الحجة وعلقت على باب النوبى. وأحيط بأموال البساسيري ونسائه وأمواله وجميع حواشيه وأسبابه وقتل في هذه الوقائع من الخلائق ما لا يحصى لهم عدد وفر دبيس إلى البطيحة. وقطعت الخطبة من بلاد العراق للمستنصر بعد أن خطب له ببغداد أربعين جمعة وعادت للقائم كما كانت. وهذه الحادثة كانت آخر سعادة الدولة الفاطمية فإن الشام خرج من أيديهم بعدها بقليل لاستيلاء الترك عليه ولم يبق بيدهم غير ملك مصر خاصة ويقال إن الخليفة القائم بأمر الله كتب لما نكب كتاباً يشكو فيه ما يلقاه من البساسيري ونسخته بعد البسملة: إلى الله العظيم من عبده المسكين. اللهم إنك عالم بالسرائر مطلع على مكنونات الضمائر اللهم إنك غني بعلمك واطلاعك على أمور خلقك عن إعلامي لك وهذا عبد من عبيدك قد كفر نعمتك وما شكرها وألغى العواقب وما ذكرها أطغاه حلمك وسخر بأناتك حتى تعدى علينا بغياً وأساء إلينا عتوا وعدواً. اللهم قل الناصر واغتر الظالم وأنت المطلع العالم والمنصف الحاكم بك نستعين عليه وإليك نهرب من بين يديه وقد تعزر بالمخلوقين ونحن نستعين بالله رب العالمين. اللهم إنا حاكمناه إليك وتوكلنا في إنصافنا منه عليك ورفعنا ظلامتنا إلى حكمك ووثقنا في كشفها بكرمك فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين وأظهر قدرتك فيه قدر ما نرتجيه فقد أخذته العزة بالإثم. اللهم فاستلبه عزته وملكنا بقدرتك ناصيته يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد خاتم النبين وعلى آله الطيبين وسلم تسليما. وبعث به إلى باب الكعبة وعلق بباب الكعبة ودعي بما فيه فقتل البساسيري في ذلك اليوم. |
12-21-2012, 08:57 PM | #25 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة
فيها سارت العساكر من مصر إلى دمشق وكتب لناصر الدولة أبي علي الحسين بن حمدان أن يكون قائد الجيش فسار من دمشق بعسكر كبير في سادس ربيع الأول يريد محاربة أهل حلب. وكانت مدينة حلب قد أقيمت فيها الدعوة الفاطمية وأسقطت بها دعوة بني العباس إلى أيام الظاهر بن الحاكم فتغلب عليها صالح بن مرداس أحد أمراء الكلابيين وكثف أمره بها حتى استولى على دمشق أمير الجيوش أنوشتكين الدزبري أحد الغلمان الأتراك فساس الأمور وأطاعه كل مارق وراسل الملوك. فنابذه صالح بن مرداس وجمع له العرب وفيهم عدة الدولة حسان بن جراح وسار لمحاربته فكانت بينهما وقائع انهزم فيها حسان إلى بلاد الروم وتفرق الجمع. ثم مات صالح وقام من بعده ابنه شبل الدول نصر بن صالح في حلب فقام بمنابذة أمير الجيوش كما كان أبوه وسار لقتاله فقتل وملك أمير الجيوش حلب فأقام بها رضي الدولة منجوتكين أحد غلمانه فأقام بها سنين. ومات أمير الجيوش فغلب على حلب ثمال بن صالح بن مرداس وملكها ولم يقم أحد بعد أمير الجيوش مقامه. فلما كانت وزارة الجرجرائي غمض طرفه عن ثمال ورأى أن موادعته أخف من إنفاق الأموال في محاربته فكتب بولايته وقرر عليه الحمل في كل سنة. وتمادى ذلك إلى أيام وزارة اليازوري فلم يرض بهذا ورأى أن الحيلة أبلغ فيما يؤثره لأنه إن رام صرفه لم يطق ذلك وإن نابذه ألزم كلفاً كثيرة. فاستعمل السياسة والتدبير الخفي وندب لذلك رجلا من أهل صور له بها رئاسة ووجاهة يقال له عين الدولة علي بن عياض قاضي صور فساس الأمر وأحكم التدبير فيما قرره مع كاتب ثمال بن صالح وما وعده به حتى نزل من قلعة حلب وسلمها إلى مكين الدولة الحسن بن علي بن ملهم والي الخليفة المستنصر. وسار من حلب يريد مصر للقاء الحضرة فلما بلغ رفح اتصل به خبر القبض على اليازوري فقال والله إني أموت بحسرة ونظرة إلى من استلبني من ذلك الملك وأخرجني بلا رغبة ولا رهبة إلا بحسن السياسة وإن رام ذلك مني فليس يتعذر عليه. ورجع ثمال إلى حلب فاتفق في غيبته قيام أهل حلب وتسليم البلد إلى عز الدولة محمود بن نصر بن صالح بن مرداس في مستهل جمادى الآخرة من هذه السنة فحضر ابن ملهم بالقلعة إلى أن سار إليه ناصر الدولة بن حمدان فكانت بينهما حروب كبيرة على قنسرين آلت إلى أن انكسر ناصر الدولة كسرة عنيفة فأصابته ضربة شلت منها يده ورجع منهزماً في مستهل شعبان. فقال عبد العزيز العكيك الحلبي وقد مدح ناصر الدولة فلم يجزه. ولئن غلطت بأن مدحتك طالبا جدواك مع علمي بأنّك باخل فالدّولة الزهراء قد غلطت بأن نعتتك ناصرها وأنت الخاذل إن تمّ أمرك مع يدٍ لك أصبحت شلاّء فالأمثال عندي باطل وأما ابن ملهم فإنه بعث إلى أسد الدولة أبي ذؤابة عطية بن صالح فسلمه حلب ودخلها في عاشر شعبان هذا وأقام بها يوم ثم خرج عجزاً عنها فوصل محمود في ثاني عشره وملكها. وفي تاسع رمضان صرف أبو الفرج ابن المغربي عن الوزارة وأعيد إليها أبو الفرج عبد الله بن محمد البابلي. وصرف عن قضاء القضاة عبد الحاكم بن وهب في جمادى الآخرة واستقر عوضه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن أبي ذكرى في حادي عشري رجب. وفيها قدمت هدية المعز بن باديس فقومت بأربعين ألف دينار. منها درقة مرصعة بالجوهر كانت للمهدي. وفيها قدم كتاب علي بن محمد الصليحي بما هو عليه من القوة وإقامة الدعوة واستأذن في وفيها نزل محمود بن شبل الدولة ثمال بن صالح بن مرداس على حلب ومعه منيع بن سيف الدولة سبعة أيام ثم رحل وعاد إليها وأخذها يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة وحصر القلعة إلى سادس رجب ورحل فملكها أصحاب المستنصر. وفيها التقى ناصر الدولة بن حمدان مع محمود بن شبل الدولة على الفنيدق فانكسر ابن حمدان ودخل عطية حلب وخرج منها وتسلمها محمود يوم السبت ثاني شعبان ثم وصل عمه معز الدولة فحاصر حلب مدة. وفي هذه السنة سقط تنور قبة صخرة بيت المقدس وفيه خمسمائة قنديل فتطير الناس وقالوا ليكونن في الإسلام حادث عظيم. سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة في ثالث محرم صرف البابلي عن الوزارة واستقر عبد الله بن يحيى بن المدبر. وفي صفر توفى قاضي القضاة ابن أبي ذكرى فاستقر في الحكم بعده أبو علي أحمد بن قاضي القضاة عبد الحاكم بن سعيد في رابع عشره وصرف في خامس صفر. واستقر عوضه أبو القاسم عبد الحاكم بن وهيب المليجي ثم صرف في حادي عشر رمضان. واستقر عوضه أبو محمد عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعد بن مالك بن سعيد الفارقي واستخلف ابنه عميد الملك أبا الحسن. وصرف ابن المدبر عن الوزارة واستقر بعده أبو محمد عبد الكريم بن عبد الحاكم أخو قاضي القضاة. وكان السبب في سرعة العزل وكثرة الولايات أنه لما قتل اليازوري كثر السعاة في الوزارة فما هو إلا أن يستخدم الوزير فيجعل نصب الأعين وتركب عليه المناصب ويكثر الطعن عليه حتى يعزل ولم تطل مدته ولا اتسع وقته فيلي بعده من يتفق له مثل ذلك لمخالطة الناس الخليفة ومداخلتهم الرقاع والمكاتبات الكثيرة إليه وكان لا ينكر على أحد مكاتبته. فأحب الناس مخالطة الخليفة وجعلوه سوقا لهم فتقدم كل سفساف وحظي أوغاد عدة وكثروا حتى كانت رقاعهم أوقع من رقاع الصدور والرؤساء والجلة وتنقلوا في المكاتبة إلى كل فن حتى إنه كان يصل إلى المستنصر في كل يوم ثمانمائة رقعة فتشابهت عليه الأمور وتناقضت الأحوال. ووقع الاختلاف بين عبيد الدولة وضعفت قوى الوزراء عن التدبير لقصر مدة كل منهم فإن الوزير منذ يخلع عليه ويستقر إلى أن ينصرف لا يفيق من التحرر فمن ابتغى به يؤذيه عند الخليفة وسعت عليه الرجال فما يصير فيه فضل عن الدفاع عن نفسه. فخربت الأعمال وقل ارتفاعها وتقلب الرجال على معظمها واستنضوا راخي ارتفاعها فاتضع الارتفاع وعظمت النفقات. ووقع اصطراع الأضداد على السلطان وواصلوه باقتضاء مالهم من المقررات ولازموا بابه ومنعوه من لذاته. وتجرءوا على الوزراء واستخفوا بهم وجعلوهم غرضا لمساءتهم فكانت الفترات بعد صرف من ينصرف منهم أطول من مدة نظر أحدهم والمستنصر يوسعهم حلماً واحتمالا. فأطغى الرجال ذلك وجرأهم عليه حتى خرجوا من طلب واجباتهم إلى التصارع فاستنفدوا أمواله وأخلوا منها خزائنه وأحوجوه إلى بيع ما عنده من العروض فكان يخرجها لهم لتباع ويشتريها الناس فيعترضونها ويأخذ من له درهم واحد ما يساوي عشرة ولا يمكن مطالبته. ثم عادوا إلى تقويم ما يخرج فإذا حضر المقومون أخافوهم فيقومون ما يساوي ألفاً بمائة فما دونها ولا يتمكن الخليفة من استيفاء ذلك فتلاشت الأمور واضمحل الملك. ثم لما علموا أنه لم يبق ما يخرج لهم تقاسموا الأعمال وتشاحنوا على ما زاد من الارتفاع وكانوا يتنقلون فيها بحكم غلبة من يغلب صاحبه عليها. ودام ذلك بينهم سنوات نحواً من ست ثم قصر النيل وغلت الأسعار غلاءً بدد شمل الناس بأسرهم وفرق ألفتهم وشتت كلمتهم وأوقع العداوة والبغضاء بينهم فقتل بعضهم بعضا حتى ناء عصب الإقليم وعفت آثاره كما ستقف عليه فيما يأتي إن شاء الله. وفيها اصطلح معز الدولة وابن أخيه محمود بن شبل الدولة ودخل حلب في رابع عشري ربيع الأول. فلما كان يوم الجمعة لسبع بقين من ذي القعدة توفي ودفن بالقلعة بعد أن حاصر ابن أخيه وفيها مات بمصر مؤتمن الدولة أبو طاهر مسلم بن علي بن ثعلب فكتب أبو محمد بن سعد الشاعر الخفاجي من القسطنطينية إلى أهله بحلب يرثيه من أبيات: أتاني وعرض الرمل بيني وبينه حديث لأسرار الدموع مذيع ومات المعز بن باديس وملك بعده ابنه تميم فطمع أصحاب البلاد بسبب العرب وتغلبهم على بلاد إفريقية. سنة أربع وخمسين وأربعمائة في ثالث المحرم توفي أبو محمد عبد الكريم بن عبد الحاكم في وزارته. وكان أبوه قاضي طرابلس فانتقل أبو محمد إلى مصر وكان فاضلا فردت الوزارة بعده إلى أخيه أبي علي أحمد بن عبد الحاكم بن سعيد. ثم صرف عن القضاء في صفر بأبي القاسم عبد الحاكم بن وهيب بن عبد الرحمن ثم صرف أبو علي عن الوزارة واستخدم سديد الدولة أبو عبد الله الحسين بن سديد الدولة ذي الكفايتين بن أبي الحسن علي بن محمد بن الحسن ابن عيسى العقيلي وكان أولا ناظرا على دواوين الشام فأقام في الوزارة إلى شوال وصرف عنها بأبي الفرج البابلي المقدم ذكره وفيها تولى مكين الدولة بن ملهم طبرية وعكا وإمرة بني سليم وبني فزارة فسار إليها وتسلمها الفتنة التي خربت مصر ذكر ابتداء الفتنة التي آلت إلى خراب ديار مصر وفي هذه السنة ابتدأت الفتنة التي كانت سبباً لخراب الإقليم. وذلك أن المستنصر كان من عادته في كل سنة أن يركب على النجب ومعه النساء والحشم إلى جب عميرة وهو موضع نزهة ويغير هيئته كأنه خارج يريد الحج على سبيل الهزر والمجانة ومعه الخمر محمول في الروايا عوضاً عن الماء ويدور به سقاته عليه وعلى من معه كأنه بطريق الحجاز أو كأنه ماء زمزم. وقد أنشد الشريف أبو الحسين علي بن الحسين بن حيدرة العقيلي المستنصر في ذلك صبيحة يوم عرفة: قم فانحر الرّاح يوم النحر بالماء ولا تضحّ ضحىً إلا بصهباء وادرك حجيج النّدامى قبل نفرهم إلى منىّ فصفّهم مع كل هيفاء وعج على مكة الروحاء مبتكرا فطف بها حول ركن العود والنّاء فلما كان في جمادى الآخرة خرج على عادته واتفق أن بعض الأتراك جرد سيفا في سكرة منه على بعض عبيد الشراء فاجتمع عليه عدة من العبيد وقتلوه. فغضب لذلك جماعة الأتراك واجتمعوا بأسرهم ودخلوا على المستنصر وقالوا إن كان هذا الذي قتل منا على رضاك فالسمع والطاعة وإن كان قتله عن غير رضا أمير المؤمنين فلا صبر لنا على ذلك وأنكر المستنصر أن قتله برضاه أو أمره فخرج الأتراك واشتدوا على العبيد يريدون محاربتهم فبرزت العبيد إليهم وكانت بين الفريقين حروب بناحية كوم شريك قتل فيها عدة وانهزم العبيد وقويت الأتراك هذا والسيدة أم المستنصر تمد العبيد بالأموال والسلاح. فاتفق في بعض الأيام أن بعض الأتراك وقف على شيء مما تبعث به أم المستنصر إلى العبيد لتعينهم به على محاربة الأتراك فأنكر ذلك وأعلم أصحابه فاجتمعوا وصاروا إلى المستنصر وتجرءوا عليه بالقول وأغلظوا في المخاطبة فأنكر أن يكون عنده من ذلك خبر وصار السيف قائماً. فدخل على أمه وأنكر عليها ما تعتمده من تقوية العبيد وإعانتهم على محارة الأتراك. ثم انتدب أبا الفرج ابن المغربي الذي كان وزيرا فخرج ولم يزل يسعى بين الأتراك والعبيد حتى أوقع الصلح بين الفريقين. فاجتمع العبيد وساروا إلى ناحية شبرا دمنهور. فكانت هذه الكائنة أول الاختلاف بين طوائف العسكر. وكانت السبب في كثرة السودان بالقصر أن أم المستنصر كانت جارية سوداء قدم بها أبو سعيد التستري المقدم ذكره فأخذها منه الظاهر واستولدها المستنصر. فلما أفضت الخلافة إلى ابنها المستنصر ومات الوزير صفي الدين الجرجرائي في سنة ست وثلاثين وأربعمائة استطالت أم المستنصر وقويت شوكتها وتحكمت في الدولة واستوزرت مولاها أبا سعيد. وتوقفت أحوال الوزير الفلاحي معه فاستمال الأتراك وزاد في واجباتهم حتى قتلوا أبا سعيد فحنقت أم المستنصر من قته على الفلاحي ولم تزل به حتى كان من أمره ما تقدم ذكره. وأخذت في شراء العبيد السود وجعلتهم طائفة لها واستكثرت منهم وخصتهم بالنظر وبسطت لهم في الرزق ووسعت عليهم حتى أمطرتهم بالنعم وسار العبد بمصر بحكم حكم الولاة. وشرعت تغض من الأتراك وتظهر كراهتهم وانتقاصهم. وتقدمت إلى الوزير أبي البركات الجرجرائي أن يغري العبيد بالأتراك ويوقع بينهم فخاف سوء العاقبة في ذلك ولم يوافقها عليه فلم تزل به حتى صرف من الوزارة. واستقر وزيرها أبو محمد اليازوري في الوزارة فأوعزت إليه بذلك فساس الأمور سياسة جميلة إلى أن انقضت أيامه. ووزر البابلي فأمرته بذلك فشرع فيه. وتغيرت النيات وصارت قلوب كل من الطائفتين تضمر السوء للأخرى حتى كان من الحرب ما قد ذكر ولم يزل ذلك حتى خرب الإقليم كله وهلك أهله كما سيأتي. وفيها توفي الشريف أبو الحسن إبراهيم بن العباس بن الحسن بن الحسين بن علي بن محمد بن علي بن إسماعيل بن جعفر الصادق وكان قد ولي قضاء دمشق مرتين. وفي سابع عشر ذي القعدة توفى القاضي الفقيه أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حكمول بن إبراهيم بن محمد بن مسلم القضاعي وكان يخلف القضاة في الحكم بمصر. وكان إماماً محدثاً وله كتاب الشهاب وكتاب الخطط وكتاب أنباء الأنبياء وغير ذلك من المصنفات. وفيها توفى الرئيس أبو الحسن علي بن رضوان بن علي بن جعفر الطبيب. وتوفي المعز بن باديس بالقيروان في رابع شعبان. سنة خمس وخمسين وأربعمائة فيها ردت الوزارة والحكم معاً إلى أبي علي أحمد بن قاضي القضاة عبد الكريم بن عبد الحاكم في ثالث عشر المحرم ثم صرف عنهما في سابع صفر وأعيدت الوزارة لأبي الفضل عبد الله بن يحيى بن المدبر والحكم إلى أبي القاسم عبد الحاكم بن وهيب. وفي تاسع عشر جمادى الأولى توفي الوزير أبو المفضل عبد الله بن المدبر وقد تكررت ولايته للوزارة وسمع الحديث وكان فاضلاً أديباً وهو من ولد ابن المدبر متولي خراج مصر في أيام ابن طولون. واستقر في الوزارة أبو غالب عبد الطاهر بن الفضل بن الموفق في الدين المعروف بابن العجمي ثم صرف وقبض عليه في السابع والعشرين من شعبان. وأعيد إلى القضاء والوزارة جميعاً أبو محمد الحسن بن مجلي بن أسد بن أبي كدينة واستمر فيهما إلى خامس ذي الحجة فرتب مكانه جلال الملك أحمد بن عبد الكريم ابن عبد الحاكم بن سعيد فاستخلف أخاه أبا الحسن عليا على القضاء. وفيها ندب أمير الجيوش بدر الجمالي لولاية دمشق وندب معه على الخراج الشريف أبو الحسن يحيى بن زيد الحسني الزيدي. وفيها قدم الصليحي مكة بعد ما ملك اليمن كله سهله وجبله وبره وبحره وأقام بها وبمكة دعوة المستنصر وكسا الكعبة حريراً أبيض ورد حلية البيت إليه وكان بنو حسن قد أخذوها ومضوا بها إلى اليمن فاشتراها منهم وأعادها في هذه السنة. واستخلف على مكة محمد بن أبي هاشم وعاد إلى اليمن. سنة ست وخمسين وأربعمائة في ثالث عشري المحرم صرف أحمد بن عبد الحاكم عن القضاء والوزارة. وتقلد الوزارة أبو المكارم المشرف بن أسعد بن مقبل وفوض قضاء القضاء لأبي محمد الحسن بن مجلى بن أبي كدينة ثم صرف وأعيدت الوزارة لأبي غالب عبد الطاهر بن الفضل وفوض القضاء لأبي الحسن علي بن عبد الحاكم في سابع عشري ربيع الآخر ثم صرف عن القضاء في خامس جمادى الأولى بأبي القاسم عبد الحاكم بن وهيب. ثم صرف أبو غالب عن الوزارة واستدعى أبو البركات حسين بن عماد الدولة الجرجرائي من صور فحضر إلى مصر ووليها في مستهل رجب فأقام إلى العشر الأخر من رمضان وصرف عنها وصرف أيضاً عن القضاء عبد الحاكم. وجمعا معاً الوزارة والقضاء لابن أبي كدينة فباشرهما إلى رابع ذي الحجة فصرف عن الوزارة وقرر فيها أبو علي الحسن بن أبي سعيد التستري وقرر في القضاء أحمد بن عبد الحاكم. وفيها فارق أمير الجيوش بدر ولاية دمشق فراراً من أهلها لثورتهم به فقرر المستنصر بدله الأمير حصن الدولة أبا الحسن معلى بن حيدرة بن منزو بن النعمان الكناني. وفيها قتل قطلمش بن إسرائيل بن سلجوق صاحب قونية وأقصرا فقام بعده ابنه سليمان ابن قطلمش وفتح أنطاكية. سنة سبع وخمسين وأربعمائة في النصف من المحرم صرف عن الوزارة أبو علي بن أبي سعيد وصرف عن القضاء أبو أحمد بن عبد الحاكم. وتولى الوزارة أبو شجاع محمد بن الأشرف بن أبي غالب محمد ابن علي بن خلف وكان أبوه أحد وزراء بني بويه ببغداد ثم صرف عنها ثاني يوم واستقر في القضاء والوزارة جميعا أبو محمد بن أبي كدينة في حادي عشريه فلم يقم غير أربعة أيام وصرف عنها في سادس عشريه. وأعيد أبو شجاع محمد بن الأشرف إلى الوزارة وتقلد القضاء جلال الملك أبو أحمد بن عبد الكريم. فأقام ابن الأشرف في الوزارة إلى نصف ربيع الأول وصرف وقرر في الوزارة سديد الدولة أبو القاسم هبة الله بن محمد الرعباني الرحبي ثم صرف في آخره. واستوزر ابن أبي كدينة وأضيف إليه القضاء أيضاً في نصف جمادى الآخرة فباشرهما إلى نصف رجب وصرف عن الوزارة بأبي المكارم رئيس الرؤساء الشرف بن أسعد وعن القضاء بعبد الحاكم بن وهيب. ثم قبض على الوزير أبي المكارم في العشر الأخير من شوال وتولى الوزارة بعده الأثير أبو الحسن علي بن الأنباري فأقام شهراً وصرف في ذي الحجة عن الوزارة ولم يعد إليها. |
12-21-2012, 08:58 PM | #26 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة ثمان وخمسين وأربعمائة
في سادس عشرين منه صرف ابن أبي كدينة عن القضاء واستقر عوضه جلال الملك أبو أحمد ونعت بقاضي القضاة الأعظم. وفي تاسع ربيع الآخر أعيد إلى الوزارة أبو القاسم هبة الله محمد وفي جمادى الأولى ولى المستنصر أمير الجيوش بدراً الشام بأسره فخرج إليها بعد ما أنفق عليه ألف ألف دينار. وفي جمادى الآخرة جمع القضاء والوزارة لأبي أحمد جلال الملك ثم صرف بعد أيام عن الوزارة بأبي الحسن طاهر بن وزير فباشر أياماً يسيرةً وصرف بأبي عبد الله محمد بن حامد التنيسي وأقام يوماً واحداً ثم صرف وقتل. فاستوزر أبو سعد منصور بن زنبور فلم يقم في الوزارة غير أيام قليلة وهرب فأقيم بعده أبو العلاء عبد الغني بن نصر بن سعيد الضيف فباشر أياما يسيرة وصرف. وكان دخول أمير الجيوش إلى دمشق في سادس شعبان وبلغ ما بلغت نفقة المستنصر عليه ألف ألف دينار. سنة تسع وخمسين وأربعمائة فيها قويت شوكة الأتراك واشتد بأسهم وطلبوا الزيادات في واجباتهم ورواتبهم وساءت أحوال العبيد وكثر ضررهم وهم يتزايدون حتى صار منهم بالقاهرة ومصر وما في ظواهرهما من القرى نحو الخمسين ألف عبد ما بين فارس وراجل. وخلت خزائن أموال المستنصر وضعفت الدولة. فبعثت السيدة أم الخليفة المستنصر إلى قواد العبيد تغريهم بالأتراك وتحثهم على الإيقاع بهم ومحاربتهم وإخراجهم من مصر فجمع قواد العبيد وحشدوا طوائفهم وصاروا إلى شبرا دمنهور وساروا إلى الجيزة فخرج إليهم الأتراك يريدون محاربتهم وقد بلغت النفقة في تعديتهم إلى الجيزة ألف ألف دينار. فالتقى الفريقان وكانت بينها حروب انجلت عن كسرة السودان وهزيمتهم إلى الصعيد. وكان مقدم طوائف الأتراك يومئذ ناصر الدولة أبو علي الحسن بن الأمير أبي الهيجاء ابن حمدان فرجع بالأتراك إلى القاهرة وقد قويت نفسه وعظم قدره واشتدت شوكته وثقلت وطأته. وتلاحق العبيد بعضهم ببعض واجتمعوا في بلاد الصعيد وهم في عدد يتجاوز الخمسة عشر ألف ما بين فارس وراجل فساء ذلك الأتراك وأقلقهم فصار أكابرهم إلى المستنصر وشكوا إليه أمر العبيد. فأمرت أم المستنصر جماعة ممن كان عندها من العبيد أن يقتحموا على الأتراك فهاجموهم على حين غفلة وقتلوا منهم جماعة. ففر ابن حمدان حينئذ إلى ظاهر القاهرة وتسارع إليه الأتراك وقد استعدوا لمحاربة العبيد فخرج إليهم عدة من العبيد الذين كانا بالقاهرة ومصر. فكانت بين الطائفتين حروب شديدة مدة أيام فحلف منذ ذلك ابن حمدان أنه لا ينزل عن فرسه حتى ينفصل إما له أو عليه. وثبت كل منهما فكانت الكرة لابن حمدان على العبيد فوضع السيف فيهم وتجاوز الحد في كثرة قتلهم وتتبعهم في كل مكان حتى لم يدع في القاهرة ومصر منهم إلا قليلا وهم مقيمون بالصعيد والاسكندرية. فرأى ابن حمدان أن يبدأ محاربة من في الاسكندرية منهم فسار إليها ونازلها مدة وحصر العبيد بها وألح في مقاتلتهم حتى طلبوا منه الأمان فأقام على ولايتها رجلاً من ثقاته. وانقضت هذه السنة كلها في قتال العبيد والأتراك. وفي يوم عيد الفطر أفرج عن حميد بن محمود بن الجراح وحازم بن علي بن الجراح الطائيين من خزانة البنود بعد ما أقاما محبوسين مدة طويلة. وفيها قطعت دعوة المستنصر من اليمن بقتل الصليحي وأعيدت دعوة بني العباس. وأما الوزراء فإن ابن أبي كدينة صرف في ثامن المحرم وولى أبو القاسم عبد الحاكم المليحي فأقام إلى سابع جمادى الآخرة وصرف وأعيد ابن أبي كدينة فأقام أياماً وصرف وأعيد المليحي فلم يقم سوى ليالي يسيرة وصرف وأعيد ابن أبي كدينة فأقام إلى ثامن عشري ذي القعدة وصرف بجلال الملك بن عبد الحاكم. وفيها قتل فتوح الشامي أحد قواد العبيد وكان المنفق حين قتل خمسمائة ألف دينار. سنة ستين وأربعمائة في المحرم خرج الأتراك مبرزين إلى الرملة حين قتل شهاب الدولة وقد بلغت نفقه المستنصر فيهم ألف ألف دينار. وفيه اشتد البلاء على المستنصر بقوة الأتراك عليه وطمعهم فيه فانخرق ناموسه وتناقصت حرمته وقلت مهابته وتعنتوا به في زيادة واجباتهم. وكانت مقرراتهم في كل شهر ثمانية وعشرين ألف دينار فبلغت في هذه السنة إلى أربعمائة ألف دينار في كل شهر فطالبوا المستنصر بالأموال. وركب ناصر الدولة الحسين بن حمدان ومعه جماعة من قواد الأتراك وحصروا المستنصر وأخذوا جميع الأموال ثم اقتسموا الأعمال وركبوا إلى دار الوزير ابن أبي كدينة يريدون الأموال فقال: وأي مال بقى الريف في يد فلان والصعيد في يد فلان والشام في يد فلان. فقالوا: لا بد أن تنفذ إلى مولانا وتطلب منه وتعلمه بحضورنا. فكتب الوزير إلى المستنصر رقعة يذكر فيها حضورهم بألقابهم وما يطلبون فخرجت الرقعة بخط المستنصر فيها مكتوب: أصبحت لا أرجو ولا أتّقي إلا إلهي وله الفضل جدّي نبيّي وإمامي أبي وقولي التوحيد والعدل المال إلى الله والعبد عبد الله والإعطاء خير من المنع. " وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ ينْقَلِبُون ". واعتذر بأنه لم يبق عنده شيء. فاضطروه إلى إخراج ذخائره وذخائر آبائه وبيعها فأخذ يخرج ذلك شيئا بعد شيء وهم يأخذونها لأنفسهم بأيديهم ويثمنونها بأقل القيم وأبخس الأثمان. وسار ابن حمدان بجماعة الأتراك إلى الصعيد يريد محاربة العبيد وكان قد كثر شرهم وتزايد ضررهم وعم الكافة أذاهم وإفسادهم فاجتمعوا لحربه واستعدوا للغاية. فسار إليهم في شهر رمضان وقد بلغت النفقة عليه وعلى من معه ألف ألف دينار وكانت بينهما حروب عظيمة ووقائع عديدة انجلت عن كسرة الأتراك وهزيمتهم إلى الجيزة. فتلاقى بعضهم ببعض وصاروا يداً واحدة على المستنصر وألبوا عليه واتهموه بأنه بعث إلى العبيد بالأموال في السر ليقويهم على محاربة الأتراك وجهروا له بالسوء من القول فقال لهم إنه لم يبعث إليهم بشيء ولا أمدهم بمعونة. وأخذ الأتراك في لم شعثهم والتأهب لمحاربة العبيد حتى تهيأ أمرهم بعد أن أنفق المستنصر فيهم عوضا عما نهب السودان لهم وضاع من أموالهم ألف ألف دينار. وساروا إلى قتالهم مرة ثانية فالتقوا بهم وصابروهم القتال ووالوا عليهم الكرات حتى انهزم العبيد منهم وقتل كثر من أعدادهم بحيث لم ينج منهم إلا القليل وزالت حينئذ دولتهم. وعظم أمر ناصر الدولة واستبد بالأمور فصرف ابن أبي كدينة من الوزارة وأعاد المليجي فلم يبق غير خمسة وصرف: وأعيد ابن أبي كدينة وجمع له بين الوزارة والقضاء معاً في ربيع الأول فأقام فيهما إلى جمادى الأولى وصرف عن القضاء بجلال الملك فأقيم في منصب القضاء إلى سلخ رمضان فصرف عن القضاء بالمليجي. فأقام المليجي قاضيا إلى يوم عيد النحر وصرف وتولى ابن أبي كدينة. وفيها كانت بدمشق حروب بين أمير الجيوش بدر وبين عسكريته فكانت الحروب طول السنة في بلاد الشام وديار مصر قائمة لا تهدأ. وسار الأمير قطب الدولة باز طغان إلى ولاية دمشق ومعه أبو الطاهر حيدرة بن مختص الدولة أبي الحسين ناظراً في أعمالها. وفيها زلزلت مصر زلزلةً عظيمة حتى طلع الماء من الآبار وهلك عالم عظيم تحت الردم. وزال البحر بفلسطين من الزلازل وبعد عن الساحل مسيرة يوم ثم رجع فوق عالم كبير خرجوا يلتقطون من أرضه. وخربت الرملة خراباً لم تعمر بعده. وفيها أنفق في غير استحقاق لمدة خمسة عشر شهراً أولها عاشر صفر سنة ستين مبلغ ثلاثين ألف ألف دينار. فيها قوى تغلب المارقين على المستنصر واستباحوا ما وجدوا في بيوت أمواله واشتدت مطالباتهم بالواجبات المقررة لهم وسألوا الزيادات في الرسوم. واقتسم مقدموهم دور المكوس والجبايات وتغلب كل من بقي منهم على ناحية ولم يبق للدولة ارتفاع يعول عليه ولا مال في القياصر يرجع إليه. وأخرج من الذخائر مالا شوهد فيما بعده من الدول مثله نفاسةً وغرابة وجلالةً وكثرة وحسنا وملاحة وجودة وسناء قيمة وعلو ثمن ونقل منه التجار إلى الأمصار شيئا كثيراً سوى ما أحرق بالنار بعد ما امتلأت قياسر مصر وأسواقها من الأمتعة المخرجة من القصر المبيعة على الناس التي أنفق منها في أعطيات الأتراك وغيرهم لسنة ستين وأربعمائة. فأهلت سنة إحدى وستين هذه وقد اشتد الخوف بمصر وكثر التشليح في الطرقات نهاراً والخطف والقتل. وصار الجند فرقتين فرقة مع الخليفة المستنصر وفرقة عليه. وذلك أن الوحشة ابتدأت بين الأتراك وبين ناصر الدولة ابن حمدان لقوة بأسه وتفرده بالأمور دونهم واستبداده بالدولة عليهم فنافسوه وحسدوه وصاروا إلى الوزير خطير الملك وقالوا له: كل ما خرج من الخليفة من مال أخذه ناصر الدولة وتفرق أكثره في حاشيته ولا ينالنا منه إلا الشيء القليل. فقال لهم إنما وصل ناصر الدولة إلى هذا وغيره مما هو فيه بكم ولولا أنتم لما كان له من الأمر شيء ولو أنكم فارقتموه لا نحل أمره. واتفقوا على أن يكونوا جميعا عليه ويحاربوا حتى يظفروا به ويخرجوه من مصر. ودخلوا إلى الخليفة المستنصر وسألوه أن يبعث إلى ناصر الدولة بالخروج من البلاد وتهديده إن لم يخرج فبعث إليه يأمره بالخروج عن بلاده فسارع إلى الخروج عن القاهرة ونزل بالجيزة. فامتدت الأيدي عند خروجه إلى دوره ودور حواشيه وأصحابه وانتهبتها وأفسدتها. فلما كان في الليلة التي خرج قبلها دخل في خفاء واجتمع بالقائد تاج الملوك شادي وترامي عليه وقبل رجله وقال له: اصطنعني وانصرني على الوزير الخطير وعلى إلدكز بأن تركب أنت وأصحابك وتسير بين القصرين فإذا أمكنتك الفرصة فاقتلهما فوافقه على ذلك وأجابه إليه ورجع ناصر الدولة إلى مخيمه بالجيزة. فلما طلع النهار شرع تاج الملوك في عمل ما تقرر بينه وبين ناصر الدولة فأحس إلدكز بالمكيدة فسارع إلى اللحوق بالقصر واستجار بالمستنصر. وأقبل الوزير في موكبه وليس له شعور بما بيت في الليل فصادفه تاج الملوك على غرة منه فأوقع به وقتله وسير في الحال إلى ناصر الدولة فحضر. وحسن إلدكز للمستنصر أن يركب لمحاربة ناصر الدولة فلبس سلاحه وألبس من معه وركب ونزل فصار معه من الجند والعامة ما لا يحصى عددهم كثرة. ووقف ناصر الدولة بمن معه ونشبت الحرب بينهما فكانت الكسرة على ناصر الدولة فانهزم وقد قتل كثير من أصحابه فمر على وجهه لا يلوى على شيء في يسير من أصحابه حتى انتهى إلى بني سنبس بالبحيرة فنزل عليهم وأقام فيهم واستجارهم وتزوج منهم. واشتد الغلاء بمصر وقلت الأقوات في الأعمال وعظم الفساد والضرر وكثر الجوع حتى أكل الناس الجيف والميتات ووقفوا في الطرقات يخطفون من يمر من الناس فيسلبونه ما عليه مع ما نزل بالناس من الحروب والفتن التي هلك فيها من الخلق ما لا يحصيهم إلا خالقهم. وخاف الناس من النهب فعاد التجار إلى ما ابتاعوه من المخرج من القصر يحرقونه بالنار ليخلص لهم ما فيه من الذهب والفضة. فحرقوا من الثياب المنسوجة بالذهب والأمتعة من الستور والكلل والفرش والمظال والبنود والعماريات والمنجوقات والأجلة ومن السروج الذهب والفضة والآلات المجراة بالميناء والمرصعة بالجوهر شيء لا يمكن وصفه مما عمل في دول الإسلام وغيرها. وفي سادس صفر وهب لسعد الدولة المعروف بسلام عليك ما في خزانة البنود من الآلات والأمتعة وغيرها فوجد فيها ألفا وتسعمائة درقة لمطية سوى ما كان فيها من آلات الحرب والقضب الفضة والذهب والبنود فسقطت شرارة فيما هنالك فاحترق جميعه وكانت لذلك غلبة وخوف شدائد. فمما احترق فيها عشرات ألوف من السيوف إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة بحيث إن السلطان بعد ذلك بمدة احتاج إلى سلاح فأخرج من خزانة واحدة مما بقى وسلم من الحريق خمسة عشر ألف سيف مجوهرة سوى غيرها. وأخرج من القصر صندوق كيل منه سبعة أمداد زمرد ذكر الجوهري أن قيمتها على الأقل ثلثمائة ألف دينار. وكان في المجلس فخر العرب ابن حمدان وابن سنان وأبو محمد الحسن بن علي بن أسد بن أبي كدينة وغيرهم من المخالفين فقال بعضهم لمن أحضر من الجوهريين: كم قيمة هذا فقالوا إنما تعرف قيمة الشيء إذا كان مثله موجوداً ومثل هذا لا قيمة له. فاغتاظ وقال ابن أبي كدينة: فخر العرب كثير المؤونة وعليه خرج والتفت إلى كتاب الجيش فقالوا: يحسب عليه بخمسمائة دينار فكتب بذلك وقبضه. وأخرج عقد جوهر قيمته على الأقل ثمانون ألف دينار فكتب بألفي دينار وتشاغل الحاضرون بنظر ما سواه فانقطع سلكه وتناثر حبه فأخذ واحد حبة فجعلها في جيبه وأخذ ابن أبي كدينة حبة وأخذ فخر العرب شيئاً وتفرق الباقون سائره فذهب كأن لم يكن. وأخرج ما أنفذه الصليحي من نفيس الدر وكيل فجاء سبع ويبات. وأخرج ألفان ومائتا خاتم ما بين ذهب وفضة بفصوص من بين سائر أنواع الجواهر مما كان للخلفاء شوهد منها ثلاثة خواتيم من ذهب أحدها فصه زمرد واثنان ياقوت غشيم صاف ورماني كان شراء الفصوص اثني عشر ألف دينار. وأخرج من خزائن القصر ما يزيد على خمسين ألف قطعة من الثياب الخسروانية وقال ابن عبد العزيز أخرج من الخزائن على يدي أكثر من مائة ألف قطعة ولما اشتد على المستنصر أمر الأتراك وطالبوه بجراياتهم بعث إلى العميد ابن أبي سعد في إحضار جوهر كان عنده فأحضر خريطة فيها نحو من ويبة فأحضر أرباب الخبرة من الجوهريين ليقوموه فذكروا أنه لا قيمة له ولا يشتري مثله إلا الملوك فقومت بعشرين ألف دينار وكان مشتراه على حده سبعمائة ألف دينار ففرق في الأتراك وقبض كل منهم جزءاً بقيمة الوقت. وقسمت خزائن السيوف وآلات السلاح بين عشرة وهم ناصر الدولة ابن حمدان وأخواه فخر الدولة علي ويلدكوش وأمير الأمراء الحسين بن سبكتكين وسلام عليك وشاور بن حسين وتاج الملوك شادي والأعز ابن سنان ورضى الدولة بن رضي الدولة وأمير العرب ابن كيغلغ. فكان من جملتها ذو الفقار وصمصامة عمرو بن معدي كرب وسيف عبد الله بن وهب الراسبي وسيف كافور الإخشيذي وسيف المعز لدين الله ودرع المعز وكانت تساوي ألف دينار بيعت منها كواكب بمائة دينار وسيف الحسين بن علي عليه السلام وكان وزنه ثلثمائة وستين مثقالاً وسيف الأشتر النخعي ودرقة حمزة بن عبد المطلب وسيف جعفر بن محمد الصادق. ودخل في بعض الأيام من باب الديلم أحد أبواب القصر تاج الملوك شادي وفخر العرب علي بن ناصر الدولة ابن حمدان ورضي الدولة بن رضي الدولة وأمير الأمراء أبجتكين بن سبكتكين وأمي العرب ابن كيغلغ والأعز بن سنان وعدة من الأمراء البغداديين وصاروا في الإيوان ومعهم أحد الفراشين وفعلة فانتهوا إلى حائط مجير فأمروا الفعلة بكشف الجير فظهر باب فهدم فإذا خزانة ذكر أنها من أيام العزيزي بالله فوجدوا فيها من السلاح ما زادت قيمته على عشرين ألف دينار فحملوا جميع ذلك وتفرقوه. وصارت حواشيهم وركابياتهم يكسرون الرماح ويتلفون أعوادها ليأخذوا المهارك الفضة. وبيع من الرماح الخطية السمر الجياد شيء كثير مما كسره الغلمان للمغازليين وصناع موادن الغزل حتى كثر هذا الصنف بالقاهرة ولم يعترضهم أحد من أهل الدولة. وأخذ ما في خزائن البنود ومن المحكم والمينا المجرى بالذهب والمجرود والبغدادي والمذهب والخلنج والصيني ما لا يحصى. وأخذ أيضا ما في خزائن الفرش من البسط والستور والنفائس من الحرير وغيره ما لا يعرف له قيمة لكثرته. وأخرج في يوم من خزائن من القصر عدة صناديق فوجد في أحدها أمثال كيزان الفقاع من صافي البللور المنقوش والمجرود شيء كثير وإذا جميعها مملوءة من ذلك وغيره. وبيعت في تركة عماد الدولة بن الفضل من المحترق بعد قتله مما كان قد صار إليه من مخرج القصر مرتبة خسروانية حمراء بثلاثة آلاف وخمسمائة دينار ومرتبة قلمونية بألفين وأربعمائة دينار وثلاثون سندسية كل واحدة بثلاثين ديناراً وقدح بللور بمائتين وعشرين ديناراً وخردادي بللور بثلثمائة وستين دينارا وكوز بللور بمائتين وعشرة دنانير وكلة بثمانمائة دينار وعدة صحون ميناء بيع كل منها بمائة دينار فما دونها. وخرج من القصر خردادي وباطية من بللور في غاية النقاء وحسن الصنعة مكتوب عليهما اسم العزيز تسع الباطية سبعة أرطال ماء ويسع الخردادي تسعة أرطال دفع فيهما ابن عمار بطرابلس ثمانمائة دينار فامتنع صاحبهما. وقال المعتمد أبو سعد النهاوندي أحد الأمناء وحده دون غيره من أمناء القصر مما أخرج بيع ثماني عشرة ألف فقعة بللور ومحكم منها يساوي الألف دينار وإلى عشرة دنانير ونيف وعشرون ألف قطعة خسروانية إلى غير ذلك من الفرش والتعاليق ما بين مذهبة وغير مذهبة. وبيع في مدة خمسة عشر شهراً أولها عاشر صفر سنة ستين وأربعمائة سوى ما نهب وسرق مما خرج من القصر ما تحصل من ثمنه ثلاثون ألف ألف دينار على أنه بيع بأقل القيم وأنزر الأثمان وقبض الجند والأتراك جميعها من غير أن يستحق أحد منهم درهماً واحداً منها. ودخلوا إلى خزانة الرفوف وكانت خزانة عظيمة بالقصر من جملة خزائن الفرش فيها رفوف كبيرة بعضها فوق بعض ولكل منها سلم منفرد فأخرجوا منها ألفي عدل شققاً طميما بهدبها من سائر أنواع الخسرواني وغيره لم تستعمل وكلها مذهب معمول بسائر الأشكال والصور. وجد في عدل منها أجلة للفيلة من خسرواني أحمر مذهب كأحسن ما يكون وموضع نزول أفخاذ الفيال ورجليه سارج بغير ذهب. وأخرج من بعض الخزائن ثلاثة آلاف قطعة من خسرواني أحمر مطرز بأبيض لم تفصل برسم كسوة البيوت كل بيت منها كامل بجميع آلاته ومسانده ومخاده ومراتبه وبسطه وعتبه ومقاطعه وستوره وجميع ما يحتاج إليه فيه. وأخرج من الحصر السامانية المطرزة بالذهب والفضة وغير المطرزة مما هي مجومة ومطيرة وطفيلة ومصورة بسائر الصور ما لا يحصى كثرة. وأخرج من صواني الذهب المجراة بالميناء وغير المجراة المنقوشة بسائر أنواع النقوش المملوء جميعها جواهر من سائر أنواعه شيء كثير جدا ونيف وعشرون ألف قطعة طميم من سائر الأمتعة. والتمس بعض الأتراك من المستنصر مقرمة سندس أخضر مذهبة اقتراحا عليه لعدمها وقلة وجود مثلها فأخرج منها عدل كان العدد المكتوب عليه مائة وثمانية وثمانين من جملة أعداد أعدال فيها من المتاع. وأخرج في يوم صناديق سروج محلاة بفضة وجد فيها صندوق مكتوب عليه: الثامن والتسعون والثلثمائة وعدة ما فيها زيادة على أربعة آلاف سرج. ووجد غلف خيزران مبطنة بالحرير محلاة بالذهب خالية من الأواني كانت تسعة عشر ألف غلاف كان في كل غلاف قطعة من ووجود مائة كأن بازهر على أكثرها اسم هارون الرشيد ووجد ستور حريرية منسوجة بالذهب تقارب الألف مختلفة الألوان والأطوال فيها صور الدول وملوكها والمشاهير فيها مكتوب على صورة كل واحد منهم اسمه ومدة أيامه وشرح حاله. ووجد في خزانة عدة صناديق كثيرة مملوءة سكاكين مذهبة ومفضضة بنسب مختلفة من سائر الجواهر. ووجد عدة صناديق كبيرة مملوءة من أنواع الدوى المربعة والمدورة والصغار والكبار المعمولة من الذهب والفضة والصندل والعود والأبنوس والعاج وسائر أنواع الخشب المحلاة بالجوهر والفضة والذهب وسائر أنواع الحلى الغريبة والصنعة المعجزة الدقيقة بجميع آلاتها فيها ما يساوي الألف دينار وما فوقها سوى ما عليها من الجواهر وصناديق مملوءة مشارب ذهباً وفضة محرقة بالسواد صغاراً وكباراً بأحسن ما يكون من الصناعة. وصناديق مملوءة أقلاماً مبرية من سائر أنواع القصب فيها ما هو من براية أبي علي محمد ابن مقلة وابن البواب ومن يجري مجراهما وعدة مصاحف بخطيهما وخط نظرائهما فيها ما هو مكتوب بالذهب المكحل باللازورد. وعدة أزيار صيني كبار مملوءة كافورا قنصوريا وعدة كبيرة من جماجم العنبر الشجري وكثير من قوارير المسك ومن شجر العود مقطعةً شيء كثير. ووجدت عدة خزائن مملوءة من سائر أنواع الصيني منها أجاجين كبار محمولة كل إجانة منها على ثلاثة أرجل على صور الوحوش والسباع والناس والبهائم قيمة كل قطعة منها ألف دينار معمولة لغسل الثياب. ووجدت له خزائن مملوءة من سائر أنواع الصواني المدهونة سعة كل واحدة منها من العشرة أشبار إلى ما دونها شيء في جوف شيء حتى تكون أصغرها سعة الدرهم. ومن سائر أنواع الأطباق الخلنج الذي بهذه الصفة. ومن الموائد الخلنج الكبار والصغار ألوف ومن موائد الكرم الجفان الجور الواسعة بمقابض الفضة التي لا يقدر الجمل القوي على حمل جفنتين منها لعظمتها منها ما يساوي المائة دينار وما فوقها. ووجد من الدكك والمحاريب والأسرة العود والصندل والأبنوس والعاج وغيره شيء كثير. وعدة أقفاص مملوءة من بيض صيني معمول على هيئة البيض في خامته وبياضه يعمل فيها ما في البيض اليشم سبت يوم الفصاد وكيزان من صيني صغار وكبار على خلقة كيزان الفقاع يشرب فيها الفقاع. ووجد كثير من الأعدال مملوءة عقالاً من اليمن مما أهداه الصليحي. وأخرجت حصير من ذهب زنتها ثمانية عشر رطلاً ذكر أنها الحصير التي جلبت عليها بوران بنت الحسن علي المأمون. وأخرج ثمان وعشرون صينية ميناءً مجرى بالذهب لها كعوب تعلو بها عن الأرض مما بعثه ملك الروم للعزيز بالله قومت كل صينية بثلاثة آلاف دينار فأخذها كلها ناصر الدولة ابن حمدان. ووجد عدة صناديق مملوءة مرايا حديد صيني وغيره من الزجاج الميناء ما لا يحصى كثرة وجميعها محلاة بالذهب المشبك والفضة ومنها ما هو مكلل بالجوهر في غلف الكهمخت وغيره من أنواع الحرير والخيزران كلها مضببة بالذهب والفضة ومقابض المرايا ما بين عقيق وجزع وصندل وعود وأبنوس وغيره. وأخرج عدة أعدال من الخيام والمضارب والمنارات والخركاوات وغير ذلك من أنواع الخيام المعمولة من الدبيقي والمخمل وسائر أنواع الحرير المثقل وغير المثقل مما هو منقوش ومصور بسائر الصور العجيبة الصنعة وسائر أعمدتها مكسوة بالفضة المذهبة ولها الصفريات الفضة والحبال القطنية والحريرية. فكان منها ما تحمل الخيمة منه على عشرين بعيراً وأكثر. وأخرجت المدورة الكبيرة وكانت تقوم على خرط عمود طوله خمسة وستون ذراعاً بالكبير ودور مكللته عشرون ذراعاً وسعة قطرها ستة أذرع وثلثا ذراع ودور المدورة خمسمائة ذراع وعدة قطع خرقها أربع وستون قطعة كل قطعة منها تحزم في عدل وتحمل على مائة جمل وفي صفرتها ثلاثة قناطير فضة يحملها من داخلها قضبان حديد تسع راوية ماء من روايا الجمال وفي زخرفتها صور سائر الحيوانات ولها بادهنج طوله ثلاثون ذراعا. كان عملها لليازوري في وزارته فأقام يعمل فيها مائة وخمسون صانعاً نحو تسع سنين وصرف عليها ثلاثون ألف دينار أراد بها محاكاة القاتول الذي عمله العزيز بالله فجاء أعظم منه وأحسن. وبعث إلى متملك الروم في طلب عودين للفسطاط طول كل منهما سبعون ذراعا فأنفذهما إليه وقد بلغت النفقة عليهما حتى وصلا ألف دينار فعمل أحدهما في الفسطاط بعد أن قطع منه خمسة أذرع وأخذ الآخر ناصر الدولة ابن حمدان لما خرج إلى الإسكندرية. وقد قطعت هذه الخيام الكبار خرقاً وقومت على المذكورين من المارقين بأقل القيم فتمزقت وأخرج مسطح من قلمون عمل بتنيس للعزيز وسمى دار البطيخ يقوم على ستة أعمدة وفيه أربع قباب بين كل قبتين رواق يقوم كل منها على أربعة أعمدة وطول كل عمود ثمانية عشر ذراعا. ومسطح عمله الظاهر في تنيس كله ذهب طميم بستر صفارى بللور وستة أعمدة من فضة أنفق عليها أربعة عشر ألف دينار. إلى غير ذلك من القصور والخيام المخمل وغيره من سائر أنواع الحرير وعدة من الحمامات المعمولة من البللور والطالقاني ومن الأدم المذهبة المنقوشة بحياضها ودككها ومساطبها وقدورها وزجاجها وسائر عددها وأخرجت المدورة الكبيرة التي عملت بحلب في سني بضع وأربعين وأربعمائة فبلغت النفقة عليها ثلاثين ألف دينار وكان طول عمودها أربعين ذراعا ودور فلكه أربعة وعشرين شبرا وزنة صفرتيه قنطارين من فضة سوى أنابيب الحديد ويحملها سبعون جملا ولا ينصبها إلا نحو المائتي رجل وهو شبه القاتول العزيزي. وأخرج من المظال وقصبها الفضة والذهب شيء له قدر جليل. وأخرج من الصناديق والقمطرات والأدراج والموازين وغلف الأمشاط والمرايا والمداخن من الكيمخت والأبنوس والعاج وسائر الخشب والبقم المحلى جميعها بالذهب والفضة المغشاة بأغشية الأدم والحرير ما لا يحد كثرة. ومن صناديق الطعام وخزائنه والمجامع ما لا يدركه الإحصاء لكثرته. وأخرج من خزائن الفضة ما ينيف على ألف ألف درهم كلها آلات مصوغة مجراة بالذهب فيها ما يبلغ زنة القطعة منها خمسة آلاف درهم مما هو غريب الصنعة فبيع جميعه عشرون درهما بدينار وكانت قيمته خمسة دراهم بدينار. وأخرج غير ذلك عشاريات موكبية وأعمدة الخيام وقصب المظال ومنجوقات وأعلام وقناديل وصناديق وبوقات وزواريق وقمطرات وسروج ولجم ومناطق العماريات وغير ذلك ما يجاوز ألف ألف فضة بيعت كما بيع غيرها. وأخرج من الشطرنج والنرد المعمولة من أنواع الجواهر والأحجار ومن الذهب والفضة والعاج والأبنوس برقاع الحرير المذهب وغيره ما لا يحد كثرةً ونفاسةً ومن دسوت الفصاد مثل ذلك ومن خرق المنجوقات والمطارد والمظال والأعلام ما لا يمكن وصفه لكثرته مما هو مخمل وحرير ساذج ومذهب فقطع جميع ذلك وبيع. وأخرج مرة من خزائن السروج خمسة آلاف سرج كان أبو سعيد إبراهيم بن سهل التستري قد عملها فيها ما يساوي السرج الواحد منها سبعة آلاف دينار إلى ألف دينار شبك جميعها وفرق في الأتراك كان منها أربعة آلاف سرج برسم ركاب الخليفة. وأخرج من خزانة السيدة أم المستنصر أربعة آلاف مثلها ودونها صنع بها مثل ذلك. وأخذ منها آلات فضية وزنها ثلثمائة ألف وأربعون ألف درهم تساوي ستة دراهم بدينار. وأخرج من القصر أقفاص مملوءة آلات مصوغة مجراة بالذهب معدومة المثل صنعةً وحسنا عدتها أربعمائة قفص كبار شبكت كلها في إيوان القصر وفرقت. ومعظم ذلك كان في وزارة جلال الملك بن عبد الحاكم في هذه السنة. كان من جملة ما في الأقفاص ستة عشر ألف قطعة برسم العواري خاصة. وأخرج في بعض أسابيع المولد ألفان وخمسمائة إناء من فضة برسم الخيم. وأخرج مرة عند ورود بعض رسل ملوك الروم فيما أخرج عدة كثيرة من صواني الذهب والفضة المجراة بالميناء الغريبة الصنعة ملئت كلها جوهراً فاخراً وأربعة آلاف نرجسية فضة محرقة بالذهب عمل فيها النرجس وألفا بنفسجية كذلك. وأخرج من خزائن الطريف ستة وثلاثون ألف قطعة ما بين بللور وغيره. وكان مبلغ ما قوم من نصب سكاكين بأقل القيم ستة وثلاثين ألف دينار. وأخرج من تماثيل العنبر اثنان وعشرون ألف قطعة أقل تمثال منها وزنه اثنا عشر منا وأكبره يتجاوز ذلك بكثير ومن تماثيل الكافور ما لا يحد كثرة منها ثمانمائة بطيخة كافور وأخرج من خزائن الفرش أربعة آلاف رزمة خسروانية مذهبة في كل رزمة فرش مجلس ببسطه وتعاليقه وسائر آلاته. وأخرج من خزائن الكسوات من التخوت والأسفاط والصناديق المملوءة بفاخر الملابس المستعملة بتنيس ودمياط وبرقة وصقلية وسائر أقطار الأرض ما لا يحد كثرةً ولا يعرف له قيمة. وفي هذه السنة بعث ناصر الدولة ابن حمدان عماد الدولة المعروف بالمخنوق هو والوزير أبا محمد بن أبي كدينة إلى المستنصر يطالبه معهما بما بقي لغلمانه فذكر أنه لم يبق عنده شيء إلا ملابسه وقال فابعث من يقوم ذلك ويقبضه فأخرج إليهما ثمانمائة بذلة من ثيابه بجميع آلاتها كاملة قومت وحملت إليه في حادي عشر صفر. وفيها وهب المستنصر لفخر العرب وتاج الملوك الكلوتة المرصعة بالجوهر وكانت من غريب ما في القصر ونفيسه وكانت قيمتها مائة وثلاثين ألف دينار وقومت عليهما بثمانين ألف دينار وقسمت بينهما بالسوية فجاء وزن ما فيها من الجوهر سبعة عشر رطلا بالمصري. فصار إلى فخر العرب من جملة ما وقع في سهمه منها قطعة بلخش زنتها ثلاثة وعشرون مثقالا فأنفذها مع باقي ما حصل له منها إلى الفخرية وكانت بثغر الإسكندرية فحملت بعد ذلك إلى تنيس مع غيره من رجالاتهم فصار جميعه عند أمير الجيوش بالشام. وصار إلى تاج الملوك منها حبات در زنة كل حبة ثلاثة مثاقيل وعدتها مائة حبة فلما انهزم من مصر أخذها بعض غلمانه مع غيرها من نفيس الجوهر وهرب إلى الصعيد فقتل وأخذ منه. وأخرج من خزائن الطيب مما أخرج خمسة صواري عود هندي طول كل واحد منها ما بين تسعة أذرع إلى عشرة أذرع وكافور قنصوري زنة كل حصاة منه من خمسة مثاقيل إلى ما دونها وقطع عنبر تزن القطعة ثلاثة آلاف مثقال فوهب ذلك لناصر الدولة فحاز منه ما لا حد له ولا قيمة. وحمل إليه من القصر متارد صيني يقوم كل مترد منها على ثلاثة أرجل على صورة السباع وغيرها يسع كل منها مائتي رطل وما فوقها وعدة قطع يشب وبازهر منها جام سعته ثلاثة أشبار ونصف وعمقه شبر مليح الصورة. وأخرج من القصر منديل نسيج من زغب ريش بدائر يسمى السمندل طوله تسعة أشبار لا يحترق بالنار فاشتراه بعض المسافرين التجار بثمن يسير طلب فلم يقدر عليه. وصار إلى ناصر الدولة قطرميز بللور فيه صور ناتئة عن ضبته يسع سبعة عشر رطلا ودكوجة بللور تسع عشرين رطلا وقصرية يصب كبيرة جدا وعدة كاسات يصب وطابع ند فيه ألف مثقال عمله فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة ابن بويه الديلمي وكتب عليه فخر الدولة شمس الدولة وكتب عليه أبياتا منها: فاقتسمه ناصر الدولة وفخر العرب وتاج الملوك أمير الأمراء. وصار لناصر الدولة أيضا طائر من ذهب مرصع بنفيس الجوهر وعيناه من ياقوت أحمر وريشه من الميناء المجري بالذهب كهيئة ريش الطاووس. وديك من ذهب له عرف كأكبر أعراف الديكة من الياقوت الأحمر مرصع كله بسائر الدر والجوهر وعيناه من ياقوت أحمر كان يحيره ناظره كيفية تركيبه لالتئام الصنعة فيه وملاحتها. وغزال مرصع بنفيس الدر والجوهر بطنه أبيض منطور من در رائع يخاله الناظر حيوانا. ومجمع سكارج مخروط من بللور فظ وفيه سكارج من بللور يخرج منه ويعود إليه فتحته أربعة أشبار في مثلها محكم الصنعة في غلاف من خيزران مذهب فسمح به لفخر العرب. وأخرج بطيخة من كافور في شباك من ذهب مرصع وزن كافورها سبعون منا سوى الذهب اقتسمها فخر العرب وتاج الملوك فخص فخر العرب منها ثلاثة آلاف مثقال من ذهب وقطعة عنبر تسمى الخروف زنتها سوى ما يمسكها من الذهب ثمانون منا وعدة قطارميز بللور فيها صور مجسمة بارزة يسع كل منها عشرين رطلا. وطلب الأتراك من المستنصر نفقة فماطلهم بها فهجموا على التربة التي للقصر وأخذوا ما فيها من قناديل الذهب ومن الآلات كالمداخن والمجامر وحلي المحاريب فجاء منه خمسون ألف دينار. وصار إلى فخر العرب مقطع حرير أزرق رقيق بديع الصنعة منسوج بالذهب وسائر أنواع الحرير تنبيتاً عمله المعز فيه صورة أقاليم الأرض بمدنها وجبالها وبحارها وأنهارها وسعة حصونها وفيه صورة مكة والمدينة وفي آخره: مما أمر بعمله المعز لدين الله شوقاً إلى حرم الله وإشهاراً لمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة والنفقة عليه اثنان وعشرون ألف دينار. وصار إلى فخر العرب ما لا يحصى كثرةً من ذلك مائدة يصب كبيرة قوائمها منها وبيضة كبيرة بلخشن زنتها سبعة وعشرون مثقالاً أشد صفاء من الياقوت الأحمر وبيت أرمني منسوج بالذهب عمل للمتوكل على الله العباسي لا مثل له ولا قيمة وقطرميز بللور يسع مروقتين نبيذاً مليح التقدير قوم عليه مما خرج من القصر ثمانمائة دينار فدفع إليه بعد ذلك فيه ألف دينار فأبى وبساط خسرواني دفع إليه بالإسكندرية ألف دينار فامتنع من بيعه ومائدة جزع يقعد عليها جماعة قوائمها مخروطة منها ما لا قدر لها ولا قيمة. سوى ما قبضة شاور بن حسين لناصر الدولة ولفخر العرب من آلات الذهب والفضة وآنية الجوهر وعقوده وفاخر الثياب والفرش والآلات والسلاح مما قوم بمئين ألوفاً وكانت قيمته ألوف ألوف ديناراً. وصار إلى ناصر الجيوش ما قيمته ألف ألف دينار من جملته نخلة من ذهب مكللة بجوهر بديع ودر رائع في إجانة من ذهب تجمع الطلع والبلح وسائر ألوان البسر والرطب بشكله ولونه وصفته وهيئته من ألوان الجوهر لا قيمة لها. وكوز على مثال كوز الزير من بللور يسع عشرة أرطال ماء مرصع بنفيس الجوهر لا قيمة له وصورة مكللة بحب لؤلؤ نفيس فيها ما وزن الجبة منه مثقال ومنه ما يزن مثقالين مرصعة بياقوت. وأخرج فيه العشارى المعروف بالمقدم ونجارته وكسوة رحله التي عملها الوزير علي بن أحمد الجرجرائي في سنة ست وثلاثين وأربعمائة كان فيها مائة ألف وسبعة وستون ألفا وسبعمائة درهم فضة نقرة غير ما أطلق للصناع من أجرة صياغة وثمن ذهب لطلائه وهو ألفان وتسعمائة دينار وكان سعر الفضة في ذلك الوقت كل مائة درهم بستة دنانير وربع بسعر ستة عشر درهما بدينار. وأخرج حلي العشارى الفضي الذي عمله أبو سعيد إبراهيم بن سهل التستري لما ولي الوساطة في سنة ست وثلاثين وأربعمائة لوالدة المستنصر وكان الحلي مائة ألف وثلاثين ألف درهم فضة وإلى ذلك أجر الصباغة ولطلاء بعضه ألفان وأربعمائة غير ما استعمل كسوة برسمه مال جليل. فأخرج عدة العشاريات التي برسم القوة البحرية وعدتها ستة وثلاثون عشارياً وكان قد انصرف عليها في حلاها من مناطق ورؤوس منجوقات وأهلة وصفريات وكساها أربعمائة ألف دينار. وأخرج ما على سرير الملك الكبير من الذهب الإبريز الخالص فكان مائة ألف مثقال وعشرة آلاف مثقال. وأخرج الستر الذي أنشأه أبو محمد اليازوري فجاء فيه من الذهب ثلاثون ألف مثقال وكان مرصعاً بألف وخمسمائة وستين قطعة جوهر من سائر الألوان. وأخرجت الشمسة الكبيرة وكان فيها ثلاثون ألف مثقال ذهباً وعشرون ألف درهم فضة وثلاثة آلاف وستمائة قطعة جوهر وأخرجت الشمسة التي لم تتم فوجد فيها من الذهب سبعة عشر ألف مثقال. وأخرج من خزانة عدة مناكين فضة منها ما زنته مائة وتسعة أرطال إلى ما دونها. وأخرج بستان أرضه فضة محرقة مذهبة وطينه ند معجون وأشجاره فضة مصنوعة وأثماره عنبروند زنته ثلثمائة وستة أرطال بالمصري. وبطيخة كافور مشبكة بذهب وزنها عشرة آلاف مثقال ومنقلتا كافور مشبكتان بذهب زنتهما ستة آلاف مثقال ومنقلتا عنبر وزنهما عشرة آلاف مثقال ومنقلتا عنبر مدورتان وزنهما ستة آلاف مثقال. وأثواب مصمتة منها أربعة يفصل كل ثوب منها اثنين وثلاثون قميصاً تاماً ومدهن ياقوت أحمر زنته سبعة وثلاثون درهماً ونصف أخذ من موجود اليازوري وكان قد صار إليه من السيدة عبدة بنت المعز لدين الله. وأخرج لؤلؤ زنة كل حبة منه مثقالان ومن الياقوت الأزرق ما زنة كل قطعة منه سبعون درهماً ومن الزمرد ما وزن كل قطعة منه ثمانون درهما ونصاب مرآة طويل ثخين من زمرد لا قيمة له. وأخرج من خزائن الكتب ثمانية عشر ألف كتاب في العلوم القديمة وألفان وأربعمائة ختمة في ربعات بخطوط منسوبة محلاة بذهب وفضة. وأخذ جميع ذلك الأتراك ببعض قيمته. وأخرج في المحرم منها في يوم واحد خمسة وعشرون جملاً موقرةً كتباً صارت إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر بن المعز واقتسمها هو والخطير ابن الموفق في الدارين بخدمات وجبت لهما عما يستحقانه وغلمانهما من ديوان الحلبيين وأن حصة الوزير أبي الفرج قومت عليه بخمسة آلاف دينار وكانت تساوي أكثر من مائة ألف دينار نهبت بأجمعها من داره يوم انهزم ناصر الدولة من مصر في صفر مع غيرها مما نهب من دور من سار معه من الوزير أبي الفرج وابن أبي كدينة وغيرهما. وأخرج ما في خزائن دار العلم بالقاهرة. وصار إلى عماد الدولة أبي الفضل بن المحترف بالإسكندرية كثير من الكتب ثم انتقل منها كثير بعد مقتله إلى المغرب وأخذته لواتة فيما صار إليها بالابتياع أو الغصب من الكتب الجليلة المقدار ما لا يعد ولا يوصف فجعل عبيدهم وإماؤهم جلودها نعالاً في أرجلهم وأحرق ورقها تأولاً منهم أنها خرجت من القصر وأن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم فصار رمادها تلالاً عرفت في نواحي أبيار بتلال الكتب وغرق منها وتلف ووصل إلى الأمصار ما يتجاوز الوصف. وأخرج من بعض الخزائن التي بالقصر بيضة كبيرة كأكبر ما يكون من بيض النعام محلاة بذهب فأخذها المستنصر دون ما أخرج من تلك الخزانة مما له خطر وقدر فقال بعض الحاضرين هذه بيضة نعامة فتغافل بعض من حضر من الأتراك عنها وأخذوا النفائس من الذخائر وانصرفوا. فسئلا المستنصر من بعض الخدم عن هذه البيضة فقال: هي بيضة حية أهداها بعض الملوك إلى جدي القائم بأمر الله وكان يحتفظ بها وهذه الرقعة بخط القائم بأمر الله باسم مهديها والسنة التي أهديت فيها. وأخرج من القصر في ثلاثة أيام من المحرم ما قيمته من العين اثنان وعشرون ألف دينار وستمائة وستة وسبعون ديناراً وثمن دينار منها قيمة متاع ثلاثة عشر ألفا وثمانمائة وثلاثون ديناراً وثلت وثمن وقيمة جوهر ثمانية آلاف وثمانمائة وخمسة وأربعون ديناراً وثلثان هذا على أن ما يساوي ألف دينار يقوم بمائة دينار وما دونها. فإذا كان هذا في ثلاثة أيام فكيف يكون في مدة سنتين ليلا ونهاراً! وتسلم جلال الدولة بن بويه من العين له ولمن يجري مجراه وعدتهم عشرة نفر من عطية واحدة مبلغ أربعة وأربعين ألف دينار ومائة وثلاثين دينارا. ووصل إلى بغداد على يد التجار مما خرج من القصر على ما وقفت في تاريخ بعض البغداديين أحد عشر ألف درع وعشرون ألف سيف محلى وثمانون ألف قطعة بللور وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج. وبيع طشت وإبريق من بللور باثني عشر ألف دينار وبيع نحو السبعين ألف قطعة من الثياب وعشر حبات قال ابن ميسر: رأيت مجلدة تجيء نحو العشرين كراسة فيها ذكر ما خرج من القصر من التحف والأثاث والثياب والذهب وغير ذلك. وفيها صرف الوزير محمد بن جعفر ابن المغربي عن الوزارة في رمضان وتقرر جلال الملك أبو أحمد أحمد بن عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقي. وفيها قتل أمير الجيوش بدر بساحل الشام الشريف أبا طاهر حيدرة ناظر دمشق لإحن كانت في نفسه منه وكان يعد من الأجواد. وفيها تغلب الأمير حصن الدولة معلى بن حيدرة الكتامي على دمشق واقتحمها قهراً بالسيف في شوال فأساء السيرة في الناس. وفيها عظم الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد وأكل الناس الجيفة والميتات ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط وبلغت رواية الماء دينارا وبيع دار ثمنها تسعمائة دينار بتسعين دينارا اشترى بها دون تليس دقيق. وعم مع الغلاء وباء شديد وشمل الخوف من العسكرية وفساد العبيد. فانقطعت الطرقات براً وبحراً إلا بالخفارة الكبيرة مع ركوب الغرر. وبيع رغيف من الخبز زنته رطل في زقاق القناديل كما تباع التحف والطرق في النداء: خراج! خراج! فبلغ أربعة عشر درهما وبيع أردب قمح بثمانين ديناراً. ثم عدم ذلك كله وأكلت الكلاب والقطط فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير. وأبيعت حارة بمصر بطبق خبز حساباً عن كل دار رغيف فعرفت تلك الحارة بعد ذلك بحارة طبق وما زالت تعرف بذلك حتى دثرت فيما دثر من خطط مصر. وأكل الناس نحاتة النخل ثم تزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا. وكان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سكنوا بيوتاً قصيرة السقوف قريبةً ممن يسعى في الطرقات فأعدوا سلباً وخطاطيف فإذا مر بهم أحد شالوه في أقرب وقت ثم ضربوه بالأخشاب وشرحوا لحمه وأكلوه. قال الشريف أبو عبد الله محمد الجواني في كتاب النقط: حدثني بعض نسائنا الصالحات قالت: كانت لنا من الجارات امرأة ترينا أفخاذها وفيها كالحفر فتقول: أنا ممن خطفني أكلة الناس في الشدة فأخذني إنسان وكنت ذات جسم وسمن فأدخلني بيتاً فيه سكاكين وآثار الدماء وزفرة القتيل فأضجعني على وجهي وربط في يدي ورجلي سلباً إلى أوتاد حديد عريانةً ثم شرح من أفخاذي وأنا أستغيث ولا أحد يجيبني ثم أضرم الفحم وأسوى من لحمي وأكل أكلاً كثيراً ثم سكر حتى وقع على جنبيه لا يعرف أين هو فأخذت في الحركة إلى أن تخلى أحد الأوتاد وأعان الله على الخلاص وخلصت وحللت الرباط وأخذت خروقا من داره ولففت بها أفخاذي وزحفت إلى باب الدار وخرجت أزحف إلى أن وقعت إلى الناس فحملت إلى بيتي وعرفتهم بموضعه فمضوا إلى الوالي فكبس وآل أمر الخليفة المستنصر إلى أن صار يجلس على نخ أو حصير وتعطلت دواوينه وذهب وقاره وخرج من نساء قصوره ناشرات شعورهن يصحن: الجوع الجوع وهن يردن المسير إلى العراق فتساقطن عند المصلى بظاهر باب النصر من القاهرة ومتن جوعاً. جاء الوزير يوماً على بغلة فأكلها العامة فأمر بهم فشنقوا فاجتمع الناس على المشنقين وأكلوهم. وعدم المستنصر القوت جملةً حتى كانت الشريفة بنت صاحب السبيل تبعث إليه كل يوم بقعب من فتيت من جملة ما كان لها من البر والصدقات في سني هذا الغلاء حتى أنفقت مالها كله وكان يجل عن الإحصاء في سبيل البر فلم يكن للمستنصر قوت سوى ما كانت تبعث به إليه وهو مرة واحدة في اليوم لا يجد غيره. وبعث بأولاده إلى الأطراف لعدم القوت فسير الأمير عبد الله إلى عكا فنزل عند أمير الجيوش وأرسل الأمير أبا علي معه وبعث الأمير أبا القاسم والد الحافظ إلى عسقلان وسيره أولا إلى دمياط ولم يترك عنده سوى ابنه أبي القاسم أحمد. وبعث المستنصر يوما إلى أبي الفضل عبد الله بن حسين بن شورى بن الجوهري الواعظ فدخل القاهرة من باب البرقية فلم يلق أحداً إلى القصر فجاء من باب البحر فوجد عليه شيخاً فقال استأذن علي فقال: ادخل فهو وحده فدخل فلم ير أحداً في الدهاليز ولا القلعة فأنشد: يا منزلاً لم تبل أطلاله حاشا لأطلالك أن تبلى والعيش أولى ما بكاه الفتى لا بدّ للمحزون أن يسلى فإذا هو خلف باب المجلس فبكى وبكيت طويلا وحادثته ساعة ثم ناوله الخليفة قرطاساً فيه سبعون ديناراً. ومن عجيب ما وقع أن امرأة من أرباب البيوت عرضت عقداً لها قيمته ألف دينار على جماعة ليعطوها به دقيقاً وهم يعتذرون إليها ويدفعونها إلى أن رق لها رجل وباعها به تليس دقيق فحملته من مصر واكترت معها من يحفظه من النهابة وسارت تريد منزلها بالقاهرة فسلمه الحملة إليها عند بابي زويلة فلم تمش به غير قليل حتى تكاثر الناس عليها وانتهبوه منها فانتهبت هي أيضا منه مع النهابة فصار إليها ملء يديها دقيقاً لم ينبها منه غيره فعجنته وشوته ثم مضت إلى باب القصر ووقفت على موضع مرتفع ورفعت القرصة في يدها حتى يراها الناس ونادت بأعلى صوتها: يأهل القاهرة ادعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه وأعاد عليهم بركات حسن نظره حتى تقومت علي هذه القرصة بألف دينار. ووقف مرة بعض المياسير بباب القصر وصرح إلى أن أحضر المستنصر فلما وقف بين يديه قال: يا مولانا هذه سبعون قمحة وقفت علي بسبعين ديناراً كل حبة قمح بدينار في أيامك وهو أني اشتريت إردباً بسبعين ديناراً فنهب مني ولم يبق في منه سوى ما وقع بيدي وانتهابي منه مع من نهب فعددت ما في يدي فجاء سبعين حبةً من قمح وإذا كل حبة بدينار. فقال المستنصر: الآن فرج الله على الناس فإن أيامي حكم لها أنه يباع فيها القمحة بدينار. ولم يكن هذا الغلاء عن قصور مد النيل فقط وإنما كان من اختلاف الكلمة ومحاربة الأجناد بعضهم مع بعض. وكان الجند عدة طوائف مختلفة الأجناس فتغلبت لواتة والمغاربة على الوجه البحري وتغلب العبيد السودان على أرض الصعيد وتغلب الملثمة والأتراك بمصر والقاهرة وتحاربوا. وكان قد حصل ذلك من بعد قتل اليازوري في سنة خمسين كما تقدم فما زالت أمور الدولة تضطرب وأحوالها تختل ورسومها تتغير من سنة خمسين إلى سنة سبع وخمسين فابتدأت الشدة منها تتزايد إلى سنتي ستين وإحدى وستين فتفاقم الأمر وعظم الخطب واشتد البلاء والكرب. وما برح المصاب يعظم إلى سنة ست وستين وكان أشدها مدة سبع سنين من سنة تسع وخمسين إلى سنة أربع وستين أخصبت كل شر وهلك فيها معظم أهل الإقليم. ثم أخذ البلاء ينجلي من سنة أربع وستين إلى أن قدم أمير الجيوش بدر في سنة ست وستين كما سيأتي ذكره إن شاء الله. فكانت السبع سنين المذكورة يمد فيها النيل ويطلع وينزل في أوقاته فلا يوجد في الإقليم من يزرع الأراضي ولا من يقيم جسوره من كثرة الاختلاف وتواتر الحروب وانقطاع الطرقات في البر والبحر إلا بالخفارة الثقيلة وارتكاب الخطر ولم يوجد ما يبذر في الأراضي للزراعة فإن القمح ارتفع الأردب منه من ثمانين ديناراً إلى مائتي دينار ثم فقد فلم يقدر عليه ولا الخليفة. وفيها صرف ابن أبي كدينة عن القضاء في ثالث عشر صفر وتولى المليحي وصرف جلال الملك عن الوزارة وصرف معه أيضا المليحي عن القضاء في يوم واحد وجمعا معاً لخطير الملك محمد بن اليازوري فباشرهما إلى شوال ثم صرف عنهما. فاستقر فيهما بعده ابن أبي كدينة إلى ذي القعد وأعيد المليحي بعده. وفيها احترق جامع دمشق ليلة الاثنين النصف من شعبان بعد العصر وسببه فتنة بين العسكرية وأهل البلد فأضرموا النار في بعض الأسواق واتصل بالجامع فاحترق الجانب الغربي جميعه من الرواق الباقلاني والقبة الكبيرة وزالت آثار الوليد بن عبد الملك التي لم يكن في الإسلام مثلها. |
