القبول يا رب - شباب الطريقة الختمية بدائرة ود ابراهيم بأم بدة
مجموعة مدائح ختمية.. شباب الطريقة الختمية بمسجد السيد علي الميرغني ببحري
|
المنتدى العام لقاء الأحبة في الله لمناقشة جميع المواضيع |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
10-18-2012, 11:03 AM | #41 | |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
فصل في حكم زيارة قبره صلى الله عليه و سلم ، و فضيلة من زاره و سلم عليه و زيارة قبره صلى الله عليه و سلم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها ، و فضيلة مرغب فيها : روى عن ابن عمر رضي الله عنه . حدثنا القاضي أبو علي ، قال : حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، قال : حدثنا الحسن بن جعفر ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني ، قال : حدثنا القاضي المحاملي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرزاق ، قال : حدثنا موسى بن هلال ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : قال : النبي صلى الله عليه و سلم من زار قبري و جبت له شفاعتي . و عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من زارني في المدينة محتسباً كان في جواري ، و كنت له شفيعاً يوم القيامة و في حديث آخر : من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي . و كره مالك أن يقال : زرنا قبر النبي صلى الله عليه و سلم . و قد اختلف في معنى ذلك ، فقيل : كرامة الاسم ، لما ورد من قوله صلى الله عليه و سلم : لعن الله زوارات القبور . و هذا يرده قوله : نهيتم عن زيارة القبور فزوروها . و قوله : من زار قبري ، فقد أطلق اسم الزيارة . و قيل لأن ذلك لما قيل أن أفضل من المزور . و هذا أيضاً ليس بشيء، إذ ليس كل زائر بهذه الصفة ، و ليس عموماً ، و قد ورد في حديث أهل الجنة : زيارتهم لربهم ، و لم يمنع هذا اللفظ في حقه تعالى . و قال أبو عمران رحمه الله : إنما كره مالك أن يقال : طواف الزيارة ، و زرنا قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، لاستعمال الناس ذلك بينهم بعضهم لبعض ، فكرة تسوية النبي صلى الله عليه و سلم مع الناس بهذا اللفظ ، و أحب أن يخص بأن يقال : سلمنا على النبي صلى الله عليه و سلم . و أيضاً فإن الزيارة مباحة بين الناس ، و واجب شد الرحال إلى قبره ، يريد بالوجوب هنا ندب و ترغيب و تأكيد ، لا وجوب فرض . و الأولى عندي أن منعه و كراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، و أنه لو قال : زرت النبي لم يكرهه ، لقوله صلى الله عليه و سلم : اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد بعدي ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر ، و التشبه بفعل أولئك ، قطعاً للذريعة و حسماً للباب و الله أعلم . قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه : و مما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة ، و القصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و التبرك برؤية روضته و منبره و قبره ، و مجلسه ، و ملامس يديه ، و مواطئ قدميه ، و العمود الذي كان يستند إليه ، و ينزل جبريل بالوحي فيه عليه ، و بمن عمره و قصده من الصحابة و أئمة المسلمين ، و الاعتبار بذلك كله . [ 174 ] و قال ابن أبي فديك : سمعت بعض من أدركت يقول : بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فتلا هذه الآية : إن الله وملائكته يصلون على النبي قال : صلى الله عليك يا محمد من يقولها سبعين مرة ناداه ملك : صلى الله عليك يا فلان ، و لم تسقط له حاجة . و عن يزيد بن أبي سعيد المهري : قدمت على عمر بن عبد العزيز ، فلما ودعته قال لي : إليك حاجة ، إذا أتيت المدينة سترى قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فأقره مني السلام . و قال غيره : و كان يبرد إليه البريد من الشام . قال بعضهم : رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة ، فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم انصرف . و قال مالك في رواية ابن وه ب : إذا سلم النبي صلى الله عليه و سلم ، و دعا ، يقف و وجهه إلى القبر الشريف لا إللى القبلة ، و يدنو ، و يسلم ، و لا يمس القبر بيده . و قال في المبسوط : لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم يدعو ، و لكن يسلم و يمضي . قال ابن أبي مليكة : من أحب أن يقوم وجاه النبي صلى الله عليه و سلم فليجعل القنديل الذي عند القبر على رأسه . و قال نافع : كان ابن عمر يسلم على القبر ، رأيته مائة مرة و أكثر يجيء إلى القبر فيقول : السلام على النبي صلى الله عليه و سلم ، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي ، ثم ينصرف . [ و رئي ابن عمر واضعاً يده على مقعد النبي صلى الله عليه و سلم من المنبر ، ثم وضعها على وجهه . و عن ابن قسيط و العتبي : كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إذا خلا المسجد جسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ، ثم استقبلوا القبلة يدعون ] . و في الموطأ من رواية [ 176 ] يحيى بن يحيى الليثي أنه كان يقف على قبر النبي صلى الله عليه و سلم فيصلي على النبي ، و على أبي بكر ، و عمر . و عن ابن القاسم و القعنبي : و يدعو لأبي بكر ، و عمر . قال مالك في رواي ة ابن وهب : يقول المسلم : السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته . قال في المبسوط : و يسلم على أبي بكر ، و عمر . قال القاضي أبو الوليد الباجي : و عندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه و سلم بلفظ الصلاة ، و لأبي بكر ، و عمر ، كما في حديث ابن عمر من الخلاف . و قال ابن حبيب : و يقول إذا دخل مسجد الرسول : بسم الله ، و سلام على رسول الله عليه السلام ، السلام علينا من ربنا ، و صلى الله و ملائكته على محمد . اللهم اغفر لي ذنوبي ، و افتح لي أبواب رحمتك و جنتك ، و احفظني من الشيطان الرجيم ، ثم اقصد إلى الروضة ، و هي ما بين القبر و المنبر فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر تحمد الله فيهما و تسأله تمام ما خرجت إليه و العون عليه . و إن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتاك ، و في الروضة أفضل . و قد قال صلى الله عليه و سلم : ما بين منبري و قبري روضة من رياض الجنة ، و منبري على ترعة من ترع الجنة . ثم تقف متواضعاً متوقراً ، فتصلي عليه و تثني بما يحضرك ، و تسلم على أبي بكر و عمر ، و تدعو لهما . و أكثر من الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم بالليل و النهار ، و لا ت دع أن تأتي مسجد قباء و قبور الشهداء . و قال مالك [ 175 ] في كتاب محمد : و يسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فادخل و خرج يعني في المدينة و فيما بين ذلك . و قال محمد : و إذا خرج جعل آخر عهده الوقوف بالقبر ، و كذلك من خرج مسافراً . و روى ابن وهب عن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه و سلم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخلت المسجد فصل على النبي صلى الله عليه و سلم ، و قل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، و افتح لي أبواب رحمتك . و إذا خرجت فصل على النبي صلى الله عليه و سلم ، و قل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، و افتح لي أبواب فضلك . و في رواية أخرى : فليسلم مكان : فليصل فيه ، و يقول إذا خرج : اللهم إني أسألك من فضلك . و في أخرى : اللهم احفظني من الشيطان الرجيم . و عن محمد بن سيرين : كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد : صلى الله و ملائكته على محمد . السلام عليك أيها النبي و رحمة الله ، باسم الله دخلنا ، و باسم الله خرجنا ، و على الله توكلنا . و كانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك . و عن فاطمة أيضاً : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا دخل المسجد قال : ص لى الله على محمد و سلم . ثم ذكر مثل حديث فاطمة قبل هذا . و في رواية : حمد الله و سمى ، و صلى على النبي صلى الله عليه و سلم ، و ذكر مثله . و في رواية : باسم الله ،و السلام على رسول الله . و عن غيرها : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل المسجد قال : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، و يسر لي أبواب رزقك . و عن أبي هريرة : إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه و سلم ، و ليقل : اللهم افتح لي . و قال مالك في المسبوط :و ليس يلزم من دخل المسجد و خرج منه من أهل المدينة الوقو ف بالقبر ، و إنما ذلك للغرباء . و قال فيه أيضاً : لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فيصلي عليه و يدعو له و لأبي بكر و عمر . فقيل له : فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر و لايريدونه ، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر ، ربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة أو الأيام المرة و المرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون و يدعون ساعة ! . فقال : لم يبلغني هذا على أحد من أهل الفقه ببلدنا ، و تركه واسع ، و لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، و لم يبلغني ع ن أول هذه الأمة و صدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ، و يكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده . قال ابن القاسم : و رأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر فسلموا ، قال : و ذلك رأيي . قال الباجي : ففرق بين أهل المدينة و الغرباء ، لأن الغرباء قصدوا لذلك ، و أهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر و التسليم . و قال صلى الله عليه و سلم : اللهم لا تجعل قبري و ثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد . و قال : لا تجعلوا قبري عيداً . و من كتاب أحمد بن سعيد[ 176 ] الهندي فيمن و قف بالقبر : لا يلصق به ، و لا يمسه ، و لا يقف عنده طويلاً . و في العتبية : يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم ، و أحب مواضع التنقل فيه مصلى النبي حيث العمود المخلق . و أما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف و التنقل فيه للغرباء أحب إلي من التنقل في البيوت . القسم الثالث : فيما يستحيل في حقه ، و ما يجوز عليه شرعاً ، و ما يمتنع و يصح من الأمور البشرية أن يضاف إليه . فصل عصمة النبي صلى الله عليه و سلم في أقواله و أفعاله و أما أقواله صلى الله عليه و سلم فقامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة على صدقه ، و أجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منها بخلاف ما هو به ، لا قصداً و عمداً ، و لا سهواً و غلطاً . أما تعمد الخلف في ذلك فمنتف ، بدليل المعجزة القائمة مقام قول الله فيما قال اتفاقا ، و بإطباق أهل الملة إجماعاً . و أما وقوعه على جهة الغلط في ذلك فبهذه السبيل عند الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني و من قال بقوله ، و من جهة الإجماع فقط ، و ورود الشرع بانتقاء ذلك ، و عصمة النبي صلى الله عليه و سلم لا من مقتضى المعجزة نفسها عند القاضي أبي بكر الباقلاني و من وافقه لاختلاف بينهم في مقتضى دليل المعجزة لا تطول بذكره ، فنخرج عن غرض الكتاب ، فلنعتمد على ما وقع عليه إجماع المسلمين رسول أنه لا يجوز عليه خلف في القول في إبلاغ الشريعة ، و الإعلام بما أخبر به عن ربه ، و ما أوحاه إليه من وحيه ، لا على وجه العمد ، و لا على غير عمد ، ولا في حالي الرضا و السخط ، و الصحة و المرض . و في حديث عبد الله بن عمرو : قلت يا رسول الله ، أكتب كل ما أسمع من ك ؟ قال : [ نعم ] . قلت : في الرضا و الغضب ؟ قال : [ نعم ، فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا ] . و لنزد ما أشرنا إليه من دليل المعجزة عليه بياناً ، فنقول : إذا قامت المعجزة على صدقه ، و أنه لا يقول إلا حقا ، و لا يبلغ عن الله إلا صدقاً ، و أن المعجزة قائمة مقام قول الله له : صدقت فيما تذكره عني ، وهو يقول : إني رسول الله إليكم لأبلغكم ما أرسلت به إليكم ، و أبين لكم ما نزل عليكم ، وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى [ سورة النجم / 53 ، الآية 3 ، 4 ] . و قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم [ سورة النساء /4 ، الآية : 170 ] . وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، فلا يصح أن يوجد منه في هذا الباب خبر بخلاف مخبره على أي وجه كان . و لو جوزنا عليه الغلط و السهو لما تميز لنا من غيره ، و لا اختلط الحق بالباطل ، فالمعجزة مشتملة على تصديقه جملة واحدة من غير خصوص ، فتنزيه النبي عن ذلك كله واجب برهاناً و إجماعاً كما قاله أبو إسحاق . فصل سؤالات لبعض الطاعنين و قد توجهت هنا لبعض الطاعنين [195 ] سؤالات ، منها : ما روي من أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قرأ والنجم ، و قال : أفرأيتم اللاتوالعزى * ومناة الثالثة الأخرى -قال : تلك الغرانيق العلا ، و إن شفاعتها لترتجى ويروى : ترتضى . و في رواية : إن شفاعتها لترتجي ، و إنها لمع الغرانيق العلا . و في أخرى : و الغرانقة العلا ، تلك للشفاعة ترتجى . فلما ختم السورة سجد ، و سجد معه المسلمون و الكفار لما سمعوه أثنى على آلهتهم . و ما وقع في بعض الروايات أن الشيطان ألقاها على لسانه ، و أن النبي صلى الله عليهو سلم كان تمنى أن لو نزل عليه شيء يقارب بينه و بين قومه . و في رواية أخرى : ألا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه ، و ذكر هذه القصة ، و أن جبريلعليه السلام جاء فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين قال له : ما جئتك بهاتين . فحزن لذلك النبي صلى الله عليه و سلم ، فأنزل الله تعالى تسلية له : وما أرسلنا منقبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقيالشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم [ سورة الحج / 22 ، الآية : 52 ] . و قوله : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوكخليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17 ،الآية : 73 ، 74 ] . فاعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين : أحدهما : في توهين أصله ، و الثاني على تسليمه . أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، و لا رواه ثقةبسند سليم متصل ، و إنما أولع به و بمثله المفسرون و المؤرخون المولعون بكل غريب ،المتلقفون من الصحف كل صحيح و سقيم . و صدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير ، و تعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته و اضطراب رواياته ، و انقطاع إسناده ،و اختلاف كلماته ، فقائل يقول : إنه في الصلاة ، و آخر يقول : قالها في نادي قومهحين أنزلت عليه السورة ، و آخر يقول : قالها و قد أصابته سنة ، و آخر يقول : بل حدثنفسه فسها ، و آخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه ، و إن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا أقرأتك ، و آخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أنالنبي صلى الله ع ليه و سلم قرأها ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه و سلم ذلك قال : و الله ما هكذا نزلت إلى غير ذلك من اختلاف الرواة . و من حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين و التابعين لم يسندها أحد منهم ، و لا رفعهاإلى صاحب ، و أكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية ، و المرفوع فيه حديث شعبة : عن أبيبشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال فيما أحسب الشك في الحديث أن النبيصلى الله عليه و سلم كان بمكة ... و ذكر القصة . قال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلمبإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ، و لم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، و غيرهيرسله عن سعيد بن جبير ، و إنما يعرف عن الكلبي ، ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس فقدبين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا . و فيه من [ 196 ] الضعف ما نبه عليه مع و قوع الشك فيه ، كما ذكرناه ، الذي لا يوثقبه ، و لا حقيقة معه . و أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الراوية عنه و لا ذكره لقوة ضعفه و كذبه ، كما أشارإليه البراز : رحمه الله . و الذي منه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ : والنجم و هو بمكة ،فسجد معه المسلمون و المشركون و الجن و الإنس . هذا توهينه من طريق النقل فأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة ، و أجمهت الأمة علىعصمته صلى الله عليه و سلم و نزاهته عن مثل هذه الرذيلة ، إما من تمنيه أن ينزلعليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله ، و هو كفر ، أو أن يتسور عليه الشيطان ، ويشبهعليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ، و يعتقد النبي صلى الله عليه و سلم أن منالقرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام ، و ذلك كله ممتنع في حقه صلى اللهعليه و سلم ، أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه و سلم من قيل نفسه عمداً ، و ذلك كفر، أو سهواً ، و هو معصوم من هذا كله . و قد قررنا بالبراهين و الإجماع عصمته صلى الله عليه و سلم من جريان الكفر على قلبهأو لسانه ، لا عمداً و لا سهواً ، أو أن يشبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل ، أو أن يتقول على الله ، لا عمداً و لا سهواً ، ما لمينزل عليه ، و قد قال الله تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منهباليمين * ثم لقطعنا منه الوتين [ سورة الحاقة / 69 ، الآية : [ 44 ، 46 ] . قال تعالى : إذا لأذقنا ك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا [ سورةالإسراء /17 ، الآية 75 ] . و وجه ثان ، و هو استحالة هذه القصة نظراً و عرفاً ، و ذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام ، لكونه متناقص الأقسام ، ممتزج المدح بالذم ، متخاذلالتأليف و النظم . و لما كان النبي صلى الله عليه و سلم و لا من بحضرته من المسلمين، و صناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك ، و هذا لا يخفى على أدنى متأمل ، فكيف بمنرجع حلمه ، و اتسع في باب البيان و معرفة فصيح الكلام علمه . و وجه ثالث أنه علم من عادة المنافقين ، و معاندي المشركين ، و ضعفة القلوب ، والجهلة من المسلمين نفوزهم لأول وهلة ، و تخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة ، و تعييرهم المسلمين ، و الشمات بهم الفينة بعد الفينة ، و ارتدادمن في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة ، و لم يحك أحد في هذه القصة شيئاً سوىهذه الرواية الضعيفة الأصل ، و لو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة ، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة ، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلكلبعض الضعفاء ردة ، و كذلك ما روى في قصة القضية ، و لا فتنة أعظم من هذه البينة لووجدت ، و لا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت ، فما روى عن معاندفيها كلمة ، و لا عن مسلم بسببها بنت شفة ، فدل على بطلها و اجتثاث أصلها . و لا شك في إدخال بعض شياطين الإنس أو [ 197 ] الجن هذا الحديث على بعض مغفليالمحدثين ، ليلبس به على ضعفاء المسلمين . و وجه رابع : ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت : وإن كادوا ليفتنونك عن الذيأوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركنإليهم شيئا قليلا [ سورة الإسراء / 17 ، الآيتان : 73، 74 ] . و هاتان الآيتان يردان الخبر الذي رووه ، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونهحتى يفتري ، و أنه ثبته لكاد يركن إليهم . فمضمون هذا و مفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري ، و ثبته حتى لم يركن إليهمقليلاً ، فكيف كثيراً ! و هم يروون أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون و الإفتراءبمدح آلهتهم و أنه قال صلى الله عليه و سلم : افتريت على الله ، وقلت ما لم يقل ، وهذا ضد مفهوم الآية ، و هي تضعف الحديث لو صح ، فكيف و لا صحة له . و هذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى : ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفةمنهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء [ سورة النساء / 4 ، الآية : 113 ] . و قد روي عن ابن عباس : كل ما في القرآن كاد فهو ما لا يكون ، قال الله تعالى : يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ، و لم يذهب . و أكاد أخفيها ، و لم يفعل . قال القشيري القاضي : و لقد طالبته قريش و ثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليهاو وعدوه الإيمان به إن فعل ، فما فعل ، و لا كان ليفعل . قال ابن الأنباري : ما قارب الرسول و لا ركن . و قد ذكرت في معنى هذه الآية تفاسير أخر ما ذكرناه من نص الله على عصمة رسوله يردسفسافها ، فلم يبق في الآية إلا أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته و تثبيته مماكاده به الكفار ، و راموا من فتنته ، و مرادنا من ذلك تنزيهه و عصمته صلى الله عليهو سلم ، و هو مفهوم الآية . و أما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح ، و قد أعاذنا الله من صحته ،و لكن على كل حال فقد أجاب على ذلك أئمة المسلمين بأجوبة ، منها الغث و السمين ،فمنها ما روى قتادة و مقاتل أن النبي صلى الله عليه و سلم أصابته سنة عند قراءتههذه السورة فج رى هذا الكلام على لسانه بحكم النوم . و هذا لا يصح ، إذ لا يجوز على النبي مثله في حالة من أحواله ، و لا يخلقه الله علىلسانه ، و لا يستولي الشيطان عليه في نوم و لا يقظة لعصمته في هذا الباب من جميعالعمد و السهو . و في قول الكلبي : إن النبي صلى الله عليه و سلم حدث نفسه ، فقال ذلك الشيطان علىلسانه . و في رواية ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، قال : وسها ، فلما أخبر بذلك قال : إنما ذلك من الشيطان . و كل هذا لا يصح أن يقوله النبي صلى الله عليه و سلم لا سهواً و لا قصداً ، و لايتقوله الشيطان على لسانه . و قيل : لعل النبي صلى الله عليه و سلم قال في أثناءتلاوته على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار ، كقول إبراهيم عليه السلام : هذا ربي على أحد التأويلات . و كقوله : بل فعله كبيرهم هذا بعد السكت و بيان الفصل بين الكلامين ، ثم رجع إلىتلاوته . و هذا [ 198 ] ممكن مع بيان الفصل و قرينة تدل على المراد ، و أنه ليس من المتلو ،و هو أحد ما ذكره القاضي أبو بكر . و لا يعترض على هذا بما روي أنه كان في الصلاة ، فقد كان الكلام قبل فيها غير ممنوع . و الذي يظهر و يترجح في تأويله عنده و عند غيره من المحققين على تسليمه أن النبيصلى الله عليه و سلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا ، و يفصل الآي تفصيلافي قراءته ، كما رواه الثقات عنه ، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات و دسه فيها مااختلقه من تلك الكلمات محاكياً نغمة النبي صلى الله عليه و سلم بحيث يسمعه من دناإليه من الكفار ، فظنوها من قول النبي صلى الله عليه و سلم ، و أشاعوها ، و لم يقدحذلك عند المسلمين بحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله و تحققهم من حال النبيصلى الله عليه و سلم في ذم الأوثان و عيبها على ما عرف منه . [ و قد حكى موسى بن عقبة في مغازيه نحو هذا ، و قال : إن المسلمين لم يسمعوها ، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين و قلوبهم ] ، و يكون ما روي من حزن النبيصلى الله عليه و سلم لهذه الإشاعة و الشبهة ، و سبب هذه الفتنة . و قد قال الله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقىالشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم، فمعنى تمنى : تلا ، قال الله تعالى : لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، أي تلاوة . و قوله : ف ينسخ الله ما يلقي الشيطان ، أي يذهبه ، و يزيل اللبس به ، و يحكم آياته . و قيل : معنى الآية هو ما يقع للنبي صلى الله عليه و سلم من السهو إذا قرأ فينتبهلذلك و يرجع عنه . و هذا نحو قول الكلبي في الآية : إنه حدث نفسه ، و قال : إذا تمنى ، أي حدث نفسه . و في رواية أبي بكر بن عبد الرحمن نحوه . و هذا السهو في القراءة إنما يصح فيما ليس طريقه تغيير المعاني ، و تبديل الألفاظ ،و زيادة ما ليس من القرآن ، بل السهو عن إسقاط آية منه أو كلمة ، و لكنه لا يقر علىهذا السهو ، بل ينبه عليه ، و يذكر به للحين على ما سنذكره في حكم ما يجوز عليه منالسهو و ما لا يجوز . و مما يظهر في تأويله أيضاً أن مجاهداً روى هذه القصة : و الغرانقة العلا ، فإنسلمنا القصة قلنا : لا يبعد أن هذا كان قرآناً ، و المراد بالغرانقة العلا ، و أنشفاعتهن لترتجى : الملائكة على هذه الرواية . و بهذا فسر الكلبي الغرانقة أنها الملائكة ، و ذلك أن الكفار كانوا يعتقدون الأوثانو الملائكة بنات الله ، كما حكى عنهم ورد عليهم في هذه السورة بقوله : ألكم الذكروله الأنثى ، فأنكر الله هذا من قولهم ، و رجاء الشفاعة من الملائكة صحيح ، فلماتأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ، و لبس عليهم الشيطان ذلك ، وزينة في قلوبهم و ألقاه ، إليهم نسخ الله ما ألقى الشيطان ، و أحكم آياته ، و رفعتلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للإلباس ، كما نسخ كثير منالقرآن و رفعت تلاوته ، و كان في إنزال الله تعالى لذلك حكمة ، و في نسخه حكمة ،ليضل به من يشاء و يهدي من يشاء ، و ما يضل به إلا الفاسقين ، و ليجعل ما يلقيالشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن اللهلهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم [ سورة الحج / 22 ، الآيتان : 53 ، 54 ] . و قيل : إن النبي صلى الله عليه و سلم لما قرأ هذه السورة ، و بلغ ذكر اللات والعزى و مناة الثالثة الأخرى خاف الكفار أن يأتي بشيء من ذمها فسبقوا إلى مدحهابتلك الكلمتين ليخلطوا في تلاوة النبي صلى الله عليه و سلم ، و يشغبوا عليه علىعادتهم و قولهم : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [ سورة فصلت ،الآية : 26 ] . و نسب هذا الفعل إلى الشيطان لحمله لهم عليه ، و أشاعوا ذلك و أذاعوه ، و أنالنبي صلى الله عليه و سلم قاله ، فحزن لذلك من كذبهم و افترائهم عليه ،فسلاه الله تعالى بقوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ، و بين للناس الحق من ذلك من الباطل ، و حفظ القرآن ، و أحكم آياته ، و دفع ما لبس به العدو ، كما ضمنه تعالى من قوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ سورة الحجر / 15 ، الآية : 9 ] . و من ذلك ما روي من قصة يونس عليه السلام و أنه وعد قومه بالعذاب عن ربه ، فلما تابوا كشف عنهم العذاب ، فقال : لا أرجع كذاباً أبداً ، فذهب مغاضباً . فاعلم أكرمك الله أن ليس في خبر من الأخبار الواردة في هذا الكتاب أن يونس عليه السلام قال لهم : إن الله مهلككم ، و إنما فيه أنه دعا عليهم بالهلاك ، و الدعاء ليس بخبر يطلب صدقة من كذبه ، لكنه قال لهم : إن العذاب مصبحكم وقت كذا ، فكان ذلك ، كما قال ، ثم رفع الله تعالى عنهم العذاب و تداركهم ، قال الله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ سورة يونس / 10 ، الآية : 98 ] . و روي في الأخبار انهم رأوا دلائل العذاب و مخايله ، قاله ابن مسعود . و قال سعيد بن جبير : غشاهم العذاب كما يغشى الثواب القبر . فإن قلت : فما معنى ما روي من أن عبد الله بن أبي سرح كان يكتب لرسول صلى الله عليه و سلم ، ثم ارتد مشركاً ، و صار إلى قريش تعالى فقال لهم : إني كنت أصرف محمداً حيث أريد ، كان يملى على [ عزيزحكيم ] فأقول أو [ عليم حكيم ] ؟ فيقول : نعم ، كل صواب . و في حديث أخر : فيقول له النبي صلى الله عليه و سلم : اكتب كذا فيقول : أكتب كذا ؟ فيقول : اكتب كيف شئت و يقول : اكتب عليماً حكيماً ، فيقول أكتب : سيمعاً بصيراً ، فيقول له : اكتب كيف شئت . و في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن نصرانياً كان يكتب للنبي صلى الله عليه و سلم بعد ما أسلم ثم ارتد ، و كان يقول : ما يدري محمد إلا ما كتبت له . |
|
|
10-18-2012, 11:04 AM | #42 |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
فاعلم ثبتنا الله و إياك على الحق ، و لا جعل للشيطان و تلبيسه الحق بالباطل إلينا سبيلاً أن مثل هذه الحكاية أولاً لا توقع في قلب مؤمن ريناً ، إذ هي حكاية عمن ارتد و كفر بالله ، و نحن لا نقبل خبر المسلم المتهم ، فكيف بكافر اف ترى هو و مثله على الله و رسله ما هو أعظم من هذا ! . |
10-18-2012, 11:05 AM | #43 |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
و أيضاً فقد علم من دين الصحابة قطعاً الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه و سلم كيف توجهت ، و من كل فن كالاقتداء باقواله ، فقد نبذوا خواتيمهم حين نبذ خاتمه ، و خلعوا نعالهم حين خلع ، و احتجاجهم برؤية ابن عمر إياه جالساً لقضاء حاجته مستقبلاً بيت المقدس . |
10-18-2012, 11:05 AM | #44 |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
و قوله فيه : أواب . |
10-18-2012, 11:06 AM | #45 |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
ادعى اليهود عليهما المجيء به ، كما ادعوا على سليمان ، فأكذبهم الله في ذلك . و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت و ماروت قيل : هما رجلان تعلماه . قال الحسن : هاروت و ماروت علجان من أهل بابل ، و قرأ : و ما أنزل على الملكين بكسر اللام ، و تكون [ ما ] ايجاباً على هذا . و كذلك قراءة عبد الرحمن بن أبزى بكسر اللام ، و لكنه قال : الملكان هنا داود و سليمان ، و تكون [ ما ] نفياً على ما تقدم . و قيل : كانا ملكين من بني اسرائيل ، فمسخهما الله ، حكاه السمرقندي . و القراءة بكسر اللام شاذة ، فحمل الآية على تقدير أبي محمد مكي حسن ينزه الملائكة و يذهب الرجس عنهم ، و يطهرهم تطهيراً . و قد وصفهم الله مطهرون ، و كرام بررة ، و لا يعصون الله ما أمرهم . و مما يذكرونه قصة إبليس ، و أنه كان من الملائكة و رئيساً فيهم ، و من خزان الجنة ... إلى آخر ما حكوه ، و أنه استثناه من الملائكة بقوله : فسجدوا إلا إبليس و هذا أيضاً لم يتفق عليه ، بل الأكثر ينفون ذلك ، و أنه أبو الجن ، كما أن آدم أبو الإنس ، و هو قول الحسن ، و قتادة ، و ابن زيد . و قال شهر بن حوشب : كان من الجن الذين طردتهم الملائكة في الأرض حين أفسدوا ، و الاستثناء من غير الجنس شائع في كلام العرب سائغ ، و قد قال الله تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ سورة النساء / 4 ، الآية : 157 ] . و مما رووه من الأخبار أن خلقاً من الملائكة عصوا الله فحرقوا ، و أمروا أن يسجدوا لأدم فأبوا فحرقوا ، ثم آخرون كذلك ، حتى سجدوا له من ذكر الله إلا إبليس ، في أخبار لا أصل لها تردها صحاح الأخبار ، فلا يشتغل بها . و الله أعلم . الباب الثاني : فيما يخصهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم من العوارض البشرية قد قدمنا أنه صلى الله عليه و سلم و سائر الأنبياء و الرسل من البشر ، و أن جسمه ، و ظاهره خالص للبشر ، يجوز عليه من الآفات و التغييرات ، و الآلام و الأسقام ، و تجرع كأس الحمام ما يجوز على البشر ، و هذا كله ليس بنقيصة فيه ، لأن الشيء إنما يسمى ناقصاً بالإضافة إلى ما هو أتم و أكمل من نوعه ، و قد كتب الله تعالى على أهل هذه الدار : فيها تحيون ، و فيها تموتون ، و منها تخرجون ، ، و خلق جميع البشر بمدرجة الغير ، فقد مرض صلى الله عليه و سلم ، و اشتكى ، و أصابه الحر و القر ، و أدركه الجوع و العطش ، و لحقه الغضب و الضجر ، و ناله الإعياء و التعب ، و مسه الضعف و الكبر ، و سقط فجحش شقه ، و شجه الكفار ، و كسروا رباعيته ، و سقي السم ، و سحر ، [ 224 ] و تداوى ، و احتجم ، و تنشر و تعوذ ، ثم قضى نحبه فتوفي صلى الله عليه و سلم ، و لحق بالرفيق الأعلى ، و تخلص من دار الامتحان و البلوى ، و هذه سمات البشر التي لا محيص عنها ، و أصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم منه ، فقتلوا قتلاً . و رموا في النار ، و وشروا بالمياشير . و منهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات . و منهم من عصمه كما عصم بعد نبينا من الناس ، فلئن لم يكف نبينا ربه يد ابن قميئة يوم أحد ، و لا حجبه عن عيون عداه عند دعوته أهل الطائف ، فلقد أخذ على عيون قريش عند خروجه إلى ثور ، و أمسك عنه سيف غورث ، و حجر أبي جهل ، و فرس سراقة ، و لئن لم يقه من سحر ابن الأعصم فلقد وقاه ما هو أعظم ، من سم اليهودية . و هكذا سائر أنبيائه مبتلى و معافى ، و ذلك من تمام حكمته ، ليظهر شرفهم في هذه المقامات ، و يبين أمرهم ، و يتم كلمته فيهم ، و ليحقق بامتحانهم بشريتهم ، و يرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم ضلال النصارى بعيسى ابن مريم ، و ليكون في محنهم تسلية لأممهم ، و وفور لأجورهم عند ربهم تماماً على الذي أحسن إليهم . قال بعض المحققين : و هذه الطوارئ و التغيرات المذكورة إنما تختص بأجسامهم البشرية المقصود بها مقاومة البشر ، و معاناة بني آدم لمشاكلة الجنس . و أما بواطنهم فمنزهة غالباً عن ذلك معصومة منه ، متعلقة بالملأ الأعلى و الملائكة لأخذها عنهم ، و تلقيها الوحي منهم . قال : و قد قال صلى الله عليه و سلم : إن عيني تنامان و لا ينا م قلبي . و قال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت يطعمني ربي و يسقيني . و قال : لست أنسى ، و لكن أنسى ، ليستن بي . فأخبر أن سره و باطنه و روحه بخلاف جسمه و ظاهره ، و أن الآفات التي تحل ظاهره من ضعف و جوع ، و سهر و نوم ، لا يحل منها شيء باطنه ، بخلاف غيره من البشر في حكم الباطن ، لأن غيره إذا نام استغرق النوم جسمه و قلبه ، و هو صلى الله عليه و سلم في نومه حاضر القلب كما هو في يقظته حتى قد جاء في بعض الآثار أنه كان محروساً من الحدث في نومه لكونه قلبه يقظان كما ذكرناه . و كذلك غيره إذا جاع ضعف لذلك جسمه ، و خارت قوته ، فبطلت بالكلية جملته ، و هو صلى الله عليه و سلم قد أخبر أنه لا يعتريه ذلك ، و أنه بخلافهم ، لقوله : لست كهيئتكم : إني أبيت يطعمني ربي و يسقيني . و كذلك أقول : إنه في هذه الأحوال كلها ، من وصب و مرض ، و سحر و غضب ، لم يجز على باطنه ما يحل به ، و لا فاض منه على لسانه و جوارحه ما لا يريق به ، كما يعتري غيره من البشر مما نأخذ بعد في بيانه . فصل الأخبار التي وردت في أنه صلى الله عليه و سلم سحر فإن قلت : فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه و سلم سحر كما حدثنا الشيخ أبو محمد العتابي بقراءتي عليه ، قال : حدثنا حاتم بن محمد ، حدثنا أبو الحسن علي بن خلف ، حدثنا محمد بن أحمد [ 225 ] ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبيد بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هاشم بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء و ما فعله . و في رواية أخرى : حتى كان يخيل إليه أنه كان يأتي النساء و لا يأتيهن .. الحديث . و إذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور فكيف حال النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك ؟ و كيف جاز عليه و هو معصوم ؟ . فاعلم وفقنا الله و إياك أن هذا الحديث صحيح متفق عليه ، و قد طعنت فيه الملحدة ، و تدرعت به لسخف عقولها و تلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع ، و قد نزه الله الشرع و النبي عما يدخل في أمره لبسأً و إنما السحر مرض من الأمراض ، و عارض من العلل ، يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر و لا يقدح في نبوته . و أما ما و رد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء و لا يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخله في شيء من تبلغيه أو شريعته ، أو يقدح في صدقه ، لقيام الدليل و الإجماع على عصمته من هذا ، و إنما هذا ، فيما يجوز طروءة عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها ، و لا فضل من أجلها ، و هو فيها للأفات كسائر البشر ، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلي عنه ، كما كان . و أيضاً فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله : حتى يخيل إليه أنه يأتي أهله و لا يأتيهن . و قد قال سفيان و هذا أشد ما يكون من السحر ، و لم يأت في خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول بخلاف ما كان أخبر أنه فعله و لم يفعله ، و إنما كانت خواطر و تخيلات . و قد قيل : إن المراد بالحديث أنه : كان يتخيل الشيء أنه فعله ، و ما فعله ، لكنه تخييل لا يعتقد صحته ، فتكون اعتقاداته كلها على السداد ، و أقواله على الصحة . هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث مع ما أوضحناه من معنى كلامهم ، و زدناه بياناً من تلويحاتهم . و كل وجه منها مقنع ، لكنه قد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى و أبعد من مطاعن ذوي الأضاليل يستفاد من نفس الحديث ، و هو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيب ، و عروة بن الزبير ، و قال فيه عنهما : سحر يهود بني زريق رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينكر بصره ، ثم دله الله على ما صنعوا فاستخرجه من البئر . [ و روي نحوه عن ، عن الواقدي ، و عن عبد الرحمن بن كعب ، و عمر بن الحكم ] . و ذكر عن عطاء الخرساني ، عن يحيى بن يعمر : حبس رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عائشة سنة ، فبينا هو نائم أتاه ملكان ، فقعد أحدهما عند رأسه و الآخر عند رجليه ... الحديث . قال عبد الرزاق : حبس رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عائشة خاصة سنة حتى أنكر بصره . [ و روى محمد بن سعد ، عن ابن عباس : مرض رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فحبس عن النساء و الطعام و الشراب ، فهبط عليه ماكان ... و ذكر القصة ] . فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره و جوارحه [ 226 ] ، لا على قلبه و اعتقاده و عقله ، و أنه إنما أثر في بصره ، و حبسه عن وطء نسائه [ و طعامه ، و أضعف جسمه و أمرضه ] ، و يكون معنى قوله : يخيل إليه أنه يأتي أهله و لا يأتيهن ، أي يظه ر له من نشاطه و متقدم عادته القدرة على النساء ، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر ، فلم يقدر على إتيانهن ، كما يعتري من أخذ و اعترض . و لعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله : و هذا أشد ما يكون من السحر . و يكون قول عائشة في الرواية الآخرى : إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء و ما فعله ، من باب ما اختل من بصره ، كما ذكر في الحديث ، فيظن أنه رأى شخصاً من بعض أزواجه ، أو شاهد فعلاً من غيره ، و لم يكن على ما يحيل إليه لما أصابه في بصره و ضعف نظره ، لا لشيء طرأ عليه في ميزه . و إذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابته السحر له و تأثيره فيه ما يدخل لبساً و لا يجد به الملحد المعترض أنساً . فصل في أحواله صلى الله عليه و سلم في أمور الدنيا هذه حاله في جسمه ، فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسبرها على أسلوبنا المتقدم بالعقد و القول و الفعل . أما العقد منها فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه و يظهر خلافه ، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع ، كما حدثنا أبو بحر سفيان بن العاصي و غير واحد سماعاً و قراءة ، قالوا : حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر ، ، قال : حدثنا أبو العباس الرازي ، حدثنا أبو أحمد بن عمرويه ، حدثنا ابن سفيان ، حدثنا مسلم ، حدثنا عبد الله بن الرومي ، و عباس العنبري ، و أحمد المعقري ، قالوا : حدثنا النضر بن محمد ، قال : حدثني عكرمة ، حدثنا أبو النجاشي ، قال : حدثنا رافع بن خديج ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و هم يأبرون النخل ، فقال : ما تصنعون ؟ قالوا : كنا نصنعه . قال : لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً ، فتركوه ، فنقصت ، فذكروا ذلك له ، فقال : إنما أنا بشر ، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، و إذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر . و في رواية أنس : أنتم أعلم بأمر دنياكم . و في حديث آخر : إنما ظننت ظناً ، فلا تؤاخذوني بالظن . و في حديث ابن عباس في قصة الخرص ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق ، و ما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطيء و أصيب . و هذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا و ظنه من أحوالها ، لا ما قاله من قبل نفسه و اجتهاده في شرع شرعه ، و سنة سنها . و كما حكى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه و سلم لما نزل بأدنى مياه بدر قال له الحباب بن المنذر : أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، أم هو الرأي و الحرب و المكيدة ؟ قال : [ لا ، بل هو الرأي و الحرب و المكيدة ] . قال : فإنه ليس بمنزل ، انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نعور ما وراءه من القلب ، فنشرب و لا يشربون . فقال : [ أشرت بالرأي ] ، و فعل ما قاله . و قد قال له الله [ 227 ] تعالى : وشاورهم في الأمر [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 159 ] . و أراد مصالحة بعض عدوه على ثلث ثمر المدينة ، فاستشار الأنصار . فلما أخبروه برأيهم رجع عنه . فمثل هذا و أشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة و لا اعتقادها و لا تعليمها ، يجوز عليه في ه ما ذكرناه ، إذ ليس في هذا كله نقيصة و لا محطة ، و إنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها ، و جعلها همة ، و شغل نفسه بها ، و النبي صلى الله عليه و سلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية ملآن الجوانح بعلوم الشريعة ، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية و الدنيوية ، و لكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ، و يجوز في النادر فيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا و استثمارها ، لا في الكثير المؤذن بالبله و الغفلة . و قد تواتر بالنقل عنه صلى الله عليه و سلم من المعرفة بأمور الدنيا و دقائق مصالحها ، و سياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر مما قد نبهها عليه في باب معجزاته من هذا الكتاب . فصل فيما يعتقد من أمور أحكام البشر الجارية على يديه و قضاياهم و أما ما يعتقد في أمور أحكام البشر الجارية على يديه و قضاياهم ، و معرفة المحق من المبطل ، و علم المصلح من المفسد ، فبهذه السبيل ، لقوله صلى الله عليه و سلم : إنما أنا بشر ، و إنكم تختصمون إلي ، و لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً ، فإنما أقطع له قطعة من النار . حدثنا الفقيه أبو الوليد رحمه الله ، حدثنا الحسين بن محمد الحافظ ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا أبو محمد ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ... الحديث . و في رواية الزهري ، عن عروة : فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه صادق فأقضي له . و تجري أحكامه صلى الله عليه و سلم على الظاهر و موجب غلبات الظن بشهادة الشاهد ، و يمين الحالف ، و مراعاة الأشبه ، و معرفة العفاص و الوكاء ، مع مقتضى حكمه الله في ذلك ، فإنه تعالى لو شاء لأطلعه على سرائر عباده و مخبآت ضمائر أمته ، فتولى الحكم بينهم بمجرد يقينه وعلمه دون حاجة إلى اعتراف أو بينة أو يمين أو شبهة ، و لكن لما أمر الله أمته باتباعه و الإقتداء به في أفعاله و أحواله و قضاياه و سيره ، و كان هذا لو كان مما يختص بعلمه و يؤثره الله به ، لم يكن للأمة سبيل إلى الاقتداء به في شيء من ذلك ، و لا قامت حجة بقضية من قضاياه لأحد في شريعته ، لأنا لا نعلم ما أطلع عليه هو في تلك القضية لحكمه هو إذاً في ذلك بالمكنون من إعلام الله له بما أطلعه عليه من سرائرهم ، و هذا ما لا تعلمه الأمة ، فأجرى الله تعالى أحكامه على ظواهرهم التي يستوي في ذلك هو و غيره من البشر ، ليتم اقتداء أمته به في تعيين قضاياه ، و تنزيل أحكامه ، و يأتون ما أتوا من ذلك [ 228 ] على علم و يقين من سنته ، إذ البيان بالفعل أوقع منه بالقول ، و أدفع لاحتمال اللفظ و تأويل المتأول ، و كان حكمه على الظاهر أجلى في البيان ، و أوضح في وجوه الأحكام ، و أكثر فائدة لموجبات التشاجر و الخصام ، و ليقتدي بذلك كله حكام أمته ، و يستوثق بما يؤثر عنه ، و ينضبط قانون شريعته ، و طي ذلك عنه من علم الغيب الذي استأثر به عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى م ن رسول ، فيعلمه منه بما شاء ، و يستأثر بما شاء ، و لا يقدح هذا في نبوته ، و لا يفصم عروة عن عصمته . فصل و أما أقواله الدنيوية و أما أقواله الدنيوية من أخباره عن أحواله و أحوال غيره و ما يفعله أو فعله فقد قدمنا أن الخلف فيها ممتنع عليه في كل حال ، و على أي وجه ، من عمد أو سهو ، أو صحة أو مرض ، أو رضا أو غضب ، و أنه معصوم منه صلى الله عليه و سلم . هذا فيما طريقه الخبر المحض مما يدخله الصدق و الكذب ، فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها فجائز ورودها منه في الأمور الدنيوية لا سيما لقصد المصلحة ، كتوريته عن وجه مغازيه لئلا يأخذ العدو جذره . و كما روي من ممازحته و دعابته لبسط أمته و تطييب قلوب المؤمنين من صحابته ، و تأكيداً في تحببهم و مسرة نفوسهم ، كقوله : لأحملنك على ابن الناقة . و قوله للمرأة التي سألته عن زوجها : أهو الذي بعينه بياض . و هذا كله صدق ، لأن كل جمل ابن ناقة ، و كل إنسان بعينه بياض و قد قال صلى الله عليه و سلم : إني لأمزح و لا أقول إلا حقاً . هذا كله فيما بابه الخبر ، فأما ما بابه غير الخبر مما صورته صورة الأمر و النهي في الأمور الدنيوية فلا يصح منه أيضاً ، ولا يجوز عليه أن يأمر أحداً بشيء أو ينهي أحداً عن شيء وهو يبطن خلافه . وقد قال صلى الله عليه و سلم : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ، فكيف أن تكون له خيانة قلب . فإن قلت : فما معنى إذاً قوله تعالى في قصة زيد : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] . فاعلم أكرمك الله ، و لا تسترب في تنزيه النبي صلى الله عليه و سلم عن هذا الظاهر و أن يأمر زيداً بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها ، كما ذكر عن جماعة من المفسرين . و أصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما شكاها إليه زيد قال له : أمسك عليك زوجك واتق الله . و أخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنه سيتزوجها مما الله مبديه و مظهره بتمام التزويج وتطليق زيد لها . وروى نحوه عمرو بن فائد ، عن الزهري ، قال : نزل جبريل على النبي يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش ، فذلك الذي أخفى في نفسه ويصحح هذا قول المفسرين في قوله تعالى بعد هذا : وكان أمر الله مفعولا ، أي لا بد لك [ 229 ] أن تتزوجها . ويوضح هذا أن الله لم يبد من أمره معها غير زواجه لها ، فدل أنه الذي أخفاه صلى الله عليه و سلم مما كان أعلمه به تعالى . و قوله تعالى في القصة : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] . فدل أنه لم يكن عليه حرج في الأمر . قال الطبري : ما كان الله ليؤثم نبيه فيما أحل مثال فعله لمن قبله من الرسل ، قال الله تعالى : سنة الله في الذين خلوا من قبل ، أي من النبيين فيما أحل لهم ، ولو كان على ما روي في حديث قتادة من وقوعها من قلب النبي صلى الله عليه و سلم عندما أعجبته ، ومحبته طلاق زيد لها لكان فيه أعظم الحرج ، وما لا يليق به من مد عينيه لما نهي عنه من زهرة الحياة الدنيا ، و لكان هذا نفس الحسر المذموم الذي لا يرضاه ولا يتسم به الأتقياء ، فكيف سيد الأنبياء ؟ . قال القشيري : و هذا إقدام عظيم من قائله ، و قلة معرفة بحق النبي صلى الله عليه و سلم و بفضله . و كيف يقال : رآها فأعجبته وهي بنت عمه ، و لم يزل يراها منذ ولدت ، و لا كان النساء يحتجبن منه صلى الله عليه و سلم ، و هو زوجها لزيد ، و إنما جعل الله طلاق زيد لها ، و تزويج النبي صلى الله عليه و سلم إياها ، لإزالة حرمة التبني و إبطال سنته ، كما قال : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم . و قال : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 40 ] . و نحوه لابن فورك . و قال أبو الليث السمرقندي : فإن قيل : فما الفائدة في أمر النبي صلى الله عليه و سلم لزيد بإمساكها ؟ فهو أن الله أعلم نبيه أنها زوجته ، فنهاه النبي صلى الله عليه و سلم عن طلاقها ، إذ لم تكن بينهما ألفة ، و أخفى في نفسه ما أعلمه الله به فلما طلقها زيد خشي قول الناس : يتزوج إمرأة ابنه ، فأمره الله بزواجها ليباح مثل ذلك لأمته ، كما قال تعالى : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] . و قد قيل : كان أمره لزيد بإمساكها قمعاً للشهوة ، و رداً للنفس عن هواها . و هذا إذا جوزنا عليه أنه رآها فجأة و استحسنها . و مثل هذا لا نكرة فيه ، لما طبع عليه ابن آدم من استحسانه للحسن ، و نظرة الفجاءة معفو عنها ، ثم قمع نفسه عنها ، و أمر زيداً بإمساكها ، و إنما تنكر تلك الزيادات في القصة . و التعوي ل و الأولى ما ذكرناه عن علي بن حسين ، و حكاه السمرقندي ، و هو قول ابن عطاء ، و صححه و استحسنه القاضي القشيري ، [ و عليه عول أبو بكر بن فورك ، و قال : إنه معنى ذلك عند المحققين من أهل التفسير ، قال : و النبي صلى الله عليه و سلم منزه عن استعمال النفاق في ذلك ، و إظهار خلاف ما في نفسه ، و قد نزهه الله عن ذلك بقوله تعالى : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ، و من ذلك بالنبي صلى الله عليه و سلم فقد أخطأ . قال : و ليس معنى الخشية هنا الخوف ، و إنما معناه الاستحياء ، أي يستحي منهم أن يقولوا : تزوج زوجة ابنة ] . و أن خشيته صلى الله عليه و سلم من الناس كانت من إرجاف المنافقين و اليهود و تشغيبهم على المسلمين بقولهم : تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء ، كما كان ، فعتبة الله على هذا ، و نزهه عن الالتفاف إليهم فيما أحله له ، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله : لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم . و كذلك قوله له ها هنا : وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 37 ] . و قد روي عن الحسن و عائشة : لو كتم رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً كتم هذه الآية لما في من عتبه [ 230 ] و إبداء ما أخفاه . فصل في معنى الحديث في وصيته صلى الله عليه و سلم فإن قلت : قد قررت عصمته صلى الله عليه و سلم في أقواله في جميع أحواله ، و أنه لا يصح منه فيها خلف و لا اضطراب في عمد و لا سهو ، و لا صحة و لا مرض ، و لا جد و لا هزل ، و لا رضا و لا غضب . و لكن ما معنى الحديث في وصيته صلى الله عليه و سلم الذي حدثنا به القاضي الشهيد أبو علي رحمه الله ، قال : حدثنا القاضي أبو الوليد ، حدثنا أبو ذر ، حدثنا أبو محمد ، و أبو الهيثم ، و أبو إسحاق ، قالوا : حدثنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا عبد الرزاق ابن همام ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : لما حضر رسول الله صلى الله عليه و سلم و في البيت رجال فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هلموا أكتب كتاباً لن تضلوا بعده . فقال بعضهم : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد غلبه الوجع ... الحديث . و في رواية : ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً ، فتنازعوا فقالوا : ماله أهجر ! استفهموه ، فقال دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير . و في بعض طرقه : أن النبي صلى الله عليه و سلم يهجر . و في رواية : هجر . و يروى : أهجر . و يروى : أهجراً . و فيه فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه و سلم قد اشتد به الوجع ، و عندنا كتاب الله حسبنا . و كثر اللغط ، فقال : قوموا عني . و في رواية : و اختلف أهل البيت و اختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاباً . و منهم من يقول ما قال عمر . قال أئمتنا في هذا الحديث : النبي صلى الله عليه و سلم غير معصوم من الأمراض ، و ما يكون من عوارضها من شدة وجع و غشي و نحوه مما يطرأ على جسمه ، معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته ، و يؤدي إلى فساد في شريعته من هذيان و اختلال كلام . و على هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث : هجر إذ معناه هذى يقال : هجر هجراً ، إذا هذى . و أهجر هجراً ، إذا أفحش ، و أهجر تعديه هجر ، و إنما الأصح و الأولى أهجر ، على طريق الإنكار على من قال : لا نكتب . و هكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرواة في حديث الزهري المتقدم ، و في حديث محمد بن سلام ، عن عيينة ، و كذا ضبطه الأصيلي بخطه في كتابه ، و غيره من هذه الطرق ، و كذا رويناه عن مسلم في حديث سفيان ، و عن غيره . و قد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام ، و التقدير : أهجر ، أو أن يحمل قول القائل هجر أو أهجر دهشة من قائل ذلك و حيرة لعظيم ما شاهد من حال الرسول صلى الله عليه و سلم ، و شدة وجعه ، و هو المقام الذي اختلف فيه عليه ، و الأمر الذي هم بالكتاب فيه ، حتى لم يضبط هذا القائل لفظه ، و أجرى الهجر مجرى شدة الوجع ، لا أنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر ، كما حملهم الإشفاق على حراسته ، و الله تعالى يقول : والله يعصمك من الناس ، و نحو هذا . و أما على [ 261 ] رواية : أهجراً و هي رواية أبي إسحاق المستملي في الصحيح في حديث ابن جبير ، عن ابن عباس ، من رواية قتيبة فقد يكون هذا راجعاً إلى المختلفين عنده صلى الله عليه و سلم ، و مخاطبة لهم من بعضهم ، أي جئتم باختلافكم على رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين يديه هجراً و منكراً من القول . و الهجر بضم الهاء : الفحش في المنطق . |
10-18-2012, 11:06 AM | #46 |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