12-21-2012, 09:03 PM | #27 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة اثنتين وستين وأربعمائة
فيها بعث ناصر الدولة حسين بن حمدان الفقيه أبا جعفر محمد بن أحمد بن البخاري رسولاً منه إلى السلطان ألب أرسلان ملك العراق يسأله أن يسير إليه العساكر ليقيم الدعوة العباسية بديار مصر وتكون مصر له. فتجهز ألب أرسلان من خراسان في عساكر عظيمة وبعث إلى محمود بن ثمال بن صالح بن مرداس صاحب حلب أن يقطع دعوة المستنصر ويقيم الدعوة العباسية فقطعت دعوة المستنصر من حلب ولم تعد بعد ذلك. وانتهى ألب أرسلان إلى حلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وحاصرها شهرا فخرج إليه صاحبها محمود بن ثمال بن صالح بن مرداس فأكرمه وأقره على ولايته. وأخذ يريد المسير إلى دمشق ليمر منها إلى مصر وإذا بالخبر قد طرقه أن متملك الروم قد قطع بلاد أرمينية يريد أخذ خراسان فشغله ذلك عن الشام ومصر ورجع إلى بلاده فواقع جمائع الروم على خلاط وهزمهم. وكان قد ترك طائفة من عسكره الأتراك ببلاد الشام فامتدت أيديهم إليها وملكتها كلها فخرجت عن أيدي المصريين ولم تعد إليهم. وبلغ المستنصر إرسال ناصر الدولة إلى ألب أرسلان فجهز إليه ثلاث عساكر من الأتراك وغيرهم وتقدم أحد العساكر إليه وهو في أهل البحيرة فجمع له ابن حمدان وأوقع به وقعة انكشفت عن أسر مقدم العسكر وقتل كثير من أصحابه وانهزام من بقي والاستيلاء على ما بقي معهم فتقوى به. ووافاه العسكر الثاني ولا علم عندهم بما اتفق على من تقدم فكانت الدائرة لابن حمدان عليهم أيضا فسار وهجم على العسكر الثالث وقتل منهم وأسر وانتهب عامة ما كان معهم فكثرت أمواله وكبرت نفسه واستأسد على المستنصر واستخف به وبمن معه فقطع الميرة عن القاهرة ومصر وعاث في البلاد ونهب أكثر الوجه البحري. وقطع خطبة المستنصر من الإسكندرية ودمياط وجميع الوجه البحري وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسي. وامتدت الحرب بين الأتراك وعبيد الشراء ثمانية أشهر يتحاربون ليلا ونهارا فامتنع الناس من الحركة وجاء النيل ووفى فلم يقدروا على الزرع فتفاقم البلاء بالناس واشتد جوعهم وعظمت رزاياهم. وفشا مع ذلك الموت في الناس فكان يموت الواحد من أهل البيت في القاهرة أو مصر فلا يمضي ذلك اليوم أو تلك الليلة حتى يموت سائر من في ذلك البيت. وعجز الناس عن مواراة الأموات فكفنوهم في الأنخاخ ثم عظمت شناعة الموت وتضاعف العجز فصاروا يحفرون الحفائر الكبار ويلقون فيها الأموات بعضهم على بعض حتى تمتلئ الحفيرة بالرمم من الرجال والنساء والصغار والكبار ثم يهال عليها التراب. ومع هذا تكاثر انتهاب الجند للعامة واختطافهم من الطرقات فخرج أهل القوة من القاهرة ومصر يريدون بلاد الشام والعراق هرباً من الجوع والفتن فصار إلى تلك البلاد عامة التجار وأصحاب القوة ومعهم ثياب المستنصر وذخائره وآلاته التي تقدم ذكر طرف منها. وفيها حاصر أمير الجيوش بدر مدينة صور وبها عين الدولة أبو الحسن علي الملقب بالناصح ثقة الثقات ذي الرئاستين ابن عبد الله بن علي بن عياض بن أحمد بن أبي عقيل القاضي وضايقها فسير عين الدولة إلى الأمير لواء مقدم الأتراك الواردين من العراق إلى بلاد الشام لينجده واتصل ذلك بأمير الجيوش فخاف من الأتراك فرحل عن صور. ثم لما اطمأن عاد إلى صور ونازلها فلم يظفر منها بشيء. وفيها قطعت دعوة المستنصر من مكة ودعي بها للقائم العباسي وللسلطان عضد الدولة ألب أرسلان بن داود بن ميكال بن مسلجوق بن دقاق. وكان سبب انقطاع دعوة المستنصر بها أنه كان ينفق في كل سنة على القافلة المجهزة إلى مكة في الموسم مائة ألف وعشرون ألف دينار منها عن الطيب والخلوق والشمع راتباً في كل سنة عشرة آلاف دينار ونفقة الوفد الواصلين إلى الحضرة أربعون ألف دينار وعن الجرايات والصدقات وأجرة الجمال ومعونة من يسير من العسكرية وأمير الموسم وخدم القافلة والضعفاء وحفر الآبار ونفقات العربان ستون ألف دينار. ثم زادت النفقة في وزارة اليازوري حتى بلغت إلى مائتي ألف دينار في السنة ولم تبلغ النفقة على موسم الحج مثل ذلك في دولة من دول الإسلام قط. فلما ضعفت الدولة في هذه السنين وزحف عضد الدولة من خراسان إلى حلب بعث إلى محمد ابن أبي القاسم الحسني أمير مكة بثلاثين ألف دينار وبخلع سنية وأجرى له في كل سنة عشرة آلاف دينار وبعث إلى صاحب المدينة عشرين ألف دينار فقطع خطبة المستنصر بعدما قامت الدعوة والخطبة للمستنصر ولآبائه بمكة والمدينة مائة سنة ودعا للقائم العباسي ولعضد الدولة وقرر عضد الدولة ما يحمل إلى الحرمين على ارتفاع واسط. سنة ثلاث وستين وأربعمائة فيها اصطلح الأتراك بمصر مع ناصر الدولة ابن حمدان وهو مقيم بالوجه البحري وذلك لشدة ما نالهم من قطعه الميرة عنهم فوقع الاتفاق بينهم وبينه على أن يكون مقيماً بمكانه وتحمل إليه الأموال التي تقرر له وأن يكون تاج الملوك شادي نائباً عنه بالقاهرة. فتقرر الحال على ذلك ودخلت الغلال إلى البلد فطابت قلوب الناس وانجلى الأمر نحو شهر ثم وقع الخلاف بين الأتراك وبينه فرحل من البحيرة بعساكر كثيرة ونازل البلد وحاصرها محاصرةً شديدة في ذي القعدة وامتدت أيدي أصحابه فانتهبوا الناس في الدور وأخذوهم من الطرقات وأحرقوا كثيراً من دور الساحل. ثم عاد إلى البحيرة. سنة أربع وستين وأربعمائة وفيها كانت الحرب بين تاج الملوك شادي وبين ناصر الدولة ابن حمدان وعادت الفتنة بالقاهرة ومصر. وكان سبب محاربتهما أن تاج الملوك لما دخل إلى القاهرة نائباً عن ناصر الدولة تغير عما كان قد تقرر بينهما واستبد بالأمور فضن بالمال عليه ولم يصل ابن حمدان منه إلا دون ما كان يؤمله. فقلق لذلك ابن حمدان واتفق هو وجمائع العربان على المسير إلى القاهرة وأخذها. فسار بهم ونزل إلى الجيزة فاستدعى تاج الملوك وغيره من أكابر المقدمين فخرجوا إليه مطمئنين لأنه واحد منهم يهوى هواهم فما هو إلا أن صاروا إليه حتى قبض عليهم وزحف بجموعه وألقى النار في دور السادة وانبثت أصحابه ينتهبون ما قدروا عليه. فجهز المستنصر إليه عسكراً كانت فيه طائفة لهم قوة وفيهم منعة فوافقوه. وكانت بينهم وبينه حرب انجلت عن هزيمته ففر على وجهه وتلاحق به أصحابه وصاروا إلى البحيرة فقطع خطبة المستنصر من جميع الوجه البحري وكتب إلى الخليفة القائم ببغداد يسأله أن يجهز إليه الخلع والألوية السود فاضمحل قدر المستنصر وتلاشى أمره. وتعاظمت الشدائد بمصر وجلت رزايا الناس. فلما كان في شعبان سار ناصر الدولة بعساكره وقد تيقن عجز المستنصر عن مقاومته لضعف أمره وممالاة كثير من الأتراك له. وموافقتهم لما قرره معهم من محبة فدخل إلى مصر فاستولى على الأمر وبعث إلى المستنصر يطلب منه المال فدخل عليه قاصد ابن حمدان وهو جالس على حصير بغير فرش ولا أبهة وليس عنده غير ثلاثة من الخدم وقد زال ما كان يعهده من شارة المملكة وعظمة الخلافة. فلما أدى إليه الرسالة. قال له المستنصر: أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا البيت على هذه الحال! فلما سمع بذلك قاصد بن حمدان بكى وخرج فأعلم ناصر الدولة ما شاهده من هيئة المستنصر وعرفه بما صار إليه من سوء الحال فرق له وكف عنه وأطلق له في كل شهر مائة دينار. واستبد بسائر أمور الدولة وبالغ في إهانة المستنصر في الاعتقاد وزاد في إيصال الضرر إليه وإلى سائر حواشيه وأسبابه حتى قبض على أم المستنصر وعاقبها بعقوبات متعددة واستخلص منها أموالاً جمة. فتفرق عن المستنصر جميع أهله وسائر أقاربه وأولاده وحواشيه فمنهم من سار إلى المغرب ومنهم من خرج إلى العراق وبقي فقيراً وحيداً خائفاً يترقب. وقيل إن أم المستنصر فرت أيضاً إلى العراق. وفي شهر ربيع الأول استقر ابن أبي كدينة في الوزارة والدعوة والقضاء. واستمر الحال على ما وصفنا جميع سنة أربع وستين. وفيها فقد الطعام فسارت التجار من صقلية والمهدية في الطعام والمرتب. فبيع القمح كل كيل قروي زنته تسعة أرطال بدينار نزاري ثم بيع بمثقالين ثم بثلاثة ثم فقد. وطبخ الناس جلود البقر وباعوها رطلاً بدرهمين وبلغ الزيت أوقيةً بدرهمين وأوقية اللحم بدرهم وبيعت الأمتعة بأبخس ثمن وباع الناس أملاكهم. ووقع الوباء فألقى الناس موتاهم في النيل بغير أكفان. وفيها مات القاضي الأجل أمين الدولة أبو طالب عبد الله بن عمار بن الحسين بن قندس بن عبد الله بن إدريس بن أبي يوسف الطائي بطرابلس الشام ليلة السبت نصف رجب. وفيها ملك القمص رجار بن تنقرد صاحب مدينة قلبريو وهي مقابل مدينة جربة جزيرة صقلية. سنة خمس وستين وأربعمائة فيها قتل ناصر الدين الحسين بن ناصر الدولة الحسن بن الحسين بن عبد الله أبي الهيجاء بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن الرشيد بن المثنى بن رافع بن الحارث ابن غطيف بن مجربة بن حارثة بن مالك بن جشم أحد الأراقم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن ثعلب بن وائل بن قاسط بن فيد بن أقصى بن داغمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة الفرس بن نزار بن معد بن عدنان التغلبي. وكان سبب فنائه أنه لما استولى على أمور الدولة وبالغ في إهانة المستنصر وتتبع أقاربه وحواشيه وأخذ من قدر عليه منهم وفر من وجد سبيلا إلى الفرار كان يولي الرجل بعض الأعمال ويسيره إليه فلا يتمكن من ذلك العمل حتى يكتب إليه بأن يعود ويبعث غيره. وشرع في قطع دعوة المستنصر وإعمال الرأي في إقامة الخطب للخليفة القائم بمصر والقاهرة وأن يزيل من البلاد دولة الفاطميين ويمحو آثارها فلم يستطع ذلك ولا قدر عليه لكثرة الأعوان والأتباع. وكان من جملة رجال الدولة إلدكز وهو أحد الأمراء ففطن لما يريده ناصر الدولة من قطع خطبة المستنصر وإقامة دعوة بني العباس فتشاور هو والأمير يلدكوز وكانا من أكابر الأتراك وأنكرا ما يتفق من ناصر الدولة وتخوفا من عاقبة ذلك. وصارا إلى بقية الأتراك وأعلماهم أنه إن تم لناصر الدولة ما يحاوله لم يبق منهم أحدا والرأي مبادرته قبل أن يستفحل أمره فتقرر الأمر على القيام عليه وقتله. وكان ناصر الدولة قد اغتر بقوته وظن أنه قد أمن وأن أعداءه قد تلاشوا وتلفوا فأتاه الله من حيث لم يحتسب وأناخ به عواقب بغيه فلم يشعر إلا وقد ركب الأتراك بأجمعهم على حين غفلة من ليلة من رجب ووافوا داره بمصر سحراً وكان يسكن في منازل العز فهجموا عليه من غير دستوره ولا طلب إذن فإذا هو في صحن داره وعليه رداء فبادره أحدهم بسيفه وأتبعه إلدكز فحز رأسه. وخرج كوكب الدولة مسرعا إلى فخر الدولة أخيه في عدة فطرقه وهو آمن وقتله واحتمل رأسه وأخذ سيفه وجاريةً من جواريه. وامتدت الأيدي إلى من بقي منهم فقتل أخوهما تاج المعالي وجماعة من بني حمدان وتتبعوا أسبابهم وحواشيهم حتى لم يبق منهم أحد بديار مصر وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم وما أصدق قول أبي على الفكيك إذ يقول هجاء لناصر الدولة هذا: فالدولة الغراء قد غلطت بأن سمّتك ناصرها وأنت الخاذل وقتل في هذه النوبة الوزير أبو غالب عبد الطاهر بن فضل بن الموفق بن الدين ابن العجمي. وفيها قطعت خطبة المستنصر من بيت المقدس. سنة ست وستين وأربعمائة فيها تشدد الأتراك وكبيرهم سلطان الجيش يلدكوش التركي والأمير إلدكز والوزير يومئذ ابن أبي كدينة فضاق خناقه وعظم روعه وساءت حاله وكان المستنصر بالله يظن أن في قتل ابن حمدان راحةً له فاستطال إلدكز وابن أبي كدينة عليه وناكداه. فتحير في أمره وكتب إلى أمير الجيوش بدر الجمالي وهو يومئذ بعكا يستدعيه للقدوم لنجدته وإعانته ويعده بتملك البلاد والاستيلاء عليها. فاشترط عليه أنه يقدم بعسكر معه وأنه لا يبقى أحداً من عساكر مصر ولا وزرائهم فأجابه المستنصر إلى ذلك. فأخذ في الاستعداد للمسير إلى مصر واستخدم معه عدةً من العساكر وركب بحر الملح من عكا وكان الوقت في كانون وهو أشد ما يكون من البلاء ومن العادة أن البحر لا يركب في الشتاء. فسار في مائة مركب وقد حذر من ركوبه وخوف من سوء العاقبة فلم يصغ لذلك وكأن الله سبحانه قد صنع له ومكن له في الأرض وقضى بأن يصلح على يديه ما قد فسد من إقليم مصر. فترحل بعساكره في المراكب وأضحت السماء وواتتهم ريح طيبة سارت بهم إلى دمياط ولم يمسسهم سوء فكان يقال إنه لم ير في البحر قط صحوة تمادت أربعين يوماً إلا في هذا الوقت فكان هذا ابتداء سعادته وأول عظيم جده. فنزل بدمياط وطلب إليه التجار من تنيس وافترض عليهم مالا. وقدم عليه سليمان اللواتي وهو يومئذ كبير أهل البحيرة وأكثرهم مالا وأوسعهم حالا وقدم إليه وأضافه وأمده بالطرقات حتى قدم قليوب فنزل بها. وبعث إلى المستنصر سراً بأني لا يمكنني القدوم إلى الحضرة ما لم يقدم على يلدكوش فبادر المستنصر إلى إجابته وقبض عليه. ودخل بدر عشية يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى فتلقاه أهل الدولة وأنزلوه وبالغوا في إكرامه فأظهر أنه ما جاء إلا شوقاً إليهم وخدعهم بما أبداه من المحبة لهم وكثرة التملق وأعرض عن المستنصر ولم يذكره إلا بالسوء وصار من معه يدخلون إلى القاهرة وحداناً ورجالا في الخفية حتى تكامل منهم تسعمائة. ثم أخذ مع الأمراء في الأكل والشرب واللذات إلى أن اشتد تآنسهم به فاستدعاه كل منهم إلى ضيافته وقدموا إليه وهو آخذ في أسباب ما دعى إليه. فلما انقضت أيام ضيافتهم له استدعى أمراء الدولة ومقدميها في صنيع أعد لهم فمضوا إليه وقضوا نهارهم عنده وباتوا في أطيب عيش وأنعم بال وقد رتب أصحابه ليقتل كل واحد أميراً من الأمراء ويكون له جميع ما بيده. فلما سكروا وامتد عليهم رواق الليل صار يخرج كل واحد من باب ويسلمه إلى غلام من غلمانه ويمضي إلى داره فيتسلمها بما فيها من الخدم والأموال. فلم يصبح الصباح إلا ورؤوس الجميع بين يديه وقد استولى كل رجل من أصحابه على دار أمير من الأمراء وأحاط بجميع ما كان له. وأخذ في القبض على الأتراك وتتبعهم حتى لم يدع منهم أحداً يشار إليه فقويت شوكته واشتدت وطأته وعظم أمره فحسر عن ساعد الجد وشمر ساعد الاجتهاد والتقط المفسدين فلم يبق على أحد منهم وتطلبهم في القاهرة ومصر حتى أتى على جميعهم القتل. وفر ناصر الجيوش أبو الملوك وكان شاه بن يلدكوش إلى الشام. وخلع عليه المستنصر بالطيلسان المقور وصار جميع أهل الدولة في حكمه والدعاة نواباً عنه وكذلك القضاة إنما يتولون منه. فقلد أبا يعلى حمزة بن الحسين بن أحمد الفارقي قضاء القضاة. وزيد في ألقاب أمير الجيوش على ألقاب من تقدمه من الوزراء: كافل قضاة المسلمين. واتفق أنه لما لبس خلع الوزارة حضر إليه المتصدرون بالجوامع فقرأ ابن العجمي: " ولقد نصركم الله ببدر " وسكت عن تمام الآية فقال له أمير الجيوش بدر: والله لقد جاءت في مكانها فيها قتل أمير الجيوش من أماثل المصريين وقضاتهم ووزرائهم عدة كثيرة منهم الوزير أبو محمد الحسن بن ثقة الدولة علي بن أحمد المعروف بابن أبي كدينة وكان عندما قدم بدر إلى مصر هو الوزير وهو من ولد عبد الرحمن بن ملجم وتردد في القضاء والوزارة سبع مرات وكان قاسي القلب جبارا فلما قبض عليه سير إلى دمياط ودخل عليه السياف ليضرب عنقه فكان سيفه ثليلاً فضربه سبع ضربات بعدد ولايته القضاء والوزارة. وقتل أيضا الوزير أبو المكارم أسعد والوزير أبو شجاع محمد بن الأشرف أبي غالب محمد بن علي والوزير عبد الغني بن نصر بن سعيد الضيف. سنة سبع وستين وأربعمائة فيها سار أمير الجيوش بدر إلى الوجه البحري فأوقع بلواتة وقتل مقدمهم سليم اللواتي وابنه واستصفى جميع ما كان له ولقومه من أنواع الأموال وأسرف في قتلهم حتى يقال إنه قتل منهم عشرين ألفا. وسار إلى دمياط وقتل كثيراً ممن كان فيها من المفسدين وخرب وحرق وأصلح عامة أحوال الثغر. ولم يدع بالبر الشرقي وجميع أسفل الأرض مفسداً إلا وقتله أو قمعه. ثم عدى إلى البر الغربي فقتل كثيراً من الطائفة الملحية وأتباعهم وأقام على محاصرة الإسكندرية وفيها حاصر شكل التركي أحد الأتراك الواصلين من العراق إلى الشام ثغر عكا وأخذه بالسيف وكان فيه أولاد أمير الجيوش بدر وأهله وحرمه فأحسن إليهم وأكرمهم وقتل والي عكا. ثم سار منها فنزل على طبرية وأخذها. وفيها مات الخليفة القائم بأمر الله ببغداد يوم الخميس ثالث عشر شعبان وله من الخلافة أربع وأربعون سنة وتسعة أشهر وأيام وجلس بعده ابن ابنه أبو القاسم عبد الله ابن ذخيرة الدين ولقب بالمقتدي. وفيها أعيدت الخطبة للمستنصر بمكة بعد أن خطب فيها للقائم بأمر الله العباسي أربع سنين. وفيها قتل أمير الجيوش كثيراً من جند مصر وغيرهم ممن يومي إليه بفساد. سنة ثمان وستين وأربعمائة فيها حاصر أطسز بن أرتق المعروف بالأقسيس دمشق وألح على قتال من بها من عساكر المستنصر حتى ملكها بعد أن أقام يحاصرها نحو ثلاث سنين. وكان عليها من قبل المستنصر حيدرة بن ميرزا الكتامي وقد كرهته الرعية لسوء سيرته فيهم وكثرة مصادرته للناس ففر منهزما إلى بانياس ثم خرج عنها إلى صور فأقام بها مدة ثم حمل إلى مصر فقتل بها. وكان قد التحق بأطسز عدة ممن فر من مصر عند قدوم أمير الجيوش فتقوى بهم وبمن صار إليه من أهل دمشق فراراً من حيدرة لسوء سيرته. فلما ملك دمشق دعا للمقتدي من خلفاء بني العباس وأبطل الخطبة للمستنصر فانقطعت دعوة الخلفاء الفاطميين منها ولم تعد بعد ذلك. وقطعت دعوة المستنصر من مكة أيضا ودعي فيها للمقتدي. فيها مات القاضي الشريف جلال الدولة أبو الحسين أحمد بن أبي القاسم علي بن محمد ابن الحسين بن إبراهيم بن علي بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب الحسيني النصيبيني قاضي دمشق وهو يومئذ متولي القضاء بها في يوم الجمعة الرابع من ذي القعدة وهو آخر قضاة الخلفاء الفاطميين بدمشق وسمع الحديث وحدث وله فيه مقال. سنة تسع وستين وأربعمائة فيها اجتمع بمدينة طوخ من صعيد مصر عدد كبير من عرب جهينة والثعالبة والجعافرة لمحاربة أمير الجيوش فسار إليهم حتى قرب منهم فنزل ثم ارتحل بالليل وأمر بضرب الطبول وزعقت البوقات واشتعلت المشاعل وقد تزايد وقود النيران. وجد في السير والعساكر لها صرخات وصيحات متتابعة في دفعة واحدة حتى طرقهم بغتة ووضع فيهم السيف فأفنى أكثرهم قتلا وفر منهم طوائف فغرقوا ولم ينج منهم إلا القليل. وأحاط بأموالهم فحاز منها ما يتجاوز الوصف كثرة وسيرها إلى المستنصر. وثار كنز الدولة محمد بأسوان وتغلب عليها وعلى نواحيها وكثرت أتباعه ونجم أمره فسار إليه أمير الجيوش بعساكره فالتقى معهم وحاربهم محاربة طويلة أسفرت عن قتله وهزيمة أصحابه بعد أن قتل منهم جم غفير فكانت هذه الواقعة آخر الوقائع التي قطع فيها دابر المفسدين وخمدت جمرتهم. وفيها جمع أطسز صاحب دمشق العساكر وسار يريد تملك الديار المصرية وإزالة الدولة الفاطمية منها وإقامة الدعوة العباسية كما فعل في بلاد الشام. وكان أكثر الأسباب الحاملة له على ذلك أن ابن يلدكوش لما فر من أمير الجيوش وصار إلى بلاد الشام اتصل بأطسز وقدم إليه ستين حبة لؤلؤ مدحرج زنة كل حبة منها ينيف على مثقال وحجر ياقوت زنته سبعة عشر مثقالا وتحفاً كثيرة مما كان قد وصل إلى أبيه من خزائن المستنصر في سني الشدة وأغراه بأهل مصر وحثه على قصد البلاد وهونها عنده. فقوي طمعه وسار وقد حصل في قوة بمن صار إليه من عساكر مصر ومن انضاف إليه من أهل الشام. وكان أمير الجيوش ببلاد الصعيد قد انتهى إلى بلاد أسوان فوصل الخبر بمسير أطسز إلى مصر فكتب بذلك إلى أمير الجيوش وكان عند موافاة الخبر إليه في شغل عن ذلك فقدم أطسز إلى أطراف مصر في جمادى الأولى وقد أشار عليه ابن يلدكوش بألا تشتغل بالقاهرة ولكن تملك الريف. وقال له: إذا ملكت الريف فقد ملكت مصر. فأقام بالريف جمادى الأولى وجمادى الآخرة وبعض رجب وأمير الجيوش في إصلاح الصعيد وتدبير أموره وقد حضر إليه أكثر أهل أسوان وبدر بن حازم بجمائع طي. فلما استوثق أمره وجمع إليه العساكر عاد إلى القاهرة وخرج يريد محاربة أطسز في جمع تبلغ عدته ما ينيف على ثلاثين ألفاً ما بين فارس وراجل وذلك في يوم الخميس لثلاث عشرة بقيت من رجب بعد ما جهز عدة مراكب قد شحنها بالعلوفات والأزواد. فجمع أطسز إليه أصحابه واستشارهم فاختلفوا عليه في الرأي فقال بعضهم أن ترجع فإنك قد دست بلاد مصر وليس معك غير خمسة آلاف والقوم في كثرة وعواقب الأمور غير معلومة. وقال له أخوه وابن يلدكوش لا يهولنك ما تسمع به من كثرتهم فإنما هم سوقة وأخلاط لو سمعوا صيحة لفروا عن آخرهم فإياك والرجوع عن هذا الملك قد أشرفت على أخذه ولم يبق إلا تملكه. وأشار عليه شكل أمير طبرية بموافقة القوم والدخول إلى مصر. فتقرر الرأي على ملاقاة العساكر المصرية. فلما كان يوم الثلاثاء لثمان بقين منه تلاقى الفريقان وتحاربا فكانت بينهما عدة وقائع كانت الغلبة فيها للمصريين فانهزم أطسز وقتل أخوه وعدة من أصحابه وعاد في قليل ممن معه وأقام بالرملة حتى تلاحقت به عساكره. ثم رحل إلى القدس ففتحها وقتل من فيها من المسلمين ولم يترك من استجار بالأقصى. ثم سار إلى دمشق فدخلها لعشر بقين من شعبان وقد احتوى أمير الجيوش على كثير مما كان معهم ورجع إلى القاهرة مؤيداً مظفراً. وكان المتولي لكسرة أطسز بدر بن حازم ابن علي بن دغفل بن جراح. فلما جلس أمير الجيوش بدر الجمالي للهناء بنصرته قرأ ابن لفتة أحد القراء " ولقد نصركم الله ببدر " ولم يتم الآية يعني بدر بن حازم. فبينا أمير الجيوش بدر في ذلك إذ بلغه اجتماع عرب قيس وسليم وفزارة فخرج إليهم وأوقع بهم وأكثر من القتل فيهم وفر من بقي منهم إلى برقة. وفيها سقط أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر فمات في عشية اليوم الثالث من رجب وكان له على الدولة الفاطمية في كل شهر ثلاثون ديناراً وغلة لإصلاح ما يكتب في ديوان الإنشاء فكان يعرض عليه جميع ما يكتب منه وإذا حرره أمر به فدفع لأربابه. ثم إنه تخلى عن الخدم السلطانية وانقطع للعبادة حتى مات وكان أبوه واعظاً بمصر. فيها سير أمير الجيوش عسكراً مقدمه ناصر الدولة الجيوشي فانتهى إلى دمشق وأقام محاصراً لها مدة ثم ارتحل عنها وعاد بغير طائل. وفيها فوض لأمير الجيوش قضاء القضاة وزيد في نعوته: كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين. وفيها وصل إلى مكة من بغداد منبر كبير في شهر رمضان منقوش عليه بالذهب: لا إله إلا الله محمد رسول الله. الإمام المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين. مما أمر بعمله محمد بن محمد بن جهير. فاتفق وصوله وقد أعيدت الخطبة للمستنصر فكسر المنبر المذكور وأحرق. ولم يكن بمصر في سنة إحدى وسبعين كبير شيء. سنة واحد وسبعين وأربعمائة سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة فيها سير أمير الجيوش عسكراً كبيراً فانتهى إلى دمشق وحاصرها حتى أشرف على أخذها فسير أطسز صاحب دمشق إلى تاج الدولة تتش بن السلطان ألب أرسلان وكان قد أقطعه أخوه ملكشاه الشام وأخذ حلب بعد ما حاصرها حتى اشتد الجوع بأهلها وملكها يستحثه على نصرته وتقويته على المصريين ويعده أنه يسلم إليه ملك دمشق. فأجابه إلى سؤاله وسار إليه بعسكره فبلغ ذلك عسكر أمير الجيوش فارتحل وعاد إلى مصر. وقدم تتش فملك دمشق ودبر على أطسز وقتله بحيلة في ربيع الأول وجهز عسكراً في إثر العسكر المصري فلم يدركه. وفيها خرج ملك النوبة من بلاده وصار إلى أسوان يريد زيادة كنيسة لهم بها فبعث والي قوص من قبض عليه وحمله إلى القاهرة فأكرمه أمير الجيوش وأفاض عليه النعم وأتحفه بالهدايا الجليلة فأدركه أجله ومات قبل أن يعود إلى بلاده. وفيها قطعت خطبة المستنصر من مكة وأعيدت خطبة بني العباس. سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة سنة أربع وسبعين وأربعمائة سنة خمس وسبعين وأربعمائة سنة ست وسبعين وأربعمائة سنة سبع وسبعين وأربعمائة فيها خرج الأوحد بن أمير الجيوش على أبيه وانضم إليه جماعة من العسكر والعربان وتحصن بالإسكندرية فسار إليه أمير الجيوش وحصره وألح عليه القتال حتى دخل البلد وأخذ ابنه قهراً. وأمر ببناء الجامع المعروف في الإسكندرية بجامع العطارين من أموال أخذها من أهل البلد وفرغ منه في شهر ربيع الأول وأقيمت فيه الجمعة واستمرت إلى أن زالت دولة الفاطميين على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فأمر ببناء جامع ونقل الخطبة من جامع العطارين إليه. وفي جمادى الأولى استناب أمير الجيوش ولده الأفضل وجعله ولي عهده في السلطنة. وفيها ابتدأ أمير الجيوش في بناء سور القاهرة. سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فيها قطعت الخطبة من مكة للمستنصر وخطب بها للمقتدي العباسي. فيها مات أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن علي الحسين المغربي الملقب بالكامل وكان قد ولي الوزارة بعد أن صار إلى بلاد المغرب وخدم بها ثم عاد واتصل بالوزير أبي محمد اليازوري فأحسن إليه واستخدمه وعني به فماقته أبو الفرج البابلي. فلما صارت إليه الوزارة بعد اليازوري قبض عليه في جملة من قبض عليه من أصحاب اليازوري واعتقله فلم يزل معتقلاً إلى أن تقررت له الوزارة وهو في السجن فأخرج وخلع عليه خلع الوزراة عوضاً عن أبي الفرج البابلي فلم يؤاخذه بما كان منه في حقه بل قابله بالجميل وأحسن إليه إحساناً كبيراً. ولما صرف عن الوزارة اقترح أن يولي ديوان الإنشاء فقرر في هذه الرتبة التي يقال لها في زمننا اليوم كتاب السر فاستقرت من بعده وظيفة ورتبة يتقلدها الأكابر. وفيها مات سليمان بن قطلمش بن إسرائيل بن سلجوق صاحب قونية وأقصرا من بلاد الروم وقام من بعده ابنه قليج أرسلان بن سليمان فاسترد منه الفرنج مدينة أنطاكية. سنة تسع وسبعين وأربعمائة فيها قدم الحسن بن الصباح رئيس الطائفة الباطنية من الإسماعيلية إلى مصر في زي تاجر واتصل بالمستنصر واختص به والتزم أن يقيم له الدعوة في بلاد خراسان وغيرها من بلاد المشرق. وكان الحسن هذا كاتباً للرئيس عبد الرزاق بن بهرام بالري فكاتب المستنصر ثم قدم عليه. ثم إن المستنصر بلغه عنه كلام فاعتقله ثم أطلقه. وسأله ابن الصباح عن عدة مسائل من مسائل الإسماعيلية فأجاب عنها بخطه. ويقال إنه قال له: يا أمير المؤمنين من الإمام من بعدك فقال له ولدي نزار. ثم إنه سار من مصر بعد ما أقام عند المستنصر مدة وأنعم عليه بنعم وافية. فلما وصل إلى بلاده نشر بها دعوة المستنصر وبثها في تلك الأقطار وحدث منه من البلاء بالخلق ما لا يوصف مما قد ذكر في أخبار المشرق. ثم قام من بعد المستنصر بدعوة ابنه نزار وكان بسبب ذلك في مصر من الانقلاب ما نهتم به إن شاء الله تعالى. وأخذ ابن الصباح أصحابه بجمع الأسلحة ومواعدتهم حتى اجتمعوا له في شعبان سنة ثلاث وثمانين ووثب بهم فأخذ قلعة ألموت وكانت لملوك الديلم من قبل ظهور الإسلام وهي من الحصانة في غاية. واجتمع الباطنية بأصبهان مع رئيسهم وكبير دعاتهم أحمد بن عبد الملك بن عطاش وملكوا قلعتين عظيمتين إحداهما يقال لها قلعة الدر. وكانت لأبي القاسم دلف العجلي وجددها وسماها ساهور والقلعة الأخرى تعرف بقلعة جان وهما على جبل أصبهان. وبث الحسن بن الصباح دعاته وألقى عليهم مسائل الباطنية التي ذكرتها في هذا الكتاب عند ذكر داعي الدعاة في أخبار بناء سور القاهرة عند ذكر خطط المعزية القاهرة. فساروا من قلعة ألموت وأكثروا من القتل في الناس غيلة. وكان إذ ذاك ملك العراقين السلطان ملكشاه الملقب جلال الدين بن ألب أرسلان فاستدعى الإمام أبا يوسف الخازن لمناظرة أصحاب ابن الصباح فناظرهم وألف كتابه المسمى بالمستظهري وأجاب عن مسائلهم. واجتهد ملك شاه في أخذ قلعتهم فأعياه المرض وعجز عن نيلها. وفيها خلع اسم المستنصر وآبائه من مكة والمدينة وكتب اسم المقتدي. سنة ثمانين وأربعمائة فيها مات أبو الفضل عبد الله بن الحسين بن بشرى المعروف بابن الجوهري الواعظ المصري في العشر الأواخر من شوال وهو أحد أكابر شيوخ مصر وتصدى سنين للوعظ بجامع عمرو بن العاص. حدث عن جماعة وله كلام في الزهد والمواعظ وهو من بيت علم وأسرة وعظ. ولما كانت أيام الشدة والغلاء بمصر اجتمع إليه الناس في بعض الأيام وسألوه عقد المجلس للوعظ بالجامع العتيق فقال: من يحضر عندي ومن بقي فقالوا: لا بد من ذلك فجلس وكان من كلامه: أبشروا هذه سنة ثلاث وأشار بيده وهي متعلقة كلها وسنة حل سنة أربع ويفتح الله ورفع بنصره وبعدها سنة خمس ويفتح الله ورفع خنصره. فكان كما قال. وأنشد مرة في بعض مجالسه: ما يصنع اللّيل والنّهار ** ويستر الثّوب والجدار ومن كلامه: قد اختل امر الدين والدنيا وتعذر الوصول إليهما فمن طلب الآخرة لم يجد معيناً علينا ومن طلب الدنيا وجد فاجراً قد سبقه إليها. وأنشد مرةً الخليفة المستنصر: عساكر الشكر قد جاءت مهنئةً ** وللملوك ارتيابٌ في تأتّيها بالباب قومٌ ذوو ضعفٍ ومسكنةٍ ** يستصغرون لك الدّنيا بما فيها وفيها بعث بردويل ملك الفرنج الذين يقال لهم الإفرنسيس عسكراً عليه أجار إلى صقلية فملكها من المسلمين. سنة إحدى وثمانين وأربعمائة سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة فيها ندب أمير الجيوش عسكرا إلى بلاد الشام وقدم عليه ناصر الدولة الجيوشي فسار وفتح ثغري صور وصيدا ثم فتح جبيل وعكا. وكان تتش قد ملكها فاستولى عليها ناصر الدولة الجيوشي وقتل جماعة من أصحاب تتش وأخذ كثيراً من ذخائره. ومضى إلى بعلبك فوفد عليه خلف بن ملاعب صاحب حمص ودخل في الطاعة وبعث ابن حمدان إلى أمير الجيوش سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة فيها توفى الحافظ أبو اسحق ابراهيم بن سعد بن عبد الله الخيال المصري الإمام صاحب التاريخ في سادس ذي القعدة ومولده في سنة إحدى وسبعين وثلثمائة ودفن بالقرافة. وفيها صعد الحسن بن الصباح إلى قلعة ألموت في شعبان وأظهر دعوة المستنصر بالله. سنة أربع وثمانين وأربعمائة سنة خمس وثمانين وأربعمائة فيها نقل أمير الجيوش بابي زويلة وزاد من ورائهما قطعة وبنى باب زويلة الكبير الموجود الآن ورفع أبراجه على ما هي عليه ولم يجعل له باشورة كما هي عادة أبواب الحصون أن يكون في أبوابها عطفة تمنع العساكر من الهجوم على الحصن عند الحصار بل عمل في بابه زلاقة من حجارة صوان حتى إذا هجم العسكر لم تثبت قوائم الخيل على الصوان لملاسته. فلم تزل هذه الزلاقة باقية إلى أيام الملك الكامل محمد بن العادل فأمر بنقضها لما زلت به فرسه وسقط عنها. سنة ست وثمانين وأربعمائة فيها جرد أمير الجيوش عسكراً إلى ثغر صور وكان المتولي به قد خرج عن الطاعة. فسار العسكر ونزل على الثغر فخاف أهل البلد من سطوة أمير الجيوش فلم يعرضوا لقتال فهجم العسكر البلد وانتهبوا أهله وقبضوا على أميرها وعلى جماعة من الناس وسيروهم إلى أمير الجيوش فقتلهم وبعث بفريضة ستين ألف دينار على أهل صور وكان ذلك في رابع عشر جمادى الآخرة. وفيها نمى قتل أبي علي حسن بن عبد الصمد بن أبي الشحناء العسقلاني صاحب الرسائل والشعر وكان بديوان الإنشاء وشعره ورسائله مشهورة. ويقال إن القاضي الفاضل عبد الرحيم كان جل اعتماده على رسائله. ومن شعره: أصبحت تخرجني بغير جريمة ** من دار إكرام لدار هوان كدم الفصد يراق أرذل موضع ** أبداً ويخرج من أعزّ مكان ثقلت موازين العباد بفضلهم ** وفضيلتي قد خفّفت ميزاني سنة سبع وثمانين وأربعمائة في شهر ربيع وقيل في جمادى الأولى توفي أمير الجيوش بدر الجمالي من مرض نزل به من أول السنة حتى أسكت فلم يقدر على الكلام إلى أن مات وقد ناهز ثمانين سنة وجنسه أرمني وكان مملوكاً لجمال الدولة ابن عمار فلذلك قيل له بدر الجمالي. وما زال يأخذ نفسه بالجد من شبيبته فيما يباشره ويوطن نفسه على قوة العزم فيما يرومه ويتنقل في الرتب العلية حتى ولي بلاد الشام وتقلد إمارة دمشق من قبل المستنصر مرتين وثار عليه أهلها وكانت في إمارته الفتنة العظيمة التي احترق فيها قصر الإمارة وجامع بني أمية. ثم إنه رحل عن دمشق إلى مصر وقلده المستنصر عكا. فلما فسدت أحوال مصر وتغيرت أمورها وخربت كان يبلغه ذلك فيتحسر لما يبلغه ويتلهف لكونه بعيداً عن مصر. فلما كاتبه المستنصر ودخل إلى القاهرة تحكم في بلاد مصر تحكم الملوك ولم يبق للمستنصر من أمر وألقى إليه مقاليد مملكته وسلم إليه أمور خلافته فضبطها أحسن ضبط. فاشتدت مهابته في قلوب الخاصة والعامة وخاف سطوته كل جليل وكبير لعظم بأسه وكثرة بطشه وقتله من الخلائق ما لا يمكن ضبطهم ولا يعلم عدتهم إلا إلههم سبحانه. وبقتله أكابر المصريين من الأمراء والقواد والوزراء والأعيان من أهل القاهرة ومصر وبلاد الصعيد وأسفل الأرض وثغر دمياط وتنيس والإسكندرية الذين كانوا قد تمرنوا على الفساد ونشأوا في الفتن واعتادوا مضرة الخلق ولصلاح أحوالهم من ذلك صلحت الديار المصرية بعد فسادها وعمرت بعد خرابها وزال عكس المستنصر وابتدأت سعادته. وكان من جميل أفعاله أنه لما قتل المفسدين من الأجناد والعربان وغيرهم أطلق الخراج للمزارعين ولم يأخذ منهم شيئاً ثلاث سنين حتى صلحت أحوال الفلاحين. واستغنى أهل مصر في أيامه ودرت عليهم أخلاف النعم بعد توالي الشدائد الكبيرة ومقاساة الألم. وكثر ترداد التجار في أيامه إلى مصر بعد نزوحهم عنها وخروجهم لشدة البلاء والجور فيها. وكانت مدة تحكمه بالديار المصرية إحدى وعشرين سنة. وكان عزوف النفس شديد البطش عالي الهمة عظيم الهيبة حسن التأتي جميل السياسة مظفراً سعيد الجد سخيا مفضالا. قصده علقمة بن عبد الرزاق العليمي فلما وافى بابه شاهد أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم وعلماءهم على بابه وقد طال وقوفهم ومقامهم ولا يصلون إليه. فبينا هو كذلك إذ خرج أمير الجيوش يريد الصيد فخرج في أثره وأقام معه حتى رجع من صيده فعندما قاربه وقف على تل من رمل ورمى برقعة كانت في يده وأنشد: نحن التّجار وهذه أعلاقنا درّ وجود يمينك المبتاع قلّب وفتّشها بسمعك إنّما هي جوهرٌ تختاره الأسماع كسدت علينا بالشآم وكلمّا قلّ النّفاق تعطّل الصّنّاع فأتاك يحملها إليك تجارها ومطيّها الآمال والأطماع فوهبت ما لم يعطه في دهره هرمٌ ولا كعبٌ ولا القعقاع وسبقت هذا النّاس في طلب العلا والناس بعدك كلّهم أتباع يا بدر أُقسم لو بك اعتصم الورى ولجوا إليك جميعهم ما ضاعوا وكان بيد بدر باز فدفعه لأحد مماليكه وجعل يستعيد الأبيات وهو معه إلى أن استقر في مجلسه. فلما اطمأن قال للحاضرين عنده من أحبني فليخلع عليه. فبادر حينئذ الحاضرون ولم يبق منهم إلا من ألقى له ما قدر عليه حتى صار إليه منهم ما حمله على سبعين بغلاً عندما خرج من المجلس ومع ذلك أمر له أمير الجيوش من ماله بعشرة ألاف درهم. قال قاضي الرشيد أحمد بن الزبير في كتاب العجائب والطرف والهدايا والتحف: ولما مات أمير الجيوش بدر المستنصري خلف سبعمائة غلام كل غلام له من المال ما ينيف عن المائة ألف غلام. وخلف من المال بعد عمارة سور القاهرة ستة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف ألف درهم في دار الوزارة ومن الجوهر والياقوت أربعة صناديق ومن القضب الفضة والذهب والمراتب ومن السروج المحلاة ما يعجز عن وصفه. وخلف ألف قصبة زمرد لأنه كان له به غرام عظيم جمعت له من جميع الأقطار. ولما مات أمير الجيوش كان أجل غلمانه من الأمراء نصر الدولة أفتكين ويليه في الرتبة أمين الدولة صافي ويقال لاون فبعث لاون لكل جماعة من الأمراء الجيوشية مالاً والتمس منهم الرضا به أن يلي الوزارة مكان أستاذه أمير الجيوش فوافقوه على ذلك فأقر أمره مع المستنصر فطلبه بعد موت أمير الجيوش وأفاض عليه خلع الوزارة وجلس في الشباك عند الخليفة ليتولى على العادة. وكان نصر الدولة أفتكين قد بلغه ذلك من قبل فركب وطاف على الأمراء كل واحد بمفرده وغلطه فيما عزم عليه وقبح أن يكون أحد خشدا شيته يتحكم عليه مع وجود أولاد أستاذهم مع ما قد عرف من بخل لاون ونحو ذلك من القول حتى رجعوا عن لاون. فعندما طلبه المستنصر وخلع عليه ركب نصر الدولة في جميع الأمراء بالسلاح وصاروا إلى القصر ووقفوا في الصحن فشق ذلك على المستنصر وعلى من بحضرته من خواصه. وشرع الأمراء في مخاطبة المستنصر في إبطال وزارة لاون وهو يأبى عليهم حتى طال الخطاب. فقال المستنصر إذا أقمنا قصبة قبل أمرنا. فقال الأمراء إذا أقمت هذه القصبة قطعناها بهذه السيوف وجردوا سيوفهم ولم يبق إلا وقوع الشر. فقال المستنصر لهم خيراً وأمر بإحضار الأفضل بن أمير الجيوش وقرر في الوزارة مكان أبيه وبطل أمر لاون فاستمر إلى ليلة الخميس الثامن عشر من ذي الحجة. وفيها مات الخليفة المستنصر بالله أبو تميم معد فلما كان عند موته حصل رعد عظيم وبرق كثير ومطر غزير وعمره يومئذ سبع وستون سنة وخمسة أشهر منها في خلافته ستون سنة وأربعة أشهر وثلاثة أيام مرت به فيها أهوال عظيمة وشدائد آلت به إلى أن جلس على نخ لا يجد من القوت إلا ما تتصدق به عليه الشريفة ابنة صاحب السبيل في كل يوم فلا يأكل غير مرة واحدة في اليوم من قعب فتيت تبعث بها إليه كما قد تقدم ذلك. وكان قد قوي أمره وقام بتدبير وزارته عند إقامته في الخلافة وزير أبيه علي بن أحمد الجرجرائي فمشت الأحوال على سداد إلى أن مات فحكمت أمه في الدولة وولت أبا سعيد ابراهيم اليهودي التستري وزارتها فصار هو الذي يلي الوساطة ويدبر الأموال إلى أن قتل. فلما كانت سنة اثنتين وستين اختلطت الأمور وتعاظم الأمر فكان من الغلاء والفتن والبلاء والنهب ما تقدم ذكره. وولي وزارته أربعة وعشرون وزيراً وهم: أبو القاسم الجرجرائي إلى أن مات وزيراً في سنة ست وثلاثين فولي أبو منصور صدقة بن يوسف الفلاحي إلى أن قتل في سنة تسع وثلاثين فولي عماد الدولة أبو البركات الحسين بن محمد الجرجرائي مرتين إلى أن عزل في سنة أربعين فولي صاعد بن مسعود أبو الفضل وصرف في سنة اثنتين وأربعين فاستقر أبو محمد اليازوري مضافاً إلى القضاء والتقدمة على الدعاة ولم يجمع ذلك لأحد قبله إلى أن قبض عليه في محرم سنة خمسين فاستوزر أبو الفرج عبد الله بن محمد البابلي ثم صرف بعد شهرين وأربعة عشر يوماً. واستقر أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين المغربي ثم صرف في سنة اثنتين وخمسين وأعيد البابلي ثم صرف بعد أربعة أشهر. وتولى عبد الله بن يحيى بن المدبر في صفر سنة ثلاث وخمسين وصرف بعد شهرين وتولى عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقي في رمضان منها إلى أن توفي في محرم سنة أربع وخمسين فتولى بعده أخوه أبو علي أحمد سبعة عشر يوماً وصرف فأعيد البابلي كرة ثالثة في ربيع الأول فأقام خمسة أشهر واستعفى فوزر أبو عبد الله الحسين بن سديد الدولة الماسكي ثم صرف بأبي أحمد بن عبد الكريم ابن عبد الحاكم فكان ينقل من القضاء إلى الوزارة ثم يعود إلى القضاء وصرف بابن المدبر فأقام إلى أن توفي فأعيد أبو أحمد بن عبد الحاكم في ذي الحجة سنة خمس وخمسين فأقام خمسة وأربعين يوماً وصرف بأبي غالب عبد الطاهر بن فضل العجمي فتولى غير مرة وكان جده من دعاة الدولة فولي مرة في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وصرف بعد ثلاثة أشهر وولي أخرى في ربيع الآخر سنة ست وخمسين وصرف بعد ثلاثة وأربعين يوماً وفي ثالثة في أيام الفتنة وقتله تاج الملوك شاذي بالقاهرة في سنة خمس وستين. وولي الوزارة أيضا الحسن بن ثقة الدولة بن أبي كدينة وجمع له بين القضاء والوزارة سبع مرات ووصل أمير الجيوش وهو وزير فقبض عليه وقتل بدمياط. وولي أبو المكارم سعد وتنقلت به الأحوال حتى قتله أمير الجيوش ثم وزر بعده أبو علي الحسن ابن أبي سعيد التستري عشرة أيام ثم استعفى وكان يهوديا فأسلم. ثم استوزر أبو القاسم عبد الله بن محمد الرعباني مرتين كل منهما عشرة أيام ثم ولي الأمير أبو الحسن بن الأنباري أياما وصرف. فتولى أبو علي الحسن بن سديد الدولة الماسكي أياما وهذه وزارته الثانية ثم صرف بأبي شجاع محمد بن الأشرف بن فخر الملوك وصرف فسار إلى الشام ولقيه أمير الجيوش فقتله وأبو غالب جده كان وزيراً لبهاء الدولة بن عضد الدولة ملك العراق. ثم ولي بعده أبو الحسن طاهر بن وزير الطرابلسي ثم صرف وكان أحد الكتاب بديوان الإنشاء فولي بعده أبو عبد الله محمد بن أبي حامد التنيسي يوماً واحداً وقتل فوجد له مال كثير. ثم ولي أبو سعد منصور بن أبي أيمن سورس بن مكرواه بن زنبور وكان نصرانيا فأسلم ويقال إنه لم يسلم ثم ولي بعده أبو العلاء عبد الغني بن نصر بن سعيد الضيف وصرف. فلما قدم أمير الجيوش تسلمها. ولما قدم أمير الجيوش من عكا صار وزير السيف والقلم وولي القضاء أيضا وزيد في ألقابه كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين. ثم لما مات وزر من بعده ابنه الأفضل. وأما قضاته فقد تقدم من جمع له القضاء مع الوزارة. والذين أفردوا بوظيفة القضاء عبد الحاكم بن سعيد الفارقي في أول خلافته ثم تقلد القضاء القاسم بن عبد العزيز ابن النعمان ثم أبو يعلى ويقال أبو الحسن أحمد بن حمزة بن أحمد العرقي ومات فولي أبو الفضل القضاعي ثم جلال الدولة أبو القاسم علي بن أحمد بن عمار. وولي الفضل ابن نباتة ثم أبو الفضل بن عتيق ثم أبو الحسن علي بن يوسف بن الكحال ثم فخر الأحكام أبو الفضل محمد بن عبد الحاكم وكان في أيامه ما قد تقدم ذكره من الرزايا. وكان نقش خاتمه: بنصر السميع العليم ينتصر المستنصر أبو تميم. ومما رثى به المستنصر قول حظي الدولة أبي المناقب عبد الباقي بن علي التنوخي الشاعر من أبيات: وليس ردى المستنصر اليوم كالرّدى ** ولا قدره أمرٌ يقاس به أمر لقد هاب ملك الموت إتيانه ضحى ** ففاجأه ليلاً وما طلع الفجر فأجرى عليه حين مات دموعنا ** سماءً فقال الناس لا بل هو القطر وقد بكت الخنساء صخراً وإنّه ** ليبكيه من فرط المصاب به الصّخر وقلّدنا المستعلى الطّهر حسبما ** عليه قديما نصّ والده الطّهر |
12-21-2012, 09:04 PM | #28 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم المستعلى بالله أبو القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي ابن الحاكم بأمر الله أبي علي منصور ولد في ثامن عشر المحرم وقيل في العشرين من المحرم سنة ثمان وستين وأربعمائة وبويع له في يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة حين مات أبوه المستنصر. وذلك أن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي عندما مات المستنصر بادر إلى القصر وأجلسه ولقبه بالمستعلى وبعث فأحضر إليه نزاراً وعبد الله وإسماعيل أولاد المستنصر فلما حضروا وشاهدوا أخاهم أحمد وكان أصغرهم قد جلس على تخت الخلافة أنفوا من ذلك فأمرهم الأفضل بتقبيل الأرض وقال لهم: تقدموا وقبلوا الأرض لله تعالى ولمولانا المستعلى بالله وبايعوه فهو الذي نص عليه الإمام المستنصر قبل وفاته للخلافة من بعده. فامتنعوا من ذلك وقال كل منهم إن والده وعده بالخلافة وقال نزار: إن قطعت ما بايعت من هو أصغر سناً مني وخط والدي عندي بأني ولي عهده وأنا أحضره وخرج مسرعاً ليحضر الخط فمضى من حيث لا يشعر به أحد وتوجه في خفية إلى الإسكندرية. فلما أبطأ أرسل الأفضل من يستعجله بالحضور فلم يوجد وفتش عليه في القصر فلم يوقف له على خبر ولا عرف كيف توجه فاضطرب الأفضل لذلك وانزعج انزعاجاً شديداً. وقوم يذكرون أن المستنصر كان قد أجلس ابنه أبا المنصور نزاراً لأنه أكبر أولاده وجعل إليه ولاية العهد من بعده فلما قربت وفاته أراد أن يأخذ له البيعة على رجال الدولة فتقاعد له الأفضل ودافع حتى مات وذلك أنه كانت بينه وبين نزار مباينة وكان في نفس كل منهما مباينة من الآخر لأمور منها أن نزاراً خرج ذات يوم من بعض أماكن القصر فوجد الأفضل قد دخل من أحد أبواب القصر وهو راكب فصاح به: انزل يا أرمني يا نجس فحقدها الأفضل عليه وظهرت كراهة أحدهما الآخر. ومنها أن الأفضل كان يعارض نزاراً في أموره أيام حياة أبيه ويرد شفاعاته ويضع من قدره ولا يرفع رأساً لأحد من غلمانه وحاشيته بل يحتقرهم ويقصدهم بالأذى والضرر. فلما عزم المستنصر على أخذ البيعة لنزار اجتمع الأفضل بالأمراء الجيوشية وخوفهم من نزار وحذرهم من مبايعته وأشار عليهم بولاية أخيه أحمد فإنه صغير لا يخاف منه ويؤمن جانبه فرضوا بذلك وتقرر أمرهم عليه بأجمعهم ما خلا محمود بن مصال اللكي من قرية يقال لها لك برقة فإنه لم يوافق لأنه كان قد وعده نزار بأن يوليه الوزارة والتقدمة على الجيوش مكان الأفضل فلما اطلع على ما قرره الأفضل من ولاية أبي القاسم أحمد مع الأمراء وأنهم قد وافقوه على ترك مبايعة نزار طالعه بجميع ذلك. وبادر الأفضل فأجلس أبا القاسم ولقب بالمستعلى بالله. وأصبح في بكرة يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من ذي الحجة فأخرجه إلى الإيوان وأجلسه على سرير الملك وجلس هو على دكة الوزارة وحضر قاضي القضاة المؤيد بنصر الإمام علي بن نافع بن الكحال والشهود فأخذ البيعة على مقدمي الدولة وأمرائها ورؤسائها وجميع الأعيان ثم مضى إلى عبد الله وإسماعيل ولدي المستنصر وكانا في مسجد من مساجد القصر وقد وكل بهما الأفضل جماعةً يحفظونهما فقال لهما: إن البيعة قد تمت لمولانا المستعلى بالله وهو يقرئكما السلام ويقول لكما تبايعاني أم لا فقالا: السمع والطاعة إن الله اختاره علينا ووقفا قائمين على أرجلهما وبايعاه وكتب كتاب البيعة وأخرج فقرأه الشريف سناء الملك محمد بن محمد الحسيني الكاتب بديوان الإنشاء على عادة الأمراء وجميع أهل الدولة. وكانت الدعاة عندما بلغهم موت المستنصر اختلفوا فيمن يبايعونه من بعده فدعا بركات وهو أمين الدعاة لعبد الله المستنصر ونعته بالموفق فقبض الأفضل عليه وقتله هو وابن الكحال. ووصل الخبر بلحاق نزار ومعه محمود بن مصال اللكي بنصر الدولة وأن نصر الدولة أفتكين التركي أحد مماليك أمير الجيوش وكان على ولاية الإسكندرية قد بايعة والقاضي ابو عبد الله محمد بن عمار واهل الاسكندرية قد بايعه والقاضي أبو عبد الله محمد بن عمار وأهل الإسكندرية وأنه تلقب بالمصطفى لدين الله. فأهم الأفضل ذلك وأخذ في التأهب لمحاربتهم. وفيها توفى أبو عبد الحسين بن سديد الدولة ذي الكفايتين محمد الماسكي وكان ممن وزر للمستنصر في سنة أربع وخمسين فلما صرف عن الوزارة سار إلى مدينة صور من الشام فأقام بها عدة سنين ثم إنه رجع إلى مصر وخدم مشارفا بالإسكندرية بعد الوزارة ثم صرف عن المشارقة. وكان من أماثل الكتاب وأحد الأدباء الفضلاء. ومن شعره: توصّل إلى ردّ كيد العدوّ ** توصّل ذي الحيلة الحازم وصانع ببعض الذي حزته ** تعش عيشة الآمن الغانم ودع ما نعمت به في القديم ** واعمل لذا الزمن القادم لعلّك تسلم ممّا تخاف ** ولست إخالك بالسالم وله عدة مصنفات ورسائل. في آخر المحرم خرج الأفضل بعساكره من القاهرة فسار إلى الإسكندرية لمحاربة نزار وأفتكين فخرجا إليه في عدة كبيرة وحارباه فكانت بينهما عدة وقائع بظاهر الإسكندرية انكسر فيها الأفضل ورجع بمن معه منهزما يريد القاهرة فنهب نزار بمن معه من العرب أكثر بلاد الوجه البحري. ووصل الأفضل إلى القاهرة وشرع يتجهز ثانياً لمسيره. ودس إلى أكابر من انتمى إلى نزار من العرب يدعوهم إلى التخلي عنه واستمالهم بما حمله إليهم من الأموال وما وعدهم به من الإقطاعات وغيرها. وخرج وقد أعد واستعد. فسار إلى الإسكندرية وقد برزوا إليه فكانت بينهما حروب آلت إلى هزيمة نزار والتجائه إلى المدينة فنزل الأفضل عليها وحاصرها ونصب عليها المجانيق وألح عليها بالقتال ومنع عنها الميرة. فلما كان في ذي القعدة وقد اشتد الأمر على من بالإسكندرية جمع ابن مصال ماله وفر إلى جهة المغرب في ثلاثين قطعة يريد بلده لك برقة من أجل رؤيا رآها وهي أنه رأى في منامه كأنه قد ركب فرساً وسار والأفضل يمشي في ركابه فقص هذه الرؤيا على عابر له فطانة وتمكن في علم التعبير فقال له الماشي على الأرض أملك لها من الراكب وهذا يدل على أن الأفضل يملك البلاد. وكانت الأنفس قد ملت طول الحصار. فلما فر ابن مصال ضعفت نفس نزار وأفتكين وتخوفا ممن حولهما فبعثا إلى الأفضل يسألان الأمان فأمنهما وتمكن من البلد. وقبض على نزار وأفتكين وسير بهما إلى مصر فيقال إنه سلم نزاراً لأهل القصر من أصحاب المستعلى وأنه بنى عليه حائط ومات وقيل إنه قتل بالإسكندرية والأول أصح. وكان مولده يوم الخميس العاشر من ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. والاسماعيلية وملاحدة العجم وملاحدة الشام تعتقد إمامته وتزعم أن المستنصر كان قد عهد إليه وكتب اسمه على الدينار والطرز وأن المستنصر قال للحسن بن صباح إنه الخليفة من بعده. وكان للمستنصر أولاد فروا إلى المغرب منهم محمد وإسماعيل وطاهر وعاد منهم في خلافة الحافظ واحد إلى مصر ولا عقب له. وأما أفتكين فإنه قتل بعد قدوم الأفضل إلى مصر. أما ابن مصال فإنه وصل لك ولقيه أهلها وكان قد خرج منها صبياً فقيراً فأقام عندهم أياماً. واتفق أن رأى عجوزاً عرفته فقالت له: كبرت يا محمود! فقال لها: نعم. فقالت له: لعلك جئت مع صاحب هذه المراكب. فقال: أنا صاحبها. فقالت: ماذا يعمل عدم الرجال. ولم يزل يبعث إليه الأفضل بالأمان حتى قدم عليه فلزم داره مدة ثم رضي عنه الأفضل وأكرمه. وكان الأفضل لما قبض من نزار وتمكن من الإسكندرية تتبع جميع من كان معه ومن مالأه أو أعانه فقبض على كثير من وجوه البلد منهم قاضي الثغر أبو عبد الله محمد بن عمار واعتقله مدة ثم قتله وكان حسنة من حسنات الدهر ونخبة من نخب العقد وحظى عنده بنو حارثة وكانوا من عدول البلد لأنهم لم يبايعوا نزاراً ولم يدخلوا في شيء من ذلك وكانوا يهادون الأفضل سراً. ولى قضاء الإسكندرية عوضا عنه القاضي أبا الحسن زيد بن الحسن بن حديد وبالغ في إكرامه وإكرام أهل بيته. وكان الأفضل وهو على حصار الإسكندرية يخرج أمه فتطوف في كل يوم وهي متنكرة بالأسواق وتدخل يوم الجمعة إلى الجوامع وتزور المشاهد والمساجد والربط تستعلم خبر ولدها وتعرف من يحبه ومن يبغضه فدخلت يوما إلى مسجد أبي طاهر وجاءت إلى ابن سعد الإطفيحي وقالت له: يا سيدي ولدي في العسكر مع الأفضل الله تعالى يأخذ لي منه الحق ما فعل خيراً وأنا ما أنام خوفاً على ابني ادع الله أن يسلم ولدي. فقال لها: يا أمة الله أما تستحين تدعين على سلطان الله في أرضه المجاهد عن دين الله تعالى الله ينصره ويظفره ويسلمه ويسلم ولدك ما هو إن شاء الله تعالى إلا منه وهو مؤيد مظفر كأنك به وقد فتح الإسكندرية وأسر أعداءه وأتى على أحسن قضية وأجمل طوية فلا يشغل لك سر فما يكون إلا الخير إن شاء الله. ثم اجتازت بالفار الصيرفي بالسراجين من القاهرة فوقفت عليه تصرف منه دينارا وكان إسماعيليا متغاليا فقالت له: ولدي مع الأفضل وما أدري ما خبره. فقال لها: لعن الله المذكور الأرمني الكلب العبد السوء بن العبد السوء مضى يقاتل مولانا ومولى الخلق كأنك والله يا عجوز برأسه جائزاً من هنا على رمح قدام مولانا نزار ومولاي ناصر الدولة إن شاء الله تعالى والله يلطف بولدك من قال لك تخلينه يمضي مع هذا الكلب المنافق. ثم وقفت يوما آخر على ابن بابان الحلبي وكان بزازاً بسوق القاهرة تشتري منه شيئا وكان نزاريا فقالت له كقولها للفار الصيرفي فقال لها كما قال أيضا وبالغ في لعن الأفضل وسبه. فلما أخذ الأفضل نزار وناصر الدولة وفتح الإسكندرية وقدم إلى القاهرة في يوم حدثته أمه الحديث بنصه. فلما خلع عليه في القصر بين يدي الخليفة المستعلى في يوم وعاد إلى مصر اجتاز بالبزازين وهو بالخلع ونظر إلى ابن بابان الحلبي وقال: أنزلوا هذا. فنزلوا به فضربت عنقه تحت دكانه ثم قال لعبد علي أحد مقدمي ركابه قف هنا لا يضيع له شيء من دكانه إلى أن يأتي أهله فيتسلموا قماشه. ثم وصل إلى السراجين فلما تجاوز دكان الفار الصيرفي التفت إلى جهته وقال: انزلوا بهذا. فنزلوا به فقال: رأسه. فضربت عنقه وقال ليوسف الأصفر أحد مقدمي الركاب: احتط على حانوته إلى أن يأتي أهله وتسلموا موجوده وإياك ماله وصندوقه وإن ضاع منه درهم ضربت عنقك مكانه كان لنا خصماً أخذناه وفعلنا به ما نردع به غيره عن فعله ومالنا في ماله ولا في فقر أهله حاجة. ثم أتى إلى الشيخ أبي طاهر الإطفيحي وقربه وتخصص به وأطلعه على أغراضه وأكثر من التردد إليه وأجرى الماء إلى مسجده وبنى له فيه حماماً وبستانا وغير ذلك من المباني. فعظم قدر الإطفيحي به وكثر غشيان الناس مسجده وطار ذكره وشاع خبره وكثرت حاشيته وصار المشار إليه بالديار المصرية حتى مات. وفيها قام ببغداد تاجر يعرف بحامد الأصفهاني فتكلم بأن نسب الخلفاء الفاطميين صحيح فقبض عليه واعتقل حتى مات. وخرج الأمر بجمع الناس إلى بيت النوبة ببغداد فجمعوا في تاسع ربيع الآخر وحضر بنو هاشم وغيرهم إلى الديوان وقرئ توقيع أوله خطبة تشتمل على حمد الله تعالى والثناء عليه وتذكر طاعة الأئمة وفضل العباس وما جاء فيه من الأخبار ثم قال: أما بعد فإنه لم يخل وقت ولا زمان من مارق على الدين وشاع تفرق كلمة المسلمين ليبلوا الله المجاهدين فيهم والصابرين ويصلي أكثر العاكفين نار جهنم التي أعدت للكافرين. وهذه الطائفة المارقة من الباطنية الملحدين والكفرة المستسلمين انتهكوا المحارم واستحلوا الكبائر وأراقوا الدماء وكذبوا بالذكر وأنكروا الآخرة وجحدوا الحسنات والجزاء وفصلوا أعضاء المسلمين وسملوا أعين الموحدين فكادوا الدين وفقهاءه وأعلنوا بالشرك ونداءه. ثم رماهم بالفسوق والإهمال والانحلال وقال: شاعرهم يقول: حلّ برقّادة المسيح حلّ بها آدم ونوح سنة تسع وثمانين وأربعمائة: فيها خرج خلف بن ملاعب من عند الأفضل لولاية فامية فسار إليها وتسلمها. وكان سبب ذلك أن أهلها كانوا إسماعيلية فقدموا إلى القاهرة وسألوا أن يجهز إليهم من يلي أمرهم فوقع الإختيار على خلف بن ملاعب وكان قد ولي مدينة حمص وساءت سيرته في أهلها فبعث إليه السلطان ملك شاه من العراق من قبض عليه وحمله إليه بأصفهان فاعتقله بها إلى أن مات فأطلق وسار إلى مصر فأقام بها حتى خرج إلى فامية. سنة تسعين وأربعمائة فيها وقع بمصر غلاء ومجاعة. في سادس عشر صفر قدم على الأفضل رسول فخر الدولة رضوان بن تتش صاحب حلب وأنطاكية وهم بن الهلال بن كاتب عز الدولة ابن منقذ صحبة رسول الأفضل الشريف شجاع الدولة ابن صارم الدولة ابن أبي وقدم معهم شرف الدولة الباهلي الشاعر وكان قد قدم مصر ومدح أمير الجيوش بدر الجمالي ثم في نوبة أفتكين وهو يبذل الطاعة في إقامة الخطبة للإمام المستعلى بالله في بلاد الشام فأجيب بالشكر والثناء وخطب بها للمستعلى بالله في يوم الجمعة سابع عشر رمضان. وكان سبب هذا الفعل من رضوان أنه قصد أن يستعين بعساكر مصر على أخذ دمشق من أخيه دقاق. فاتفق أن الأمير سكمان بن أرتق أنكر على رضوان ذلك فقطع خطبة المستعلى وأعاد الخطبة لبني العباس فكان مدة الخطبة للمستعلى أربعة أشهر. وفي ربيع الأول جهز الأفضل عسكرا في عدة وافرة لأخذ صور فسار إليها وحاصرها حصارا شديدا حتى أخذت بالسيف فدخلها العسكر وقتلوا منها بالسيف خلقا كثيرا وقبض على واليها وحمل إلى الأفضل فقتله لأنه كان قد خرج عن الطاعة وعصى على الأفضل. وفيها كان ابتداء خروج الإفرنج من بلاد القسطنطينية لأخذ بلاد الساحل من أيدي المسلمين فوصلوا إلى مدينة أنطاكية ونازلوها حتى ملكوها. ومنها دبوا إلى بلاد الساحل. وفيها تجمع الرعاع والعامة في يوم عاشوراء بمشهد السيدة نفيسة وجهروا بسب الصحابة وهدموا عدة قبور فسير الأفضل إليهم ومنعهم من ذلك وأدب ذخيرة الملك ابن علوان والي القاهرة جماعة وضربهم. سنة إحدى وتسعين وأربعمائة فيها خرج الأفضل في عساكر جمة ورحل من القاهرة في شعبان وسار يريد أخذ بيت المقدس من الأمير سكمان وإيلغازي ابني أرتق وكانا به في كثير من أصحابهما فبعث إليهما يلتمس منهما أن يسلما البلد ولا يحوجاه إلى الحرب فأبيا عليه فنزل على البلد ونصب عليها من المجانيق نيفا وأربعين منجنيقا وأقام عليها يحاصرها نيفا وأربعين يوما حتى هدم جانباً من السور ولم يبق إلا أخذها فسير إليه من بها ومكناه من البلد. فخلع على ولدي أرتق وأكرمهما وأخلى عنهما فمضيا بمن معهما. وملك البلد في شهر رمضان لخمس بقين منه وولى فيه من قبله ثم رحل عنه إلى عسقلان وكان فيها مكان قد دفن فيه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام فأخرجه وعطره وحمله في سفط إلى أجل دار بها وعمر مشهدا مليح البناء. فلما تكامل حمل الرأس في صدره وسعى به ماشيا من الموضع الذي كان فيه إلى أن أحله في مقره. ويقال إن أمير الجيوش هو الذي أنشأ المشهد على الرأس بثغر عسقلان وأن ابنه الأفضل شاهنشاه كمله. ثم حمل هذا الرأس إلى القاهرة فوصل إليها يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة. وفيها حدثت بمصر ظلمة عظيمة عشت بأبصار الناس حتى لم يبق أحد يعرف أين يتوجه ثم هبت ريح سوداء شديدة فظن الناس أن الساعة قد قامت. واستمرت الريح سبع ساعات وانجلت الظلمة قليلا قليلا وسكنت الريح. ولم يصل في ذلك اليوم أحد صلاة الظهر ولا العصر ولا أذن في القاهرة ولا مصر. سنة اثنين وتسعين وأربعمائة فيها سار الفرنج لأخذ سواحل البلاد الشامية من أيدي المسلمين فملكوا مدينة أنطاكية وساروا إلى المعرة فملكوها ثم رحلوا عنها إلى جبل لبنان فقتلوا من به ووصلوا عرقة فحاصروها أربعة أشهر فلم يقدروا عليها. ونزلوا على حمص فهادنهم جناح الدولة حسين وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا. ثم أخذوا الرملة في ربيع الآخر وزحفوا منها إلى بيت المقدس فحاصروا المدينة وبلغ ذلك الأفضل فخرج بعساكر كثيرة لمحاربتهم فجد الفرنج عندما بلغهم مسيره إليها في حصار المدينة وكان نزولهم عليها في شهر ربيع الآخر حتى ملكوها يوم الجمعة الثاني والعشرين من شعبان بعد أربعين يوماً. وهدموا المشاهد وقبر الخليل عليه السلام وقتلوا عامة من كان في البلد وكان فيه من العباد والصلحاء والعلماء والقراء وغيرهم خلائق لا يقع عليهم حصر فوضعوا السيف فيهم وأفنوهم عن آخرهم ولم يفلت منهم إلا اليسير. وانحازت عدة من المسلمين إلى محراب داود عليه السلام فحاصرهم الفرنج نيفاً وأربعين يوماً حتى تسلموه بالأمان في يوم الجمعة ثاني عشريه. وأحرقوا ما كان ببيت المقدس من المصاحف والكتب وأخذوا ما كان بالصخرة من قناديل الذهب والفضة والآلات وكان مبلغاً عظيما. ويقال إنه قتل في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً وأنهم لحقوا من فر من المسلمين مسيرة أسبوع يقتلون من أدركوه منهم. ووصل الأفضل إلى عسقلان في الرابع عشر من شهر رمضان فبعث إلى الفرنج فوبخهم على ما كان منهم فردوا إليه الجواب وركبوا في إثر الرسل فصدفوه على غرة وأوقعوا بعساكره وقتلوا منهم كثيراً. وانهزم منهم بمن خف معه فتحصن بعسقلان وتعلق أكثر أصحابه هنالك في شجر الجميز فأضرموا النار حتى احترقت بمن تعلق فيها فهلك خلق كثير وحاز الفرنج من أموال المسلمين ما جل قدره ولا يمكن لكثرته حصره. ونازلوا عسقلان وحصروا الأفضل فيها حتى كادوا يأخذونه إلا أن الله سبحانه أوقع فيهم الخلف فاضطروا إلى الرحيل عن عسقلان فاغتنم الأفضل رحيلهم عنه فركب البحر وقد ساءت حاله وذهبت أمواله وقتلت رجاله وسار إلى القاهرة. ولم يعد بعد هذه الحركة إلى وكان ملك الفرنج بالقدس كند فرى. وفيها توفى أبو الحسن علي بن الحسن بن الحسين بن محمد الموصلي الحنفي المحدث في ثامن عشر ذي الحجة. سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة فيها رحل عالم لا يحصى عددهم من البلاد الشامية فراراً من الفرنج والغلاء. وفيها عم الغلاء أكثر البلاد ومات من أهل مصر خلق كثير. وفيها مات قاضي القضاة أبو الطاهر محمد بن رجاء وتولى بعده أبو الفرج محمد ابن جوهر بن ذكا النابلسي. ومات علي بن محمد بن علي الصليحي قتله سعد بن نجاح الأحول وقتل أخاه عبد الله وجميع بني الصليحي بمكة في ذي القعدة. وولى الحسن بن علي بن أحمد الكرخي الحكم شهراً واحداً وثلاثة أيام وصرف وصودر من أجل أنه أخذ عصابة من القصر في أيام الشدة لها قيمة فظهرت عليه. سنة أربع وتسعين وأربعمائة في شعبان جهز الأفضل عسكراً كثيفاً لغزو الفرنج فساروا إلى عسقلان ووصلوا إليها في أول رمضان فأقاموا بها إلى ذي الحجة فنهض إليهم من الفرنج ألف فارس وعشرة آلاف راجل فخرج إليهم المسلمون وحاربوهم. فكانت بين الفريقين عدة وقائع آلت إلى كسر الميمنة والميسرة وثبات سعد الدولة الطواشي مقدم العسكر في القلب وقاتل قتالاً شديداً فتراجع المسلمون عند ثبات المذكور وقاتلوا الفرنج حتى هزموهم إلى يافا وقتلوا منهم عدة وأسروا كثيراً. وقتل كند فرى ملك الفرنج بالقدس فجاء أخوه بغدوين من القدس وملك بعده وسار بالفرنج إلى أرسوف. وفيها مات القمص رجار بن تنقرد صاحب جزيرة صقلية فقام من بعده ابنه رجار بن رجار. وفيها نزل الفرنج على حيفا وقتلوا أهلها وتسلموا أرسوف بالأمان وملكوا قيسارية عنوة في آخر شهر رجب وقتلوا من بها وملكوا مع ذلك يافا مع ما بأيديهم من أعمال الأردن وفلسطين. سنة خمس وتسعين وأربعمائة فيها مات الخليفة أبو القاسم أحمد المستعلى بالله بن المستنصر في ليلة السابع عشر من صفر وعمره سبع وعشرون سنة وشهر واحد وتسعة وعشرون يوماً ومدة خلافته سبع سنين وشهر واحد وعشرون يوماً. نقش خاتمه الإمام المستعلى بالله. وفي أيامه اختلت دولتهم وضعف أمرهم وانقطعت من أكثر مدن الشام دعوتهم وانقسمت البلاد الشامية بين الأتراك الواصلين من العراق وبين الفرنج فإنهم خذلهم الله دخلوا بلاد الشام ونزلوا على أنطاكية في ذي القعدة سنة تسعين وأربعمائة وتسلموها في سادس عشر رجب سنة إحدى وتسعين وأخذ وامعرة النعمان في سنة اثنتين وتسعين وأخذوا الرملة ثم بيت المقدس في شعبان ثم استولوا على كثير من بلاد الساحل فملكوا قيسارية في سنة أربع وتسعين بعد ما ملكوا عدة بلاد. وفي أيامه أيضاً افترقت الإسماعيلية فصاروا فرقتين: نزارية تعتقد إمامة نزار وتطعن في إمامة المستعلى وترى أن ولد نزار هم الأئمة من بعده يتوارثونها بالنص والفرقة المستعلوية ويرون صحة إمامة المستعلى ومن قام بعده من الخلفاء بمصر. وبسبب ذلك حدثت فتن وقتل الأفضل فيما يقال وقتل الآمر كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ولم يكن للمستعلى سيرة فتذكر فإن الأفضل كان يدبر أمر الدولة تدبير سلطنة وملك لا تدبير وزارة. وخلف المستعلى من الأولاد ثلاثة هم الأمير أبو علي المنصور والأمير جعفر والأمير عبد الصمد. وكانت قضاة مصر في خلافته أبو الحسن ابن الكحال ثم عزل بابن عبد الحاكم المليجي ثم ولى أبو الطاهر محمد بن رجاء ثم أبو الفرج محمد بن جوهر بن ذكا ومات المستعلى وهو قاض. وقيل إن المستعلى مات مسموماً وقيل بل قتل سراً. وكان المستنصر قد عقد نكاحه على ست الملك ابنة أمير الجيوش بدر فمات قبل أن يبني عليها وكان أمير الجيوش قد جهزها جهازاً عظيما وأكثر من شراء الجواهر العظيمة القدر لها فلما مات انتهب أولاده ذلك وتفرقوه. وفيها أخذ صنجيل أحد ملوك الفرنج طرابلس فصار للفرنج القدس وفلسطين إلا عسقلان ولهم من بلاد الشام يافا وأرسوف وقيسارية وحيفا وطبرية والأردن ولاذقية وأنطاكية ولهم من الجزيرة الرها وسروج. ثم ملكوا جبيل ومدينة عكا وأفامية وسرمين من أعمال حلب وبيروت وصيدا وبانياس وحصن الأثارب. |
12-21-2012, 09:05 PM | #29 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
الآمر بأحكام الله
ابن المستعلى بالله أبي القاسم أحمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد ولد ضحى يوم الثلاثاء الثالث عشر من المحرم سنة تسعين وأربعمائة وبويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبوه وهو طفل له من العمر خمس سنين وشهر أيام في يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة خمس وتسعين. أحضره الأفضل وبايع له ونصبه مكان أبيه ونعته بالآمر بأحكام الله. وكتب ابن الصيرفي سجلاً عظيما أبدع فيه ما شاء بانتقال الإمام المستعلى إلى رحمة الله وولاية ابنه الآمر وقرئ على رءوس الكافة من الأمراء والأجناد وغيرهم. وأنشد ابن مؤمن الشاعر قصيدة طنانة يمدح الآمر. وركب الأفضل فرساً وجعل في السرج شيئاً أركب الآمر عليه لينموا شخص الآمر وصار ظهره في حجر الأفضل. سنة ست وتسعين وأربعمائة فيها ندب الأفضل مملوك أبيه سعد الدولة ويعرف بالطواشي على عسكر لقتال الفرنج فلقيهم بغدوين على تبنا فكسرت عساكر الأفضل وتقنطر سعد الدولة فمات وأخذ الفرنج خيمه فانهزم أصحابه. وبلغ الأفضل ذلك فجرد في أول شهر رمضان عسكراً قدم عليه ابنه شف المعالي سماء الملك حسيناً وسير الأسطول في البحر فاجتمعت العساكر بيازور من بلاد الرملة وخرج إليهم الفرنج فكانت بينهما حروب هزمهم الله فيها بعد مقتلة عظيمة. ونزل شرف المعالي على قصر كان قد بناه الفرنج قريباً من الرملة وسبعمائة قومص من وجوه الفرنج فقاتلوه خمسة عشر يوماً فملكهم وضرب رقاب أربعمائة وبعث إلى القاهرة ثلثمائة. وكان أصحاب شرف المعالي قد رأى بعضهم أن يمضوا إلى يافا ويملكوها ورأى بعضهم أن يسيروا إلى القدس. فبينا هم في ذلك وصل مركب من الفرنج لزيارة قمامة فندبهم بغدوين للغزو معه فساروا إلى عسقلان وقد نزلها شرف المعالي وامتنع بها وكانت حصينة فتركها الفرنج ومضوا إلى يافا. وعاد شرف المعالي إلى القاهرة بعد ما كتب إلى شمس الملوك دقاق صاحب دمشق يستنجده لقتال الفرنج فتقاعد عن المسير واعتذر. فجرد الأفضل أربعة آلاف فارس وعليهم تاج العجم بمن معه عسقلان ونزل ابن قادوس على يافا وبعث يستدعي تاج العجم ليتفقا على الحرب فلم يجبه وتنافرا. فلما بلغ ذلك الأفضل بعث يقبض على تاج العجم وولى تاج الملك رضوان تقدمة العسكر وسيره إلى عسقلان فأقام عليها إلى آخر سنة سبع وتسعين حتى قدم شرف المعالي بعساكر مصر. وفيها مات تنكري ملك الفرنج بالساحل فقام بعده سرجار ابن أخيه. فيها نازل بغدوين ملك الفرنج وصاحب القدس ثغر عكا وحاصر أهله وألح عليهم حتى ملكه. وكان فيه من قبل الأفضل يومئذ زهر الدولة بنا الجيوشي ففر إلى دمشق وصار إلى ظهير الدين أتابك فأكرمه وأحسن إليه ثم جهزه إلى الأفضل فأنكر عليه وهدده على تضييع الثغر. ولم تعد بعدها عكا إلى المسلمين. سنة ثمان وتسعين وأربعمائة فيها جمع الأفضل جموعاً كثيرة من العربان وأنفق فيهم أموالا عظيمة وجهزهم صحبة العساكر مع ابنه شرف المعالي وكتب لظهير الدين أتابك صاحب دمشق بمعاونته ومعاضدته على محاربة الفرنج فاعتذر عن حضوره بما هو مشغول به من مضايقة بصرى فإن أرتاش بن تاج الدولة صاحب بصرى كاتب الفرنج وأغراهم بقتال المسلمين وأطمعهم في البلاد. فسار أتابك من دمشق وحاصر بصرى وجهز عسكراً إلى شرف المعالي تقويةً له على الفرنج وقدم عليه إصبهبذ صبا وجهارتكين وعدته ألف وثلثمائة فارس من الأتراك وعدة عسكر مصر خمسة آلاف فارس. وأتاهم بغدوين في ألف وثلثمائة فارس وثمانية آلاف راجل. فاجتمعت عساكر المسلمين بظاهر عسقلان ودارت بينهم وبين الفرنج حروب كان ابتداؤها في الرابع عشر من ذي الحجة فيما بين عسقلان ويافا فانكسرت عساكر المسلمين واستشهد فوق الألف من المسلمين منهم جمال الملك صنيع الإسلام والي عسقلان وأخذ الفرنج رايته وأسر الفرنج زهر الدولة بنا الجيوشي. وقتل ألف ومائتان من الفرنج ورجعوا وقد كانت الكرة لهم على المسلمين. وعاد عسكر دمشق إلى أتابك وهو على بصرى. وفيها مات كنز الدولة محمد في ثامن شعبان وقام من بعده أخوه فخر العرب هبة الله. سنة تسع وتسعين وأربعمائة في سادس عشر رجب قتل خلف بن ملاعب صاحب فامية قتله طائفة من الباطنية وملك الفرنج عكا عنوةً في سلخ شعبان من زهور الدولة بنا الجيوشي فسار إلى دمشق ثم قدم مصر. سنة خمسمائة أهلت والخليفة بمصر الآمر بأحكام الله ومدبر سلطنة مصر الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي وليس للآمر معه حل ولا ربط وليس له من الأمر سوى اسم الخلافة والذي في وفيها بنى الأفضل دار الملك بشاطىء النيل من لدن مصر. وفيها سار متولي صور فأوقع بالفرنج على تبنين فقتل واسر جماعة وعاد إلى صور فسار بغدوين إليه من طبرية فركب طغتكين من دمشق وأخذ الفرنج حصناً بالقرب من طبرية وأسر من كان فيه منهم. وفيها ملك قلج بن أرسلان بن سليمان بن قطلمش بن أرسلان بيغو بن سلجوق صاحب قونية الموصل في شهر رجب فقتل في ذي القعدة منها وقام بعده بقونية وأقصرا ابنه مسعود. سنة إحدى وخمسمائة فيها نزل بغدوين على ثغر صور وعمر حصناً مقابل حصن صور على تل المعشوقة. وكان على ولاية صور من قبل الأفضل سعد الملك كمشتكين أحد المماليك الأفضلية فصانع بغدوين على سبعة آلاف دينار وخرج من صور. وفيها أحضر إلى القاهرة أهل فخر الدولة أبي علي عمار بن محمد بن عمار من طرابلس وكثير من أمواله وذخائره. وذلك أن فخر الدولة حاصره الفرنج وأطالوا منازلته حتى ضاق ذرعه وعجز عن مقاومتهم فخرج من طرابلس في سنة خمسمائة ومعه هدايا جليلة فلقى ظهير الدين طغتكين أتابك بدمشق فأكرمه ووافقه على السير معه إلى بغداد ليستنجد بالسلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه فسارا. ثم إن أتابك تركه وعاد إلى دمشق فثار في هذه المدة أبو المناقب ابن عمار على ابن عمه فخر الدولة ونادى بشعار الأفضل وأرسل يطلب منه من يتسلم منه طرابلس. فبعث إليه الأفضل بالأمير مشير الدولة ابن أبي الطيب فدخل إلى طرابلس ونقل منها حريم فخر الدولة وأمواله ففت ذلك في عضد فخر الدولة. وفيها اتصل أبو عبد الله محمد بن الأمير نور الدين أبي شجاع فاتك بن الأمير مجد الدولة أبي الحسن مختار بن الأمير أمين الدولة أبي علي حسن بن تمام المستنصري الأحول الإمامي الشيعي المعروف بالمأمون ابن البطائحي بخدمة الأفضل أبي القاسم شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر المستنصري. وسبب ذلك تغير الأفضل على تاج المعالي مختار الذي كان اصطنعه وفخم أمره وسلم إليه خزائن أمواله وكسواته فسلم لأخويه ما يتولاه واستعان بهما فيه فحصل لهم من الإدلال على الأفضل ما حملهم على مد أيديهم إلى أمواله وذخائره وشاع أمرهم وكتب إلى الأفضل بسببهم فتغير عليهم وأخرج مختاراً إلى الولاية الغربية وخلع عليه. فلما انحدروا إليها سير صاحب بابه سيف الملك خطلخ ويعرف بالبغل وكان من غلمان أبيه فقبض عليه وعلى إخوته من العشارى وكبل بالحديد ورمى بالاعتقال وأشيع أن مختاراً كاتب الفرنج وجعل فلما جرى لمختار وإخوته ما جرى ألزم الأفضل أبا عبد الله بن فاتك يتسلم ما كان بيد مختار من الخدمة فتصرف فيها. وقرر له الأفضل ما كان باسم مختار من العين خاصةً دون الإقطاع وهو مائة دينار في كل شهر وثلاثون ديناراً عن جارى الخزائن مضافا إلى الأصناف الراتبة مياومة ومشاهرة ومسانهةً وحسن عند الأفضل موقع خدمته فسلم له جميع أموره وصرفه في كل أحواله. ولما كثر الشغل عليه استعان بأخويه أبي تراب حيدرة وأبي الفضل جعفر فأطلق لهما الأفضل ما وسع به عليهما ونعت الأفضل أبا محمد ابن فاتك بالقائد. فيها فتح ديوان سمي بديوان التحقيق تولاه أبو البركات يوحنا بن أبي الليث النصراني. وكان يتولى ديوان المجلس رجل يعرف بابن الأسقف وكان قد كبر وضعف فتحدث ابن أبي الليث مع القائد أبي عبد الله في الدواوين والأموال والمصالح وفاوض في ذلك الأفضل. واتفق موت ابن الأسقف فتسلم ابن أبي الليث الدواوين واستمر فيها حتى قتل في سنة ثمان عشرة وخمسمائة. وفيها تحدث ابن أبي الليث في نقل السنة الشمسية إلى العربية وكان قد حصل بينهما تفاوت أربع سنين فأجاب الأفضل إليه وخرج أمره إلى الشيخ أبي القاسم ابن الصيرفي بإنشاء سجل به ثم رأى اختلال أحوال الرجال العسكرية والمقطعين وتضررهم من حسبة ارتفاع إقطاعاتهم وسوء حالهم لقلة المتحصل منها ولأن إقطاعات الأمراء قد تضاعف ارتفاعها وزادت عن غيرها وصار في كل ناحية للديوان جملة تجبى بالعسف وتتردد الرسل بين الديوان بسببها. فحملت الإقطاعات كلها على أملاك البلاد وامر ضعفاء الجند بلزيادة في الاقطاعات التي للاقوياء فتزايد والى ان انتهت الزيارة فكتبت السجلات بأنها باقية في أيديهم مدة ثلاثين سنة ما يقبل منهم فيها زائد. وأمر الأقوياء أن يبذلوا في الإقطاعات التي كانت بيد الأجناد ما تحتمله كل ناحية فتزايدوا فيها حتى بلغت إلى الحد الذي رغب كل منهم فيه فكتبت لهم السجلات على الحكم المتقدم فشملت المصلحة الفريقين وطابت نفوسهم وحصل للديوان بلاد مفردة بما كان مفرقا في الإقطاعات بما مبلغه خمسون ألف دينار. وفيها فرغ بناء دار الملك وكان الأفضل يسكن القاهرة فتحول إلى مصر وسكن دار الملك على النيل واستقر بها فقال الشعراء فيها عدة قصائد. وفيها بانت كراهة الأفضل لأولاده واحتجب عنهم أكثر الأوقات فانقطعوا عنه واستقروا بالقاهرة في دار القباب التي كانت سكن أبيهم الأفضل وهي الدار التي عرفت بدار الوزارة ولم يبق من أولاده من يتردد إليه سوى سماء الملك فإنه كان يؤثره ويميل إليه. وأفرد الأفضل للقائد أبي عبد الله بن فاتك الموضع المعروف باللؤلؤة. وفيها وردت الأخبار بأن متملك النوبة قد تجهز براً وبحراً وعول على قصد البلاد القبلية فسير الأفضل عسكراً إلى قوص وتقدم إلى والي قوص بأن يسير بنفسه إلى أطراف بلاد النوبة فورد الخبر بوثوب أخير الملك عليه وقتله. واشتدت الفتنة بينهم حتى باد أهل بيت المملكة وأجلس صبي في الملك فأرسلت أمه تستجير بعفو الأفضل وتسأله ألا يسير إليهم من يغزوهم. فكتب لوالي الصعيد الأعلى بأن يسير عسكراً إلى أطراف بلاد النوبة ويبعث إليهم رسولاً يجدد عليهم القطيعة الجاري بها العادة وهي كل سنة ثلثمائة وستون رأساً رقيقاً بعد أن يستخلص منهم ما يجب عليهم في السنين المتقدمة. فلما دخلت العساكر نحوهم دخلوا تحت الطاعة وكتبوا المواضعات وسألوا في الإعفاء عما يخص السنين وحملوا ما تيسر لهم وعادت العساكر كاسبة. وفيها كثر خوض الناس في القرآن هل هو محدث أو قديم وتفاقم الأمر فعرف الأفضل فأمر بإنشاء سجل بالتحذير من الخوض في ذلك وركب بنفسه إلى الجامع بمصر وجلس في المحراب بجوار المنبر وصعد الخطيب أربع درجات منه وقرأ السجل على الناس. وفيها مات مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان صاحب قونية وأقصرا فقام بعده ابنه قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان وقسم أعماله بين أولاده. في رمضان ورد الخبر بأن أهل مدينة طرابلس الشام نادوا بشعار الدولة عند خروج فخر الملك أبي علي عمار بن محمد بن الحسين بن قندس بن عبد الله بن إدريس بن أبي يوسف الطائي منها وقصده بغداد لطلب النجدة لما اشتد حصار الفرنج لها وغلا السعر بها. وكان سماء الملك حسين بن الأفضل عند ما كان بالشام في السنة التي كسر الفرنج فيها قد سام ابن عمار تسليمها إليه فامتنع وغلق الباب في وجهه وأقام سماء الملك عليها مدةً بالعساكر إلى أن نازلها الفرنج ورحلوه عنها إلى عسقلان. فلما سمع الأفضل أن أهل الثغر نادوا بشعاره سير إليهم شرف الدولة ابن أبي الطيب ومقدم الأسطول وأمره يأخذ المراكب التي على دمياط وعسقلان وصور معه إلى الثغر المذكور نصرةً للمسلمين. فلما وصل إليه وجد الفرنج قد ملكوا الجوسق وأمهلوا المسلمين فأنفذ من كان بها وحمل في المراكب من أراد الخروج منهم بأهاليهم وأموالهم وفيهم صالح بن علاق الطائر بعد هروبه من الأفضل وحمل من دار ابن عمار ذخائره ومصاغه وكان بقيمة كبيرة. وحمل أخا ابن عمار المعروف بفخر الدولة وأهله إلى مصر فأكرمهم الأفضل واعتقل صالح بن علاق بخزانة البنود. وفي العشرين من شوال كانت ريح سوداء من صلاة العصر إلى المغرب. وفيها جدد حفر خليج القاهرة فإن المراكب كانت لا تدخل فيه إلا بمشقة وجعل حفره بأبقار البساتين التي عليه فيحفر بأبقار كل بستان ما يحاذيه فإذا أنتهى أمر البساتين عمل في البلاد كذلك وأقيم له وال مفرد بجامكية ومنع الناس أن يطرحوا فيه شيئاً. ولما تكاثرت الأموال عند ابن أبي الليث صاحب الديوان وحدث أن تبجح على الأفضل بخدمته وكان سبعمائة ألف دينار خارجاً عما أنفق في الرجال فجعل في صناديق بمجلس الجلوس. فلما شاهد الأفضل المال قال: يا شيخ تفرحني بالمال وتريد أمير الجيوش أن يلقى بئرا معطلة أو أرضاً بائرةً أو بلداً خراباً لأضربن رقبتك. فقال: وحق نعمتك لقد حاشا الله أيامك فيها بلد خراب أو بئر معطلة. فتوسط القائد له بخلع فقال: لا والله حتى أكشف عما ذكر. وفيها وصل بغدوين إلى صيدا ونصب عليها البرج الخشب فوصل الأسطول من مصر للدفع عنهم وقاتلوا الفرنج فظهروا في مراكب الجنوية فبلغهم أن عسكر دمشق خارج في نجدة صيدا فرحل الأسطول عائداً إلى مصر. وفي شعبان منها نزل الفرنج على طرابلس وقاتلوا أهلها من أول شعبان إلى حادي عشر ذي الحجة ومقدمهم ريمند بن صنجيل وأسندوا أبراجهم إلى السور فضعفت نفوس المسلمين لتأخر أسطول مصر عنهم فكان قد سار من مصر إليها بالميرة والنجدة فردته الريح لأمر قدره الله. فشد الفرنج في قتالهم وهجموا من الأبراج فملكوها بالسيف في يوم الاثنين الحادي والعشرين من ذي الحجة ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها فحازوا من الأمتعة والذخائر ودفاتر دار العلم وما كان في خزائن أربابها ما لا يحد عدده ولا يحصى فيذكر. وسلم الوالي لها في جماعة من جندها كانوا قد طلبوا الأمان قبل ذلك وعوقب أهلها واستصفيت أموالهم واستقهرت ذخائرهم ونزل بهم أشد العذاب. وتقرر بين الفرنج والجنويين الثلث من البلد وما نهب منه للجنويين والثلثان لريمند ابن صنجيل وأفردوا للملك بغدوين ما رضى به. ثم وصل أسطول مصر ولم يكن خرج فيما تقدم معه كثرة رحال ومراكب وعدد وغلال لحماية طرابلس فأرسى على صور في اليوم الثامن من أخذ طرابلس وقد فات الأمر فيها فأقام مدة وفرقت الغلة في جهاتها. وتمسك أهل صور وصيدا وبيروت به لضعفهم عن مقاومة الفرنج فلم تمكنه الإقامة وعاد إلى مصر. سنة ثلاث وخمسمائة فيها سار الفرنج نحو بيروت وعملوا عليها برجاً من الخشب وزحفوا فكسره أهل بيروت. وقدم الخبر بذلك على الأفضل فجهز تسعة عشر مركباً حربية فوصلت سالمةً إلى بيروت وقويت على مراكب الفرنج وغنيمت ودخلت إلى بيروت بالميرة والنجدة فقوي أهلها بذلك. وبلغ بغدوين الخبر فاستنجد بالجنوبية فأتاهم منهم أربعون مركباً مشحونة بالمقاتلة فزحف على بيروت في البر والبحر ونصب عليها برجين وقاتل أهلها في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شوال فعظمت الحرب وقتل مقدم الأسطول وكثير من المسلمين ولم ير للفرنج فيما تقدم أشد من حرب هذا اليوم. فانخذل المسلمون في البلد وهجم الفرنج من آخر النهار فملكوه بالسيف قهراً وخرج متولى بيروت في أصحابه وحمل في الفرنج فقتل من كان معه وغنم الفرنج ما معهم من المال ونهبوا البلد وسبوا من فيه وأسروا واستصفوا الأموال والذخائر. فوصل عقب ذلك من مصر نجدة فيها ثلثمائة فارس إلى الأردن تريد بيروت فخرج عليها طائفة من الفرنج فانهزموا إلى الجبال فهلك منهم جماعة. وفيها سار الأسطول من مصر إلى صور ليقيم بها فاتفق وصول ابن كند ملك الفرنج في عدة مراكب لزيارة القدس والجهاد في المسلمين فزار القدس وسار هو وبغدوين إلى صيدا فنازلاها بجمعهما وعملا عليها برجاً من خشب وزحفا عليها فلم يتمكن الأسطول من الوصول إليها. في ثالث ربيع الآخر اشتد الحصار على أهل صيدا ويئسوا من النجدة فبعثوا قاضي البلد في عدة من شيوخها إلى بغدوين يطلبون الأمان فأجابهم وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وإطلاق من أراد الخروج منها إلى دمشق وحلف على ذلك. فخرج الوالي والزمام وجميع الأجناد والعسكرية وخلق كثير من الناس وتوجهوا إلى دمشق لعشر بقين من جمادى الآخرة. وكانت مدة الحصار سبعة وأربعين يوماً. وفيها خرج جماعة من التجار والمسافرين من تنيس ودمياط ومصر وأقلعوا في البحر فأخذهم الفرنج وغنموا منهم ما يزيد على مائة ألف دينار وعاقبوهم حتى افتدوا أنفسهم بما بقي لهم من الذخائر في دمشق وغيرها. وفيها أغار بغدوين بعد عوده من صيدا على عسقلان فراسله أميرها شمس الخلافة أسد حتى استقر الحال على مال يحمله إليه ويرحل عنه. وقرر على أهل صور سبعة آلاف دينار تحمل إليه في مدة سنة وثلاثة أشهر. فقدم الخبر بذلك في شوال على الأفضل فأنكر ذلك وكتمه عن كل أحد وجهز عسكراً كثيفاً إلى عسقلان وقدم إليه عز الملك الأعز ليكون مكان شمس الخلافة وندب معه مؤيد الملك رزيق وأظهر أن هذا العسكر سار بدلاً. فسار إلى قريب عسقلان وبلغ ذلك شمس الخلافة فأظهر الخلاف على الأفضل وكتب إلى بغدوين يطلب منه أن يمده بالرجال ويعده بتسليم عسقلان وأن يعوضه عنها. فبلغ ذلك الأفضل. فكتب إليه يطيب قلبه ويغالطه وأقطعه عسقلان وأقر عليه إقطاعه بمصر وأزال الإعتراض عما له بمصر من خيل وتجارة وأثاث. فخاف شمس الخلافة على نفسه ولم يطمئن إلى أهل البلد واستدعى جماعة من الأرمن وأقرهم عنده. وفي يوم الأحد العشرين من شوال حدثت ريح حمراء بالقاهرة. وفيها أمر أمير المؤمنين الآمر بأحكام الله أن يبعث جليسه أبو الفتح عبد الجبار ابن إسماعيل المعروف بابن عبد القوي لعماد الدولة زيادة على إخوته. وفيها هبت بمصر وأعمالها في هذه الأيام ريح سوداء مظلمة وطلع سحاب أسود أظلمت منه الدنيا حتى لم يبصر أحد يده وسفت رماداً حتى ظن الناس أنها القيامة ويئسوا من الحياة وأيقنوا بالبوار لهول ما عاينوه ولم يزل ذلك من وقت العصر إلى غروب الشمس. ثم انجلى ذلك السواد وعاد إلى الصفرة والريح بحالها ثم انجلت الصفرة وظهرت الكواكب وقد خرج الناس من الأسواق والدور إلى الصحراء. ثم ركدت الريح وأقلع السحاب فعاد الناس إلى منازلهم. سنة خمس وخمسمائة في يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر نزل بغدوين على صور وبها عز الملك أنوشتكين الأفضلي وبنى عليها أبرجة خشب طول البرج سبعون ذراعاً يسع كل برج ألف رجل وهو موضوع على شيء يسمى اسقلوس وهو فخذان ملقيان على الأرض وفي كل برج من أسفله عشرون فرنجياً يصيح أحدهم بالفرنجية: صند ماريا فيصيح الباقون كذلك ويدفعونه بأجمعهم فيسبح على ألواح عظيمة تجعل بين يديه وكانت ستائر كل برج ومناجيقه كأنها بلد يزحف. فخرج من أهل صور ألف رجل وحملوا على البرج وطرحوا فيه النار فعلقت بالخشب فلم يتمكن الفرنج من إطفائه وهربوا منه واحترق فتناول المسلمون بالكلاليب ما قدروا عليه من سلاحهم فوصل إليهم ثلاثمائة درع. وكان هذا البرج كبشا من حديد وزنة رأسه مائة وخمسون رطلاً فظفر به المسلمون. وكانت الريح على المسلمين ثم صارت معهم وملأوا جراراً بالعذرة ورموها على الفرنج فصاحوا وذلوا ورحلوا فعاثوا ثم عادوا وقد قطعوا النخل أنابيب ورموا بها في الخندق. وسار طغتكين من دمشق لإعانة أهل صور فنزل على يوم منهم لجولة بانياس وأنفذ إليهم مائتي غلام تركي عليهم جليل من الأتراك فقاتل الفرنج وقتل منهم ألفاً وخمسمائة وأكثر النكاية فيهم. وأغار طغتكين على بلاد الفرنج فأخذ لهم موضعاً فرجعوا عن صور بغير شيء. وخرج أهل صور إلى أصحاب طغتكين فخلعوا عليهم وأعادوهم إليه في أحسن زي وأخذ أهل صور في رم ما شعثه الفرنج في البلد. وفيها حدث بمصر وباء مفرط هلك به تقدير ستين ألف نفس. سنة ست وخمسمائة فيها حفر البحر المعروف ببحر أبي المنجا فابتدئ في حفره في يوم الثلاثاء السادس من شعبان وأقام الحفر فيه سنتين. وكان أبو المنجا يهوديا وكان يشارف على الأعمال الشرقية فلما عرض على الأفضل ما أنفقه فيه استعظمه وقال: غرمنا هذا المال جميعه والاسم لأبي المنجا. فغير اسمه ودعي بالبحر الأفضلي فلم يتم ذلك ولا عرف إلا بأبي المنجا. وفيها أعلن شمس الخلافة أسد والي عسقلان بالخلاف فعهد إلى صاحب الترتيب والقاضي فأخرجهما على أنه يرسلهما إلى الباب في خدمة عرضت له وإلى العسكر الذي كان يخاف شوكته فأوهمهم أنه يسيرهم إلى بلاد العدو. فلما حصلوا خارج الثغر أمرهم بالمسير إلى باب سلطانهم وكان قد سير قبل ذلك العسكر من الباب على جهة البدل. فلما علم أسد المذكور بوصولهم إلى مدينة الفرما أنفذ إليهم يخيفهم ويشعرهم أن العدو قد تعداهم فامتنعوا من التوجه فلما بلغ الأفضل ذلك عزم على أن يسير بنفسه إليه. ثم رأى أن إعمال الحيلة أنجع فخادعه وأنفذ الكتب إليه يطمئنه ويصوب رأيه فيما فعله في صاحب الترتيب والبدل ولم يغير مكاتبته عن حالها ولا تعرض لإقطاعاته ورسومه وأصحابه وسير في الباطن من يستفسد الكنانية والرجال المذكورة ويبذل لهم الأموال في أخذه. ولم يزل يدبر عليه حتى اقتنصت المنية مهجته وذلك أن أهل بيروت أنكروا أمره فوثب عليه طائفة وهو راكب فجرحوه وانهزم إلى داره فتبعوه وأجهزوا عليه ونهبوا داره وماله وتخطفوا بعض دور الشهود والعامة. فبادر صاحب السيارة إلى البلد وملكه وبعث برأس شمس الخلافة إلى الأفضل فسر بذلك وأحسن إلى القادمين به. وكان قدوم الرأس في يوم الأربعاء رابع المحرم صحبة ثلاثة من الكنانية فخلع عليهم وطيف بالرأس وزينت البلد سبعة أيام. وفيه خلع على ولده مختار ولقب شمس الخلافة وأنعم عليه بجميع مال أبيه. وسير بدله مؤيد الملك خطلخ المعروف برزيق والياً على الثغر. وفيها وصل يانس الناسخ من الشام فاستخدم في خزانة الكتب الأفضلية بعشرة دنانير في الشهر وثلاث رزم كسوة في السنة والهبات والرسوم. وفيها كتب إلى عسقلان بمطالبة من نهب دار شمس الخلافة وماله بما أخذه فقبض على جماعة وحملوا إلى مصر فاعتقلوا بها. وفيها تسلم نواب طغتكين صور من عز الملك أنوشتكين الأفضلي خوفاً من بغدوين أن يأخذها وقام بأمرها مسعود فاستقرت بيد الأتراك وأقروا بها الدعوة المصرية والسكة على حالها. وكتب طغتكين إلى الأفضل بأن بغدوين قد جمع لينزل على صور وأن أهلها استنجدوني فبادرت لحمايتها ومتى وصل من مصر أحد سلمتها إليه. فكتب يشكره على ما فعل. وتقدم بتجهيز الأسطول إلى صور بالغلة معونة لها. سنة سبع وخمسمائة في أولها خرج الأسطول من مصر بالغلات والرجال إلى صور وعليه شرف الدولة بدر بن أبي طالب الدمشقي وكان متولى طرابلس عند أخذ الفرنج لها فوصل إلى صور سالماً ورخصت بها الأسعار واستقام أمرها. وأنفذ معه بخلع جليلة إلى ظهير الدين طغتكين وولده تاج الملوك وخواصه ولمسعود متولى صور. ثم أقلع في آخر شهر ربيع الأول. فبعث بغدوين يطلب المهادنة من مسعود فأجابه وانعقد الأمر بينهما. في ذي القعدة قفز على الأفضل عند باب الزهومة من دكان صيرفي يعرف بالغار وسلم فأخرجت الصدقات بسبب سلامته وقتل الصيرفي وصلب على دكانه. وورد الخبر بأن بغدوين ملك الفرنج وصل إلى الفرما فسير الراجل من العطوفية وسير إلى والي الشرقية بأن يسير المركزية والمقطعين إليها ويتقدم إلى العربان بأسرهم أن يكونوا في الطوالع ويطاردوا الفرنج ويشارفوهم بالليل قبل وصول العساكر وأن يسير بنفسه فاعتد ذلك ثم أمر بإخراج الخيام وتجهيز الأصحاب والحواشي. فوصلت العربان والعساكر فطاردوا الفرنج فخاف بغدوين من يلاحق العساكر فنهب الفرما وأخربها وألقى فيها النيران وهدم المساجد وعزم على الرجوع فأدركته المنية ومات. فأخفى أصحابه موته وساروا وقد شقوا بطنه وحشوه ملحاً وشنت العساكر الإسلامية الغارات على بلاد العدو وخيموا على ظاهر عسقلان ثم عادوا. وكانت الكتب قد نفذت من الأفضل إلى الأمير ظهير الدين طغتكين صاحب دمشق بعتبه ويقول له: لا في حق الإسلام ولا في حق الدولة التي ترغب في خدمتها والانحياز إليها أن يتوجه الفرنج بجملتها إلى الديار المصرية ولا يتبين لك فيها أثر ولا تتبعهم ولو كان وراءهم مثل ما كان أمامهم ما عاد منهم أحد. فلما وصل إليه الكتاب سار بعسكره إلى عسقلان فتلقاه المقدمون ونزل أعظم منزل وحملت إليه الضيافات. وحمل إليه من مصر الخيام وعدة وافرة من الخيل والكسوات والبنود والأعلام وسيف ذهب ومنطقة ذهب وطوق ذهب وبدنة طميم وخيمة كبيرة معلمة ومرتبة ملوكية وفرشها وجميع آلاتها وسائر ما تحتاج إليه من آلات الفضة. وجهز لشمس الخواص وهو مقدم كبير كان معه على عدة كثيرة من العسكر خلعه مذهبة ومنطقة ذهب وسيف ذهب وجهز برسم المتميزين من الواصلين خلع مذهبة وحريرية وسيوف مغموسة بالذهب. فتواصلت الغارات على بلاد العدو وقتل منهم وأسر عدد كبير. فلما دخل الشتاء وتفرق العسكر والعربان استأذن ظهير الدين على الإنصراف فأذن له وسيرت إليه وإلى من معه الخلع ثانياً فحصل لشمس الخواص خاصة في هذه السفرة ما مقداره عشرة آلاف دينار وتسلم الأمير ظهير الدين الخيمة الكبيرة بفرشها وجميع آلاتها وكان مقدار ما حصل له ولأصحابه ثلاثين ألف دينار. وذكر أن المنفق في هذه الحركة على ركاب بغدوين مائة ألف دينار. ورعشت يد الأفضل وصعب عليه إمساك القلم والعلامة على الكتب فأقر أخاه أبا محمد جعفر المظفر في العلامة وجعل له خمسمائة دينار في الشهر مضافاً إلى رسمه فعلم عنه. واستهل شهر رمضان فجرى الأمر في نيابة الأجل سماء الملك ولد الأفضل عنه في جلوسه بمحل الشباك وقرر له على هذه النيابة في هذا الشهر خمسمائة دينار وبذلة مذهبة ورزمة كسوة فيها شقق حرير وغيرها. ولم يزل هذا الرسم مستقراً إلى أن أخذه عباس بن تميم في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة عند توليته حجبة بابه. والبذلة وحدها تساوي خمسمائة دينار. وفيها استخدم ذخيرة الملك جعفر في ولاية القاهرة والحسبة فظلم وعسف وبنى مسجداً عرف بمسجد لا بالله. سنة عشر وخمسمائة سنة إحدى عشرة وخمسمائة في ذي الحجة خرج أمر الآمر بأحكام الله بنفي بني عبد القوى فنفوا إلى الأندلس بأهاليهم. وفيها وصل بغدوين إلى الفرما وأحرق جامعها وأبواب المدينة ومساجدها وقتل بها رجلا مقعدا وابنة له ذبحها على صدره ورحل وهو مثخن مرضا فمات قبل العريش فشق بطنه ورمى ما فيه هناك فهو يرجم إلى اليوم ويعرف مكانه بسبخة بردويل ودفنت رمته بقمامة من القدس. وقام من بعده بملك القدس القمص صاحب الرها بعهده إليه. وفيها خرج محمد بن تومرت من مصر في زي الفقهاء ومضى إلى بجاية. سنة اثنتي عشرة وخمسمائة فيها مات الأمير نور الدولة أبو شجاع فاتك والد القائد أبي عبد الله بن فاتك فأخرج له الأفضل من ثيابه بذلة حريرية وقارورة كافور وشققا مزيدي دبيقي ونصافي وطيباً وبخورا وشمعاً وحمل له من القصر أضعاف ذلك. وخرج الأفضل والأمراء وجميع حاشية القصر إلى الإيوان فخرج الخليفة وصلى عليه ثم أخرج فدفن. وتردد الناس إلى التربة. وفرقت الصدقات إلى تمام الشهر. وكان بيد نور الدين زمر الضاحكية والفراشين وصبيان الركاب والسلاح الخاص بجار ثقيل ورسوم كثيرة. وهؤلاء الضاحكية كانوا يعرفون بهذه الرسوم قديماً عند وصولهم مع المعز إلى مصر وهم يلبسون المناديل ويرخون العذب ويلبسون الثياب بالأكمام الواسعة وفي أرجلهم الصاجات وفي الأعياد يشدون أوساطهم بالعراضى الدبيقي ولا يتقدمهم أحد إلى الخليفة على ما جرت به عادتهم في المغرب. وفيها قفز على الأفضل ثانيا وخرج عليه ثلاثة نفر بالسكاكين فقتلوا وعاد سالما فاتهم أولاده وصرح بالقول فيهم وأخذ دوابهم وأبعد حواشيهم ومنعهم من التصرف وبالغ في الاحتراز والتحفظ. وفيها وردت التجار من عيذاب ذاكرين أنه خرج عليهم في مراكب شنها قاسم بن أبي هاشم صاحب مكة فقطعت عليهم الطريق وأخذ جميع ما كان معهم. فغضب الأفضل وقال: صاحب مكة يأخذ تجاراً من بلادي أنا أسير إليه بنفسي بأسطول أوله عيذاب وآخره جدة. ثم تقرر الحال على مكاتبة الأشراف بمكة وإعلامهم ما فعله أمير مكة وأقسم فيه أنه لا يصل إلى مكة من أعمال الدولة تاجر ولا حاج إلى أن يقوم بجميع ما أخذه من أموال التجار. وكتب إلى والي قوص بأن يسير بنفسه أو من يقوم مقامه إلى عيذاب ومهما وصل من جدة من الجلاب لا يمكن أحداً من الركوب فيها وأن يتشوف ما يدخل عيذاب من الشواني والحراريق فمهما كان يحتاج إلى إصلاح ومرمة ينجز الأمر فيه ويشعر أهل البلاد بوصول الرجال والأموال لغزو البلاد الحجازية. وتقدم إلى المستخدمين بصناعة مصر بتقديم خمسة حراريق وتكميلها ليسيروا إلى الحجاز. فلما وردت المكاتبة على الأشراف بمكة ولم يصل إليها أحد اشتد الأمر عندهم وتحرك السعر فبعثوا رسولا من أميرهم فلما وصل ساحل مصر لم يؤبه له ولا أجرى عليه ضيافة وقيل له: ما يقرأ لك الكتاب ولا يسمع منك خطاب دون إعادة المأخوذ من التجار إليهم. وشاهد مع ذلك الجد والاهتمام بأمر الأساطيل وتجهيز العساكر إلى صاحبه فالتزم بإحضار جميع أموال التجار وسأل التوقف قبل الإسراع بما عول عليه من قصد صاحبه وأجل لعوده أجلا قريباً. فأجيب إلى ذلك وسار. فلم ينقض الأجل حتى عاد وصحبته جميع ما أخذ من التجار من البضائع والأموال فحملت إلى الجامع العتيق بمصر بمحضر من الرعايا وهم يعلنون بالشكر والدعاء. واحتاط متولى الحكم عليه إلى أن تحضر جماعة التجار ويجري الأمر على ما توجبه الشريعة. وخلع على الرسول وأحسن إليه ووصل. ومرض الأفضل بحمى حادة ثم عوفي فدفع للطبيب ثلثمائة دينار. |
12-21-2012, 09:06 PM | #30 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة خمس عشرة وخمسمائة
فيها قتل الأفضل بن أمير الجيوش يوم الأحد سلخ شهر رمضان وعمره سبع وخمسون سنة لأن مولده بعكا سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. وكان سبب ذلك أنه لما كان ليلة عيد الفطر جهز ما جرت العادة بتجهيزه من الدواب والآلات لركوب الخليفة وجلس بين يديه إلى أن عرضت الطبول على العادة كل سنة والدواب والسلاح ثم عاد وأدى ما يجب من سلام الخليفة فتقدم إلى القائد أبي عبد الله بن فاتك بأن يأمر صاحب السير أن يصف العساكر إلى صوب باب الخوخة. وركب الأفضل من مكانه والناس على طبقاتهم وخرج من باب الخوخة قاصداً دار الذهب فلما حصل بها وقع التعجب من الناس في نزوله ليلة الموسم ولم يعلم أحد ما قصد وكان قصده أن يكمل تعليق المجلس الذي يجلس فيه. فصلى بدار الذهب الظهر فلما قرب العصر ركب منها وقد انصرف أكثر المستخدمين ظنا منهم أنه يبيت فيها. فسار إلى الزهري فإذا الأمراء والأجناد والمستخدمون والرهجية قد اتجهوا لخدمته وكان قد ضجر وتغير خلقه ولا سيما في الصيام. فلما رأى اجتماع الناس وكثرتهم أبعدهم فتقدموا ووقفوا عند باب الساحل فأنفذ أيضا يخرج من أبعدهم وبقى في عدة يسيرة وأبعد صبيان السلاح من ورائه فوثب عليه من دكان دقاق بالملاحين أربعة نفر متتابعين كلما اشتغل من حوله واحد خرج غيره فرمى من الفرس إلى الأرض وضربوه ثمان ضربات. وكان القائد بعيدا منه لأخذ رقاع الناس وسماع تظلمهم وتفريق الصدقات على الفقراء بالطريق فلما سمع الضوضاء أسرع إليه ورمى نفسه إلى الأرض عليه فوجده قد قضى نحبه. وحمل على أيدي مقدمي ركابه والقائد راجل وهم يبشرون الناس بالسلامة. وقتل من الذين خرجوا عليه ثلاثة وقطعوا وأحرقوا وسلم الرابع وكان اسمه سالماً ولم يعلم به إلا لما ظفر به مع غيره بعد مدة. ولم يزل الأفضل محمولا ولا يمكن أحد من الوصول إليه إلى أن دخل به على مرتبته التي كان يجلس عليها أو يمطى. وقال القائد للخليفة أدركني وتسلم ملكك لئلا أغلب عليه. وصار أي من لقيه يهنئه بسلامة السلطان ويوهم أهله أن الطبيب عنده ويأمرهم بتهيئة الفراريج والفواكه. وعاد إلى قاعة الجلوس فوجدها قد غصت بالناس فرد عليهم السلام وهنأهم وأظهر قوة عزم ثم عاد إلى القاعة الكبيرة وقد حضر إليه متولى المائدة الأفضلية واستأذنه على السماط المختص بالعيد فقال له اذبح ووسع فالسلطان بكل نعمة وهو الذي يجلس على السماط في غد ومع ذلك فكان في قلق وخوف شديد من أن يبلغ أولاد الأفضل فيجري عنهم ما لا يستدرك وتنهب الدار. فلما أصبح الصباح وركب الخليفة ودخل إلى الدهليز الذي كان يركب منه الأفضل ومعه الأستاذون المحنكون قال القائد أبو عبد الله للخليفة: عن إذن مولانا أفتح الباب وكان قد منع من الدخول إلى الدار فقال الخليفة: نعم ففتح على الأفضل وقال له القائد: الله يطيل عمر أمير المؤمنين ويفسح في مدته ويورثه أعمار مماليكه هذا وزيره قد صار إلى الله تعالى وهذا ملكه يتسلمه. ثم ضربت للوقت المقرمة على الأفضل وأمر الخليفة بإحضار من بالقاعة من الأمراء والأجناد فدخل الناس على غير طبقاتهم إلى أن مثلوا بين يدي الخليفة وهو قاعد على الحصير عند المقرمة فقال الخليفة للأمراء: هذا وزيري قد صار إلى الله تعالى ومنكم إلي ومني إليكم وقد كان القائد واسطته إليكم وهو اليوم واسطتي إليكم. فشكر الحاضرون ذلك هذا والقائد وولده مشدودو الأوساط بالمناطق وصاحب الباب على ما كانوا عليه. وتقدم إلى الشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة أن يكتب إلى الأعمال بذلكن وأمر الأمراء بالانصراف. ثم قال القائد: يا مولانا الأموال والجواهر على اختلافها في الخزائن الكبار عنده وهي مقفلة ومفاتيحها عندي وختم عليها وهي في بيت المال المصون وكذلك المفضض التي عند المستخدمين برسم الاستعمال والميناء الذهب المرصعة والتي بغير ترصيع والبلور التي برسم استعماله جميع ذلك مثبت عند متولي دفتر المجلس إلا خزانة الكسوة التي برسم ملبوسه ما عندي منها خبر فأمر من يدخل ويختم عليها. فأمر متولي الخزائن الخاص وكان سيف الأستاذين ومتولي بيت المال ومتولي الدفتر وهم كبار الأستاذين المحنكين بأن يدخلوا ويجتمعوا ولا يعترض غيرها لا لولده ولا لجهته ولا لبناته ولا لأحد من عياله. فتوجهوا وقرعوا الباب. فلما شاهدهم النساء تحققوا الوفاة وقام الصراخ من جميع جوانب المواضع وكانت ساعة أزعجت كل من بمصر والجيزة والجزيرة ثم أسكتوا. وأنفذت الرسل لختم الخزائن التي بمصر. فبينما هم على ذلك في الليل إذ وصل إلى الخليفة رقعتان على يد أستاذ من القاهرة من رجلين من جملة الحاشية يذكران فيها أن أولاد الأفضل قد جمعوا عدة وشنعت حاشيتهم أن في بكرة هذه الليلة يستنصرون بالبساطية والأرمن ويثورون في طلب الوزارة لأخيهم الأكبر فامتعض الخليفة لذلك وهم بالإرسال إليهم وقتلهم ثم تقرر الأمر على أن يودعوا الخزانة من غير إهانة ولا قيود فتوجه إليهم فإذا جميع حاشيتهم وغيرها عندهم والخيل قد شدت فأودعوا الخزانة. فلما أصبح الصباح كان قد حمل من القصر في الليل طوافير فيها عدة موائد للفطر في يوم العيد وحمل برسم فطر الخليفة الصواني الذهب وعليها اللفائف الشرب المذهبة. وكان قد هيئ للخليفة من الليل موضع للمبيت بحيث يبعد عن الأفضل وعين من وقع الاختيار عليه لقراءة القرآن عند الأفضل. فلما كان السحر من عيد الفطر جئ بين يدي الخليفة بما أحضر من قصوره في مواعينه الذهب المرصعة وعليها المناديل المذهبة من التمر المحشو والجوارشيات بأنواع الطيب وغير ذلك فاستدعى الخليفة القائد وأمره بالمضي إلى باب الحرم لإحضار الأجل المرتضى ابن الأفضل فمضى لذلك فأبت أمه من تمكنهم منه فما زال بها حتى أسلمته إليه بعد جهد. فأتى به الخليفة فسلم به وضمه الخليفة إليه وقبله بين عينيه وأجلسه عن يمينه والقائد عن شماله وبقية ثم كبر مؤذنو القصر فسمى الخليفة وأخذ تمرة وأكل بعضها وناولها للقائد ثم ناول الثانية لولد الأفضل فقام كل منهما وقبل الأرض ولم يجلس. وتقدم كل من الحاضرين فأخذ من يد الخليفة من التمر ووقف. فاستدعى القائد الفراش الذي معه الصينيتان النحاس وأمر فراشي الأسمطة بنقل ما في الأواني التي بين يدي الخليفة في الصواني لتفرق في الأمراء الذين بالقاعة والدهاليز فنقلت إليها وحملت إلى المقرمة التي الأفضل وراءها وختم المقرئون. ثم أظهر الخليفة الحزن على فقد وزيره فتلثم وتلثم جميع المحنكين والحاشية وجلس الخليفة على المخدة عند المقرمة وأمر حسام الملك حاجب الباب بإحضار القاضي والداعي والأمراء فدخل الناس على طبقاتهم. فلما رأوا زي الخليفة اشتد البكاء والعويل وخرق كل أحد ما عليه ورميت المناديل يعني العمائم إلى الأرض وبكى الخليفة وحاشيته ساعة. ثم سأل القائد الخليفة أن يفطر على ثمرة بحيث يشاهده جميع من حضر ففعل ذلك. ثم أشار الخليفة إلى القائد أن يكلم الناس عنه: فقال: أمير المؤمنين يرد السلام عليكم وقد شاهدتم فعله وكونه لم يشغله مصابه بوزيره ومدبر دولته ودولة آبائه عن قضاء فرض هذا اليوم وقد أفطر بمشاهدتكم وأمركم بالإفطار. فمسح الخليفة بيده على الصواني وتقدم القائد إلى الخليفة وصار يناوله من الصواني بيده فأول ما مد إلى القاضي ثم الداعي ونزل الناس للأكل. ورفعت الصواني فأخذ القائد يد الداعي وقربه من الخليفة فناوله الخليفة الخطبة وكانت على يساره ملفوفة في منديل شرب بياض مذهب فقبلها الداعي وجعلها على رأسه وضمها إلى صدره. وتقدم القائد لحسام الملك بأن يأخذ الأمراء جميعهم ويطلعون إلى المصلى بالقاهرة لقضاء الصلاة فتوجهوا في زي الحزن والمؤذنون بين أيديهم. فصلى الداعي بالناس ثم صعد المنبر فوقف على الدرجة الثالثة منه وخطب. وكانت الخطبة مبيتة فيها الدعاء للأفضل والترحم عليه وعندما توجه الناس إلى المصلى أمر ولد الأفضل بالمضي إلى أمه وإخوته وجهات أبيه ليرد عليهم السلام من أمير المؤمنين ويفطرهم. وخلا الخليفة بالقائد وأمره بإخراج جميع الجواهر فقام إلى خزانة كانت قد بنيت برسم الأفضل فوجد بها خيمة ففتحها وأخرج قمطرين عليهما حلية ذهب مملوءين جواهر ما بين عقود مفصلة بياقوت وزمرد وسبح وقمطرا فيه إحدى عشرة شرابة طول كل شرابة شبران بجواهر ما يقع عليها نظر وصناديق فضة مملوءة مضافات ما بين عصائب وتيجان ذهب مرصعة بجواهر نفيسة. ففتحت كلها فشاهد الخليفة منها ما لا يوصف فسر بذلك سرورا كبيرا وشكر القائد وقال: والله إنك المأمون حقاً مالك في هذا النعت شريك. فقبل الأرض ويديه. ولهذا النعت قضية. وذلك أنه لما كان في الأيام المستنصرية وعمر القائد يومئذ اثنتا عشرة سنة وكان من جملة خاصة المستنصر يرسله إلى بيت المال وخزانة الصاغة في مهماته فيجد منه النهضة والأمانة فيقول هذا المأمون دون الجماعة. ودرجت السنون فذكرها الخليفة الآمر في ذلك الوقت فقال له: أنت المأمون على الحقيقة لأجل ذلك. ثم عاد حسام الملك أفتكين صاحب الباب والداعي وجميع الأمراء من المصلى ومثلوا بين يدي الخليفة. ووقع حينئذ الاهتمام بتجهيز الأفضل وتقدم إلى زمام القصور بإخراج ما قد مازجه عرف الأئمة وتقدم إلى ريحان متولى بيت المال بإخراج ما يجب إخراجه برسم المأتم فمضيا. وتقدم إلى حسام الملك بإعلام الأمراء والاجناد والشهود والقضاة والمتصدرين والمقربين وبنى الجوهري الوعاظ وغيرهم لحضور الجنازة وتلاوة القرآن. فعاد زمام القصور ومتولى بيت المال ومعهما عشرون صينية ملفوفة في عراض دبيقي بياض مملوءة صندلا مطحونا ومسكا وكافورا وحنوطا وقطنا وفي صدر الآخر منديل ديباج فيه ما رسم بإحضاره من ملابس الخلفاء وطيالسهم. ووصلت أيضا الموائد على رءوس الفراشين وهي مائة شدة صحبة متولى المائدة الآمرية فمد السماط بين يدي الخليفة ومد سماطان أحدهما بالقاعة وهو برسم الأمراء والآخر برسم القاضي والداعي والشهود والمقربين والوعاظ والمؤمنين وحمل إلى الجهات فلما انقضى الأكل عاد الجميع بالقاعة وذكر أنه ختم على الأفضل في هاتين الليلتين واليوم نيف وخمسون ختمة. فلما انقضى معظم الليلة الثاني من شوال تقدم الخليفة بإحضار داعي الدعاة ولي الدولة ابن عبد الحقيق وأمره بغسل الأفضل على ما يقتضيه مذهبه وكفن بما حضر من القصر وأخرج للداعي بذلتان مكملتان مذهبة وحرير عوضا عما كان على الأفضل من ثياب الدم فإنها لم تنزع عنه وعند كمال غسله دفع للداعي ألف دينار. فلما كان في الثالثة من نهار يوم الثلاثاء ثاني شوال خرج التابوت بالجمع الذي لا يحصى والناس بأجمعهم رجالة وليس وراءهم راكب إلا الخليفة بمفرده وهو ملثم. فلما خرج التابوت من بلد مصر أمر الخليفة بركوب القائد والمرتضى ولد الأفضل وذكر أن الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة ركب حماراً فلما وصلت الجنازة إلى باب زويلة ترجل القائد والمرتضى ومشيا وبعث الخليفة خواصه إلى أخويه أبي الفضل جعفر وأبي القاسم عبد الصمد وأمرهما إذا وصل التابوت إلى باب الزهومة أن يخرجا بغير مناديل بعمائم صغار وطيالس فإذا قضيا ما يجب من حق سلام الخليفة سلما على القائد أبي عبد الله بمثل ما كانا يسلمان على الأفضل ويمشيان معه وراء التابوت. فاعتمدا ذلك. فاستعظم الناس هذه الحالة والمكارمة ولم يزالا مع الناس وراء التابوت إلى أن دخل من باب العيد. فلما صار التابوت في وسط الإيوان هم الخليفة بأن يترجل فسارع إليه القائد والمرتضى وصاح الناس بأجمعهم: العفو يا أمير المؤمنين. عدة مرار. فترجل الخليفة على الكرسي وصلى عليه ورفع التابوت فمشى وراءه وركب الخليفة الفرس على ما كان عليه ونزل التربة ظاهر باب النصر ووقف على شفير القبر إلى أن حضر التابوت. واستفتح ابن القارح المغربي وقرأ: " وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ " الآية. فوقعت من الناس موقعا عظيما وبكوا وبكى الخليفة وهم بنزول القبر ليلحده بيده ثم أمر الداعي فنزل وألحده والخليفة قائم إلى أن كملت مواراته ثم ركب من التربة والناس بأجمعهم بين يديه إلى قصره. وأخرج من قاعة الفضة بالقصر ثلاثون حسكة وثلاثون بخورا مكملة وخمسون مثقال ند وعود وشمع كثير فأشعلت الشموع إلى أن صلى الصبح وأطلق البخور واستقر جلوس الناس فصلى القاضي بالناس وفتح باب مجلس الأفضل المعلق بالستور الفرقوبي الذي لم يكن حظه منه إلا جوازه عليه قتيلا. ورفعت الستور وجلس الخليفة على المخاد الطرية التي عملت في وسطه وسلم الناس على منازلهم وتلي القرآن العظيم. وتقدمت الشعراء في رثائه إلى أن استحق الختم فختم. ثم خرج القائد والأمراء إلى التربة فكان بها مثل ما كان بالدار من الآلات وكان عمر الأفضل يوم مات سبعاً وخمسين سنة ومدة ولايته ثمانية وعشرون عاماً ويقال إن الآمر وافق المأمون على قتله فرتب له من قتله. ثم أمر أن يكتب سجل بتعزية الكافة في الأفضل والثناء على خصائصه ومساعيه وإشعارهم بصرف العناية إليهم ومد رواق العدل عليهم وتفريقه على نسخ تتلى على رءوس الأشهاد وبسائر البلاد. فكتب ما مثاله: هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي علي الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بما رآه وأمر به من تلاوة على كافة من بمدينة مصر حرسها الله تعالى من الأشراف والأمراء ورجال العساكر المؤيدة على اختلاف طبقاتهم فارسهم ومترجلهم وراجلهم والقضاة والشهود والأماثل وجميع الرعايا بأنكم قد علمتم ما أحدثته الأيام بتصاريفها وجرت به الأقدار على عادتها ومألوفها من فقد السيد الأجل الأفضل ونعوته قدس الله روحه ونور ضريحه وحشره مع مواليه الطاهرين الذين جعلهم أعلام الهدى ومصابيحه الذي كان عماد دولة أمير المؤمنين وحمال أثقالها وعلى يديه وحسن سيرته اعتمادها ومعولها وتخطى الحمام إليه واخترام المنية إياه وتسلطها عليه وما تدارك الله الدولة به من حفظ نظامها واستتار أمورها بعد هذا الفادح العظيم والتئامها وما رآه أمير المؤمنين من تهذيبه الأمور بنظره السعيد ومباشرته إياها بعزمه الشديد ورأيه السديد واهتمامه بمصالح الكافة وإسباغ ظل الإحسان عليهم والرأفة حتى أصبحت الدولة الفاطمية بذلك ظليلة المناكب منيرة الكواكب محروسة الأرجاء والجوانب. ولما كانت همة أمير المؤمنين مصروفة إلى الاهتمام بكم والنظر في مصالحكم والإحسان إليكم وتأمين سربكم وإعذاب شربكم ومد رواق العدل عليكم وإنصاف مظلومكم من ظالمكم وضعيفكم من قويكم ومشروفكم من شريفكم وكف عوادي المضار بأسرها عنكم وتمكينكم من التصرف في أديانكم على ما يعتقده كل منكم جارين على رسمكم وعادتكم من غير اعتراض عليكم رأى ما خرج به عالي أمره من كتب هذا السجل وتلاوته على جميعكم لتثقوا به وتسكنوا إليه وتتحققوا جميل رأى أمير المؤمنين فيكم وأنه لا يشغله عن مصالح الكافة شاغل وأن باب رحمته مفتوح لمن قصده وإحسانه عميم شامل وله إلى تأمل أحوال الصغير والكبير منكم عين ناظرة وفي إحسان سياستكم عزيمة حاضرة وأفعال ظاهرة. والله تعالى يمده بحسن الإرشاد ويبلغه المراد في مصالح العباد والبلاد بمنه وعونه. فاعلموا هذا من أمير المؤمنين ورسمه وانتهوا إلى موجبه وحكمه وليعتمد الأمير متولى المعونة بمصر تلاوته على منبر الجامع العتيق بمصر ليعيه كل من سمعه ويصل علم مضمونه إلى من لم يحضر قراءته ليتحققوا ما ذكر فيه وأودعه وليحمل الناس على ما أمرتهم فيه وليحذر من مجاوزته وتعديه. ثم أمر الخليفة بإنشاء منشور يتلى مضمونه: خرج أمر أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين بإنشاء هذا المنشور بأن يعتمد في ديوان التحقيق والمجلس وسائر دواوين الدولة قاصيها ودانيها قريبها ونائيها إمضاء ما كان السيد الأجل الأفضل قرره وخرجت به توقيعاته الثابتة عليها علامته في الأحكام والأموال بتصاريف الأحوال إذ أمر أمير المؤمنين راض بأفعاله محقق لأقواله حامد لمقاصده ممض لأحكامه عارف بسداد رأيه في نقضه وإبرامه على أوضاعها وأحكامها وتقريراته في كل منها. فليحذر كافة الأمراء وسائر الولاة نصرهم الله وأظفرهم وجميع النواب والمستخدمين والكتاب والمتصرفين بجميع الأعمال من تأول فيه أو تعقيد بغير شيئا من أحكامها على ما قرره وأمر به. وليجلد هذا المنشور في ديوان التحقيق والمجلس بعد ثبوته في جميع الدواوين وليصدر الإعلان به إلى كافة الجهات بهذا المرسوم تثبيتا لهذا الأمر المذكور المحتوم إن شاء الله تعالى وفي السادس والعشرين من شوال عمل تمام الشهر على تربة الأفضل كما عملت الصبحة والثالث. فلما انقضى الختم وانصرف الناس ركب الخليفة بموكبه. ونزل إلى التربة وترحم عليه وعاد. ذكر هذا جمال الملك موسى بن المأمون البطائحي في تاريخه. وقال ابن ميسر: وأقام الخليفة في دور الأفضل وفي دار الملك بمصر ودار الوزارة بالقاهرة وغيرهما مدة أربعين يوما والكتاب بين يديه يكتبون ما ينقل إلى القصور فوجد له من الذخائر النفيسة ما لا يحصى. فيما وجد له ستة آلاف ألف دينار عينا وفي بيت الخاصة ثلاثة آلاف ألف دينار وفي البيت البراني ثلاثة آلاف ألف ومائتا ألف وخمسون ألف دينار ومائتين وخمسين إردبا دراهم ورقاً وثلاثين راحلة من الذهب العراقي المغزول برسم الرقم وعشرة بيوت في كل بيت عشرة مسامير ذهب كل مسمار وزنه مائتا مثقال عليها العمائم المختلفة الألوان وتسعمائة ثوب ديباج ملونة وخمسمائة صندوق من دق دمياط وتنيس برسم كسوة بدنه ولعبة من عنبر على قدر جسده برسم ما يعمل عليها من ثيابه لتكتسب الرائحة ومن الطيب والآلات ما لا يحصى عدده ومن الأبقار والجاموس والأغنام والجمال ما بلغ ضمان ألبان ونتاجه في سنة نحو أربعين ألف دينار ودواية يكتب منها مرصعة بالجواهر قوم جوهرها باثني عشر ألف دينار وخمسمائة ألف مجلدة من الكتب العلمية. قال: وأخذ الآسر في نقل ما بدار الأفضل إلى القصر وهو يرتب ما يحمل بنفسه هو وأصحابه واستمر ذلك مدة شهرين وأيام والأموال تحمل على بغال وجمال إلى القصر والآمر وذكر متولي الخزابة بالقصر أن مما وجد في دار الأفضل ستة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار وورق قيمته مائتا ألف وعشرون ألف دينار وسبعمائة طوق ما بين ذهب وفضة ومن الأسطال والصحاف والشربات والأباريق والقدور والزبادي الذهب والفضة المختلفة الأجناس ما لا يحصى كثرة ومن براني الصيني الكبار المملوء بالجواهر التي بعضها منظوم كالسبح وبعضها منثور شيء كثير. وكان الأفضل في أوقات الشرب يصف في مجلسه صواني الذهب وبينها البراني المملوءة بالجواهر فإذا أحب فرغب البرنية في الصينية فتكون ملئها. ووجد له من أصناف الديباج وما يجري مجراه من عتابي ونحوه تسعون ألف ثوب وثلاث خزائن كبار مملوءة صناديق كلها دبيقي وشرب عمل تنيس ودمياط على كل صندوق شرح ما فيه وجنسه. وخزانة الطيب مملوءة أسفاطا فيها العود وغيره مكتوب على كل سفط وزنه وجنسه وبراني بها المسك والكافور وشيء كثير من العنبر. ووجد مجلس يجلس فيه للشرب فيه ثمان جوار متقابلات أربع منهن بيض من كافور وأربع سود من عنبر قيام في المجلس عليهن أفخر الثياب وأثمن الحلى بأيديهن مذاب من أعظم الجوهر فإذا دخل من باب المجلس ووطىء العتبة نكسن رءوسهن خدمة له بحركات قد أحكمت فإذا جلس في صدر المجلس ووجد له من المقاطع والستور والفرش والمطارح والمخاد والمساند الديباج والدبيقي الحريري والذهب على اختلاف الأجناس أربع حجر كل حجرة مملوءة من هذا الجنس. ووجد له عدة صناديق ملء خزانة فيها أحقاق ذهب عراقي برسم الاستعمال. ووجد له منقلات عدة تزيد على المائة ملبسة بالذهب والفضة مرصعة بالجوهر وثمانمائة جارية منها خمسة وستون حظية لكل واحدة حجرة وخزائن مملوءة بالكسوة والآلات الذهب والفضة من كل صنف. وكان في مخازنه تحت يد عماله والجباة وضمان النواحي من المال والغلال والحبوب والقطن والكتان والشمع والحديد والخشب وغير ذلك ما يتعب شرحه. وحمل من داره أربعة آلاف بساط وستون حملا طنافس وخمسمائة قطعة بلور وخمسمائة قطعة محكم برسم النقل وألف عدل من متاع اليمن والمغرب وتسعة آلاف سرج. قال ابن ميسر: وكان الأفضل من العدل وحسن السيرة في الرعية والتجار على صفة جميلة تجاوز ما سمع به قديماً وشوهد أخيرا ولم يعرف أحد صودر ولا ضبط عليه. ولما حصر الاسكندرية كان به يهودي يبالغ في سبه وشتمه ولعنه فلما دخل الأفضل البلد قبض عليه وقدمه للقتل وقد عدد عليه ذنوبه فقال اليهودي: إن معي خمسة آلاف دينار خذها مني وأعتقني واعف عني. فقال: والله لولا خشية أن يقال قتله حتى يأخذ ماله لقتلتك وعفا عنه ولم يأخذ منه شيئا. وكان إذا غضب على أحد اعتقله ولم يقتله فلما مات أطلق من سجنه عشرة آلاف إنسان فإنه كان إذا اعتقل أحداً نسيه ولا يرى بإخرابه. وكانت محاسنه كثيرة. وهو أول من أفرد مال المواريث ومنع من أخذ شيء من التركات على العادة القديمة وأمر بحفظها لأربابها فإذا حضر من يطلبها وطالعه القاضي بثبوت استحقاقه أمره في الحال بإطلاق ما ثبت له. واجتمع بمودع الحكم من مال المواريث التي تنتظر وصول مستحقها من شرق الدنيا وغربها مائة ألف وثلاثون ألف دينار فرفع إليه قاضي القضاة ثقة الملك أبو الفتح مسلم بن علي الرأس عيني لما ولى أن قد اعتبرت ما في مودع الحكم من مال المواريث فكان مائة ألف دينار ورفعها إلى بيت المال أولى من تركها في المودع فإن لها السيرة الطويلة لم يطلب شيء منها. فوقع رقعته: إنما قلدناك الحكم ولا رأي لنا فيما لا نستحقه فاتركه على حاله لمستحقيه ولا تراجع فيه. فأخذها هذا القاضي غرفاً. وبلغ ارتفاع خراج مصر في أيامه لسنة خمسة آلاف ألف دينار ومتحصل الأهراء ألف ألف إردب. وبنى في أيامه من المساجد والجوامع جامع الفيلة بالجرف المعروف بالرصد والمسجد المعروف بالجيوشي على سطح الجبل. وبنى مئذنة جامع عمرو بمصر الكبيرة والمئذنة السعيدة به أيضا والمئذنة المستجدة وجامع الجيزة. وعمل خيمة الفرح التي سميت بالقاتول اشتملت على ألف ألف وأربعمائة ألف ذراع من الثياب وقائم ارتفاع العمود الذي لها خمسون ذراعا بذراع العمل وبلغت النفقة عليها عشرة آلاف ألف دينار. وللشعراء فيها عدة مدائح. وكان الأفضل يقول الشعر. فمن شعره في غلامه تاج المعالي: أقضيب يميس أم هو قدّ ** أو شقيق يلوح أو هو خدّ أنا مثل الهلال خوفاً عليه ** وهو كالبدر حين وافاه سعد وكان شديد الغيرة على نسائه. اطلع من سطح داره فرأى جارية من جواريه متطلعة إلى الطريق فأمر بضرب عنقها. فلما وضعت الرأس بين يديه أنشد: نظرت إليها وهي تنظر ظلّها ** فنزّهت نفسي عن شريك مقارب أغار على أعطافها من ثيابها ** ومن مسك لها في الذّوائب ولي غيرةٌ لو كان للبدر مثلها ** لما كان يرضى باجتماع الكواكب قال: وكان عدة الوعاظ والقراء والمنشدين في عزاء الأفضل أربعمائة وعشرين شخصاً فخرج أمر الخليفة أن يعطى كل واحد منهم ثمانين دينارا الصغير مثل الكبير فقال ابن أبي قيراط: يا مولانا هذا مال كثير. فقال: إنفاذ أمرنا هذا من بعض حقه علينا. فجاء مبلغ ما دفع نحواً من أربعة وثلاثين ألف دينار. قال: والأفضل هو الذي أنشأ بستان البعل والمنتزه المعروف بالتاج والخمس وجوه والبستان الكبير والبستان الخاص بقيلوب وجدد بستان الأمير تميم ببركة الحبش وأنشأ الروضة بحرى الجزيرة وكان يمضي إليها في العشاريات الموكبية رحمه الله. في مستهل ذي القعدة خلع على القائد أبي عبد الله بن فاتك بذلة مذهبة بشدة الخليفة الداعية وحلت المنطقة من وسطه وخلع على ولده بذلة مذهبة وحلت منطقته أيضا وعلى جميع إخوته بمثل ذلك. واستمر ينفذ الأمور لا يخرج شيء عن نظره إلى مستهل ذي الحجة ففي يوم الجمعة ثانيه خلع عليه من ملابس الخاص الشريف في فرد كم مجلس العيد وطوق بطوق ذهب مرصع وسيف ذهب مرصع وسلم على الخليفة فأمر الخليفة الأمراء وكافة الأستاذين المحنكين بالخروج بين يديه وأن يركب من المكان الذي كان الأفضل يركب منه. ومشى في ركابه القواد على عادة من تقدمه وخرج بتشريف الوزارة ودخل على باب العيد راكباً ووصل إلى داره فضاعف الرسوم وأطلق الهبات. وفي خامسه اجتمع الأمراء واستدعى الشيخ أبو الحسن بن أبي أسامة فحضر بالسجل في لفافة خاص مذهبة فسلمه الخليفة إلى الأجل المأمون من يده فقبله وسلمه لزمام القصر وأمر الخليفة المأمون فجلس عن يمينه وقرئ السجل على باب المجلس وهو أول سجل قرئ بهذا المكان وكانت سجلات الوزراء قبل ذلك تقرأ بالإيوان. ورسم للشيخ أبي الحسن أن ينقل نسبة الأمراء والمحنكين والناس جميعهم من الآمري إلى المأموني ولم يكن أحد قبل ذلك ينتسب للأفضل ولا لأمير الجيوش. وقدمت للمأمون الدواة فعلم في مجلس الخليفة وتقدم للأمراء والأجناد فقبلوا الأرض وشكروا هذا الإحسان. وأحضرت الخلع فخلع على حاجب الحجاب حسام الملك وطوق بطوق ذهب وسيف ذهب ومنطقة ذهب وخلع على الشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست وعلى الشيخ أبي البركات بن أبي الليث وعلى أبي الرضا سالم بن الشيخ أبي الحسن وعلى أبي المكارم أخيه وعلى أبي محمد أخيهما وعلى أبي الفضل يحيى بن سعيد الميمذي ووصل بدنانير كثيرة بحكم أنه قرأ السجل. وخلع على أبي الفضائل بن أبي الليث صاحب مغفر المجلس. ثم استدعى غذى الملك سعيد ابن عمار الضيف متولى أمور الضيافات والرسل الواصلين الحضرة من جميع الجهات وأخذ أقلامه على التوقيعات فخلع عليه. وفي الأيام الأفضلية لم يكن أحد يدخل مجلسه ولا يصل لعتبته لا من الحجاب ولا غيرهم سوى غذى الملك هذا فإنه كان يقف من داخل العتبة وكانت هذه الخدمة إذ ذاك من أجل الخدم وأكبرها. قالوا أتاه النّعت وهو السيد ال - - أمون حقّا والأجلّ الأشرف ومغيث أمة أحمد ومجيرها ما زادنا شيئا على ما نعرف وذلك أنه نعت في سجله المقروء على الكافة بالأجل المأمون تاج الخلافة وجيه الملك فخر الصنائع ذخر أمير المؤمنين. ثم تجدد له في نعوته بعد ذلك الأجل المأمون تاج الخلافة عز الإسلام فخر الأنام نظام الدين والدنيا. ثم نعت بما كان ينعت به الأفضل وهو السيد الأجل المأمون أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادي رعاة المؤمنين. ولما استمر نظر المأمون للدولة بالغ الخليفة في شكره فقال له المأمون: ثم كلام يحتاج إلى خلوة. فأمر بخلو المجلس. فقال: يا مولانا امتثال الأمر متعب ومخالفته أصعب وما تتسع خلافة قدام آمر الدولة وهو في دست خلافته ومنصب آبائه وأجداده وما في قواي ما يرومه ويكفيني هذا المقدار وهيهات أن أقوم به والأمر كبير. فتغير الخليفة وأقسم: إن كان لي وزير غيرك! فقال المأمون: لي شروط وقد كنت مع الأفضل وكان اجتهد في النعوت وحل المنطقة فلم أفعل وكان أولاده يكتبون إليه بكوني قد خنته في المال والأهل وما كان والله العظيم ذلك مني يوما قط ومع ذلك معاداة الأهل جميعهم والأجناد وأرباب الطيالس والأقلام وهو يعطيني كل ورقة تصل إليه منهم وما يسمع كلامهم. فقال الخليفة: فإذا كان فعل الأفضل معك ما ذكرته إيش يكون فعلي أنا فقال: يعرفني المولى ما يأمر به فأمتثله بشرط ألا يكون عليه زائداً. فأول ما ابتدأ به أن قال: أريد الأموال لا تبقى إلا بالقصر ولا تصل الكسوات من الطراز والثغور إلا إليه ولا تفرق إلا منه وتكون أسمطة الأعياد فيه وتوسع في رواتب القصور من كل صنف وزيادة رسم منديل الكم. فقال المأمون: سمعا وطاعة أما الكسوات والجبايات والأسمطة فما تكون إلا بالقصور وأما توسعة الرواتب فما ثم من يخالف الأمر وأما منديل الكم فقد كان الرسم في كل يوم ثلاثين دينارا يكون في كل يوم مائة دينار ومولانا سلام الله عليه يشاهد ما يعمل بعد ذلك في الركوبات وأسمطة الأعياد وغيرها. ففرح الخليفة. وقال المأمون: أريد بهذا مسطوراً بخط أمير المؤمنين ويقسم لي فيه ألا يلتفت لحاسد ولا ينقبض ومهما ذكر عني يطلعني عليه ولا يأمر فيّ بأمر سراً ولا جهراً يكون فيه ذهاب نفسي وانحطاط قدري وتكون هذه الأيمان باقية إلى وقت وفاتي فإذا توفيت تكون لأولادي ولمن أخلفه بعدي. فحضرت الدواة وكتب ذلك جميعه وأشهد الله في آخرها على نفسه. فعندما حصل الخط بيد المأمون وقف وقبل الأرض وجعله على رأسه وكان الخط نسختين فلما قبض على المأمون في رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة كما سيأتي إن شاء الله أنفذ الخليفة طلب الأمان فأنفد إليه نسخة منهما فحرقها وبقيت النسخة الأخرى فأعدمت. في هذه السنة هبت بمصر ريح سوداء ثلاثة أيام فأهلكت شيئا كثيرا من الناس والحيوان. |