و قد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث ، و كيف اختلفوا بعد أمره لهم عليه السلام أن يأتوه بالكتاب ، فقال بعضهم ، أوامر النبي صلى الله علي ه و سلم يفهم إجابها من ندبها من إباحتها بقرائن ، فلعله قد ظهر من قرائن قوله صلى الله عليه و سلم لبعضهم ما فهموا أنه لم تكن منه عزمة ، بل أمر رده إلى اختيارهم ، و بعضهم لم يفهم ذلك ، فقال : استفهموه ، فلما اختلفوا كف عنه ، إذا لم يكن عزمة ، و لما رأوه من صواب رأي عمر ، ثم هؤلاء قالوا و يكون امتناع عمر إما إشفاقاً على النبي صلى الله عليه و سلم من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب ، أو تدخل عليه مشقة من ذلك ، كما قال : أن النبي صلى الله عليه و سلم اشتد به الوجع . و قيل : خشي عمر أن يكتب أموراً يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ، و رأى أن الأفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد ، و حكم النظر ، و طلب الصواب ، فيكون المصيب و المخطيء مأجوراً . و قد علم عمر تقرر الشرع ، و تأسيس الملة ، و أن الله تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم . و قوله صلى الله عليه و سلم أوصيكم بكتاب الله و عترتي . و قول عمر : حسبنا كتاب الله رد على من نازعه ، لا على أمر النبي صلى الله عليه و سلم . و قد قيل : إن عمر تطرق المنافقين و من في قلبه مرض لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة ، و أن يتقولوا في ذل ك الأقاويل ، كادعاء الرافضة الوصية و غير ذلك . [ و قيل : إنه كان من النبي صلى الله عليه و سلم لهم على طريق المشورة و الاختيار . هل يتفقون على ذلك أم يختلفون ؟ فلما اختلفوا تركه ] . و قالت طائفة أخرى : إن معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم كان مجيباً في هذا الكتاب لما طلب منه ، لا أنه ابتدأ بالأمر به ، بل اقتضاه منه بعض أصحابه ، فأجاب رغبتهم ، و كره ذلك غيرهم للعلل التي ذكرناها . و استدل في مثل هذه القصة بقول العباس لعلي : انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإن كان الأمر فينا علمناه ، و كراهة علي هذا ، و قوله : و الله لا أفعل ... الحديث . و استدل بقوله : دعوني ، فإن الذي أنا فيه خير ، أي الذي أنا فيه خير من إرسال الأمر و ترككم و كتاب الله . و أن تدعوني مما طلبتم . و ذكر أن الذي طلب كتابه أمر الخلافة بعده ، و تعيين ذلك . فصل في وجه حديث .... إنما محمد بشر ... فإن قيل : فما وجه حديثه أيضاً الذي حدثناه الفقيه أبو محمد الخشني بقراءتي عليه ، حدثنا أبو علي الطبري ، حدثنا عبد الغافر الفارسي ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ، قال : حدثنا إبراهيم بن سفيان ، حدثنا مسلم بن حجاج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا ليت ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن سالم مولى النصريين ، قال :سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول اللهم إنما محمد بشر [ 232 ] ، يغضب كما يغضب البشر ، و إني قداتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه ، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها كفارة له ، و قربه تقربه بها إليك يوم القيامة . و في رواية : فأيم أحد دعوت عليه دعوة . و في رواية : ليس لها بأهل . و في رواية : فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فاجعلها له زكاة و صلاة و رحمة . و كيف يصح أن يلعن النبي صلى الله عليه و سلم من لا يستحق اللعن ، و يسب من لا يستحق السب ، و يجلد من لا يستحق الجلد ، أو يفعل مثل ذلك عند الغضب ، و هو معصوم عن هذا كله ؟ . فاعلم شرح الله صدرك أن قوله صلى الله عليه و سلم أولاً : ليس لها بأهل ، أي عندك يا ر ب ، في باطن أمره ، فإن حكمه صلى الله عليه و سلم على الظاهر ، كما قال : و للحكمة التي ذكرناها ، فحكم صلى الله عليه و سلم بجلده ، أو أدبه بسبه أو لعنه بما افتضاه عنده حال ظاهره ، ثم دعا صلى الله عليه و سلم لشفقته على أمته ، و رأفته و رحمته له مؤمنين ، التي و صفه الله بها ، و حذره أن يتقبل الله فيمن دعا عليه دعوة أن يجعل دعاءه و لعنه له رحمة ، فهو معنى قوله : ليس لها بأهل ، لا أنه صلى الله عليه و سلم يحمله الغضب و يستفزه الضجر لأن يفعل مثل هذا بمن لا يستحقه من مسلم . و هذا معنى صحيح ، و لا يفهم من قوله : أغضب كما يغضب البشر أن الغضب حمله على ما لا يجب فعله ، بل يجوز أن يكون المراد بهذا أن الغضب لله حمله على معاقبته بلعنه أو سبه ، و أنه مما كان يحتمل و يجوز عفوه عنه ، أو كان مما خير بين المعاقبة فيه و العفو عنه . و قد يحمل على أنه خرج مخرج الإشفاق و تعليم أمته الخوف و الحذر من تعدي حدود الله تعالى . و قد يحمل ما ورد من دعائه هنا ، و من دعواته على غير واحد في غير موطن ، على غير العقد و القصد ، بل بما جرت به عادة العرب ، و ليس المراد بها الإجابة ، كقوله : تربت يمينك . و لا أشبع ا لله بطنك . و وعقري حلقي . و غيها من دعواته . و قد ورد في صفته في غير حديث أنه صلى الله عليه و سلم لم يكن فحاشاً و قال أنس لم يكن سباباً ، و لا فاحشاً ، و لا لعاناً ، و كان يقول لأحدنا عند المعتبة ، ماله ! ترب جبينه ! . فيكون حمل الحديث على هذا المعنى ، ثم أشفق صلى الله عليه و سلم من موافقة أمثالها إجابة ، فعاهد ربه ، كما قال في الحديث ، أن يجعل ذلك للمقول زكاة و رحمة و قربة . و قد يكون ذلك إشفاقاً على المدعو عليه ، و تأنيساً له ، لئلا يلحقه من استشعار الخوف و الحذر من لعن النبي صلى الله عليه و سلم ، و تقبل دعائه ، ما يحمله على اليأس و القنوط . و قد يكون ذلك سؤالاً منه لربه لمن جلده ، أو سبه على حق و بوجه صحيح أن يجعل ذلك له كفارة لما أصابه ، و تمحيه لما اجترم ، و أن تكون عقوبته له في الدنيا سبب العفو و الغفران ، كما جاء في الحديث الآخر : و من أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة . فإن قلت : فما معنى حديث الزبير و قول النبي صلى الله عليه و سلم [ 233 ] حين تخاصمه مع الأنصاري في شراج الحرة : اسق يا زبير حتى يبلغ الكعبين . فقال له الأنصاري : إن كان ابن عمتك يا رسول الله ! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ثم قال : اسق يازبير ثم احبس حتى يبلغ الجدر . . الحديث . فالجواب أن النبي صلى الله عليه و سلم منزه أن يقع بنفس مسلم منه في هذه القصة أمر يريب ، و لكنه صلى الله عليه و سلم ندب الزبير أولاً إلى الاقتصار على بعض حقه على طريق التوسط و الصلح ، فلما لم يرض بذلك الآخر ، ولج و قال ما لا يجب استوفى النبي صلى الله عليه و سلم للزبير حقه . و لهذا ترجم البخاري على هذا الحديث : باب . إذا أشار الإمام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم . و ذكر في آخر الحديث : فاستوعى رسول الله حينئذ للزبير حقه . و قدجعل المسلمون هذا الحديث أصلاً في قضيته . و فيه الاقتداء به صلى الله عليه و سلم في كل ما فعله في حال غضبه و رضاه ، و أنه و إن نهى أن يقضي القاضي و هو غضبان ، فإنه في حكمه في حال الغضب و الرضا سواء لكونه فيهما معصوماً . و غضب النبي صلى الله عليه و سلم في هذا إنما كان الله تعالى لا لنفسه، كما جاء في الحديث . و كذلك الحديث في إقادته عكاشة من نفسه لم يكن لتعد حمله الغضب عليه ، بل و قع في الحديث نفسه أن عكاشة قال له : و ضربتني بالقضيب ، فلا أدري أعمد اً ، أم أردت ضرب الناقة ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أعيذك با الله يا عكاشة أن يتعمدك رسول الله . و كذلك في حديثه الآخر مع الأعرابي حين طلب عليه السلام الاقتصاص منه ، فقال الأعرابي قد عفوت عنك . و كان النبي صلى الله عليه و سلم قد ضربه بالسوط لتعلقه بزمام ناقته مرة بعد أخرى ، و النبي صلى الله عليه و سلم ينهاه و يقول له : تدرك حاجتك ، و هو يأبى ، فضربه بعد ثلاث مرات . و هذا منه صلى الله عليه و سلم لمن لم يقف عند نهيه صواب و موضع أدب ، لكنه عليه الصلاة السلام :أشفق إذ كان حق نفسه من الأمر حتى عفا عنه . و أما حديث سواد بن عمرو : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم و أنا متخلق ، فقال عليه الصلاة السلام : و رس ! و رس ! حط ، حط ! و غشيني بقضيب في يده في بطني فاوجعني . قلت : القصاص يا رسول الله . فكشف لي عن بطنه. و إنما ضربه صلى الله عليه و سلم لمنكر رآه به ، و لعله لم يرد بضربه بالقضيب إلا تنبيهه ، فلما كان منه إيجاع لم يقصده طلب التحلل منه على ما قدمنا . فصل في أفعاله . صلى الله عليه و سلم الدنيوية و أما أفعاله صلى الله عليه و سلم الدنيوية فحكمه فيها من توفى المعاصي و المكروهات ما قد قدمناه ، و من جواز السهو الغلط في بعضها ما ذكرناه . و كله غير قادح في النبوة ، بلى ، إن هذا فيها على الندور ، إذ عامة أفعاله على السداد و الصواب ، بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات و القرب على ما بينا إذ كان صلى الله عليه و سلم لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورتة ، و ما يقيم رمق جسمه ، و فيه مصلحة ذاته التي بها يعبد ربه ، و يقيم شريعته ، و يسوس أمته ، و ما كان فيما بينه و بين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه ، أو بر [ 234 ] يوسعه ، أو كلام حسن يقوله أو يسمعه ، أو تألف شارد ،أو قهر معاند ، أو مداراة حاسد ، و كل هذا لاحق بصالح أعماله ، متتظم في زاكي وظائف عباداته ، و قدكان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الحوال ، و يعد للأمور أشباهها ، فيركب في تصرفه لما قرب الحمار ، و في أسفاره الراحلة ، و يركب البغلة في معارك الحرب دليلاً على الثبات ، و يركب الخيل و يعدها ليوم الفزع و إجابه الصارخ . و كذلك في لباسه و سائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه و مصالح أمته . و كذلك يفعل الفعل في أمور الدنيا مساعدة لأمته و سياسة و كراهية لخلافها و إن كان قد يرى غيره خيراً منه ، كما يترك الفعل لهذا ، و قد يرى فعله خيراً منه و قديفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد و جهيه ، كخروجه من المدينة لاحد ، و كان مذهبه التحصن بها ، و تركه قتل المنافقين ، و هو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ، و رعاية للمؤمنين من قرابتهم ، و كراهة لأن يقول الناس : إن محمداً يقتل أصحابه ، كما جاء في الحديث ، و تركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب قريش و تعظيمهم لتغييرها ، و حذراً من نفار قلوبهم لذلك ، و تحريك متقدم عداوتهم للدين و أهله ، فقال لعائشة في الحديث الصحيح : لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم . و يفعل الفعل ثم يتركه ، لكون غيره خيراً منه ، كانتقاله من أدنى مياه بدر إلى أقربها للعدو من قريش ، و قوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي . و بسط وجهه للكافر و العدو رجاء استئلافه . و يصبر للجاهل ، رواية يقول كان إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره . و يبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته و دين ربه . و يتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته ، و يتسمت في ملئه ، حتى لا يبدو شيء من أطرافه ، و حتى كأن على رؤوس جلسائه الطير ، و يتحدث مع جلسائه بحديث أولهم ، و يتعجب مما يتعجبون منه ، و يضحك مما يضحكون منه ، قد وسع الناس بشره و عدله ، لا يستفزه الغضب ، و لا يقصر عن الحق و لا يبطن على جلسائه ، يقول ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين . فإن قلت : فما معنى قوله لعائشة رضي الله عنها في داخل عليه : بئس ابن العشيرة . فلما دخل ألان له القول و ضحك معه ، فلما سأله عن ذلك قال كان إن من شرالناس من اتقاه الناس لشره . و كيف جاز أن يظهر لهما خلاف ما يبطن ، و يقول في ظهره ما قال ؟ فالجواب أن فعله صلى الله عليه و سلم كان استئلافاً لمثله ، و تطييباً لنفسه ، ليتمكن إيمانه ، و يدخل في الإسلام بسبب أتباعه ، و يراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام . و مثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حد مداراة الدنيا إلى السياسة الدينية . و قد كان النبي يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللينة ؟ . قال صفوان : لقد أعطاني [ 235 ] و هو أبغض الخلق إيلي ، فما زال يعطيني حتى صار أحب الخلق إلي . و قوله فيه : بئس ابن العشيرة هو غير غيبة ، بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم ليحذر حاله ، و يحترز منه ، و لا يوثق بجانبه كل الثقة و لا سيما و كان مطاعاً متبوعاً . و مثل هذا إذا كان لضرورة و دفع مضرة لم يكن بغيبة ، بل كان جائزاً ، بل واجباً في بعض الأحيان كعادة المحدثين في تجريح الرواة و المزكين في الشهود . فإن قيل : فما معنى المفضل الوارد في حديث بريرة من قوله صلى الله عليه و سلم لعائشة ، و قد أخبرته أن موالي بريرة أبو بيعها إلا أن يكون لهم الولاء ، فقال صلى الله عليه و سلم : اشتريها و اشترطي لهم الولاء . ففعلت ، ثم قام خطيباً ،فقال : ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل و النبي صلى الله عليه و سلم قد أمرها بالشرط لهم ، و عليه باعوها ، و لولاه و الله أعلم لما باعوها من عائشة ، كما لم يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها ، ثم أبطله صلى الله عليه و سلم ، و هو قد حرم الغش و الخديعة . فاعلم أكرمك الله أن النبي صلى الله عليه و سلم منزه عما يقع في بال الجاهل من هذا ، و لتنزيه النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك ما قد أنكر قوم هذه الزيادة : قوله : اشتر لهم الولاء ، إذ ليست في أكثر طرق ا لحديث ، و مع ثباتها فلا اعتراض بها ، إذ يقع لهم بمعنى عليهم ، قال الله تعالى : أولئك لهم اللعنة . و قال : وإن أسأتم فلها [ سورة الإسراء /17، الآية : 7 ] . فعلى هذا اشترطي عليهم الولاء لك ، و يكون قيام النبي صلى الله عليه و سلم و وعظه لما سلف من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك . و وجه ثاني : أن قوله صلى الله عليه و سلم : اشترطي لهم الولاء ،ليس على معنى الأمر ، لكن على معنى التسوية و الإعلام بأن شرطه لهم لا ينفعم بعد بيان النبي صلى الله عليه و سلم لهم قبل أن الولاء لمن أعتق ، فكأنه قال : اشترطي أو لا تشترطي ، فإنه شرط غير نافع . و إلى هذا ذهب الداودي و غيره ، و توبيخ النبي صلى الله عليه و سلم لهم ، و تقريعهم على ذلك يدل على علمهم به قبل هذا . الوجه الثالث : أن معنى قوله : اشترطي لهم الولاء ، أي أظهري لهم حكمه ، و بيني سنتة بأن الولاء إنما هو لمن أعتق . ثم بعد هذا قام هو صلى الله عليه و سلم مبيناً ذلك و موبخاً على مخالفة ما تقدم منه فيه . فإن قيل : فما معنى فعل يوسف عليه السلام بأخيه ، إذ جعل السقاية في رحله و أخذه باسم سرقتها ، و ما جرى علىإخوته في ذلك و قوله تعالى : إنكم لسارقون ، و لم يسرقوا . فاعلم أكرمك الله أن الآية تدل على أن فعل يوسف كان عن أمر الله ، لقوله تعالى : كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم [ سورة يوسف /12، الآية : 76 ] . فإذا كان كذلك فلا اعتراض به ، كان فيه ما فيه . و أيضاً فإن يوسف كان أعلم أخاه بأني أنا أخوك فلا تبتئس ، فكان ما جرى عليه بعد هذا من و فقه و رغبته ، و على يقين من عقبى الخير له به ، و إزاحة السوء و المضرة [ 236] عنه بذلك .و أما قوله : أيتها العير إنكم لسارقون ، فليس من قول يوسف . فيلزم عليه جواب لحل شبهه . و لعل قائله إن حسن له التأويل كائناً من كان ظن على صورة الحال ذلك و قد قيل قال ذلك لفعلهم قبل بيوسف و بيعهم له و قيل غير هذا : و لا يلزم أن نقول الأنبياء ما لم تأت انهم قالوه ، حتى يطلب الخلاص منه ، و لا يلزم الا عتزار عن زلات غيرهم . فصل بيان الحكمة في إجراء الأمراض و شدتها عليه و على غيره من الأنبياء فإن قيل : فما الحكمة في إجراء الأمراض و شدتها عليه و على غيره من الأنبياء على جميعهم السلام ؟ و ما الوجه فيما ابتلاهم الله به من البلاء ، وامتحانهم بما امتحنوا به كأيوب ، و يعقوب و دانيال ، و يحيى ، و زكريا ، و عيسى ، و إبراهيم ، و يوسف ، و غيرهم ، صلوات الله عليهم ، و هم خيرته من خلقه و احباؤه و أصفياؤه . فاعلم وفقنا الله و إياك أن أفعال الله تعالى كلها عدل ، و كلماته جميعها صدق لا مبدل لكلماته ، يبتلي عباده كما قال تعالى لهم : لننظر كيف تعملون [ سورة يونس /10 ، الآية : 14] . و ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ سورة هود / 49 ، الآية : 7 ] . وليعلم الله الذين آمنوا [ سورة آل عمران / 3 ، الآية : 140] . ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ سورة آل عمران /3، الآية : 142 ] . ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ سورة محمد /47، الآية : 31 ] . فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة في مكانتهم ، و رفعه في درجاتهم ، و أسباب لاستخراج حالات الصبر و الرضا ، و الشكر و التسليم ، و التوكل ، و التفويض ، و الدعاء ، و التضرع منهم ، و تأكيد لبصائرهم في رحمة الممتحنين ، و الشفقة على المبتلين ، و تذكرة لغيرهم ، و موعظة لسواهم ليتأسوا في البلاء بهم ، فيتسلوا في المحن بما جرى عليهم ، و يقتدوا بهم في الصبر ، و محو لهنات فرطت منهم ، أو غفلات سلفت لهم ، ليلقوا الله طيبين مهذبين ، و ليكون أجرهم أكمل ، و ثوابهم أوفر و أجزل . حدثنا القاضي أبو علي الحافظ ، حدثنا أبو الحسين الصيرفي و أبو الفضل ابن خيرون ، قالا : حدثنا أبو يعلى البغدادي ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا محمد ابن محبوب ، حدثنا أبو عيسى الترمزي ، حدثنا قتيبة ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه حدثنا قال : قلت يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ؟ قال الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض و ما عليه خطيئة . و كما قال تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين [ سورة آل عمران /3، الآيات : 146 ، 148] . و عن أبي هريرة : ما يزال البلاء بالمؤمن و المؤمنة في نفسه و ولده و ماله حتى يلقى الله و ما عليه خطيئة . و عن أنس ، عنه صلى الله عليه و سلم : إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، و إذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة . و في حديث آخر إذا أحب الله عبداً ابتلاه ليسمع تضرعه . و حكى السمرقندي أن كل من كان أكرم على الله تعالى كان بلاؤه أشد كي يتبين فضله ، و يتسوجب الثواب ، كما روي عن لقمان أنه قال : يابني ، الذهب و الفضة يختبران بالنار ، و المؤمن يختبر بالبلاء . و قد حكي أن ابتلاء يعقوب بيوسف كان سببه التفاته في صلواته إليه ، و يوسف نائم محبة [ 237 ] له . و قيل : بل اجتمع يوماً هو و ابنه يوسف على أكل حمل مشوي ، و هما يضحكان ، وكان لهم جار يتيم ، فشم ريحه و اشتهاه و بكى ، و بكت له جدة له عجوز لبكائه ، و بينهما جدار ، و لا علم عند يعقوب و ابنه ، فعوقب يعقوب بالبكاء أسفاً على يوسف إلى أن سالت حدقتاه ، و ابيضت عيناه من الحزن . فلما علم بذلك كان بقية حياته يأمر منادياً ينادي على سطحه : ألا من كان مفطراً فليتغذ عن آل يعقوب . و عوقب يوسف بالمحنة التي نص الله عليها . و روى عن الليث أن سبب بلاء أيوب أنه دخل مع أهل قريته على ملكهم فكلموه في ظلمه ، و أغلظوا له إلا أيوب ، فإنه رفق به مخافة على زرعه ، فعاقبه الله ببلائه . و منحه سليمان لما ذكرناه من نيته في كون الحق في جنبه أصهاره ، أو للعمل بالمعصية في داره ، و لا علم عنده . و هذه فائدة شدة المرض و الوجع بالنبي صلى الله عليه و سلم ، قالت عائشة : ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه و سلم . و عن عبد الله : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في مرضه ، يوعك و عكاً شديداً ، قال : أجل ، إن أوعك كما يوعك رجلان منكم . قلت : ذلك أن الأجر مرتين ، قال : أجل ، ذلك كذلك . و ف ي حديث أبي سعيد أن رجلاً وضع يده على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : و الله ما أطيق أضع يدي عليك من شدة حماك . فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء ، إن كان النبي ليبتلى بالقمل حتى يقتله ، و إن كان النبي ليبتل ى بالفقر ، و إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء . و عن أنس ، عنه صلى الله عليه و سلم أن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، و إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، و من سخط فله السخط . و قد قال المفسرون في قوله تعالى : من يعمل سوءا يجز به ، إن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفارة . و روى هذا عن عائشة و أبي ، و مجاهد . و قال أبو هريرة ، عنه صلى الله عليه و سلم : من يرد الله به خيراً يصب منه . و قال في رواية عائشة :ما من مصيبة تصيب المسلم إلا يكفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاركها . و قال في رواية أبي سعيد : ما يصيب المؤمن من نصب و لا وصب ، و قيل و لا هم و لا حزن ، و لا أذى و لا غم ، حتى الشوكة يشاكلها إلا كفر الله بها من خطاياه . و في حديث ابن مسعود : ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر . و حكمة أخرى أودعها الله في الأمراض لأجسامهم ، و تعاقب الأوجاع عليها و شدتها عند مماتهم ، لتضعف قوى نفوسهم ، فيسهل خروجها عند قبضهم ، و تخف عليهم مؤنة النزع ، و شدة السكرات بتقدم المرض ، و ضعف الجسم و النفس لذلك . و هذا خلاف موت الفجاء ة و أخذه ، كما يشاهد من اختلاف أحوال الموتى في الشدة و اللين ، و الصعوبة و السهولة . و قد قال صلى الله عليه و سلم : مثل المؤمن مثل خامة [ 238 ] الزرع تفيئها الريح هكذا و هكذا . و في رواية أبي هريرة عنه : من حيث أتتها الريح تكفؤها ، فإذا سكنت اعتدلت ، و كذلك المؤمن يكفأ بالبلاء . و مثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمه الله . معناه أن المؤمن مرزاً ، مصاب بالبلاء و الأمراض ، راض بتصريفه بين أقدار الله تعالى ، منطاع لذلك ، لين الجانب برضاه و قلة سخطه ، كطاعة خامة الزرع و انقيادها للرياح ، و تمايلها لهبوبها و ترتحها من حيث ما أتتها ، فإذا أزاح الله عن المؤمن رياح البلايا ، و اعتدل صحيحاً كما اعتدلت خامة الزرع عند سكون رياح الجو رجع إلى شكر ربه معرفة نعمته عليه بلائه ، منتظراً رحمته و ثوابه عليه . فإذا كان بهذه السبيل لم يصعب عليه مرض الموت ، و لا نزوله ، و لا اشتدت عليه سكراته و نزعه ، لعادته بما تقدم من الآلام و معرفة ما له فيها من الأجر و توطينه نفسه على المصائب و رقتها و ضعفها بتوالي المرض أو شدته ، و الكافر بخلاف هذا ، معافى في غالب حاله ، ممتع بصحة جسمه ، كالأرز ة الصماء ، حتى إذا أراد الله هلاكه قصمه لحينه على غرة ، و أخذه بغتة من غير لطف و لا رفق ، فكان موته أشد عليه حسرة ، و مقاساة نزعه مع قوة نفسه و صحة جسمه أشد ألماً و عذاباً ، و لعذاب الآخرة أشد ، كانجعاف الأرزة . و كما قال تعالى : فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ سورة الأعراف / 7 ، الآية : 95 ] . و كذلك عادة الله تعالى في أعدائه ، كما قال تعالى : فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا ، ففجأ جميعهم بالموت على حال عتو و غفلة و صبحهم به على غير استعداد بغتة ، و لهذا ما كره السلف موت الفجاءة . و منه في حديث إبراهيم : كانوا يكرهون أخذة كأخذة الأسف : أي الغضب ، يريد موت الفجاءة . و حكمه ثالثة أن الأمراض نذير الممات ، و بقدر شدة الخوف من نزول الموت ، فيستعد من أصابته ، و علم تعاهدها له ، للقاء ربه ، و يعرض عن دار الدنيا الكثيرة الأنكاد ، و يكون قلبه معلقاً بالمعاد ، فيتنصل من كل ما يخشى تباعته من قبل الله ، و قبل العباد ، و يؤدي الحقوق إلى أهلها ، و ينظر فيما يحتاج إليه من وصية فيمن يخلفه أو أمر يعهده . و هذا نبين ا صلى الله عليه و سلم المغفور له ما تقدم و ما تأخر ، قد طلب التنصل في مرضه ممن كان له عليه مال أو حق في بدن ، و أقاد من نفسه و ماله ، و أمكن من القصاص منه ، على ما ورد حديث في الفضل ، و حديث الوفاة ، و أوصى بالثقلين بعده : كتاب الله ، و عترته و بالأنصار عيبته ، و دعى إلى كتب كتاب لئلا تضل أمته بعده ، إما في النص على الخلافة ، أو الله أعلم بمراده . ثم رأى الإمساك عنه أفضل و خيراً . و هكذا سيرة عباد الله المؤمنين و أوليائه المتقين . و هذا كله يحرمه غالباً الكفار ، لإملاء الله لهم ، ليزدادوا إثماً ، و ليستدرجهم من حيث لا يعلمون ، قال الله تعالى : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون * فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون [ سورة يس / 36 ، الأيتان : 49 ، 50 ] . و لذلك قال صلى الله عليه و سلم في رجل مات فجأة : سبحان الله ! كأنه على غضب ، المحروم من حرم وصيته . و قال : موت الفجأة راحة للمؤمن ، و أخذه أسف للكافر و الفاجر ، و ذلك لأن الموت يأتي المؤمن ، و هو غالباً مستعد له منتظر لحلوله ، فهان أمر عليه كيفما جاء ، و أقضى إلى راحته من نصب الدنيا و أذاها ، كما قال صل ى الله عليه و سلم : مستريح و مستراح منه . و تأتي الكافر و الفاجر منيته على غير استعداد و لا أهبة و لا مقدمات منذرة مزعجة ، بل تأتيهم بغتة فتبهتهم ، فلا يستطيعون ردها و لا هم ينظرون ، فكان الموت أشد شيء عليه . و فراق الدنيا أفظع أمر صدمه ، و أكره شيء له ، و إلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه و سلم بقوله : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، و من كره لقاء الله كره الله لقاءه . |
10-18-2012, 11:07 AM | #47 |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
القسم الرابع في تصرف وجوه الأحكام فيمن تنقصه أو سبه صلى الله عليه و سلم قال القاضي أبو الفضل رضي الله عنه : قد تقدم من الكتاب و السنة و إجماع الأمة ما يجب من الحقوق للنبي صلى الله عليه و سلم ، و ما يتعين له من بر و توقير ، و تعظيم و إكرام ، و بحسب هذا حرم الله تعالى أذاه في كتابه ، و أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين و سابه ، قال الله تعالى : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 57 ] . و قال تعالى : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 61 ] . و قال الله تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 53 ] . و قال تعالى : في تحريم التعريض به : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 104 ] . و ذلك أن اليهود كانوا يقولون : راعنا يا محمد ، أي أرعنا سمعك ، و اسمع منا ، و يعرضون بالكلمة ، يريدون الرعونة ، فنهى الله المؤمنين عن التشبه بهم ، و قطع الذريعة بنهي المؤمنين عنها ، لئلا يتوصل بها الكافر و المنافق إلى سبه و الاستهزاء به . و قيل : بل لما من مشاركة اللفظ ، لأنها عند اليهود بمعنى اسمع لا سمعت . و قيل : بل لما فيها من قله الأدب ، و عدم توقير النبي صلى الله عليه و سلم و تعظيمه ، لأنها في لغة الأنصار بمعنى ارعنا نرعك ، فنهوا عن ذلك ، إذ مضمنه أنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم ، و هو صلى الله عليه و سلم واجب الرعاية بكل حال ، و هذا هو صلى الله عليه و سلم قد نهى عن التكني بكنيته ، فقال : تسموا باسمي ، و لا تكنوا بكنيتي ، صيانة لنفسه ، و حماية عن أذاه ، إذ كان صلى الله عليه و سلم استجاب لرجل نادى : يا أبا القاسم ، فقال : لم أعنك ، إنما دعوت هذا ، فنهى حينئذ عن التكني بكنيته لئلا يتأذى بإجابة دعوة غيره لمن لم يدعه ، و يجد بذلك المنافقون و المستهزئون ذريعة إلى أذاه دعوة غيره فينادونه ، فإذا التفت قالوا : إنما أردنا هذا لسواه تعنيتاً له ، و استخفافاً بحقه على عادة المجان و المستهزئين ، فحمى صلى الله عليه و سلم حمى أذاه [ 240 ] بكل وجه ، فحمل محققوا العلماء نهيه عن هذا على مدة حياته ، و أجازوه بعد وفاته لارتفاع العلة . و للناس في هذا الحديث مذاهب ليس هذا موضعها ، و ما ذكرناه هو مذهب الجمهور ، و الصواب إن شاء الله . و إن ذلك على طريق تعظيمه و توقيره ، و على سبيل الندب و الاستحباب ، لا على التحريم ، و لذلك لم ينه عن اسمه ، لأنه قد كان الله منع من ندائه به بقوله : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ، و إنما كان المسلمون يدعونه برسول الله ، و بنبي الله ، و قد يدعوه بكنيته أبا القاسم بعضهم في بعض الأحوال . و قد روى أنس رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه و سلم ، ما يدل على كراهة التسمي باسمه ، و تنزيهه عن ذلك ، إذا لم يوقر ، فقال : تسمون أولادكم محمداً ثم تلعنوهم . و روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل الكوفة : لايسمى أحد باسم النبي صلى الله عليه و سلم ، حكاه أبو جعفر الطبري . [ و حكى محمد بن سعد أنه نظر إلى رجل اسمه محمد ، و رجل يسبه و يقول له : فعل الله بك يا محمد و صنع . فقال عمر لابن أخيه محمد بن زيد بن الخطاب : لا أرى محمداً صلى الله عليه و سلم يسب بك ، و الله لا تدعى محمداً ما دمت حياً ، و سماه عبد الرحمن ، و أراد أن يمنع أن يسم ى أحد بأسماء الأنبياء إكراماً لهم بذلك ، و غير أسماء جماعة تسموا بأسماء الأنبياء ، ثم أمسك ] . و الصواب جواز هذا كله بعده صلى الله عليه و سلم ، بدليل إطباق الصحابة على ذلك . و قد سمى جماعة منهم ابنه محمداً ، و كناه بأبي القاسم . و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن في ذلك لعلي رضي الله عنه . و قد أخبر صلى الله عليه و سلم أن ذلك اسم الهدي و كنيته . [ و قد سمي به النبي صلى الله عليه و سلم محمد بن طلحة ، و محمد بن عمرو بن حزم ، و محمد بن ثابت بن قيس ، و غير واحد ، و قال : ما ضر أحدكم أن يكون في بيته محمد و محمدان و ثلاثة ] . و قد فصلت الكلام في هذا القسم على بابين كما قدمناه : الباب الأول : في بيان ما هو في حقه صلى الله عليه و سلم سب أو نقص ، من تعريض أو نص اعلم وفقنا الله و إياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه و سلم ، أو عابه ، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه ، أو خصلة من خصاله ، أو عرض به ، أو شبهه بشيء على طريق السب له ، أو الإزراء عليه ، أو التصغير لشأنه ، أو الغض منه ، و العيب له ، فهو ساب له ، و الحكم فيه حكم الساب ، يقتل كما نبينه ، و لا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد ، و لا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً . و كذلك من لعنه أو دعا عليه ، أو تمنى مضرة له ، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم ، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام و هجر ، و منكر من القول و زور ، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء و المحنة عليه ، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة و المعهودة لديه . و هذا كله إجماع من العلماء و أئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جراً . و قال أبو بكر بن المنذر : أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه و سلم يقتل ، و ممن قال ذلك مالك بن أنس ، و الليث ، و أحمد ، و إسحاق ، و هو م ذهب الشافعي . قال القاضي أبو الفضل : و هو مقتضى قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، و لا تقبل توبته عند هؤلاء المذكورين : و بمثله قال أبو حنيفة ، و أصحابه ، و الثوري و أهل الكوفة ، و الأوزاعي في المسلم ، لكنهم قالوا : هي ردة . روى مثله الوليد بن مسلم عن مالك . و حكى الطبري مثله عن أبي حنيفة و أصحابه فيمن تنقصه صلى الله عليه و سلم ، أو برئ منه أو كذبه . و قال سحنون فيمن سبه : ذلك ردة كالزندقة . و على هذا وقع الخلاف في استتابته و تكفيره ، و هل قتله حد أو كفر ، كما سنبينه في الباب الثاني إن شاء الله تعالى ، و لا نعلم خلافاً في استباحة دمه بين علماء الأمصار و سلف الأمة ، و قد ذكر غير واحد الإجماع على قتله و تكفيره ، و أشار بعض الظاهرية و هو أبو محمد علي بن أحمد الفارسي إلى الخلاف في تكفير المستخف به . و المعروف ما قدمناه ، قال محمد بن سحنون : أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه و سلم المتقص له كافر . و الوعيد جار عليه بعذاب الله ، و حكمه عند الأمة القتل ، و من شك في كفره و عذابه كفر . و احتج إبراهيم بن حسين بن خالد الفق يه في مثل هذا بقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة لقوله عن النبي صلى الله عليه و سلم صاحبكم . و قال أبو سليمان الخطابي : لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلماً . و قال ابن القاسم عن مالك في كتاب ابن سحنون ، و المبسوط ، و العتبية ، و حكاه مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب : من سب النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين قتل ، و لم يستتب . قال ابن القاسم في العتبية : من سبه أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل ، و حكمه عند الأمة القتل كالزنديق . و قد فرض الله تعالى توقيره و بره . و في المبسوط عن عثمان بن كنانة : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من المسلمين قتل أو صلب حياً و لم يستتب و الإمام مخير في صلبه حياً أو قتله . و من رواية أبي المصعب ، و ابن أبي أويس : سمعنا مالكاً يقول : من سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، أو شتمه ، أو عابة ، أو تنقصه قتل مسلماً كان أو كافراً ، و لا يستتاب . و في كتاب محمد : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره من النبيين من مسلم أو كافر قتل و لم يستتب . و قال أصبغ : يقتل على كل حال أسر ذلك أو ظهره ، و لا يستتاب ، لأن توبته لا تعرف . و قال عبد الله بن الحكم : من سب النبي صلى الله عليه و سلم أو كافر قتل و لم يستتب . و حكى الطبري مثله عن أشهب ، عن مالك . و روى ابن وهب ، عن مالك : من قال : إن رداء النبي صلى الله عليه و سلم و يروى زر النبي صلى الله عليه و سلم وسخ ، أراد عيبه قتل . قال بعض علمائنا : أجمع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل ، أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة . و أفتى أبو الحسن القابسي فيمن قال في النبي صلى الله عليه و سلم : الحمال يتيم أبي طالب [ 242 ] بالقتل . و أفتى أبو محمد بن أبي زيد بقتل رجل سمع قوماً يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه و سلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه و اللحية ، فقال لهم : تريدون تعرفون صفته ، هي في صفة هذا المار في خلقه و لحيته . قال : و لا تقبل توبته . و قد كذب لعنه الله ، و ليس يخرج من قلب سليم الإيمان . و قال أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون : من قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم كان أسود يقتل . و قال في رجل قيل له : لا ، و حق رسول الله . فقال فعل الله برسول الله كذا و كذا و ذكر كلاماً قبيحاً ، فقيل له : ما تقول يا عدو الله ؟ فقال أشد من كلامه الأول ، ثم قال : إنما أردت برسول الله العقرب . فقال ابن أبي سليمان للذي سأله : اشهد عليه و أنا شريكك يريد في قتله و ثواب ذلك . قال حبيب بن الربيع : لأن ادعاءه التأويل في لفظ صراح لا يقبل ، لأنه امتهان ، وهو غير معزز لرسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولا موقر له ، فوجب إباحة دمه . وأفتى أبو عبد الله بن عتاب في عشار ، قال لرجل : أد واشك إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، و قال : إن سألت أو جعلت فقد جهل وسأل النبي صلى الله عليه و سلم بالقتل . وأفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم المتفقه الطليطلي و صلبه بما شهد عليه به من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه و سلم وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم ، وختن حيدرة ، و زعمه أن زهده لم يكن قصداً ، و لو قدر على الطيبات أكلها ، إلى أشباه لهذا . و أفتى فقهاء القيروان و أصحاب سحنون بقتل إبراهيم الفزاري ، و كان شاعراً متفننا في كثير من العلوم ، و كان ممن يحضر مجلس القاضي أبي العباس بن طالب للمناظرة ، فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله وأنبيائه ونبينا صلى الله عليه و سلم ، فأحضر له القاضي يحيى بن عمر وغيره من الفقهاء ، وأمر بقتله وصلبه ، فطعن بالسكين ، وصلب منكسا ، ثم أنزل وأحرق بالنار . وحكى بعض المؤرخين أنه لما رفعت خشبته ، و زالت عنها الأيدي استدارت ، و حولته عن القبلة ، فكان آية للجميع ، و كبر الناس ، و جاء كلب فولغ في دمه ، فقال يحيى بن عمر : صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ذكر حديثاً عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يلغ الكلب في دم مسلم . و قال القاضي أبو عبد الله بن المرابط : من قال : إن النبي صلى الله عليه و سلم هزم يستتاب ، فإن تاب و إلا قتل ، لأنه تنقص ، إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته ، إذ هو على بصيرة من أمره ، ويقين من عصمته . و قال حبيب بن ربيع القروي : مذهب مالك و أصحابه أن من قال فيه صلى الله عليه و سلم : ما فيه نقص قتل دون استتابة . و قال ابن عتاب : الكتاب و السنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه و سلم بأذى أو نقص ، معرضاً أو مصرحاً ، و إن قل فقتله واجب ، فهذا الباب كله مما عده ا لعلماء سباً أو تنقصاً يجب قتل قائله ، لم يختلف في ذلك متقدمهم ولا متأخرهم ، و إن اختلفوا في حكم قتله على ما أشرنا إليه [ 243 ] و نبيه بعد . و كذلك أقول حكم من غمصه أو عيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر ، أو ما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه ، أو أذى من عدوه ، أو شدة من زمنه ، أو بالميل إلى نسائه ، فحكم هذا كله لمن قصد به نقصه القتل . و قد مضى من مذاهب العلماء في ذلك ، و يأتي ما يدل عليه . فصل في الحجة في إيجاب قتل من سبه أو عابه صلى الله عليه و سلم فمن القرآن لعنه تعالى لمؤذ به في الدنيا و الآخرة ، و قرانه تعالى أذاه بأذاه ، و لا خلاف في قتل من سب الله ، و أن اللعن إنما يستوجبه من هو كافر ، و حكم الكافر القتل ، فقال : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 57 ] . و قال في قاتل المؤمن مثل ذلك ، فمن لعنته في الدنيا القتل ، قال الله تعالى : لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا [ سورة الأحزاب / 33 ، الآية : 60 ، 61 ] . و قال في المحاربين ، و ذكر عقوبتهم إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا [ سورة المائدة / 5 ، الآية : 33 ] . و قد يقع القتل بمعنى اللعن ، قال الله تعالى : قتل الخراصون . و قاتلهم الله أنى يؤفكون ، أي لعنهم الله ، و لأنه فرق بين أذاهما و أذى المؤمنين ، و في أذى المؤمنين ما دون القتل ، من الضرب و النكال ، فكان حكم مؤذي الله و نبيه أشد من ذلك ، و هو القتل . و قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ سورة النساء / 4 ، الآية : 65 ] . فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجاً من قضائه ، و لم يسلم له ، و من تنقضه فقد ناقض هذا . و قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ سورة الحجرات / 49 ، الآية : 2 ] . و لا يحبط العمل إلا الكفر ، و الكافر يقتل . و قال تعالى : وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ثم قال : حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير [ سورة المجادلة / 58 ، الآية : 8 ] . و قال تعالى : ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن . ثم قال : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 61 ] . و قال تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 65 ، 66 ] . قال أهل التفسير : كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه و سلم . و أما الإجماع فقد ذكرناه . و أما الآثار فحدثنا الشيخ أبو عبد الله أحمد بن غلبون ، عن الشيخ أبي ذر الهروي إجازة ، قال : حدثنا أبو الحسن الدار قطني ، و أبو عمر ابن حيوة ، حدثنا محمد بن نوح ، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة ، حدثنا عبد الله بن موسى بن جعفر ، عن علي بن موسى ، عن أبيه ، عن جده ، عن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن الحسين بن علي ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من سب نبينا فاقتلوه ، و من سب أصحابي فاضربوه . و في الحديث الصحيح : أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل كعب ابن الأشرف . و قوله : من لكعب بن الأشرف ! فإنه يؤذي الله و رسوله . و وجه إليه من قتله غيلة دون دعوة ، بخلاف غيره من المشركين ، و علل قتله بأذاه له ، فدل أن قتله إياه لغير الإشراك ، بل للأذى . و كذلك قتل أبا رافع ، قال البراء : و كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و يعين عليه . و كذلك أمره يوم الفتح بقتل ابن خطل [ 244 ] و جاريته اللتين كانتا تغنيان بسبه صلى الله عليه و سلم . و في حديث آخر أن رجلاً كان يسبه صلى الله عليه و سلم ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال خالد : أنا . فبعثه صلى الله عليه و سلم فقتله . و كذلك لم يقل جماعة ممن كان يؤذيه من الكفار و يسبه ، كالنضر بن الحارث ، و عقبة بن أبي معيط . و عهد بقتل جماعة منهم قبل الفتح و بعده ، فقتلوا إلا من بادر بإسلامه قبل القدرة عليه . و قد روى البزار ، عن ابن عباس أن عقبة بن أبي معيط نادى : يا معشر قريش ، مالي أقتل من بينكم صبراً ! فقال له صلى الله عليه و سلم : بكفرك و افترائك على رسول الله صلى الله عليه و سلم . و ذكر عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه و سلم سبه رجل ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال الزبير : أنا ، فبارزه فقتله الزبير . و روى أيضاً أن امرأة كانت تسبه صلى الله عليه و سلم ، فقال : فقال : من يكفيني عدوي ؟ فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها . و روى أن رجلاً كذب على النبي صلى الله عليه و سلم ، فبعث علياً و الزبير إليه ليقتلاه . و روى ابن قانع أن رجلاً جاء إلى النبي صل ى الله عليه و سلم ، فقال : يا رسول الله ، سمعت أبي يقول فيك قولاً قبيحاً فقتلته ! فلم يشق ذلك على النبي صلى الله عليه و سلم . و بلغ المهاجر بن أبي أمية أمير اليمن لأبي بكر رضي الله عنه أن امرأة هناك في الردة غنت بسب النبي صلى الله عليه و سلم فقطع يدها ، و نزع ثنيتها ، فبلغ أبا بكر رضي الله عنه ذلك ، فقال له : لولا ما فعلت لأمرتك بقتلها ، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود . و عن ابن عباس : هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : من لي بها ؟ فقال رجل من قومها : أنا رسول الله . فنهض فقتلها ، فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم ، فقال : لا ينتطح فيها عنزان . و عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تسب النبي صلى الله عليه و سلم فيزجرها فلا تنزجر ، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه و سلم و تشتمه ، فقتلها ، و أعلم النبي صلى الله عليه و سلم بذلك ، فأهدر دمها . و في حديث أبي برزة الأسلمي : كنت يوماً جالساً عند أبي بكر الصديق ، فغضب على رجل من المسلمين و حكى القاضي إسماعيل و غير واحد من الأئمة في هذا الحديث أنه سب أبا بكر . و رواه النسائي : أتيت أبا بكر ، و قد أغلظ لرجل فرد عليه ، قال : فقلت : يا خليفة رسول الله ، دعني أضرب عنقه . فقال : اجلس ، فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه و سلم . قال القاضي أبو محمد بن نصر : و لم يخالف عليه أحد ، فاستدل الأئمة بهذا الحديث على قتل من أغضب النبي صلى الله عليه و سلم بكل ما أغضبه أو أذاه أو سبه . و من ذلك كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة ، و قد استشاره في قتل رجل سب عمر رضي الله عنه ، فكتب إليه عمر : إنه لا يحل قتل امرئ مسلم بسب أحد من الناس إلا رجلاً سب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فمن سبه [ 245 ] فقد حل دمه . و سأل الرشيد مالكاً في رجل شتم النبي صلى الله عليه و سلم ، و ذكر له أن فقهاء العراق أفتوه بجلده ، فغضب مالك ، و قال : يا أمير المؤمنين ، ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها ! من شتم الأنبياء قتل ، و من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم جلد . قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى : كذا وقع في هذه الحكاية ، رواها غير واحد من أصحاب مناقب مالك و مؤلفي أخباره و غيرهم ، و لا أدري من هؤلاء الفقهاء بالعراق الذين أفتوا الرشيد بما ذكر ! و قد ذكرنا مذهب العراقيين يقتله ، و لعلهم ممن لم يشهر بعلم ، أو من لا يوثق بفتواه ، أو يميل به هواه ، أو يكون ما قاله يحمل على غير السب ، فيكون الخلاف : هل هو سب أو غير سب ؟ أو يكون رجع و تاب من سبه ، فلم يقله لمالك على أصله ، و إلا فالإجماع على قتل من سبه كما قدمناه . و يدل على قتله من جهة النظر و الاعتبار أن من سبه أو تنقصه صلى الله عليه و سلم فقد ظهرت علامة مرض قلبه ، و برهان سر طويته و كفره ، و لهذا ما حكم له كثير من العلمء بالردة ، و هي رواية الشاميين عن مالك و الأوزاعي ، و قول الثوري ، و أبو حنيفة ، و الكوفيين . و القول الآخر أنه دليل على الكفر فيقتل حداً ، و إن لم يحكم له بالكفر إلا أن يكون متمادياً على قوله ، غير منكر له ، و لا مقلع عنه ، فهذا كافر ، و قوله : إما صريح كفر كالتكذيب و نحوه ، أو من كلمات الاستهزاء و الذم ، فاعترافه بها و ترك توبته عنها دليل استحلاله لذلك ، و هو كفر أيضاً ، فهذا كافر بلا خلاف ، قال الله تعالى في مثله : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم [ سورة التوبة / 9 ، الآية : 74 ] . قال أهل التفسير : هي قول هم : إن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شر من الحمير . و قيل : قول بعضهم : ما مثلنا و مثل محمد إلا قول القائل : سمن كلبك يأكلك ، و لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأغر منها الأذل . و قد قيل إن قائل مثل هذا إن كان مستتراً به إن حكمه حكم الزنديق يقتل ، و لأنه قد غير دينه ، و قد قال صلى الله عليه و سلم : من غير دينه فاضربوا عنقه ، و لأن لحكم النبي صلى الله عليه و سلم في الحرمة مزية على أمته ، و ساب الحر من أمته يحد ، فكانت العقوبة لمن سبه صلى الله عليه و سلم القتل ، لعظيم قدره ، و شفوف منزلته على غيره . فصل لم لم يقتل النبي اليهودي الذي قال له : السام عليكم ؟ فإن قلت : فلم لم يقتل النبي صلى الله عليه و سلم اليهودي الذي قال له : السام عليكم، و هذا دعاء عليه ، و لا قتل الآخر الذي قال له : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، و قد تأذى النبي صلى الله عليه و سلم من ذلك ، و قال : قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ، و لا قتل المنافقين الذين كانوا يؤذونه في أكثر الأحيان . فاعلم وفقنا الله و إياك أن النبي صلى الله عليه و سلم كان أول الإسلام يستألف عليه الناس و يميل قلوبهم ، و يحبب إليهم الإيمان ، و يزينه في قلويهم و يداريهم ، و يقول لأصحابه : إنما بعثتم مبشرين و لم تبعثوا منفرين . و يقول : يسروا و لا تعسروا ، و سكنوا و لا تنفروا . و يقول [246 ] : لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه . |
10-18-2012, 11:08 AM | #48 |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
و كان صلى الله عليه و سلم يداري الكفار و المنافقين ، و يجمل صحبتهم ، و يغضي عنهم ، و يحتمل من أذاهم و يصبر على جفائهم ما لا يجوز لنا اليوم الصبر لهم عليه ، و كان يرفقهم بالعطاء و الإحسان ، و بذلك أمره الله تعالى ، فقال تعالى : ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصف ح إن الله يحب المحسنين [ سورة المائدة /5، الآية : 13] . رد مع اقتباس 03-29-2010, 04:42 PM #33 عادل الناظورى عضو نشط تاريخ التسجيلSep 2009المشاركات407 معدل تقييم المستوى8 رد: كتاب الشفاء(كاملا للقراءة) و شاهدت شيخنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عيسى أيام قضائه أتى برجل هاتر رجلاً ، ثم قصد إلى كلب فضربه برجله و قال له : قم يا محمد ، فأنكر الرجل أن يكون قال ذلك ، و شهد عليه لفيف من الناس ، فأمر به إلى السجن ، و تقصى عن حاله ، و هل يصحب من يستر اب بدينه ؟ فلما لم يجد ما يقوي الريبة باعتقاده ضربه بالسوط و أطلقه . |
10-18-2012, 11:08 AM | #49 |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
فصل الالتزام عند ذكر النبي بالواجب من توقيره و تعظيمه و مما يجب على المتكلم فيما يجوز على النبي صلى الله عليه و سلم و ما لا يجوز ، و الذاكر من حالاته ما قدمناه في الفصل قبل هذا على طريق المذاكرة و التعليم أن يلتزم في كلامه عند ذكره صلى الله عليه و سلم ، و ذكر تلك الأحوال الواجب من توقيره و تعظيمه ، و يراقب حال لسانه ، و لا يهمله ، و تظهر عليه علامات الأدب عند ذكره ، فإذا ذكر ما قاساه من الشدائد ظهر عليه الإشفاق و الإرتماض ، و الغيط على عدوه ، و مودة الفداء للنبي صلى الله عليه و سلم لو قدر عليه ، و النصرة له لو أمكنته . و إذا أخذ في أبواب العصمة ، و تكلم على مجاري أعماله و أقواله صلى الله عليه و سلم تحرى أحسن [ 258 ] اللفظ و أدب العبارة ما أمكنه ، و اجتنب بشيع ذلك ، و هجر من العبارة ما يقبح ، كلفظة الجهل و الكذب و المعصية ، فإذا تكلم في الأقوال قال : هل يجوز عليه الخلف في القول و الإخبار بخلاف ما وقع سهواً أو غلطاً ، و نحوه من العبارة ، و يتجنب لفظة الكذب جملةً واحدةً . و إذا تكلم على العلم قال : هل يجوز ألا يعلم إلا ما علم ؟ و هل يمكن ألا يكون عنده علم من بعض الأشياء حتى يوح ى إليه ، و لا يقول يجهل ، لقبح اللفظ و بشاعته . و إذا تكلم في الأفعال قال : هل يجوز منه المخالفة في بعض الأوامر و النواهي و مواقعة بعض الصغائر ؟ فهو أولى و آدب من قوله : هل يجوز أن يعصي أو يذنب أو يفعل كذا و كذا ، من أنواع المعاصي ؟ فهذا من حق توقيره صلى الله عليه و سلم ، و ما يجب له من تعزيز و إعظام . و قد رأيت بعض العلماء لم يتحفظ من هذا ، فقبح منه ، و لم أستصوب عبارته فيه . و وجدت بعض الجائرين قوله لأجل ترك تحفظه في العبارة ما لم يقله ، و شنع عليه بما يأباه ، و يكفر قائله . و إذا كان مثل هذا بين الناس مستعملاً في آدابهم و حسن معاشرتهم و خطابهم ، فاستعماله في حقه صلى الله عليه و سلم أوجب ، و التزامه آكد . فجودة العبارة تقبح الشيء أو تحسنه ، و تحريرها و تهذيبها تعظم الأمر أو تهونه ، و لهذا قال صلى الله عليه و سلم : إن من البيان لسحراً . فأما ما أورده على جهة النفي عنه و التنزيه فلا حرج في تسريح العبارة و تصريحها فيه ، كقوله : لا يجوز عليه الكذب جملةً ، و لا إتيان الكبائر بوجه ، و لا الجور في الحكم على حال ، و لكن مع هذا يجب ظهور توقيره و تعظيمه عند ذكره مجرداً ، فكيف عند ذك ر مثل هذا . و قد كان السلف تظهر عليهم حالات شديدة عند مجرد ذكره ، كما قدمناه في القسم الثاني . و قد كان بعضهم يلتزم مثل ذلك عند تلاوة آي من القرآن ، حكى الله تعالى فيها مقال عداه ، و من كفر بآياته ، و افترى عليه الكذب ، فكان يخفض بها صوته إعظاماً لربه ، و إجلالاً له ، و إشفاقاً من التشبه بمن كفر به . الباب الثاني في حكم سابه و شاتمه و متنقصه و مؤذيه و عقوبته قد قدمنا ما هو سب و أذى في حقه صلى الله عليه و سلم ، و ذكرنا إجماع العلماء على قتل فاعل ذلك و قائله ، أو تخيير الإمام في قتله أو صلبه على ما ذكرناه ، و قررنا الحجج عليه . و بعد فاعلم أن مشهور مذهب مالك و أصحابه ، و قول السلف و جمهور العلماء قتله حداً لا كفراً إن أظهر التوبة منه ، و لهذا لا تقبل عندهم توبته ، و لا تنفعه استقالته و لا فيئته كما قدمناه قبل ، و حكمه حكم الزنديق ، و مسر الكفر في هذا القول ، و سواء كانت توبته على هذا بعد القدرة عليه والشهادة على قوله ، أو جاء تائباً من قبل نفسه ، لأنه حد لا تسقطه التوبة كسائر الحدود . قال الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله : إذا أقر بالسب ، و تاب منه ، و أظهر التوبة قتل بالسب ، لأنه هو حده . [ 259 ] و قال أبو محمد بن أبي زيد في مثله ، و أما ما بينه و بين الله فتوبته تنفعه . و قال ابن سحنون : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من الموحدين ، ثم تاب عن ذلك لم تزل توبته عنه القتل . و كذلك قد اختلف في الزنديق إذا جاء تائباً ، فحكى القاضي أبو الحسن بن القصار في ذ لك قولين : قال : من شيوخنا من قال : أقتله بإقراره ، لأنه كان يقدر على ستر نفسه ، فلما اعترف خفنا أنه خشي الظهور عليه فبادر لذلك . و منهم من قال : أقبل توبته ، لأني أستبدل على صحتها بمجيئه ، فكأننا وقفنا على باطنه ، بخلاف من أسرته البينة . قال القاضي أبو الفضل : و هذا قول أصبغ ، و مسألة ساب النبي صلى الله عليه و سلم أقوى ، لا يتصور فيها الخلاف على الأصل المتقدم ، لأنه حق متعلق للنبي صلى الله عليه و سلم و لأمته بسبه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الآدميين . و الزنديق إذا تاب بعد القدرة عليه فعند مالك ، و الليث ، و إسحاق ، و أحمد ، لا تقبل توبته . و عند الشافعي تقبل . و اختلف فيه أبي حنيفة و أبي يوسف . و حكى ابن المنذر ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : يستتاب . قال محمد بن سحنون : و لم يزل القتل عن المسلم بالتوبة من سبه صلى الله عليه و سلم ، لأنه لم ينتقل من دين إلى غيره ، و إنما فعل شيئاً حده عندنا القتل لا عفو فيه لأحد ، كالزنديق ، لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر . و قال القاضي أبو محمد بن نصر محتجاً لسقوط اعتبار توبته : و الفرق بينه و ب ين من سب الله تعالى على مشهور القول باستتابته أن النبي صلى الله عليه و سلم بشر ، و البشر جنس تلحقه المعرة إلا من أكرمه الله بنبوته ، و البارئ تعالى منزه عن جميع المعايب قطعاً ، و ليس من جنس تلحق المعرة بجنسه ، و ليس سبه صلى الله عليه و سلم كالارتداد المقبول فيه التوبة ، لأن الارتداد معنى ينفرد به المرتد ، لا حق فيه لغيره من الآدميين ، فقبلت توبته . و من سب النبي صلى الله عليه و سلم تعلق فيه حق لآدمي ، فكان كالمرتد يقتل حين ارتداده أو يقذف ، فإن توبته لا تسقط عند حد القتل و القذف . و أيضاً فإن توبة المرتد إذا قبلت لا تسقط ذنوبه من زنا و سرقة و غيرها ، و لم يقتل ساب النبي صلى الله عليه و سلم لكفره ، لكن لمعنى يرجع إلى تعظيم حرمته و زوال المعرة به ، و ذلك لا تسقطه التوبة . قال القاضي أبو الفضل : يريد و الله أعلم : لأن سبه لم يكن بكلمة تقتضي الكفر ، و لكن بمعنى الإزراء و الإستخفاف ، أو لأن بتوبته و إظهار إنابته ارتفع عنه اسم الكفر ظاهراً ، و الله أعلم بسريرته ، و بقي حكم السب عليه . [ و قال أبو عمران القابسي : من سب النبي صلى الله عليه و سلم ، ثم ارتد عن الإسلام قتل و ل م يستتب ، لأن السب من حقوق الآدميين التي لا تسقط عن المرتد ] . و كلام شيوخنا هؤلاء مبني على القول بقتله ، حداً لا كفراً ، و هو يحتاج إلى تفصيل . و أما على رواية الوليد بن مسلم عن مالك وافقه على ذلك ممن ذكرناه و قال به من أهل العلم فقد صرحوا أنه ردة ، قالوا : و يستتاب منها ، فإن تاب نكل ، و إن أبى قتل ، فحكم له بحكم المرتد مطلقا في هذا الوجه . و الوجه الأول أشهر و أظهر لما قدمناه ، و نحن نبسط الكلام فيه ، فنقول [ 260 ] : من لم يره رده فهو يوجب القتل فيه حداً ، و إنما نقول ذلك مع فصلين : إما مع إنكاره ما شهد به عليه ، و إظهاره الإقلاع و التوبة عنه ، فنقتله حداً لثبات كلمة الكفر عليه في حق النبي صلى الله عليه و سلم ، و تحقيره ما عظم الله من حقه ، و أجرينا حكمه في ميرائه ، و غير ذلك حكم الزنديق إذا ظهر عليه و أنكر أو تاب . فإن قيل : فكيف تثبتون عليه الكفر ، و يشهد عليه [ بكلمة الكفر ] و لا تحكمون عليه بحكمه من الاستتابة و توابعها ! قلنا : نحن و إن أثبتنا له حكم الكافر فلا نقطع عليه بذلك ، لإقراره بالتوحيد و النبوة ، و إنكاره ما شهد به عليه ، أو زعمه أن ذلك كان منه وهلاً و معص يةً ، و أنه مقلع عن ذلك نادم عليه ، و لا يمتنع إثبات بعض أحكام الكفر على بعض الأشخاص و إن لم تثبت له خصائصه ، كقتل الصلاة . و أما من علم أنه سبه معتقداً استحلاله فلا شك في كفره بذلك . و كذلك إن كان سبه في نفسه كفر ، كتكذيبه أو تكفيره و نحوه ، فهذا مما لا إشكال فيه ، و يقتل و إن تاب منه ، لأنا لا نقبل توبته ، و نقتله بعد التوبة حداً ، لقوله ، و متقدم كفره ، و أرمه بعد إلى الله المطلع على صحة إقلاعه ، العالم بسره . و كذلك من لم يظهر التوبة ، و اعتراف بما شهد به عليه ، و صمم عليه فهذا كافر بقوله و باستحلاله . هتك حرمة الله و حرمة نبيه صلى الله عليه و سلم يقتل كافراً بلا خلاف . فعلى هذه التفصيلات خذ كلام العلماء ، و نزل مختلف عباراتهم في الاحتجاج عليها ، و أجر اختلافهم في الموارثة و غيرها على ترتيبها تتضح لك مقاصدهم إن شاء الله تعالى . فصل استتابة الساب و الشاتم كالاستتابة للمرتد إذا قلنا بالاستتابة حيث تصح فالاختلاف فيها على الاختلاف في توبة المرتد ، إذ لا فرق . و قد اختلف السلف في وجوبها و صورتها و مدتها ، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن المرتد يستتاب . و حكى ابن القصار أنه إجماع من الصحابة على تصويب قول عمر في الاستتابة ، و لم ينكره واحد منهم ، و هو قول عثمان ، و علي ، و ابن مسعود ، و به قال عطاء بن أبي رباح ، و النخعي ، و الثوري ، و مالك ، و أصحابه ، و الأوزاعي ، و الشافعي ، و أحمد ، و إسحاق ، و أصحاب الرأي . و ذهب طاوس ، محمد بن الحسن ، و عبيد بن عمير ، و الحسن في إحدى الروايتين عنه أنه لا يستتاب ، و قاله عبد العزيز بن أبي سلمة ، و ذكره عن معاذ ، و أنكره سحنون عن معاذ ، و حكاه الطحاوي عن أبي يوسف ، و هو قول أهل الظاهر ، قالوا : و تنفعه توبته عند الله ، و لكن لا ندرأ القتل عنه ، لقوله صلى الله عليه و سلم ، من بدل دينه فاقتلوه . و حكي أيضاً عن عطاء : إن كان ممن ولد في الإسلام لم يستتب ، و يستتاب الإسلامي . و جمهور العلماء على أن المرتد و المر تدة في ذلك سواء . و روي عن علي رضي الله عنه : لا تقل المرتدة ، و تسترق ، و قاله عطاء ، و قتادة . و روي عن ابن عباس : لا تقتل النساء في الردة ، و به قال أبو حنيفة . قال مالك : و الحر و العبد و الذكر و الأنثى في ذلك سواء . و أما مدتها فمذهب الجمهور ، و روي عن عمر ، أنه يستتاب ثلاثة أيام يحبس فيها ، و قد [ 261 ] اختلف فيه عن عمر ، و هو أحد قولي الشافعي ، و قول أحمد ، و إسحاق ، و استحسنه مالك ، و قال : لا يأتي الاستظهار إلا بخير ، و ليس عليه جماعة الناس .. قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد : يريد في الاستثناء ثلاثاً . و قال مالك أيضاً : أخذ به في المرتد قول عمر : يحبس ثلاثة أيام ، و يعرض عليه كل يوم ، فإن تاب و إلا قتل . و قال أبو الحسن بن القصار في تأخيره ثلاثاً روايتان عن مالك : هل ذلك واجب أو مستحب ؟ و استحسن الاستتابة و الاستيناء ثلاثاً أصحاب الرأي . و روي عن أبي بكر الصديق أنه استتاب امرأة فلم تتب فقتلها ، و قاله الشافعي مرة ، فقال : إن لم يتب قتل مكانه . و استحسنه المزني . و قال الزهري : يدعى إلى الإسلام ثلاث مر ات ، فإن أبى قتل . و روي عن علي رضي الله عنه : يستتاب شهرين . و قال النخعي : يستتاب أبداً ، و به أخذ الثوري ما رجيت توبته . و حكى ابن القصار عن أبي حنيفة أنه يستتاب ثلاث مرات في ثلاثة أيام أو ثلاث جمع كل يوم أو جمعة مرة . و في كتاب محمد ، عن القاسم : يدعى المرتد إلى الإسلام ثلاث مرات ، فإن أبى ضربت عنقه . و اختلف على هذا هل يهدد أو يشدد عليه أيام الاستتابة ليتوب أم لا ؟ فقال مالك : ما علمت في الاستتابة تجويعاً و لا تعطشاً ، و يؤتى من الطعام بما لا يضره . و قال أصبغ : يخوف أيام الاستتابة بالقتل ، و يعرض عليه الإسلام . و في كتاب أبي الحسن الطابثي : يوعظ في تلك الأيام ، و يذكر بالجنة ، و يخوف بالنار . قال أصبغ : و أي المواضع حبس فيها من السجون مع الناس أو وحده إذا استوثق منه سواء ، و يوقف ماله إذا خيف أن يتلفه على المسلمين ، و يطعم منه ، و يسقى . و كذلك يستتاب كلما رجع و ارتد أبداً ، و قد استتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم نبهان الذي ارتد أربع مرات أو خمساً . و قال ابن وهب ، عن مالك : يستتاب أبداً كلما رجع ، و هو قول الشافعي ، و أحمد ، و قاله ابن القاسم . و قال إسحاق : يقتل في الرابعة . و قال أصحاب الرأي : إن لم يتب في الرابعة قتل دون استتابة ، و إن تاب ضرب ضرباً وجيعاً ، و لم يخرج من السجن حتى يظهر عليه خشوع التوبة . قال ابن المنذر : و لا نعلم أحداً أوجب على المرتد في المرة الأولى أدباً إذا رجع . و هو على مذهب مالك و الشافعي و الكوفي . فصل في حكم من لم تتم الشهادة عليه .. هذا حكم من ثبت عليه ذلك بما يجب ثبوته من إقرار أو عدول لم يدفع فيهم ، فأما من لم تتم الشهادة عليه بما شهد عليه الواحد أو اللفيف من الناس ، أو ثبت قوله لكن احتمل و لم يكن صريحاً . و كذلك إن تاب على القول بقبول توبته فهذا يدرأ عنه القتل ، و يتسلط عليه اجتهاد الإمام بقدر شهرة حاله ، و قوة الشهادة عليه ، و ضعفها ، و كثرة السماع عنه ، و صورة حاله من التهمة في الدين و النبر بالسفه و المجون ، فمن قوي أمره أذاقه من شديد النكال من التضيق في السجن ، و الشد في القيود إلى الغاية التي [ 262 ] هي منتهى طاقته لما لا يمنعه القيام لضرورته ، و لا يقعده عن صلاته ، و هو حكم كل من وجب عليه القتل ، لكن وقف عن قتله لمعنى أوجبه ، و تربص به لإشكال و عائق اقتضاه أمره ، و حالات الشدة في نكاله تختلف بحسب اختلاف حاله . و قد روى الوليد عن مالك و الأوزاعي أنها ردة ، فإذا تاب نكل . و لمالك في العتبية و كتاب محمد ، من رواية أشهب : إذا تاب المرتد فلا عقوبة عليه و قاله سحنون . و أفتى أبو عبد الله بن عتاب فيمن سب النبي صلى الله عليه و سلم ، فشهد عليه شاهدان ع دل أحدهما بالأدب الموجع و التنكيل و السجن الطويل حتى تظهر توبته . و قال القابسي في مثل هذا : و من كان أقصى أمره القتل فعاق عائق أشكل في القتل لم ينبع أن يطلق من السجن ، و يستطال سجنه ، و لو كان فيه من المدة ما عسى أن يقيم ، و يحمل عليه من القيد ما يطيق . و قال في مثله ممن أشكل أمره : يشد في القيود شداً ، ، و يضيق عليه في السجن حتى ينظر فيما يجب عليه . و قال في مسألة أخرى مثلها : و لا تهراق الدماء إلا بالأمر الواضح ، و في الأدب بالسوط و السجن نكال للسفهاء ، و يعاقب عقوبة شديدة ، فأما إن لم يشهد عليه سوى شاهدين ، و أثبت من عداوتهما أو جرحتهما ما أسقطهما عنه ، و لم يسمع ذلك من غيرها فأمره أخف لسقوط الحكم عنه ، و كأنه لم يشهد عليه ، إلا أن يكون مما لا يليق به ذلك ، و يكون الشاهدان من أهل التبريز فأسقطهما بعداوة ، فهو و إن لم ينفذ الحكم عليه بشهادتهما فلا يدفع الظن صدقهما ، و للحاكم هنا في تنكيله موضع اجتهاد . و الله ولي الإرشاد . فصل حكم الذمي إذا صرح بسبه ، أو عرض .. هذا حكم المسلم ، فأما الذمي إذا صرح بسبه أو عرض ، أو استخف بقدره ، أو وصفه بغير الوجه الذي ، كفر به فلا خلاف عندنا في قتله إن لم يسلم ، لأنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا ، و هو قول عامة الفقهاء ، إلا أبا حنيفة و الثوري و أتباعهما من أهل الكوفة ، فإنهم قالوا : لا يقتل ، ما هو عليه من الشرك أعظم ، و لكن يؤدب و يعزز . و استدل بعض شيوخنا على قتله بقوله تعالى : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون [ سورة التوبة /9 ، الآية : 12] . و يستدل عليه أيضاً بقتل النبي صلى الله عليه و سلم لا بن الأشرف و أشباهه ، و لأنا لم نعاهدهم ، و لم نعطهم الذمة على هذا ، و لا يجوز لنا أن نفعل ذلك معهم ، فإذا أتوا ما لم يعطوا عليه العهد و لا الذمة فقد نقضوا ذمتهم ، و صاروا كفاراً يقتلون لكفرهم . و أيضاً فإن ذمتهم لا تسقط حدود الإسلام عنهم ، من القطع في سرقة أموالهم ، و القتل لمن قتلوه منهم ، و إن كان ذلك حلالاً عندهم فكذلك سبهم النبي صلى الله عليه و سلم يقتلون به . و وردت لأصحابنا ظ واهر تقتضي الخلاف إذا ذكره الذمي بالوجه الذي كفر به ، ستقف عليها من كلام ابن القاسم و ابن سحنون بعد . [ 263 ] و حكى أبو المعصب الخلاف فيها عن أصحابه المدنيين . و اختلفوا إذا سبه ثم أسلم ، فقيل : يسقط إسلامه قتله ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب ، لأن نعلم باطنه الكافر في بغضه له ، و تنقصه بقلبه ، لكنا منعناه من إظهاره ، فلم يزدنا ما أظهره إلا مخالفة للأمر ، و نقض للعهد ، فإذا رجع عن دينه الأول إلى الإسلام سقط ما قبله ، قال الله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ سورة الأنفال /8 ، الآية : 38 ] . و المسلم بخلافه ، إذا كان ظننا يباطنه حكم ظاهره ، و خلاف ما بدا منه الأن ، فلم نقبل بعد رجوعه ، و لا استنمنا إلى باطنه ، إذ قد بدت سرائره ، و ما ثبت عليه من الأحكام باقية عليه لا يسقطها شيء . و قيل : لا يسقط إسلام الذمي الساب قتله ، لأنه حق النبي صلى الله عليه و سلم وجب عليه ، لانتهاكه حرمته ، و قصده إلحاق النقيصة و المعرة به ، فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي يسقطه ، كما وجب عليه من حقوق المسلمين من قبل إسلامه منقتل و قذف ، و إذا كنا لا نقبل توبة المسلم فإنا لا نقبل توبة الكافر أولى . و قال مالك في كتاب ابن حبيب و المبسوط ، و ابن القاسم ، و ابن الماجشون ، و ابن عبد الحكم ، و أصبغ فيمن شتم نبيناً من أهل الذمة أو أحداً من الأنبياء عليهم السلام قتل إلا أن يسلم ، و قاله ابن القاسم في العتبية ، و عند محمد ، و ابن سحنون . و قال سحنون و أصبغ : لا يقال له أسلم ، و لا لا تسلم ، و لكن إن أسلم فذلك له توبة . و في كتاب محمد : أخبرنا أصحاب مالك أنه قال : منسب رسول الله صلى الله عليه و سلم أو غيره من الأنبياء من مسلم أو كافر قتل و لم يستتب . و روي لنا عن مالك : إلا أن يسلم الكافر . و قد روى ابن وهب ، عن ابن عمر أن راهباً تناول النبي صلى الله عليه و سلم ! فقال ابن عمر : فهلاً قتلتموه ! . و روى عيسى عن ابن القاسم في ذمي قال : إن محمداً لم يرسل إلينا ، إنما أرسل إليكم ، و إنما نبينا موسى أو عيسى ، و نحو هذا : لا شيء عليهم ، لأن الله تعالى أقرهم على مثله . و أما إن سبه فقال : ليس بنبي ، أو لم يرسل ، أو لم ينزل عليه القرآن ، و إنما شيء تقوله أو نحو هذا فيق تل . و قال ابن القاسم : و إذا قال النصراني : ديننا خير من دينكم ، و إنما دينكم دين الحمير ، و نحو هذا من القبيح أو سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله ، فقال : كذلك يعطيكم الله ، ففي هذا الأدب الموجع و السجن الطويل . قال : و أما إن شتم النبي صلى الله عليه و سلم وسلم شتماً يعرف فإنه يقتل إلا أن يسلم ، قاله مالك غير مرة ، و لم يقل يستتاب . قال ابن القاسم : و محمل قوله عندي إن أسلم طائعاً . و قال ابن سحنون في سؤالات سليمان بن سالم في اليهودي يقول للمؤذن ، إذا تشهد : كذبت يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن الطويل . و في النوادر من رواية سحنون عنه : من شتم الأنبياء من اليهود و النصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضربت عنقه إلا أن يسلم . قال محمد بن سحنون : فإن قيل : لم قتلته في سب النبي صلى الله عليه و سلم و من دينه سبه و تكذيبه ؟ قيل : لأنا لم نعطهم [264 ] العهد على ذلك ، و لا على قتلنا ، و أخذ أموالنا ، فإذا قتل واحد منا قتلناه ، و إن كان من دينه استحلاله ، فكذلك إظهاره لسب نبينا صلى الله عليه و سلم . قال سحنون : كما لو بذل لنا أهل الحرب الجزية ع لى اقرارهم على سبه لم يجز لنا ذلك في قول قائل . و كذلك ينتقص عهد من سب منهم ، و يحل لنا دمه فكما لم يحصن الإسلام من سبه من القتل كذلك لا تحصنه الذمة . قال القاضي أبو الفضل : ما ذكره ابن سحنون عن نفسه و عن أبيه مخالف لقول ابن القاسم فيما خفف عقوبتهم فيه مما به كفروا ، فتأمله . و يدل على أنه خلاف ما روي عن المدنيين في ذلك ، فحكى أبو المصعب الزهري ، قال : أتيت بنصراني قال : و الذي اصطفى عيسى على محمد ، فاختلف على فيه ، فضربته حتى قتلته ، أو عاش يوماً و ليلة ، و أمرت من جر برجله ، و طرح على مزبلة ، فأكلته الكلاب . و سئل أبو المصعب عن نصراني قال : عيسى خلق محمداً . فقال : يقتل . و قال ابن القاسم : سألنا مالكاً عن نصراني بمصر شهد عليه أنه قال : مسكين محمد ، يخبرك أنه في الجنة ، ماله لم ينفع نفسه ! إذ كانت الكلاب تأكل ساقيه ، لو قتلوه استراح منه الناس . قال مالك : أرى أن تضرب عنقه . قال و لقد كدت ألا أتكلم فيها بشيء ، ثم رأيت أنه لا يسعني الصمت . قال ابن كنانة في المبسوطة : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم من اليهود و النصارى فأرى للإمام أ ن يحرقه بالنار ، و إن شاء قتله ثم حرق جثته ، و إن شاء أحرقه بالنار حياً إذا تهافتوا في سبه . و قد كتب إلى مالك من مصر مسألة ابن قاسم المتقدمة ، قال : فأمرني مالك ، فكتبت بأن يقتل ، و أن يضرب عنقه ، فكتبت ،ثم قلت : يا أبا عبد الله ، و أكتب : ثم يحرق بالنار ؟ فقال كان إنه لحقيق بذلك ، و ما أولاه به . فكتبته بيدي بين يديه ، فما أنكره و لا عابه ، و نفذت الصحيفة بذلك فقتل و حرق . و أفتى عبيد الله ابن يحيى و ابن لبابة في جماعة سلف أصحابنا الأندلسيين بقتل نصرانية استهلت بنفي الربوبية و بنوة عيسى الله ، و بتكذيب محمد في النبوة ، و بقبول إسلامها و درأ القتل عنها به . و به قال غير واحد من المتأخرين منهم القابسي ، و ابن الكتاب . و قال أبو القاسم بن الجلاب في كتابه : من سب الله ورسوله من مسلم أو كافر قتل و لا يستتاب . و حكى القاضي أبو محمد في الذمي يسب روايتين في درء القتل عنه بإسلامه . و قال ابن سحنون : و حد القذف و شبهه من حقوق العباد لا يسقطه عن الذمي إسلامه ، و إنما يسقط عنه بإسلامه حدود الله . فأما حد القذف فحق للعباد ، كان ذلك لنبي أو غيره ، فأوجب على الذمي إذا قذف النبي صلى الله عليه و سلم ثم أسلم حد القذف . و لكن انظر ماذا يجب عليه ؟ هل حد القذف في حق النبي صلى الله عليه و سلم ، و هو القتل لزيادة حرمة النبي صلى الله عليه و سلم على غيره ، أم هل يسقط القتل بإسلامه ، و يحد ثمانين ؟ فتأمله . فصل من ميراث من قتل بسبب النبي ، و غسله ، و الصلاة عليه اختلف العلماء في ميراث من قتل بسبب النبي صلى الله عليه و سلم ، فذهب سحنون إلى أنه لجماعة المسلمين من قبل أن شتم النبي صلى الله عليه و سلم كفر يشبه كفر الزندقة . و قال أصبغ : ميراثه لورثته من المسلمين إن كان مستسراً بذلك ، و إن كان مظهراً له مستهلاً به فميراثه للمسلمين ، و يقتل على كل حال و لا يستتاب . و قال أبو الحسن القابسي : إن قتل و هو منكر للشهادة عليه فالحكم في ميراثه على ما أظهره من إقراره يعني لورثته ، و القتل حد ثبت عليه ليس من الميراث في شيء . و كذلك لو أقر بالسب و أظهر التوبة لقتل ، إذ هو حده . و حكمه في ميراثه ، و سائر أحكامه حكم الإسلام . و لو أقر بالسب ، و تمادى عليه ، و أبى التوبة منه ، فقتل على ذلك كان كافراً ، و ميراثه للمسلمين ، و لا يغتسل و لا يصلى عليه ، و لا يكفن و تستر عورته ، و يوارى كما يفعل بالكفار . و قول الشيخ أبي الحسن في المجاهرالمتمادي بين لا يمكن الخلاف فيه ، لأنه كافر مرتد غير تائب مقلع . و هو مثل قول أصبغ ، و كذلك في كتاب ابن سحنون في الزنديق يتمادى على قوله . و مثله لابن القاسم في العتبية و لجماعة من أصحاب مالك في كتاب ابن حبيب فيمن أعلن كفره مثله . قال ابن القاسم : و حكمه حكم المرتد لا يرثه ورثته من المسلمين ، و لا من أهل الدين الذي ارتد إليه ، و لا تجوز وصاياه و لا عتقه ، و قاله أصبغ ، قتل على ذلك أو مات عليه . و قال أبو محمد بن أبي زيد : و إنما يختلف في ميراث الزنديق الذي يستهل بالتوبة ، فلا تقبل منه ، فأما المتمادي فلا خلاف أنه لا يورث . و قال أبو محمد فيمن سب الله تعالى ثم مات و لم تعدل عليه بينة ، أو لم تقبل : إنه يصلى عليه . و روى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب ابن حبيب فيمن كذب برسول الله صلى الله عليه و سلم ، و أعلن ديناً مما يفارق به الإسلام أن ميراثه للمسلمين . و قال بقول مالك : إن ميراث المرتد للمسلمين ، و لا ترثه ورثته ربيعة ، و الشافعي ، و أبو ثور ، و ابن أبي ليلى ، و اختلف فيه عن أحمد . و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، و ابن مسعود ، و ابن المسيب ، و الحسن ، و الشعبي ، و عمر بن عبد العزيز ، و الحكم ، و الأوزاعي ، و الليث ، و إسحاق ، و أبو حنيفة ترثه ورثته من المسلمين . و قيل ذلك فيما كسبه قبل ارتداده ، و ما يكسبه في الإرتداد فللمسلمين . |
10-18-2012, 11:09 AM | #50 |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
قال القاضي أبو الفضل : و تفصيل أبي الحسن في باقي جوابه حسن بين ، و هو على رأي أصبغ ، و خلاف قول سحنون ، و اختلافهما على قولي مالك في ميراث الزنديق ، فمرة ورثه ورثته من المسلمين قامت بذلك بينة فأنكرها ، أو اعترف بذلك و أظهر التوبة . |
10-18-2012, 11:10 AM | #51 |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
و كذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم ، أو بقائه ، أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة و الدهرية ، أو قال بتناسخ الأرواح و انتقالها أبد الآباد في الأشخاص ، و تعذيبها أو تنعيمها فيها بحسب زكائها و خبثها . و كذلك من اعترف بالإلهية و الوحدانية ، و لكنه جحد النبوة من أصلها عموماً ، أو نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم خصوصاً ، أو أحد من الأنبياء الذين نص الله عليهم بعد علمه بذلك ، فهو كافر بلا ريب ، كالبراهمة ، و معظم اليهود و الأروسية من النصارى ، و الغرابية من الروافض الزاعمين أن علياً كان المبعوث إليه جبريل ، و كالمعطلة و القرامطة و الإسماعيلية و العنبرية من الرافضة ، و إن كان بعض هؤلاء قد أشركوا في كفر آخر مع من قبلهم . |
10-18-2012, 11:12 AM | #52 |
|
رد: كتاب الشفاء للقاض عياض رضى الله عنه
فصل في حكم الساب إذا كان ذميا هذا حكم المسلم الساب لله تعالى . و أما الذمي فروي عن عبد الله بن عمر في ذمي تناول من حرمه الله تعالى غير ما هو عليه من دينه ، و حاج فيه ، فخرج ابن عمر عليه بالسيف فطلبه فهرب . و قال مالك في كتاب ابن حبيب و المبسوطة و ابن القاسم في المبسوط ، و كتاب محمد و ابن سحنون : من شتم الله من اليهود و النصارى بغير الوجه الذي به كفروا قتل و لم يستتب . قال ابن القاسم : إلا أن يسلم . قال في المبسوطة : طوعاً . قال أصبغ : لأن الوجه الذي به كفروا هو دينهم ، و عليه عوهدوا من دعوى الصاحبة و الشريك و الولد . و أما غير هذا من الفرية و الشتم فلم يعاهدوا عليه ، فهو نقض للعهد . قال ابن القاسم في كتاب محمد : و من شتم من غير أهل الأديان الله تعالى بغير الوجه الذي ذكر في كتابه قتل إلا أن يسلم . و قال المخزومي في المبسوطة ، و محمد بن سلمة ، و ابن أبي حازم : لا يقتل حتى يستتاب مسلماً كان أو كافراً ، فإن تاب و إلا قتل [ 277 ] . و قال مطرف و عبد الملك مثل قول مالك . و قال أبو محمد بن أبي زي د : من سب الله تعالى بغير الوجه الذي به كفر قتل إلا أن يسلم . و قد ذكرنا قول ابن الجلاب قبل ، و ذكرنا قول عبيد الله ، و ابن لبابة ، و شيوخ الأندلسيين في النصرانية و فتياهم بقتلها لسبها ، بالوجه الذي كفرت به ، لله و للنبي ، و إجماعهم على ذلك ، و هو نحو القول الآخر فيمن سب النبي صلى الله عليه و سلم منهم بالوجه الذي كفر به ، و لا فرق في ذلك بين سب الله و سب نبيه ، لأنا عاهدناهم على ألا يظهروا لنا شيئاً من كفرهم ، و ألا يسمعونا شيئاً من ذلك ، فمتى فعلوا شيئاً منه فهو نقض لعهدهم . و اختلف العلماء في الذمي إذا تزندق ، فقال مالك ، و مطرف ، وابن عبد الحكم ، و أصيغ : لا يقتل ، لأنه خرج من كفر إلى كفر . و قال عبد الملأ بن الماجشون : يقتل لأنه دين لا يقر عليه أحد ، و لا تؤخذ عليه جزية . فصل في مفترى الكذب على الله تبارك و تعالى بادعاء الإلهية هذا حكم من صرح بسبه و إضافة ما لا يليق بجلاله و إلاهيته ، فأما مفتري الكذب عليه تبارك و تعالى بادعاء الإلاهية أو الرسالة أو النافي أن يكون الله خالقه أو ربه ، أو قال : ليس رب ، أو المتكلم بما لا يعقل من ذلك في سكره أو غمرة جنونه فلا خلاف في كفر قائل ذلك و مدعيه مع سلامة عقله كما قدمنا ، لكنه تقبل توبته على المشهور ، و تنفعه إنابته ، و تنجيه من القتل فيئته ، لكنه لا يسلم من عظيم النكال ، و لا يرفه عن شديد العقاب ، ليكون ذلك زجراً لمثله عن قوله ، و له عن العودة لكفره أو جهله ، إلا من تكرر منه ذلك ، و عرف استهانته بما أتى به ، فهو دليل على سوء طويته ، و كذب توبته ، و صار كالزنديق الذي لا نأمن باطنه ، و لا نقبل رجوعه . و حكم السكران في ذلك حكم الصاحي . و أما المجنون و المعتوه فما علم أنه قاله من ذلك في حال غمرته و ذهاب ميزه بالكلية فلا نظر فيه ، و ما فعله من ذلك في حال ميزه و إن لم يكن معه عقله و سقط تكليفه أدب على ذلك لينزجر عنه ، كما يؤدب على قبائح الأفعال ، و يوالى أدبه على ذلك حتى يكف عنه ، كما تؤدب البهيمة على سوء الخلق حتى تراض . و قد حرق علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ادعى له الإلهية ، و قد قتل عبد الملك بن مروان الحارث المتنبي و صلبه ، و فعل ذلك غير واحد من الخلفاء و الملوك بأشباههم . و أجمع علماء و قتهم على صواب فعلهم ، و المخالف في ذلك من كفرهم كافر . و أجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية و قاضي قضاتها أبو عمر المالكي على قتل الحلاج و صلبه ، لدعواه الإلهية ، و القول بالحلول ، و قوله : أن الحق ، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة ، و لم يقبلوا توبته . و كذلك حكموا في ابن أبي الغراقيد ، و كان على نحو مذهب الحلاج بعد هذا أيام الراضي بالله ، و قاضي قضاة بغداد يومئذ أبو الحسين بن أبي عمر [ 278 ] المالكي . و قال ابن عبد الحكم في المبسوط : من تنبأ قتل . و قال أبو حنيفة و أصحابه : من حجد أن الله تعالى خالقه أو ربه ، أو قال : ليس لي رب ، فهو مرتد . و قال ابن القاسم في كتاب ابن حبيب ، و محمد في العتيبة فيمن تنبأ يستتاب أسر ذلك أو أعلنه ، و هو كالمرتد . و قال سحنون و غيره ، و قاله أشهب في يهودي تنبأ ، و ادعى أنه رسول إلينا إن كان معلناً بذلك استتيب ، فإن تاب و إل ا قتل . و قال أبو محمد بن أبي زيد فيمن لعن بارئه ، و ادعى أن لسانه زل ، و إنما أراد لعن الشيطان يقتل بكفره ، و لا يقبل عذره . و هذا على القول الآخر من أنه لا تقبل توبته . و قال أبو الحسن القابسي في سكران ، قال : أنا الله ، أنا الله ، إن تاب أدب ، فإن عاد إلى مثل قوله طولب مطالبة الزنديق ، لأن هذا كفر المتلاعبين . فصل فيمن تكلم بسقط القول و سخف اللفظ ، ممن لم يضبط كلامه و أما من تكلم من سقط القول و سخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه و أهمل لسانه بما يقتضي الاستخاف بعظمة ربه و جلالة مولاه ، أو تمثل في بعض الأشياء ببعض ما عظم الله من ملكوته ، أو نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصد للكفر و الاستخفاف ، و لا عامد للإلحاد ، فإن تكرر هذا منه ، وعرف به ، دل على تلاعبه بدينه ، و استخفافه بحرمة ربه ، و جهله بعظيم عزته و كبريائه ، و هذا كفر لا مرية فيه . و كذلك إن كان ما أورده يوجب الاستخفاف و التنقص لربه . و قد أفتى ابن حبيب و أصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخي عجب ، و كان خرج يوماً ، فأخذه المطر ، بدأ الخراز يرش جلوده . و كان بعض الفقهاء بها : أبو زيد صاحب الثمانية ، و عبد الأعلى بن وهب ، و أبان بن عيسى ، قد توقفوا عن سفك دمه ، و أشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب . و أفتى بمثله القاضي حينئذ موسى بن زياد ، فقال ابن حبيب : دمه في عنقي ، أيشتم رب عبدناه ، ثم لا ننتصر له ، إنا إذاً لعبيد سوء ، و ما نحن له بعابدين ، و بكى و رفع المجلس إلى الأمير بها عبد الرح من بن الحكم الأموي . و كان عجب عمة هذا المطلوب من حظاياه ، و أعلم باختلاف الفقهاء ، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب و صاحبه ، و أمر بقتله ، فقتل و صلب بحضرة الفقهين ، و عزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة ، و وبخ بقية الفقهاء و سبهم . و أما من صدرت عنه من ذلك الهنة الواحدة و الفلتة الشاردة ، ما لم تكن تنقصاً و إزراء فيعاقب عليها و يؤدب بقدر مقتضاها و شنعة معناها ، و صورة حال قائلها ، و شرح سببها و مقارنها . و قد سئل ابن القاسم رحمه الله عن رجل نادى رجلاً باسمه ، فأجابه : لبيك ، اللهم لبيك . قال : إن كان جاهلاً ، أو قاله على وجه سفه فلا شيء عليه . قال : القاضي أبو الفضل : و شرح قوله أنه لا قتل عليه ، و الجاهل يزجر و يعلم ، و السفيه يؤدب ، و لو قالها على اعتقاد إنزاله منزلة ربه لكفر [ 279 ] . هذا مقتضى قوله . و قد أسرف كثير من سخفاء الشعراء و متهميهم في هذا الباب ، و استخفوا عظيم هذه الحرمة ، فأتوا من ذلك بما ننزه كتابنا و لساننا و أقلامنا عن ذكره ، و لولا أنا قصدنا نص مسائل حكيناها ما ذكرنا شيئاً مما يثقل ذكره علينا مما حكيناه في هذه الفصول . فأما ما ورد في هذا من أهل الجهالة و أغاليط اللسان ، كقوله بعض الأعراب : رب العباد ما لنا و مالكا قد كنت تسقينا فما بدا لكا أنزل علينا الغيث لا أبا لكا في أشباه لهذا من كلام الجهال . و من لم يقومه ثقاف تأديب الشريعة و العلم في هذا الباب ، فقل ما يصدر إلا من جاهل يجب تعليمه و زجره و الإغلاط له عن العودة إلى مثله . قال أبو سليمان الخطابي : و هذا تهور من القول ، ، و الله منزه عن هذه الأمور . و قد روينا عن بن عبد الله أنه قال : ليعظم أحدكم ربه أن يذكر اسمه في كل شيء حتى يقول : أخزي الله الكلب ، و فعل به كذا و كذا . قال : و كان بعض من أدركنا من مشايخنا قل ما يذكر اسم الله تعالى إلا فيما يتصل بطاعته . و كان يقول للإنسان : جزيت خيراً . و قل ما يقول : جزاك الله خيراً ، إعظاماً لاسمه تعالى أن يمتهن في غيره قربة . و حدثنا الثقة أن الإمام أبا بكر الشاشي كان يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم فيه تعالى و في ذكر صفاته ، إجلالاً لاسمه تعالى و يقول : هؤلاء يتمندلون بالله عز و جل . و ينزل الكلام في هذا الباب تنزيله في باب ساب النبي صلى الله عليه و سلم على الوجوه التي فصلناها . و الله الموفق . فصل في حكم من سب سائر أنبياء الله تعالى و ملائكته و استخف بهم أو كذبهم و حكم من سب سائر أنبياء الله تعالى و ملائكته ، و استخف بهم أو كذبهم فيما أتوا به ، أو أنكرهم و جحدهم ، و حكم نبينا صلى الله عليه و سلم على مساق ما قدمناه ، قال الله تعالى : إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا [ سورة النساء / 4 ، الآيتان : 150 ، 151 ] . و قال تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 136 ] . و قال : كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله [ سورة البقرة / 2 ، الآية : 285 ] . قال مالك في كتاب ابن حبيب و محمد ، و قال ابن القاسم ، و ابن الماجشون و ابن عبد الحكم و أصبغ و سحنون فيمن شتم الأنبياء أو أحداً منهم أو تنقصه قتل و لم يستتب . و من سبهم من أهل الذمة قتل إلا أن يسلم . و روى سحنون عن ابن القاسم : من سب الأنبياء من اليهود أو النصارى بغير الوجه الذي بي كفر ضرب عنقه إلا أن يسلم . و قد تقدم الخلاف في هذا الأصل . و قال القاضي بقرطبة سعيد ابن سليمان في بعض أجوبته : من سب الله و ملائكته قتل . و قال سحنون : من شتم ملكاً من الملائكة فعليه القتل . و في النوادر عن مالك فيمن قال : إن جبريل أخطأ بالوحي ، و إنما كان النبي علي بن أبي طالب استتيب ، فإن تاب و إلا قتل . و نحوه عن سحنون [ 280 ] . و هذا قول الغرابية من الروافض ، سموا بذلك لقولهم : كان النبي صلى الله عليه و سلم أشبه بعلي من الغراب بالغراب . و قال أبو حنيفة و أصحابه على أصلهم : من كذب بأحد من الأنبياء ، أو تنقص أحداً منهم ، أو برىء منه فهو مرتد . و قال أبو الحسن القابسي في الذي قال لآخر ، كأنه وجه مالك القضبان ، لو عرف أنه قصد ذم الملك قتل . قال القاضي أبو الفضل : و هذا كله فيمن تكلم فيهم بما قلناه علىجملة الملائكة و النبيين ، أو على معين ممن حققنا كونه من الملائكة و النبيين ممن نص الله عليه في كتابه ،أو حققنا علمه بالخبر المتواتر ، و ال مشتهر المتفق عليه بالإجماع القاطع ، كجبريل ، و ميكائيل ، و مالك ، و خزنة الجنة ، و جهنم و الزبانيه ، و حملةالعرش المذكورين في القرآن من الملائكة ، و من سمي فيه من الأنبياء ، و كعزرائيل ، و إسرافيل ، و رضوان ، و الحفظة ، و منكر و نكير من الملائكة المتفق على قبول الخبر بهما ، فأما من لم تثبت الأخبار بتعينه ، و لا وقع الإجماع على كونه من الملائكة أو الأنبياء ، كهاروت و ماروت في الملائكة و الخضر ، و لقمان ، و ذي القرنين ، و مريم ، و آسية ، و خالد ابن سنان المذكور أنه نبي أهل الرس ، و زرادشت الذي يدعي المجوس المؤرخون نبوته ، فليس الحكم في سابهم و الكافر بهم كالحكم فيمن قدمناه إذ لم تثبت لهم تلك الحرمة ، و لكن يزجر من تنقصهم وآذاهم ، و يؤدب بقدر حال المقول فيهم ، لا سيما من عرفت صديقيته و فضله منهم ، و إن لم تثبت نبوته . و أما إنكار نبوتهم أو كون الآخر من الملائكة فإن كان المتكلم في ذلك من أهل العلم فلا حرج لا ختلاف العلماء في ذلك ، و إن كان من عوام الناس زجر عن الخوض في مثل هذا ، فإن عاد أدب ، إذ ليس لهم الكلام في مثل هذا . و قد كره السلف الكلام في مثل هذا مما ليس تحته عمل لأهل العل م ، فكيف للعامة . فصل في حكم من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء فيه ، أو سبهما اعلم أن من استخف بالقرآن أو الصحف أو بشيء منه ، أو سبهما ،أو جحده ، أو حرفاً منه أو آية أو كذب به أو بشيء منه ،أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر ، أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك ، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع ، قال الله تعالى : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ سورة فصلت /41 ، الآية : 42 ] . حدثنا الفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد رحمه الله ، حدثنا أبو علي ، حدثنا ابن عبد البر ، حدثنا ابن عبد المؤمن ، حدثنا ابن داسة ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : المراء في القرآن كفر ، تؤول بمعنى الشك و بمعنى الجدال و عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه و سلم من جحد آية من كتاب الله من المسلمين فقد حل ضرب عنقه و كذلك إن جحد التوراة و الإنجيل و كتب الله المنزلة ،أو كفر بها ، أو لعنها ، أو سبها ،أو استخف بها فهو كافر . و قد [281 ] أجمع المس لمون أن القرآن المتلو في جمبع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين ، مما جمعه الدفتان من أول الحمد لله رب العالمين إلى آخر : قل أعوذ برب الناس أنه كلام الله و وحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه و سلم ، و أن جميع ما فيه حق ، و أن من نقص منه حرفاً قاصداً لذلك ،أو بدله بحرف آخر مكانه ، أو زاد فيه حرفاً مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه ، و أجمع على انه ليس من القرآن عامداً لكل هذا أنه كافر . و لهذا رأى مالك قتل من سب عائشة رضي الله عنها بالفرية ، لأنه خالف القرآن ، و من خالف القرآن قتل ، لأنه كذب بما فيه . و قال ابن القاسم كان منا إن الله تعالى لم يكلم موسى تكليماً يقتل ، و قاله عبد الرحمن بن مهدي . و قال محمد بن سحنون فيمن قال : المعوذتان ليستا من كتاب الله يضرب عتقه إلا أن يتوب . و كذلك كل من كذب بحرف منه . قال : و كذلك إن شهد شاهد على من قال : إن الله لم يكلم موسى تكليماً ، و شهد آخر عليه أنه قال : إن الله ما اتخذ إبراهيم خليلاً ، لأنهما اجتمعا علىأنه كذب النبي صلى الله عليه و سلم . و قال أبو عثمان بن الحداد : جميع من ينت حل التوحيد متفقون أن الجحد لحرف من التنزيل كفر . و كان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل له ليس كما فرأت ، و يقول : أما أنا فأقرأ كذا ، فبلغ ذلك إبراهيم ، فقال : أراه سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله . و قال أصبغ بن الفرج كان من كذب ببعض القرآن فقد كذب به كله ، و من كذب به فقد كفر به و من كفر به فقد كفر با الله . و قد سئل القابسي عمن خاصم يهودياً فحلف له بالتوراة ، فقال الآخر لعن الله التوراة ، فشهد عليه بذلك شاهد ، ثم شهد آخر أنه سأله عن القضية فقال : إنما لعنت توراة اليهود ، فقال أبو الحسن : الشاهد الواحد لا يوجب القتل ، و الثاني علق الأمر بصفة تحتمل التأويل ، إذ لعله لا يرى اليهود متمسكين بشيء من عند الله لتبديلهم و تحريفهم . و لو اتفق الشاهدان على لعن التوراة مجرداً لضاق التأويل . و قد اتفق فقهاء بغداد على استتابه ابن شنبوذ المقريءأحد أئمة المقرئين المتصدرين بها مع ابن مجاهد ، لقراءته و إقرائه بشواذ من الحروف مما ليس في المصحف ، و عقدوا عليه بالرجوع عنه و التوبة عنه سجلا أشهد فيه بذلك على نفسه في مجلس الوزير أبي علي بن مقلة سنة ثلاث و عشرين و ثلاثمائة ، و ك ان فيمن أفتى عليه بذلك أبو بكر الأبهري و غيره . و أفتى أبو محمد بن أبي زيد بالأدب فيمن قال لصبي : لعن الله معلمك و ما علمك . قال : أردت سوء الأدب ، و لم أرد القرآن . قال أبو محمد : و أما من لعن المصحف فإنه يقتل . فصل في حكم ساب آل بيت النبي و سب آل بيته و أزواجه و أصحابه صلى الله عليه و سلم و تنقصهم حرام ملعون فاعله . حدثنا القاضي الشهيدأبو علي رحمه الله ، حدثنا أبو الحسين [ 282 ] الصيرفي و أبو الفضل العدل ، حدثنا أبو يعلى ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا ابن محبوب ، حدثنا الترمذي ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله ، الله في أصحابي ، قيل لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، و من أبغضهم فببغضي أبغضهم ، و من آذاهم فقد آذاني ، و من آذاني فقد آذى الله ، و من آذى الله يوشك أن يأخذه . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تسبوا أصحابي ، فمن سبهم فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً و لا عدلاً . و قال صلى الله عليه و سلم : لا تسبوا أصحابي ، فإنه يجيء قوم في آخر الزمان يسبون أصحابي فلا تصلوا عليهم ، و لا تصلوا معهم ، و لا تناكحوهم ، و لا تجالسوهم ، وإن مرضوا فلا تعودوهم . وعنه صلى الله عليه و سلم : من سب أصحابي فاضربوه . وقد أعلم النبي صلى الله عليه و سلم أن سبهم وأذاهم يؤذيه ، وأذى النبي صلى الله عليه و سلم حرام ، فقال : لا تؤذوني في أصحابي ، و من آذاهم فقد آذاني . و قال : لا تؤذوني في عائشة . و قال في فاطمة : بضعة مني يؤذيني ما آذاها . و قد اختلف العلماء في هذا ، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع ؟ قال مالك رحمه الله : من شتم النبي صلى الله عليه و سلم قتل ، ومن شتم أصحابه أدب . و قال أيضاً : من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : أبا بكر ، أو عمر ، أو عثمان ، أو معاوية ، أو عمرو بن العاص ، فإن قال : كانوا على ضلال وكفر قتل ، و إن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً . و قال ابن حبيب : من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان و البراءة منه أدب أدباً شديداً ، و من زاد إلى بعض أبي بكر و عمر فالعقوبة عليه أشد ، و يكرر ضربه ، و يطال سجنه حتى يموت ، و لا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه و سلم . و قال سحنون : من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : علياً ، أو عثمان ، أو غيرهما يوجع ضربا ً . وحكى أبو محمد بن أبي يزيد ، عن سحنون : من قال في أبي بكر و عمر و عثمان و علي : إنهم كانوا على ضلالة و كفر قتل . و من شتم غيرهم من الصحابة بمثل ذلك نكل النكال الشديد . وروي عن مالك : من سب أبا بكر جلد ، و من سب عائشة قتل . قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن . و قال ابن شعبان عنه : لأن الله يقول : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ، فمن عاد لمثله فقد كفر . وحكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر بن الطيب قال : إن الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه ، كقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه ... في آي كثيرة . و ذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم سبح نفسه في تبرئتها من السوء ، كما سبح نفسه في تبرئته من السوء . [283 ] و هذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة . و معنى هذا ، و الله أعلم ، أن الله ، لما عظم سبها كما عظم سبه ، و كن سبها سباً لنبيه ، و قرن سب نبيه و أذاه بأذاه تعالى ، و كان حكم مؤذيه تعالى القت ل كان مؤذي نبيه كذلك كما قدمناه . و شتم رجل عائشة بالكوفة ، فقدم إلى موسى بن عيسى العباسي ، فقال : من حضر هذا ؟ فقال ابن أبي ليلى : أنا ، فجلده ثمانين ، وحلق رأسه ، وأسلمه إلى الحجامين . [ وروي عن عمر بن الخطاب أنه نذر قطع لسان عبيد الله بن عمر ، إذ شتم المقداد بن الأسود ، فكلم في ذلك ، فقال : دعوني أقطع لسانه حتى لا يشتم أحد بعد أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ] . وروى أبو ذر الهروي أن عمر بن الخطاب أتي بأعرابي يهجو الأنصار ، فقال : لولا أن له صحبة لكفيتموه . قال مالك : من انتقص أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فليس له في هذا الفيء حق ، قد قسم الله الفيء في ثلاثة أنصاف ، فقال : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [ سورة الحشر/ 59 ، الآية : 8 ] . ثم قال : والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ سورة الحشر / 59 ، الآية : 9 ] . و هؤلاء هم الأنصار . ثم قال : والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [ سورة الحشر / 59 ، الآية : 10 ] . فمن تنقصهم فلا حق له في فيء المسلمين . و في كتاب ابن شعبان : من قال في واحد منهم إنه ابن زانية وأمه مسلمة حد عند بعض أصحابنا حدين : حداً له ، و حداً لأمه ، و لا أجعله كقاذف الجماعة في كلمة لفضل هذا على غيره ، و لقوله صلى الله عليه و سلم : من سب أصحابي فاجلدوه ، قال : و من قذف أم أحدهم و هي كافرة حد حد الفرية ، لأنه سب له ، فإن كان أحد من ولد هذا الصحابي حياً قام بما يجب له ، و إلا فمن قام به من المسلمين كان على الإمام قبول قيامه ، قال : و ليس هذا كحقوق غير الصحابة لحرمة هؤلاء بنبيهم صلى الله عليه و سلم ، و لو سمعه الإمام ، و أشهد عليه ، كان ولي القيام به ، قال : و من سب غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ففيها قولان : أحدهما : يقتل ، لأنه سب النبي صلى الله عليه و سلم بسب حليلته . و الآخر : أنها كسائر الصحابة ، يجلد حد المفتري ، ، قال : و بالأول أقول . و روى أبو مصعب ، عن مالك فيمن انتسب إلى بيت النبي صلى الله عليه و سلم يضرب ضرباً وجيعاً ، ويشهر ، ويحبس طويلاً حتى تظهر توبته ، لأنه استخفاف بحق الرسول صلى الله عليه و سلم . و أفتى أبو المطرف الشعبي فقيه مالقة في رجل أنكر تلحيف امرأة بالليل ، و قال : لو كانت بنت أبي بكر الصديق ما حلفت إلا بالنهار ، و صوب قوله بعض المتسمين بالفقه ، فقال أبو المطرف : ذكر هذا لابنة أبي بكر في مثل هذا يوجب عليه الضرب الشديد و السجن الطويل . و الفقيه الذي صوب قوله أحق باسم الفسق من اسم الفقه ، فيتقدم له في ذلك ، و يزجر ، و لا تقبل فتواه ولا شهادته ، و هي جرحة ثابتة فيه ، و يبغض في الله . [ و قال أبو عمران في رجل قال : لو شهد علي أبو بكر الصديق : أنه إن كان في مثل هذا لا يجوز فيه الشاهد الوحد ، فلا شيء عليه ، و إن كان أراد غير هذا فيضرب ضرباً يبلغ به حد الموت ] ، و ذكروها رواية . قال القاضي أبو الفضل : هنا انتهى القول بنا فيما حررناه [ 284 ] ، و انتجز الغرض الذي انتحيناه ، و استوفى الشرط الذي شرطناه ، مما أرجو أن يكون في كل قسم منه للمريد مقنع ، و في كل باب منهج إلى بغيته و منزع . و قد سفرت فيه عن نكت تستغرب و تستبدع ، و كرعت في مشارب من التحقيق لم يورد لها قبل في أكثر التصانيف مشرع ، و أودعته غير ما فصل ، وددت لو وجدت من بسط قبلي الكلام فيه ، أو مقتدى يفيدنيه عن كتاب أو فيه ، لأكتفي بما أرويه عما أرويه . و إلى الله تعالى جزيل الضراعة في المنة بقبول ما منه لوجهه ، و العفو عما تخلله من تزين و تصنع لغيره ، و أن يهب لنا ذلك بجميل كرمه و عفوه لما أو دعناه من شرف مصطفاه ، و أمين وحيه ، و أسهرنا به جفوننا لتتبع فضائله ، و أعملنا فيه خواطرنا من إبراز خصائصه و وسائله ، و يحمي أعراضنا عن ناره الموقدة لحمايتنا كريم عرضه ، و يجعلنا ممن لا يذاد إذا ذيد المبدل عن حوضه ، و يجعله لنا و لمن تهمم باكتتابه و اكتسابه سبباً يصلنا بأسببابه ، و ذخيرة نجدها يوم تجد كل نفس ما عملت من خير و حضراً نحوز بها رضاه ، و جزيل ثوابه ، و يخصنا بخصيصي زمرة نبينا وجماعته ، و يحشرنا في الرعيل الأول و أهل الباب الأيمن من أهل شفاعته ، و نحمده تعالى على ما هدى إليه من جمعه و ألهم ، و فتح البصيرة لدرك حقائق ما أودعناه و فهم ، و نستعيذه جل اسمه من دعاء لا يسمع ، و علم لا ينفع ، و عمل لا يرفع ، فهم الجواد الذي لا يخيب من أمله ، ولا ينتصر من خذله ، و لا يرد دعوة القاصدين ، و لا يصلح عمل المفسدين ، و هو حسبنا و نعم الوكيل ، و صلاته على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلم تسليماً كثيراً . تم بحمد الله وتوفيقه كتاب الشفاء بتعريف حقوق المصطفى للقاضى عياض رضى الله عنه نسالكم الدعاء احبتى الكرام |
مواقع النشر (المفضلة) |
كاتب الموضوع | حسن الخليفه احمد | مشاركات | 51 | المشاهدات | 13509 | | | | انشر الموضوع |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|