12-21-2012, 09:06 PM | #31 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة ست عشرة وخمسمائة
في المحرم كان المولد الآمري. وتقرر السلام على الخليفة في يومي الاثنين والخميس فأما في يومي السبت والثلاثاء فيركب الوزير بالرهجية إلى القصر ويركب الخليفة إلى ضواحي القاهرة للنزهة وأما الأحد والأربعاء فيجلس الوزير المأمون في داره على سبيل الراحة. في صفر سب أحد صبيان الخاص الآمري صاحب الشرع وشهد عليه فضربت عنقه وصلب. فيه وصل فخر الملك أبو علي عمار بن محمد بن عمار صاحب طرابلس. وكانت الدولة قد حولت الثغر في أيديهم على سبيل الولاية فلما جاءت الشدائد تغلبوا عليه ثم جاءت الدولة الجيوشية فخافوا مما قدموه فلم يرموا أيديهم في يدها ولا وثقوا بما بذل لهم من الصفح عن ولاتهم. ومضى ذلك السلف وخلفهم القاضي فخر الملك هذا في الأيام الأفضلية فجرى على تلك الوتيرة ودفع إلى محاصرة الفرنج له مدة سبع سنين فضاق خناقه وأيس فخرج من طرابلس إلى العراق مستنجداً فلم يجد ناصراً. واختلت أحواله وعاد إلى دمشق وقد ملك الفرنج طرابلس فسار إلى مصر. وقال في: كتابه والمملوك لم يصل إلى هذه الوجهة إلا وقد علم أن له من الذنوب السالفة ما يستحق به القتل وقتله بسيوف هذه الدولة عدل وإحياء له وتشريف وفخر يكفر عنه بعض ذنوبه من كفر نعمتها فإن خرج الأمر بذلك فمنة كريمة وإن خفف عنه فتخليده في السجن أحب إليه من رجوعه إلى تأميل غير هذه الدوله. فلما عرض هذا بالحضرة أدركته الرأفة بعد أن استفظع كل من الحاضرين أمره وأشير بإيقاع الحوطة عليه وإيداعه خزانة البنود. فقال المأمون للخليفة: قد أجل الله عواطف مولانا ورحمته من أن يهاجر أحد إلى أبوابه ويلجأ إلى عفوه فيخيب أمله ويؤاخذ بذنبه وما بعد استسلامه إلا الشكر لله والعفو عن جرمه فإن العفو زكاة القدرة عليه ويشمله ما شمل أمثاله. فأعجب الخليفة الآمر ذلك وخرج الأمر بأن تعدد على ابن عمار ذنوبه وذنوب أسلافه ويقال له: قد أذهبت مهاجرتك ما كان يجب من عقوبتك. فإذا اعترف بذنوبه وذنوب أسلافه يقال له: قد غفر ذنبك وأنت مخير بين أمرين إما أن تعود فيصل إليك من الإنعام ما يبلغك إلى حيث تريد ويصحبك من يوصلك إلى مأمنك وإما أن تؤثر الإقامة بفناء الدولة فتقيم على أنك تلزم ما يعنيك وتقنع بما ينعم به عليك وتقبل على شأنك وتترك التعرض للمخالطات وتتجنب جميع المكروهات. فلما خوطب بذلك قبل الأرض وأبى أن يرفع رأسه ووجهه وكلما خوطب في رفعه قال لست أرفعه حتى أتلقى كلمات العفو عن إمام زماني وتمتلئ مسامعي بألفاظ مغفرته. فبلغته الحضرة النبوية ما تمناه وحصل له الأمن وأمر به إلى دار أعدت له وجعل فيها شهوات السمع والبصر وحملت إليه الضيافات الكثيرة وجرد برسم خدمته حاجب معه عدة مستخدمين. فأقام أياما يسيرة ثم حملت إليه الكسوات التي لا نظير لها ووصله من المواهب ما أربى على أمله. وقرر له راتبا في كل شهر ستون دينارا مع مياومة الدقيق واللحم والحيوان. وصار يتعهد ما يفتقد به أعيان الضيوف من بواكير الفاكهة المستغربة وأنواع التحف المستظرفة ورسوم المواسم ورفع عنه الحاجب والمستخدمون وجعل له في المواسم والأعياد من الكسوات الفاخرة ما يميزه عن أمثاله. ولزم طريقة حمدت منه فاستمر إليه الإحسان وصار يركب في يومي الركوب ويومي السلام وغيرهما. وفيه أفرج عن الأمير عضب الدولة عز الملك أبي منصور بنا وكان له في الاعتقال ثلاث عشرة سنة لأنه كان والي عكا وسلمها إلى الفرنج فلما وصل رماه الأفضل في الاعتقال فلما أفرج عنه أعيد عليه نظير ما كان قبض عنه للاصطبلات والخزائن وولي البحيرة. وأفرج عن جماعة أمراء كانوا معتقلين منهم أبو المصطفى جوهر ودخل السجن وهو شاب فيه وصل رسول الشريف قاسم أمير مكة الذي حضر في الأيام الأفضلية بسبب أموال التجار ومعه كتاب بتهنئة المأمون فجهز إلى الأعمال القوصية بالاهتمام بالجناب الديوانية وترميم ما يحتاج إلى المرمة وتجديد عوض ما تلف وأطلق له ثمانية آلاف وتسعمائة وأربعون إردباً برسم مكة وتخوت ثياب وخلع ومال وبخور. وفيه غلا الزيت الطيب والسيرج فكتب المستخدمون في الخزائن ومشارفة الجوامع بأن يكون المطلق برسم الوقود وفي المشاهد عوضاً عن الزيت الطيب الزيت الحار فخرج الجواب بالتحذير من ذلك وبألا يطل إلا الزيت الطيب ولا يلتفت إلى غلو السعر في الخدم التي هي من حق الله تعالى فلا يجب الرخصة فيه ولا بنقص من المطلق شيء. وبلغ المأمون أن مشارف الجوامع والمساجد اشترى من ماله صبراً وخلطه بالزيت لمنع القومة من التعرض لشيء منه فأنكر ذلك وأمر بإحضاره وأن يقوم من ماله بثمن الزيت الذي فيه الصبر ويطلق الزيت المستقر إطلاقه على تمامه. وقيل له: قومة الكنائس والمقيمون بها والطارقون لها لا يقتاتون إلا من فضلات وقود كنائسهم ونحن نبيح لهؤلاء الأكل ونحرم عليهم البيع. وتقدم الأمر بعمل حساب الدولة من الهلالي والخراجي على جملتين إحداهما إلى سنة عشر وخمسمائة والثانية إلى آخر سنة خمس عشرة وخمسمائة فانعقدت على جملة كثيرة من عين وأصناف وشرحت بأسماء أربابها وتعيين بلادها. فلما حضرت أمر بكتابة سجل بالمسامحة إلى آخر سنة عشر وخمسمائة ومبلغ ما سومح به من البواقي ألفا ألف وسبعمائة ألف وعشرون ألفا وسبعمائة وسبعة وستون دينارا ومن الورق سبعة وستون ألفا وخمسة دراهم ومن الغلة ثلاثة آلاف الف وثمانمائة ألف وعشرة آلاف ومائتان وتسعة وثلاثون إردبا ومن الأرز والكتان وحرق الصباغ وزريعة الوسمة والصباغ والفود والحديد والزفت والقطران والثياب والمآزر والغرادلي شيء كثير ومن الأغنام مائتا ألف وخمسة وثلاثون ألفا وثلثمائة وخمسة رءوس ومن البسر والنخيل والجريد والسلب والأطراف والملح والأشنان والرمان وعسل النحل والشمع وعسل القصب شيء كثير ومن الأبقار اثنان وعشرون ألفا ومائة وأربعة وستون رأسا ومن الدواب والسمن والجبن والصوف والشعر شيء كثير. وقد تقدم ذكر نسخة هذا السجل عند ذكر الخراج من هذا الكتاب. وقرئ منشور بالجامع الأزهر وجامع عمرو بمصر بالمنع مما يعتمد في الدواوين من قبول الزيادة وفسخ عقود الضمانات وإعفاء الكافة من المعاملين والضمناء من قبول الزيادة فيما يتصرفون فيه ما داموا قائمين بأقساطهم. فيه تحول الخليفة الآمر إلى اللؤلؤة وأقام فيها مدة النيل على الحكم الأول وأزال ما أحدث من البناء بالقرب منها وتحول معه الوزير المأمون بن البطائحي والشيخ أبو الحسن ابن أبي أسامة كاتب الدست وحاجب الحجاب وحسام الملك ورتبت الرهجية والحرس وأطلق لهم ما يقوم بهم. وصار الخليفة يمضي في السراديب من اللؤلؤة إلى القصر في يومي السلام فلا يراه أحد سوى الأستاذين والخواص ويحضر الوزير على عادته ويحمل الأسمطة ويحضر الناس على العادة ويركب في يومي الثلاثاء والسبت إلى المتنزهات. فيه تقدم الوزير بتجديد المشاهد التسعة التي بين القرافة والجبل. وكانت العادة جارية من الأيام الأفضلية في آخر جمادى الآخرة من كل سنة أن تغلق جميع قاعات الخمارين بالقاهرة ومصر وتختم ويحذر من بيع الخمر فرأى الوزير أن يكون ذلك في سائر الأعمال فكتب إلى ولاة الأعمال وأن ينادي بأن من تعرض لبيع شيء من هذين الصنفين أو لشرائهما سرا وجهراً فقد عرض نفسه لتلافها وبرئت الذمة من هلاكها. لما كان مستهل رجب عملت الأسمطة على العادة فقال الخليفة الآمر لوزيره المأمون: قد أعدت لدولتي بهجتها وقد أخذت الأيام نصيبها من ذلك وبقيت الليالي وقد كان بها مواسم وقد زال حكمها وهي ليالي الوقود الأربع. فامتثل الأمر وعملت. واستجد في كل ليلة على الاستمرار برسم الخاصين الآمري والمأموني قنطار سكر ومثقالا مسك وديناران برسم المؤن ليعمل خشكنان وتشد في قعاب وسلال صفصاف وكان يسمى بالقعبة ويحمل ثلثا ذلك إلى القصر والثلث إلى دار المأمون. ووصلت كسوة الشتاء فكانت أربعة آلاف قطعة وثلثمائة وخمس قطع. ووصلت كسوة عيد الفطر وتشتمل على نحو عشرين ألف دينار وكان عندهم الموسم الكبير ويسمى بعيد الحلل لأن الحلل فيه تعم الجميع وفي غيره للأعيان خاصة. وعمل الختم في آخر شهر رمضان بالقصر وعبئ سماط الفطرة في مجلس الملك بقاعة الذهب من القصر فكان سماطاً جميعه من حلاوة الموسم. وصلى الخليفة الآمر بالناس صلاة العيد في المصلى ظاهر باب النصر وخطب وكان ذلك قد بطل في الأيام الجيوشية والأفضلية. وكان الذي أنفق في أسمطة شهر رمضان عن تسع وعشرين ليلة خارجاً عن التوسعة المطلقة أصنافاً برسم الخليفة وجهاته وخارجا عن العطية وخارجاً عن رسم القراء والمسحرين وخارجاً عن الأشربة والحلاوات من ألعاب ستة عشر ألف دينار وأربعمائة وستة وثلاثين دينارا. وجملة ما قدر على المنفق في شهر رمضان بما تقدم شرحه والتوسعة والصدقات والفطرة وكسوة الغرة والعيد مائة ألف دينار عينا. وضرب في خميس العدس ألف دينار عملت عشرين ألف خروبة وكانت العادة أن يضرب في كل سنة خمسمائة دينار. وفي شوال هذا وصل شاور من أسر الفرنج وكان مأسوراً من الأيام الأفضلية وطالت مدة أسره وبذلت عشيرته في افتكاكه جملةً كبيرة فلم يقبل منهم وطلب فيه أسير من الفرنج فلم يجبهم الأفضل إليه لأنه كان لا يطلق أسيرا أبداً. فلما ولي المأمون الوزارة وميز رديني مقدم العربان الجذاميين وقبيلته وشاور من بني سعد فخذ من جذام وقف مجير أخو شاور وإخوته للمأمون وما زالوا به حتى أطلق الأسير فأطلق الفرنج شاوراً في شوال وأثبت في الطائفة المأمونية وكان هذا ابتداء حديث شاور. وفيه تنبه ذكر الطائف النزارية وقرر بين يدي الخليفة بأن يسير رسولاً إلى صاحب ألموت بعد أن جمعت فقهاء الإسماعيلية والإمامية وهم لي الدولة أبو البركات بن عبد الحقيق داعي الدعاة وجميع دعاة الإسماعيلية وأبو محمد بن آدم متولى دار العلم وأبو الثريا ابن مختار فقيه الإسماعيلية ورفيقه أبو الفخر والشريف ابن عقيل وشيوخ الشرفاء وقاضي القضاة وأولاد المستنصر وجماعة من بني عم الخليفة وأبو الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست وجماعة من الأمراء وقال لهم المأمون: ما لكم من الحجة في الرد على هؤلاء الخارجين على الإسماعيلية فقال كل منهم: لم يكن لنزار إمامة ومن اعتقد هذا خرج عن المذهب وحل ووجب قتله وإن كان والده المستنصر نعته ولي عهد المسلمين ونعت إخوته منهم أبو القاسم أحمد بولي عهد وذكر حسين بن محمد الموصلي أن اليازوري لم يزل يسأل المستنصر إلى أن كتب اسمه على الدينار وهو ما مثاله: ضربت في دولة آل الهدى ومن آل طه وآل ياسين مستنصرا باللّه جل اسمه وعبده الناصر للدّين في سنة كذا ولم يقم بعد ذلك إلا دون الشهر فاستعيدت وأمر ألا تسطر. ودليل يعضد ذلك أنه لما جرت تلك الشدائد على الإمام المستنصر وسير أولاده وهم: الأمير عبد الله إلى عكا إلى أمير الجيوش ثم أتبعه أبي علي والأمير أبي القاسم والد الحافظ إلى عسقلان وسير نزاراً إلى ثغر دمياط سير الأعلى إلى ولم يسمح بسفر الإمام المستعلى ولا خروجه من القصر لما أهله له من الخلافة ولا أبعده خوفاً من حضور المنية فلما وصل أمير الجيوش إلى البلاد بعد تهيئتها وتأمينها ورغب الإمام المستنصر في عقد نكاح ولده الإمام المستعلى على ابنته أخت الأفضل وعقد النكاح بنفسه سماه في كتاب الصداق مولى عهد أمير المؤمنين وعلم عليه بخطه. ثم عند وفاة المستنصر بايع نزار الإمام المستعلى بما شاهده كل حاضر وبما ذكرته السيدة ابنة الإمام الظاهر شقيقه الإمام المستنصر في صحة إمامته. فكتب الكتاب بجميع ذلك إلى صاحب ألموت مضناً بشهادة الجماعة بذلك. ثم وصل في أثناء ذلك كتب من خواص الدولة تتضمن أن القوم قد قويت شوكتهم واشتدت في البلاد طمعتهم وأنهم يسيرون المال مع التجار إلى قوم يخبرون أسماءهم وأنهم سيروا لهم الآن ثلاثة آلاف دينار برسم النجوى وبرسم المؤمنين الذين ينزل الرسل عندهم ويختفون في محلهم فتقدم المأمون بالفحص عنهم والاحتراز التام على الآمر في ركوبه ومتنزهاته وحفظ الدور غيرها. ولم يزل البحث التام في طلبهم إلى أن وجدوا عند قوم من أهل البلد فاعترفوا بأن خمسة منهم هم الرسل الواصلون بالمال من البلاد المشرقية فراموا قتلهم فأشار المأمون بتركهم. وأحضر الشيخ أبو القاسم بن الصيرفي وأمر بكتب سجل يقرأ على رءوس الأشهاد وتفرغ منه النسخ إلى البلاد بمعنى ما ذكر من نفي نزار عن الإمامة وشهر الجماعة المقبوض عليهم وصلبوا وامتنع الآمر من قبض الألفي دينار الواصلة للنجوى وأمر بحملها إلى بيت المال وأن تنفق في السودان عبيد الشراء خاصة. وأمر بأن يحضر من بيت المال نظير المبلغ وتقدم بأن يصاغ قنديلين ذهباً وقنديلين فضة وأن يحمل قنديلان ذهبا وفضة إلى مشهد الحسين بعسقلان وقنديلان كذلك إلى التربة. وأطلق المأمون من ماله ألفي دينار وتقدم بأن يصاغ بها قنديل ذهب وسلسلة فضة برسمه على قياس أحضر من عسقلان وأن يصاغ على المصحف الذي بخط علي بن أبي طالب وأطلق من حاصل الصناديق التي تشتمل على مال النجاري برسم الصدقات عشرة آلاف درهم تفرق في الجوامع الثلاثة: الأزهر بالقاهرة والعتيق بمصر وجامع القرافة وعلى فقراء المؤمنين وعلى أرباب القصور. وأطلق من الأهراء ألفا إردب قمحاً وتصدق عدة من الجهات بجملة كثيرة. واشتريت عدة جوار من الحجر وكتب عتقهن وأطلق سراحهن. قال ابن ميسر وقد ذكر هذا المجلس: وقد كانت أخت نزار في قاعة بجانب الإيوان من القصر وعلى الباب ستر وعلى الستر إخوتها وبنو عمها وكبار الأستاذين. فلما جرى هذا الفصل قام المأمون من مكانه ووقف بإزاء الستر وقال: من وراء هذا الستر فعرف بها إخوتها وبنو عمها وأنه ليس غيرها وراء الستر. فلما تحقق الحاضرون ذلك قالت: اشهدوا علي يا جماعة الحاضرين وبلغوا عني جماعة المسلمين بأن أخي شقيقي نزاراً لم يكن له إمامة وأنني بريئة من إمامته جاحدة لها لا عنة لمن يعتقدها لما علمته من والدي وسمعته من والدتي لما أمر المستنصر بمضيها هي والجهة المعظمة والدة عبد الله أخي إلى المنظرتين اللتين على القناطر المعروفتين بالحرارة والبرياصة للنزهة أيام النيل جرى بينهما مشاجرة في ولديهما فأحضرهما المستنصرين يديه وأنكر عليهما وقال: ما يصل أحد من ولديكما إلى الأمر صاحبه معروف في وقته. وشاهدت والدي المستنصر في مرضته التي توفى فيها وقد أحضر المستعلى وأخذه معه في فراشه وقبل بين عينيه وأسر إليه طويلاً وقد دمعت عيناه وفي اليوم الذي انتقل والدي في ليلته استدعى عمتي بنت الظاهر فأسر إليها من بيننا ومد يده إليها فقبلها وعاهدها وأشهد الله تعالى معلناً ومظهراً. فلما انتقل في تلك الليلة حضر صبيحتها الأفضل ومعه الداعي والأمراء والأجناد ووقف بظاهر المقرمة ثم جلس وكلهم قيام وأخذ في التعزية ثم قال: يا مولاتنا من ارتضاه للخلافة فقالت: هي أمانة قد عاهدني عليها وأوصاني بأن الخليفة من بعده ولده أبو القاسم أحمد. فحضر وبايعته عمتي وبايعه أخوه الأكبر عبد الله فأشار الأفضل إلى نزار فبايعه وأمر بالتوكيل على نزار وتأخيره فأخر إلى مكان لا يصلح له. واستدعى الأفضل الداعي وأمره بأخذ البيعة من نفسه ومن الموالي والأستاذين. وسألت عمتي الأفضل في نزار فرفع عنه التوكيل عليه بعد أن كلمه بكلام فيه غلظة ووالله ما مضى أخي نزار إلى ناصر الدولة أفتكين بالإسكندرية لطلب إمامة ولا لادعاء حق ولكن طالب بالزوال للأفضل وإبطال أمره لما فعله معه. والله يلعن من يخالف ظاهره باطنه. فشكرها الناس على ذلك. وكان سبب حضور أخت نزار في هذا المجلس أن المأمون قال للآمر: قد كشفت الغطاء وفعلت ما لا يقدر أحد على فعله وأما القصر فما لي فيه حيلة. ولوح أن أخت نزار وأولادها لا يمكنني كشف أمرهم. فلما بلغ أخت نزار ذلك حضرت إلى الخليفة الآمر لتبرئ نفسها ورغبت أن تخرج للناس لتقول ما سمعته من والدها وشاهدته ليكون قولها حجة على من يدعي لأخيها ما ليس له. فاستحسن الآمر ذلك منها وأحضر المأمون وأخاه شقيقه أبا الفضل جعفر بن المستعلى واتفقوا على يوم يجتمعون فيه. فلما كان في شوال عمل المجلس المذكور. وأما النزارية فإنها تقول إن المستنصرمات والأفضل صاحب الأمر والمستحوذ على المملكة والجند جنده وغلمان أبيه لا يعرفون سواه وكان نزار لما يرى من غلبة الأفضل على الدولة يتكلم بما بلغه فينكره فلما مات المستنصر والأفضل متخوف من شر نزار أقام أحمد ابنه المستعلى لأنه زوج أخته ولأنه صغير. وفيها أراد الآمر أن يحضر إلى دار الملك في يوم النوروز الكائن في جمادى الآخرة ويركب إليها في المراكب على ما كان عليه الأفضل فمنعه المأمون من ذلك وقال: يا مولانا الأفضل لا يجري مجرى أمير المؤمنين. وحمل إليه من الثياب الفاخرة برسم جهاته ماله قيمة جليلة. وفي شوال بلغ المأمون أن جزيرة قويسنا ومنية زفتى ليس فيهما جامع فتقدم إلى بعض خواصه وخلع عليه فسار وبنى جامعا على شاطىء النيل بمنية زفتى وقرر فيه خطيباً وإماماً ومؤذنين وفرش وأطلق برسمه نظير ما للجوامع. وفيه وصل الفقيه أبو بكر محمد بن محمد الفهري الطرطوشي من الإسكندرية بالكتاب الذي حمله: سراج الملوك فأكرمه وأمر بإنزاله في المجلس المهيأ للإخوة وتقدم برفع أدوية الكتاب وأوطئة الحساب وسلام الأمراء وعمل السماط وسارع إلى البادهنج واستدعى بالفقيه. فلما شاهده وقف ونزل عن المرتبة وجلس بين يديه ثم انصرف ومعه أخو المأمون إلى مكان أعد له وحمل إليه ما يحتاج له وأمر مشارف الجوالي أن يحمل له في كل يوم خمسة دنانير بمقتضى توقيع مقتضب فامتنع الفقيه وأبي أن يقبل غير الدينارين اللذين كانا له في الأيام الأفضلية. وصار المأمون يستدعيه في يومي راحته ويبالغ في كرامته ويقضي شفاعاته. وكان السبب في حضوره أنه تكلم في الأيام الأفضلية في أمور المواريث وما يأخذه أمناء الحكم من أموال الأيتام وهو ربع العشر وأمر توريث الابنة النصف فلم يقبل ذلك ففاوض المأمون فيه وقال: هذه قضية وجدتها وما أحدثتها وهي تسمى بالمذهب الدارج ويقال إن أمير الجيوش بدر هو الذي استجدها وهي أن كل من مات يعمل في ميراثه على حكم مذهبه وقد مر على ذلك سنون وصار أمراً مشروعا فكيف يجوز تغييره. فقال له الفقيه: إذا علمت ما يخلصك من الله غيرها فلك أجرها. فقال أنا نائب الخليفة ومذهبه ومذهب جميع الشيعة من الزيدي والإمامي والإسماعيلي أن الإرث جميعه للابنة خاصة بلا عصبة ولا بيت مال ويتمسكون بأنه من كتاب الله كما يتمسك غيرهم وأبو حنيفة رحمه الله يوافقهم في القضية. فقال الفقيه: أنا مع وجود العصبة فلا بد من عدتها. فقال المأمون أنا لا أقدر أن أرد على الجماعة مذهبهم والخليفة لا يرى به وينقضه على من أمر به بل أرى بشفاعة الفقيه أن أرد الجميع على رأى الدولة فيرجع كل أحد على حكم رأيه في مذهبه فيما يخلصه من الله ويبطل حكم بيت المال الذي لم يذكره الله في كتابه ولا أمر به الرسول عليه السلام. فأجاب إلى ذلك. وأمر الوزير أن يكتب به وأن يكتب بتعويض أمناء الحكم عما يقتضونه من ربع العشر بتقرير جار لهم في كل شهر من مال الديوان على المواريث الحشرية وأخذ الفقيه في ذكر بقية حوائج أصحابه وكتب منه توقيع فرغت منه نسخ منها ما سير إلى الثغور وكبار الأعمال وشملته العلامة الآمرية وبعدها العلامة المأمونية. ونسخته بعد البسملة: خرج أمر أمير المؤمنين بإنشاء هذا المنشور عندما طالعه السيد الأجل المأمون أمير الجيوش ونعوته والدعاء وهو الخالصة أفعاله في حياطة المسلمين وذو المقاصد المصروفة إلى النظر في مصالح الدنيا والدين والهمة الموقوفة على الترقي إلى درجات المتقين والعزائم الكافلة بتشديد أحوال الكافة أجمعين شيمة خصه الله بفضيلتها جبلة أسعد بجلالها وشريف مزيتها. والله سبحانه يجعل آراءه للتوفيق مقارنة وأنحاء الميامن كافلةً ضامنة من أمر المواريث وما أجراها عليه الحكام الدارجون بتغاير نظرهم وقرروه من تغيير عما كان يعهد بتغلب آرائهم وما دخل عليها منهم من الفساد والخروج بها عن المعهود المعتاد وهو أن لكل دارج من الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين مذاهبهم واعتقاداتهم تحمل ما يترك من موجوده على حكم مذهبه في حياته والمشهور من اعتقاده إلى حين وفاته فيخلص لحرم ذوي التشيع الوارثات جميع موروثهم وهو المنهج القويم لقول الله سبحانه: " وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ". ويحمل من سواهن على مذهب مخلفيهن ويشركهم بيت مال المسلمين في موجودهم ويحمل إليه جزء من أموالهم التي أحلها الله لهن بعدهم عدولاً عن محجة الدولة وخروجاً عما جاء به العباد من الأئمة الذين نزل في بيتهم الكتاب والحكمة فهم قراء القرآن وموضحو غوامضه ومشكلاته بأوضح البيان وإليهم سلم المؤمنون وعلى هديهم وإرشادهم يعول الموقنون فلم يرض أمير المؤمنين الاستمرار في ذلك على قاعدة واهية الأصول بعيدة من التحقيق خالية من المحصول ولم ير إلا العود فيه إلى عادة آبائه المطهرين وأسلافه العلماء المهديين صلوات الله عليهم أجمعين. وخرج أمره إلى السيد الأجل المأمون بالإيعاز إلى القاضي ثقة الملك النائب في الحكم عنه بتحذيره والأمر له بتحذير جميع النواب في الأحكام بالمعزية القاهرة ومصر وسائر الأعمال دانيها وقاصيها قريبها ونائيها من الاستمرار على تلك السنة المتجددة ورفض تلك القوانين التي كانت معتمدة واستئناف العمل في ذلك بما يراه الأئمة المطهرة وأسلافه الكرام البررة وإعادة جميع مواريث الناس على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم إلى المعهود من رأي الدولة فيها والإفراج عنها برمتها لمستحقيها من غير اعتراض عليهم في قليلها ولا كثيرها وأن يضربوا عما تقدم صفحا ويطووا دونه كشحا منذ تاريخ هذا التوقيع وفيما يأتي بعده مستمرا غير مستدرك لما فات ومضى ولا متعقب لما ذهب وانقضى. وليوف الأجل المأمون عضد الله به الدين بامتثال هذا المأمور والاعتماد على مضمون هذا المسطور وليحذر كلا من القضاة والنواب والمستخدمين في الباب وسائر الأعمال من اعتراض موجود أحد ممن يسقط الوفاة وله وارث بالغ رشيد حاضر أو غائب ذكرا كان أو أنثى من سائر الناس على اختلاف الأديان بشيء من التأولات أو تعقب ورثته بنوع من أنواع التعقبات إلا ما أوجبته بينهم المحاكمات والقوانين الشرعيات الواجبات نظراً إلى مصالح الكافة ومدا لجناح العاطفة عليهم والرأفة ومضاعفة للأنام وإبانةً عن شريف القصد إليهم والاهتمام. فأما من يموت حشريا ولا وارث له حاضر ولا غائب فموجوده لبيت المال بأجمعه على الأوضاع السليمة والقوانين المعلومة القويمة إلا ما يستحقه خرج إن كان له أو دين عليه يثبت في جهته. وإن سقط متوفى وله وارث غائب فليحفظ الحكام والمستخدمون على تركته احتياطاً حكميا وقانونا شرعيا مصوناً من الاصطلام محروساً من التفريط والاخترام فإن حضر وأثبت استحقاقه ذلك في مجلس الحكم بالباب على الأوضاع الشرعية الخالصة من الشبه والارتياب طولع بذلك ليخرج الأمر بتسليمه إليه والإشهاد يقبضه عليه. وكذلك نمى إلى حضرة أمير المؤمنين أن شهود الحكم بالباب وجميع الأعمال إذا شارف أحد منهم بيع شيء مما يجري في المواريث من الترك التي يتولاها الحكام يأخذون ربع العشر من ثمن المبيع فيعود ذلك بالنقيصة في أموال الأيتام والتعرض إلى الممنوع الحرام اصطلاحاً استمروا على فعله واعتماداً لم يجر الأمر فيه على حكمه فكره ذلك وأنكره. واستفظعه وأكبره واقتضى حسن نظره في الفريقين ما خرج به أمره من توفير مال الأيتام وتعويض من يباشر ذلك من الشهود جارياً يقام لكل منهم من الإنعام وأمر بوضع هذا الرسم وتعفيته وإبطاله وحسم مادته. فليعتمد القاضي ثقة الملك ذلك بالباب وليصدر الإعلام إلى سائر النواب سلوكاً لمحجة الدين وعملاً بأعمال الفائزين السعداء المتقين بعد تلاوة هذا التوقيع في المسجدين الجامعين بالمعزية القاهرة المحروسة ومدينة مصر على رءوس الأشهاد ليتساوى في معرفة مضمونه كل قريب وبعيد وحاضر وباد ولتفرغ منه النسخ إلى جميع النواب عنه في الأعمال وليجلد في مجلس الحكم بعد ثبوته في ديواني المجلس والخاص الآمري وحيث يثبت مثله إن شاء الله تعالى حجة مودعة في اليوم وما بعده. وكتب لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ست عشرة وخمسمائة. ثم حضر الفقيه أبو بكر لوداع الوزير وعرفه ما عزم عليه من إنشاء مسجد بظاهر الثغر على البحر فكتب إلى ابن حديد بموافقة الفقيه على موضع يتخيره وأن يبالغ في إتقانه وسرعة إنجازه وتكون النفقة عليه من مال ديوانه دون مال الدولة. وتوجه فبنى المسجد المذكور على باب البحر. وأما المسجد الذي بالمحجة فإن المؤتمن عند مقامه بالثغر بناه. وذكر للمأمون أيضا أن واحات البهنسا ليس بها جمعة تقام فأمر ببناء جامع بها ففرغ منه وأقيم فيه خطيب وإمام وقومة ومؤذنون وأطلق لهم ما هي عادة أمثالهم. وقيل إن الذي أنشأه المأمون في وزارته وفي أيام الأفضل أحد وأربعون مسجداً مع ما أمر بتجديده بعد وزارته بالقاهرة ومصر وأعمالهما ما يناهز مائتي مسجد. فيه بنيت دار ضرب بالقاهرة ودار وكالة. وفي ذي القعدة مات الأمير السعيد محمود بن ظفر والي قوص. وركب المأمون إلى الجامع الأزهر فلما كان وقت صلاة الصبح تقدم قاضي القضاة ثقة الملك أبو الفتح مسلم بن علي الراسعيني وصلى فلما قرأ الفاتحة لحقه زمع شديد وارتعد فلحن في الفاتحة وقرأ: " والشَّمْسِ وَضُحَاهَا " فلما قال: " نَاقَةَ اللّهِ وَسُقْيَاهَا " أرتج عليه فرد المؤتمن حيدرة أخو المأمون عليه فاشتد زمعه فكرر عليه الرد فلم يهتد وقال: " وسقناها " بالنون: فقرأ المأمون بقية السورة وسجد الناس. وقام في الركعة الثانية وقد دهش فلم يفتح عليه بشيء فقرأ المأمون الفاتحة " قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ " وقنت وهو معه يلقنه. فلما انقضت الصلاة اشتد غضب المأمون وأمر متولى الباب بأن يختم المقرئون. وتخيل المقام وخرج من الجامع فوكل بالقاضي من يمضي به إلى داره ويأمره بالمقام بها من غير تصرف حتى يحفظ القرآن وقرر له راتباً فيما بعد ولزم داره. وأنفذ للوقت إلى القاضي أبي الحجاج يوسف بن أيوب المغربي من قضاة الغربية فأحضره وخلع عليه في القصر بذلة مذهبة وسلم به على الخليفة وسلم إليه السجل في لفافة مذهبة بنيابته في الكم العزيز والخطابة والصلاة وديوان الأحباس ودور الضرب بسائر أعمال المملكة ونعت فيه بالقاضي جلال الملك تاج الأحكام فقبله ووضعه على رأسه. وتلى على منابر القاهرة ومصر. وكان يحضر في يومي الاثنين والخميس إلى مجلس المظالم بين يدي المأمون ويستعرض القصص ويناقش فيها ويباحث مباحثة الفقهاء العلماء فزاد المأمون في إكرامه ورد إليه وكالة الخليفة وكتبت له الوكالة وشرف بالخلع. وتولى قوص الأمير مؤيد الملك وخلع عليه وأمر أن يبنى بقوص دار ضرب وجهز معه مهندسين وضرابين وسكك العين والورق وعشرين ألف دينار وعشرين ألف درهم فضة فضربت هناك وصار ما يضرب باسم الآمر في ستة مواضع: القاهرة ومصر وقوص وعسقلان وصور والإسكندرية. وقرر للشيخ أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسديه بن يوسف الإسرائيلي الأصل لما قدم من الأندلس وصار ضيف الدولة جار وكسوة شتوية وعيدية ورسوم وأقطع داراً بالقاهرة وكتب له منشور نسخته بعد البسملة. ولما كان من أشرف ما طرزت السيرة بقدره وأنفس ما وشحت الدول بجميل أثره تخليد الفضائل وإبداء ذكرها وإظهار المعارف وإيضاح سرها لا سيما صناعة الطب التي هي غاية الجدوى والنفع وورود الخبر بأنها قرينة إلى الشرع. لقوله صلى الله عليه وسلم: العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان خرج أمر سيدنا ومولانا لما يؤثره بعلو همته من إنماء العلوم وإشهارها واختصاص الدولة الفاطمية بإحياء الفضائل وتجديد آثارها ليبقى جمال ذلك شاهداً لها على مر الأيام متسقاً بما أفشاه لها من المآثر الجمة والمفاخر الجسام لشيخنا أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسديه أيده الله لصرف رعايته إلى شرح كتب أبقراط التي هي أشرف كتب الطب وأوفاها وأكثرها إغماضا وأبقاها وإلى التصنيف في غير ذلك من أنحاء العلوم مما يكون منسوباً إلى الأوامر العالية ورسم التوفر على ذلك والانتصاب له وحمل ما يكمل أولاً أولاً إلى خزائن الكتب وإقراء جميع من يحضر إليه من أهل هذه الصناعة وعرض من يدعيها واستشفافه فيما يعانيه فمن كملت عنده صناعته فليجره على رسمه ومن كان مقصراً فليستنهضه. واعتمدنا عليه في ذلك لكونه مميزاً في البراعة في العلوم متصرفاً في فنونها مقدماً في بسطها وإظهار مكنونها ولأنه يبلغ الغرض المقصود في شرح هذه الكتب ويوفى عليه ويسلك أوضح السبل وأسدها إليه وفي جميع ما شرع له. فليشرع في ذلك مستعيناً بالله منفسح الأمل بإنهاضنا له وجميل رأينا فيه بعد ثبوته في الدواوين إن شاء الله تعالى. وكتب في ذي القعدة سنة ست عشرة وخمسمائة فانتصب لطالبي علم الطب وأقبل أطباء البلدين إليه واجتمع في أيدي الناس من أماليه كثير وجعل له يومين في الجمعة يشتغل فيهما ويتوفر في بقية الأسبوع على التصنيف وحمل ذلك إلى الخزائن واستخدم كاتبين لتبييض ما يؤلفه. ولما أهل ذو الحجة جرى الحال في الهناء ومدائح الشعراء في القصر بين يدي الخليفة وبالدار المأمونية على الحال المستقرة واستقبله المأمون بالصيام وأخرج من ماله ما زاد عن المستقر في كل عام برسم الأطفال من الفقراء والأيتام من أهل البلدين وغيرهم ولم يتعرض لطلب ذلك من المميزين بحكم ما يعملونه من السنين المتقادمة. ومما ابتكره ولم يسبقه إليه أحد أن استعمل ميقاط حرير فيه ثلاث جلاجل وفتح باب طاقة في الروشن من سور داره فصار إذا مضى شطر الليل وانقطع المشي طرت السلسلة ودلى الميقاط من الطاق وعلى هذا المكان جماعة مبيتون بحقه من المغاربة فمن حضر من الرجال والنساء بتظلمه سدد قصة في الميقاط بيده ويحركه بعد أن يقف من حضره على مضمون الرقعة فإن كانت مرافعةً لم يمكنوه من رفعها وإن كانت ظلامةً مكنوه من ذلك ويعوق صاحبها إلى أن يخرج الجواب. وكان القصد بعمل ذلك أنه من حدث به ضرر من أهل الستر أو كانت امرأة من غير ذات البروز ولا تحب أن تظهر أو كانت مظلمة في الليل تتعجل مضرتها قبل النهار فلتأت لهذا الميقاط. وحضرت كسوة عيد النحر وفرقت الرسوم على من جرت عادته بها خارجاً عما أمر به من تفرقة العين المختص بهذا العيد وأضحيته فكان منها سبعة عشر ألفا وستمائة دينار برسم القصور جميعها وجملة ما نحر وذبح الخليفة خاصة دون الوزير في ثلاثة أيام النحر ألف وتسعمائة وستة وأربعون رأساً منها نوق مائة وثلاثة عشر وبقر ثمانية عشر رأسا وجاموس خمسة عشر والبقية كباش ومبلغ المصروف على أسمطة الثلاثة أيام خارجاً عن أسمطة الوزير ألف وثلثمائة وستة وعشرون دينارا ومن السكر ثمانية وأربعون دينارا. وعمل عيد الغدير على رسمه. وركب الخليفة إلى قليوب ونزل بالبستان العزيزي لمشاهدة قصر الورد على العادة المستقرة والسنة المتقدمة وفرقت الصدقات في مسافة الطريق وضربت الخيم وقدمت الأسمطة. ثم عاد في آخر النهار إلى قصره. وفي هذه السنة سير المأمون وحشي بن طلائع إلى صور فقبض على مسعود بن سلار واليها لمخالفته وأحضره. وفيها تجهز الأسطول وسارت المراكب فيها خمسة عشر ألف أردب قمحا وأقوات كثيرة إلى صور. فلما وصل خرج إليه سيف الدولة مسعود واليها من جهة طغتكين فلما سلم عليهم سألوه النزول إليهم فلما حصل في المركب اعتقل وأقلع الأسطول به إلى مصر فأكرم وأنزل في دار وأطلق له ما يحتاج إليه وسبب القبض عليه كثرة شكوى أهل صور منه. وفيها وصل البدل من ثغر عسقلان على العادة. |
12-21-2012, 09:08 PM | #32 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة سبع عشرة وخمسمائة
في غرتها عمل برسم أول العام ثم حزن عاشوراء فالمولد الآمري على ما جرى به الرسم. وخلع على المؤتمن سلطان الملوك نظام الدين أبي تراب حيدرة أخي الوزير المأمون بدلة مذهبة خاص من لباس الخليفة وطوق ذهب وسيف ذهب بغير منطقة وشرف بتقبيل يد الخليفة في مجلسه وسلم إليه تقليد في لفافة مذهبة بولاية الإسكندرية والأعمال البحرية وشدت له الأعلام القصب والفضة والعماريات وحمل بين يديه الأكياس برسم التفرقة. وحجبه الأمراء والأستاذون وقبل أبواب القصر ومضى إلى داره وأطلق له من ارتفاع ثغر الإسكندرية على الولايتين في الشهر خمسمائة دينار. وثار اللواتيون وغيرهم بالصعيد الأدنى وقتلوا زين الدولة علي بن تراب الوالي وعاثوا في البلاد وأفسدوا. فخرج إليهم المؤتمن أخو الوزير وتاج الدولة بهرام زنان الأرمن في عدة وافرة فانهزموا بين يديه وأحاط بما خلفوه من المواشي. وبلغه نزول مراكب الروم والبنادقة وهي بضع وعشرون مركبا على الإسكندرية فبادر إليها المؤتمن فلما شاهده العدو أقلع فأخذ منهم عدة قطع. وقدم على المؤتمن مشايخ اللواتيين والتزموا بحمل ثلاثين ألف دينار في نظير جنايتهم وأن يعفى عنهم فأجابهم الوزير إلى ذلك وحمل المال مع الرهائن. وكان المؤتمن لما قدم إلى الثغر خيم بظاهره وقبل من القاضي مكين الدولة أبي طالب أحمد بن الحسن بن حديد بن أحمد بن محمد بن حمدون المعروف بابن حديد متولى الأحكام والإشراف بها ما حمله إليه على حكم الضيافة ثلاثة أيام ثم أمره بإنفاقها بعد ذلك إلا ما يقتضيه رسمه خاصة. وأظهر كتاب أخيه الوزير بأن الغلال بالثغر وأعمال البحيرة كثيرة وكذلك الأغنام مع قطيعة العربان فمهما دعت الحاجة إليه برسم أسمطة العساكر يحمل ويساق وتكتب به الوصول على ما جرت به العادة. وأمره ألا يقبل من أحد من التجار ضيافة ولا هدية. وأظهر كتاباً آخر إلى مكين الدولة بأن يطلق في كل يوم من ارتفاع الثغر من العين ما يبتاع به جميع ما يحتاج إليه من الأصناف برسم الأسمطة للعساكر. وكان يستخدم عليها من يراه من الشهود. وكان تجار الثغر قد حملوا ثلاثة آلاف دينار فأبى المؤتمن قبولها وأمر بإعادتها إلى أربابها فأخذ مكين الدولة يتلطف في أن يكون عوض ذلك طرفاً وطيبا فأقسم أنه لا يقبل منهم شيئا. واستمرت الأسمطة في كل يوم ولم يقبل لأحد هدية. واتفق أن المؤتمن وصف له الطبيب دهن شمع والقاضي مكين الدولة حاضر فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضي إلى داره ليحضر الدهن المذكور فلم يكن أكثر من مسافة الطريق حتى أحضر صراً مختوماً فك عنه فوجد فيه منديل لطيف مجاوم مذهب على مداف بللور فيه ثلاث بيوت كل بيت عليه قتد ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوهر بيت دهن بمسك وبيت دهن بكافور وبيت دهن بغير طيب ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته. فلما رآه المؤتمن والحاضرون عجبوا من علو قيمة القاضي وجليل رئاسته وسعة نفسه وحلف القاضي الحرام إن عاد إلى ملكه. فقال المؤتمن قد قبلته منك ليس لحاجة إليه ولا نظر في قيمته بل لإظهار هذه الهمة وإذاعتها. وذكر أن قيمة المداف المذكور خمسمائة دينار. وخلع المؤتمن على القاضي بذلة مذهبة بطيلسان مقور وثياب حرير وقدم له دابة بمركب حلى ثقيل ثم خلع عليه في اليوم الثاني والثالث كذلك. وخلع على أخيه حلتين مكللتين مذهبتين ورزمة فيها شقق حريرية مما يختص بالنساء. وأنعم على كل من حواشيه وأصحابه. وعاد إلى القاهرة فمدحه عدة من الشعراء. وورد رسل ظهير الدين طغتكين صاحب دمشق وآق سنقر صاحب حلب بالحث على غزو الفرنج وكبيرهم علي بن حامد الحاجب. فلما وصلا باب الفتوح ترجلا وقبلاه ومشيا إلى أبواب القصور ففعلا مثل ذلك وأوقفا عند باب البحر قدر ما جلس الخليفة. فجهز عسكر في البر مقدمه حسام الملك النرسي وسار الأسطول في أربعين شينياً فوصلوا إلى عسقلان وخرجت الغارات وعادت بالغنيمة. فاجتمعت طوائف الفرنج وكتب إلى حسام الملك أن يقيم بالثغر ويلقى الفرنج عليه ولا يتعداه فخالف ذلك وتوجه مخفاً بغير ثقل ونزل على يافا فقتل وأسر. فعندما قصده الفرنج رحل وهم يتبعونه حتى وافى تبنى فلقيهم هناك فانهزم العسكر من غير قتال وقتل الراجل بأسره وعاد من بقي مهزوما إلى عسقلان. ووصل الخبر بذلك فأهم الآمر والمأمون واشتد الحنق على حسام الملك لسوء تدبيره فآل أمره بعد أمور إلى أن قتل. فيها خرج أمر المأمون إلى الواليين بمصر والقاهرة بإحضار عرفاء السقائين وإلزام المتعيشين منهم بالقاهرة بحضورهم متى دعت الحاجة إليهم ليلاً ونهاراً. ولذلك ألزم أصحاب القرب وتقرر أن يبيتوا على باب المعونة ومعهم عدة من الفعلة بالطواري والمساحي وأن يقوما لهم بالعشاء من أموالهما. وعمل بعض التجار لابنته فرحا في إحدى الآدر المعروفة بالأفراح فتسور ملاك الدار على النساء وأشرفوا عليهن والعروس في المجلى فأنكر عليهم ذلك فأساءوا وأفسدوا على الرجل ما صنعه فخرج مستغيثا فخشوا عاقبة فعلهم فما زالوا به حتى كف عن شكواهم. فلما حضر والي مصر بالمطالعة في الصباح إلى الوزير على عادته قيل له: لم لا ذكرت في مطالعتك ما جرى للتاجر الذي عمل فرح ابنته فاعتذر بأن المرسوم له ألا يذكر ما يخرج عن السلامة والعافية ولم يتصل به ما جرى في الفرح. فأسمعه ما أمضه وبين عجزه وتقصيره وقال له والسلامة والعافية فرسم بإحضار شاهدين ومهندسين وتوجهوا إلى سائر الدور المختصة بالأفراح وإحضار ملاكها فمن رغب في استمرار ملكه على حاله فليزل التطرق إليه ويكتب عليه حجة بالقسامة بذلك. ومن لم يرغب فلتؤخذ عليه الحجة بألا يوجد ملكه للأفراح ويتصرف فيه على ما يريد. فامتثل ذلك. وجرى الرسم في عمل المولد الكريم النبوي في ربيع الأول على العادة. وكتب لجميع الأعمال خلا قوص وصور وعسقلان بمطالعة كل وال منهم في مستهل كل شهر بمن حواه السجن والموجب لاعتقاله ويبين كل منهم ذلك ويعتمد فيه الحق. وسبب ذلك أنه رفع إلى المأمون أن بعض الولاة يعتقل من لا يجب عليه اعتقال لطلب رشوة فتطول مدته. وفيه قرر برسم رش ما بين البلدين مصر والقاهرة في كل يوم من اليومين اللذين يركب فيهما الخليفة مما يصرف للسقائين دينار واحد فاستمر ذلك يطلق لهم إلى الأيام الحافظية. وكان سبب إطلاق هذا القدر أنه رفع للوزير المأمون أن واليي القاهرة ومصر يأخذان جميع السقائين أرباب الجمال والدواب لرش ما بين البلدين سخرةً بغير أجرة. وفي جمادى الآخرة أعيد ثغر صور إلى ظهير الدين طغتكين صاحب دمشق وكتب له بذلك وفخم فيه وعظم ونعت بسيف امير المؤمنين وجهزت إليه الخلعة وهي بدلة طميم منديلها طوله مائة ذراع شرب فيه ثمانية وعشرون ذراعا مرقومة بذهب عراقي وثوب طميم جميعه برقم ذهب عراقي سلف المنديل والثوب ألف دينار وثوب دبيقي وسطاني وثوب سقلاطون داري وثوب عتابي وشاشية دبيقي ولفافة وجميع ذلك في تخت مبطن عليه لفافة دبيقي وغير ذلك من الكساوى برسم نسائه وأصحابه. وجهز الأمين الدولة جمشتكين صاحب صلخد بذلة مذهبة ومنديلها وعدة ثياب وغيرها. في شعبان وصلت الأساطيل بمن فيها سالمين وقد غنموا شينيين من شواني الفرنج وبطشة كبرى وعدة من النساء والرجال. وذكر للمأمون أن الأسرى المذكورين يؤخذ منهم في الفداء ما يزيد عن عشرين ألف دينار عينا فقال: والله لا أبقي منهم أحدا قد قتل لنا خمسمائة رجل يساوون مائة ألف وقد أظفر الله بما يكون ديةً عنهم لا يشاع عنا أنا بعنا الفرنج وربحنا أثمانهم عوضا عن رجالنا. وركب الخليفة بما جرت به العادة واصطفت العساكر بالعدد والأسلحة وعاد وخلع على الأمراء وعلى زمام الأسطول والرؤساء. وحضرت الحجاب المندوبين لقتل الفرنج بأنهم لما شاهدوا الحال بذلوا في خلاص أنفسهم ثلاثين ألف دينار وأنه يرجى منهم أكثر من ذلك فكتب الجواب بالإنكار وإمضاء السيف فيهم فقتل الرجال بأسرهم وقد اجتمع الناس وضجوا بالتهليل والتكبير عند قتلهم فكان أمراً مهولاً. وقد ذكر هذا اليوم عدة من الشعراء. وجرى الرسم في أسمطة شهر رمضان والركوب إلى الجمع وفي كسوة غرة شهر رمضان على العادة. وفيه سير هلال الدولة سواراً رسولاً إلى حرة اليمن وصحبته برسمها من التشريف مما لبسه الخليفة وما زج عرقه من الحلل المذهبات والملاءات الشرب المذهبة والشقق النفوسى والمغربي المقصور والإسكندراني المطرز جملة كثيرة في تخوت مدهونة مبطنة وسلال مملوءة من لحم الناقة التي نحرت بالمصلى واثنى عشر مجلساً من المساطير التي تقرأ كل خميس وعليها علامة الخليفة وكثير من النحاس القضيب والمرجان. وكتب إليها كتابا في قطع الثلثين أوله: من عبد الله ووليه المنصور أبي علي الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين ابن الإمام المستعلى بالله أمير المؤمنين صلى الله عليهما إلى الحرة الملكة السيدة الرضية الطاهرة الزكية وحيدة الزمن سيدة ملوك اليمن عدة الإسلام خالصة الإمام نصيرة الدين عصمة المسترشدين كهف المستجيرين ولية أمير المؤمنين وكافية أوليائه الميامين أدام الله تمكينها ونعمتها وأحسن توفيقها ومعونتها. وفي آخره: وأمير المؤمنين متطلع إلى علم أخبارك ومعرفة أنبائك فتواصلى بإنهاء المتجدد منها إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ويطوى مدوراً ويختم بحرير وأشرطة ذهب وعنبر ويجعل في خريطة. فيه قرئ بالجامع العتيق منشور نسخته بعد التصدير: بأننا لم نزل منذ ناطت بنا الحضرة المطهرة صلوات الله عليها الأمور وعولت على كفايتنا في سياسة الجمهور وردت إلينا النظر فيما وراء سرير خلافتها وفوضت إلى إيالتنا من مصالح دولتها وعبيدها ورعيتها في محاسن الأقعال ناظرين وعلى بسط العدل والإحسان على الكافة متوفرين وبحسن توفيق الله تعالى لنا واثقين وبمراشده الهادية مسترشدين فلا ندع وجهاً من دعوة البر إلا قصدناه ولا باباً من أبواب الخير إلا ولجناه ولا نعلم أمراً فيه قربى إلى الله سبحانه إلا وتقع المرتبة إلا أتيناه ولا شيئاً يعود بثواب الله وحسن الأحدوثة إلا اعتمدناه شيمة خصنا الله تعالى بميزتها وسجية أسبغ علينا جلاليب أمنها وسعادتها وعملاً في ذلك بشريف آراء الحضرة المطهرة صلوات الله عليها وجميل سيرتها واستمراراً على منهج الدولة الزاهرة خلد الله ملكها وكريم عادتها وذهاباً في ذلك مع سجيتها الحسنى ونشراً لأرج ذكرها في الأبعد والأدنى. والله تعالى المسئول أن يعيننا على مصالح الدنيا والدين ويقضى لنا بالفوز المبين ويصلح لنا وبنا كل فاسد وينظم لنا عقود السعود والمحامد بمنه. ولما كان أحسن ما تطرز به محاسن السير وتتناقل ذكره ألسنة البدو والحضر وتجنى ثمرته في الدنيا والآخرة وتحمد مغبته في العاجلة والآجلة التقرب إلى الله تعالى في كل أوان وابتغاء ثوابه في كل زمان لا سيما شهر رمضان الذي تزكوا فيه أفعال البر والصلاح وتتضاعف فيه الحسنات في الغدو والرواح رأينا ما خرج به أمرنا من كتب هذا المنشور بمسامحة كافة سكان الرباع السلطانية بالقاهرة ومصر من الأدر والحمامات والموانيت والمعاصر والأخونة والطواحين والعرس وجميع ما يجري في الرباع خارجاً من ريع الأحباس وريع المواريث المنصرف مستخرج ارتفاعها فيما يجري هذا المجرى من وجوه البر بأجرة شهر رمضان من كل سنة لاستقبال رمضان سنة سبع عشرة وخمسمائة وما بعدها إحسانا يسير ذكره كل مسير وتعظيماً. لحرمة هذا الشهر العظيم الخطير الذي فضله الله على جميع الشهور وأنزل فيه قرآنه المجيد وفرض صيامه على أهل التوحيد وحضهم فيه على الأفعال المزلفة لديه ووعد من عمل فيه خيراً بمضاعفة الجزاء عليه. فليعتمد العمل بما تضمته هذا المنشور وحطيطة أمره شهر رمضان عن جميع سكان الربع المذكور لاستقبال التاريخ المقدم منسوباً ذلك إلى القرب الصالحة والتجارة الرابحة ويفسح في جميع الدواوين حجة بمودعه وليجلد بالمسجد الجامع العتيق بمدينة مصر منعاً لمن يروم المطول فيه أو يفض شيئا فلما قرئ هذا المنشور ضج العامة بالدعاء ونظم فيه عدة من الشعراء وجرى الرسم في وصول كسوة العيد وهي العدة الكثيرة وتفريقها على العادة. وعمل الختم في آخر الشهر بالقصر والجوامع والمساجد وحصل الاهتمام بالعيد وركب الخليفة إلى المصلى على العادة وصلى بالناس صلاة العيد وخطب وحضر السماط. وجرى الحال في يوم عاشوراء وفي المولد الآمري على المألوف. فيه كان المولد العيسوي ففرق ما جرت به العادة من الجامعات القاهرية والجامات السميذ وقرابات الجلاب وطيافير الزلابية والبورى على أصحاب الرسوم. وعمل في شهر ربيع الأول المولد الكريم وفرق المال على الرسم. وفيها وصل رسول الأمير تاج الخلافة أبي منصور حسن بن علي بن يحيى بن تميم بن معز ابن باديس صاحب المهدية يخبر بانحيازه للدولة وأن رجار بن رجار صاحب صقلية تواصلت أذيته وقد استعد لمحاربته وسأل أن يسير لرجار يمنعه من ذلك. فسير إليه مصطنع الدولة علي بن أحمد بن زين الخد فأصلح بينهما. وفيها نقل المأمون الرصد من الجبل المطل على راشدة إلى علو باب النصر بالقاهرة. وفيها توفى ولي الدولة أبو البركات بن عبد الحقيق داعي الدعاة فاستقر عوضه أبو محمد حسن بن آدم وكان يدعى بالقاضي لأبوته وسنه واشتهاره بالعلم. فبعث الآمر بأحكام الله إلى الوزير المأمون أن يستخدم أبا الفخر صالحاً فذكر المأمون أن أكثر المجالس التي كانت تعمل في أيام النعمان بخط أبيه وأن أبا الفخر حدث السن ولا يماثل المذكور في العلم وأضيف إليه الخطابة بالجامع الأزهر مع قراءته الكتب. وورد الخبر بأن الفرنج افتدوا بغدوين رويس الملك بثمانين ألف دينار وثلاثين أسيراً من المسلمين. وكان صاحب حلب قد أسره في وقعة له مع الفرنج. وعمل ما جرى به الرسم في مواسم السنة. وفيها جرت عمارة سور الإسكندرية. وفيها حمل إلى عسقلان ثلاثة وعشرون ألفا وستمائة وأحد وثلاثون إردبا من الغلال. سنة ثمان عشرة وخمسمائة فيها ملك الفرنج مدينة صور واستمرت بأيديهم حتى زالت الدولة الفاطمية. وكان أخذهم إياها بعد محاصرتها مدة وتقاصر المأمون عن نجدتهم وأعانهم طغتكين صاحب دمشق ووصل إلى بانياس وراسل الفرنج فاستقر الأمر على أن الفرنج تستولي عليها بالأمان فخرج أهلها بما خف حمله وتفرقوا في البلاد. وكان تملكهم لها في يوم الاثنين ثالث عشري جمادى الآخرة. وفيها أمر ببناء دار واسعة ليتفرج الناس فيها عند كسر خليج القاهرة بالكراء. وذلك أن الناس عند كسر الخليج كانوا يصنعون أخشاباً متراكبةً بعضها على بعض يجلسون فوقها للتفرج يوم كسر الخليج ولم يكن هناك غير دار الأمير أبي عبد الله محمد بن المستنصر ودار ابن معشر. ولم تزل هذه الأدر الثلاثة إلى أن احترقت في نوبة شاور. فيها مات بألموت الحسن بن صباح كبير الإسماعيلية وقد تقدم أنه ورد مصر في أيام المستنصر وسار إلى المشرق بدعوته واستولى على قلعة ألموت واعتقد إمامه نزار بن المستنصر وأنكر إمامة المستعلى وإمامة الآمر. وانتدب عدة لقتل الأفضل ابن أمير الجيوش فلما تقلد المأمون البطائحي وزارة الآمر بعد قتل الأفضل بلغه أن ابن صباح والباطنية فرحوا بموت الأفضل وأنهم تطاولوا لقتل الآمر والمأمون وأنهم بعثوا طائفةً لأصحابهم بمصر بأموال. فتقدم المأمون إلى والي عسقلان بصرفه وإقامة غيره وأمره بعرض أرباب الخدم بها وألا يترك فيها إلا من هو معروف من أهل البلاد وأكد عليه في الاجتهاد والكشف عن أحوال الواصلين من التجار وغيرهم وأنه لا يثق بما يذكرونه من أسمائهم وكناهم وبلادهم بل يكشف من بعضهم عن بعض ويفرق بينهم ويبالغ في الاستقصاء. ومن يصل ممن لم تجر عادته بالمجيء إلى البلاد فليعوقه بالثغر ويطالع بحاله وما معه من البضائع ولا يمكن جمالاً من دخول مصر إلا أن يكون معروفا متردداً إلى البلاد ولا يسير قافلة إلا بعد أن يتقدم كتابه إلى الديوان بعدة من فيها وأسمائهم وأسماء غلمانهم وأسماء الجمالين وذكر أصناف البضائع ليقابل بها في مدينة بلبيس وعند وصولهم إلى الباب وأنه يكرم التجار ويكف الأذى والضرر عنهم. ثم تقدم المأمون إلى والي مصر ووالي القاهرة بأن يصقعا البلدين شارعاً شارعاً وحارةً حارةً وزقاقاً زقاقاً وخطاً خطاً ويكتبا أسماء سكانها ولا مكنا أحداً من النقلة من منزل إلى منزل حتى يستأذناه ويخرج أمره بما يعتمد في ذلك. فمضيا لذلك وحررا الأوراق بأسماء جميع سكان القاهرة ومصر وذكر خططهما والتعريف بكنية كل واحد وشهرته وصناعته وبلده ومن يصل إلى كل خط وحارة من الغرباء. فلما عرف ذلك المأمون انتدب نساء من أهل الخبرة والمعرفة للدخول إلى جميع المساكن والاطلاع على أحوال ساكنيها الباطنية ومطالعته بجميع ما يشاهدنه فيها فكانت أحوال كافة الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين أجناسهم من ساكني مصر والقاهرة تعرض عليه ولا يكاد يخفى عنه منها شيء ألبتة. فامتنع لذلك الباطنية مما كانوا قد عزموا عليه من الفتك بالآمر وبالمأمون لكفهم ثم إنه مع ذلك أركب العسكرية وفرقهم في جهات البلدين وأمرهم بالقبض على جماعة عينهم فقبض على جماعة كثيرة منهم رجل كان يقرئ أولاد الخليفة الآمر ومنهم رسل كان ابن صباح قد سيرهم بمال لينفق على من بمصر ممن يرى رأيهم. فكان هذا معدوداً من عظيم الحزم وقوة التدبير. ومع ذلك كان له القصاد والجواسيس وأصحاب الخبر في كل قطر فإذا خرج الباطني من قلاع ألموت لا تزال أخباره ترد عليه شيئاً بعد شيء منذ يخرج من مكانه حتى يرد بلبيس فيسير إليه من ينقض عليه في مكانه الذي نزل فيه ويأتيه به فيقتله. وصار من أجل ذلك وبسببه يرد عليه أخبار كل جليل وحقير من سائر مملكته حتى كان يرى ويسمع كل ما يتفق في ليل أو نهار. وامتنع من الباطنية إلى أن مات رئيسهم الحسن بن صباح بعد ما ملك من الشام جبل عاملة وحصن العليق والكهف ومصياث والخوابي وحصن الأكمة وقلعة العيدين ثم امتدت مملكته بعد موته إلى حد شرقي آذربيجان وبحر طبرستان وجرجان. سنة تسع عشرة وخمسمائة فيها قبض الخليفة الآمر على وزيره المأمون في ليلة السبت لأربع خلون من شهر رمضان وقبض على إخوته الخمسة مع ثلاثين رجلاً من أهله وخواصه واعتقله. فوجد له سبعون سرجا من ذهب مرضع ومائتا صندوق مملوءة كسوة بدنه. ووجد لأخيه المؤتمن أربعون سرجا بحلى ذهب وثلثمائة صندوق فيها كسوة بدنه ومائتا سلة ما بين بلور محكم وصيني لا يقدر على مثلها ومائة برنية مملوءة كافور قنصوري ومائة سفط مملوءة عوداً ومن ملابس النساء ما لا يحد. حمل جميع ذلك إلى القصر وصلبه مع إخوته في سنة اثنتين وعشرين. ويقال إن سبب القبض عليه أنه بعث إلى الأمير جعفر بن المستعلى أخي الآمر يعزيه بقتل أخيه الخليفة ووعده أنه يعتمد مكانه في الخلافة فلما تعذر ذلك بينهما بلغ الشيخ الأجل أبا الحسن علي بن أبي أسامة كاتب الدست وكان خصيصا بالآمر قريبا منه وكان المأمون يؤذيه كثيرا. فبلغ الخليفة الحال وبلغه أيضا أن بلغ نجيب الدولة أبا الحسن إلى اليمن وأمره أن يضرب السكة ويكتب عليها: الإمام المختار محمد بن نزار. ويقال إنه سم مبضعاً ودفعه لفصاد الخليفة فأعلم الفصاد الخليفة بالمبضع. ومولده في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وقيل في سنة تسع. وكان من ذوي الآراء والمعرفة التامة بتدبير الدول كريما واسع الصدر سفاكا للدماء شديد التحرز كثير التطلع إلى أحوال الناس من الجند والعامة فكثر الواشون والسعاة بالناس في أيامه ويقال إن أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق وأنه مات ولم يخلف شيئا فتزوجت أمه وتركته فقيرا فاتصل بإنسان يعلم البناء بمصر ثم صار يحمل الأمتعة بالسوق بمصر وأنه دخل مع الحمالين يوما إلى دار الأفضل فرآه خفيفاً رشيقاً حسن الحركة حلو الكلام فأعجب به فاستخدمه مع الفراشين بعد ما عرف بأنه ابن فلان فلم يزل يتقدم عنده حتى كبرت منزلته وعلت درجته. وهذا ليس بصحيح فإنه من أجناد المشارقة وقد تقدم أن أباه مات في زمن الأفضل بعد ما ترقت أحول ولده وأنه كان ممن يعد من أماثل أهل الدولة. ورثى بعدة قصائد. وتقدم أن المأمون كان ممن يخدم المستنصر وأنه الذي لقبه بالمأمون. على أن المشارقة زادوا في التشنيع وذكروا أنه كان يرش الماء بين القصرين وكل ذلك غير صحيح. وكان المأمون شديد المهابة في النفوس وعنده فطنة تامة وتحرز وبحث عن أخبار الناس وأحوالهم حتى إنه لا يتحدث أحد من سكان القاهرة ومصر بحديث في ليل أو نهار إلا ويبيت خبره عند المأمون ولا سيما أخبار الولاة وعمالهم. ومشت في أيامه أحوال البلاد وعمرت وساس الرعايا والأجناد وأحسن سياسته إلا أنه اتهم بأنه هو أقام أولئك الذين قتلوا الأفضل وأعدهم له وأمرهم بقتله ليجعل له بذلك يداً عند الخليفة الآمر ولأنه كان يخاف أن يموت الأفضل فيلقى من الآمر ما يكرهه لأنه كان أكبر الناس منزلةً عند الأفضل ومتحكما في جميع أموره. وكان مع ذلك محببا إلى الناس لكثرة ما يقضيه من حوائجهم ويتقرب به من الإحسان إليهم ويأخذ نفسه بالتدبير الجيد والسيرة الحسنة بحيث لو قدر موته لزار الناس قبره تبركاً به. واتهم أيضا بأنه هو الذي قتل أولاد الأفضل وأولاد أخيه الأوحد وأولاد أخيه المظفر وكانوا نحو مائة ذكر ما بين كبير وصغير فقتلوا بأجمعهم ولم يبق منهم سوى صغير نحيف يسمى أحمد أبا علي ويلقب بكتفيات فيقال إنه احتقره لما كان يرى فيه من العي والانقطاع فكان منه ما يأتي خبره إن شاء الله تعالى. واتهم أيضاً بقتل الأمير حسام الملك أفتكين صاحب الباب في أيام الأفضل لتخوفه منه وذلك أن حسام الملك دخل مرة على الآمر للسلام فلما خرج قال الآمر: والله إنك لأمير حسن فإنه كان جميلا تام القامة وفيه عجب وتيه. فبلغ ذلك المأمون فقامت قيامته وأخذ في العمل عليه حتى أخرجه في العساكر التي يقال إن عدتها عشرون ألفاً فكان من خبره على عسقلان مع الفرنج ما كان وقتل من أصحابه يومئذ ما يزيد على عشرة آلاف وعاد حسام الملك فبعثه إلى الإسكندرية ودس عليه من قتله. قال ابن الطوير: ولما دفن الأفضل استعمل الآمر هذا الرجل وكان يخاطب بالقائد من خدمة الأفضل في الوساطة دون الوزارة ونعته بجلال الإسلام. واستمر على ذلك ثم كمل له الوزارة وخلع عليه خلعة الوزارة إلا الطيلسان المقور فباشرها وكان متيقظاً قد حذق الأمور ودربها من صحبة الأفضل وطول خدمته إياه. وكان بالدار التي بالسيوفيين بالقاهرة وهي اليوم مدرسة للحنفية وأخذ يصب على تغلب الأفضل مع الآمر فصار يتغلب على الآمر في واحدة بعد واحدة من الجفاء والإقدام والآمر يملى له ويحتمله حتى استوحش كل منهما من الآخر. وكان له أخ ينعت بالمؤتمن أبي تراب حيدرة فرأى من الرأي أن يولي أخاه جانباً عظيما من ديار مصر ويجعل معه عسكر النجدة ردءاً إذا قصده الخليفة بضرر فإنهما دام أخوه يكون حاميا له فيكون هو من داخل وأخوه من خارج. وجرد معه مائة فارس من شدة الأجناد وكبرائهم وأضاف إليهم أمثالهم مثل علي بن السلار وتاج الملوك قايماز وسيف الملك الجمل ودرى الحرون وحسام الملك بسيل وكل واحد من هؤلاء جيش بمفرده والخليفة يعلم ذلك ولا يرده عليه. وزاد في معناه حتى قيل إن الخليفة اطلع على أنه ادعى الخلافة وأنه من ولد نزار من جارية خرجت من القصر وهي حامل عندما خرج نزار إلى الإسكندرية فانزعج الخليفة لذلك. ثم إنه سير إلى اليمن الموفق علي بن نجيب الدولة وكان من أهل الأدب فصيحاً داهية ليحقق لنسبه هناك ويدعو الناس إلى بيعته فلما قيل للآمر هذا ما شك فيه وأخذ يتحيل في الإيقاع به بعد عود أخيه من ولايات الإسكندرية والغربية والبحيرة والجزيرتين والدقهلية والمرتاحية فاختلق الآمر قضية يلتمسها من الإسكندرية وهو مقيم بها فسير أستاذاً من ثقاته ظاهره فيما ندبه إليه وباطنه في العلم على المأمون وأخيه وقال له: أحرص على اجتماعك بعلي ابن السلار في المسايرة وسلم عليه عنا وقل له وقل له إننا ما زلنا نلتفت إليه وندخره لمهماتنا ونتحقق فيه الموافاة لنا وإنا بحمد الله قادرون على المكافأة بالخير أكثر من غيرنا وقد تلونت أحوال المأمون وبالغ في عقوقنا بأشياء لا يتسع لها ذكرنا. ومقصودنا أن تكتم عنا ما نقول لك. فلما بلغه الأستاذ ذلك عن الآمر قال: السمع والطاعة لمولانا وأنا مملوكه وأذل نفسي في خدمته. فقال الأستاذ: هكذا والله قال عنك. قال ابن السلار: فما يأمر به قال: تحد رجالك بأجمعهم في الانفصال عن المؤتمن أنت ومن تثق به. فلما تقرر ذلك اتفق علي بن السلار وهو وقايماز ودرى الحرون وكانوا أمراء الجماعة فتفرقوا عنه وتبعهم الباقون فانفرد المؤتمن واستوحش وكاتب أخاه المأمون بذلك فما اتسع له أن يتتبع الأمراء ولا ينكر عليهم ليرجعوا إلى أخيه لعلمه بتغير الخليفة عليه مخافة أن يفسد أمره ظاهرا وباطنا. فحضر إلى الخليفة يوم سلام على عادة الوزراء وتقدم وقال: يا مولانا صلوات الله عليك وصل كتاب أخي يتذمم من طول مقامه خارج القاهرة وأسفه على ما يفوته من خدمة مولانا بالمباشرة ويسأل الفسحة له في العودة إلى بابه الكريم فقال: مرحبا وأهلا وهذا كان رأينا ونحن مشتاقون إليه وإنما قصدنا رضاك فيما رتبته له. يقدم على بركة الله. فكوتب عن الخليفة بالعود وأن يرتب في ولاياته من يرضاه. فامتثل ذلك. ودخل القاهرة فجلس الخليفة له في غير وقت الجلوس فمثل بين يديه وأكرمه وأدناه وخلع عليه بالتشريف المفخم. فلما دخل شهر رمضان وفيه السماط كل ليلة بقاعة الذهب ويحضر الوزير وإخوته وأصحابه فحضر المأمون وأخوه المؤتمن السماط أول ليلة فأكرمهما الآمر بما أخرجه لهما مما كانت يده فيه وأرسل رسالة إلى المؤتمن ليستأنس بحضوره السماط مع أخيه فلم يتسع لهما مع هذه المكارمة الانقطاع. وحضرا ثاني ليلة فزاد في إكرامهما ثم أمر بأن يدخل المأمون لمؤاكلته خاصة دون أخيه فدخل إليه ولم يتقدمه أحد من الوزراء بمثل ذلك يعنى بهذه المنزلة. وخرج هو وأخوه وأكد عليهما ألا ينقطعا وخلع عليهما من داخل الدار من الثياب الدارية. ثم حضرا ثالث ليلة فاستدعى المأمون إلى الخليفة فلما جلس معه على المائدة قال قد جفونا المؤتمن واستدعاه فدخل وصارا في قبضته. وكان قد رتب لهما من يأخذهما فعند خروجهما للمضي قبض عليهما واعتقلهما عنده في خزانة وسير بالحوطة على دورهما. ثم أمر بإحضار الشيخ الأجل أبي الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست لينشيء شيئاً في شأنهما يقرؤه على المنبر غداً فوجد الشيخ أبو الحسن بمصر لعيادة مريض فتقدم إلى والي القاهرة في الليل بأن يمضي إلى مصر لإحضاره. فظن والي القاهرة أنه طلب لغير ذلك وكان يقال له سعد الدولة الأحدب فمضى إليه وأزعجه من مكانه وسبه أقبح سب وأراد إحضاره إلى القاهرة ماشياً. فأحضره إلى الخليفة وهو ميت لا حراك به فقال له ما هذا فأخبره بقضيته مع الوالي فغضب على الوالي وأمر بخلع أخفافه من رجليه وصفعه بهما حتى تقطعا على قفاه وصرفه من الولاية. وأطلع الشيخ أبا الحسن على قضية المأمون وأخيه فقال يا مولانا: هما نشو أيامك ومماليك دولتك. فقال لبعض الأستاذين خذ هذا الشيخ وصوبه إلى المذكورين لينظرهما في اعتقالهما وينقطع رجاؤه منهما. فأدخله إليهما فرآهما مكبلين في الحديد وعليهما احتياط عظيم فأنشأ للوقت سجلاً كان من استفتاحه: أما بعد فإن محمد بن فاتك استنجح فما نجح واستصلح فما صلح وجهل رفع قدره فغدا لهبوط وقابل الإحسان إليه بدواعي القنوط. وكل ذلك في تلك الليلة. فلما أصبح الصباح جلس الخليفة في الشباك بالإيوان ونصب كرسي الدعوة أمامه وطلع قاضي القضاة عليه وقرأه بعد اجتماع الأمراء وأرباب الرتب والعوام فلم ينتطح فيها عنزان. ويقال إن الخليفة كان يقول: أعظم ذنوبه عندي ما جرى منه في حق صور وإخراجها من يد الإسلام إلى الكفر. وبقيا في الاعتقال هما وأميران اتهما في خزانة البنود. وسير لإحضار الذي كان أنفذه المأمون إلى اليمن ليقتلهم جميعا. وتفرغ الآمر لنفسه ولم يبق له فعل ولا مزاج وبقي بغير وزير. وأقيم صاحبا ديوان الاستخراج بما يجب من زكاة ومقس أحدهما مسلم يقال له جعفر بن عبد المنعم بن أبي قيراط والآخر سامري يقال له أبو يعقوب إبراهيم وأقيم معهما مستوف لهاتين المعاملتين وكان راهبا فكانوا يستخرجون ذلك من أربابه ويدخل صاحبا الديوان إلى الآمر في كل وقت ومعهما المصحف والتوراة فيحلفان له أنهما لا يتعرضان إلا لمن يجب عليه لبيت المال حق. فيحملها في ذلك على الصدق وربما اشتطا على الناس وزاد عليهم ما لا يجب زيادته فتأذى بسببهما جماعة والآمر لا يطلع على ذلك ولا أشاربه. واستمرا على ذلك مديدة. سنة عشرين وخمسمائة فيها جهز الآمر المنتضى بن مسافر الغنوي بخلع سنية وتحف مصرية وثلاثين ألف دينار للأمير البرسقي صاحب الموصل فلما كان في أثناء الطريق سمع بموته فرجع بما معه إلى الآمر. وفيها قدم الأمير الرئيس مهران بن عبد الرحيم مصنف سيرة الفرنج الخارجين على بلاد الإسلام في هذه السنين برسالة من صاحب حلب. وفي شوال كان بدء أمر الراهب. وذلك أن راهباً من النصارى يعرف بأبي نجاح ابن فنا كتب إلى الآمر رقعة في الكتاب النصارى من الأقباط يذكر أنهم قد أخذوا أموال الدولة واستولوا عليها وضمن أنه يحقق في جهاتهم ما يملأ بيوت الأموال. فتقدم الخليفة بأن يمكن من الدواوين ويساعد على ما يخرجه من الحسبانات ولقب بالأب القديس الروحاني النفيس أبي الآباء سيد الرؤساء مقدم دين النصرانية وسيد البطريركية ثالث عشر الحواريين. وكان الآمر لما انفرد بالأمر بعد القبض على وزيره المأمون وبقي بغير وزير دانت له الدنيا. وكان معظماً كثير الجود إلى الحد الذي لا مزيد عليه فكثر الخير في تلك الأيام وفرح الناس بالفوائد وتردد المسافرون والتجار وجلبت البضائع وزاد الحاصل في الخزائن من كل صنف مضافاً إلى ما كان فيها وحسنت السيرة في الرعية وأباح للناس والجنود ما كان الأفضل حظره عليهم من الملبوس والتجمل فما برح الناس في خيرات دارة ونعم متزايدة إلى أن تمكن الراهب من الدواوين واشتد في مطالبة النصارى وضمن في جهاتهم الأموال وحملها أولاً فأولاً وكان قد حصل لهم في أيام الأفضل والمأمون ما يزيد عن الوصف. فلما تمكن الراهب من النصارى واستطاب ما فيها ركب الآمر لينظر جوسق البغدادي أبي الحسن علي بن محمد بن سعدون بالقرافة فإنه كان من أحسن جواسق القرافة وأفخرها بناء فلما قرب منه سقط عن فرسه إلى الأرض فهنئ بالسلامة وقيل في ذلك عدة أشعار. سنة إحدى وعشرين وخمسمائة فيها أحضر الموفق في الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجيب الدولة داعي اليمن الذي سيره الوزير المأمون بن البطائحي فدخل في يوم عاشوراء على جمل بطرطور ومعه مشاعلية بهيئة ملائكة وخلفه قرد يصفعه وهو يقول بقوة نفس: والله لا ألتفت. فأدخل خزانة البنود وسجن مع المأمون. فيها كثرت مصادر الراهب للكتاب والعمال وتسلسل الأمر إلى التجار وأرباب الأموال وندب معه مقداد والي مصر وسعد الدولة والي القاهرة للشد منه فتنكد الناس وخرج كثير من أهل مصر إلى الآفاق. وأخذ الراهب يحسن للآمر أن يحمل إليه مال الأيتام من مودع الحكم. وفيها مات قاضي القضاة جلال الملك تاج الأحكام أبو الحجاج يوسف بن أيوب ابن إسماعيل المغربي الأندلسي وكان أولا قد أقرأ المؤتمن أخا المأمون القرآن والنحو فولاه قضاء الغربية ثم نقل منها إلى قضاء القضاة بعد واقعة ابن الرسعني بوساطة المؤتمن. واستقر بعد وفاته في قضاء القضاة أبو عبد الله محمد بن هبة الله بن الميسر القيسراني. وكان أبو الحجاج عاقلا. عرض عليه الآمر أن يلي الدواوين مضافاً إلى ما يتولاه من قضاء القضاة والمظالم فاستشار في ذلك بعض أصحابه فأشار بالقبول فقال: إني لا أحسن صنعة الكتابة فقال له: تجعل بين يديك من يوضح لك الأمر والتدبير ويدلك على سر الصناعة. فقال: ألا ترى إلا أني قد رضيت أن أكون من الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلة وعائد واستحضرت من يدلني على ما أجهل فكيف أصنع بين يدي السلطان لقد حكمت إذاً على نفسي بحكم حيف وأوردتها خطة خسف. وحمد الله. سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة فيها وصلت رأس بهرام الباطني. وكان طغتكين أتابك الملقب ظهير الدين قد وهب له بانياس خوفاً من شره فأفسد جماعةً بالشام وجرت له خطوب آلت إلى قتله وحملت رأسه إلى الآمر. وفيها رتب قاضي القضاة أبا عبيد الله محمد بن ميسر مشارفاً على ثقة الدولة ابن أبي الرداد في قياس الماء وعمارة المقياس وعمل مصالحة فاستمر إلى أن قتل ابن ميسر ثم بطل فلم ينظر أحد في هذه المشارفة. وفي رجب عمل للآمر في الخاقانية وكانت من خاص الخليفة قصر من ورد فسار إليها وحده بضيافة عظيمة. فلما استقر هناك خرج إليه أمير يقال له حسام الملك أحد الأمراء الذين كانوا مع المؤتمن أخي المأمون في سفره في البلاد التي كان يتولاها وتخاذل مع ابن السلار عنه وهو لابس لأمة حربه والتمس المثول بين يدي الخليفة. فاستثقل ما جاء به في ذلك الوقت لأنه مناف لما فيه الخليفة من الراحة والنزهة فمنع من ذلك وصد عنه فقال لجماعة من حواشي الخليفة: أنتم منافقون على الخليفة إن لم أصل إليه وهو يطالبكم بذلك ويعاقبكم عليه. فأطلعوا الخليفة على أمره فأمر بإحضاره. فقال: يا مولانا لمن تركت أعداءك يعني المأمون وأخاه هذا والعهد قريب أأمنت الغدر فما أجابه إلا وهو على ظهور الرهاويج من الخيل فلم تمض ساعة إلا وهو بالقصر يمضي إلى مكان إعتقال المأمون أخيه فوجدهما على حالهما فزادهما وثاقاً وحراسة. فلما كان في ليلة العشرين منه قتل المأمون وصالح بن الضيف وكان من نشو المأمون وقد سجن معه وعلي بن إبراهيم بن نجيب الدولة المحضر من اليمن وأخرجوا إلى سقاية ريدان في الرمل قبالة البستان الكبير خارج باب الفتوح فصلب أبدانهم بغير رءوس وفي صدر كل واحد رقعة فيها اسمه. فبلغ الأمر الناس فشكوا فيهم وقالوا: هم غير المذكورين. فأمر بإخراج رءوسهم وأقيمت على أبدانهم. فيها كانت ولاية ابن ميسر القضاء في ذي الحجة على ما ذكر بعضهم وقيل بل كانت كما تقدم ولقب بثقة الدولة القاضي الأمين سناء الملك شرف الأحكام قاضي القضاة عمدة أمير المؤمنين أبي عبد الله محمد بن القاضي أبي الفرج هبة الله بن ميسر. فلازم الانتصاب والجلوس واعتمد التثبت في الأحكام وعدل جماعة فبلغت عدة الشهود في أيامه مائة وعشرين شاهدا وكانوا دون الثلاثين. ثم وردت إليه المظالم فاستوضح أحوال المعتقلين وطالع بهم الآمر وكان فيهم عدة قد يئسوا من الفرج فاستأذن الخليفة وأفرج عنهم. وتكلم مع الآمر في أمر التجار وما نزل بهم من المصادرات فأمر الخليفة بكتابة منشورهم في معناهم قرئ على المنابر. فيها كثرت وقائع أهل القسر على الناس وتقرب كثير من الكتاب الظلمة بعورات الناس إلى الخليفة فاشتدت مطالبات الناس بالأموال وقبل قول كل رافع شيئاً على أحد وأخذ الناس بما رموا به وضمن عدة من الناس أشياء لم تجر عادة بضمانها وأحدثت رسوم لم تكن فيما تقدم. وذلك أنهم لم يقدروا على تصريح القول بالمصادرة فعملوا ما ذكر فحصلت الشناعة وخرج من بالبلد من التجار. وكثرت مصادرات القاطنين بمصر والقاهرة وعظم قدر ما حمل من أموال هذه الجهات. فاتسع عطاء الخليفة حتى وهب يوماً لغلامه برغش المنعوت بالعادل ثمانين ألف دينار ثم سأله بعد مدة يسيرة عما فعله فيما وهبه فقال: يا مولانا تصدقت ووهبت أكثر. فأعجب ذلك الآمر وفرح وشكره على فعله. ووهب مرة لغلامة هزار الملك جوامرد المنعوت بالأفضل مثل ذلك. وكانا أخص غلمانه وأقربهم منه وأشرفهم عنده منزلة وكانا أسمح خلق الله وكان الناس في أيامهما لا يوجد فيهم من يشكو الفقر لا بمصر ولا بالقاهرة فإن هزار الملوك كانت صدقته في كل يوم جمعة راتباً قد قرره بالقرافة أربعة آلاف درهم في ألف كاغدة على يد الثقة ابن الصعيدي وغزال الوكيل وكانت عطاياه من يده لا تنقص عن عشرة دنانير أبداً ولا يخلو ركوبه إلى القصر وعوده منه من أحد يقف له ويطلب منه. وكان برغش يعطي الجمل الكبار التي يغني بها الطالب من المائة دينار إلى المائتين وأكثر. وبلغ علم التي يقال لها جمعة مكنون الآمرية أن الآمر سيدها قد وهب لكل من غلاميه المذكورين ثمانين ألف دينار وكان الآمر يحبها وأصدقها أربعة عشر ألف دينار وولدت منه ابنة سماها ست القصور فلما دخل عليها عشية اليوم الذي وهبهما فيه هذا المال قامت وأغلقت عليها مقصورتها وقالت: ما تدخل إلي أو تهب لي ما وهبت لكل منهما. فقال: الساعة. وأحضر الفراشين وحمل كل عشرة كيساً فيه عشرة آلاف دينار عينا. فلما صار إليها هذا المال ومبلغه مائتا ألف دينار ذهباً فتحت الباب له ودخل. |
12-21-2012, 09:09 PM | #33 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة
فيها عم البلاء بمصر جميع الرؤساء والقضاة والكتاب والسوقة من الراهب بحيث لم يبق أحد إلا وناله مه مكروه إما من ضرب أو نهب أو أخذ مال. وكان يجلس في قاعة الخطابة من جامع عمرو بن العاص ويستدعي الناس للمصادرة. فطلب في بعض الأيام رجلا يعرف بابن الفرس من العدول المميزين المبجلين في الناس فأهانه وأخرق به فخرج إلى الجامع في يوم جمعة وقام على رجليه وقال: يأهل مصر انظروا عدل مولانا الآمر في تمكينه النصراني من المسلمين. فارتج الناس لكلامه وكادت تكون فتنة فاتصل ذلك بخواص الخليفة فأبلغوه إياه وخوفوه عاقبة ذلك وطالعوه بما حل بالخلق. وكان الراهب قد أخذ من شخص خادم يقال له جديحو سبعين ألف دينار بخرج من مائة ألف دينار فصار يشكو وكان كثير البضائع والتجارات والمقارضين فتظلم واشتهر أمره إلى أن بلغ خبره إلى أستاذ من أستاذى القصر له من العمر نحو مائة وعشرين سنة يقال له لامع وكان قد انقطع في منزله بالقصر بعد ما حج غير مرة وأنشأ جلبة بعيذاب يقال لها اللامعية تحمل الحاج فاتفق جواز الآمر على مكانه فسأل عنه فقيل له: إنه لا يستطيع النهوض إلى خدمتك. فدخل إليه وسأله عن حاله فقال: شغلي بسمعة مولانا أشد علي من نفسي. فقال له الآمر: لأي شيء فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس قد تم عليهم من الشدة ما لا أحسن أصفه وربما نسب ذلك إليك. وشرح له أمر الراهب ابن أبي نجاح وصاحبي الديوان جعفر بن عبد المنعم المعروف بابن أبي قيراط وأبي يعقوب إبراهيم السامري الكاتب وما أخذوه من هذا الخادم. فحلف الآمر إنه ما علم أنهم بلغوا بالناس إلى هذا المبلغ وأنه يستدعي صاحبي الديوان في كل وقت ويحلفهما على المصحف وعلى التوراة وأن الراهب لم يجعل إلا مستوفياً لما يستخرج من الأموال وليس له معهما حديث ألبتة. فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين إنهم قد اتفقوا على أذى الناس وقد جعلك الله خليفةً في الأرض واسترعاك على عباده وكل راع مسئول عن رعيته. فشق على الخليفة وعمل فيه كلام الأستاذ وخرج فمات بات حتى صرف صاحبي الديوان واعتقلهما ليستعيد منهما ما أخذاه للناس ظلماً واستدعى الراهب وكان بحضرته رجل من الأشراف إنّ الذي شرّفت من أجله يزعم هذا أنّه كاذب فقال الآمر للراهب: يا راهب ماذا تقول فسكت. فأمر حينئذ والي مصر بأخذه إلى الشرطة وضربه بالنعال حتى يموت. فمضى به إلى شرطة مصر وما زال يضرب بالنعال حتى مات فجر بكعبه إلى عند كرسي الجسر مسحوباً وسمر على لوح وطرح في بحر النيل فكان كلما وصل إلى ساحل من سواحل مصر وهو منحدر دفعوه إلى البحر فلم يزل حتى خرج إلى البحر الملح واشتهر ذكره وسارت الركبان بهلاكه. وكان هذا الراهب أولا من أشمون طناح وترهب على يد أبي إسحاق بن أبي اليمن وزير ابن عبد المسيح متولى ديوان أسفل الأرض ثم قدم إلى القاهرة واتصل بخدمة ولي الدولة أبي البركات يحنا بن أبي الليث كاتب المجلس. فلما قتل الوزير المأمون اتصل بالخليفة الآمر وبذل له في مصادرة الكتاب النصارى مائة ألف دينار فأطلق يده فيهم واسترسل أذاه حتى شملت مضرته كل أحد. وكان يعمل له في تنيس ودمياط ملابس مخصوصة به من الصوف الأبيض المنسوج بالذهب فيلبسها ومن فوقها غفارة ديباج ويتطيب بعدة مثاقيل مسك في كل يوم فكانت رائحته تشتم من مسافة بعيدة. وكان يركب الحمر الفارهة بالسروج المحلاة بالذهب والفضة ويجلس بقاعة ولما قتل وجد له في مقطع ثلثمائة طراحة سامان محشوة جدداً لم تستعمل قد رصت إلى قرب السقف وهذا من نوع واحد فكيف ما عداه! ولما قتل وعرف الآمر ما كان يعمل في الناس من أنواع الأذى خشي من الله واستحيا من الناس وكره مساءلة الفقهاء من الإسماعيلية عن ذلك وعن كفارة هذا الذنب لأنه إمام وشرط الإمام أن يكون معصوماً. فسير إلى الفقيه سلطان بن رشا شيخ الفقيه مجلى وكان خليفة الحكم مع من يثق به يستفتيه في أمر الراهب وما يكفر عنه فقال: يرد ما صار إليه من الأموال إلى أربابها. فرد عليه: إني والله ما أعرفهم ولا أقدر على ذلك ولكن أعتق الرقاب وأتصدق. فقال الفقيه: الخليفة قادر على أن يعتق ويتصدق ولا يتأثر لذلك ولكن يصوم فإنه عبادة شاقة على مثله. فقال: أصوم الدهر. فقال: لا ولكن الصوم الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم صوم يوم وفطر يوم. فقال: لا أقدر على ذلك. فقال: يصوم رجب وشعبان ورمضان. ففعل ذلك وتحرم في صومه وبره هذه الأشهر من كل ما ينكر في الديانة. سنة أربع وعشرين وخمسمائة في ربيع الأول ولد للآمر ولد سماه أبا القاسم الطيب فجعل ولي عهده وأمر فزينت القاهرة ومصر وعملت الملاهي في الإيوانات وأبواب القصور وكسيت العساكر وزينت القصور. وأخرج الآمر من خزائنه وذخائره قماشاً ومصاغاً ما بين آلات وأواني من ذهب وفضة وجوهر فزين بها وعلق الإيوان جميعه بالستور والسلاح. واستمر الحال على هذا أربعة عشر يوماً. وأحضر الكبش الذي يعق به عن المولود وعليه جل من ديباج وفي عنقه قلائد الفضة فذبح بحضرة الخليفة الآمر. وجيء بالمولود فشرف قاضي القضاة ابن ميسر بحمله ونثرت الدنانير على رءوس الناس. ومدت الأسمطة العظيمة بعد ما كتب إلى الفيوم والقيلوبية والشرقية فأحضرت منها الفواكه وملئ القصر منها ومن غيرها من ملاذ النفوس وبخر بالعنبر والعود والند حتى امتلأ الجو من دخانه. فيها تواترت الأخبار بتخويف الآمر من اغتيال النزارية وتحذيره منهم وإعلامه بأنه قد خرج منهم قوم من المشرق يريدون قتله فتحرز احترازاً كبيرا بحيث إنه كان لا يصل أحد من قطر من الأقطار إلا ويفتش ويستقصى عنه. وأقام عدةً من ثقاته يتلقون القوافل ليتعرفوا أحوال الواصلين ويكشفوا عنهم كشفاً جليا. وكلما اشتد الأمر كثر الخوف. واتصل به أن جماعةً من النزارية حصلوا بالقاهرة ومصر فاحترز وتحيل في قبضهم فلم يقدر لما أراده الله وفشا في الناس أمرهم وكانوا عشرة فخافوا أن يظفر بهم فاجتمعوا في بيت وقالوا إنه قد فشا أمرنا ولا نأمن أن يظفر بنا واشتوروا. فقال أحدهم: الرأي أن تقتلوا رجلاً منكم وتلقوا برأسه بين القصرين لتنظروا إن عرفها الآمر وكان عمره يوم قتل أربعاً وثلاثين سنة وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما ومدة خلافته تسع وعشرون سنة وثمانية أشهر وخمسة عشر يوما وما زال محكوما عليه حتى قتل الأفضل فتزايد أمره عما كان عليه أيام الأفضل. فلما قبض على وزيره المأمون استبد بالأمور وتصرف في سائر أحوال المملكة وأكثر من الركوب ورتب لركوبه ثلاثة أيام من كل أسبوع وهي يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الثلاثاء فإذا لم يتهيأ له الركوب في أحد هذه الأيام ركب في يوم غيره. فكان يمضي أبداً في يومي الثلاثاء والسبت إلى النزهة في بستان البعل والتاج والخمس وجوه وقبة الهواء من ظاهر القاهرة أو إلى دار الملك بمصر أو بالهودج الذي أنشأه بجزيرة مصر التي يقال لها اليوم الروضة. وكان يتجول في أيام النيل في القصر بخدمه ويسكن في اللؤلؤة المطلة على خليج القاهرة. وكان الناس يوم ركوبه يخرجون من القاهرة ومصر بمعايشهم ويجلسون للنظر إليه فيكون كيوم العيد. وصار الناس مدة أيامه التي استبد فيها في لهو وعيش رغد لكثرة عطائه وعطاء حواشيه وأستاذيه لا سيما غلامه بزغش ورفيقه هزار الملوك جوامرد حتى إنه لا يكاد يوجد في مصر والقاهرة من يشكو زمانه لبسطهم الرزق بين الناس وتوسعهم في العطاء. ثم تنكد عيش الناس بقيام الراهب وكثرة مصادراته وشره حينئذ الآمر في أخذ أموال الناس فقبحت سيرته وكثر ظلمه واغتصابه لأملاك كثيرة من أملاك الناس مع ما فيه من التجرؤ على سفك الدماء وارتكاب المحذورات واستحسان القبائح. وفي أيامه ملك الفرنج كثيرا من المعاقل والحصون بسواحل البلاد الشامية فملكت عكا في شعبان سنة سبع وتسعين وعرقة في رجب سنة اثنتين وخمسمائة واستولوا على مدينة طرابلس الشام بالسيف في يوم الاثنين لإحدى عشرة خلت من ذي الحجة سنة اثنتين فتتيقنوا أن حلاكم قد ذكرت له فتعملوا الحيلة في فراركم من مصر وإن لم يعرفها فتطمئنوا حينئذ وتعرفوا أن القوم في غفلة. فقالوا: ما يتسع لنا قتل واحد منا ينقص عددنا وما بذاك أمرنا. فقال: أليس هذا من مصلحتنا ومصلحة من تلزمنا طاعته وما دللتكم إلا على نفسي. وأسرع بسكين فذبح بها نفسه فمات وأخذوا رأسه ورموها في الليل بين القصرين وأصبحوا ينظرون ما سبق فلما رئيت الرأس واجتمع الناس عليها لم يقل أحد إنه عرفها فحملت إلى الوالي فأحضر عرفاء الأسواق على أرباب المعايش وأوقفهم عليها فلم يعرفها أحد. فأحضر أصحاب الأرباع بالحارات فلم يعرفوها. ففرح النزارية واطمأنوا بالإقاقة في مصر لقضاء مرادهم. وكان الآمر كثير الفرج محبا للهو فركب في يوم الثلاثاء الرابع من ذي القعدة يريد أن يجيء إلى الهودج الذي بناه بجزيرة مصر لمحبوبته البدرية ومن العادة في الركوب أن يشاع في أرباب الخدم بالموكب جهة قصد الخليفة حتى لا يتفرقوا عنه فعلم النزارية أين يقصد فجاءوا إلى الجزيرة المذكورة ودخلوا فرناً قبالة الطالع من الجسر إلى البر ودفعوا إلى الفران دراهم ليعمل لهم فطيراً بسمن وعسل فبينما هم في أكله وإذا بالخليفة الآمر قد عبر من كرسي الجسر بمصر وجاز عليه وقد تفرق عنه الركابية ومن يصونه بسبب ضيق الجسر. فلما طلع من ذا الجسر يريد العبور إلى الجزيرة وثبوا عليه وثبة رجل واحد وضربوه بالسكاكين وواحد منهم صار خلفه على كفل الدابة وضربه عدة ضربات. فأدركهم الناس وقتلوهم وكانوا تسعة وحمل الآمر في عشاري إلى اللؤلؤة وكانت أيام النيل فمات من يومه وحمل من اللؤلؤة وهو ميت إلى القصر. وخمسمائة وملكوا بانياس وجبيل بالأمان لثمان بقين من ذي الحجة منها. وملكوا قلعة تبنين في سنة إحدى عشرة وخمسمائة وتسلموا مدينة صور في سنة ثمان عشرة وخمسمائة. وكثرت المرافعات في أيامه. واستخدم عدة من الكتاب الظلمة الأشرار وضمن أشياء لم تجر العادة بتضمينها وأخذ رسوماً لم تكن فيما تقدم. وعمل دكة عليها خركاة في بركة الحبش وعمر في بركة الحبش مكاناً سماه تنيس وموضعاً آخر سماه دمياط. وجدد قصر القرافة وعمل تحته مصطبة للصوفية فكان يجلس في أعلاه ويرقص أهل الطريقة قدامه والشمع موقود والمجامر تعبق بالبخور والأسمطة تمد بكل صنف لذيذ من الأطعمة والحلوى. وفرق في ليلة عند تواجد ابن الجوهري الواعظ وتمزيق رقعته على من حضر وعلى الفقراء ألف نصفية ونثر عليهم من الطاق ألف دينار تخاطفوها. وبنى الهودج لمحبوبته العالية البدرية في جزيرة الروضة. ولهذه البدرية وابن مياح من بني عمها مع الآمر أحاديث صارت كأحاديث البطال وشبهها قد ذكرتها عند جزيرة الروضة من هذا الكتاب. وكان المنفق في مطابخه وأسمطته شيء كثير فكان عدة ما يذبح له في كل شهر خمسة آلاف رأس من الضأن خاصة سوى ما يذبح مما سوى ذلك وثمن الرأس منها ثلاثة دنانير. وكان أسمر شديد السمرة يحفظ القرآن وخطه ضعيفاً. وكانت نفسه تحدثه بالسفر إلى الشرق والغارة على بغداد وأعد لذلك سروجاً مجوفة القرابيص وبطنها بصفائح من قصدير ليحمل فيها الماء وعمل لها فماً فيه صفارة فإذا دعت الحاجة إلى الماء شرب منه الفارس فكان كل سرج منها سبعة أرطال من ماء وعمل عدة من حجال الخيل من الديباج وقال في ذلك: دع الّلوم عني لست مني بموثق فلا بدّ لي من صدمة المتحقّق ومن شعره أيضا: أما والذي حجّت إلى ركن بيته جراهيم ركبانٌ مقلدةٌ شهبا لأقتحمنّ الحرب حتّى يقال لي ملكت زمام الحرب فاعتزل الحربا وينزل روح اللّه عيسى بن مريم فيرضى بنا صحباً ونرضى به صحباً وكانت وزارة الأفضل بن أمير الجيوش وكان حاجراً عليه ليس له معه أمر ولا نهي ولا تعود له كلمة إلى أن قتل ثم وزر له المأمون محمد بن فاتك البطائحي فصار له في وزارته أمر ونهي وعادت الأسمطة على ما كانت عليه قديما وكان الأفضل قد نقلها فصارت تعمل أيام الأعياد والمواسم في دار الملك بمصر حيث كان يسكن. فلما قتل المأمون استبد ولم يستوزر أحداً ودامت له الدنيا. وقضاته: ابن ذكا النابلسي تم ولى أبو الفضل الجليس نعمة بن بشير فطلب الإقامة فولى بعده الرشيد أبو عبد الله محمد بن قاسم بن زيد الصقلي ومات فاستقر بعده الجليس نعمة بن بشير النابلسي مرة ثانية ثم صرف بأبي الفتح مسلم بن الرسعني وعزل بأبي الحجاج يوسف بن أبي أيوب المغربي فلما مات استقر من بعده أبو عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسر القيسراني وقتل الآمر وهو قاض. وكتاب الإنشاء في أيامه: سناء الملك أبو محمد بن محمد الزيدي الحسيني والشيخ الأجل أبو الحسن بن أبي أسامة الحلبي والشيخ تاج الرئاسة أبو القاسم ابن الصيرفي وابن أبي الدم اليهودي. وكان نقش خاتمه: الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين. وفي أيامه نزع السعر فبلغ القمح كل أردب بدينار. وكان الناس قد ألفوا الرخاء في أيام الأفضل والمأمون وبعد عهدهم بالغلاء فقلقوا لذلك. ومن نوادر الآمر أنه عاشر الخلفاء الفاطميين وهو العاشر في النسب أيضا ولم يل عشرة على نسق واحد ليس بينه أخ ولا عم ولا ابن عم غير الآمر. وعرض عليه فصل في التوحيد من جملته: وهو المحذر بقوارع التهديد من يوم الوعد والوعيد فقال: إذا حذر من الوعد كما يحذر من الوعيد فما الفرق بينهما وأمر أن يقال: المحذر بقوارع التهديد من هول يوم الوعيد. واستدرك في فصل آخر في ذكر علي رضي الله عنه قوله: وهو السابق إلى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته فقال: إن قوله السابق غير مستقيم لأنه إن أراد التخصيص فذلك غير صحيح إذ كانت خديجة سبقت إلى الإسلام والسابق منهم جائز أن يكون واحداً وأن يكون جماعة والله تعالى يقول: " والسَّابِقُونَ السَّابقُونَ " وليس في ذلك دليل على تخصيص واحد بالتقدم على الباقين وذكر مثالا فقال: خيل الحلبة إذا أقبلت منها عشرة لا يخرج فيها واحد عن واحد قيل لها السبق وقيل لكل واحد منها سابق. وأمر أن يقال: أول سابق إلى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته. الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد ولد بعسقلان في المحرم سنة سبع وقيل سنة ثمان وستين وأربعمائة لما أخرج المستنصر ابنه أبا القاسم مع بقية أولاده في أيام الشدة فكان يقال له الأمير عبد المجيد العسقلاني ابن عم مولانا. ولما قتل النزارية الآمر كان كبار غلمانه العادل بزغش وهزار الملوك جوامرد وينعت بالأفضل فعمدا إلى الأمير أبي الميمون عبد المجيد وكان أكبر الجماعة الأقارب سنا وقالا: إن الخليفة المنتقل قال قبل وفاته بأسبوع عن نفسه: المسكين المقتول بالسكين وأشار إلى أن الجهة الفلانية حامل منه وأنه رأى رؤيا تدل أنها ستلد ولداً ذكرا وهو الخليفة من بعده وأن كفالته للأمير عبد المجيد أبي الميمون. فجلس المذكور كفيلاً ونعت بالحافظ لدين الله في يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة أربع وعشرين وخمسمائة يوم قتل الآمر بأحكام الله وتقرر أن يكون هزار الملوك وزيراً وأن يكون الأمير السعيد أبو الفتح يانس الحافظي متولى الباب أسفهسلاراً وقرئ سجل في الإيوان بهذا التقرير والحافظ في الشباك جالس تولى قراءته قاضي القضاة ابن ميسر على كرسي نصب له أمام الحافظ بحضور أرباب الدولة. وخلع على هزار الملوك خلع الوزارة وقد اجتمع في بين القصرين خمسة آلاف فارس وراجل وفيهم رضوان بن ولخشي أحد الأمراء المميزين أرباب الشجاعة وهو رأس الجمع وفي داخل القاعة بالقصر أيضا جماعة فيهم بزغش وقد شق عليه تقدم هزار الملوك وتقلده الوزارة فنظر إلى أبي علي أحمد بن الأفضل الملقب كتيفات وهو جالس فقال: يا مولاي الأجل أنا أشح عليك أن تطيل الجلوس حتى يخرج هذا الفاعل الضانع وزيراً فتخدمه ويسومك المشي في ركابه اخرج إلى دارك وإذا قضى الله مضيت منها لهنائه. وكان ظاهر هذا القول مكارمة أبي علي وباطنه أنه علم أن أكثر العسكر الواقفين بين القصرين لا يرغبون وزارة هزار الملوك فدبر أنهم إذا وقعت أعينهم على أبي علي تعلقوا به وأقاموه وزيراً فيفسد أمر هزار الملوك. فقام أبو علي ليخرج فمنعه طغج أحد نواب الباب وكان فطناً ذكيا فقال له بزغش: لم تمنع هذا المولى من الخروج فقال: كيف لا أمنعه من الخروج إلى هذا الجمع ولا يؤمن تعلق العسكرية فيقع له ما وقع للآخر. فهزه بزغش وقال له: دع عنك الفضول. وقام بنفسه وأخرجه إلى آخر دهاليز القصر فما هو إلا أن خرج من باب القصر ورآه رضوان بن ولخشي والجماعة وقد علموا أن هزار الملوك قد خلع عليه للوزارة وأنه سيخرج إليهم فتواثبوا إلى أبي علي وقالوا هو الوزير بن الوزير بن الوزير. وأراد أن ينفلت منهم واعتذر أنه شرب دواء فلم يقبل منه وطلب له في الحال خيمة وبيت صدار فضربت في جانب من بين القصرين وأدخلوه فيها. وقام الصالح وثار العسكر بموافقتهم على وزارته والرضا به وصاحوا أن لا سبيل أن يلي علينا هذا الصانع الفاعل وأعلنوا بشتمه. فغلقت أبواب القصر كلها واشتد الأمر فأحضر ضرغام وأصحابه سلالم وأقاموها إلى طاقات المنظرة وأطلقوا عليها أميراً يقال له ابن شاهنشاه فلما أشرف على طاق المنظرة جاء أستاذو الخليفة وأنكروا عليه فعله فقال هذه فتنة تقوم ما تسر فما الذي خلعتم عليه! ويحصل من ذلك على الخليفة من العوام وسوء أدب جهال العسكر ما لا يتلافى وما هذا شيء والله إلا نصيحة لمولانا فإنني قد علمت من رأى القوم ما لا علمتم. أخبروا مولانا عني بهذا. فمضى الأستاذون إلى الحافظ وأبلغوه ما قال ابن شاهنشاه وهزار الملوك بين يديه بخلع الوزارة يسمع القول فقال له الحافظ: ها أنت ذا تسمع ما يقال. فقال: يا مولانا أنا في مجلسك ووزارتي بوصية خليفة قبلك فاتركني أخرج لهؤلاء الفعلة الصنعة. فقال: لا سبيل لفتح باب القصر في مثل هذا الوقت وقد فعلنا في أمرك ما رتب لك وهذه الخلع عليك ولكن قد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: لا رأى لمن لا يطاع. واشتد الأمر وكثر تموير العسكر. فقيل لابن شاهنشاه: قد أجبتم إلى وزارة أبي علي وما نحن له كارهون. فأعاد ذلك على رضوان وأصحابه فقالوا: قل له يسلم لنا هزار الملوك. فامتنع من ذلك وقد تكاثر القوم على سور القصر وعزموا على طلب المذكور ولا بد. فقال الحافظ له. قم واحتجب في مكان عسى ندبر في قضيتك أمراً نصرف به هذا الجمع عنا وعنك. فنزعت الخلع عنه وأحيط به فصار إلى مكان قتل فيه قتلةً مستورة وألقيت رأسه إلى القوم فسكنوا. واستدعي بالخلع لأبي علي فأفيضت عليه في يوم الأربعاء خامسه وركب إلى دار الوزارة والجماعة مشاة في ركابه. فكانت وزارة هزار الملك نصف يوم بغير تصرف. وكان قد اصطفاه الآمر لنفسه هو وبزغش قبل موته بمدة ورد له المظالم والنظر في أحوال الجند وهو نوع من الوزارة وكان ينعت بالأفضل. ووقع النهب في القاهرة من باب الفتوح إلى باب زويلة ونهبت القيسارية وكان فيها أكثب ما يملكه أهل القاهرة لأنها كانت مخزنهم ومذ بنيت لم يكن فيها أمر يكره فكان هذا أول حادث حدث على القاهرة من النهب والطمع. وطيف برأس هزار الملوك على رمح. واستقرت الوزارة لأبي علي أحمد بن الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي وكان يلقب بكتيفات في يوم الخميس سادس عشر ذي القعدة. فأول ما بدأ به أنه أحاط بالحافظ وسجنه في خزانة فيما بين الإيوان وباب العيد. ويقال إن رضوان بن ولخشي دخل إليه وقيده فقال له الحافظ: أنت فحل الأمراء. فنعت بذلك. وتمكن أبو علي واستولى على جميع ما في القصر من الأموال والذخائر وحمل الجميع إلى دار الوزارة بعد أن فرق أكثر ما كان الآمر جمعه من الغلال في الناس على سبيل الإنعام. وكان السعر غاليا يباع القمح بنحو الدينار كل إردب فأراد أبو علي أن يحسن سمعته فأمر أن تفتح المخازن وأطلق أكثر ما كان فيها وكانت مئي ألوف أرادب. ورد على الناس الأموال التي فضلت في بيت المال من مال المصادرة التي كان قد أخذها الآمر في أيام مباشرة الراهب وما كتبت به الخطوط قبل ذلك وكان الذي وجد خمسين ألف دينار. فاستبشر الناس به وفرحوا فرحاً ما ثبتت منه عقولهم وضجوا بالدعاء له في سائر أعمال الديار المصرية وأعلنوا بذكر معايب الآمر ومثالبه وأقطع الحجرية البلاد وظهر فرح الناس وابتهاجهم. وأكرم بزغش العادل الذي أشار عليه بالخروج من القصر إكراماً كثيرا. وكانت قد ضربت ألواح على عدة أملاك في أيام الآمر فأعيدت إلى أربابها. وكان إماميا متشدداً فالتفت عليه الإمامية ولعبوا به حتى أظهر المذهب الإمامي وتزايد الأمر فيه إلى التأذين فانفعل بهم وحسنوا له الدعوة للقائم المنتظر فضرب الدراهم باسمه ونقش عليها: الله الصمد الإمام محمد. وخطب بنفسه في يوم الجمعة وكان أكثر خلق الله تخلفا وأقلهم علماً فغلط في الخطبة غلطة فاحشة صحفها فلم ينكر عليه أحد. واشتد ضرره على أهل القصر من الإرعاد والإبراق وأكثر من إزعاجهم والتفتيش على ولد الآمر وعلى يانس صاحب الباب وعلى صبيان الخاص الآمرية. وأراد أن يخلع الحافظ ويقتله بمن قتله الآمر من إخوته. وكان الآمر لما احتاط على موجود الأفضل بعد قتله بلغه عن أولاد الأفضل كلام في حقه يستقبح ذكره فأقام عليهم الحجة عندما مثلوا بحضرته وقال: أبوكم الأفضل غلامي ولا مال له. فسفه عليه أحدهم فغضب وقتلهم. فأراد أبو علي بتفتيشه على الحمل الذي ذكر أنه من الآمر أن يظفر به ليقتله بإخوته فلم يظهر الحمل ولا قدر أيضا على قتل الحافظ ولا خلعه فاعتقله كما تقدم وخطب للقائم المنتظر تمويها. فنفرت قلوب أهل الدولة منه وقامت نفسوهم منه. وتعصب قوم من الأجناد من خاص الخليفة بترتيب يانس لهم وفيها قبض على جعفر بن عبد المنعم بن أبي قيراط وعلى أبي يعقوب ابراهيم السامري ونهب الجند دورهما وحبسا في حبس المعونة ثم أخرجا ميتين. سنة خمس وعشرين وخمسمائة فيها رتب أبو علي بن الأفضل في الحكم أربعة قضاة فصار كل قاض يحكم بمذهبه ويورث بمذهبه فكان قاضي الشافعية سلطان بن إبراهيم بن المسلم بن رشا وقاضي المالكية أبو عبد الله محمد بن أبي محمد عبد المولى بن أبي عبد الله محمد بن عبد الله اللبني المغربي وقاضي الإسماعيلية أبو الفضائل هبة الله بن عبد الله بن حسن بن محمد القاضي فخر الأمناء الأنصاري المعروف بابن الأزرق وقاضي الإمامية القاضي المفضل أبو القاسم ابن هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن أبي كامل. ولم يسمع بمثله هنا في الملة الإسلامية قبل ذلك. |
12-21-2012, 09:10 PM | #34 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة ست وعشرين وخمسمائة
في يوم الثلاثاء سادس عشر المحرم ركب أبو علي أحمد بن الأفضل إلى رأس الطابية ليعرق فرساً في الميدان بالبستان الكبير خارج باب الفتوح من القاهرة وللعب بالكرة على عادته فجاء وهو هناك عشرة من صبيان الخاص الذين تحالفوا على قتله متى ظفروا به جميعاً أو فرادى فصاح أبو علي عادة من يسابق بخيل: راحت فقال العشرة: عليك وحملوا عليه وطعنوه حتى قتل. فأدركه أستاذ من أستاذيه وألقى نفسه عليه فقتلوه معه. واجتمع الأربعون عناناً واحداً وجاءوا إلى القصر وفيهم يانس وكان مستوحشاً من أبي علي فخرجوا الحافظ من الخزانة التي كان معتقلاً بها وفكوا عنه القيد وأجلسوه في الشباك على منصة الخلافة وقالوا: ما حركنا على هذا إلا الأمير يانس. فاجتمع الناس وأخذ له العهد على أنه ولي عهد كفيل لمن لم يذكر اسمه. ونهب في هذا اليوم كثير من الأسواق والدور والحوانيت وصار ذلك عادة مستقرة وشيئاً معهوداً في كل فتنة. وحمل رأس أبي علي إلى القصر. وكان قد أسقط منذ أقامه الجند ذكر إسماعيل بن جعفر الصادق الذي تنسب إليه الطائفة الإسماعيلية. وأزال من الأذان قولهم فيه: حي على خير العمل محمد وعلي خير البشر وأسقط ذكر الحافظ من الخطبة واخترع لنفسه دعاءً يدعى به على المنابر وهو: السيد الأجل الأفضل سيد ممالك أرباب الدول المحامي عن حوزة الدين وناشر جناح العدل على المسلمين الأقربين والأبعدين ناصر إمام الحق في حالي غيبته وحضوره والقائم في نصرته بماضي سيفه وصائب رأيه وتدبيره أمين الله على عباده وهادي القضاة إلى اتباع شرع الحق واعتماده ومرشد دعاته المؤمنين إلى واضح بيانه وإرشاده مولى النعم رافع الجور عن الأمم مالك فضيلتي السيف والقلم أبو علي أحمد بن السيد الأجل الأفضل أبي القاسم شاهنشاه أمير الجيوش. وكانت مدة تحكه سنة وشهراً وعشرة أيام ثم حمل بعد قتله ودفن بتربة أمير الجيوش ظاهر باب النصر. وخلع على السعيد أبي الفتح يانس الأرمني صاحب الباب خلع الوزارة وكان من غلمان الأفضل بن أمير الجيوش العقلاء وله هيبة وعنده تماسك في الأمور وحفظ للقوانين. فهدأت الدهماء وصلحت الأحوال واستقرت الخلافة للحافظ وحمل جميع ما كان قد نقل إلى دار الوزارة من الأموال والآلات وأعيد إلى القصر. ولم يحدث يانس شيئا إلا أنه تخوف من صبيان الخاص وحدثته نفسه أنهم قد جسروا على الملوك وأنه ربما غضبوا منه ففعلوا به ما فعلوه بغيره وأحسوا منه بذلك فتفرقوا عنه. فلما تأكدت الوحشة بينهم وبينه ركب في خاصته وغلمانه وأركب العسكر والتقوا قبالة باب التبانين بين القصرين فقتل ما يزيد عن ثلثمائة فارس من أعيانهم فيهم قتلة أبي علي أحمد بن الأفضل. وكانوا نحو خمسمائة فارس فكسر شوكتهم وأضعفهم فلم يبق منهم من يؤبه له ولا وكانت له في النفوس مكانة فثقل على الحافظ وتخيل منه فأحس بذلك وصار كل منهما يدبر على الآخر. فبدأ الوزير يانس بحاشية الخليفة فقبض على قاضي القضاة وداعي الدعاة أبي الفخر صالح بن عبد الله بن رجاء وأبي الفتوح بن قادوس فقتلهما. وبلغه شيء يكرهه عن أستاذ من خاص الخليفة فقبض عليه من غير مشاورة الحافظ واعتقله بخزانة البنود وضرب عنقه من ليلته. فاستبدت الوحشة بينه وبين الحافظ وخشى من زيادة معناه فقال الحافظ لطبيبه: اكفني أمره بمأكل أو مشرب. فأبى الطبيب ذلك خوفا من سوء العاقبة. ويقال إن الحافظ توصل إلى أن سم يانس في ماء المستراح فانفتح دبره واتسع حتى ما بقي بقدر على الجلوس. فقال الطبيب: يا أمير المؤمنين قد أمكنت الفرصة وبلغت مقصودك فلو أن مولانا عاده في هذه المرضة اكتسبت حسن الأحدوثة وهذا المرض ليس دواؤه إلا السكون ولا شيء أضر عليه من الحركة والانزعاج وهو كما يسمع بقصد مولانا تحرك واهتم بلقائه وانزعج وفي ذلك تلاف نفسه. فقبل ذلك وجاء لعيادته. فلما رآه يانس قام للقائه وخرج عن فراشه فأطال الحافظ جلوسه عنده ومحادثته فلم يقم حتى سقطت أمعاؤه ومات من ليلته في سادس عشري ذي الحجة. وكانت وزارته تسعة أشهر وأياما. وترك ولدين كفلهما الحافظ. وكان يانس هذا قد أهداه باديس جد عباس الوزير الآتي ذكره إن شاء الله تعالى إلى الأفضل بن أمير الجيوش فترقى في الخدم إلى أن تأمر وتقدم وولى الباب وهي أعظم رتب الأمراء وكنى بأبي الفتح ولقب بالسعيد ثم نعت في وزارته بناصر الجيوش سيف الإسلام. وكان عظيم الهمة بعيد الغور كثير الشر شديد الهيبة. وفيها استقرت حال الحافظ لدين الله وبويع له بيعة ثانية لما عمل الحمل. قال الشريف محمد بن أسعد الجواني: رأيت صغيراً في القرافة الكبرى ويسمى قفيفة سألت عنه قيل هذا ولد الآمر: لما ولى الحافظ ولي عهده من يولد استولى على الأمر وولد هذا الولد فكتم حاله وأخرج في قفة على وجهها سلق وكرات وستر أمره إلى أن ركب بعد ذلك ووشى به فأخذ وقتل. ولما تمكن الحافظ قرئ سجل بإمامته وركب من باب العيد إلى باب الذهب بزي الخلفاء في ثالث ربيع الأول ورفع عن الناس بواقي مكس الغلة. وأمر بأن يدعى له على المنابر بهذا الدعاء وهو: اللهم صل على الذي شيدت به الدين بعد أن رام الأعداء دثوره وأعززت الإسلام بأن جعلت طلوعه على الأمة وظهوره وجعلته آية لمن تدبر الحقائق بباطن البصيرة مولانا وسيدنا وإمام عصرنا وزماننا عبد المجيد أبي الميمون وفيها صرف أبو عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسر عن قضاء القضاة في أول ربيع الأول وقرر مكانه سراج الدين أبو الثريا نجم بن جعفر وأضيفت إليه الدعوة فقيل له قاضي القضاة وداعي الدعاة وذلك وقت العشاء الآخرة من ليلة الخميس لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة. ولما مات يانس تولى الحافظ الأمر بنفسه ولم يستوزر أحداً وأحسن السيرة. ويقال إن يانس لما قتل القاضي أبا الفخر سلم الحكم إلى سراج الدين أبي الثريا نجم بن جعفر. وفيها جهز الحافظ الأمير المنتضى أبا الفوارس وثاب بن مسافر الغنوي رسولاً في الرابع من ذي القعدة بجواب شمس الملوك صاحب دمشق وأصحبه الخلع السنية وأسفاط الثياب والخيل المسومة ومالاً متوفراً. فوصل إلى دمشق وتلقى أحسن تلق وقبلت الألطاف منه وقرئ كتابه. وأقام إلى أن أعيد من القابلة. وفيها خرج أبو عبد الله الحسين بن نزار بن المستنصر وكان قد توجه إلى المغرب مستخفيا وجمع هناك جموعاً كثيرة وعاد. فبعث الحافظ إلى مقدمي عسكره يستميلهم. فلما وصل دير الزجاج والحمام اغتالوه وقتلوه فانفض جمعه. فيها حشد جماعة من العبيد بالأعمال الشرقية فخرج إليهم عسكر كانت بينهم وبينه حروب. وفيها سلم الحافظ أمر الديوان إلى الشريف معتمد الدولة علي بن جعفر بن غسان المعروف بابن العساف وصرف يوحنا بن أبي الليث لأشياء نقمها عليه وسعوا فيه عنده بأنه كان سبباً فيما عمله أبو علي أحمد بن الأفضل من تفريق ما فرقه من الأموال لأهله وأقاربه. واستخدم الحافظ أيضا أخا معتمد الدولة في نقابة الأشراف وجعله جليسا وكان عنده أدب ومعرفة بعلم الفلك وكان الحافظ يحب هذا العلم. وفيها قبض على ابن عبد الكريم تربية الآمر فوجد له ثلثمائة وستون منديلا مذهبة وعلى مثالها ثلثمائة وستون بذلة مذهبة فكان يلبس كل يوم بذلة. وكل منديل وهي العمامة على مسمار فضة. ووجد له خمسمائة نرجسية ذهبا وفضة ومائتا صندوق فيها ثياب ملونات ومائة حسكة ذهبا وفضة ومن الجوهر ما يعجز عن وصفه. سنة ثمان وعشرين وخمسمائة فيها عهد الحافظ إلى ولده سليمان وكان أسن أولاده وأحبهم إليه وأقامه ليسد مكان الوزير ويستريح من مقاساة الوزراء وجفائهم عليه ومضايقتهم إياه في أوامره ونواهيه فمات بعد ولاية العهد بشهرين فحزن عليه مدة. ثم جعل ابنه حيدرة ولي عهده ونصبه للنظر في المظالم فشق ذلك على أخيه حسن لأنه كان يروم ذلك لكثرة أمواله وتلاده وحواشيه وموكبه بحيث كان له ديوان مفرد. وما زالت عقارب العداوة تدب بينهما حتى وقعت الفتنة بين الطائفية الجيوشية والطائفة الريحانية وكانت شوكة الريحانية قوية والجند يشنئونهم خوفا منهم فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين وصاح الجند: يا حسن يا منصور يا للحسنية. والتقى العسكران فقتل بينهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل. فكانت أول مصيبة نزلت بالدولة من فقد رجالها ونقص عدد عساكرها ولم يسلم من الريحانية إلا من ألقى نفسه في بحر النيل من ناحية المقس. واستظهر حسن وصار الأمر إليه فانضم له أوباش العسكر وزعارهم وفرق فيهم الزرد وسماهم صبيان الزرد وصاروا لا يفارقونه ويحفون به إذا ركب ويلازمون داره إذا نزل. فقامت قيامة الناس وقبض على ابن العساف وقتله واختفى منه الحافظ وحيدرة وجد في طلب حيدرة. وهتك بالأوباش الذين اختارهم حرمة القصر وخرق ناموسه من كونه نغص على أبيه وأخيه وصاروا يحسنون له كل رذيلة ويحرونه على أذى الناس. فأخذ الحافظ في تلافي الأمر مع حسن لينصلح وعهد إليه بالخلافة في يوم الخميس لأربع بقين من شهر رمضان وأركبه بالشعار ونعت بولي عهد المؤمنين. وكتب له بذلك سجلاً قرئ على المنابر فكان يقال على المنابر: اللهم شيد ببقاء ولي عهد المؤمنين أركان خلافته وذلل سيوف الاقتدار في نصره وكفايته وأعنه على مصالح بلاده ورعيته واجمع شمله به وبكافة السادة إخوته الذين أطلعتهم في سماء مملكته بدوراً لا يغيرها المحاق وقمعت ببأسهم كل مرتد من أهل الشقاق والنفاق وشددت بهم أزر الإمامة وجعلت الخلافة فيهم إلى يوم القيامة. فلم يزده ذلك إلا شراً وتعديا فضيق على أبيه وبالغ في مضرته. فسير الحافظ وفي الدولة إسحاق أحد الأستاذين المحنكين إلى الصعيد ليجمع ما قدر عليه من الريحانية فمضى واستصرخ على حسن وجمع من الأمم ما لا يعلمه إلا الله وسار بهم. فبلغ ذلك حسناً فجهز إليه عسكراً عرمرماً وخرج فالتقى الجمعان. وهبت ريح سوداء في وجوه الواصلين وركبهم عسكر حسن فلم يفلت منهم إلا القليل وغرق أكثرهم في البحر وقتلوا وأخذ الأستاذ إسحاق وأدخل إلى القاهرة على جمل برأسه طرطور لبد أحمر. فلما وصل بين القصرين رمى بالنشاب حتى مات ورمي إليهم من القصر الغربي أستاذ آخر فقتلوه وقتل الأمير شرف الأمراء. فلما اشتد الأمر على الحافظ عمل حيلة وكتب ورقة ورماها إلى ولده حسن فيها: يا ولدي أنت على كل حال ولدي ولو عمل كل منا لصاحبه ما يكره الآخر ما أراد أن يصيبه مكروه. ولا يحملني قلبين وقد انتهى الأمر إلي أن أمراء الدولة فلاناً وفلاناً وسماهم له وأنك قد شددت وطأتك عليهم وخافوك وأنهم معولون على الفتك بك فخذ حذرك يا ولدي. فلما وقف حسن على الورقة قامت قيامته. فلما اجتمع أولئك الأمراء في داره للسلام عليه أمر صبيان الزرد الذين اختارهم وصار يثق بهم فقتلوهم بأجمعهم وأخذ ما في دورهم. فاشتدت مصيبة الدولة بفقد من قتل من الأمراء الذين كانوا أركان الدولة وهم أصحاب الرأي والمعرفة فوهت واختلت لقلة الرجال وعدم الكفاة. ومن حين قتل حسن الأمراء تخوفه باقي الجند ونفرت نفوسهم منه فإنه كان جريئا عنيفاً بحاثاً عن الناس يريد إقلاب الدولة وتغييرها لتقدم أصحابه فأكثر من مصادرة الناس وقتل سراج الدين أبا الثريا نجماً في يوم الخميس ثامن شوال. وكان أبو الثريا في أول أمره خاملاً في الناس ثم سمع قوله في العدالة أيام الآمر. فلما قبض أحمد بن الأفضل علي أبي الفخر وسجنه عنده بدار الوزارة وقد كان الداعي أيام الآمر طلب من يكون داعيا فاستخدم نجماً هذا داعياً ولم يقف على ما كان عنده من الدهاء. فلما كان في وزارة يانس جمع إليه الحكم مع الدعوة فلما مات يانس وانفرد الحافظ بالأمر بعده حظي نجم عنده ورقاه إلى أعلى المراتب وصار يدبر الدولة. وحسن عنده نصرة طائفة الإسماعيلية والانتقام ممن كان يؤذيهم في أيام أحمد بن الأفضل فتأذى بهذا خلق كثير وأثبت طائفة سماهم المؤمنين وجعل لهم زماماً قتله حسن بن الحافظ. ولما قتل الشريف بن العباس وأخذ نجم يعادي أمراء الدولة ورؤساءها ولا ينظر في عاقبة وكانوا قد حسدوه على قربه من الحافظ وتمكنه منه ومطاوعته له بحيث لا يعمل شيئا إلا برأيه فلما تمكن حسن بن الحافظ أغروه به فقتله وقتل معه جماعة. ورد القضاء لابن ميسر وخلع عليه في يوم الخميس ثاني ذي القعدة. وفيها مات القاضي المكين أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسين بن حديد بن حمدون الكناني قاضي الإسكندرية بثغر رشيد وقد عاد من القاهرة في جمادى الآخرة ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة. وكانت له مدة في القضاء وهو الذي كان سببا في اغتيال أبي الصلت أمية الأندلس. وقد ذكره السلفي وأثنى عليه ورثى بعدة قصائد. وفيها مات أبو عبد الله الحسين بن أبي الفضل بن الحسين الزاهد الناطق بالحكم المعروف بابن بشرى الجوهري الواعظ ابن الواعظ ابن الواعظ ابن الواعظ في جمادى الأولى. وكان حلو الوعظ إلا أنه تعرض في آخر عمره لما لا يعنيه فنفاه الحافظ إلى دمياط وذلك أن الآمر لما مات ترك جارية حاملاً فقام الحافظ بعده في الخلافة على أن يكون كفيلاً للحمل حتى يكبر فاتفق أنه ولد وخافت أمه عليه من الحافظ فجعلته في قفة من خوص وجعلت فوقه بصلاً وكراثاً وجزراً حتى لا يفطن به وبعثته في قماطه تحت الحوائج في القفة إلى القرافة وأدخل به إلى مسجد أبي تراب الصواف وأرضعته المرضعة وخفي أمره عن الحافظ حتى كبر وكان يعرف بين الصبيان بقفيفة. فلما حان نفعه نم عليه ابن الجوهري هذا إلى الحافظ فأخذ الصبي وفصده فمات وخلع على ابن الجوهري ثم نفاه إلى دمياط فمات بها. سنة تسع وعشرين وخمسمائة فيها عظم أمر حسن بن الحافظ وقويت شوكته وتأكدت العداوة بينه وبين من بقي من الأمراء والأجناد واشتد خوفهم منه وعزموا على خلع الحافظ من الخلافة وخلع ابنه حسن من ولاية العهد وعزله عن الأمر. فاجتمعوا بين القصرين وهم نحو العشرة آلاف ما بين فارس وراجل وبعثوا إلى الحافظ فشكوا ما فيه من ابنه حسن وأرادوا إزالته عنهم. فعجز حسن عن مقاومتهم ولم يبق معه سوى الراجل من الجيوشية ومن يقول بقولهم من العسكر الغرباء. فتحير ولم يجد بدا من الفرار منهم إلى أبيه فصار إليه وكان قد نزل بالقصر الغربي ففتح سردابا بين القصرين ووصل إلى أبيه بالقصر الشرقي من تحت الأرض وتحصن بالقصر. فبادر الحافظ بالقبض عليه وقيده وأرسل إلى الأمراء يخبرهم بالقبض على حسن فأجمعوا على طلبه ليقتلوه. فبعث إليهم يقبح مرادهم منه أن يقتل ولده وأنه قد أزال عنهم أمره وضمن لهم أنه لا يتصرف أبدا ووعدهم بالزيادة في الأرزاق والإقطاعات. فلم يقبلوا ذلك وقالوا: إما نحن وإما هو. وأحضروا الأحطاب والنيران لإحراق القصر وبالغوا في الجرأة على الحافظ. فلم يجد من ينتصر به عليهم لأنهم أنصاره وجنده الذين يستطيل بهم على غيرهم فألجأته الضرورة إلى أن استمهلهم ثلاثة أيام ليتروى فيما يعمل. فرأى أنه لا ينفك من هذه النازلة العظيمة إلا بقتل ابنه لتنحسم المباينة بينه وبين العسكر التي لا يأمن إن استمرت أن تأتي على نفسه هو فإنهم لم يبرحوا من بين القصرين. فاستدعى طبيبيه أبا منصور وابن قرقة فبدأ بأبي منصور اليهودي وفاوضه في عمل سقية لابنه فتحرج من ذلك وأنكر معرفته كل الإنكار وحلف برأس الخليفة وعلى التوراة أنه لم يقف على شيء من هذا. فتركه وأحضر ابن قرقة وكان يلي الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح والسروج وفاوضه في ذلك فقال: الساعة ولا يتقطع منها الجسد بل تفيض النفس لا غير. فأحضرها من يومه وألزم الحافظ ابنه حسنا بمن ندبه من الصقالبة فأكرهوه على شربها فمات في يوم الثلاثاء ثالث عشري جمادى الآخرة. ونقل للقوم سراً: قد كان ما أردتم فامضوا إلى دوركم. فلم يثقوا بذلك وقالوا لا بد أن يشاهده منا من نثق به وندبوا منهم امرأ يعرف بالجرأة والصر يقال له المعظم جلال الدولة محمد ويعرف بجلب راغب الآمري فدخل إلى حيث حسن بن الحافظ فإذا هو مسجى بثوب ملاءة فكشف عن وجهه وأخرج من وسطه سكينا وغرزه في عدة مواضع من بدنه حتى تيقن أنه ميت وانصرف إلى أصحابه وأخبرهم فتفرقوا. وكان تاج الدولة بهرا الأرمني قد انفلت من حسن بن الحافظ وولي الغربية فلما علم أن النفوس جميعها من البدو والحضر قد انحرفت عن حسن جمع مقطعي الغربية والأرمن والعربان وطلب القاهرة ويقال كان ذلك بمباطنة من الحافظ فما وصل إلى القاهرة حتى غابت حشوده في القرى والضياع ونهبوها. وعندما وصل إلى القاهرة يوم الخميس وقت العصر الحادي عشر من جمادى الآخرة التف عليه من بها من الأمراء والأجناد وأبادوا أكثر الجيوشية والإسكندرية والفرحية ومن يقول بقولهم من الغز الغرباء. ونهب أوباش الناس ما قدروا عليه. ولما قتل حسن وسكنت الدهماء قبض الحافظ على الطبيب ابن قرقة وقتله بخزانة البنود وارتجع جمع أملاكه وموجوده وكان يلي الاستعمالات بدار الديباج وخزائن السلاح والسروج. وأنعم على أبي منصور الطبيب وجعله رئيساً على اليهود وصارت له نعم جليلة. وفيها كانت وزارة بهرام الأرمني النصراني الملقب تاج الدولة. وكان السبب في ولايته الوزارة أنه جرت فتنة بين الأجناد والسودان عندما قتل حسن بن الحافظ قوي فيها السودان على الأجناد وأخرجوهم من القاهرة فإن السودان كانوا مع حسن دون الأجناد فإنهم الذين حملوا أباه الحافظ على قتله. وقدم بهرام بالحشد كما تقدم فوجد حسناً قد مات فمسكه الأجناد بظاهر القاهرة وأدخلوه على الحافظ لدين الله في يوم الخميس بعد العصر الحادي عشر من جمادى الآخرة لتولية الوزارة فخلع عليه في يوم الأحد رابع عشره ثم خلع عليه ثانيا يوم الخميس ثامن عشره خلع الوزارة ونعت بسيف الإسلام تاج الخلافة وهو نصراني مع كراهة الحافظ لذلك لتسكن الفتنة ولم يرد إليه شيئاً من الأمور الشرعية. فلم يدخل في مشكل لأنه كان عاقلا سيوساً حسن التدبير. وتقدم كثير من حواشي الحافظ إليه ينكرون عليه ولاية بهرام مع كونه نصرانيا وقالوا: لا يرضى المسلمون بهذا ومن شرط الوزير أن يرقى مع الإمام المنبر في الأعياد ليزرر عليه المزررة الحاجزة بينه وبين الناس والقضاة نواب الوزير من زمن أمير الجيوش ويذكرون دائماً النيابة عنه في الكتب الحكمية النافذة إلى الآفاق وكتب الأنكحة. فقال: إذا رضينا نحن فمن يخالفنا وهو وزير السيف وأما صعود المنبر فيستنيب عنه قاضي القضاة وأما ذكره في الكتب الحكمية فلا فشق على الناس وزارته وتطاول النصارى في أيامه على المسلمين. وكان هو قد أحسن السيرة وساس الرعية وأدى الطاعة للخليفة وأنفق في الجند جملةً من الأموال ودبر الأمور فاستقامت له الأحوال وراسله الملوك وزال ما كان في البلد من الفتن فلم ينكر عليه سوى أنه نصراني. وكان يقعد يوم الجمعة عن الصلاة فلا يحضر بل يعدل إلى دكان بمفرده حتى يصلي الخليفة بالناس. وأقبل الأرمن يردون إلى القاهرة ومصر من كل جهة حتى صار بها منهم عالم عظيم. ووصل إليه ابن أخيه وكان يعرف بالسبع الأحمر فكثر القيل والقال وأطلق أسيراً من الفرنج كان من أكابرهم فأنكر الناس ذلك ورفعوا فيه النصائح للحافظ وأكثروا من الإنكار. وكان رضوان بن ولخشى حينئذ صاحب الباب وهو شجاع كاتب فبلغ بهرام أنه يهزأ به في قوله وفعله فثقل عليه وأخذ يعمل على إخراجه من القاهرة وولى أخاه الباساك قوص وفيها توفى الأديب أبو نصر ظافر بن القاسم بن منصور بن عبد الله الجروي الجذامي الإسكندراني المعروف بالحداد بمصر. |
12-21-2012, 09:11 PM | #35 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة ثلاثين وخمسمائة
فيها أخرج بهرام الأمير رضوان بن ولخشى من القاهرة لولاية عسقلان وقيل بل كان خروجه في سلخ رجب من السنة الماضية. فلما وصل إليها وجد فيها جماعة من الأرمن قد وصلوا في البحر يريدون القاهرة فناكدهم ومنع كثيراً منهم فبلغ ذلك الوزير بهرام فشق عليه وصرفه عن عسقلان واستدعاه فقدم إلى القاهرة. وشكره الناس على منعه الأرمن من الوصول إلى القاهرة فلم يطق بهرام إقامته معه فولاه الغربية في صفر إبعاداً له عنه. وفيها ملك رجار بن رجار ملك صقلية جربة ونازل طرابلس الغرب فانهزم عنها سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فيها تكاثر حضور أقارب بهرام وإخوته وأهله وقومه ومجيئهم من ناحية تل باشر وكانوا مقيمين بها ولهم فيها كبير منهم يتولى أمرهم وقدموا أيضا بلاد الأرمن حتى صار منهم بديار مصر نحو الثلاثين ألف إنسان. فعظم ضررهم بالمسلمين وكثرت استطالتهم واشتد جورهم وتظاهروا بدين النصرانية وأكثروا من بناء الكنائس والديارات وصار كل رئيس منهم يبني له كنيسةً بجوار داره. وتفاقم الأمر. فخاف الناس منهم أن يغيروا الملة الإسلامية ويغلبوا على البلاد فيردوها دار ووردت الأخبار من قوص بأن الباساك أخا بهرام قد جار على الناس واستباح أموالهم وبالغ في أذيتهم وظلمهم فاشتد ذلك على الناس وعظم على الأمراء ما نزل بالمسلمين فبعثوا إلى أبي الفتح رضوان بن ولخشى وكان مقدماً فيهم لكثرة نعوته بفحل الأمراء وهو يومئذ يتولى بالغربية يشكون إليه ما حل بالمسلمين ويستحثونه على المصير وإنقاذهم مما نزل بهم. فلما وصلت إليه كتب الأمراء تشمر لطلب الوزارة ورقى المنبر خطيبا بنفسه فخطب خطبة بليغةً حرض فيها الناس على الجهاد في سبيل الله والاجتماع لقتال بهرام وشيعته النصارى من الأرمن. وكان حينئذ بمدينة سخا ثم نزل وحشد الناس من العربان وغيرهم حتى استجاب له نحو من ثلاثين ألفا فأخرج لهم كتب الخليفة الحافظ إليه بالتقدم بالمسير ونزع الوزارة من يد بهرام إذ تبين أن ليس من أهل الملة. وسار بهم إلى دجوة وبهرام لا ينزعج. فلما قرب رضوان جمع بهرام الأرمن إليه وقال لهم: اعلموا أننا قوم غرباء لم نزل نخدم هذه الدولة والآن فقد كثر بغضهم لأيامنا وما كنت بالذي أكون عبد قوم وأخدمهم من حال الصبا فلما بلغني الكبر أقاتلهم لا ضربت في وجوههم بسيف أبدا. سيروا. وأخذ أمراء الدولة وعساكرها يخرجون شيئاً بعد شيء إلى رضوان. واجتمع بهرام بالخليفة وفاوضه في أمره فقال تحلبني الإسلام عليك. فأيس حينئذ وجمع الأرمن وكانوا كلهم منقادين إليه لا يخالفونه في شيء من الأشياء وسار بهم نحو بلاد الصعيد يريد أخاه الباساك بقوص قاصداً أنه يجتمع به ويمضون إلى أسوان فيتملكونهما ويتقوون بالنوبة أهل دينهم. وقد ذكر أن بهرام خرج يريد محاربة رضوان في عساكر مصر. فلما وصل بعسكر القاهرة إلى رضوان رأوا المصاحف قد رفعها رضوان فوق الرماح فصاروا بأجمعهم إلى رضوان باتفاق كان بينهم وبينه من قبل ذلك فعاد بهرام إلى القاهرة وأخذ ما خف حمله وخرج من باب البرقية يوم الأربعاء وقت العصر حادي عشر جمادى الأولى وسار يريد الصعيد وقد أوسق المراكب بما يحتاج إليه. فعندما رحل اقتحم رعاع الناس وأوباشهم إلى دار الوزارة فنهبوها وهتكوا حرمتها وعملوا كل مكروه فكان هذا أول نهب وقع في دار الوزارة. وامتدت الأيدي إلى دور الأرمن التي كانوا قد عمروها بالحسينية خارج باب الفتوح فنهبوها ونهبوا كنيسة الزهري ونبشوا قبر البطرك أخي بهرام. وطار خبر انهزام بهرام في سائر إقليم مصر فوصل الخبر بذلك إلى قوص قبل وصول بهرام فثار المسلمون بها على الباساك وقتلوه ومثلوا به وجعلوا في رجله كلباً ميتا وألقوه على مزبلة. فلما كان بعد قتله بيومين قدم بهرام في طائفة الأرمن وهم نحو الألفي فارس رماة فرأى أخاه على المزبلة كما ذكر فقتل جماعةً من أهل قوص ونهبها. وسار عنها إلى أسوان فنزل بالأديرة البيض وأما رضوان فإنه لما وصل إلى القاهرة وقف بين القصرين واستأذن الحافظ فيما يفعله فأشار بنزوله في دار الوزارة فنزلها وخلع عليه خلع الوزارة يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الأولى ونعت بالسيد الأجل الملك الأفضل. فاستدعى بالأموال من الخليفة وأنفق في الجند ومهد الأمر. ورضوان أول وزير لقب بالملك. فلما كن في اليوم الثالث من استقراره في الوزارة سير أخاه الأوحد إبراهيم ومعه العسكر شرقاً وغرباً والأسطول بحراً في طلب بهرام وبيده أمان له ليعود مكرماً وطائفته على إقطاعاتهم. فسار إلى الأديرة وتقرر الحال من غير قتال على إقامة بهرام بها وذلك أن أسوان امتنعت عليه بكنز الدولة وأهلها فاضطر إلى الإقامة بالأديرة وقد فارقه أكثر الأرمن فمنهم من سار إلى بلاده ومنهم من أقام بأرض مصر ليكونوا فلاحين فسأل لهم مواضع يسكنونها فأفردت لهم جهات منها سمالوط وإبوان وأقلوسنا والبرجين في صعيد مصر وضيعة أخرى بأعمال المحلة. وأقام بهرام بالأديرة البيض ومعه أهله وولده. وفيها صرف أبو عبد الله محمد بن ميسر عن قضاء القضاة في يوم الأحد لسبع خلون من المحرم والوزير إذ ذاك بهرام ونفي إلى تنيس فأقام بها إلى يوم الاثنين ثاني ربيع الأول وقتل. وهو من قيسارية وقدم منها مع أبيه وهو صغير في وزارة أمير الجيوش بدر الجمالي عند حضوره إلى المستنصر في سني الشدة وبعثه إلى البلاد الشامية لإحضار أرباب الأموال واليسار وكان من جملة من أحضر والد القاضي وكان له مال جزيل ففوض إليه خطابة الجامع بمصر وفتح دار وكالة وأقام بها مدة حتى مات. فترقى ولده إلى أن ولي القضاء عدة مرار وكان له أفضال ومكارم وحصلت له وجاهة ورتبة جليلة وضرب دنانير كثيرة كان اقترحها على الخليفة الآمر. وهو الذي أخرج الفستق الملبس بالحلوى فإنه بلغه أن أبا بكر محمد بن علي المادرائي عمل الكعك الذي يقال له افطن له وعمل عوضاً من حشو السكر دنانير فلما مد السماط في يوم العيد قال أحد الخدام لصديق له كان على السماط: افطن له ففهم عنه وتناول من ذلك وصار يخرج الذهب من فمه ويخفيه حتى تنبه الناس لذلك فتناولوا بأجمعهم منه. فأرادوا القاضي ابن ميسر أن تشبه بأبي بكر المادرائي في ذلك فعمل صحناً منه لكن جعل فستقا قد لبس حلوى وذلك الفستق من ذهب وأباحه أهل مجلسه ولم يقدر على علم ذلك سوى مرة واحدة. ثم إنه لما تناهت مدته عاداه رجل يعرف بابن الزعفراني فنم عليه عند الحافظ بأن أحمد بن الأفضل لما كان قد اعتقل الحافظ وجلس للهناء ودخل عليه الشعراء كان فيهم علي بن عباد الإسكندري وأنه أنشد قصيدة يذم فيه خلفاء مصر ويذكر سوء اعتقادهم منها في ذم هذا سليمانكم قد ردّ خاتمه واسترجع الملك من صخر بن إبليس فعندما قال هذا البيت قام ابن ميسر وألقى عرضيته طرباً بهذا البيت. فأمر الحافظ بإحضار هذا الشاعر وقال: أنشدني قصيدتك: فأنشدها إلى أن بلغ فيها إلى قوله: ولا ترضوا عن الخمس المناحيس. يعني الحافظ وابنيه وأباه وجده فأمر الغلمان بلكمه فلكموه حتى مات بين يديه. وقبض على ابن ميسر ونفي ثم قتل. وكان ينعت بجلال الملك وكانت علامته الحمد لله على نعمه. وفيها مات أبو البركات بن بشرى الواعظ المعروف بابن الجوهري في جمادى الأولى عن إحدى وتسعين سنة. وفيها ولي قضاء القضاة أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عقيل ونعت بقاضي القضاة الأعز أبي المكارم. وفيها ثار بناحية برقة رجل من بني سليم وادعى النبوة فاستجاب له خلق كثير وأملى عليهم قرآنا منه: إنما الناس بالناس ولولا الناس لم يكن الناس والجميع رب الناس. ثم تلاشى أمره وانحل عنه الناس. وفيها جلس الوزير رضوان في ذي القعدة لاستخدام المسلمين في المناصب التي كانت بأيدي النصارى. واستجد ديوان الجهاد واهتم بتقوية الثغور واستعد لتعمير عسقلان بالعدد والآلات وأشاع الخروج إلى الشام لغزو الفرنج وأظهر من الاعتناء بذلك ما لا يوصف. وكان قد مهد الأمور وأعاد الناس إلى ما كانوا عليه من الطمأنينة بحسن سيرته وكثرة عدله وعمارته البلاد وقوة نفسه وشجاعته. وأحضر جميع الدواوين وكتبها ورثبها ورتب الأمور أحسن تدبير. وكان من جملة الضمان في أموال الدولة هبة الله بن عبد المحسن الشاعر فلما عرض حسابه وجد قد انكسر عليه مال في ضمانه فكتب له في المجلس: أنا شاعرٌ وصناعتي الأدب وضمان مثلي المال لا يجب أنا مستميحكم وليس علي من جاء يطلب رفدكم طلب وإذا الباقي عليّ فما من حاصلٍ ورقٌ ولا ذهب فسامحه فيما عليه من الباقي. وفيها أحضر من الصعيد الأعلى في رمضان جماعة تقدمهم رجل. بجاوي يدعى فيه أصحابه أنه إله فصلبوا. سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة فيها أفرج الوزير رضوان عن شمس الخلافة مختار الأفضلي صاحب باب بهرام من الاعتقال وولاه الإسكندرية. فيها تشدد رضوا على الأنصاري من أصحاب بهرام وصادره وقتلهم بالسيف وأباد أكثرهم. وتطلع إلى تقديم أرباب المعارف من أرباب السيوف والأقلام وأحسن إليهم وزاد في أرزاقهم. ووجد نصرانياً قد توصل في أيام بهرام إلى ديوان النظر يعرف بالأخرم وبذل في كل يوم ألف دينار سوى المؤن والغرامات فآذى المسلمين وشق عليهم فصرفه رضوا واستخدم بدله رجلاً يقال له المرتضى المحنك بغير ضمان. وتقدم إلى ديوان الإنشاء بانشاء سجل في الوضع من النصارى واليهود فأنشأه أبو القاسم ابن الصيرفي منعوا فيه من إرخاء الذوائب وركوب البغلات ولبس الطيالسة وأمر النصارى بشد الزنانير المخالفة لألوان ثيابهم وألا يجوزوا على معابد المسلمين ركبانا فما رئي في أيامه يهودي ولا نصراني يجوز على الجامع راكباً لكنه ينزل ويقود دابته. وأمر أن يؤخذ الجزية من فوق مساطب وهم وقوف أسفلها. ومنعهم من التكني بأبي الحسن وأبي الحسين وأبي الطاهر وأن يبيضوا قبورهم. وضمن ذلك كله السجل فعمل به. وفيها نزع السعر لتوقف النيل فنال الناس مجاعة فأمر الحافظ بفتح الأهراء والبيع منها على الناس بأوساط الأثمان فلم يمض الوزير بذلك وأخذ يهين حواشي الخليفة إذا حضروا إليه ويقدح في مذاهبه لأنه كان سنيا وكان أخوه الأوحد إبراهيم إماميا. فلما كثر ذلك منه انزعج الخليفة ولم يظهر تغيراً وأخذ يعمل في الخلاص منه فتنافر كل منهما من الآخر. وكان رضوان خفيفا طائشا لا يثبت فهم بخلع الحافظ وقال ما هو بخليفة ولا إمام وإنما هو كفيل لغيره وذلك الغير لم يصح. وأحضر الفقيه أبا الطاهر ابن عوف وابن أبي كامل فقيه الإمامية وابن سلامة داعي الدعاة وفاوضهم في الخلع واستخلاف شخص عينه لهم وألزم كلاً منهم أن يقول ما عنده. فقال ابن عوف: الخلع لا يجوز إلا بشروط تثبت شرعا. وقال ابن أبي كامل: السلطان أبقاه الله يحملني على أن أتكلم على غير مذهبي في الإمامة. قال: لأجل عمل مذهبك فقال: مذهبي معلوم يعني أن الإمامية للحاضر من إخوته ولأنه لا ينبغي لمن لم تكن له إمامة أن يخلع. فخلص من هذا وقال الداعي: أنا داعي ومولىً لهم وما يصح لي خلعه فإني أصير فيما مضى كأني أدعو لغير مستحق فأكون قد كذبت نفسي فلا أقبل الآن وأستخصم بذلك ولا يؤثر قولي فيما تريدون ولم تجر العادة على الفاطميين بخلع حتى نأتي به. فقابله على هذا القول بالسب وإقامته أقبح قيام. فقال الفقيه النحاس وكان حاضراً كل عظيمة وحمله على خلع الحافظ فبلغ ذلك المجلس الحافظ. وفيها أحضرت من تنيس امرأة بغير ثديين في موضع ثدييها مثل الحلمتين فصارت إلى مجلس الوزير رضوان وأخبرته أنها تصنع برجليها جميع ما يعمل باليدين من رقم وخط وغير ذلك. فجاء لها في المجلس بدواة فتناولت برجلها اليسرى الأقلام قلماً قلماً ثم تناولت السكين برجليها وبرت قلماً واستدعت ورقةً وأمسكتها برجلها اليمنى وكتبت بالرجل اليسرى رقعة بأحسن خط تكتبه النساء وحمدت الله في آخرها وناولتها الوزير فإذا فيها سؤال بأن يزاد في راتبها. فوقع لها خلف الرقعة بما تسأل وأعادها إلى بلدها. وفيها بنى الوزير رضوان المدرسة المعروفة به في ثغر الإسكندرية وجعل في تدريسها الفقيه أبا طاهر بن عوف. سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة فيها زاد السعر وبلغ القمح ثلاثة دنانير للإردب فبيعت الغلال التي كان الأفضل خزنها وقد تغيرت وأرادوا رميها في النيل فكانت تقطع بالفئوس وتباع بأربعين ديناراً كل مائة إردب فيها كثر سعي الوشاة بين الحافظ والوزير فتخوف كل منهما من الآخر وقبض الوزير على عدة من خواص الحافظ منهم أبو المعالي بن قادوس وابن شيبان المنجم ورئيس اليهود وجماعة فقتلهم. فسير الحافظ من أحضر إليه بهرام في رمضان فلما حضر أسكنه عنده بالقصر وأكرمه وشق ذلك على رضوان. وكان الحافظ قد تلطف برضوان في أمر بهرام وقرر معه أ يستدعيه وينزله في القصر وحلف له أنه لا يوليه أمراً ولا يمكنه من تصرف فتسامح رضوان في أمره. واستدعى فحضر بأهله وأنزل في دار بالقصر قريبة من المحول وهو قريب من سكن الحافظ فكان يستحضره في غالب الليالي ويستشيره ويعمل برأيه. ولما كان يوم عيد الفطر ركب الوزير مع الحافظ وعليه من الملابس ما لم يلبسه أحد من الوزراء في مثل ذلك اليوم وعاد إلى القصر وفي نفس الحافظ منه أشياء تبينها رضوان في وجه الحافظ وعلمها منه فاشمأزت نفسه مع ما كان فيه من الطيش فركب في تاسع شوال وزحف إلى القصر فكلمه الخليفة من بعض طاقات المنظرة التي تطل على باب الذهب وجرى بينهما كلام اجترأ فيه على الخليفة. وعاد إلى داره بعد أن احتاط بالقصر واحتفظ بالأبواب فانتفض الناس لذلك بالقاهرة ومصر وكثرت الأراجيف. وفي تلك الحالة نزل بعض أولاد الحافظ من القصر هارباً إلى رضوان وكان شيخا ومعه ولد له ليقيمه خليفة فلم يكترث به وأحضر إسماعيل بن سلامة الداعي وقال له: ما تقول في هذا الرجل هل يصلح لما التمسه فقال: الخلافة لها شروط ونواميس ما في هذا منها شيء وتحتاج إلى نصوص ولولا أنم مولانا الآمر نص على مولانا الحافظ وأودعه سر الخلافة لما ثبتت فيه ولا استجاب له الناس. فلم يحصل سوى أنه كان مشئوماً على نفسه وأهله فإن الحافظ لما بلغه ذلك قتله وقتل جماعة منهم كثيرة. ثم إن الحافظ لما رأى فعل رضوان وتعديه وكثرة من انضم إليه من العسكر عمل في التدبير عليه وأرسل إلى صبي من الجند يعرف بشومان وكانت فيه شهامة وجرأة وهو من صبيان الخاص فأحضره إليه من أحد السراديب سراً وأرسله إلى علي بن السلار أحد أمراء الدولة يأمره بالتدبير على رضوان وأنفذ معه مالاً إليه ليستعين به على ذلك. وكان علي بن السلار عاقلاً صاحب حزم ويقظة وحسن تأت مع قوة وصرامة. فلما جاءه القاصد بالمال وبلغه عن الخليفة ما قال انتهز الفرصة وأرسل إلى جماعة من صبيان الخاص وقرر معهم أن يجتمعوا ويدخلوا من باب زويلة كردوسا واحداً وهم يصيحون: الحافظ يا منصور وفرق فيهم ما أرسله إليه الخليفة. فلما كان يوم الاثنين الثالث عشر من شوال اجتمع بظاهر القاهرة منهم نحو العشرين وأقبلوا من باب زويلة يصيحون: يا للحافظ الحافظ يا منصور فما وصلوا إلى الشرايحيين الذي يعرف اليوم بالشوايين حتى صاروا نحو الخمسمائة وما وصلوا بين القصرين إلا والعسكر جميعه من فارس وراجل معهم ولم يبق من الصبيان والعوام أحد حتى خرج النساء وأشرف النساء من الطاقات وصاروا بأجمعهم يصيحون: يا للحافظية. فلما سمع رضوان الضجيج أراد أن يركب فمنعه بعض غلمانه فأبى عليه لأنه كان واثقا بنفسه وبمن معه وخرج وحده بغير سلاح ليس معه سوى سيف فلقي الناس بنفسه وطردهم يميناً وشمالا وظهر منه شجاعة تعجب منه من شاهدها فإنه لقي ألوفاً من الناس بمفرده ولم يزل يحمل عليهم حملةً بعد حملة إلى أن قتل منهم عدة. وكان أخوه إبراهيم قد بلغه الخبر فركب من داره وأمسك عنه من يجيئه من ناحية قصر الشوك وشدت الريحانية ورجعوا إليه من ناحية زيادة الجامع الحاكمي ودرب الفرنجية. فلما طال عليه وتيقن أن القوم بأجمعهم قد تمالئوا على حربه وكان قد انقضى من النهار أربع ساعات وأشرف عليه الأستاذون من ناحية باب الريح من أعالي القصر يرشقونه بالنشاب ويرمونه بالطوب تحير. وكان ابن أخته والي مصر فبلغه الخبر فقام بجميع غلمانه وسار لنجدة خاله فوجد عند باب زويلة من بلغه الخبر بأنه لا يقدر على الوصول إليه فسار من ناحية باب البرقية ومعه بوقات وطبول فسمع إبراهيم أخو رضوان أصوات البوقات والطبول من جهة باب البرقية فأنفذ إلى أخيه رضوان يقول له: قد تفرق علينا العسكر وجاء من ناحية قصر الشوك وقد قاطع الراجل علينا من ناحية باب النصر. فلما بلغ رضوان ذلك أيقن بالهلاك إن وقف فما زال يتأخر قليلاً قليلاً حتى صار في رحبة باب العيد عند دار سعيد السعداء وبعث إلى داره التي هي دار الوزارة من أخذ له شيئاً منها على سبيل الخطف وأوصى إلى أخيه فانضم إليه هو ومن معه من أصحابه وفيهم أبي الفوارس وقدارة بن أبي عزة وشاور بن مجير السعدي وجماعة من خواصه وخرجوا من باب النصر. فما هو إلا أن صار بظاهر القاهرة اقتحم الناس دار الوزارة ونهبوها حتى لم يتركوا فيها شيئاً. وما وصل رضوان إلى تربة أمير الجيوش إلا وقد تلاحق كثير من المغافرة وكان قد أسلف عند العرب أيادي وأفاض عليهم نعماً وأحسن إليهم إحساناً كثيرا في مدة وزارته فأدركه رجل من العرب يقال له سالم بن المحجل أحد شياطين الإنس وحسن له المسير إلى الشام. واشتغل الناس بنهب دار الوزارة وكان قد جمع فيها رضوان أكثر أموال ديار مصر وشحنها بالذخائر وأنواع السلاح والعدد والآلات والغلال فانتهب جميع ذلك وأحرقت أخشاب تعب وطلب رضوان الشام فدخل عسقلان وملكها وجعلها معقله وتوجه أخوه إلى الحجاز وأقام بها حتى مات وسار ابن أخته إلى بغداد فأكرمه أصحاب الخليفة هناك ولم يزل عندهم إلى أن مات. وخرج رضوان من عسقلان ولحق بصلخد فنزل على أمين الدولة كمشتكين صاحبها فأكرمه وأبره وأقام عنده ثلاثة أشهر. ثم أنفذ إلى دمشق واستفسد من الأتراك بها من قدر عليه. وفيها خربت الأثارب من زلزلة وزلزلت دمشق أيضا. وفيها مات الأعز قاضي القضاة أبو المكارم أحمد بن عبد الرحمن بن أبي عقيل في شعبان فأقام منصب القضاء بغير قاض ثلاثة أشهر ثم اختير الفقيه أبو العباس أحمد ابن الحطيئة في ذي القعدة فاشترط ألا يحكم بمذهب الدولة فلم يمكن من ذلك. وكان الوزير رشوان قد تقدم إلى الفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد المولى بن عبد الله محمد بن عقبة اللخمي المعروف بابن اللبني المغربي المالكي أن يعقد الأنكحة. فلما كان في الحادي عشر من ذي القعدة قرر الحافظ في قضاء القضاة القاضي فخر الأمناء أبا الفضائل هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن محمد الأنصاري الأوسي المعروف بابن الأزرق. فيها عاد الأفضل رضوان بن ولخشي من صلخد في جمع فيه نحو الألف فارس وكان الناس في مدة غيبته يهتفون بعوده فبرزت له العساكر ودافعوه عند باب الفتوح فلم يطق مقابلتهم فمضى إلى مصر ونزل على سطح الجرف المعروف اليوم بالرصد وذلك يوم الثلاثاء مستهل صفر. فاهتم الحافظ بأمره وبعث إليه بعسكر من الحافظية والآمرية وصبيان الخاص عدتهم خمسة عشر ألف فارس مقدم القلب تاج الملوك قايماز ومقدم الآمرية فرج غلام الحافظ. فلقيهم رضوان في قريب ثلثمائة فارس فانكسروا وقتل كثير منهم وغنم معظمهم وركب أقفيتهم إلى قريب القاهرة. وعاد شاور إلى موضعه فلم يثبت وأراد العود إلى صلخد فلم يقدر لقلة الزاد وتعذر الطريق فتوجه بمن معه من العربان إلى الصعيد. فأنفذ إليه الحافظ الأمير المفضل أبا الفتح نجم الدين سليم بن مصال في عسكر ومعه أمان فسار خلفه وما زال به حتى أخذه وأحضره إلى القصر آخر نهار الاثنين رابع ربيع الآخر فعفا عنه الحافظ ولم يؤاخذ أحداً من الأتراك الذين حضروا معه من الشام. واعتقله عنده بالقصر قريباً من الدار التي فيها بهرام. وفيها أضيف لقاضي القضاة هبة الله بن حسن الأنصاري في سابع عشر جمادى الآخرة تدريس دار العلم بالقاهرة فمضى إليها وكان مدرسها أبو الحسن علي بن إسماعيل فجرت بينهما مفاوضات أدت إلى الخصام الشنيع فخرج القاضي إلى القصر ماشياً وقد تخرقت ثيابه وسقطت عمامته. فعظم على الحافظ خروجه في الأسواق على هذه الهيئة وغضب لذلك فصرفه ورسم عليه وغرمه مائتي دينار وألزمه داره. وأمر بطلب أبي الطاهر إسماعيل بن سلامة الأنصاري فخلع عليه وقرره مكانه ونعته الموفق في الدين ولم يكتب له سجل فأقام إلى آخر ذي الحجة ولم يتناول على القضاء معلوماً وكان جاري الحكم في كل شهر أربعين ديناراً وقنع بجاري التقدمة على الدعاة وهو ثلاثون ديناراً في الشهر. وفيها ولي الحافظ لدين الله الأمير المفضل نجم الدين أبو الفتح سليم بن مصال المالكي تدبير الأمور. سنة خمس وثلاثين وخمسمائة فيها هلك بهرام الأرمني بالقصر وكان الحافظ لما أقدمه من الصعيد إلى عنده أنزله في القصر ولم يمكنه من التصرف وكان يشاوره في تدبير أمور الدولة فيعجبه رأيه وحزمه وعقله. فلما مات في العشرين من ربيع الآخر حزن عليه حزناً كثيراً ظهر بسببه على القص غمة وهم أن يغلق الدواوين ولا يفتحها ثلاثة أيام. وأحضر بطرك الملكية وأمره أن يجهز بهرام فقام بتجهيزه. وأخرج نصف النهار في تابوت وعليه ثوب ديباج أحمر ومن حوله النصارى يبخرون باللبان والصبار وخرج الخليفة علة بغلة شهباء وعليه عمامة خضراء وثوب أخضر بغير طيلسان فسار خلف التابوت وسار والناس تبكي والأقساء يعلنون بقراءتهم والخليفة سائر إلى دير الخندق من ظاهر القاهرة. فنزل الخليفة عن بغلته وجلس على شفير القبر وبكى بكاء شديداً. وكان عاقلاً مقداماً في الحرب حسن السياسة جيد التدبير وكان أولاً يقوم بأمر الأرمن وسكناهم يومئذ في ناحية تل باشر فتعصب عليه جماعة منهم وولوا غيره فخرج مغضباً وقدم إلى القاهرة فترقى في الخدم إلى أن ولي المحلة فقام بولايتها. ومنها سار في زي حسن إلى القاهرة ومعه من الأرمن نحو الألفين يقولون بقوله فاستوزره الحافظ. وفيها مات الفقيه أبو الفتح سلطان بن إبراهيم بن رشا المقدسي في آخر جمادى الآخرة. سنة ست وثلاثين وخمسمائة في ليلة الثلاثاء الثاني عشر من ربيع الأول سقطت صاعقة أحرقت ركن منارة الجامع العتيق. في شعبان غلت الأسعار وعدم القمح والشعير فبلغ القمح كل إردب إلى تسعين درهما والدقيق إلى مائة وخمسين للحملة والخبز إلى ثلاثة أرطال بدرهم والويبة من الشعير إلى سبعة دراهم والزيت الطيب إلى سبعة دراهم للرطل والجبن إلى درهمين للرطل والبيض إلى عشرين درهماً للمائة والزيت الحار إلى درهم ونصف للرطل والقلقاس كل رطلين بدرهم وعدم الفرخ والدجاج فلم يقدر على شيء منه. وعم الوباء وكثر الموتان. وفيها مات أحمد بن مفرج بن أحمد بن أبي الخليل الصقلي الشاعر المعروف بتلميذ ابن سابق وكان فاضلاً ذكيا يتصرف في عدة فنون وله رسائل حسنة وشعر جيد. وكان الشعراء في أيام الحافظ قد أطنبوا في المديح وتناهوا في إطالة القصائد حتى صار الإنشاد يؤدى إلى قصر الوقت الذي جرت العادة باستماع أشعارهم فيه لطول مثولهم بالخدمة فخرج الأمر إليهم بالاختصار فيما ينشدونه من الأشعار. فقال أحمد بن مفرج يخاطب الخليفة: أمرتنا أن نصوغ المدح مختصراً لم لا أمرت ندى كفّيك يختصر واللّه لا بدّ أن تجرى سوابقنا حتى يبين لنا في مدحك الأثر فأمروا بالاستمرار على ما هم عليه من الإطالة في الإنشاد. |
12-21-2012, 09:11 PM | #36 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة سبع وثلاثين وخمسمائة
فيها عظم الوباء بديار مصر فهلك فيه عالم لا يحصى عدده كثرة. وفيها بعث الحافظ الأمير النجيب رسولاً إلى رجار ملك صقلية لمحاربته أهل صقلية وكان رجار فيه فضيلة وأمر فصنفت له تصانيف وكان عنده محبة للأدب ومدحه ابن قلاقس الشاعر وغيره. سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة فيها خرج محمد بن رافع اللواتي بنواحي البحيرة فاجتمع له عدد كثير من الناس فخرج إليه طلائع بن رزيك وهو يومئذ والي البحيرة فكانت بينهما حروب قتل فيها. وفيها غلت الأسعار بمصر. سنة تسع وثلاثين وخمسمائة فيها سير الحافظ الرشيد أبا الحسين أحمد بن الزبير رسولاً إلى اليمن بسجل يقرؤه عليهم فخرج في ربيع الأول. وفيها خرج أبو الحسين ابن المستنصر إلى الأمير خمارتاش الحافظي صاحب الباب وقال له: اجعلني خليفة وأنا أوليك الوزارة فطالع الحافظ بذلك فأمر القبض عليه فقبض واعتقل. وفيها قدم في جمادى الآخرة من دمشق الأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ وإخوته وأهله ومعهم نظام الدين أبو الكرام محسن وزير صاحب دمشق معاضدين له فأكرم مثواهم وأنزلوا سنة أربعين وخمسمائة فيها أعيد نظر الدواوين والأتراك والخزائن إلى القاضي الموفق أبي الكرم محمد بن معصوم التنيسي في جمادى الأولى. سنة إحدى وأربعين وخمسمائة فيها خرج على الحافظ أمير من المماليك يعرف ببختار يطلب الوزارة بأرض الصعيد فندب إليه عسكراً عليه سلمان مؤنس اللواتي فمضى إليه وحاربه فانهزم وهو من ورائه حتى أدركه وأخذه أسيراً وقتله. وفيها قدم صافي الخادم أحد خدام المتقي من بغداد فاراً في ثالث عشري جمادى الأولى خوفاً فأكرمه الحافظ. وفيها منع من التعرض لصرف شيء من المال الحاضر من الأعمال في جرائد المستخدمين وأن يكون ما نسب منها على البواقي والفاضل في هذه السنة. وفيها ملك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر حلب بعد أبيه. وفيها ملك رجار بن رجار ملك صقلية مدينة طرابلس الغرب وولى عليها رجلا من بني سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة فيها صرف أبو الكرم التنيسي في ربيع الآخر وأعيد نظر الدواوين للقاضي المرتضى المحنك. وفيها سير الحفاظ لظهير الدين صاحب دمشق هدايا وخلعاً وتحفاً. وفيها خرج رضوان من ثقب نقبه بالقصر. وذلك أن الحافظ لما اعتقله بالقصر أرسل يسأله في أشياء من جملتها زيارة نجم الدين بن مصال له في الوقت بعد الوقت فأجابه إلى ذلك لثقته بابن مصال. فحضر في يوم من الأيام ابن مصال لخدمة الخليفة وبدأ بزيارة رضوان فدخل إليه ومعه مشدة فيها رقاع بجوائج الناس ليعرضها على الحافظ وكانت عادته ذلك فاحتاج إلى الخلاء فترك مشدته عند رشوان ودخل الخلاء. فأخذ رضوان الرقاع ووقع بخطه عليها كلها بما يسوغ التوقيع به وأتر بها وطواها في المشدة. وخرج ابن مصال فأخذها ودخل على الحافظ وقد علم أنه كان عند رضوان فقال له: كيف ضيفنا فقال: على غاية من الشكر لنعمة مولانا وجواره. وأخرج رقةً من تلك الرقاع ليعرضها على الخليفة فوجد عليها التوقيع بخط رضوان فأمسكها وأخرج غيرها فإذا هي موقع عليها أيضاً. وكان الحافظ يراه فقال: ما هذا فاستحيا ابن مصال عندما تداول الخليفة الرقاع وعليها توقيع رضوان. فقال له الحافظ: يا نجم الدين ما زلت مباركاً علينا والله يشكر لك ذلك لقد فرجت عنا غمة. فقال: كيف يا مولانا قال: رأيت البارحة رؤياً مقتضاها أنه ربما يشركنا في كثير من أمرنا فالحمد لله إذ كان هذا. وكتب على الرقاع أمضاها بخطه وخلع على ابن مصال. فلما طال اعتقال رضوان أخذ ينقب بحيث لا يعلم به إلى أن انتهى النقب من موضعه الذي هو فيه إلى تجاه فندق أبي الهيجاء وخرج النقب عن سور القصر. وكان قياس ما نقبه خمسةً وثلاثين ذراعاً فظهر منه بكرة يوم الثلاثاء ثالث عشري ذي القعدة في الجيزة فالتف عليه جماعة من لواتة وعدة من الأجناد وسمع به الطماعون وكان للناس فيه أهوية. فندم الحافظ على تركه بغير حارس وأخذ في العمل. فلما كان ثالث يوم عدي رضوان من اللوق وسار إلى القاهرة فخرج إليه عسكر الحافظ وتحاربوا معه عند جامع ابن طولون فهزمهم وسار في إثرهم إلى القاهرة فدخلها في الرابعة من نهار الجمعة سادس عشريه ونزل بالجامع الأقمر. فغلق الحافظ أبواب القصر وامتنع به. فأحضر رضوان أرباب الدولة والدواوين وأمر ديوان الجيش بعرض الأجناد وأخذ أموالا كانت خارجة من القصر وأنفق في طوائف العسكر. وأرسل إلى الحافظ يطلب منه مالا فسير إليه صندوقاً فيه مال وقال له: هذا الحد الذي أراده الله فاسترض على نفسك. وأتت هتافات الناس إلى رضوان فاستدعى الحافظ أحد مقدمي السودان سراً وقال له: إني بكم واثق. فقال: ما ادخرنا هذا إلا لمولانا. فقال: كم أصحابك قال: عشرة. قال: لكم عشرة آلاف دينار واقتلوا هذا الخارجي علينا وعليكم فأنتم تعلمون إحساننا إليه وإساءته إلينا. فقالوا: يا مولانا السمع والطاعة. ورتبوا أنهم يصيحون حول الجامع الأقمر: الحافظ يا منصور. فلما فعلوا ذلك قلق وقال لمن حلوه: ما كل مرة يصح لهؤلاء الكلاب مرادهم. فحسنوا له الركوب ظناً منهم أنه إذا ركب إلى بين القصرين لم يجسر أحد عليه. فعندما ركب ضربه واحد من السودان في فخذه ضربة شديدة وتداركه آخر بضربة وتوالت عليه الضربات فقتل في الساعة الحادية عشرة من نهار الجمعة المذكور وقطعت رأسه وحملت إلى الخليفة الحافظ. فسكنت الفتنة وهدأت الغوغاء. ثم إن الحافظ بعث بالرأس إلى امرأة رضوان فلما وضعت في حجرها قالت: هكذا يكون الرجال. وكان رضوان سنياً حسن الاعتقاد شجاعاً مقداماً قوي الغلب شديد البأس. ولد ليلة عيد الغدير من ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة وترقى في الخدم إلى أن ولي قوص وإخميم في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. إلا أنه كان مع حسن عبارته وغزارة أدبه طائش العقل قليل الثبات لا يحسن التدبير ولا يتأتى له سياسة الأمور لعجلته وجرأته وكان أخوه الأوحد أثبت عقلا منه. ومن جملة ما كتب له في تقليد الوزارة بعد بهرام من إنشاء أبي القاسم ابن الصيرفي: لأنك أذهبت عن الدولة عارها وأمطت من طرق الهداية أوعارها واستعدت ملابس سيادة كان قد دنسها من استعارها. ولم يستوزر الحافظ بعد رضوان أحداً وأعاد النصراني المعروف بالأخرم إلى ضمان الدولة على ما تقدم ثم نقم عليه لكثرة المرافعين واعتقله وطلب منه المال فلم يسمح بشيء. فركب الحافظ يوماً ووقف على باب السجن الذي هو فيه من القصر وأمر به فأحضر إليه. وقال له: كم تتجالد أريد منك مالي على لسان صاحب الستر. فبينا الخليفة يخاطبه إذ أخذ كفاً من تراب وجعله في فيه فقال له الحافظ: ما هذا مالا ينبغي نقله إلى مولانا صلوات الله عليه. فغضب عليه وأمر بإحضار أبيه وأخيه وكانا معتقلين فأخرجا وقتل الأخرم وأخاه وأبوهما ينظر قتلهما ثم قتل الأب. وأحاط بأموالهم فحصل منهم ما يزيد على عشرين ألف دينار عينا. فيها مات الشيخ تاج الرياسة أبو القاسم على بن منجب بن سليمان المعروف بابن الصيرفي الكاتب في يوم الأحد لعشر بقين من صفر ومولده في يوم السبت الثاني والعشرين من شعبان سنة ثلاث وستين وأربعمائة. وكان أبوه صيرفياً وجده كاتباً وأخذ صناعة الترسل عن ثقة الملك أبي العلاء صاعد بن مفرج وتنقل حتى صار صاحب ديوان الجيش. ثم انتقل معه إلى ديوان الإنشاء. ومات الشريف سناء الملك أبو محمد الزيدي الحسيني ثم تفرد بالديوان فصار فيه بمفرده. وله الإنشاء البديع والشعر الرائع والتصانيف المفيدة في التاريخ والأدب. سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فيها توجه العسكر في ثالث صفر لقتال لواتة وقد تجمعوا وعقدوا الأمر لرجل قدم من المغرب وادعى أنه ولد نزار بن المستنصر. فسار إليهم العسكر وواقعهم على الحمامات وانهزم منهم العسكر فجهز الحافظ عسكراً آخر ودس إلى مقدمي لواتة مالا جزيلا ووعدهم بالإقطاعات فغدروا بابن نزار وقتلوه وبعثوا برأسه إلى الحافظ. ورجعت العساكر في ربيع الأول. وفيها صرف القاضي المكين الموفق في الدين أبو الطاهر إسماعيل بن سلامة الأنصاري عن القضاء لسبع خلون من المحرم واستقر على الدعوة الموفق الأمير كمال الدين واستخدم في وظيفة القضاء وكان كريم الأخلاق حليما عليه سكينة ووقار مليح الشيبة ظريف الهيئة. وفيها توفى أبو الفضائل يونس بن محمد بن الحسن المقدسي القرشي المعروف بجوامرد خطيب القدس. وفيها بلغ النيل تسعة عشر ذراعاً وأربعة أصابع ففاض الماء حتى بلغ إلى الباب الجديد أول الشارع خارج باب زويلة فكان الناس يتوجهون من مصر إلى القاهرة على ناحية المقابر لامتلاء الطريق بالمياه. فلما بلغ الحافظ ذلك أظهر له الحزن والانقطاع فسأله بعض خواصه عن ذلك فأخرج له كتاباً وقال: انظر هذا السطر فإذا فيه: إذا وصل الماء الباب الجديد انتقل الإمام عبد المجيد. ثم قال: هذا الكتاب الذي نعلم منه أحوالنا وأحوال دولتنا وما يأتي بعدها. فاتفق أنه لم تنسلخ هذه السنة حتى مرض الحافظ مرضة الموت. وفيها انقرضت دولة بني باديس. وذلك أن الغلاء اشتد بإفريقية من سنة سبع وثلاثين وخمسمائة إلى سنة اثنتين وأربعين حتى أكل الناس بعضهم بعضاً وخلت القرى ولحق كثير من الناس بجزيرة صقلية. فاغتنم رجار متملكها الفرصة وبعث جرج مقدم أسطوله على نحو مائتين وخمسين شينيا فنزل على المهدية ثامن صفر سنة اثنتين وأربعين وبها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس ففر بأخف حمله وتبعه الناس. فدخل جرج المهدية بغير مانع واستولى على قصر الأمير حسن وأخذ منه ذخائر نفيسة وحظايا بديعات. وعزم حسن على المجيء إلى مصر فقبض عليه يحيى بن العزيز صاحب بجاية ووكل به وبأولاده وأنزله في بعض الجزائر فبقى حتى ملك عبد المؤمن بن علي بجاية في سنة سبع وأربعين فأحسن إلى الأمير حسن وأقره في خدمته. فلما ملك المهدية تقدم إلى نائبه بها أن يقتدي برأي حسن ويرجع إلى قوله. فكانت عدة من ملك من بني باديس بن زيرى بن مناد تسعة ومدتهم من سنة إحدى وستين وثلثمائة إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة مائة واثنتان وثمانون سنة. وفيها بعث رجار بن رجار ملك جزيرة صقلية إلى المهدية أسطوله مائتين وخمسين من الشواني مع جرجي بن ميخائيل فجد في حصارها حتى أخذها في صفر منها وملك سوسة وصفاقس وملك رجار بونة. سنة أربع وأربعين وخمسمائة فيها وقع الاختلاف بين الطائفة الجيوشية والطائفة الريحانية فكانت بينهما حروب شديدة قتل فيها عدة من الفريقين وامتنع الناس من المضي إلى القاهرة ومن الذهاب إلى مصر. وابتدأت الحرب بينهم في يوم الخميس ثامن عشر جمادى الأولى وتوالت في يوم السبت رابع جمادى وهم العسكر بخلع الحافظ من الخلافة فمات بقصر اللؤلؤة وقد نقل إليه وهو مريض بكرة يوم الأحد وقيل ليلة الاثنين لخمس خلون من جمادى الآخرة واشتغل الناس بموته. وكان له من العمر يوم مات ست وسبعون سنة وثلاثة أشهر وأيام منها مدة خلافته من يوم بويع بعد أحمد بن الأفضل ثماني عشرة سنة وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما. وأصابته في ولايته شدائد واعتقل ثم لما أعيد تحكم عليه الوزراء حتى قبض على رضوان. فلم يستوزر بعده أحداً وإنما أقام كتاباً على سنة الوزراء أرباب العمائم ولم يسم أحداً منه وزيراً وهم: أبو عبد الله محمد بن الأنصاري وخلع عليه بالحنك والدواة فتصرف تصرف وزراء الأقلام وصعد المنبر مع الخليفة في الأعياد والجمع والقاضي الموفق محمد بن معصوم التنيسي وصنيعة الخلافة أبو الكرم الأخرم النصراني. وكان الحافظ حازم الرأي جماعاً للأموال كثير المداراة سيوساً عارفاً. ولم يكن أحد ممن ولي قبله أبوه غيره خليفة سواه. وكان يميل إلى علم النجوم وكان له من المنجمين سبعة منهم المحقوف وابن الملاح وأبو محمد بن القلعي وابن موسى النصراني. وفي أيامه عملت الطبلة التي كانت إذا ضرب بها من به قولنج خرج عنه الريح وما زالت بالقصر إلى أن كسرت في أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب. وترك من الأولاد أبا الأمانة جبريل ويوسف وأبا المنصور إسماعيل. وكان مطعوناً عليه فإنه ولي بغير عهد وإنما أقيم كفيلا عن منتظر في بطن أمه فلم يظهر للحمل خبر. ومن محاسن ما يحكى عنه أنه كان يخرج في كل ستة أشهر عسكر من القاهرة إلى عسقلان لأجل الفرنج تقويةً لمن بها من المركزية الكنانية وغيرهم. ويقدم على العسكر عدة فيجعل على كل مائة فارس أمير ويقدم على الجميع أمير تسلم إليه الخريطة فيكون أمير المقدمين وتشتمل الخريطة على أوراق العرض من الديون بالحضرة ليتفق مع والي عسقلان على عرض العسكر بمقتضاها. ويصدر التعريف من كاتب الجيش هناك إلى الديوان بالحضرة بذلك ويسلم إليه مبلغ من المال لنفقته معونةً لمن فاتته النفقة من العسكر فإن النقباء الذين للطوائف يجردون من كان من الطوائف حاضراً ومن كان مسافراً في إقطاعه فيأخذ صاحب الخريطة أوراقاً بمن سافر وهو في إقطاعه ليوصل إليه نفقته. وكانت نفقة الأمراء مائة دينار لكل أمير وللأجناد ثلاثون ديناراً لكل جندي. واتفق مرة خروج العسكر إلى عسقلان وفيهم خمس أمراء من جملتهم جلب راغب الذي اتفق منه في حسن بن الحافظ بعد موته ما تقدم ذكره فلما سير إليه مائة دينار نفقته تجهز للسفر في جملة الناس وسلمت الخريطة لأميرهم. فلما دخلوا على الحافظ ليودعوه ويدعو لهم بالنصر والسلامة على العادة قضوا حق الخلافة وانصرفوا إلا جلب راغب فإنه وقف فقال الحافظ: قولوا للأمير ما وقوفك دون أصحابك ألك حاجة فقال: يأمرني مولانا بالكلام. قال: قل. فقال يا مولانا ليس على وجه الأرض خليفة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرك وقد كان السلطان استزلني فسفهت نفسي وأذنبت ذنباً عظيماً عفوا مولانا أوسع منه وأعظم. فقال له الحافظ: قل ما تريد غير هذا فإنا غير مؤاخذيك به. فقال: يا مولانا قد توهمت أنك تحققت أني ماض في حالة السخط وقد آليت على نفسي أن أبذلها في الجهاد فلعلي أموت شهيداً قد صنع ذلك سخط مولانا علي. فقال له الحافظ: انته عن هذا الكلام وقد قلنا لك إنا ما واخذناك فأي شيء تقصد فقال: لا يسيرني مولانا تبعاً لغيري فقد صرت مراراً كثيرةً مقدماً وأخشى أن يظن أن هذا التأخير للذنب الذي أنا متعرف. قال: لا بل مقدماً وصاحب الخريطة. وأمر بنقل الحال عن المقدم الذي تقرر للتقدم والخريطة إلى جلب راغب وأعطى مائتي دينار وقال: له استعن بهذه. فعد هذا من الحلم الذي ما سمع بمثله. وكان الغالب على أخلاقه الحلم. وكان مقدم المطالبين يجيء إلى الخليفة الحافظ ويخبره بغرائب ما يظهر فجاء يوماً وأخبر أنه وجد حوضاً لطيفاً قريباً من معلف الجمال فلم يتعرض له. فندب الخليفة معه شاهدين حتى أتوا به فإذا حوض مطبق بغطاء كشف عنه فإذا فيه صنم من رخام أبيض على هيئة الإنسان وهو واضع أصبعاً في فيه وأصبعاً أخرى في دبره فأمر الحافظ أحد الشاهدين أن يناوله ذلك فلما أخذ الصنم ضرط ضرطة عظيمة فألقاه من يده وقد اشتد خجله. فقام موفق أحد الأستاذين المحنكين ليناوله إياه فضرط أيضاً. فأمر الحافظ بتركه وعلم أنه طلسم القولنج. ووجد في مقطع الرخام سرب تحت الأرض فيه حبوة ممدودة أحضرت إلى الأستاذ مفضل المعروف بصدر الباز فإذا فيها حنش من ذهب زنته ستة مثاقيل ونصف مثقال وعيناه من ياقوت أحمر وفي فمه جرس من ذهب. فأعلم به الحافظ فلم يزل يبحث عن خبره حتى أحضرت له عدة أحناش كبار وأخرج ذلك الحنش المذكور فجعلت الأحناش الكبار تخرج رءوسها ثم تحركها مرةً أو مرتين وتسقط ميتة. وكان الحافظ حريصا على علم السيميا. فظهر في أيامه الشيخ أبو عبد الله الأندلسي شيخ بني الأنصاري أوحد زمانه في علم السيمياء فسأله الحافظ أن يريه شيئاً من ذلك فأراه ساحة القصر قد صارت لجة ماء فيها سفينة متعلقة وشواني حرببات قد خرجت على تلك السفينة وقاتلت أهلها والحافظ يرى لمعان السيوف ومرور السهام وخفقان البنود ورءوس الرجال وهي تسقط عن كواهلها والدماء تسيل حتى سلم أصحاب السفينة لأصحاب الشواني فساروا بها والأبواق تزعق والطبول تضرب إلى أن غابت عن الأبصار في لجج البحار. ثم كشف عن الحافظ فإذا هو قصره. ثم أمره أن يريه شيئاً آخر: فقال: لنخرج من في مجلس أمير المؤمنين إلى منزله فأمرهم فخرجوا حتى صاروا إلى حيث خيولهم واقفة بباب القصر فلما قدمت إليهم ليركبوا فما منهم إلا ن رأى فرسه كأنه ثور وقرناه كأعظم ما يكون من القرون فعادوا إلى الحافظ وأعلموه بما رأوا فضحك وقال: افدوا دوابكم منه. فقطع كل واحد منهم على نفسه شيئاً فأمر له به. وما زال مقيماً بمصر حتى مات. وكان في أيام الحافظ أيضاً ابن محفوظ سأله أن يريه شيئاً من أعماله فأمر بأربعة أطباق فضة أن تحضر فلما وضعت بين يديه امتلأت ياسميناً في غير أوانه وصار يعلو على كل طبق وهو مرصوص متماسك بعضه فوق بعض إلى أن صار كأربعة أعمدة من رخام متقابلة. |
12-21-2012, 09:12 PM | #37 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
الظافر بأمر الله
أبو المنصور إسماعيل بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم محمد ابن المستنصر بالله ولد يوم الأحد النصف من ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وخمسمائة وبويع في اليوم الذي مات فيه الحافظ لدين الله وهو كما تقدم يوم الأحد الخامس من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة وعمره سبع عشرة سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام بوصية من أبيه له بالخلافة. وكان أصغر أولاده وفيهم أبو الحجاج يوسف وأبو الأمانة جبريل وهما أسن منه وركب بزي الخلافة. واستوزر الأمير نجم الدين أبا الفتح سليم بن محمد بن مصال بوصية الحافظ بذلك أيضاً ونعت بالسيد الأجل الأفضل أمير الجيوش وخلع عليه خلع الوزارة وهو يومئذ من أكابر الأمراء وهو شيخ لين متواضع. فسكن دار المأمون البطائحي. وصار أبو الكرم التنيسي من ذوي رأيه. وأول ما بدأ به الظافر أنه ركب بعد صلاة العشاء الآخرة بالشمع في القصر ووقف بباب الملك بالإيوان المجاور للشباك وأحضر ابني الأنصاري وهما أبو عبد الله وأبو واستدعى متولى الستر وهو صاحب العذاب وأحضرت آلات العقوبة وضرب الأكبر بحضوره بالسياط إلى أن قارب الهلاك وثنى بأخيه كذلك ثم أخرجا وقطعت أيديهما وسلت ألسنتهما من أقفيتهما وصلبا على بابي زويلة الأول والثاني فأقاما زماناً ثم وضعا. وكان سبب قلتها أنهما كانا من الكتاب فنبغا وتوصلا بالحافظ فاستخدمهما في ديوان الجيش فوثبا على رؤساء الدولة وأعيان كتابها وخواص الخليفة من الأستاذين المحنكين مثل الأجل الموفق كاتب الدست وكان موضع سر الخليفة ومحل مشورته في الأمور العظام من أحوال الممالك ومن يليه كالقاضي المرتضى المحنك والخطير ابن البواب وتجرآ على المذكورين وغيرهم مع قلة دربة. فكثر حسادهما وعمل عليهما فيما يخرج للأمراء والمقطعين من الخروجات في كل سنة ويشتمل الخرج على نعوت ذلك الأمير فيصير ذلك الخرج إلى عالم الإقطاعات وهو تحته. فذكرا في أحد الخروجات كلاماً طريفاً ليؤخذ عليه خطهما ليوقف عليه الخليفة حتى يتبين له جهلهما وهو: حبطست حبطست وفي النهر قد غطست بغلالة أرجوان صفراء بزعفران. فمشى عليهما ذلك وترجما الخرج بخطهما وخرج من أيديهما فأحضر إلى الأجل الموفق ابن الحجاج كاتب الدست فأخذه ودخل به إلى الخليفة الحافظ وقال: يا مولانا الأمثال مضروبة بحفظ ديوان هذه الدولة ومن يتولاها فكيف لو ظفر بهذا الخرج مخالف لها يقصد التشنيع عليها. فقال له الحافظ: يا مولاي الموفق هبهما لي. فقال: يا مولانا كلنا مماليكك. وخرج ولم يبلغ الأعداء منهما ما أرادوا فزاد أمرهما في الدولة على الخليفة والاستعلاء على الناس. وأراد الأكبر منهما أن يدخل على الخليفة ويخرج ظاهراً ليراه الناس فجدد له ديواناً سماه ديوان الترتيب وجمع فيه من يخدم في ترتيب الأعمال صفقة صفقة وأن يكون أميرهم بجار يقرر له وهذا الترتيب يقال له في غير هذه الدولة صاحب البريد فكان يكاتب متولى هذا الديوان بالأخبار بمطالعات تصل إليه مترجمةً بمقام الخليفة فيعرضها من يده ويجاوب عنها بخطه. فورد كتاب بعض أصحاب الترتيب بقضية فأجابه بكلام وأراد الاستشهاد بآية من كتاب الله تعالى فحرفها وقالها على غير ما أنزلت ووقع الجواب للموفق فأخذ في كمه مصحفاً ودخل إلى الخليفة ومعه جواب ابن الأنصاري وقال: يا مولانا هذا كتاب الله تعالى قد حضر إلى مقامك وهو المنزل على جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليك جناية ابن الأنصاري عليه فخذ بحقه لهذه الجنايات والحمد لله إذ وقع هذا الكتاب إلى المملوك دون غيره فإن المملوك لم يزل يتتبع هذه الأمور لئلا يقع عليها أعداء الدولة فيشيعوا ذلك في الدول المخالفة لها. فقال له الحافظ: أنا أعلم منك هذا وأعلم من المذكورين ما ذكرت وقد كنت سألتك فيهما مرة وهذه الثانية فإن لهما علينا خدمة. فقال: العفو يا مولانا. وانصرف ولم ينل منهما غرضاً. فأمر الحافظ ابن الأنصاري الأكبر أن يمضى إلى الأجل الموفق ويخدمه في داره. وكان يومئذ ديوان المكاتبات مقسوماً بين أبي المكارم ابن أسامة وبين الموفق إلا أن ابن أسامة لا يلتفت لأمر الديوان لكثرة شغله بدنياه فاستناب ابنه أبا المنصور عنه وكان يحلق بأبيه في الاشتغال بأمر دنياه عن النيابة فصار اعتماد الخليفة في الديوان بأجمعه على الأجل الموفق وكان ينفذه ولا يشق ابن أسامة لما أسلفه من الخدم السابقة. ثم لما مات أبو المكارم أسامة وكان في الظن أن ابنه أبا المنصور يستخدم مكانه سبق ابن الأنصاري وسأل الحافظ فاستخدمه في النصف من ديوان المكاتبات فقط شريكا للموفق فيه وانفرد الموفق بالإنشاء. ونعت ابن الأنصاري بالقاضي الأجل سناء الملك وأمره الحافظ بخدمة الموفق وأن يقنع معه بمجرد الرتبة. فشق ذلك على الموفق وصبر على ضر. وقرر أبو المنصور بن أسامة في ديوان الترتيب مكان ابن الأنصاري. وتجند ابن الأنصاري الأصغر وتأمر في يوم واحد وخلع عليه بالطوق ورتب في زم الإمرية وهي إمرة طوائف الأجناد. فكثر الأعداء وتعددت الحساد واشتغل الناس بهما وأطلقوا الألسنة بذمهما فكان يقال: هذا الأمير الطاوي ابن الأنصاري. ولج الناس بالكلام فيهم وهم عاجزون عنهم حتى مات الحافظ فكان من أمرهما مع ابنه الظافر ما تقدم ذكره. وفي يوم الثلاثاء رابع شعبان اجتمع كثير من السودان وعدة من المفسدين ببعض القرى فخرج إليهم الوزير ابن مصال فنازلهم حتى كسرهم. وكان الأمير المظفر سيف الدين معد الملك ليث الدولة علي بن إسحاق بن السلار واليا على البحيرة والإسكندرية وكان ابن زوجه ركن الإسلام عباس والي الغربية. فلم يرض ابن السلار بوزارة ابن مصال وخرج من الإسكندرية إلى ربيبه بالغربية واتفقا على القيام وإزالة ابن مصال. فبلغه ذلك فأعلم به الخليفة الظافر فجمع الأمراء في مجلس الوزارة وبعث إليهم زمام القصور يقول: هذا نجم الدين وزيري ونائبي فمن كان يطيعني فليطعه ويمتثل أمره. فقال الأمراء: نحن مماليك مولانا سامعون مطيعون فرجع الزمام بهذا الجواب. فقال أمير من الأمراء شيخ يقال له درى الحرون وهو أحد أشرار القوم ومن رفقة ابن السلار: إن سمع مني ما أقول قلت. فقال له الوزير: قل. قال: مولانا صلوات الله عليه يعلم وأنت تعلم أن ما في الجماعة من يضرب في وجه ابن السلار بسيف وأولهم أنا فإن كان مولانا يقتل جميع أمرائه وأجناده فالأمر لله وله. فلما سمع الجماعة ذلك قاموا وخرجوا من القصر وشدوا على خيولهم وساروا يريدون ابن السلار. فلما غلب الظافر عن دفعه أعطى ابن مصال مالاً كثيرا وأمره أن يعمل لنفسه ما يرى فيه الخيرة وهو يساعده. وسار ابن السلار فرأى ابن مصال أنه لا طاقة له به فخرج إلى جهة الصعيد وعدي إلى الجيزة ليلة الثلاثاء رابع عشر شعبان عندما سمع بوصول المظفر. وقدم ابن السلار إلى القاهرة في يوم الأربعاء خامس عشر شعبان فوقف على القصر وسير إلى الظافر وإلى من يدبره من النساء يعلم بحاله. فجرت بينه وبين أهل القصر مراجعات كثيرة آخرها أنه فتح له أبواب القصر وخلع عليه خلع الوزارة ونعت بالسيد الأجل أمير الجيوش شرف الإسلام كافل وبقي يحقد على الظافر ميله مع ابن مصال وفي نفس الخليفة نفور منه أيضا. وسكن دار الوزارة. وجمع ابن مصال كثيراً من السودان ومن العربان ولواتة وغيرهم وانضم إليه بدر بن رافع مقدم العربان وسار بهم. فندب ابن السلار ربيبه المظفر أبا منصور ركن الدين عباس بن أبي الفتوح بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس في عسكر فنزل بركة الحبش. وقدم ابن مصال أمامه الماجد في عسكر فطرق عباساً على حين غفلة وقتل من عسكره كثيراً وانهزم جماعة وثبت عباس حتى أتته النجدة من الغد فكر على أصحاب ابن مصال وقاتلهم فلم يفلت منهم إلا من سبحت به فرسه في النيل وأخذ الأمير الماجد نسيب ابن مصال وضربت عنقه. فسار ابن مصال إلى بلاد الصعيد بجميع الأجناد والعربان. وشرع ابن السلار يجهز عباساً فجهزه في جيش كثيف وبادر بالخروج خوفاً من الاجتماع على ابن مصال فسار إلى دلاص ومعه طلائع بن رزيك وهو أحد المقدمين فبرز إليه ابن مصال وواقعه عدة وجوه فانجلت الوقائع عن قتل ابن مصال وبدر بن رافع مقدم العربان في يوم الأحد التاسع عشر من شوال. ويقال إنه بلغت عدة القتلى سبعة عشر ألفا. فعاد عباس وقد قوي ومعه رأس ابن مصال إلى القاهرة فطيف بها على قناة القاهرة ومصر يوم الخميس ثالث عشري وكان ابن مصال من أهل برقة. وخدم أولاً في البيدرة والصيد هو وأبوه فتقدم في الخدم حتى نال الوزارة. واتفق أنه مر في وزارته مرةً فقالت له امرأة كانت تعرفه في حال فقره: سليم ووزرت فقال لها: نعم. قالت: والله ما وزرت وبقي أحد. فضحك وأمر لها بصلة. وكان العادل ابن السلام منذ استقر في الوزارة أخذ ينظر في أمر الأجناد المعروفين بالنهضة والعزم وزاد في أرزاقهم وتفقد خزائن السلاح وحفظ النواميس وشد من مذهب أهل السنة فقدم عليه الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي فأكرمه وبنى له مدرسة بالإسكندرية. وقدم عليه مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن علي بن منقذ فأكرمه. إلا أنه كان يستوحش من الظافر وخائفاً على نفسه فأخبر بأن ينتدب رجالا يمشون في ركابه بالزرد والخوذ نحو الستمائة ويجعلهم نوبتين بزمامين في كل يوم نوبة وأوهم أن الخليفة خبأ له قوماً يغتالونه بالقصر. فنقل جلوس الخليفة من القاعة التي يدخل إليها من الدهاليز المظلمة إلى الإيوان في البراح والسعة. فكان إذا دخل إلى الخليفة يدخل ومعه أولئك الذين انتدبهم كلهم فيجلس الخليفة في الشباك بالإيوان ويجلس هو من خارجه ومع هذا يبالغ في الخدمة ويظهر الطاعة ولا يخل بها في قول ولا فعل. وكان للخليفة غلمان نحو الخمسمائة رجل يقال لهم صبيان الخاص وفيهم من هو أمير فبلغ ابن السلار أنهم قد تحالفوا وتعاقدوا على أن يهجموا عليه وهو في داره ليلاً ويقتلوه. فلما كان في سادس عشري رمضان أغلق القاهرة والقصور وأحاط بصبيان الخاص وقتلهم وفر منهم عدة فكتب إلى الولاة بقتل من ظفر به منهم. وأخذ يتبعهم حتى أتى على أكثرهم. وأصل هذه الطائفة التي كانت تعرف بصبيان الخاص أن من مات من الأمراء والأجناد وعبيد الدولة وله ولد فإنه يحمل إلى حضرة الخليفة ويودع في أماكن مخصوصة ويؤخذ في تعليمه أنواع الفروسية من الرمي وغيره ويقال لهم صبيان الخاص. وأخذ ابن السلار في الاحتفال بأمر عسقلان وسد خللها وحمل إليها من الغلال والأسلحة شيئا كثيرا. وولي عضد الدولة ناصر الدين نصر بن عباس ربيبه مصر بشفاعة جدته أم عباس وكان فيه جرأة فاستدناه الخليفة الظافر وقربه واختص به. وفيها قتل الموفق أبو الكرم محمد بن معصوم التنيسي في يوم الجمعة الرابع من شوال وكان يتولى نظر الديوان. وذلك أن ابن السلار لما كان في بداية أمره من جملة الصبيان الحجرية دخل يوماً على الموفق بن معصوم برسالة وأعادها عليه مراراً وأغلظ له في القول فنفرت منه نفس ابن معصوم. فكتب له مرة منشور بإقطاع وجاء به إلى ابن معصوم ليثبته. فلما رآه تغافل عنه وأهمل أمره إهانةً له وكراهة فيه فقال له ابن السلار وقد تكرر سؤاله وهو يعرض عنه: ما تسمع فقال له الموفق: كلامك ما يدخل في أذني أصلاً. فولى ابن السلار وخرج من غير أن يكتب له. وصرف الدهر ضرباته وصار ابن السلار وزيراً وابن معصوم ناظر الدواوين فلما دخل عليه قال له: يا قاضي ما أظن كلامي يدخل أذنك فتلجلج وقال: عفو السلطان. فقال: قد استعملت العفو بخروجي من عندك. وأشار لبعض خدمه فأحضر مسمارا حديدا عظيم الخلقة وقال: والله هذا أعددته لك من ذلك الوقت. وأمر به فجر وضرب المسمار في أذنه حتى نفذ من الأخرى وحمل إلى باب زويلة الأوسط ودق المسمار في خشبة وعلق عليها ميتا ثم أنزل بعد أيام. وفيها رمي برأس سعيد السعداء الخادم من القصر في سابع عشر شعبان ثم أخرج وصلب بباب زويلة من ناحية الخرق. وهو هذا الذي تنسب إليه دويرة سعيد السعداء التي هي اليوم خانقاه برحبة باب العيد. وفيها قتل تاج الرئاسة ابن المأمون البطائحي في رابع عشر صفر. وفيها مات أبو الحسن علي بن الحسن البيساني والد القاضي الفاضل عبد الرحيم ابن علي وكان قاضي بيسان والناظر فيها ومولده في ثاني عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسمائة سنة خمس وأربعين وخمسمائة فيها أغار جمع كثير من الفرنج على الفرما ونهبوها وحرقوها وأخربوها في رجب سنة ست وأربعين وخمسمائة فيها جهز أبو منصور علي بن إسحاق المعروف بالعادل ابن السلار المراكب الحربية بالرجال والعدد وسيرها في ربيع الأول إلى يافا فأسرت عدةً من مراكب الفرنج وأحرقوا ما عجزوا عن أخذه وقتلوا خلقا كثيرا من الفرنج بها. ثم توجهوا إلى ثغر عكا فأنكوا فيهم وساروا منه إلى صيدا وبيروت وطرابلس فأبلوا بلاءً حسنا وظفروا بجماعة من حجاج الفرنج فقتلوهم عن آخرهم. وبلغ ذلك الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي ملك الشام فعزم على قصد الفرنج ومحاربتهم في البر ولو قدر ذلك لقطع الله دابر الفرنج لكنه اشتغل بإصلاح أمور دمشق. وعاد الأسطول مظفرا بعد ما أنفق عليه العادل ثلثمائة ألف دينار. وسبب مسير الأسطول تخريب الفرنج للفرما. وفيها قطع العادل بن السلار جميع الكسوات المقررة للناس في الدولة فعم ذلك الأمراء والدواوين سنة سبع وأربعين وخمسمائة فيها صرف ابن السلار أبا الفضائل يونس عن القضاء وكان من الأعيان النزهين الأنفس الكبيرين الهمم العظيمين القدر لم يشرب قط ماء النيل بل ماء الآبار ولم يأكل خبز السلطان. وقرر عبد المحسن بن محمد بن مكرم من بعده ثم صرفه وولى بعده بدر بن ثمال بن نصير وقيل بل الذي تولى بعده أبو المعالي محمد بن جميع ابن نجا الدسوقي الشافعي. |
12-21-2012, 09:13 PM | #38 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة ثمان وأربعين وخمسمائة
فيها خرج العسكر من القاهرة لحفظ ثغر عسقلان من الفرنج وكانوا قد نزلوا عليها في السنة الخالية. وكانت العادة أن يخرج في كل ستة أشهر عسكر بدلاً من العسكر الذي بالثغر. فلما قدم البدل كانت النوبة لركن الدين المظفر أبي منصور عباس بن تميم ربيب العادل. فخرج ومعه من الأمراء ابنه نصر بن عباس والأمير ملهم والضرغام وأسامة ابن منقذ وغيره وكان لأسامة بعباس اختصاص كبير. فلما نزلوا بعد رحيلهم من القاهرة على بلبيس تذكر عباس وأسامة مصر وطيبها وما هم خارجون إليه من مقاساة السفر ولقاء العدو فتأوه عباس أسفاً على مفارقته لذاته بمصر وأخذ يلوم العادل ويثرب عليه من أجل كونه أخرجه. فقال له أسامة: لو أردت كنت أنت سلطان مصر. فقال: وكيف لي بذلك فقال: هذا ولدك ناصر الدين بينه وبين الخليفة مودة عظيمة فخاطبه على لسانه أن تكون سلطان مصر موضع عمك فإنه يحبك ويكره عمك فإذا أجابك فاقتل عمك. فوقع هذا الكلام من عباس بموقع وقبله فاستدعى ابنه وأسر إليه بما تقرر بينه وبين أسامة وسيره سراً إلى القاهرة. وكان العادل قد كره تخصيص نصر بن عباس بالخليفة الظافر وقال لعباس وأمه والله ما ينبغي اجتماع نصر بالخليفة قولا له يقصر من اجتماعه فربما نتج من شابين ما لا ينبغي. وقال لأم عباس: لا يدخل ابنك داري إلا بإذني. فكأنه يوحي بأنه قاتله. فلما سار نصر من عند أبيه ودخل إلى القاهرة كان وقت غفلة من العادل أمكنته فيها الفرصة فاجتمع بالظافر وأعلمه بالحال التي قدم من أجلها فأعجبه ذلك وأذن فيه لما كان في نفسه من قتل ابن السلار لصبيان الخاص وغير ذلك. ففارق نصر الخليفة وقد قوى عزمه وأتى إلى دار جدته السيدة بلارة بنت القاسم زوجة العادل وأخبر العادل بأن أباه سمح له بالعود إلى القاهرة شفقةً عليه وخوفاً من وعشاء السفر فقبل ذلك ومشى عليه. فلما أصبح العادل يوم الخميس سادس المحرم مضى من أول النهار إلى مصر لتجهيز المراكب الحربية والنفقة في رجالها وعرضها فظل نهاره في تهيئة ذلك ليلحق عباساً وعاد في أثناء النهار إلى داره بالقاهرة وقد لحقته مشقة وتعب تعباً كثيرا. فلما استلقى على الفراش لينام وكانت امرأته جدة نصر قد توجهت إلى الحمام وخلا له البيت فجاء إلى باب السر ودخل منه ومعه سيف فإذا العادل قد نام وقت القائلة فاخترط سيفه وضربه وهو خائف فوقعت الضربة على رجله فثار من فراشه وأبصره فقال: إلى أين يا كليب! وخرج نصر يعدو وكان قد أعسته جماعة من أصحابه فلما صار إليهم وأعلمهم بما وقع قالوا له: قد قتلت نفسك وقتلتنا! ودخلوا وهو معهم فإذا به قد جاء أستاذ من خدامه وهو يحدثه فقتلوه وأخذوا رأسه فطلع بها نصر إلى الظافر. وماج الناس في القاهرة. وسرح الطائر للوقت بطلب عباس من بلبيس فقام من فوره وصار إلى القاهرة فدخلها بكرة يوم الجمعة سادس المحرم ثاني يوم قتلة العادل فوجد جماعة من الأتراك كان العادل اصطفاهم واختصهم قد نفروا وتوحشت قلوبهم مما وقع فأخذ يسكن أمرهم فلم يثقوا به ولا اطمأنوا إليه. وخرجوا يداً واحدة فساروا إلى دمشق. وكانت قتلة العادل في يوم الخميس وقت الظهر السادس من المحرم وله في الوزارة ثلاث سنين وستة أشهر. ولما حملت رأسه إلى الظافر أشرف من باب الذهب ونصبت الرأس ليراها الناس ثم حملت إلى خزانة الرءوس من بيت المال وجعلت فيها مع الرءوس وما تحرك لها ساكن ولا تكلم أحد. إلا أن نائحة كانت تسمى خسروان كانت قد مهرت في صناعة النياحة على الأموات وصارت تنشىء في نواحها الروائع فقالت فيه ترثيه سطرين أعجب بهما أدباء العصر من جملة قطعة: ما تقبل الغفلة يا شهيد الدّار يا شبيه ذي النّورين صاحب المختار وبطل مسير العساكر إلى عسقلان. فسر الفرنج ما جرى وكانوا محاصرين لعسقلان فقالوا لأهلها قتله ابنه وأنتم تقاتلون لمن فلما صح الخبر لهم وهنوا لانقطاع المدد عنهم حتى أخذها الفرنج وتقووا بأخذها. واستعرضوا كل جارية ومملوك بدمشق من النصارى وأطلقوا قهراً من أراد منهم الخروج من دمشق إلى وطنه شاء صاحبه أو أبى. ولما وصل عباس خلع عليه الظافر خلع الوزارة في يوم الجمعة المذكور ونعت بالأفضل ركن الإسلام فباشر وضبط الأمور وأكرم الأمراء وأحسن إلى الأجناد لينسيهم العادل. واستمر ولده نصر على مخافطة الخليفة عن كل أحد وأبوه لا يعجبه ذلك. وواصل الخليفة الظافر نصر بن عباس بن تميم بالعطاء الجزيل فأرسل إليه في يوم عشرين صينية فضة فيها عشرون ألف دينار ثم أغفله أياماً وحمل إليه كسوة من كل نوع وأغفله أياماً وبعث إليه خمسين صينية فضة فيها خمسون ألف دينار وأغفله أياما وبعث إليه ثلاثون بغل رحل وأربعين جملا بعددها وغرائرها وحبالها. وكان يتردد بينهما مرتفع بن فحل في قتل نصر لابنه عباس كما قتل زوج جدته العادل ابن السلار فبلغ ذلك أباه على لسان أساة بن منقذ فلاطفه واستماله. وزاد الأمر حتى كان الخليفة يخرج من قصره إلى دار نصر بن عباس التي هي اليوم المدرسة المعروفة بالسيوفية. فخاف عباس من جرأة ابنه وخشى أن يحمل الخليفة على قتله فيقتله كما قتل ابن السلار فعتبه سرا ونهاه عن ملازمة الخليفة وابنه فلم يفد فيه القول. وفيها وصلت مراكب من صقلية فملكوا مدينة تنيس. وفيها مات رجار بن رجار صاحب جزيرة صقلية وقام من بعده ابنه وليالم بن رجار بن رجار فاسترد المسلمون سواحل إفريقية والمهدية. سنة تسع وأربعين وخمسمائة فيها استدعى الظافر ناصر الدولة نصر بن عباس وأخرج له صينية من ذهب فيها ألف حبة ما بين لؤلؤ وياقوت أحمر وأصفر وزمرد أخضر ذبابي وأمر له من بيت المال بعشرة آلاف دينار مصرية فقتله بعد هذه الهدية بستة أيام. وذلك أنه خرج الخليفة الظافر متنكراً من قصره في ليلة الخميس سلخ المحرم ومعه خادمان وسار على عودته إلى دار نصر بن عباس فقتله نصر وحفر له تحت لوح رخام ودفنه وقتل سعد الدولة أحد الخادمين اللذين خرجا معه من القصر وفر الآخر. وكان سبب قتله أن الأمراء استوحشوا من أسامة بن منقذ عندما علموا أنه هو الذي حسن لعباس قتل ابن السلار وتحدثوا بقتله وقيل للظافر عنه إنه غريب ومن دولة أخرى وإن في تركه وقوع ما لا يمكن تداركه. فلما بلغ أسامة ذلك أخذ يغري عباساً بابنه نصر ويبالغ في القصة حتى قال له يوما: كيف تصبر على ما يقول الناس في حق ولدك واتهامهم الخليفة أنه يفعل به ما يفعل بالنساء. فشق على عباس ولام ابنه فلم يصغ إلى لومه. فلما أنعم الظافر على نصر بناحية قليوب وحضر إلى أبيه ليعلمه بذلك قال أسامة وكان حاضراً ما هي بمهرك غالية. فامتعض لذلك عباس وقال لأسامة: كيف الحيلة في الخلاص مما بلينا به! فقال: هين هذا الخليفة في كل وقت يأتي إلى عند ولدك في داره خفية فمره إذا جاء أن يقتله. فاستدعى عباس ابنه وقال: يا بني قد أكثرت من ملازمة الخليفة وتحدث الناس في حقك بما أوجع باطني وقد يصل من هذا إلى أعدائنا ما لا يزول. فاحتد نصر وقال له: أيرضيك قتله فقال: أزل التهمة عنك كيف شئت. فأخذ نصر يعمل الحيلة في قتل الظافر وسأله أن يخرج إلى داره ليلاً في سر من الخدم ليتفسحا في منزله ليلة واحدة وكان منزله دار المأمون البطائحي. فخرج إليه في عدة يسيرة من الخدم فلما تحصل عنده اغتاله وقتل الخدم الذين معه بالجماعة الذين قتل بهم العادل ابن السلار ورمى بهم في جب عنده وغطى رأس الجب بقطعة رخام بيضاء فصارت من جملة رخام المجلس فخفى أمره. ثم مضى نصر إلى أبيه وعرفه قتل الظافر. وكان الظافر من أحسن الناس صورة وقتل وله من العمر إحدى وعشرون سنة وتسعة أشهر وخمسة عشر يوماً منها مدة خلافته أربع سنين وسبعة أشهر وأربعة عشر يوما. وكان محكوما عليه من الوزراء. وفي أيامه أخذ الفرنج عسقلان واستولوا عليها وظهر الوهن والخلل في الدولة فإنه كان كثير اللهو واللعب مع جواريه مقبلاً على سماع المغنى. وهو الذي أنشأ الجامع المعروف الآن بجامع الفكاهين في خط الشوايين من القاهرة. وفيها ملك نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر دمشق من مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن طغتكين فسار أبق إلى بغداد وبها مات. وكان عند الإمام الظافر في قصر الروض ببغاء بيضاء تقرأ المعوذتين وتستدعي كثيراً من الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر بأمر الله أبي المنصور وإسماعيل بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد يقال في اسم أمه ست الكمال ويقال إحسان. ولد يوم الجمعة حادي عشر المحرم وقيل لتسع بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة وبويع له عند قتل أبيه يوم الخميس سلخ المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة وعمره يومئذ خمس سنين وعشرون يوما وكان من خبره أنه ما قتل نصر بن عباس الخليفة الظافر في ليلة الخميس أصبح الوزير عباس متوجهاً إلى القصر في يوم الخميس على العادة فلما صار إلى مقطع الوزارة وطال جلوسه والخليفة لم يجلس استدعى زمام القصر مفلحاً وقال له: إن كان مولانا ما يشغله عنا في هذا اليوم عدنا إليه في الغد. فمضى الزمام وهو حائر لا يدري ما يعمل وأعلم أخوي الظافر يوسف وجبريل وكانا رجلين وأحدهما مكتهل فأخبرهما بالقصة ولم يكن عندهما من خروج أخيهما إلى دار نصر بن عباس خبر ولا علما إلا في تلك الساعة فلم يشكا حينئذ أنه قتل وقالا للزمام: هبك اعتذرت اليوم هل يتم لك هذا مع الزمان فقال: فما تأمراني فقالا: اصدقه وحاققه. فعاد إليه وقال: ثم سر ألقيه إليك بحضور الأمراء الأستاذين. فقال: ما ثم إلا الجهر. فقال: إن الخليفة خرج البارحة لزيارة ولد لك فلم يعد بغير العادة. فقال: تكذب يا عبد السوء وإنما أنت مبايع أخويه يوسف وجبريل اللذين حسداه على الخلافة واغتالاه فاتفقتم على هذا القول. فقال: معاذ الله. قال: فأين هما فخرجا إليه ومعهما ابن عم لهما يقال له أبو التقى صالح بن حسن بن عبد المجيد ابن محمد بن المستنصر فقال: حضرا. فقال لهما: أين الخليفة فقال الثلاثة: هو بحيث يعلم ابنك ناصر الدين قال: لا وإنما أنتما قتلتماه حسداً له. قالا: هذا بهتان منك لأن بيعة أخينا في أعناقنا وهؤلاء الأمراء الحاضرون يعلمون ذلك وإننا لفي طاعته بوصية أبينا. فكذبهما وأمر غلمانه يقتلونهم الثلاثة. وكان في القصر ألف سيف مجردة فشوهد أمر قبيح لم ير أشنع منه لما جرى فيه من البغي الذي ينكره الله تعالى وجميع الخلق. وقال لزمام القصر: أين ابن مولانا فقال: حاضر. قال: فدلني إلى مكانه. فدخل بنفسه إليه وكان عند جدته لأمه فحمله على كتفه وأخرجه للناس قبل أن يرفع القتلى وبويع بالخلافة ولقب بالفائز بنصر الله وعمره يومئذ خمس سنين وعشرون يوماً وصار يشاهد القتلى فحصل له فزع واضطراب وما زال مدة خلافته لم يطب له عيش لأنه كان يصرع كل قليل. ومن طريف ما وقع في هذا اليوم أن الوزير عباساً لما أراد الدخول إلى المجلس وجد بابه قد قفل من داخل وكان متولى فتح المجلس وغلقه أستاذ شيخ يقال له أمين الملك فاحتالوا في الباب حتى فتحوه ودخلوا فإذا أمين الملك خلف الباب وهو ميت وفي يده المفتاح. وفي أثناء ذلك حضر الخادم الذي أفلت من نصر إلى القصر وحدثهم بكيفية قتلة الظافر فكثرت النياحة عليه بالقصور. وظن عباس أن الأمر قد استقام له فجاء خلاف ما أمل. وأخذ أهل القصور في إعمال الحيلة عليه وكان الأمراء والسودان قد نافروه واستوحشوا منه لما فعله بأولاد الحافظ وأضمروا له العداوة والبغضاء. فاختلفت عليه الكلمة وهاجت الفتنة وصار العسكر أحزاباً ولبسوا السلاح. فخرج إليهم عباس في يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول فكانت بينه وبينهم محاربة انكسروا فيها منه وقتل منهم جماعة. هذا وأهل القصر في تدبير العمل عليه فبعثت عة الفائز إلى فارس المسلمين أبي الغارات طلائع بن رزيك وكان والياً على الأشمونين والبهنسا بالكتب وفي طيها شعور النساء تستصرخ به على عباس وكتب إليه أيضا الجليس بن الحباب. فامتعض عند وقوفه على الكتب ورؤية شعور النساء وجمع العربان والأجناد مقطعي البلاد. وبلغ ذلك عباسا فخرج من القاهرة بالعساكر في عاشر صفر وجعل ابنه ناصر الدين بالقاهرة وأنفذ إلى طلائع بحسين بن أبي الهيجاء زوج ابنته ليرده عما عزم عليه. فلما خلا به قال له: تقاتل عباساً وله خمسة آلاف مملوك!! قال: أقتاله بنفسي ونفسك. قال: أما الآن فنعم. ففت ذلك في عضد عباس لشهرة حسين وشجاعته. وعندما نزل عباس إلى إطفيح في بكرة يوم الثلاثاء خامس عشره لحق أعراب إطفيح بابن رزيك فوافوه على أبويط فسار بهم ونزل دهشور فاضطرب عباس ورجع إلى القاهرة وتفرق عنه الناس إلى طلائع بن رزيك وصار من أهل البلد في مناكدة. وغلقوا أبواب القاهرة ووقع القتال في الشوارع فاستظهر عليهم عباس وفتحوا الأبواب وقد تحقق عداوة الأمراء والجند له. واتفق أنه مر يوماً فرمى من طاق ببعض الشوارع بهاون ورمى مرةً بقدر مملوءة طعاماً حاراً فقال: ما بقي بعد هذا شيء. وعزم على الفرار فلم يقدر وغلقت أبواب القاهرة. واشتغل الناس بهذا الحادث وهو يدبر في الخروج من القاهرة فأشار عليه بعض خواسه بتحريق القاهرة فأبى وقال: يكفي ما جرى. فلما عدى طلائع بن رزيك إلى حمول عول عباس وولده نصر على المسير من مصر بكل ما يملكانه من مال وسلاح وما قدرا عليه من حواصل الدولة وكان له مائتا حصان وحجرة مجنوبة على أيدي الرجال ومائتا بغل رحل وأربعمائة جمل تحمل أثقاله في يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الأول بعد ما حلف الأمراء ألا يخونوه. وأحضر مقدمي فلما كان يوم الجمعة ركبوا عليه بكرة وتبعهما أسامة بن منقذ وجماعة وبلغ ذلك طلائع فسار ونزل قبالة المقس في عشية نهاره وخرج الناس إلى المقابر. وبات في عشاري وأصبح فأقام إلى يوم الأربعاء تاسع عشره فركب يريد القصر وقد خرج الأمراء إليه منهم من قاتله ومنهم من انضم إليه فلم يكن غير ساعة حتى انجلى الأمر عن فرار عباس وولده وابن منقذ فنهب الناس دورهم. ودخل طلائع إلى القاهرة وشقها بعساكره في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول وهو لابس ثيابا سوداء وأعلامه وبنوده كلها سود وشعور النساء التي أرسلت إليه من القصر على رءوس الرماح. فكان هذا من الفأل العجيب فإن الأعلام العباسية السود دخلت إلى القاهرة وأزالت الأعلام العلوية البيض بعد خمس عشرة سنة. ونزل طلائع بدار المأمون التي كان يسكنها نصر بن عباس. وأحضر الخادم الذي كان مع الظافر لما قتل فأعلمه بالحال فمضى راجلاً من القصر إلى دار نصر بن عباس واستخرج الظافر والأستاذ الذي كان معه وغسلهما وكفنهما وحمل الظافر في تابوت مغشى الأستاذون والأمراء ومشى طلائع وهو حاف قد شق ثيابه ومعه الناس بأجمعهم حتى وصل إلى القصر فصلى عليه الخليفة الفائز ودفن في تربة القصر مع آبائه. وجلس الفائز بقية النهار وخلع على طلائع بن رزيك بالموشح والعقد الجوهر وخلع على ولديه ونعت بالأجل الناصر سند الإمام زعيم الأنام مجير الإسلام خدن أمير المؤمنين. وخلع على أخيه ونعت بنعوت الصالح قبل الوزارة وخلع على حواشيه. وأجرى في الخلع مجرى الأفضل بالطيلسان المقور وأنشىء له سجل عظيم نعت فيه بالملك الصالح ولم يلقب أحد من الوزراء قبله بالملك وذلك يوم الخميس الرابع من شهر ربيع الآخر. وكتب في سجله على طرفه بخط الفائز: لوزيرنا السيد الأجل الملك الصالح ناصر الأئمة كاشف الغمة أمير الجيوش سيف الإسلام غياث الأنام كافل قضاة المسلمين هادي دعاة المؤمنين أبي الغارات طلائع بن رزيك الفائزي عضد الله بن الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين وأدام قدرته وأعلى أبداً كلمته من جلالة القدر وعظيم الأمر وفخامة الشان وعلو المكان واستيجاب التفضيل واستحقاق غايات المن الجزيل ومزية الولاء الذي بعثه على بذل النفس في نصرتنا ودعاه دون الخلائق إلى القيام بحق مشايعتنا وطاعتنا مما يبعثنا على التبرع له ببذلك كل مصون والابتداء من ذاتنا بالاقتراح له بكل شيء يسر النفوس ويقر العيون والذي يعمله هذا السجل من تقريظه وأوصافه فالذي تشتمل عليه ضمائرنا أضعاف أضعافه ولذلك شرفناه بجميع التدبير والإنالة ورفعناه إلى أعلى رتب الأصفياء بما جعلناه له من الكفالة. والله تعالى يعضد به دولتنا ويحوط به حوزتنا ويمده بمواد التوفيق والتأييد ويجعل أيامه في وزارتنا ممنوحةً غاية الاستمرار والتأبيد إن شاء الله تعالى. وكان سجلاً في غاية الطول والكبر من إنشاء الآجل الموفق أبي الحجاج يوسف ابن علي بن الخلال. ونزل الملك الصالح بالخلع والأمراء وغيرهم من أهل الدولة مشاة في ركابه إلى دار الوزارة فجلس للهناء وتقدم الشعراء فأنشدوا عدة مدائح ذكروا فيها هذه الحالة والواقعة. وكانوا عدة منهم عبد الرحيم بن علي البيساني والقاضي الأجل الرشيد أحمد بن الزبير والقاضي الجليس عبد العزيز بن الحسنين بن الحباب والقاضي السعيد جلال الملك الأشرف ضياء الدين أبو علي الحسن بن محمد بن محمد بن إسماعيل بن كاسيبويه وأبو محمد يحيى ابن خير الملقب ديك الكرم الشاعر وغيرهم وأما عباس فإنه سار بمن معه يريد أيلة ليسير منها إلى بلاد الشام فأرسلت أخت الظافر إلى الفرنج بعسقلان رسلاً على البريد تعلمهم الحال وتبذل لهم الأموال في الخروج إلى عباس وأباحتهم جميع ما معه وأن يعبثوا به إلى القاهرة فأجابوا إلى ذلك وخرجوا إليه. فلما أدركوه ثبت لهم ودافعهم عن نفسه فخذله أصحابه وفروا عنه مع أسامة بن منقذ إلى الشام فقاتل الفرنج حتى قتل وأسر ابنه نصر فعمل في قفص حديد وحمل إلى القاهرة فدخل به إلى القصر يوم الاثنين سابع عشري ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة وأخرج من يوم الاثنين الثامن عشر من ربيع الآخر قتيلاً مقطوع اليد اليمنى وصلب سحراً على باب زويلة فكان يومً عظيما عند الناس. واستولى الفرنج على جميع ما كان معهم. ولما سير الفرنج بنصر بن عباس إلى القاهرة أنشد عندما عاين البلد: بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر وخرج الناس عند قدومه إلى القاهرة ليروه فبالغوا في سبه ولعنه وبصقوا عليه حتى دخل القصر وعرض في القفص وقتل قتله الجواري نخساً بالمسال وصفعاً بالنعال وقطعوا لحمه واشتووه وأطعموه إياه حتى مات ثم أخرج وصلب على باب زويلة وأحرق بعد ذلك. وتتبع الصالح من كان مع نصر بن عباس في قتل الظافر فقتل قايماز وفتوح الأخرس وابن غالب صبراً بين يديه في جماعة معهم. وثبتت أموره فنعت نفسه بفارس المسلمين نصير الدين الصالح ومدحه الشعراء بذلك. وشرع الصالح في الميل على المستخدمين وأخذ أموالهم وتتبع أرباب البيوتات والنعم والأعيان فسلبهم نعمهم. وقبض على عدة من الأمراء وقتلهم في ثالث عشر ربيع الأول وعلى عدة من أرباب العمائم منهم أبو الحسن علي بن سليم بن البواب ناظر الدواوين وكان عارفاً بالحساب والمنطق والهندسة مليح الشعر والترسل جيد الكتابة. وأخذ يعمل على الأمراء المتقدمين في الدولة مثل ناصر الدين ياقوت صاحب الباب وكان قد ناب عن الحافظ مرة في مرضة مرضها مدة ثلاثة أشهر وكاد يوليه الوزارة ومثل الأوحد بن تميم والي دمياط وتنيس فإنه كان قد تحرك لما سمع قضية عباس وسار يريد القاهرة فسبقه طلائع بن رزيك بيوم فصار يحقد عليه كونه هم بأمر ربما نال به الوزارة غير أنه لم يسعه إلا إعادته إلى ولايته وأضاف إليها الدقهلية والمرتاحية وهو يسر له المكر. وكان من أمراء الدولة تاج الملوك قايماز وهو من أكابر الأمراء ويليه ابن غالب فحمل الأجناد عليهما حتى قتلا ونهبت دورهما. ثم إنه قلق من قرب الأوحد منه وأراد إبعاده عنه فنقله من ولاية دمياط وتنيس إلى ولاية سيوط وأخميم فخلت له القاهرة. وأظهر مذهب الإمامية وباع الولايات للأمراء وجعل لكل ولاية سعراً ومدةً ستة أشهر فقط فتضرر الناس من كثرة ترداد الولاة عليهم. وضيق مع ذلك على أهل القصر طمعا في صغر سنة الخليفة. وجعل له مجلساً يحضره أهل الأدب في الليل وطارحهم فيه الشعر فهرع إليه الناس ودونوا ما ينظمه من الشعر وكان ابن الزبير فيها صرف الصالح عن قضاء القضاة أبا المعالي مجلى بن جميع الفقيه الشافعي وولى القاضي المفضل أبا القاسم هبة الله بن عبد الله بن كامل بن عبد الكريم في أخريات شعبان. فيها بلغ التليس ستة دنانير. فيها مات القاضي المرتضى أبو عبد الله محمد بن الحسين الطرابلسي المعروف بالمحنك وكان قد ولي نظر الدواوين والخزائن وله تاريخ خلفاء مصر قطع فيه على الحافظ. ومات ركن الخلافة أبو الفضل جعفر فاتك بن مختار بن حسن بن تمام أخو الوزير المأمون بن البطائحي وصلى عليه الصالح. وفيها كتب المقتفي لأمر الله العباسي عهداً لنور الدين محمود بن زنكي صاحب دمشق بولاية مصر والساحل وبعثه إليه بمراكب زحف وأمره بالمسير إليها لما بلغه قتل الظافر وإقامة الفائز من بعده وهو صغير وقيل له قد اختلت أحوال الدولة بمصر. سنة خمسين وخمسمائة فيها مضى الأسطول إلى ميناء صور فملكها وأخربها وأحرقها وعاد مظفراً بعدة مراكب فيها حجاج من النصارى وغيرهم وبعدة كبيرة من الأسرى وبغنائم جزيلة. وفيها خرج على الصالح الأمير الأوحد بن تميم والي إخميم وأسيوط وجمع جمعاً موفوراً فسير إليه الصالح عدة من العسكر فكانت بينهما عدة وقائع أسفرت عن قتله الأوحد في يوم الأربعاء سابع عشر رجب. وفيها قدم الفقيه نجم الدين عمارة بن أبي الحسن علي اليماني الحكمي في شهر ربيع الأول برسالة قاسم بن فليتة أمير الحرمين فأحضر في قاعة الذهب من القصر يوم السلام وقد جلس الخليفة الفائز وحضر الوزير الملك الصالح طلائع بن رزيك والأمراء على العادة فأدى الرسالة وأنشد: الحمد للعيس بعد العزم والهمم حمداً يقوم بما أولت من النّعم لا أجحد الحق عندي للرّكاب يدٌ تمنّت اللّجم فيها رؤية الخطم قرّبن بعد مزار العزّ من نظري حتى رأيت إمام العصر من أمم ورحن من كعبة البطحاء والحرم وفداً إلى كعبة المعروف والنّعم فهل درى البيت أني بعد فرقته ما سرت من حرمٍ إلاّ إلى حرم حيث الخلافة مضروبٌ سرادقها بين النّقيضين من عفوٍ ومن نقم وللإمامة أنوارٌ مقدّسةٌ تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم وللمكارم أعلامٌ تعلّمنا مدح الجزيلين من بأس ومن كرم وللعلا ألسنٌ تثنى محامدها على الحميدين من فعل ومن شيم وراية الشّرف البذّاخ ترفعها يد الرّفيعين: من مجدٍ ومن همم أقسمت بالفائز المعصوم معتقداً فوز النجاة وأجر البرّ في القسم لقد حمى الدّين والدّنيا وأهلهما وزيره الصّالح الفرّاج للغم اللاّبس الفخر لم تنسج غلائله إلاّ يد الصّنعين: السّيف والقلم وجوده أوجد الأيّام ما اقترحت وجوده أعدم الشاكين للعدم قد ملّكته العوالي رقّ مملكةٍ تعير أنف الثّريا عزّة الشّمم أرى مقاماً عظيم الشأن أوهمني في يقظتي أنها من جملة الحلم يومٌ من العمر لم يخطر على أملى ولا ترقّت إليه رغبة الهمم ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح فما أرضى لكم كلمى ترى الوزارة فيه وهي باذلةٌ عند الخلافة نصحاً غير متّهم فكان الصالح يستعيد أبياتها في حال الإنشاد مراراً والأمراء والأستاذون يذهبون في الاستحسان كل مذهب. ثم أفيضت عليه خلع الخليفة المذهبة ومنح له الصالح خمسمائة دينار وأخرجت إليه السيدة الشريفة بنت الحافظ مع الأستاذين خمسمائة دينار أخرى وحمل المال معه إلى منزله وأطلقت له من دار الضيافة رسوم جليلة وتهادته أمراء الدولة إلى منازلهم للولائم. واستحضره الصالح للمجالسة ونظمه في سلك أهل المؤانسة وانثالت عليه صلاته وعمره ببره. وصار يحضر في الليل عنده مع الشيخ الجليل أبي المعالي ابن الحباب والشيخ الموفق ابن الخلال وأبى الفتح محمود بن قادوس والمهذب أبي محمد الحسن بن الزبير وولد الصالح مجد الإسلام رزيك وصهره الأجل المظفر الأمين سيف الدين حصن المسلمين ذي الفضائل والمناقب يمين أمير المؤمنين أبي عبد الله الحسين بن الأمير فارس الدولة أبي الهيجاء الفائزي الصالحي وأخيه فارس المسلمين بدر بن رزيك وقريبه عز الدين حسام وضرغام وعلي بن الزبرد ويحيى بن الخياط ورضوان بن جلب راغب وعلي هوشات ومحمد بن شمس الخلافة. وهؤلاء أهل مجلس الليل. وأنشده يوما وهو في القبو من دار الوزارة قصيدة منها: وزوروا المقام الصّالحيّ فكلّ من ** على الأرض ينسى ذكره عند ذكره ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى ** فتجنوا على مجد المقام وفخره ولكن سلوا منه العلا تظفروا بها ** فكلّ امرئ يرجى على قدر قدره فرمى إليه الخريطة فوجد فيها خمسمائة دينار وخمسين رباعياً. ومدحه في شعبان بقصيدة فدفع إليه الخريطة فإذا فيها ثلاثة وسبعون دينارا. ثم لما عزم على الرجوع ودع الخليفة والصالح بن رزيك بقصيدة فأوسعاه إكراماً وإنعاماً ورسم أن يكون تسفيره خمسمائة دينار كما كانت وفادته وبعثت إليه السيدة مثل ذلك وخلع عليه للسفر ودفع له الصالح مائة دينار. وكتب له إلى ناصر الدولة والي قوص بمائة إردب من القمح وحملها من مال الديوان إلى مكة. وكتب له كتاب إلى محمد بن عمران صاحب عدن ببراءته من ثلاثة آلاف دينار وإسقاطها عنه. وسار في شوال إلى مكة فتسلم القمح من قوص وحمل معه إلى مكة من مال الديوان. ولما وقف صاحب عدن على الكتاب أبرأه من الثلاثة آلاف دينار وأسقطها عنه فسير إلى الصالح بقصيدة من عدن يشكره على ذلك فلما وقف عليها قال: قد فرطنا فيه حين تركناه يخرج من عندنا ولقد كان إمساكه للخدمة والصحبة أولى. فيها مات الفقيه أبو المعالي مجلى بن جميع بن نجا المخزومي القرشي الأرسوفي الشافعي صاحب كتاب الذخيرة في الفقه. سنة إحدى وخمسين وخمسمائة فيها نزع السعر ووقع الغلاء بديار مصر فلحق الناس منه شدة. سنة اثنين وخمسين وخمسمائة فيها كان انفساخ الهدنة بين الفرنج وبين المصريين فشرع الصالح في النفقة على العساكر وعربان البلاد للغارة على بلاد الفرنج. فأخرج سريةً في سابع عشر جمادى الأولى وأتبعها بأخرى في رابع عشر جمادى الآخرة فوصلت الأولى إلى غزة ونهبت أطرافها ثم سارت إلى عسقلان فأسرت وغنمت وعادت مظفرة غانمة. ثم ندب سرية ثالثة فمضت إلى الشريعة فأبلت بلاءً حسنا وعادت ومؤيدة. وسير المراكب الحربية فانتهت إلى بيروت وأوقعت بمراكب الفرنج وأسرت منهم وغنمت. وسير عسكراً في البر إلى بلاد الشوبك فعاثوا فيها وغاروا ورجعوا بالغنائم في رجب ومعهم كثير من الأسرى. ثم سير الأسطول إلى عكا فأسروا نحواً من سبعمائة نفس بعد حروب كثيرة وعاد الأسطول في رمضان. وجهز سريةً فغارت على بلاد الفرنج وعادت بالغنائم في رمضان. ثم بدأت سرية في أول ذي القعدة وأردفها بأخرى في خامسه فوصلت غاراتهم إلى أعمال دمشق وعادوا غانمين. وفيها قدم رسول نور الدين محمود صاحب دمشق. وفيها كسرت مراكب للفرنج فيها الحجاج منهم على ثغر الإسكندرية فقبض عليهم نائب الثغر وجهزهم. وفي سلخ ذي الحجة قبض الصالح على الأمير ناصر الدولة ياقوت والي قوص وعلى أولاده واعتقلهم من أجل أنه بلغه عنه أنه كاتب أخت الظافر وقصد القيام على الصالح وأخذ الوزارة. وكان ناصر الدولة في ولاية قوص من أيام عباس ولما استدعى أهل القصر طلائع من الأشمونين لم يجسر على الحركة حتى كتب إلى ناصر الدولة يعلمه بذلك ويستدعيه ليكون له الأمر فأعاد جوابه يظهر الزهد في ذلك وأنه تركه من أيام الخليفة عن قدرة ظناً منه أن طلائع لا يصلح ولا يتم له ما يريد من مقاومة عباس فخاب رجاؤه. ولم يزل به الصالح حتى أودعه السجن ولم يزل به حتى مات فيه في رجب من الآتية. وفيها أحضر إلى القاهرة رجل كامل الأعضاء سريع الحركة طوله من رأسه إلى قدمه أربعة أشبار وله عدة أولاد فدخل على الصالح حتى رآه. في هذه السنة زلزلت الشام زلازل عظيمة أخربت حصن شيزر وأكثر حماة وبعض كفر طاب وأفامية وزلزلت في حلب وغيرها من البلاد وكانت بدمشق خفيفة لم تخرب شيئا ودامت مدة بأرض الشمال. وفيها سقطت دار بخط سوق وردان من مدينة مصر هلك بها جماعة من سكانها من جملتهم امرأة ترضع ولداً أخرجت من تحت الردم ميتة وأخرج الطفل ابنها في ثاني يوم وهو حي فسلم إلى من ترضعه وعاش حتى بلغ مبالغ الرجال. واتفق أيضا في هذه السنة أن السديد أبا النقباء صالحاً كان يخدم في عمالة الرباع السلطانية بمصر ومما يجري فيها دار ابن معشر عند فم السد الذي يفتح كل سنة عند كسر الخليج إذا كان وفاء النيل فإذا كان قرب الوفاء رسم بمرمة هذا الدار فرممت وأسكنت في موسم الخليج فيتحصل من أجرتها في يوم وليلة ما يتحصل من أجرة سنة كاملة. فرمها في هذه السنة وأسكنها على العادة وسكن في بيت تحتاني منها فامتلأت جميعها حتى لم يبق فيها ما يسع أحداً فسقطت وهلك جميع من فيها إلا هو فإنه أخرج بعد يومين من تحت الردم فيه رمق فبرأ وعاش مدة طويلة ثم طلع يوما وهو عجل إلى منزل سكناه بحارة الروم من القاهرة اندقت ساقه في درجة وحدث بها خدش يسير فمات منه. في المحرم جهز الصالح أربعة آلاف وأمر عليهم شمس الخلافة أبا الأشبال ضرغاماً للغارة على بلاد الفرنج فساروا في صفر إلى تل العجول وحاربوا الفرنج في النصف منه فانهزموا من المسلمين هزيمة قبيحة عليهم. وسير عسكراً في آخر في شعبان فواقعوا الفرنج على العريش وعادوا ظافرين بعدة غنائم ما بين خيول وأموال. وفيها قدم رسول الملك العادل محمود بن زنكي وقدمت رسل الفرنج يسألون في الصلح ورسول صاحب قسطنطينية يسأل إسعافه بمراكب نجدةً له على صاحب صقلية. وفيها خرجت من القاهرة سرية إلى بيت جبرين وعادت غانمة. وسار الأسطول في يوم الجمعة ثالث عشري ربيع الآخر فانثنى إلى تنيس في الثامن من شعبان وأقعل منه إلى بلاد الفرنج. وفي سادس عشري ربيع الآخر قدم أسطول الاسكندرية وقد امتلأت أيدي الغزاة بالغنائم. وفي ربيع الآخر سار عسكر إلى وادي موسى فنزل على حصن الدميرة وحاصره ثمانية أيام وتوجه إلى الشوبك وأغار على ما هنالك وأقام أميران على الحصار وعاد بقية العسكر. وفي التاسع من جمادى الأولى سار عسكر إلى القدس فخرب وعاد بالغنائم. وورد الخبر بوقعة كانت على طبرية كسر فيها الفرنج وانهزموا فأخذ الصالح في النفقة على طوائف العسكر وكان جملة ما أنفقه فيها مائة ألف دينار. فلما تكامل تجهيزهم سير خمس شوال في الخامس من شعبان فتوجهت لسواحل الشام وظفرت بمراكب من مراكب الفرنج وعادت بكثير من الغنائم والأسرى في الثاني والعشرين من رمضان. وخرج العسكر في البر وقد ورد الخبر بحركة متملك العريش يريد الغارة على أطراف البلاد فلما بلغه سير العسكر لم يتحرك ورجع العسكر. وجهز رسول محمود بن زنكي بجواب رسالته ومعه هدية فيها من الأسلحة وغيرها ما قيمته ثلاثون ألف دينار ومن العين ما مبلغه سبعون ألف دينار تقويةً له على جهاد الفرنج. وكتب إلى الصالح كتابا ضمنه قصيدة يحرضه فيها على قتال الفرنج فوصلت إليه في سادس عشر من شهر رمضان ولبس نور الدين خلعة الملك الصالح طلائع وانقضت السنة في تجهيز العساكر في البر والبحر ومسيرها وعودها بالغنائم الكثيرة والأسارى العديدة منهم أخو القمص صاحب قبرص فأكرمه الصالح وبعث به إلى ملك القسطنطينية. وكثرت الغنائم من الفرنج بالقاهرة حتى امتلأت الأيدي بها. وقال الصالح في هذه الغزوات عدة قصائد مطولة. وفيها مات القاضي المفضل كافي الكفاة محمود بن القاضي الموفق إسماعيل بن حميد القاضي المعروف بابن قادوس في سابع المحرم فحضر الصالح إلى داره بمصر ومشى في جنازته حتى صلى عليه ومضى إلى تربته عند مسجد الأقدام بالقرافة. وكان من أماثل المصريين وأعيان سنة أربع وخمسين وخمسمائة في شهر ربيع الأول في خامسه قدم رسول الفرنج بهدية لطلب الهدنة. وقدم رسول نور الدين يخبر بأنه متوجه نحو بلاد الفرنج وأشار بإخراج عسكر نحوهم فخرجت سرية إلى غزة. وعاد رسول نور الدين وهو الحاجب محمود المسترشدي وصحبته الأمير عز الدين أبو الفضل غسان بن محمد بن جلب راغب الآمري وكانا قد توجها إلى نور الدين في السنة الخالية وخرجا من دمشق في نصف صفر. فندب الصالح العساكر للغارة وأنفق في ستة آلاف وخمسمائة فارس فساروا في سادس جمادى الأولى. وتوجه الأسطول في البحر وذلك أن ملك القسطنطينية أراد غزو بلاد ابن لاون صاحب أرمينية فبعث يعلم نور الدين بذلك فكتب نور الدين يستنجد الملك الصالح على الفرنج فأنجده بذلك. وفي سلخ جمادى الآخرة عاد العسكر غانما. وفي هذه السنة خرج الأمير عز الدين أبو المهند حسام ابن الأمير الأسد جلال الدين فضة وهو ابن أخت الملك الصالح على عسكر لقتال طرخان بن سليط بن طريف والي الإسكندرية وقد جمع العربان وغيرهم وخلع طاعة الصالح. فيها توفى أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن الفضل بن منصور بن أحمد بن يونس ابن عبد الرحمن بن الليث بن المغيرة بن عبد الرحمن بن العلاء بن الحضرمي في شهر رمضان بالإسكندرية. وقد حدث فسمع منه السلفي وهو آخر من حدث عن الخيال. ومولده لست بقين من ربيع الآخر سنة ست وستين وأربعمائة. وتوفى الفقيه أبو الحسن وحشي بن عبد الغالب العادلي السعدي بمنية زفتى وأخذ عن الطرطوشي وغيره. وتوفى بمصر أبو القاسم عبد السلام بن مختار اللغوي سمع من بركات وغيره وقرأ على العقبى. وله مدائح في الصالح بن رزيك وكان متصدراً بالجامع العتيق. سنة خمس وخمسين وخمسمائة فيها خرج إسماعيل المعروف بروق من القاهرة في ليلة الخميس حادي عشر المحرم ولحق بأخيه طرخان والي الإسكندرية وقد جمع لحرب الصالح فخرج إليه المظفر عز الدين حسام والأمير مجد الخلافة أسد الدين ورد على عسكر ولحقهم المظفر سيف الدين حسين. وقد برز إسماعيل من الإسكندرية في جموعه وخيم على دمنهور وتلقب بالملك الهادي فطرقه العسكر فهرب واختفى بالجيزة فقبض عليه في سابع عشره. وعاد العسكر في ثالث عشريه فهرب طرخان من معتقله في رابع ربيع الآخر وظفر به في سادسه فصلب على باب زويلة. ثم ضربت رقبة إسماعيل في ثامنه وصلب إلى جانب أخيه. وكان أبو طرخان فرانا فترقى طرخان في أيام الفتن حتى ولاه الصالح الإسكندرية في سنة ثلاث وخمسين. وقال الشعراء في صلبه عدة قصائد. وفيها مات الخليفة الفائز بنصر الله ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقيت من رجب ومولده يوم الجمعة لتسع بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة فكان عمره إحدى عشرة سنة وستة أشهر وستة أيام منها مدة خلافته ست سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوماً. ولم يلتذ بالخلافة ولا رأى فيها خيراً فإن أباه لما قتل وبكر عباس إلى القصر وفحص عن الخليفة الظافر وقتل أخويه وابن عمه لينفي عن نفسه وابنه التهمة دعي إلى القصر واستدعى ابن الظافر هذا وحمله على كتفه وله من العمر نحو الخمس سنين ووقف به في صحن القاعة وأمر الأمراء فدخلوا عليه. فلما مثلوا بالقاعة قال لهم: هذا ولد مولاكم وقد قتل أبوه وعماه والواجب إخلاص الطاعة لهذا الطفل. فقالوا بأجمعهم: سمعنا وأطعنا وصاحوا صيحة اضطرب منها الطفل وداخله من تلك الصيحة مع ما شاهده من رؤية عمه والخدام وهم في دمائهم ما خبل وركب في الأعياد مغرراً به وخطب عنه قاضي القضاة وهو معه على المنبر. وقطع الخليج في أيامه في الليل واعتذر عن ذلك بأن النيل عدا وقطع الجسر إلى غير ذلك من التحويزات. ثم وزر الصالح بعد عباس واستبد بجميع الأمور وليس له معه أمر ولا نهي ولا تعود كلمة. فدبرت عمة الفائز في قتل الصالح وفرقت في ذلك نحو خمسين ألف دينار. فبلغ ذلك الصالح فأمسكها وقتلها بالأستاذين والصقالبة سراً والفائز في واد آخر من الاضطراب والاختلال. ونقل كفالته إلى عمته الصغرى وطيب قلبها وراسلها. |
12-21-2012, 09:14 PM | #39 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
العاضد لدين الله
أبو محمد عبد الله بن الأمير يوسف ابن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد ولد يوم الثلاثاء لعشر بقين من المحرم سنة ست وأربعين وخمسمائة وبويع عند انتقال الفائز يوم الجمعة قبل الصلاة لثلاث عشرة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة وعمره يومئذ تسع سنين وستة أشهر وسبعة أيام. وذلك أنه لما مات الخليفة الفائز ركب الصالح بن رزيك إلى القصر بثياب الحزن واستدعى زمام القصر وسأله عمن يصلح في القصر للخلافة فقال: ههنا جماعة. فقال: عرفني بأكبرهم. فسمى له واحداً فأمر بإحضاره. فتقدم إليه أمير يقال له على ابن مزيد وقال له سراً: لا يكن عباس أحزم منك رأياً حيث اختار الصغير وترك الكبير واستبد بالأمر. فمال إلى قوله وقال للزمام: أريد منك صغيراً. فقال: عندي ولد الأمير يوسف بن الحافظ واسمه عبد الله وهو دون البلوغ. فقال: علي به. فأحضر إليه بعمامة لطيف وثوب مفرط وهو مثل الوحش أسمر كبير العينين عريض الحاجبين أخنس الأنف منتشر المنخرين كبير الشفتين. فأجلسه الصالح في البادهنج وكان عمره إحدى عشرة سنة. ثم أمر صاحب خزانة الكسوة أن يحضر بذلة ساذجة خضراء وهي لبس ولي العهد إذا حزن على من تقدمه وقام وألبسه إياها. وأخذوا في تجهيز الفائز فلما أخرج تابوته صلى عليه وحمل إلى التربة. وأخذ الصالح بيد عبد الله وأجلسه إلى جانبه وأمر أن تحمل إليه ثياب الخلافة فألبسها وبايعه ثم بايعه الناس ونعته بالعاضد لدين الله. وذلك يوم الجمعة الثامن عشر من شهر رجب سنة خمس وخمسين. وأبوه أحد الأخوين اللذين قتلهما الوزير عباس. ولما بويع العاضد ركب وحملت على رأسه المظلة وركب الصالح بين يديه وخرج من التربة قاصداً قصره. وكانت عادة الخلفاء أنه إذا ورد البشير إلى أخص أهل من يبايع يعطى ألف دينار فلما بويع العاضد حضر المبشر إلى عمته فأعطته نزراً فلما راجعها في الزيادة أبت عليه واستقر العاضد اسماً والصالح معنىً فتمكن وقويت حرمته واستولى على الدولة وتمكن منها ونقل جميع أموال القصر إلى دار الوزارة وأساء السيرة باحتكار الغلات فوقع الغلاء وارتفعت الأسعار وأكثر من قتل أمراء الدولة. وفيها ولي الصالح شاور بن مجير بن سوار بن عشائر بن شاس السعدي الصعيد فظهرت كفايته واستمال الرعية. وفيها بعث العاضد بالخلع إلى نور الدين محمود صاحب دمشق فلبسها. وفيها توفى بمصر أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن عمر بن قاسم المعروف بنفطويه الحضرمي المقرئ الأديب رحل فسمع ببغداد وميافارقين وبمصر. وتوفي بعيذاب الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الحباب السعدي أخو القاضي الجليس رحل فسمع ببغداد وغيرها وصنف كتاب مساوئ الخمر وكتاب الحجة لسلف هذه الأمة في تسمية الصديق وارد على من أنكر ذلك وكتاب تهذيب المقتبس في أنباء أهل الأندلس. وكان من الصالحين. وتوفي أبو جعفر أحمد بن محمد بن كوار بن المختار بن الغرناطي بمصر وكان من أعيان غرناطة وله معرفة جيدة بالنحو وكتب عن السلفي. فيها عقد العاضد على ابنة الصالح ابن رزيك في مستهله بعدما امتنع من ذلك فحبسه الصالح حتى أجاب. وقصد الصالح بزواجه ابنته أن يرزق منه ولداً فيجتمع لبني رزيك الخلافة مع الملك. وفيها قدم حسين بن نزار بن المستنصر إلى برقة من بلاد المغرب ودعا إلى نفسه فاجتمع عليه قوم كثير وتلقب بالمستنصر وعزم على المسير إلى أذخ القاهرة فخدعه الأمير عز الدين حسام بن فضة بن رزيك ووعده بالقيام بدعوته وما زال يتلطف به حتى صار عنده في خيمته فقبض عليه وحمله إلى القاهرة فقتل في شهر رمضان. وفيها قتل الملك الصالح فارس المسلمين نصير الدين أبو الغارات طلائع بن رزيك. وذلك أنه لما ثقلت وطأته وكثرت مضايقته لأهل القصر أخذت السيدة العمة ست القصور وهي أخت الظافر الصغرى في العمل على قتله ورتبت مع قوم من السودان الأقوياء أن يقيموا منهم في باب السرداب من الدهليز المظلم الذي يدخل منه إلى القاعة جماعةً ويقيموا آخرين في خزانة هناك وأرسلت إلى ابن الراعي وإلى الأمير المعظم بن قوام الدولة صاحب الباب وقررت معه أن يخلى الدهاليز من الناس حتى لا يبقى بها أحد. فأعدوا في حجرة في دهليز القصر وردوا عليهم طرف الضبة. فلما كان في يوم الاثنين التاسع عشر من شهر رمضان ركب الصالح على عادته للسلام على الخليفة فلما انفصل من خدمة السلام بقاعة الذهب وخرج إلى الدهاليز عرض له أستاذ يقال له عنبر الريفي وأوقفه وذكر له حديثاً طويلا فتقدم رزيك ابن الصالح فخرج رجلان وثبا على الصلاح ووقعت الصيحة فعثر الصالح بأذياله فتقدم إليه ابن الراعي وطعنه بسيف قطع أحد وريديه وضربه العبيد بالسيوف فقطعوا عذيته ونزلت في لحمه وشلت سلسلة ظهره. فوضع يده على جرحه وأنشد: إن كان عندك يا زمان بقيّةٌ ** ممّا تهين به الكرام فهاتها وضرب رزيك بن طلائع في عضده الأيمن. وتكاثروا على الصالح فسقط على وجهه منكبّاً واستفرغ بالدّم فأدركه الأمير ابن الزبد وألبسه منديل ضرغام بن سوار وكان قد نزع منديله عن رأسه وحمل حتى أركب على فرسه وهو لا يفيق. وبقي حسين ابن أبي الهيجاء في القصر يقاتل السودان حتى قتل منهم خمسين رجلاً. ولما ركب الصالح وشدوا جرحه تطلعت السيدة العمة من القصور فرأته راكباً فقالت: رحنا والله. فلما صار إلى داره كان إذا أفاق يقول: رحمك الله يا عباس وبعث إلى العاضد يعتب عليه كيف رضي بقتله مع حسن أثره في إقامته خليفة فأقسم أنه لم يعلم بذلك ولا رضى به. وما ظفروا لمّا قتلت بطائل فعشت شهيداً ثم متّ شهيدا فلما كان ثلث ليلة الثلاثاء العشرين من شهر رمضان مات ودفن بالقاهرة ثم نقل منها بعد ذلك إلى القرافة والعاضد راكب والجند يمشون خلف تابوته. ومولده في سنة خمس وتسعين. وكانت وزارته سبع سنين وستة أشهر تنقص أياماً. وكان فاضلا سمحاً في العطاء سهلا في اللقاء محباً لأهل الفضائل جيد الشعر وخطه دون شعره. ويقال إنه من المغرب وقد قصد أبوه زيارة قبر علي بن أبي طالب بالنجف فرأى أمام المشهد علياً وأخبره عن طلائع أنه يلي مصر فقدمها وما يزال يترقى في الخدم حتى نال ما نال. وأنشد له ابن خلكان: كم ذا يرينا الدّهر من أحداثه غيراً وفينا الصّدّ والإعراض ننسى الممات وليس يجري ذكره فينا فتذكرنا به الأمراض وكان لأهل العلم عنده نفاق ويرسل إليهم العطايا الكثيرة. بلغه أن أبا محمد ابن الدهان النحوي البغدادي المقيم بالموصل قد شرح بيتاً من شعره وهو: تجنّب سمعي ما يقول العواذل وأصبح لي شغلٌ من الغزو شاغل فجهز له هدية سنية ليرسلها إليه فقتل قبل إرسالها. وبلغه أن إنساناً من أعيان الموصل قد وكان وافر العقل رضي النفس بصيراً بالتجارب عالماً بأيام الناس بصيرا بالعلوم الأدبية محبباً إلى الناس لإظهاره الفضل والدين وإنكاره الظلم والفساد. إلا أنه كان من غلاة الإمامية مخالفاً لما عليه مذهب العاضد وأهل الدولة. فلما بايع للعاضد وركب من القصر سمح ضجةً عظيمةً فقال: ما الخبر فقيل إنهم يفرحون بالخليفة. فقال: كأني بهؤلاء الجهلاء وهم يقولون ما مات الأول حتى استخلف هذا وما علموا أنني كنت من ساعة أستعرضهم استعراض الغنم. وجرى من بعض الأمراء في مجلس السمر عنده انتقاص بعض السلف وكان الفقيه عمارة جالساً فقام وخرج معتذراً بحصاة تعتاده وانقطع في منزله ثلاثة أيام ورسول الصالح يرد إليه كل يوم بالطبيب ثم ركب إليه بعد ذلك وهو في بستان مع جلسائه في خلوة فاستوحش من غيبته فأعلمه أن لم يكن به وجع ولكنه كره ما جرى في حق السلف فإن أمر السلطان فقطع ذلك حضرت وإلا كان في الأرض سعة وفي الملوك كثرة. فعجب الصالح من ذلك. وقال: سألتك بالله ما تعتقد في أبي بكر وعمر فقال: أعتقد أنه لولاهما لم يكن سبق للإسلام حرمة ولا علا له راية وما من مسلم إلا ومحبتهما واجبة عليه. ثم قرأ: " ومَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيم إِلاَّ من سَفِهَ نَفْسَهُ " فضحك الصالح وكان هذا من رياضته فإنه مخالف لمذهبه مخالفة لا يحتملها مثله إلا أنه مرتاضا حصيفاً قد لقي الفقهاء وسمع كلامهم. وبعث يوماً إلى عمارة ثلاثة أكياس من مال ورقعةً بخطه فيها هذه الأبيات يدعوه فيها إلى مذهبه: قل للفقيه عمارةٍ: يا خير من أضحى يؤلّف خطبةً وكتابا اسمع نصيحة من دعاك إلى الهدى قل حطّةٌ وادخل إلينا البابا تلق الأئمّة شافعين ولا تجد إلاّ لدينا سنّة وكتابا وعلىّ أن يعلو محلّك في الورى وإذا شفعت إليّ كنت مجابا وتعجّل الآلاف وهي ثلاثة صلةً وحقّك لا تعدّ ثوابا فأجابه عمارة: حاشاك من هذا الخطاب خطابا يا خير أملاك الزّمان نصابا لكن إذا ما أفسدت علماؤكم معمور معتقدي وصار خرابا ودعوتم فكري إلى أقوالكم من بعد ذاك أطاعكم وأجابا فاشدد يديك على صفاء محبّتي وامنن عليّ وسدّ هذا البابا وهو الذي بنى الجامع خارج باب زويلة ووقف ثلثي المقس على الأشراف وتسعة قراريط وكان أبوه يسمى أسد رزيك وقدم مع أمير الجيوش بدر إلى مصر وتوفى سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. ومن العجب أنه ولي الوزارة في التاسع عشر وقتل في التاسع عشر وزالت دولتهم في التاسع عشر. وهو أول من خوطب بالملك في ديار مصر ونعت به. ومن عجيب الاتفاق أن عمارة أنشد مجد الإسلام رزيك بن الصالح بدار سعيد السعداء في ليلة السادس عشر من شهر رمضان أبياتا منها: أبوك الّذي تسطو الّليالي بحدّه وأنت يمينٌ إن سطا وشمال لرتبته العظمى وإن طال عمره إليك مصيرٌ واجب ومآل تخالسك الّلحظ المصون ودونها حجابٌ شريف لا انقضى وحجال فانتقل الملك إليه بعد ثلاثة أيام. قال عمارة: ودخلت على الصالح قبل قتله بثلاثة أيام فناولني رقعة فيها بيتان من شعره وهما: نحن في غفلةٍ ونومٍ وللمو - - ت عيونٌ يقظانةٌ لا تنام قد رحلنا إلى الحمام سنيناً ليت شعري متى يكون الحمام! فكان آخر عهدي به. أفي أهل ذا النّادي عليمٌ أُسائله فإني لما بي ذاهب العقل ذاهله سمعت حديثاً أحسد الصّمّ عنده ويذهل واعيه ويخرس قائله فقد رابني من شاهد الحال أنّني أرى الدّست منصوباً وما فيه كافله وأنّى أرى فوق الوجوه كآبةً تدلّ على أنّ الوجوه ثواكله دعوني فما هذا بوقت بكائه سيأتيكم طلّ البكاء ووابله ولم لا نبكّيه ونندب فقده وأولادنا أيتامه وأرامله أيكرم مثوى ضيفكم وغريبكم فيسكن أم تطوى ببينٍ مراحله فيا ليت شعري بعد حسن فعاله وقد غاب عنّا ما بنا الدّهر فاعله! قال عمارة: وكانت أحوال الصالح تارةً له وتارةً عليه فما هو عليه فرط العصبية في المذهب وجمع المال واحتجانه والميل على الجند وإضعافهم والقص من أطرافهم. وأما التي له فلم تكن مجالس أنسه تنقضي إلا بالمذاكرة في أنواع العلوم الشرعية والأدبية وفي مذاكرة وقائع الحروب مع أمراء دولته. وكان مرتاضاً قد سمر أطراف المعالي وتميز عن أخلاق الملوك الذين ليس عندهم إلا خشونة مجردة. وكان شاعراً يحب الأدب وأهله ويكثر من جليسه ويبسط من أنيسه. وكان كرمه أقرب من الجزيل منه إلى الهزيل وصنف كتاباً سماه: الاعتماد في الرد على أهل العناد. وله قصيدة سماها: الجوهرية في الرد على القدرية ولما مات الصالح خرج ولده المنصور وهو مجروح وجلس في مرتبة أبيه وبعث إلى العمة ست القصور من أهل القصور فسلمت إليه فخنقها بمنديل ورميت قدامه فبعثت السيدة العمة أختها إلى سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء صهر الصالح وحلفت له أنها لم تدر ما جرى على الصالح وأن فاعل ذلك أصحاب أختها المقتولة. وحضر إليها مجد الإسلام أبو شجاع رزيك بن الصالح فخلع عليه الوزارة فإن الصالح أوصى بها إليه وجعل من حسين بن أبي الهيجاء الكردي مدبر أمره ونعت بالسيد الأجل مجد الإسلام الملك العادل الناصر أمير الجيوش وفسح له في أخذ من ارتاب به في قتل أبي فأخذ ابن قوام الدولة وقتله وولده والأستاذ الذي شغل الصالح بالحديث. واستحسن الناس سيرته وسامح الناس بما عليهم من البواقي الثابتة في الدواوين. وأسقط من رسوم الظلم مبالغ عظيمة وقام عن الحاج بما يستأديه منهم أمير الحرمين وسير على يد الأمير محمد بن شمس الخلافة نحواً من خمسة عشر ألف دينار إلى قاسم ابن هاشم أمير الحرمين برسم إطلاق الحاج. وظفر بقتلة أبيه ظفراً عجيباً بعد تشتتهم في البلاد. وكان زفاف أخته إلى العاضد في وزارته فحمل معها بيوت الأموال. ونقل تابوت أبيه إلى القرافة. وسير إلى والي الإسكندرية بحمل عبد الرحيم بن علي البيساني الملقب بالقاضي الفاضل واستخدمه بين يديه في ديوان الجيش. وترامت الحال في أيامه بالأمير عز الدين حسام قريبه وعظم صيته واستولى على تدبير كثير من أموره وعظم غلمان أبيه. وكان فارساً شجاعا له مواقف معروفة. وكان أبوه الصالح قد ولى شاور بن مجير بن نزار السعدي قوص ثم ندم على ولايته وأراد عوده من الطريق ففاته وحصل بها وطلب منه في كل شهر أربعمائة دينار وقال لا بد لقوص من وال وأنا ذلك والله لا أدخل القاهرة ومتى صرفني دخلت النوبة فتركه. ولما جرح وأشرف على الوفاة كان يعد لنفسه ثلاث غلطات إحداها ولاية شاور الصعيد الأعلى والثانية بناء الجامع على باب زويلة فإنه مضرة على القاهرة والثالثة خروجي بالعساكر إلى بلبيس وتأخيري إرسالها إلى بلاد الفرنج وكان قد أنفق على هذه العساكر مائتي ألف دينار. وأوصى ابنه رزيك ألا يتعرض لشاور بمساءة ولا يغير عليه حاله فإنه لا تأمن عصيانه والخروج عليك. فلما استمر رزيك بن الصالح في الوزارة حسنت له بطانته صرف شاور عن قوص ليتم الأمر له وأشار عليه سيف الدين حسين بن أبي الهيجاء بإبقائه فقال ما أنا آبي ولا لي طمع فيما آخذه منه ولكن أريده يطأ بساطي. فقيل له: ما يدخل أبداً. فلم يقبل وخلع على الأمير نصير الدين شيخ الدولة ابن الرفعة بولاية قوص. فيما خرج ملك النوبة إلى أسوان في اثنى عشر ألف فارس وقتل من المسلمين عالما عظيماً. فيها مات بالقاهرة في يوم الأربعاء لاثنتي عشرة خلت من رجب القاضي أبو الحجاج يوسف بن عبد الجبار بن شبل بن علي الصويبي وصويب قبيلة بن جذام. ولد بالقدس يوم الجمعة تاسع ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة وقدم مصر بعد أخذ الفرنج القدس فنشأ بها واشتغل بالعلم وتولى خزانة الكتب في سنة أربع وعشرين وخمسمائة وولي قضاء فوة وعملها في محرم سنة سبع وأربعين. ومات بالصعيد كنز الدولة أبو الطليق يوسف وولى بعده رئاسة قبائله أخوه أبو العز فتوح في حادي عشر محرم. سنة سبع وخسمين وخمسمائة في عاشر المحرم أفرج العادل رزيك عن الأمراء الذين اعتقلهم أبوه الصالح ابن رزيك في ثالث عشري ربيع الأول سنة تسع وأربعين وهم صبح بن شاهنشاه وأسد الغاوي ومرتفع الظهير. وفيها أنشأ الأمير أبو الأشبال ضرغام بن سوار البرج عند باب البحر بالإسكندرية فعرف ببرج ضرغام. وفي آخر ذي القعدة ورد الخبر بخروج شاور عن طاعة العادل رزيك. وذلك أن الأمير نصير الدين لما خلع عليه بولاية قوص كتب على يده كتاباً إلى شاور بتسليم البلاد إليه وحضوره إلى القاهرة. فلما وصل إلى إخميم كتب كتاباً إلى شاور وفي طيه كتاب رزيك فلما وقف عليه بعث إليه أن ارجع ولا تحضر قولاً واحداً فرجع إلى القاهرة وجهر شاور بالعصيان. سنة ثمان وخمسين وخمسمائة فيها زالت دولة بني رزيك. وذلك أن مماليك الصالح وغلمانه مثل يانس وورد وسعادة الأسود وبختيار اشتد ظلمهم وكان الصالح قد قدمهم حتى صار لكل منهم نحو المائتي مملوك وطغوا في أيام رزيك حتى ضج الناس منهم. وقال بعضهم: أمنتم يا بني رزّيك جهلا فذاك الأمر يتبعه الأماني وكان شاور بن مجير السعدي لما بلغه أن الناصر رزيك بن الصالح طلائع بن رزيك عزله عن ولاية قوص وولي غيره اضطرب وخرج من قوص في جماعة قليلة فسار على طريق الواحات في البراري حتى صار في تروجة فاجتمع عليه الناس وقوي أمره وتزايد. فاهتم لذلك رزيك ورأى في منامه وكأنه قد صار رواسا في حانوت فلما قص هذه الرؤيا على حسين بن أبي الهيجاء نظر عابرا كان تاجرا حاذقاً يعرف بابن الأرتاحي وأخبره بما رأى فغالطه في التفسير وفهم ذلك حسين. فلما خرج ألزمه أن يصدقه بتأويله ما رآه رزيك فقال يا مولاي القمر عندنا هو الوزير كما أن الشمس الخليفة والحنش المستدير عليه جيش مصحف وكونه رواساً أقلبها تجدها شاورا مصحفاً وما وقع لي غير هذا. فقال اكتم هذا عن الناس. وأخذ حسين يحتاط لنفسه وتجهز إلى الحجاز. فكثر الإرجاف بمسير شاور إلى أن قرب من القاهرة. فوقع الصائح في بني رزيك وكانوا أكثر من ثلاثة آلاف فارس فأسرع ضرغام ونظراؤه من وجوه الأمراء وهم إخوته ملهم وحسام وهمام ويحيى بن الخياط وبنو الحاجب ونظراؤهم وصاروا إلى شاور. فأسقط في أيدي العسكر الباقي مع بني رزيك. وكان أول من نجا بنفسه حسين بن أبي الهيجاء خرج فارا ومعه حسام إلى الحوف واستجار بطريف بن مكنون أحد أمراء جذام فأجاره وحمله من أيلة في البحر إلى المدينة النبوية فجاور ولما فر حسين فت ذلك في عضد رزيك ولم يثبت وخرج رزيك من القاهرة في نصف المحرم ومعه جماعة من غلمانه وعدة بغال موقرة من المال والجواهر والثياب الخاص. وتحير فلم يدر أين يذهب فوقع بظاهر إطفيح عند مقدم العرب سليمان بن الفيض فأخذه وكل ما معه. ودخل أبو شجاع شاور إلى القاهرة ومعه خلق كثير ومعه أولاده طي وشجاع والطاري فنزل دار سعيد السعداء وأحضر إليه ابن الفيض رزيك مكبلا فاعتقله وأخاه جلال الإسلام. فبعث جلال الإسلام إلى من أعلم شاوراً أن أخاه طلب مبرداً من بعض غلمان أبيه وبرد القيد الذي في رجليه ليهرب فدخلوا إليه وقتلوه. ومولده في ذي القعدة سنة ثلاث أو اثنتين وخمسمائة. وأنفقوا على أخيه لهذه النصيحة وبقي من جملة أرباب الإقطاع إلى أن مات. وقيل إن هذا كان من فعلات طي بن شاور وحشمه حتى قتل العادل. وكان سليمان بن الفيض من لخم وهو ممن أنشأه الملك الصالح طلائع بن رزيك وخوله في نعم جمة فلم يرع يداً وقبض على ابنه العادل وأسلمه لشاور ونهب أصحابه ماله. فلما قدم به عليه قال يا سليمان لقد خبأك الصالح ذخيرةً لولده حين استجار بك فأسلمته لي وأنا الآخر أخبئك ذخيرة لولدي. ثم أمر به فشنق. وانقطع بنو رزيك وبزوالهم زالت الدولة. فكانت مدة بني رزيك في الوزارة تسع سنين وكان دخول شاور إلى القاهرة ووزارته في يوم الأحد ثاني عشري المحرم. ولما استقر في الوزارة تلقب بأمير الجيوش. وانثالت عليه على ولده طي أموال بني رزيك وودائعهم من عند الناس حتى كان في الناس من يتبرع بما عنده فظفر هو من أموالهم سوى السلاح والكراع وغيره وسوى ما أخذه أولاده بما ينيف عن خمسمائة ألف دينار عينا. فبعث بذلك كله مع جميع ما أدخل إليه إلى العربان وأودعه عندهم وأنعم عليهم حتى كثرت أموالهم وصاروا يكيلونها كيلا ويقولون: لفلان قدحان ذهباً ولفلان ثلاثة أقداح. وزاد تمكنهم له حتى لم يكونوا يفارقون باب الفتوح وباب النصر ونهبوا غلات الحوف واستخفوا المقطعين فلم ينكر عليهم وأراد أن يكونوا له عضداً ورداء. وكان الصالح بن رزيك قد قرر للفرنج في كل سنة على مصر ثلاثة وثلاثين ألف دينار يحملها إليهم فوافت رسلهم تطلب ذلك. ولما قتل رزيك بن الصالح في رمضان قدمت رأسه في طشت إلى شاور وهو بدار الوزارة فقال في ذلك الفقيه عمارة: أعزز عليّ أبا شجاع أن أرى ذاك الجبين مضرّجا بدمائه ما قلبته سوى رجالٍ قلّبوا أيديهم من قبل في نعمائه وجلس شاور بعد قتل الناصر رزيك بن الصالح بدار الذهب وقام الشعراء والخطباء ولفيف الناس إلا الأقل ينالون من بني رزيك وفيهم ضرغام نائب الباب ويحيى بن الخياط أسفهسلار العسكر وغيرهما فقال عمارة: زالت ليالي بني رزّيك وانصرمت والحمد والذّمّ فيها غير منصرم كأنّ صالحهم يوماً وعادلهم في صدر ذا الدّست لم يقعد ولم يقم هم حرّكوها عليهم وهي ساكنةٌ والسلم قد تنبت الأوراق في السّلم كنّا نظنّ وبعض الظّنّ مأثمةٌ بأنّ ذلك جمعٌ غير منهزم فمذ وقعت وقوع النّسر خانهم من كان مجتمعاً من ذلك الرّخم ولم يكونوا عدوّاً ذلّ جانبه وإنمّا غرقوا من سيلك العرم وما قصدت بتعظيمي عداك سوى تعظيم شأنك فاعذرني ولا تلم ولو شكرت لياليهم محافظةً لعهدها لم يكن بالعهد من قدم ولو فتحت فمي يوماً بذمّهم لم يرض فضلك إلاّ أن يسدّ فمي والله يأمر بالاحسان عارفة منه وينهى عن الفحشاء في الكلم فشكر شاور عمارة على الوفاء لبني رزيك ونقم عليه ضرغام قوله: فمذ وقعت. البيت ثم إن شاور جهز الخلع إلى العادل نور الدين بالشام فلبسها يوم الاثنين ثاني عشري رمضان وقبض المال المسير إليه. وكتب للأجناد والعرب وحواشي القصر من الرواتب والزيادات نظير مالهم عشر مرات وهو غير ظاهر للناس والأبواب مغلقة عليه خيفة. وذلك أن الصالح بن رزيك كان قد أنشأ أمراء يقال لهم البرقية وجعل ضرغام بن عامر بن سوار المذكور الملقب أبا الأشبال فارس المسلمين مقدمهم ثم صار صاحب الباب فطمع في شاور وكان فارساً كاتباً فجمع رفقته وتخوف منه شاور. وصار العسكر فرقتين: ضرغام ومن معه فرقة وحرب ومن معه حزب. فأما ضرغام فأظهر المباينة وأما نظراؤه فاختصوا بطي بن شاور وعاشروه ولازموه. فلما كان بعد تسعة أشهر من وزارته ثار به ضرغام يوم الجمعة ثامن عشري رمضان وقد جمع له وكانت بينهما وقعة قتل فيها طي بن شاور وهو أكبر أولاده وقتل أخوه سليمان الطاري وهو الأصغر وأسر الكامل فاعتقله ملهم ومنع منه أخاه ضرغاماً ليد كانت له عنده. وكان بين قتل طي بن شاور وقتل العادل رزيك نيف وثلاثون يوماً. وخرج شاور من القاهرة يريد الشام كما فعل رضوان بن ولخشي وقد كان رفيقاً له إذ ذاك وذلك أول شوال فنهبت داره ودور أولاده وحواشيه وذهب جميع ما نالوه من مال بني رزيك. وقتل الكامل علي بين القصرين وتركت جثته يومين ملقاة ومعه ابن أخته وحسان تربية شاور. فكانت وزارته تسعة أشهر. وكانت أخلاق شاور في وزارته هذه مستورة باستمرار العافية والسلامة ولم يكن فيها أقبح من قتل رزيك بن الصالح فإنها أعربت عن ضيق عطنه وحرج صدره. وكان كرمه إليه المنتهى وشدة بأسه في مواطن الحرب شهيرة وكان شديد الثبات كثير الوثبات. ومما نقم عليه أن ابنه الكامل عمل مظلة كانت تحمل على رأسه وتحكم على أبيه وترفع على الأمراء وعسفهم. ولما فر شاور ونزل بفاقوس عند بني منصور استولى ضرغام على الوزارة وتلقب بالملك المنصور في سابع عشري رمضان فشكر الناس سيرته فإنه كان فارس عصره كاتباً جميل الصورة فكه المحاضرة عاقلا كريماً لا يضع كرمه إلا في سمعة ترفعه أو مداراة تتبعه. إلا أنه كان أذناً متخيلا على أصحابه وإذا ظن بإنسان شراً جعل الشك يقيناً. وكان في وزارته مغلوباً مع أخويه ناصر الدين همام وفخر الدين حسام. وقيل إن ملهماً وضرغاماً لما علما تغير الناس على شاور وأولاده أخذا في مراسلة رزيك في سجنه وإفساد الناس له فبلغ الخبر طي بن شاور فدخل إليه وقال: بلغني أن ملهماً وضرغاماً قد تحدثا لرزيك في الأمر وقد حلفا له جماعةً من الأمراء وأنت غافل عن هذا الأمر. فقال له شاور: اسكن ولا تعجل أنا أكشف عن هذا فإذا تحققته حكمته. فقال: لا غنى بي عن قتل رزيك فإني إذا قتلته أمنت. فقال له شاور: لا يمكن قتله فإنه أولاني جميلا بسببه صرت في هذا المحل. فمضى طي إلى رزيك وقتله فقامت قيامة شاور. وبلغ ذلك ضرغاماً فثار وأثار من خلفه وقرر معهم أمر رزيك وزحف بهم فانهزم شاور. فكان في هذه السنة ثلاثة من الوزراء هم: رزيك بن الصالح بن رزيك وأمير الجيوش شاور والمنصور ضرغام بن عامر بن سوار المنذري اللخمي أبو الأشبال. وفيها اختلت الدولة وضعفت بذهاب أمرائها وأولي الرأي فيها. فيها سار الفرنج إلى ديار مصر فوصلوا إلى السدير. وورد الخبر في ثاني شوال بوصولهم إلى فاقوس فأخرج إليهم ضرغام أخاه ناصر المسلمين هماماً وكان شجاعاً فالتقى معهم وحاربهم فهزموه بعد أن قتل منهم خلقاً. وكان شاور قد انضم إلى بني منصور لأنه من فخذهم وكان قائماً على كوم عال. ثم إن الفرنج صاروا إلى حصن بلبيس في شوال وملكوا بعض السور فردهم عنه همام وبنو كنانة. وتفرق العسكر إلى الحوف فقاتل العرب هؤلاء وقد انهزموا من الفرنج فقتلوا كل من ظفروا به. وعاد العسكر وقد قتل منهم العرب عدة ورجع الفرنج إلى بلاد الساحل بمن أسروه من المسلمين وفيهم القطوري من أكابر الأمراء. فلما صار همام بالقاهرة صار كأنه مشارك لأخيه في الوزارة كل منهما يوقع ويقطع ولم يظفر ضرغام من المال بكبير شيء فإنه نهب. وفيها ولي الوزير ضرغام الأمير مرتفع الخلواص الإسكندرية برجاء إبعاده عنه فلما صار إليها ظفر بقوم رتبهم ضرغام لقتاله فتأكدت الوحشة بينهما وجمع لمحاربة ضرغام وخرج من الإسكندرية فكتم ذلك. وفيها قدم شاور دمشق في ذي القعدة وترامى على نور الدين فبعث الوزير ضرغام إليه بعلم الملك ابن النحاس بأن يقبض على شاور فأجاب في الظاهر وأضمر غير ذلك. وفيها قتل ضرغام عدة من الأمراء في دعوة جمعهم فيها وأعد لهم من خرج على الجميع وقتلهم في داره. وكان قاع النيل خمس أذرع وثلاث عشرة إصبعاً وبلغ أربع عشرة ذراعاً وثماني أصابع. سنة تسع وخمسين وخمسمائة فيها وصل رسل الفرنج في طلب مال الهدنة فماطلهم به ضرغام ودافعهم حتى شغل عنهم بقدوم شاور. وفي ثامن عشر ربيع الأول قبض ضرغام على صبح بن شاهنشاه عين الزمان وأسد الغاوي وعلي بن الزبد في عدة تبلغ نحو السبعين من الأمراء سوى أتباعهم وذلك أنه بلغه عنهم أنهم قد حسدوه واحتقروه وكاتبوا شاوراً ووعدوه القيام معه. ثم أخرجهم ليلا وضرب أعناقهم فاختلت الدولة بقتل رجالها وذهاب فرسانها. وفيها وجه ضرغام بأخيه ناصر الدين همام على طائفة من العسكر لقتال الأمير مرتفع ابن مجلي المعروف بالخلواص متولي الإسكندرية وقد جمع وسار فعندما بلغ من معه من العربان قتل الأمراء البرقية فتروا عن القيام معه وطمعوا فيه ووثب به قوم من بني سنبس وقبضوا عليه وأتوا به إلى همام فقدم به إلى القاهرة فضرب ضرغام عنقه يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر وصلبه على باب زويلة فنفرت القلوب من ضرغام. وكان شاور قد وصل في ثالث عشري ذي القعدة من السنة الماضية إلى دمشق مترامياً على السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي مستجيراً به على ضرغام فأكرم مثواه وأحسن إليه فتحدث مع السلطان في أن يرسل معه العساكر إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر ويكون معه من أمراء الشام من يقيم معه في مصر ويتصرف هو بأوامر نور الدين واختياره. فبقي نور الدين يقدم إلى هذا الغرض رجلا ويؤخر أخرى فتارةً يقصد رعاية شاور لكونه التجأ إليه وكون ما قاله زيادةً في ملكه وتقويةً له على الفرنج وتارة يخشى خطر الطريق وكون الفرنج فيه ويخاف من شاور أنه إذا استقرت قدمه في مصر خاس في قوله ويخلف بما وعد. ثم قوي عزمه على إرسال الجيوش فتقدم بتجهيزها وإزاحة عللها. واتفق أن الواعظ زين الدين بن نجا الأنصاري سمع بسعة أرزاق مصر فقدم إليها في وزارة الصالح ابن رزيك فأقبل عليه وحصل له من إنعامه ومما أخذه له من العاضد في ثلاث سنين ما يناهز عشرين ألف دينار وسوغه عدة دور بتوقيع. فسمع بالزاهد أبي عمرو ابن مرزوق يتحدث الناس عنه بأنه مهما قاله لهم وقع وأنه يركب كل سنة في نصف شعبان حماراً له ويأتي معه جماعة إلى ذيل الجبل ويودعونه ويمضون فيطلع أبو عمرو إلى الجبل ويلقاه الناس في الليلة الثانية ويجتمعون كاجتماعهم للعيد ويركب حماره والناس تحته وينتظر وينزل بعد صلاة المغرب إلى مسجده بقصد زيارته وقد تجمع الناس في الأسطحة والدكاكين والطرقات والشيخ يعمل الختمات. فوصل إليه وأقام حتى انفض الناس فخلا به وتعرف إليه فكان مما قال له: أتعرف بالشام أحداً يقال له شيركوه. فقال: نعم أمير من أمراء نور الدين. فقال: هذا يأتي إلى هذه البلاد ويملكها وكل ما تراه من هذه الدولة يزول حتى لا يبقى له أثر عن قرب. وانصرف فلما قضى أربه من القاهرة وعاد إلى دمشق اجتمع بالملك العادل نور الدين وحكى له قول الشيخ أبي عمرو فقال له: لا تخبر أحداً بذلك. ومضى اليوم وما بعده إلى أن قدم شاور على السلطان نور الدين وقوي عزمه على تجهيز العساكر معه فوقع اختيار السلطان على الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي بن مروان أحد أمرائه فاستدعاه من حلب فوصل إلى دمشق مستهل رجب منها وأمره بالمسير إلى مصر مع العساكر صحبة شاور فامتنع وقال: لا أمشي بألف فارس إلى إقليم فيه عشرة آلاف فارس ومائة شيني فيها عشرة آلاف مقاتل وعندهم أربعون ألف عبد لخمس خلفاء وهم مستوطنون في أوطانهم قريبة منهم خزائنهم ونأتي نحن من تعب السفر بهذه العدة القليلة. فتركه وأرسل إلى ابن نجا فلما جاء قال له: حديث الرجل الزاهد الذي بمصر أخبرت به أحداً فقال: معاذ الله والله ما سمعه مني أحد سوى السلطان. فقال: امض إلى أسد الدين شيركوه واحك له الخبر. فمضى إلى شيركوه وقص عليه الحديث بنصه فطابت نفسه للسفر. وسار العسكر وصحبته شاور يوم الاثنين خامس عشر جمادى الأولى وقد أقر نور الدين شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم له ممن ثار عليه. وخرج نور الدين إلى أطراف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكر ليمنع الفرنج من التعرض لأسد الدين فكان قصارى أمر الفرنج أن وأخذ شيركوه في سيره إلى مصر على شرقي الشوبك حتى نزل أيلة وسار منها إلى السويس فلم يدر ضرغام وقد وصل إليه رسل الفرنج في طلب مال الهدنة المقرر لهم في كل سنة على أهل مصر وهو ثلاثة وثلاثون ألف دينار وهو يدافعهم ويماطلون إلا بطيور البطائق قد سقطت من عند أخيه الأمير حسام الدين متولي بلبيس في يوم الأحد خامس عشري جمادى الأولى يخبر فيها بوصول شاور وأسد الدين شيركوة ومعهما من الأتراك خلق كثير فانزعج وتأهب لتسيير العسكر. وأصبح الناس يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الأولى وقد شاع ذلك بينهم فخافوا على أنفسهم وأموالهم وانتقلوا من مكان إلى مكان على عادتهم وجمعوا عندهم الأقوات والماء. وخرج الأمير ناصر المسلمين همام بالعساكر أول يوم من جمادى الآخرة وهم نحو ستة آلاف فارس بالخيول المسرجة والدروع الثمينة والسلاح العجيب وقد أعجبوا بأنفسهم واطمأنوا بأنهم ظافرون. فوصلوا إلى بلبيس يوم الأحد ثانيه فوافاهم شاور بالعسكر الشامي يوم الاثنين فباتوا ليلة الثلاثاء وأصبحوا وقد توهم منهم أسد الدين شيركوه وقال لشاور: يا هذا لقد غررتنا وقلت إنه ليس بمصر عساكر حتى جئنا بهذه الشرذمة. فقال: لا يهولنك ما تشاهد من هذه الجموع فأكثرها حاكة وفلاحون يجمعهم الطبل وتفرقهم العصا فما ظنك بهم إذا حمى الوطيس وكلبت الحرب. وأما الأمراء فإن كتبهم وعهودهم معي وسترى إذا التقينا لكني أريد منك أن تأمر العساكر بالاستعداد. فلما ترتبوا نهاهم عن القتال فتحرك المصريون وتأهبوا وأقاموا حتى حمى النهار فسخن عليهم الحديد ولم يروا أحداً يسير إليهم فنزلوا عن خيولهم وأقاموا الخيم وألقى بعضهم السلاح. فلما عاين ذلك شاور أمر بالحملة عليهم فثار المصريون وحمل ناصر المسلمين همام والأمير فارس المسلمين على العسكر الشامي فجرح همام والتفت فلم ير أحداً من عسكره فكان أشجعهم من يصير على ظهر فرسه. وانهزموا بأجمعهم إلى بلبيس وغنم العسكر الشامي جميع ما كان معهم فقووا به وتبعوهم وأسروا منهم جماعة الأمراء وغيرهم ثم منوا عليهم وسيروهم في جمعهم. ولحق الأمير همام بالقاهرة سحر يوم الأربعاء خامسه وهو مجروح واختفى الأمير حسام في مدينة بلبيس فدل عليه بعض الكنانية فأسر وقيد. وسار العسكر فوصلوا إلى القاهرة بكرة يوم الخميس سادسه فنزلوا عند التاج بظاهر القاهرة وانتشر العسكر في بلاد يريدون الأكل والعلف. وكان ضرغام قد كاتب أهل الأعمال فوصلوا إليه لخوفهم من الترك فضمهم إليه ومعهم الريحانية والجيوشية وجعلهم في داخل القاهرة فأقام شاور بمن معه على التاج حتى استراحت خيولهم. ثم إنه استحلف شيركوه ومن معه أنهم لا يغدرون به ولا يسلمونه ولا ينهزمون إلا عن غلبة. ومع هذا فإن طوائف من العربان كانت تطارد عسكر ضرغام بأرض الطبالة وخرج أهل منية السيرج فقتلوا من الترك جماعة فمالوا عليهم وانتهبوا المنية وأذاقوا أهلها نكالاً شديدا. وأقام شاور بمن معه في ناحية الخرقانية وشبرا دمنهور ثم سار من ناحية المقس يريد القاهرة فخرج إليه عسكر ضرغام وحملوا عليه فخاف من كان معه من الأمراء الذين كانوا مع همام أخي ضرغام ولحقوا بالقاهرة فانهزم هزيمة قبيحة. فسر بذلك ضرغام وأحضر قاضي القضاة وأمره بحمل ما في مودع الحكم من مال الأيتام فحملها إليه. وكان شاور لما انهزم سار إلى بركة الحبش وصار إلى الرصد فملك ما هنالك وأخذ مدينة مصر وأقام بها أياماً ولم يبق مع شاور وشيركوه من الأمراء الذين كانوا مع همام سوى شمس الخلافة محمد وأولاد سيف الملك الجمل وابن ناصر الدولة وأولاد حسن فقيد شيركوه ابن شمس الخلافة دون الناس كلهم. وكره الناس من ضرغام أخذه أموال الأيتام مع ما سبق منه من قتل الأمراء وغيرهم وعلموا عجزه عن شاور. وكان شاور يركب كل يوم في مصر ويؤمن أهلها ويمنع الأتراك من التعرض إليهم فمال الناس إليه. وبلغهم عن ضرغام أنه يتوعدهم إذا ظفر بشاور أنه يحرق مصر على أهلها من أجل أنهم أمكنوا شاوراً من دخول البلد وباعوا عليه وعلى من معه. فتحول شاور عن مصر ونزل اللوق وطارد خيل ضرغام وقد خلت المنصورة والهلالية وثبت أهل اليانسية فقاتل الناس قتالاً خفيفاً. وصار شاور وشيركوه إلى باب سعادة وباب القنطرة من أبواب القاهرة وطرحوا النار في اللؤلؤة وما حولها من الدور. وكانت وقعة عظيمة بين الفريقين قتل فيها من العسكرين خلق كثير. فلما كان الليل اجتمع مقدموا الريحانية وفد فني منهم كثير وأرسلوا إلى شاور يطلبون الأمان وكان قبل ذلك يبعث إليهم ويستميلهم فأمنهم. ولما رأى الخليفة العاضد انحلال أمر ضرغام بعث يأمر الرماة بالكف عن الرمي فخرج الرجال إلى شاور في الصباح فسر بهم. وفترت همة أهل القاهرة وأعمل كل منهم الحيلة في الخروج وخرج ضرغام ومعه جماعة إلى خارج القاهرة وجعلوا يترددون من باب إلى باب وفيهم ابن ملهم وابن فرج الله وصارم بن أبي الخليل وجماعة مذكورون فكانوا يطاردون من طاردهم. وأمر ضرغام بضرب البوقات والطبل على الأسوار ليجتمع الناس فلم يخرج إليه أحد وانفل الناس عنه. فعاد إلى القاهرة وصار إلى باب الرحبة من أبواب النصر ولم يبق معه سوى خمسمائة فارس فوقف وطلب الخليفة أن يشرف عليهم من الطاق. فبلغ ذلك شاوراً فسرح في الحال ابنه سليمان الطاري إلى باب القنطرة ليملكه ويقف. فلما طال وقوف ضرغام نادى: أريد أمير المؤمنين يكلمني لأسأله عما أفعل. فلم يجبه أحد. فصاح: يا مولانا كلمني يا مولانا أرني وجهك الكريم يا مولانا بحرمة أجدادك على الله وهو يبكي فلم يجبه أحد. وقويت الشمس فصار إلى الظل حتى قرب الظهر فأمر بعض غلمانه أن يركض في قصبة القاهرة ويقول بصوت عال: ما كانت إلا مكيدة على الرجال قد قتل الترك أصحاب شاور الريحانية. فما هو إلا أن سمع الناس ذلك وكانوا قد صاروا إلى بيوتهم فأسرعوا إلى خيولهم وعادوا من كل جانب مثل السيل فرأوا ضرغاما على تلك الهيئة والطاق لم يفتح له والخليفة لم يكلمه فسقط في أيديهم وقالوا ارجعوا فهي كناية والغلبة لشاور ورجعوا من حيث أتوا. فوقف ضرغام إلى العصر ولم يبق معه غير ثلاثين فارساً ووردت إليه رقعة فيها: خذ لنفسك وانج بها. فأيس من الظفر. وبعث شاور إلى الخليفة العاضد يستأذنه في الدخول إلى القاهرة فأذن له. فبعث شاور يأمر ابنه أن يدخل القاهرة وهو عند القنطرة فدخل وضربت أبواقه وكانت من أبواق الترك التي لم تعهد بمصر فما هو إلا أن علم به ضرغام فمر على وجهه إلى باب زويلة فتخطف الناس من معه وعطعطوا عليه ولعنوه. فأدركه بعض الشاميين في غلمان شاور وطعنه فأرداه ونزل إليه واحتز رأسه بالقرب من مشهد السيدة نفيسة وذلك قريباً من الجسر الأعظم في يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة. وفر ملهم إلى مسجد تبر فقتل هناك وترك مطروحاً وأتى برأسه إلى عند شاور. وقتل ناصر الدين أخو ضرغام عند بركة الفيل وقتل فارس المسلمين. وبقى جسد ضرغام ملقىً يومين ثم حمل إلى القرافة فدفن بها. وكان من الاتفاق العجيب أن ابن شاور قتل في يوم الجمعة حادي عشري رمضان سنة ثمان وخمسين فقتل ضرغام يوم الجمعة ثامن عشري جمادى الآخرة سنة تسع وقتل مع ابن شاور حسان ابن عمته فقتل مع ضرغام. . وكانت وزارة شاور الأولى تسعة أشهر ووزارة ضرغام بعده تسعة أشهر. وكان من أعيان الأمراء وأحلى الفرسان يجيد اللعب بالكرة والرمي بالسهام ويكتب كتابة ابن مقلة وينظم الموشحات الجيدة كريما عاقلا يحب العلماء والأدباء ويقربهم إلا أنه سريع الاستمالة يميل مع من يستميله ولا يكذب خبراً عن عدو بل يعاقب سريعاً. أرى حنك الوزارة صار سيفاً يحد بحدّه صيد الرّقاب كأنّك رائد البلوى وإلاّ بشيرٌ بالمنيّة والمصاب فكان كما قال عمارة. وأقام شاور وشيركوه بعد قتل ضرغام في مخيمهما بناحية المقس يومي السبت والأحد. فلما كان يوم الاثنين طلع الوزارة في ثالث شهر رجب وخرج الكامل بن شاور من دار ملهم أخي ضرغام وكان معتقلاً بها وخرج معه القاضي الفاضل وكان معه في الاعتقال وقد تأكدت بينهما مودة فأدخله إلى أبيه ومدحه عنده وأثنى عليه فسماه حينئذ بالقاضي الفاضل وكان قبل ذلك ينعت بالقاضي الأسعد. وفرح العاضد بدخول شاور. ولما خلع عليه سار من القصر إلى باب زويلة وخرج منه إلى باب القنطرة فنزل بدار الوزارة. وركب شيركوه إلى مصر ورآها وقصد الفقهاء مثل الكيزاني وابن حطيه واجتمع بالشيخ أبي عمرو بن مرزوق وأخبره كما أخبر ابن نجا أنه يملك الديار المصرية ويزيل هذه الدولة لكنه لا يملكها إلا بعد أن يرجع إلى الشام ويأتيها ثانيا ثم يرجع ويعود إليها ثالث مرة وحينئذ يملكها. وسأله عن بيت المقدس فقال: لا يكون فتحه على يدك وإنما يكون فتحه على يد بعض من في خدمتك من أقاربك. وهكذا جرى فإن شيركوه لم يملك مصر إلا في مجيئه إلى القاهرة المرة الثالثة ولم يفتح بيت المقدس إلا على يد صلاح الدين يوسف بن أخي شيركوه. وفي رابع رجب قرئ سجل شاور بالوزارة. واستمر شيركوه في مخيمه ويخرج إليه في كل يوم عشرون طبقا من سائر الأطعمة ومائتا قنطار خبزاً ومائتا إردب شعيراً. وأعد له العاضد ملبوساً وسريراً مرصعاً بالجوهر له قيمة عظيمة كان الآمر قد عمله وأمره بالدخول ليخلع عليه فامتنع. وأرسل إلى شاور يقول: قد طال مقامنا في الخيم وضجر العسكر من الحر والغبار ويستنجز منه ما وعد به السلطان نور الدين. فأرسل إليه ثلاثين ألف دينار وقال: ترحل الآن في أمن الله وحفظه. فبعث يقول له: إن الملك العادل نور الدين أوصاني عند انفصالي عنه إذا ملك شاور تكون مقيماً عنده ويكون لك ثلث مغل البلاد والثلث الآخر لشاور والعسكر والثلث الثالث لصاحب القصر يصرفه في مصالحه. فأنكر شاور ذلك وقال: إنما طلبت نجدة وإذا انقضى شغلي عادوا وقد سيرت إليكم نفقة فخذوها وانصرفوا وأنا أرضي نور الدين. فقال شيركوه: لا يمكنني مخالفة نور الدين ولا أنصرف إلا بإمضاء أمره. فأخذ شاور عند ذلك يستعد لمحاربة شيركوه واستعد أيضا شيركوه وبعث بابن أخيه صلاح الدين بطائفة من الجيش يجمع الغلال والأتبان وغير ذلك ببلبيس. فغلق شاور أبواب القاهرة وتغلب صلاح الدين على الحوف وبث خيله وحاز الأموال والغلال. وتقدم إلى جزيرة قويسنا فخرج ثلاثة من الأستاذين بأمر الخليفة إلى استنفار الناس من الصعيد وثار ابن شاس والي جزيرة قويسنا على الترك وقاتلهم حتى هزمهم وغرق منهم جماعة. فعاد صلاح الدين إلى عمه شيركوه فتجهز ونزل بحري التاج. وأخرج شاور خيمه وضربها في أرض الطبالة. فلما كان يوم الأربعاء الثالث والعشرون من شعبان التقى شاور وشيركوه في كوم الريش فانكسر شاور إلى باب القنطرة ونهبت خيمه وأسر أخوه صبح وجوهر المأموني ودخل القاهرة فرمى بحجر من باب القنطرة فدخل الكافوري مغشيا عليه. وفي ذلك اليوم أحرق صف الخليج وكاد شيركوه أن يدخل القاهرة وبقي الحصار إلى يوم الخميس تاسع رمضان. وورد الخبر إلى شاور بأن الفرنج قاربوا مدينة بلبيس يوم السبت حادي عشر رمضان فأقام عليها وشيركوه بها. ولما كان في خامس عشر ذي الحجة تقرر الحال مع شيركوه على أن يدفع إليه شاور خمسين ألف دينار ورهائن على صبح أخي شاور وعاد إلى دمشق. ورجع الفرنج. وقدم شاور إلى القاهرة في سادس عشر ذي الحجة. فكان مقامه على بلبيس نيفاً وتسعين يوماً. وأخرج شاور العساكر والحشود مما يلي البستان الكبير خارج باب الفتوح وزحف شاور فخرج إليه شيركوه وحاربه فخرج أكثر عسكر شاور وغورت أعينهم ووقعت نشابة في عين الطاري ابن شاور اليمني فبقي معه النصل مدة إلى أن قلعت وخرج منها بكلفة. فانهزم شاور ودخل القاهرة وأغلق أبوابها وحاصره شيركوه طول النهار. فلما كان الليل أحرق من باب سعادة إلى ناحية اللؤلؤة كما فعل أولا واشتد الأمر وصار كل من يخرج من عسكر مصر يقتل. فركب شاور وخرج ثم عاد وقد ازدحم الناس على السور لتنظر إلى الحرب فسقطت شرفة من شرفات السور على ابن شاور وغشى عليه ودخلوا به إلى الكافوري وقد أيس منه فجاء رئيس الأطباء وعصر في أذنه حصرما فأفاق. وأتاه الشراب من عند الخليفة فشربه وركب إلى داره وقد ورم وجهه. واشتد قتال شيركوه على باب القنطرة وأحرق وجه الخليج جميعه واحترقت الدور التي بجانبه من حارة زويلة. وانضم إليه بنو كنانة وكثير من عسكر المصريين. وبعث طائفة إلى حارة الريحانية وفتحوا ثغرة فكان هناك قتال شديد. فجلس العاضد على باب الذهب وأمر بالخروج فتسارع الصبيان وغيرهم إلى الثغرة وقاتلوا الترك والكنانية حتى أوصلوهم إلى منازلهم وسدوا الثغرة. وكان ضرغام عند قدوم شاور وشيركوه أرسل إلى الفرنج يستنجد بهم ويعدهم بزيادة القطيعة التي لهم فامتنع ملكهم وقال لا يأتي إلا بأمر الخليفة وأما من الوزراء فلا يقبل فلما تحقق شاور أنه لا قبل له بشيركوه كتب إلى مري ملك الفرنج بالساحل يستنجده ويخوفه من تمكن عسكر نور الدين من مصر ويقول له متى استقروا في البلاد قلعوك كما يريدون أن يفعلوا وضمن له مالاً وعلفاً ويقال إنه جعل له عن كل مرحلة يسيرها ألف دينار وسير إليه بذلك مع ظهير الدين بدران. فسر الفرنج بذلك وطمعوا في ملك مصر. وخرج مري من عسقلان بجموعه فقبض عن مسيره سبعة وعشرين ألف دينار. فلما بلغ شيركوه ارتحل عن القاهرة إلى بلبيس وبها ما أعد له ابن أخيه من الغلال وغيرها وانضم معه الكنانية فخرج شاور في عسكر مصر فاجتمع بالفرنج وخيم على بلبيس وأحاط بها فكانوا يغادون القتال ويراوحونه ثلاثة أشهر. وانقطعت الأخبار عن نور الدين وبلغه سير الفرنج إلى مصر. وسار ملك القدس بجمع كثير ممن وصل لزيارة القدس مستعيناً بهم. فبينا الفرنج في محاصرة شيركوه إذ ورد عليهم أخذ نور الدين لحارم ومسيره إلى بانياس فسقط في أيديهم وعولوا على الرجوع إلى بلادهم. فراسلوا شيركوه في طلب الصلح وعوده إلى الشام وتسليم ما بيده إلى المصريين. فأجاب إلى ذلك. وندب شاور الأمير شمس الخلافة محمد ابن مختار إلى شيركوه فقرر معه الصلح على ثلاثين ألفاً فحملها إليه. وكانت الأقوات قد قلت عنده وقتل من أصحابه جماعة. وأبطأت نجدة نور الدين فلم يأته منه أحد. وخرج من بلبيس أول ذي الحجة. وممن قتل معه من أصحابه على بلبيس سيف الدين محمد بن برجوان صاحب صرخد بسهم أصابه فأنشد وهو يجود بنفسه: يا مصر ما كنت في بالي ولا خلدي ولا خطرت بأوهامي وأفكاري لكن إذا قالت الأقدار كان لها قوىً تؤلف بين الماء والنّار وقتل من الكنانية عالم عظيم. وحصل للفرنج من شاور أموال جمة فإنه كان يعطيهم عن كل يوم ألف دينار. وأقام شيركوه بظاهر بلبيس ثلاثة أيام وسار إلى دمشق فدخلها يوم الأربعاء ثالث عشري ذي الحجة. فيها عزل شاور أبا القاسم هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن أبي كامل المعروف بالقاضي المفضل ضياء الدين بن كامل الصوري عن قضاء القضاة وولي مكانه القاضي الأعز أبا محمد الحسن بن علي بن سلامة المعروف بالعوريس. |
12-21-2012, 09:16 PM | #40 |
|
رد: كتاب اتعاظ الحنفاء باخبار الائمة الفاطميين الخلفاء للامام احمد الحسينى
سنة ستين وخمسمائة
فيها ركب البرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك البحر إلى عسقلان وخرج منها إلى الكرك وجمع عسكره وأقام ينتظر شيركوه فعلم بذلك شيركوه فمر من خلف الموضع الذي فيه أرناط فلم يعلم به ونجا وأمن منه. ووصل إلى دمشق فضعف أمر عسكر مصر عند نور الدين وهون عليه أمرهم وحرضه على قصدهم وأكثر من التحدث في أمر مصر. وفيها عاد شاور إلى القاهرة وخرج يحيى بن الخياط على شاور وحشد ونزل الجيزة يوم الأربعاء بعد أن حاصر الكامل بن شاور في طنبدي ورحل عن الجيزة فكسروا يوم السبت سابع عشر صفر. وقبض شاور على ابن فحل ابن أبي كامل وقتلا ليلة الاثنين تاسع عشره. وتتبع من كان يكاتب شيركوه أو يواده وتشدد في طلب أصحاب ضرغام. وكان قد استفسد جماعةً من أصحاب شيركوه منهم خشترين الكردي فأقطعه شطنوف. وفيها فر الشريف المحنك من شاور ولحق بنور الدين. وذلك أنه كان بعثه ضرغام إلى نور الدين في صرف رأيه عن نجدة شاور فوجد نور الدين مائلاً معه لأمور منها: أنه تقرب إليه بذم مذهب الفاطميين ووعده ملك مصر وعرض له الأموال الكثيرة فبالغ الشريف في الحط على شاور مع نور الدين فأنفذه إليه. فلما اجتمعا عتبه شاور على ما كان منه وقال له: أنت تعلم أيها الشريف أن سبب قيامي على آل رزيك إنما كان لأجل ضرغام وإخوته من الأمراء واتبعت غرضهم فيما نقموه على ابن الصالح ولما حصلت بالقاهرة رفعت من أقدارهم وزدت في أرزاقهم وبلغتهم أمانيهم فلم يكن لهم إلا إزالتي ثم قتلهم أولادي ونهب أموالي وتشتت جماعتي وما زال السيف في خاصتي وغلماني فهل تعلم لي ديناً إليهم فقال له الشريف: أنت تعلم أيها الأمير أن ابنك طياً كان قد تعدى طوره وتجاوز حده حتى تعاظم عليك ونفذ أمره دون أمرك وأنه بعد قتل رزيك بن الصالح أطلق لسانه في الأمراء ومد يده إلى أموالهم ونسائهم وبهتهم في المجالس وصاح عليهم في المواكب حتى حقدوا عليه وشكوه إليك فلم تشكهم وعامل أصحابك وغلمانك الناس بكل قبيح فمالت عنك قلوب الخاصة والعامة. فسكت عنه وما زال في نفسه منه حتى تمكن من البلاد فأخذ يتطلبه ففر منه. سنة احدى وستين وخمسمائة سنة اثنتين وستين وخمسمائة فيها جهز الملك العادل نور الدين الأمير أسد الدين شيركوه من دمشق لقصد ديار مصر في جيش قوي ومعه جماعة من الأمراء وكان كارهاً لمسير شيركوه لكثرة ما رأى من حرصه على السفر. فرحل يوم الجمعة العشرين من شهر ربيع الأول وشيعه السلطان إلى أطراف البلاد خوفاً من مضرة الفرنج فسار على ميمنة بلاد الفرنج. وبعث مري ملك الفرنج إلى شاور يخبره بمسير شيركوه بالعسكر إلى مصر فأجابه يلتمس منه نجدته وأن المقرر من المال يحمل إليه على ما كان يحمل في السنة الماضية. فسار مري بعساكره وقد طمع في البلاد على الساحل حتى نزل بلبيس فخرج إليه شاور وأقاموا في انتظار شيركوه. فبلغه ذلك فنكب عن الطريق وهبط في يوم السبت خامس ربيع الآخر من وادي الغزلان إلى أسكر وخرج إلى إطفيح قبلي مصر فشن الغارة هناك. واتصل الخبر بشاور فرحل هو والفرنج يريدونه. ونزل شاور والفرنج بركة الحبش في يوم الأحد سادس جمادى الآخرة وتوجه في يوم الثلاثاء منه إلى دير الجميزة فاندفع سائراً في بلاد الصعيد حتى بلغ شرونه وعدى منها إلى البر الغربي. وأدرك شاور ساقته فأوقع بهم وعدى بعساكره وجموع الفرنج. ونزل شيركوه بالجيزة في يوم الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة تجاه مدينة مصر وأقام بها بضعاً وخمسين يوماً. وبعث الشريف أبا عبد الله الملقب بالرضي ابن الشريف المحنك إلى الطلحيين والقرشيين يستفزهم ويدعوهم إليه وكان قد بلغه أن شاوراً أساء إليهم فأتوه مسرعين. وبعث إلى شاور بأني أحلف لك أني لا أقيم ببلاد مصر ولا يؤذيك أحد من أصحابي وأكون أنا وأنت على الفرنج وننتهز فيهم فرصةً قد أمكنت وما أظن أن يتفق للإسلام مثلها كثيراً. فأبى شاور من قبول ذلك. والتجأ شيركوه إلى دلجة ونزل شاور في اللوق والمقس ظاهر القاهرة وأنشأ الجسر بين الجيزة والجزيرة وشحن المراكب والرجال لتسير من خلف عسكر شيركوه. وكتب شيركوه إلى الإسكندرية يستنجد بها على الفرنج وشاور فقاموا معه وأمروا عليهم رجلاً يعرف بنجم الدين بن مصال من ولد الوزير فكتبوا إليه أنهم يمدونه بالسلاح والحديد وجهزوا إليه خزانة من السلاح مع ابن أخت الفقيه ابن عوف. فأتاه الخبر بقرب شاور فلم يثبت وترك خيامه وأثقاله وسار سيراً حثيثاً ونزل قدر ما أطعم دوابه ورحل من الليل فسار غير بعيد ثم نادى في عسكره بالرجوع فعاد إلى دلجة. وسار شاور والفرنج في طلب شيركوه فنزلوا الأشمونين وتبعوا شيركوه فأمر شيركوه أصحابه بالتعبئة. فما طلع ضوء الصباح حتى أشرفت عساكر شاور وجموع الفرنج في عدد كبير فقدم شاور طائفة فحملت على أصحاب شيركوه وانهزم منها عز الدين الجاولي من أصحابه فلم ينزل إلا بالإسكندرية وتفرق منهم عدد فولي شيركوه وقد قتل من أصحابه جماعة وقتل من أهل الإسكندرية كثير. وكان سبب الخلل في عسكر شيركوه أنه فرق أصحابه فرقتين فرقة معه وفرقة مع ابن أخيه صلاح الدين يوسف. ثم إنهم تجمعوا وقت الظهر ووطنوا أنفسهم على الموت وحملوا على شاور ومن معه فقتلوا منهم مقتلةً عظيمة وأبلى يومئذ صلاح الدين يوسف بلاءً حسنا وحمل حملات فرق بها الجموع وبدد شملها. وحمل شاور على عسكر شيركوه فكسر القلب فتلاحقت الميمنة بمن كان في القلب واستمر القتال حتى حال بين الفريقين الليل فانهزم كثير من الفرنج وقتل منهم كثير وكاد ملكهم أن يؤخذ ووقع في قبضة شيركوه وأصحابه نحو السبعين أسراً. وبات الفريقات وقد تبين الوهن في الفرنج فسار شاور بمن معه إلى منية بني خصيب. وكانت هذه الواقعة في موضع يعرف بالبابين بالقرب من الأشمونين في يوم السبت الخامس والعشرين من جمادى الآخرة. ثم إن شيركوه سار بأصحابه على طريق الفيوم إلى الإسكندرية وانتهب البحيرة وأخذ عسكره غلالها ومواشيها فخدمه ابن الزبير متولي ديوان الإسكندرية وحمل إليه الأموال وقواه بالسلاح وأقام متخوفاً من مسير شاور إليه فترك بالإسكندرية صلاح الدين يوسف وخرج إلى الصعيد وجبى أموال البلاد. فخرج شاور ونزل على الإسكندرية وحاصرها أشد حصار مدة ثلاثة أشهر ومنع عنها الميرة فقلت بها الأقوات. هذا وشيركوه في جباية أموال الصعيد وأخذ غلاله. ودخل عليه شهر رمضان فلما أتمه وأهل شوال بلغه ما نزل بالإسكندرية وأهلها من البلاء وقلة الأقوات وأنها قد قاربت أن تؤخذ فسار من قوص ونزل على مصر يوم الخميس ثامن شوال. فبلغ شاور أن شيركوه حاصر مصر فرحل من الإسكندرية وأرسل شيركوه إلى صلاح الدين يأمره بتقرير الصلح ورحل عن مصر إلى الشام. فبعث إلى ملك الفرنج يلتمس منه ذلك فأجابه إليه وقرر مع شاور أنه يحمل إلى شيركوه جميع ما غرم في هذه السفرة ويعطي الفرنج ثلاثين ألف دينار ويعود كل منهم إلى بلاده. ووقع الحلف بالأيمان المؤكدة على ذلك. فلما تقرر الصلح أرسل صلاح الدين إلى ملك الفرنج يقول إن لي أصحاباً منهم القوي ومنهم الضعيف فأما القوي فإنه يتبعنا في البر وأما الضعيف فإنه يسير في البحر فنريد لهم مراكب. وخرج صلاح الدين من الإسكندرية واجتمع بعمه أسد الدين شيركوه. ودخل شاور البلد وجاءه مشايخ البلد للسلام عليه ومري ملك الفرنج جالس معه فلم ينظر شاور إلى الجماعة ولا أكرمهم ولا أذن لهم في الجلوس لأنهم كانوا قاتلوه قتالاً شديداً فنقم عليهم ذلك. فقال له مري: أكرم قسسك. فأذن لهم في الجلوس وعاتبهم على ما فعلوا من القتال وإظهار المخالفة. فسكتوا. وكان فيهم الفقيه شمس الإسلام أبو القاسم مخلوف بن علي المالكي المعروف بابن جاره شيخ الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر فقال له: نحن نقاتل كل من جاء تحت الصليب كائناً من كان. فقال له مري: وحق ديني لقد صدقك هذا الشيخ. فسكت شاور وأكرمهم بعد ذلك اليوم. وفر نجم الدين بن مصال والي الثغر إلى الشام وقبض شاور على الأشرف بن الحباب قاضي الثغر وعاقبه وأخذ منه مالاً جزيلاً ولم يقنع بالرشيد ابن الزين الناظر فولي القاضي الأشرف أبا القاسم عبد الرحمن بن منصور بن نجا النظر عوضه فبعث شاور وقبض على جميع من كان مع صلاح الدين من أهل مصر وعلي ابن مصال. فشق ذلك على صلاح الدين واجتمع بملك الفرنج في ذلك فأرسل إلى شاور وما زال به حتى أفرج عنهم. فخافوا من شاور وعزموا على الرحيل إلى الشام فخرج إليهم شاور بنفسه وجمع وجوههم وطمأنهم وحلف لهم أنه يضاعف ووصل الذين ساروا من ضعاف أصحاب صلاح الدين في المراكب إلى عكا وأحاط بهم الفرنج واعتقلوهم بمعصرة القصب حتى عاد ملك الفرنج فأطلقهم. وتسلم شاور الإسكندرية في نصف شوال. وسار شيركوه ومن معه وقد استمال شاور منهم جماعةً ومعه مري ملك الفرنج حتى نزل الجيزة وعدى إلى القاهرة من المقس. فأقام مري أياماً ورحل عائداً إلى بلاده فخرج شاور يودعه إلى بلبيس وعاد إلى القاهرة أول ذي القعدة فخرج إليه العاضد يتلقاه إلى الطابية وخلع عليه. واستقر الأمر بينه وبين الفرنج أن يكون لهم بالقاهرة شحنة وأن تكون أسوارها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين من إرسال عسكر إليها وأن يكون لهم من دخل ديار مصر في كل سنة مائة ألف دينار. قرر لهم شاور ذلك من غير علم العاضد ولا مشاورته فإنه كان ممنوعاً من التصرف وشاور يستبد بأمور الدولة. فرحل الفرنج إلى بلادهم وتركوا بالقاهرة عدةً من مشاهير فرسانهم ورتبوا بها ابن بارزاني والياً. ووصل شيركوه إلى دمشق في ثامن عشر ذي القعدة وفي نفسه من مصر ما لا ينفصل لأنه خبر متحصلها وعرف بلادها واستخف بأهلها. واستقر شحنة الفرنج أولاً بالقاهرة في الموضع المعروف اليوم بقصر بيسرى من الخرنشف. وبعث الكامل شجاع بن شاور إلى نور الدين مع بعض الأمراء ينهي محبته وولاءه ويسأل الدخول في طاعته وضمن له عن نفسه أنه يفعل هذا ويجمع الكلمة على طاعته وبذل له مالاً يحمله إليه كل سنة فأجابه وحمل إلى نور الدين مالاً جزيلاً. وأخذ شاور بعد عوده من الإسكندرية في الإكثار من سفك الدماء بغير حق فكان يأمر بضرب الرقاب بين يديه في قاعة البستان من دار الوزارة ثم تسحب القتلى إلى خارج الدار. واشتد ظلم إخوته وأولاده وغلمانه ومن يلوذ به وكثر تضرر الناس بهم. فكان من تأمل أحوال الوزراء يجد الصالح بن رزيك ربى رجال الدولة وجاء الضرغام فأفناهم ثم جاء شاور فأتلف أموال مصر وأطمع الغز في البلاد وجرأ الفرنج علنا حتى كان ما كان مما يأتي ذكره إن شاء الله. وفيها أحضر القاضي رشيد الدين أبو الحسين أحمد بن القاضي رشيد الدين أبي الحسن علي بن إبراهيم بن محمد بن الحسين بن الزبير الأسواني وقد فر إلى قريب برقة فدخل على حالة سيئة فأمر به شاور فضربت عنقه وصلب عند مسجد الزيني على الخليج بالقرب من قبو الكرماني في يوم الأربعاء العشرين من ذي العقدة. فيها بعث شاور إلى نور الدين رسالةً مع شهاب الدين محمود خال صلاح الدين يوسف تتضمن أنه يحمل إليه مالاً في كل سنة من مصر مصانعةً ليصرف عنه أسد الدين شيركوه. فأجاب نور الدين إلى ذلك وأعطى شيركوه مدينة حمص وأعمالها زيادةً على ما كان بيده وذلك في شعبان وأمره بترك ذكر مصر. فأرسل شاور إليه كتاباً يشكر صنيعه. وفيها قتل شاور القاضي الرشيد أبا الحسين أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد بن الحسين بن الزبير الغساني الأسواني صاحب كتاب الجنان ورياض الأذهان وكان من أهل العلم والأدب وله رسالة أودعها من كل علم مشكلة ومن كل فن أفضله. وسار إلى اليمن رسولاً وكان أسود في أيام الحافظ وتلقب بعلم المهتدين فقال فيه شاعر من أهل اليمن من قصيدة بعث بها إلى الحافظ: بعثت لنا علم المهتدين ولكنّه علم أسود وولي نظر الإسكندرية. فقتله شاور في المحرم بسبب أنه داخل شيركوه وصلاح الدين وخدمهما بعد أن عذبه عذابا شديداً ثم ضرب عنقه. فيها خرج يحيى بن الخياط يريد الوزارة فبعث إليه شاور عسكراً هزموه حتى لحق بالفرنج. وفيها ولي خطابة الجامع العتيق بمصر نتاج الشرف حسن بن أبي الفتوح ناصر ابن إسماعيل سنة أربع وستين وخمسمائة فيها تمكن الفرنج من ديار مصر وحكموا فيها حكماً جائراً وركبوا المسلمين بالأذى العظيم وقد تيقنوا أنه لا حامي للبلاد وتبين لهم ضعف الدولة وانكشفت لهم عورات الناس. فجمع مري جموعه واستشارهم في قصد ديار مصر فقووا عزمه على المسير إليها فأجمع أمره على الرحيل واستدعى وزيره وأمره بإقطاع بلاد مصر لأصحابه ففرق قراها عليهم بعد ما كتب جميع قراها وارتفاع كل ناحية واستنجد عسكراً قوي به جنده. فورد الخبر إلى شاور بمسير الفرنج إلى مصر في نصف المحرم فبعث إلى ملك الفرنج الأمير ظهير الدين بدران وقيس بن طي بن شاور. وكان نور الدين بحلب فأسرع مري إلى المجيء إلى مصر ظناً أن نور الدين بعيد منه وعساكره متفرقة عنه. فبلغ ذلك نور الدين فأخذ في جمع عساكره. ووصل مري إلى الداروم. فبلغ شاوراً فارتاع وبعث أميراً يعرف ببدران لكشف الخبر فلما اجتمع بمري خدعه ووعده بعدة من قرى مصر نحو الثلاث عشرة قرية وأمره أن يخبر شاور أنهم إنما قصدوا البلد لخدمة. فلما عاد إلى شاور جهز إلى مري شمس الخلافة محمد بن مختار فعندما دخل عليه قال له: مرحباً بشمس الخلافة. فقال: فمرحباً بالملك الغدار وإلا ما أقدمك إلينا قال: اتصل بنا أن الفقيه عيسى وصل إليكم ليزوج أختاً للكامل بن شاور بصلاح الدين يوسف ويتزوج الكامل بأخت صلاح الدين فحسبنا أن هذا عمل علينا. فقال ما لهذا صحة ولو فعل لما كان ناقضاً للهدنة. فقال: الصحيح أن قوماً من وراء البحر انتهوا إلينا وغلبوا على رأينا وخرجوا طامعين في بلادكم فخفنا من ذلك فخرجت لتوسط الأمر بينهم وبينكم. فقال له: فكم تريد أن يكون مبلغ القطيعة التي نقوم بها قال: ألفي ألف دينار. فقال: حتى أعود إلى شاور بهذا الخبر وأرجع إليكم بالجواب فلا تبرحوا من مكانكم. فقال مري: بل ننزل على بلبيس حتى تعود. وكان قد كتب إلى شاور: إني قد قصدت الخدمة على ما قررته لي من العطاء في كل عام فكتب إليه شاور: إن الذي قررته إنما جعلته لك متى احتجت إلى نجدتك أو إذا قدم علي عدو فأما مع خلو بالي من الأعداء فلا حاجة لي إليك ولا لك عندي مقرر. فأجابه: لا بد من حضوري وأخذي المقرر. فعلم شاور أنه قد غدر وخان الأيمان ونقض العهود وطمع في البلاد. فجمع الأجناد وحشد العساكر إلى القاهرة وسير إلى بلبيس حفنة من العسكر ونقل إليها ما تحتاج إليه من الأقوات والغلات. فنزل مري على بلبيس أول يوم من صفر وكتب عدة من أعيان المصريين كتباً إلى مري يعدونه المساعدة لكراهتهم في شاور منهم علم الملك ابن النحاس ويحيى ابن الخياط وابن قرجلة وجماعة فقوي الفرنج. وعندما قدم مري إلى بلبيس أرسل إلى طي بن شاور وكان ببلبيس أين ينزل فقال لرسوله: قل له ينزل على أسنة الرماح. فغضب من هذا وجعله سبباً لنقض ما قرره مع شمس الخلافة وحاصر البلد حتى افتتحها قهراً بالسيف يوم الثلاثاء ثاني صفر وأخذ الطاري والناصر ابني شاور أسيرين وقتل جميع من كان فيها وأسرهم وسباهم ونهب سائر ما تحتوي عليه وأسر المعظم سليمان بن شاور وقيس بن طي بن شاور. وأرسل إلى شاور يقول له: إن ابنك قال أيحسب مري أن بلبيس جبنة يأكلها! نعم بلبيس جبنة والقاهرة زبدة. فصعد شاور إلى العاضد وسأله مكاتبة نور الدين وطلب معونته فإن الفرنج قد ملكوا بلبيس والمسلمون يضعفون عن وقفهم وأنه متى حصل التقاعد أخذت مصر وأسر الفرنج من فيها من المسلمين ويحثه على إرسال من يتدارك هذا الأمر. فكتب العاضد إلى نور الدين برأي شمس الخلافة فإنه اجتمع بالكامل ابن شاور وقال له: عندي أمر لا يمكنني أن أفضي به إليك إلا بعد أن تحلف لي أنك لا تطلع أباك عليه. فلما حلف له قال: إن أباك قد وطن نفسه على المصابرة وآخر أمره يسلم البلد إلى الفرنج ولا يكاتب نور الدين وهذا عين الفساد فاصعد أنت إلى العاضد وألزمه أن يكتب إلى نور الدين فليس لهذا الأمر غيره. فصعد الكامل إلى الخليفة العاضد وكتبا الكتاب وأرسلاه إلى نور الدين. فقيل للعاضد لم لا أطلعت وزيرك على ذلك فقال أعرف أنه لا يوافقني عليه لكراهته في الغز وأنا أعلم من أي باب أدخل عليه. وأرسل إلى شاور يقول أين استدعائي الغز من المسلمين لنصرة الإسلام من استدعائك الفرنج للإعانة على المسلمين. فقال للرسول: قل لمولانا عني أنت مغرور بالغز والله لئن يثبت لهم رجل بديار مصر لا كانت عاقبته وخيمةً إلا عليك. فلما بلغه ذلك قال: رضيت أن تكون إسلامية وأكون فداء المسلمين. فوافت كتب العاضد وكتب جماعة من الأعيان إلى نور الدين بحلب فانزعج لذلك وجمع الأمراء للمشورة فأشاروا بإرسال أسد الدين شيركوه. وكان بحمص وقد وصلت إليه الكتب من مصر باستدعائه لإنجازهم وإنقاذهم مما نزل بهم فخرج منها يريد السلطان بحلب وخرج رسول السلطان من حلب بطلبه فتلاقيا بباب مدينة حلب وعادا. فلما رآه السلطان عجب من سرعة مجيئه فأعلمه بموافاة الكتب إليه تستدعيه إلى مصر فسر بذلك وتفاءل به وأعطاه مائتي ألف دينار وثياباً وسلاحاً ودواب وحكمه في العسكر فاختار ألفي فارس وجمع فسار في ستة آلاف فارس. وخرج معه نور الدين إلى دمشق فوصل إليها في سلخ صفر وجهز أسد الدين وأعطى نور الدين كل فارس ممن معه عشرين ديناراً مصرية غير محسوبة عليه من جامكيته وأضاف إليه جماعة من الأمراء منهم عز الدين جرديك وغرس الدين قلج وشرف الدين بزغش وعين الدولة الياروقي وقطب الدين ينال المنبجي وصلاح الدين يوسف بن أيوب. وكان صلاح الدين كارهاً مسيره إلى مصر كأنما يساق إلى الموت فأخرجه نور الدين كرهاً ليحق قول الله سبحانه إذ يقول: " وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُو خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ". فإن نور الدين أحب مسير صلاح الدين إلى مصر فكان مسيره إليها لخروج الملك عن أولاده وكره صلاح الدين مسيره إلى مصر فكان في مسيره إليها تملكه إياها وغيرها من الأقاليم. وسار شيركوه من دمشق في ثاني عشر ربيع الأول وتقدم الفقيه عيسى الهكاري إلى العاضد سراً وخفية من شاور ليحلفه على أشياء. وأما مري فإنه كثرت أمراء الفرنج عنده لقصد سبي بلبيس فغزاها برجاله وأمر بإخراج الأسرى من أهل بلبيس إلى ظاهر البلد وركب وقد اعتقل رمحه وحمل على الأسرى حتى فرقهم فرقتين فجعل لنفسه الفرقة التي وقعت عن يمينه وأنعم بالفرقة اليسرى على أهل عسكره وقال لمن صار إليه من الأسرى: قد أطلقتكم شكراً لله على ما أولاني من فتح مصر فإني ملكتها بلا شك. وما زال واقفاً حتى عدى أكثرهم النيل إلى جهة منية حمل وأخذ عسكره أسراهم فاقتسموهم فبقوا في أيدي الفرنج بعد ذلك نحو الأربعين سنة وهلك كثير منهم هنالك وأفلت بعضهم. وكان شمس الخلافة قد صار إلى مري قبل أخذه مدينة بلبيس بإجابته إلى القطيعة التي طلبها فعاقه عنده حتى أخذ بلبيس كما تقدم ذكره ثم أذن له في الانصراف إلى القاهرة واعتذر بأنه بلغه عن قيس بن طي أشياء أمضته حتى فعل ما فعل وأنه باق على ما تقرر معه بقاء شمس الخلافة وأشار على شاور بالاحتراز وقال إن الرجل مخاتل. وأنفذت الكتب إلى نور الدين. وكان شاور قد شرع في بناء سور على مدينة مصر واستعمل فيه الناس فلم يبق أحد من المصريين إلا وعمل فيه وحفر من ورائه خندقاً فلم يكمل من ناحية النيل. وعمل في السور ثمانية أبواب أحدها بدار النحاس على ساحل البحر هدم في سنة وخمسين وستمائة وآخر بجانب كوم البواصين وثالث على سكة سوق وردان سقط سنة إحدى وستين وستمائة وباب في طريق زين العابدين وباب عرف بباب الصفاء وباب بحري مصلي الأموات سقط قبيل سنة خمسين وستمائة وباب عند أقمنة الجير مما يلي درب السرية وباب لقنطرة بني وائل وتحته قنطرة بني وائل التي تصب في بركة الشعيبية التي كانت قديماً بستان الأمير تميم بن المعز وكان الماء وسار مري بعقيب مسير شمس الخلافة عنه يريد منازلة القاهرة بعد ما أقام ببلبيس خمسة أيام فداخل الناس منه رعب شديد وخوف عظيم فاجتمعوا بالقاهرة ووطنوا أنفسهم على الموت. وكان هذا من لطف الله فإنه لو قدر أن الفرنج أحسنوا السيرة في أهل بلبيس لكان الناس لا يدافعونهم عن القاهرة ألبتة لما في قلوبهم من كراهة شاور. فما هو إلا أن قصد مري القاهرة وإذا بشاور قد قام في حريق مصر وأمر شاور الناس بالانتقال منها إلى القاهرة وحثهم على الخروج منها. فتركوا أموالهم وأثقالهم ونجوا بأنفسهم وأولادهم وحرمهم وقد ماج الناس واضطربوا اضطراباً عظيماً. ووقعت النار في الأسطول فخرج العبيد إلى مصر وقد انطلقت النار في مساكنها فانتهبوا سائر ما كان بمصر. وبلغ بالناس الحال أن كانت الدابة تكري من مصر إلى القاهرة ببضعة عشر ديناراً والجمل بثلاثين ديناراً. ونزلوا بمساجد القاهرة وحماماتها وملأوا جميع الشوارع والأزقة وصاروا مطروحين بعيالهم وأولادهم على الطرق وقد ذهبت أموالهم وسلبت عامة أحوالهم وهم مع ذلك ينتظرون هجوم الفرنج على القاهرة وقتل رجالها وسبي من بها من الحريم والصبيان. وكان ابتداء الحريق بمصر في يوم الثلاثاء التاسع من صفر الموافق له ثامن عشر هاتور ونزل مري بعساكره على بركة الحبش في يوم الأربعاء العاشر من صفر فخرج إليه شمس الخلافة. فلما دخل إليه سأله أن يخرج معه إلى باب الخيمة فخرج فأراه شمس الخلافة جهة مصر وقال له أترى دخاناً في السماء قال: نعم. قال: هذا دخان مصر ما أتيتك إلا وقد احترقت بعشرين ألف قارورة نفط وفرق فيها عشرة آلاف مشعل وما بقي فيها ما يؤمل بقاؤه ونفعه فخل الآن عنك. فقال مري: لا بد من النزول على القاهرة ومعي فرنج من هذا البحر قد طمعوا في أخذها. ثم رحل فنزل على القاهرة في عاشر صفر مما يلي باب البرقية نزولاً قارب به البلد حتى صارت سهام الجرخ تقع في خيمه. وقاتل أهل القاهرة قتالاً شديداً وحفظوها وبذلوا جهدهم. واشتد الفرنج في محاصرة القاهرة وضيقوا على أهلها حتى تزلزل الناس زلزالاً شديداً وضعفت قواهم وشاور هو القائم بتدبير الأمور فتبين له العجز عن مقاومة الفرنج وأنه يضعف عن ردهم. وخاف من غلبتهم فرجع عن مقاومتهم إلى مخادعتهم وإعمال الحيلة فأرسل شمس الخلافة إلى مري يطلب منه الصلح على أن يحمل إليه أربعمائة ألف دينار معجلة. فأجاب إلى ذلك. ويقال إنه خوفه من نور الدين واعتذر بأنه لولا الخوف من العاضد ومن معه من المسلمين وإلا سلمه البلد وإنه تقدم له بألف ألف دينار. فتقرر الصلح. على أن مري قال لا أسمع من كلام شاور فإنه غدار ولا بد من كلام الخليفة العاضد. فمشى أبو الفتح عبد الجبار بن عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوي المعروف بالجليس قاضي القضاة وداعي الدعاة ومعه الأستاذ صنيعة الملك جوهر بين الفرنج وبين الناس حتى تقرر الأمر على تعجيل مائة ألف دينار وحمل الباقي بعد ذلك مع القطيعة المقررة كل سنة وزيادة عشرة آلاف دينار وعشرة آلاف إردب غلة على ما يقترح من أصنافها. فأرسل العاضد القاضي الفاضل عبد الرحيم إلى الشيخ الموفق ابن الخلال كاتب الدست وكان مريضاً والفاضل ينوب عنه بتعيين الكامل بن شاور وقال له: استشره في هذا الأمر. فمضى الفاضل إليه وعرض ما تقرر عليه وبلغه عن العاضد ما أشار به من أخذ رأيه في ذلك. فقال: قبل الأرض عني لمولانا وقل له عن مملوكه إن وعد المشتري وصبر البائع فليست بعالية وبين قيل وقال يتصرم الوقت. وشرع شاور في حمل المال فلم يجد في حاصل الخبايا بالقصر سوى مائتي ألف دينار مدفونة في أحد كمي المجلس من ذخائر الحافظ أطلعهم عليها أستاذ من أستاذي القصر فأخرجت وحمل إلى الفرنج منها على يد ابن عبد القوي مائة ألف دينار فأخذوها بعد امتناع. ووقع الطلب من أهل القاهرة ومصر فلم يتحصل من الناس إلا نحو الخمسة آلاف دينار لفقر أهل مصر وسوء حالهم وذهاب أموالهم في الحرق والنهب بحيث صاروا لا يجدون القوت عجزاً عنه يا ربّ إنّي أرى مصراً قد انتبهت لها عيون اللّيالي بعد رقدتها فاجعل بها ملّة الإسلام باقيةً واحرس عقود الهدى من حلّ عقدتها وهب لنا منك عوناً نستجير به من فتنة يتلظّى جمر وقدتها فبينما الفرنج في استحثاث أهل القاهرة في حمل المال إذ وصل إليهم في مستهل ربيع الآخر خبر قدوم أسد الدين بالعساكر فأزعجهم ذلك ورحلوا عن القاهرة يوم السبت ثالث ربيع الآخر ومعهم من الأسرى اثنا عشر ألفاً ما بين رجل وصبي وامرأة. فنزلوا على بلبيس وساروا منها إلى فاقوس. ونزل أسد الدين بالمقس إلى اللوق خارج القاهرة يوم الأربعاء سابع ربيع الآخر فخرج إليه العاضد وتلقاه. وكان شاور لما بلغه وصول شيركوه إلى صدر أخرج شمس الخلافة إلى مري وقال له: قد وقف المال علينا وقد جئت إليك أستوهب منك بعض ما قطعت علينا. فقال مري: اطلب ما شئت. قال: تهب لي من الألفي ألف ألف ألف. قال: قد فعلت فقال شمس الخلافة: ما بلغني أن ملكاً وهب مثل هذا لقوم هم في مثل حالنا. فقال مري: أنا أعلم أنك رجل عاقل وأن شاوراً ملك وأنكما ما سألتماني أن أهب لكما هذا المال العظيم إلا لأمر قد حدث. فقال: صدقت هذا أسد الدين قد وصل إلى صدر نصرةً لنا وما بقي لك مقام وشاور يقول لك أرى أن ترحل ونحن باقون على الهدنة فإنه أوفق لنا ولك وإذا حصل هذا الرجل عندنا أرضيناه من هذه الألف ألف بشيء وحملنا الباقي إليك متى قدرنا وإن نحن أخرجنا في رضاهم أكثر من هذا المال عدنا عليك بما يبقى علينا من المقدار. فقال مري: أنا راض بذلك. فقال: وأن تطلق ابن طي بن شاور وجميع من في عسكرك من الأسارى ولا تأخذ من بلبيس بعد انصرافك شيئا. فأجاب إلى ذلك وأطلق ابن شاور ورحل. ولما قارب شيركوه القاهرة خرج شاور إلى لقائه وقابله بالاحترام والإكرام وأشار عليه باتباع الفرنج. فلم ير ذلك واعتذر بما هم فيه من التعب. ونزل أسد الدين بظاهر القاهرة ودخل على العاضد فخلع عليه في تاسعة بالإيوان وعاد إلى مخيمه وقد فرح الناس بقدومه. وأجريت عليه وعلى عساكره الجرايات الكبيرة والإقامات الوافرة. وثقل ذلك على شاور ولم يقدر على عمل شيء لما عرفه من ميل العاضد إلى شيركوه وشرع يماطل بما تقرر لشيركوه ولنور الدين وهو يركب كل يوم إليه ويسير معه ويعده ويمنيه. وعزم على أن يعمل دعوةً ويحضر شيركوه وجميع أمرائه فإذا صاروا إليه قبض عليهم واستخدم من معهم من الجند يمنع بهم الفرنج. فنهاه ابنه شجاع عن ذلك وقال: والله لئن عزمت على هذا لأعرفن شيركوه. فقال: يا بني والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعاً. قال: صدقت ولأن نقتل ونحن مسلمون خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج فإنه ليس بينك وبين عود الفرند إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارساً واحداً. فترك شاور ما عزم عليه. ولما طال مطال شاور على الغز اتفق صلاح الدين يوسف وعز الدين جرديك على قتل شاور. واتفق أن شاوراً رأى في منامه كأنه دخل دار الوزارة فوجد على سرير ملكه رجلا وبين يديه دواته وهو يوقع والحاجب بين يديه يتناول منه التوقيع فقال: من هذا الذي جلس في مجلسي ووقع من دواتي فقيل له: هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وما يصنع محمد عندي أما كان له في مملكة غيري مصنع. ثم إنه قام إليه وضربه بسيفه حتى قتله وألقاه بظاهر الدار. فلما استيقظ هاله ما رآه واستدعى أبا الحسن علي بن نصر الأرتاحي العابد وكان نادراً في علمه وقص عليه ما رأى. فقال له: هؤلاء الذين في القصر من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون هلاكهم على يدك. فأمره بكتمانه فلم يظهر حتى قتل شاور. ويقال إن العاضد خرج متنكراً إلى شيركوه وأمره بقتل شاور فركب على عادته إلى شيركوه ومعه الطبل والبوق وخرج من باب القنطرة. فلما صار في مخيم الغز تلقاه صلاح الدين وجرديك في جماعتهم وأعلموه أن أسد الدين توجه إلى القرافة فقال نمضي إليه. فساروا جميعاً وصلاح الدين وجرديك عن يمينه وشماله وكان اليوم كثير الضباب فتناول صلاح الدين شاور على غرة هو وجرديك وألقياه عن فرسه إلى الأرض وأحاط أصحابهما بمن مع شاور فانتهبوهم وفروا عنه. وأخذ أسيراً إلى المخيم وأرسلوا إلى شيركوه فحضر. وبلغ ذلك العاضد فأنفذ في الحال إلى شيركوه أحد الأستاذين بسيف وقال: هذا غلامنا ولا خير فيه لك ولا لنا فأمض حكم الله فيه. فقتل في يوم السبت السابع عشر من ربيع الآخر وحملت رأسه إلى العاضد. وفر الكامل شجاع بن شاور هو وأولاد أخيه إلى القصر فكان آخر العهد بهم وأحضرت رءوسهم يوم الاثنين رابع جمادى الأولى. وبعث شيركوه يطلبهم فأرسل إليه العاضد طبقاً من فضة مغطى فلما كشف عنه وجد فيه رأس شجاع ورءوس أولاد أخيه فتأسف على قتل شجاع لما كان يبلغه عنه من منعه أباه من عزمه على الفتك بهم. وكانت وزارة شاور هذه كثيرة الوقائع والنوازل فإنه أطمع الغز والفرنج في البلاد وجرهم إليها فأحرق مصر وأزال نعم أهلها وأذهب أموالهم وكان السبب في إزالة الدولة الفاطمية من ديار مصر وتملك الغز لها. وكان مع ذلك منقاداً لولده الكامل قد أطلقه وسلم الأمر إليه بحيث إنه كان يأتي إلى داره فيحتجب عنه. وكان ضيق العطن لا يصبر على شيء مما ينقل إليه من الاخبار. وكان إذا سئل وهو في الخدمة لا يرد سائلا في شيء. وكان شديد النكال إذا عاقب فتكشفت في وزارته الثانية التي قتل فيها صفحاته وأحرقت كافة أهل مصر لفحاته وأغرقتهم نفحاته فغصه الدهر وعضه وأوجعه الثكل وأمضه. وكان عاقبة أمره القتل والعار وسوء المنقلب والدمار. ثم إن أسد الدين ركب بعد قتل شاور بجموعه ودخل إلى القاهرة في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر يريد لقاء الخليفة العاضد فهاله ما رأى من كثرة اجتماع الناس وتخوف منهم فأراد أن يفرقهم فقال لهم: إن أمير المؤمنين قد أمركم بنهب دار شاور فتسارعوا إليها وانتهبوا سائر ما كان فيها. فصعد شيركوه إلى القصر وخلع عليه العاضد خلع الوزارة ولقبه بالملك المنصور أمير الجيوش. ونزل إلى دار الوزارة حيث كان ينزل شاور ومن قبله من الوزراء فلم يجد ما يجلس عليه لما شملها من النهب. فجلس للهناء وغلب على الأمر. وخرج إليه التوقيع بخط القاضي الفاضل وإنشائه فقرأه الجليس ابن عبد القوي قاضي القضاة على رءوس الأشهاد وفي أعلاه بخط العاضد: هذا عهد لا عهد لوزير بمثله وتقلي طوق أمانة رآك الله وأمير المؤمنين أهلا بحمله والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله. فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة واسحب ذيل الفخار بأن خدمتك اعتزت بأن اعتزت إلى بنوة النبوة واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا "وَلاَ تَنقُضُوا الأَيَمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلا" . وهو توقيع كبير. وكتب القاضي الفاضل إلى نور الدين محمود بن زنكي كتاباً بأن يقر شيركوه عنده بمصر وأنه فوض إليه الوزارة وأمر الجيوش تاريخه سابع عشري ربيع الآخر وكتب العاضد علامته بين سطريه الأولين بخطه الله ربي فعاد الجواب بالامتثال. وسلك أسد الدين مع العاضد مسالك الأدب حتى أعجب به ومال إليه. وركب إلى مصر فرآها مشوهةً بالحريق وقد تلفت فيها أماكن وسلمت أماكن وتشعث الجامع فشق عليه وعاد. وقد حضر إليه الأمير ابن مماتي والقاضي الفاضل فأمر بإحضار أعيان المصريين الذين جلوا عن مصر في الفتنة وصاروا بالقاهرة فتغمم لما نزل بهم وسفه رأي شاور فيما فعله وأمرهم بالعود إلى مصر. فشكوا ما حل بهم من الفقر وذهاب الأحوال وخراب المنازل وقالوا: إلى أي موضع نرجع وفي أي مكان نأوى. فقال: لا تقولوا هذا وعلي بإذن الله حراستكم وإعادتها إليكم بما كانت عليه وأحسن فاستدعوا مني كل مالكم فيه راحة فهي بلدي وربما وأمر فنودي على الناس بالرجوع إلى مصر فتراجعوا إليها شيئاً بعد شيء. وجعل أسد الدين اجتماعه بالخليفة العاضد في الشباك على العادة. فأول ما اجتمع به قال له الأستاذ صنيعة الملك جوهر وكان أكبر الأستاذين وأفصحهم لساناً وهو قائم على رأس العاضد: يقول لك مولانا لقد كنا نؤثر مقامك عندنا أول طروقك بلادنا ولكن أنت تعلم الموانع عنه ولقد تيقنا أن الله عز وجل ادخرك لنا نصرة على أعدائنا. فقال أسد الدين شيركوه: يا مولانا بإمالة اللام والله لأنصحنك في الخدمة ولأجعلن دولتك بعون الله قاهرة. فقال الأستاذ: يقول لك مولانا الأمل فيك هذا وأكثر. ثم جددت له الخلع وأفيضت عليه ونزل إلى داره. وحسن عنده موقع الجليس ابن عبد القوى قاضي القضاة وداعي الدعاة وأثنى عليه وشكره وقال لولا مذهبه! فقال: إنه ولد بالمغرب وله دالة على الخليفة ولولا ضبطه حواصل القصر لخرجت كلها لكرم العاضد لكنه يحترمه ويقبل مشورته. فازدادت مكانته عند أسد الدين وأقره على حاله. واستبد أسد الدين بأمور المملكة وغلب على الدولة واستعمل أصحابه وثقاته على الأعمال وأقطع البلاد لعساكره. ولما أكب الناس عليه بالتواقيع قلق من كثرة ما يوقع وقال: أظن مولانا استخدمني كاتبا. في رابع جمادى الأولى قتل الكامل شجاع بن شاور والمعظم سليمان بن شاور وركن الإسلام نجم أخو شاور وأحضرت رءوسهم إلى أسد الدين شيركوه. ولما بلغ نور الدين وزارة شيركوه للعاضد واستبداده بالأمر كره ذلك وأمضه وظهر ذلك على صفحات وجهه وفلتات لسانه وأخذ يتحدث في ذلك وأفضى به إلى الأمير مجد الدين ابن الداية. وأخذ يعمل الحيلة في إفساد أمر أسد الدين وابن أخيه صلاح الدين وكاتب العاضد في ذلك غير مرة ويلتمس منه أن يبعث إليه أسد الدين يريد بذلك إخراجه عن مصر. فلم يسمح العاضد بإرساله لأنه دبر الأمور وقام بحمل أعباء المملكة من غير أن يغير على أصحاب العاضد شيئا من أحوالهم ولا أنكر عليهم أمراً من أمورهم بل أقرهم على عوائدهم سوى أنه أقطع البلاد لأصحابه. وتولى عنه التدبير ابن أخيه صلاح الدين وقام بمباشرتها فصار إليه الأمر والنهي حتى مات أسد الدين بعد أن استقر في الوزارة ثلاثة وستين يوما يوم الأحد الثالث والعشرين من جمادى الآخرة بخناق تولد له من إكثاره أكل اللحوم الغليظة ودفن في الدار فلم تخرج له جنازة. وكان شجاعا قوياً جلداً عفيفاً متألهاً يحب أهل الخير وله إيثار وفيه ضبط وإمساك. وأصله من دوين بليدة من عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج وهو من قبيل الروادية إحدى بطون الهذبانية من قبائل الأكراد. وقدم هو وأخوه نجم الدين أيوب وكان أسن منه إلى بغداد واتصلا بخدمة مجاهد الدين بهروز شحنة العراق من قبل السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي ولازماه. فبعث بأيوب إلى تكريت وكانت إقطاعه فأقره فيها دزداراً ومعناه حافظ القلعة فإن دز بالفارسي القلعة ودار الحافظ. فأقام بها ومعه أخوه شيركوه وله به إقطاع إلى أن انهزم عماد الدين زنكي من العراق من قراجا الساقي ووصل إلى تكريت فأمكنه أيوب من قلعتها ورفعه إليها بالحبال وخدمه هو وأخوه شيركوه فاعتدها يداً لهما. ثم أقام له السفن حتى عبر دجلة وتبعه أصحابه فأحسن إليهم وسيرهم إليه. فبلغ ذلك الأمير مجاهد الدين بهروز فأنكر عليه وأخرجه من قلعة تكريت فسار هو وشيركوه إلى عماد الدين زنكي وهو يومئذ صاحب الموصل فأكرمهما وأقطعهما إقطاعاً وتقدما عنده. فلما ملك بعلبك جعل نجم الدين دزدارها فأقام بها إلى أن قتل عماد الدين زنكي وحصر عسكر دمشق بعلبك لأخذها لصاحب دمشق مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن ظهير الدين طغتكين الأتابك. فبعث إلى سيف الدين غازي بن عماد الدين زنكي بالموصل يعرفه ويطلب منه عسكرا فلم يجبه فسلم بعلبك لصاحب دمشق على إقطاع وصار أحد أمراء دمشق. وأما شيركوه فإنه لما خدم عماد الدين زنكي تمكن منه بواسطة الوزير جمال الدين الأصفهاني إلى أن قتل فتعلق بخدمة ابنه نور الدين محمود بن زنكي وتخصص به حتى عظمت منزلته عنده. وصار معه إلى حلب فأقطعه وأنعم عليه ثم أعطاه مدينة الرحبة وتدمر إلى أن جهزه إلى مصر وعاد منها وهو كثير الذكر لها فخافه نور الدين وصرفه عنه وأعطاه مدينة حمص وجعله مقدم عسكره إلى أن قدم مصر وملكها كما تقدم إلى أن مات فدفن بالقاهرة ثم نقل منها إلى المدينة النبوية بعد مدة. ولما احتضر قال: من ههنا فقال الطواشي بهاء الدين قراقوش: عبدك قراقوش. فقال: بارك الله فيك الحمد لله الذي بلغنا من هذه الديار ما أردنا ومتنا وأهلها راضون عنا. أوصيكم لا تفارقوا سور القاهرة حتى تطير رءوسكم واحذروا من التفريط في الأسطول. ولما توفي أسد الدين افترق أهل القصر وحواشي الخليفة العاضد من الأستاذين وغيرهم فرقتين. فأما إحداهما وكبيرهم الأستاذ صنيعة الملك مؤتمن الخلافة جوهر فإنهم قالوا قد مات أسد الدين المهدد به في الشرق والغرب ولم يحدث إلا خير ومن الرأي أن نمسك مخلفته ونضيف إليها من جياد فرسان الغز ما تكون جملته ثلاثة آلاف فارس ونقدم عليهم بهاء الدين قراقواش وننزلهم بالشرقية ونجعلها بأجمعها إقطاعاً لهم يسكنون بها فيصيرون بيننا وبين الفرنج الذين طمعوا في البلاد يقاتلون عن حرمهم وإقطاعاتهم. ويرتب مولانا من أجناد الديار المصرية من ينتفع به ولا يقيم وزيراً تثقل وطأته ويشارك الخليفة في أمره بل يجعل صاحب وساطة بين الناس وبين الخليفة. وقالت الطائفة الأخرى لا وحق الله ما يكون وزير مولانا إلا ابن أخي وزيره الذي هو منه وإليه يعنون صلاح الدين وإذا بقي المذكور أقام معه قراقوش وغيره من المعتبرين. وكذلك وقع في عسكر أسد الدين فإن شهاب الدين محمود الحارمي خال صلاح الدين والأمير عبد الدولة ياروق الياروقي وأخاه الأمير بهاء الدولة والأمير قطب الدين خسرو بن تليل والأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المشطوب طلب كل منهم الوزارة لنفسه وجمع أصحابه ليغالب عليها. واجتمع مماليك أسد الدين وهم خمسمائة على صلاح الدين وطلبوا وزارته وتحدثوا بأن أسد الدين أوصى إليه فبعث العاضد إليهم وسأل الأمراء من يصلح للوزارة فسار إليه شهاب الدين محمود الحارمي وأرشده إلى تولية صلاح الدين. وكان العاضد قد مال إليه وقال لأصحابه من الأستاذين وغيرهم لما اختلفوا كما تقدم ذكره والله إني لأستحي من تسريح صلاح الدين وما بلغت غرضاً في حقه لقرب عهد مقام عمه. فأرسل إليه وخلع عليه خلع الوزارة بالعقد والجوهر وحنكه ونعته بالملك الناصر وذلك في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من جمادى الآخرة. وصفة الخلعة ثوب أبيض دبيقي بطرازين ذهبا وطيلسان مقور بطراز ذهب دقيق وعمامة بيضاء مذهبة وفي عنقه العقد الجوهر وقيمته عشرة آلاف دينار وقد تقلد سيف الوزارة وقيمته خمسة آلاف دينار. وركب فرسا حجرةً صفراء من مراكب العاضد قيمتها ثمانية آلاف دينار وعليها سرفسار ذهب مجوهر وأعلاقها من سبتة وفي عنقها مشدة بيضاء برأسها مائتا حبة جوهراً وفي أربع قوائمها أربعة عقود من جوهر وعلى رأسه قصبة ذهب في رأسها طلعة مجوهرة ومشدة بيضاء بأعلام ذهب. وحمل بين يديه عدة بقج فيها أنواع من الثياب وقيد معه أيضا عدة خيول ومنشور الوزارة ملفوف في ثوب أطلس أبيض بخط القاضي الفاضل ومن إنشائه وقرأه الجليس ابن عبد القوي. وهو كبير جداً وعلى رأسه بخط العاضد: هذا عهد أمير المؤمنين إليك وحجته عند الله سبحانه عليك فأوف بعهدك ويمينك وخذ كتاب أمير المؤمنين ناهضا بيمينك ولمن مضى بجدنا رسول الله أحسن أسوة ولمن بقى بقربنا أعظم سلوة. " تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيِدُونَ عُلُوّاً في الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ". فكان آخر منشور كتب عن العاضد. ولما نزل صلاح الدين إلى دار الوزارة لم يطعه أحد من الأمراء النورية ولا خدموه فسعى الفقيه عيسى الهكاري في الإصلاح بينه وبينهم وبدأ بالمشطوب فقال له: هذا الأمر لا يصل إليك مع وجود عين الدولة والحارمي وابن تليل. ثم قصد الحارمي وقال له: هذا صلاح الدين ابن أختك وعزه وملكه لك وقد استقام له الأمر فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه ولا يصل إليك. وما زال بهم حتى مالوا إليه وأطاعوا بأجمعهم إلا عين الدولة فإنه قال لا أخدم يوسف أبداً وخرج من القاهرة بجماعة وصار إلى نور الدين بالشام. فلما بلغ نور الدين استيلاء صلاح الدين أقام ثلاثة أيام لا يقدر أحد أن يراه من شدة ما عظم عليه ذلك وأغضبه. واستمال صلاح الدين قلوب الناس وساس الأمور وكاتب الأطراف وأقبل على الجد وتاب عن الخمر وأعرض عن اللهو وتقرب إلى الخليفة العاضد بما يرضيه فأحبه وأدناه حتى كان يدخله إليه القصر راكباً ويقيم عنده بالقصر عدة أيام. وعظم في الدولة حتى حسده الأمراء وباينه جماعة منهم وتوجهوا إلى الشام. وشرع في استمالة قلوب الناس إليه فبذل فيهم المال وأخرج ما كان في خزائن عمه أسد الدين واستدعى من العاضد فأمده بشيء كثير من المال فكان أمره في زيادة وقوة وأمر العامة في نقص وضعف. وركب العاضد ومعه الملك الناصر صلاح الدين يوسف في غرة شهر رمضان وحمل العادل أبو بكر السيف. ثم ركب أيضا جمعتين في شهر رمضان إلى الجامع الأزهر والجامع الأنور على العادة وركب في عيد الفطر. وأرسل إلى نور الدين يسأله في إرسال أبيه وأخيه فلم يجبه إلى ذلك. وصارت الخطبة بديار مصر للعاضد ومن بعده للملك العادل نور الدين وهو في الظاهر ملك الديار المصرية وصلاح الدين لا يتصرف إلا عن أمره كالنائب في الأمر عنه ونور الدين لا يفرده بكتاب بل يكتب: الأمير الأسفهلار صلاح الدين وكافة الأمراء بالديار المصرية يفعلون كذا ويجعل علامته على رأس الكتاب تعظيماً لنفسه وترفعاً عن أن يكتب اسمه. وعندما بلغه وفاة أسد الدين شق عليه استيلاء صلاح الدين وتتبع أصحابه وأصحاب أسد الدين وأخذ إقطاع صلاح الدين وإقطاع أسد الدين ومنع نوابه من التصرف في حمص وأبعد أهاليهم واستثقلهم وطردهم عنه. وكتب إلى الأمراء بمصر بمفارقته وتركه بمصر وحيداً ليوهن أمره. وشرع يذمه ويذكره بالسوء ويعنته في الطلب بحمل الأموال إليه وصار كثيراً ما يقول: ملك ابن أيوب ويستعظم ذلك احتقاراً له. وثقل ذلك على أهل الدولة وحواشي الخليفة العاضد فإنه أقطع أصحابه أجل البلاد وآواهم وأبعد أهل مصر وأضعفهم واستبد بجميع الأمور ومنع العاضد من التصرف ففطن العاضد لما يريد من إزالة الدولة. فثار الأستاذ مؤتمن الخلافة وهو يومئذ من أكابر خدام القصر وبعث بمكاتبة إلى الفرنج يستنجد بهم على الغز ويحثهم على قصد البلاد ليخرج إليهم صلاح الدين بعساكره فيثور عند ذلك بصعيد مصر وطوائف العسكر ويصير صلاح الدين محصوراً بين الفرنج وبينهم فيأخذونه ويتلفون من معه. ووافقه على ذلك جماعة. وبعث رجلاً بالكتاب إلى الفرنج بعد ما جعله في نعل كي لا يعثر عليه. فلما وصل الرجل إلى البئر البيضاء قريباً من بلبيس ظفر به بعض أصحاب صلاح الدين ومعه نعلان جديدان في يده فارتاب لما رآه من سوء حاله وحسن النعلين وعلم أنهما لا يليقان به ولو كانا من ملابسه لكان تبين فيهما أثر الاستعمال. فأخذهما منه وفتحهما فوجد فيهما الكتب إلى الفرنج فتقرب بذلك إلى صلاح الدين وحضر بالرجل والكتب إليه فكتم ذلك وتتبع من كتب الكتب حتى أحضر إليه برجل يهودي فلما خاف منه أسلم وأخبره الخبر. فبلغ ذلك مؤتمن الخلافة وخشي على نفسه فلزم القصر وامتنع من الخروج مدة وصلاح الدين لا يلتفت إليه فاغتر بإعراضه عنه وخرج إلى منظرة له على النيل بستان بناحية الخرقانية قريباً من قليوب. فأرسل إليه صلاح الدين بجماعة من أصحابه هاجموه وقتلوه وصاروا إليه برأسه وذلك في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة وجعل زمام القصور عوضه الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي. فغضب لقتله السودان وحرك منهم ما كانوا يتكتمونه فاجتمعوا لحرب صلاح الدين في سادس عشريه صبيحة قتل مؤتمن الخلافة وقد صاروا في جمع كثير من الأمراء المصريين وعوام البلد يزيد على الخمسين ألفاً وزحفوا إلى دار الوزارة. فبدر إليهم فخر الدين شمس الدولة توران شاه وركب صلاح الدين بعساكره وقد تجمعت الريحانية والجيوشية والفرجية ومن انصاف إليها في بين القصرين وخرجت إليهم الأرمن فوقع بين الفريقين قتال عظيم استظهر فيه العبيد على الغز والعاضد في المنظرة يشرف على الوقعة. فلما تبين الغلب للعبيد وكادوا أن يهزموا الغز رمى أهل القصر بالنشاب والحجارة حتى امتنعوا عن مقاتلة العبيد فنادى شمس الدولة النفاطين وأمرهم بإحراق المنظرة التي فيها العاضد فطيب قارورة وصوب على المنظرة بها فإذا بباب الطاق قد فتح وخرج منه زعيم الخلافة أحد الأستاذين الخواص وقال: أمير المؤمنين يسلم على شمس الدولة ويقول دونكم والعبيد الكلاب أخرجوهم من بلادكم. فلما سمع العبيد ذلك وكان قد قتل أحد مقدميهم وبعث صلاح الدين في أثناء محاربته لهم إلى حارة السودان خارج باب زويلة المعروفة بالمنصورة فأحرقها وتلفت أموالهم وهلكت أولادهم وحرمهم ضعفت لهذه الأمور أنفس العبيد وانهزموا بعد ما ثبتوا يومين وتعين لهم الفل. فركب الغز أقفيتهم يقتلون ويأسرون إلى أن وصوا إلى السيوفية وثبتوا هنالك فألقى شمس الدولة النيران في المواضع التي امتنعوا بها. وأحرق أيضاً دار الأرمن التي كانت بين القصرين وكان بها خلق كثير من الأرمن كلهم رماة لهم جار وكانوا في هذه الحروب قد أنكوا الغز بشدة رميهم ومنعوهم أن يتجاوزوا من موضعهم إلى محاربة العبيد فلما احترقت عليهم الدار لم يكد يفلت منهم أحد. فالتجأ العبيد إلى عدة أماكن وكلما امتنعوا بموضع ألقى فيه الغز النار وقاتلوهم حتى صاروا إلى باب زويلة وأخذت عليهم أفواه السكك وقد وهنوا ولم يجدوا لهم ملجأ. فصاحوا وطلبوا الأمان فأمنوا على ألا يبقى منهم أحد بالقاهرة فخرجوا بأجمعهم إلى الجيزة. ومال الغز على أموالهم وديارهم واستباحوا جميع ما فيها وذلك يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة. فما هو إلا أن صاروا بالجيزة حتى عدى إليهم شمس الدولة بالعسكر فأبادهم حصداً بالسيف ولم ينج منهم إلا الشريد. وأمر صلاح الدين بتخريب المنصورة وصيرها بستانا فمضى العبيد وذهبت آثارهم من مصر. وقوي صلاح الدين وتلاشى العاضد وانحل أمره ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة. ووالي صلاح الدين الطلب من العاضد في كل يوم ليضعفه فأتى على المال والخيل والرقيق وغير ذلك حتى ان العاضد كان في بعض الأيام بالبستان الكافوري وإذا بقاصد صلاح الدين قد وافاه يطلب منه فرساً وهو راكب فقال ما عندي إلا الفرس الذي أنا راكبه ونزل عنه وشق خفيه ورمى بهما وسلم إلى القاصد الفرس وعاد إلى قصره ماشياً فلزم مجلسه ولم يعد بعدها يركب حتى مات. وأخرج صلاح الدين خاله الأمير شهاب الدين الحارمي إلى الصعيد يتبع من فر من العبيد فأفناهم ولم يبق منهم بديار مصر إلا من اختفى بعد أن كانت البلاد كلها لا تخلو مدينة ولا محلة من أن يكون فيها مكان معد للعبيد محمي لا يدخله وال ولا غيره. وكان منهم ضرر على الناس. وأخذ صلاح الدين في القبص على دور العبيد والأرمن والأمراء وأسكن فيها أصحابه معه بالقاهرة. وكان قاع النيل في هذه السنة ست أذرع وثماني أصابع وبلغ ثمان عشرة ذراعا. سنة خمس وستين وخمسمائة فيها قدم من الشام إخوة صلاح الدين يوسف وعياله وقيل كان قدومهم في سنة أربع. فيها تحرك الفرنج لغزو ديار مصر خوفاً من صلاح الدين ونور الدين عندما بلغهم تمكنه من ديار مصر وقطع آثار جند المصريين. فكاتبوا فرنج صقلية وغيرهم واستنجدوا بهم فأمدوهم بالمال والسلاح والرجال وساروا بالدبابات والمنجنيقات إلى دمياط فنزلوا عليها في مستهل صفر بألف ومائة مركب ما بين شين ومسطح وشلندي وطريدة وأحاطوا بها براً وبحراً. فبعث صلاح الدين بالأمير تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ابن أخي صلاح الدين وأتبعه بالأمير شهاب الدين الحارمي في عساكر إلى دمياط وأمدهم بالمال والميرة والسلاح. وألح الفرنج على أهل دمياط وضايقوهم والناس فيها صابرون في محاربتهم. وبعث صلاح الدين إلى نور الدين يستنجده ويعلم أنه لا يمكنه الخروج من القاهرة إلى لقاء الفرنج خوفاً من قيام المصريين عليه فجهز إليه نور الدين العساكر شيئاً بعد شيء وخرج بنفسه إلى بلاد الفرنج بالساحل وأغار عليها واستباحها. واستمر الفرنج على دمياط أحداً وخمسين يوما ثم رحلوا عنها في الحادي والعشرين وقيل في الثالث والعشرين من ربيع الآخر خوفاً على بلادهم من نور الدين ولفناء وقع فيهم وغرق من مراكبهم نحو الثلثمائة مركب. فأحرقوا ما ثقل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها. وبلغت النفقة من صلاح الدين على هذه النوبة ألف ألف دينار مصرية. وكان يقول ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إلى مدة مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار سوى الثياب وغيرها. وورد كتاب نور الدين إلى العاضد يهنئه برحيل الفرنج عن دمياط وكان صلاح الدين سير إليه يبشره برحيلهم وسير إليه العاضد يستقيله من الأتراك خوفاً منهم ويطلب الاقتصار على الملك الناصر صلاح الدين فتضمن كتابه مدح الأتراك والثناء عليهم. وفيها أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يبعث إليه بأبيه نجم الدين أيوب ابن شاذي فأرسله إليه في عسكر وسار معه كثير من التجار ممن له هوىً في مصر وغرض في صلاح الدين. فخرج ابنه صلاح الدين إلى لقائه ومعه الخليفة العاضد إلى صحراء الإهليلج خارج باب الفتوح ولقيه هناك ولم تجر العادة بخروج الخليفة إلى لقاء أحد وذلك في رابع عشر شهر رجب. ولقبه العاضد بالملك الأوحد وزينت القاهرة ومصر لقدومه فكان من الأيام المذكورة وبالغ العاضد في احترامه والإقبال عليه. ونزل اللؤلؤة. وكان سبب تجهيز الملك العادل نور الدين لنجم الدين أيوب كثرة ورود مكاتبة الخليفة المستنجد بالله العباسي عليه من بغداد يعاتبه على تأخير إقامة الخطبة العباسية بمصر فوالي نور الدين كتابة الملاطفات إلى صلاح الدين يأمره بذلك وهو يعتذر إليه عن ترك الخطبة بما يخافه من المصريين. فوردت رسل المستنجد إلى دمشق بالاستحثاث والعزم على إقامة الخطبة بمصر ولا بد فرأى نور الدين أن مثل هذا المهم لا يقوم به إلا نجم الدين أيوب وكان يتولى قلعة بعلبك فأرسل إليه وقرر معه الأمر وسيره. وكان وصوله إلى القاهرة لست بقين من رجب وقيل في جمادى الآخرة فقررت له ولاية الإسكندرية وولاية دمياط والبحيرة. وأقطع الأمير فخر الدين شمس الدولة توران شاه ابن والد الملوك الملك الأفضل نجم الدين أيوب قوص وأسوان وعيذاب وكانت عبرتها يومئذ في تلك السنة مائتي ألف دينار وستة وستين ألف دينار فاستناب عنه في قوص الأمير شمس الخلافة محمد بن مختار. فيها ثار الأمير عباس بن شاذي بمرج بني هميم من أعمال قوص ومنع رسلان دعمش المتوجه لجباية خراج قوص من التوجه واستباح عسكره. وفيها أبطل صلاح الدين الأذان بحي على خير العمل محمد وعلي خير البشر فكانت أول وصمة دخلت على الدولة. ثم أمر أن يذكر في الخطبة يوم الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ثم علي وذلك يوم الجمعة لعشر مضين من ذي الحجة. ثم أمر أن يذكر العاضد في الخطبة بكلام يحتمل التلبيس على الشيعة فكان الخطيب يقول: اللهم أصلح العاضد لدينك. وفي يوم الاثنين بعد طلوع الشمس الثاني عشر من شوال حدثت زلزلة عظيمة مهولة بدمشق سقط منها بعض شرف الجامع الأموي وتشقق رأسا المنارتين الشرقية والغربية وكانت المنارة الشمالية تهتز اهتزاز السعفة في الريح العاصفة. ثم جاءت زلزلة أخرى بعد ساعة ثم جاءت زلزلة ثالثة بعد العصر. وأثرت هذه الزلزلة آثاراً شنيعة بحلب وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وكفر طاب وتل بارين والمعرة وتل باشر وعزاز وأفامية وأبو قبيس والمنيطرة وحصون الباطنية بأسرها. وامتدت إلى الجزيرة والموصل ونصيبين وسنجار ودنيسر وماردين والرها وحران ورأس العين والرقة وقلعة جعبر وقلعة نجم وبالس ومنبج وبزاعا وعين تاب وحارم وأنطاكية وما خلفها من الثغور وبيروت وأطرابلس وعرقة وطرسوس وجبلة والمرقب واللاذقية وعكا وصور وغيرها فمنها ما دمر بأسره ومنها ما ذهب أكثره ومنها ما ذهب بعضه ومنها ما تشعث. وهلك بحلب عدد كثير من الناس وببعلبك ولم يهلك بدمشق غير واحد أصابته قطعة من حجر فسقط على درج جيرون فمات. وجاءت بدمشق زلازل في عدة ليالي وأيام إلى يوم الجمعة عاشر ذي القعدة. فيها ولي القاضي المفضل أبو القاسم هبة الله بن كامل قضاء القضاة في ذي الحجة فرتب صلاح الدين الفقيه عيسى الهكاري بحكم القاهرة وابن كامل بحكم مصر. فيها رفع صلاح الدين جميع المكوس بديار مصر وأبطلها. وفيها أمر بهدم المعونة بمصر فهدمت وعمرها مدرسة للشافعية ولم يكن قبل ذلك بديار مصر مدرسة لأحد من الفقهاء فإن الدولة كانت إسماعيلية. وهذه المدرسة بجوار جامع عمرو بن العاص وعرفت أخيراً بالمدرسة الشريفية وهي أول مدرسة عمرت بمصر لإلقاء العلم. وأنشأ دار الغزل به مدرسةً للمالكية بجوار الجامع أيضا وتعرف اليوم هذه المدرسة بالقمحية. وفيها عزل صلاح الدين قضاء مصر من الشيعة وولي قاضي القضاة صدر الدين عبد الملك بن درباس الهدباني الشافعي وجعل إليه الحكم في جميع بلاد مصر بعدما أحضره من المحلة وخلع عليه في يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة فعزل من كان بها من القضاة واستناب عنه قضاةً شافعية. ومن حينئذ اشتهر مذهب الشافعي ومذهب مالك بديار مصر وتظاهر الناس بهما واختفى مذهب الشيعة من الإمامية الإسماعيلية. وبطل من حينئذ مجلس الدعوة بالجامع الأزهر وغيره. وفيها ابتدأ صلاح الدين في غزو الفرنج فجمع الجنود والعساكر وخرج في أحسن زي إلى بلاد عسقلان والرملة فشن الغارات عليها وهجم ربض مدينة غزة وواقع ملك الفرنج على الداروم ثم خرج في النصف من ربيع الأول ومعه مراكب مفصلة على الجمال فسار إلى أيلة وكان بها قلعة منيعة قد ملكها الفرنج فألقى المراكب المحمولة معه بعد إقامتها وإصلاحها في البحر وشحنها بالرجال والسلاح وضايق قلعة أيلة في البر والبحر حتى افتتحها في العشرين من ربيع الآخر وقتل من بها من الفرنج وسلمها لثقات من أصحابه أقامهم فيها وقواهم بالسلاح والميرة ونحو ذلك. ووردت عليه قافلة أهله فسار بهم إلى القاهرة ودخل في سادس عشري جمادى الأولى. ثم سار إلى الإسكندرية لمشاهدة سورها وترتيب أمورها فدخلها وأمر بإصلاح السور والأبراج فعمر ما تهدم منه. وفيها اشترى الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب منازل العز بمصر في النصف من شعبان وجعلها مدرسة للشافعية وأوقف عليها عدة أماكن منها الروضة تجاه مصر. وفيها خرج الأمير شمس الدولة توران شاه إلى بلاد الصعيد وأوقع بالعربان وغنم منها غنائم تجل عن الوصف وعاد إلى القاهرة. وفيها ابتدأ صلاح الدين بعمارة السور الجديد على القاهرة. وفيها كثر بمصر عسكر صلاح الدين وأقاربه وأصحابه وانكفت أمراء المصريين عن التصرف ومنعوا من كل شيء فبسطوا ألسنتهم بالقول ضد ما عليه صلاح الدين وأصحابه من الفعل في محو آثار الدولة الفاطمية وإزالة رسومها وخلع العاضد وقتله. والدعاء للخليفة العباسي. فلما رأى أمره قد قوي وأوتاد دولته قد تمكنت من البلاد عزم على إظهار ما يخفيه فواعد أمراء النشابين على أن يمضوا إلى بيوت الأمراء المصريين في الليل ويقف كل أمير منهم بجنده على باب أمير من أمراء مصر فإذا خرج للخدمة قبض عليه واحتاط على داره وما فيها وأخذها لنفسه. فأصبحوا واقفين على منازل الأمراء المصريين بأجنادهم فما هو إلا أن يخرج الأمير من منزله ليصير إلى الخدمة على عادته فإذا بالأمير الشامي الذي قد عين له وقد قبض عليه وأوثقه وهجم بمن معه على داره فملكها بجميع ما تحتوي عليه وما يتعلق بصاحبها وينسب إليه من أهل ومال وخيول وعبيد وجوار وماله من إقطاع. فلم ينتشر الضوء حتى علت الأصوات وارتفعت الضجات وثار الصياح من كل جانب وصار الأمراء الشاميون في سائر نعم أمراء مصر وأصبح الأمراء المصريون أسرى معتقلين في أيدي أعاديهم. فال أمرهم إلى أن صار الأمير منهم بواباً على الدار التي كان يسكنها وصار آخر منهم سائس فرس كان يركبها وصار آخر وكيل القبض في بلد كانت إقطاعاً له ونحو ذلك من أنواع الهوان. وبلغ ذلك العاضد فشق عليه وأرسل إلى صلاح الدين يسأله عن سبب القبض على الأمراء فبعث إليه بأن هؤلاء الأمراء كانوا عصاةً لأمرك والمصلحة قتلهم وإقامة غيرهم ممن يمتثل أمرك فسكت. ذوتقوى صلاح الدين وعظم أمره وذهب من كان يخشاه ويخافه وأخرج أكثر إقطاعات الأجناد بمصر وزاد الأمير شمس الدولة على إقطاعه ناحية بوش ودهشور والمنوفية وغير ذلك. وانحل أمر العاضد. فيها قبض صلاح الدين على جميع بلاد العاضد ومنع عنه سائر مواده بحيث لم يبق له شيئاً وقبض على القصور وسلمها إلى الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي وهو يومئذ زمام القصور من بعد قتل مؤتمن الخلافة وصار له في القصر موضع فلا يدخل شيء من الأشياء إلى القصر ولا يخرج منه إلا بمرأى منه ومسمع. وضيق على أهل القصر حتى قبض في هذه الأيام على جميع ما فيها وصار العاضد معتقلاً تحت أيديهم. وفيها أمر صلاح الدين بتغيير شعار الفاطميين وأبطل ذكر العاضد من الخطبة. وكان الخطيب يدعو للإمام أبي محمد فتخاله العامة والروافض العاضد وهو يريد أبا محمد الحسن المستضئ بأمر الله أمير المؤمنين الخليفة. ثم أعلن بالعزم على إقامة الخطبة العباسية. وفي يوم الجمعة سلخ ذي الحجة عزم صلاح الدين على الإعلان بالأمر وكشف الغطاء فأحجم الخطباء عن ذلك تقيةً وحذراً فانتدب لذلك رجل من أهل المغرب يقال له اليسع ابن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع أبو يحيى الغافقي الأندلسي فقصد المنبر مستعداً من الحديد بما يدفع عن نفسه إن أراده أحد بسوء فخطب ودعا للخليفة أبي محمد الحسن المستضئ بأمر الله أمير المؤمنين وذكر نسبه إلى العباس. وقيل بل كان ذلك في السنة الآتية. |
مواقع النشر (المفضلة) |
كاتب الموضوع | حسن الخليفه احمد | مشاركات | 40 | المشاهدات | 39174 | | | | انشر الموضوع |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|