القبول يا رب - شباب الطريقة الختمية بدائرة ود ابراهيم بأم بدة
مجموعة مدائح ختمية.. شباب الطريقة الختمية بمسجد السيد علي الميرغني ببحري
|
مكتبة الميرغني الإليكترونية خاصة بجميع مؤلفات السادة المراغنة |
إهداءات ^^^ ترحيب ^^^ تهاني ^^^ تعازي ^^^ تعليقات ^^^ إعلانات | |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
12-06-2012, 03:16 PM | #41 | |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الأصل الرابع: من الاصول الموهومة الاستصلاح وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة، ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها فنقول: المصلحة بالاضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع لاعتبارها، وقسم شهد لبطلانها، وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها. أما ما شهد الشرع لاعتبارها: فهي حجة، ويرجع حاصلها إلى القياس، وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع، وسنقيم الدليل عليه في القطب الرابع، فإنه نظر في كيفية استثمار الاحكام من الاصول المثمرة، ومثاله حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم، قياسا على الخمر، لانها حرمت، لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف، فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة.
القسم الثاني: ما شهد الشرع لبطلانها مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان: إن عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال: لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته، فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به، فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الاحوال، ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي. القسم الثالث: ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر، فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر وهو: أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات، وإلى ما هي في رتبة الحاجات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات، والتزيينات، وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات، ويتعلق بأذيال كل قسم من الاقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها، ولنفهم أولا معنى المصلحة ثم أمثلة مراتبها: أما المصلحة: فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الاصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الاصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة، وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس، وهذه الاصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص أدبه حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسل والانساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق، إذ به يحصل حفظ الاموال التي هي معاش الخلق، وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الاصول الخمسة، والزجر عنها يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتال والزنا والسرقة وشرب المسكر، أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة فكقولنا: المماثلة مرعية في استيفاء القصاص، لانه مشروع للزجر والتشفي، ولا يحصل ذلك إلا بالمثل، وكقولنا: القليل من الخمر، إنما حرم لانه يدعو إلى الكثير، فيقاس عليه النبيذ، فهذا دون الأول، ولذلك اختلفت فيه الشرائع. ما تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة لان السكر يسد باب التكليف والتعبد الرتبة الثانية: ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات، كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير، فذلك لا ضرورة إليه، لكنه محتاج إليه في اقتناء المصالح، وتقييد الاكفاء خيفة من الفوات، واستغناما للصلاح المنتظر في المآل، وليس هذا كتسليط الولي على تربيته وإرضاعه، وشراء الملبوس والمطعوم لاجله، فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها اختلاف الشرائع المطلوب بها مصالح الخلق، أما النكاح في حال الصغر فلا يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل، بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة باشتباك العشائر والتظاهر بالاصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها، أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا: لا تزوج الصغيرة إلا من كفؤ، وبمهر مثل فإنه أيضا مناسب، ولكنه دون أصل الحاجة إلى النكاح، ولهذا اختلف العلماء فيه. الرتبة الثالثة: ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد، ورعاية أحسن المنا هج في العادات والمعاملات، مثاله: سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته، من حيث أن العبد نازل القدر والرتبة، ضعيف الحال والمنزلة باستسخار المالك إياه، فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة، أما سلب ولايته فهو من مرتبة الحاجات، لان ذلك مناسب للمصلحة إذ ولاية الاطفال تستدعي استغراقا وفراغا، والعبد مستغرق بالخدمة، فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل، أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى، ولكن قول القائل سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقوله سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه، فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا، وهذا لا ينفك عن الانتظام، لو صرح به الشرع ولكن تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى، بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه والمناسب قد يكون منقوصا، فيترك أو يحترز عنه بعذر أو تقييد، كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور رأيها في انتقاء الازواج وسرعة الاغترار بالظواهر، لكان واقعا في الرتبة الثانية، ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها، وفي نكاح الكفؤ فهو في الرتبة الثالثة، لان الأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد، لان ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال، ولا يليق ذلك بالمروءة، ففوض الشرع ذلك إلى الولي، حملا للخلق على أحسن المناهج، وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله بالاثبات عند النزاع، لكان من قبيل الحاجات، ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى، فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالاعلان والاظهار عند من له رتبة ومنزلة على الجملة، فليلحق برتبة التحسينات، فإذا عرفت هذه الاقسام فنقول الواقع في الرتبتين الاخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل، إلا أنه يجري مجرى وضع الضرورات، فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد الشرع بالرأي فهو كالاستحسان، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس، وسيأتي، أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد له أصل معين، ومثاله: إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الاسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا، وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الاسارى أيضا، فيجوز أن يقول قائل: هذا الاسير مقتول بكل حال، فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع، لانا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل، كما يقصد حسم سبيله عند الامكان، فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل، وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع، لا بدليل واحد وأصل معين، بل بأدلة خارجة عن الحصر، لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية، وليس في معناها، ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة، فينا غنية عن القلعة، فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها، لانها ليست قطعية، بل ظنية، وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم، لانها ليست كلية، إذ يحصل بها هلاك عدد محصور، وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين، ولانه ليس يتعين واحد للاغراق، إلا أن يتعين بالقرعة، ولا أصل لها، وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا، فلا رخصة فيه لان المصلحة ليست كلية، وليس في معناها قطع اليد للاكلة حفظا للروح، فإنه تنقدح الرخصة فيه، لانه إضرار به لمصلحته، وقد شهد الشرع للاضرار بشخص في قصد صلاحه، كالفصد والحجامة وغيرهما، وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام، فهو كقطع اليد، لكن ربما يكون القطع سببا ظاهرا في الهلاك، فيمنع منه لانه ليس فيه يقين الخلاص، فلا تكون المصحلة قطعية، فإن قيل: فالضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة مصلحة فهل تقولون بها؟ قلنا: قد قال بها مالك رحمه الله، ولا نقول به، لا لابطال النظر إلى جنس المصلحة لكن، لان هذه مصلحة تعارضها أخرى، وهي مصلحة المضروب، فإنه ربما يكون بريئا من الذنب، وترك الضرب في مذنب أهون من ضرب برئ، فإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الاموال، ففي الضرب فتح باب إلى تعذيب البرئ، فإن قيل: فالزنديق المتستر إذا تاب فالمصلحة في قتله وأن لا تقبل توبته وقد قال صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فماذا ترون؟ قلنا: هذه المسألة في محل الاجتهاد، ولا يبعد قتله، إذ وجب بالزندقة قتله، وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود والنصارى، لانهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة، والزنديق يرى التقية عين الزندقة، فهذا لو قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم، وذلك لا ينكره أحد، فإن قيل: رب ساع في الارض بالفساد بالدعوة إلى البدعة أو بإغراء الظلمة بأموال الناس وحرمهم وسفك دمائهم بإثارة الفتنة والمصلحة قتله لكف شره، فما ذا ترون فيه؟ قلنا: إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا يسفك دمه، إذ في تخليد الحبس عليه كفاية شره، فلا حاجة إلى القتل، فلا تكون هذه المصلحة ضرورية، فإن قيل: إذا كان الزمان زمان فتنة ولم يقدر على تخليد الحبس فيه مع تبدل الولايات على قرب، فليس في إبقائه وحبسه إلا إيغار صدره وتحريك داعيته، ليزداد في الفساد والاغراء جدا عند الافلات، قلنا: هذا الآن رجم بالظن، وحكم بالوهم، فربما لا يفلت ولا تتبدل الولاية والقتل بتوهم المصلحة لا سبيل إليه، فإن قيل: فإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع بتسلطهم على استئصال الاسلام لو لم يقصد، الترس، بل يدرك ذلك بغلبة الظن، قلنا: لا جرم ذكر العراقيون في المذهب وجهين في تلك المسألة، وعللوا بأن ذلك مظنون. ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع، والظن القريب من القطع إذا صار كليا وعظم الخطر فيه، فتحتقر الاشخاص الجزئية بالاضافة إليه، فإن قيل إن في توقفنا عن الساعي في الارض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك، وغلب ذلك على الظن بما عرف من طبيعته وعادته المجربة طول عمره، قلنا: لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا كان كذلك، بل هو أولى من الترس، فإنه لم يذنب ذنبا، وهذا قد ظهرت منه جرائم توجب العقوبة وإن لم توجب القتل وكأنه التحق بالحيوانات الضارية لما عرف من طبيعته وسجيته، فإن قيل: كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة، وفي مسألة الترس، وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان، وهذا يخالف قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} (النساء: 39) وقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} (الانعام: 151) وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر، فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها الملوك، فإذا غاية الامر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الاسلام، فما بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين، ونخالف النص في قتل النفس التي حرم الله تعالى؟ قلنا: لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد المنع من ذلك، ويتأيد بمثله السفينة، وأنه يلزم منه قتل ثلث الامة لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة، إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد محصور كعشرة مثلا وتترس بمسلم، فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع، بل حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل، أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد، وإنما نشأ هذا من الكثرة، ومن كونه كليا، لكن للكلي الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد، وكذلك لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح، ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل، ولا خلاف، أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم وإن كان التحريم عاما، لكن تخصصه بغير هذه الصورة، فكذلك ههنا التخصيص ممكن، وقول القائل هذا سفك دم محرم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي، فإن حفظ أهل الاسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد، فهذا مقطوع به من مقصود الشرع، والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل، فإن قيل: فتوظيف الخراج من المصالح، فهل إليه سبيل أم لا؟ قلنا: لا سبيل إليه مع كثرة الاموال في أيدي الجنود، أما إذا خلت الايدي من الاموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الاسلام، أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامنة في بلاد الاسلام، فيجوز للامام أن يوظف على الاغنياء مقدار كفاية الجند، ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالاراضي فلا حرج، لانا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين وما يؤديه كل واحد منهم قليل، بالاضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الاسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الامور، ويقطع مادة الشرور، وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة، فإن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الادوية، وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه، وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة الترس لكن هذا تصرف في الاموال، والاموال مبتذلة، يجوز ابتذالها في الاغراض التي هي أهم منها، وإنما لمحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك، فإن قيل: فبأي طريق بلغ الصحابة حد الشرب إلى ثمانين، فإن كان حد الشرب مقدرا، فكيف زادوا بالمصلحة، وإن لم يكون مقدرا وكان تعزيرا فلم افتقروا إلى الشبه بحد القذف؟ قلنا: الصحيح أنه لم يكن مقدرا، لكن ضرب الشارب في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعال وأطراف الثياب، فقد ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين، فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا، والتعزيرات مفوضة إلى رأي الائمة، فكأنه ثبت الإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة وقيل لهم، اعملوا بما رأيتموه أصوب، بعد أن صدرت الجناية الموجبة للعقوبة، ومع هذا، فلم يريدوا الزيادة على تعزير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع، فرأوا الشرب مظنة القذف، لان من سكر هذى ومن هذى افترى، ورأوا الشرع يقيم مظنة الشئ مقام نفس الشئ، كما أقام النوم مقام الحدث وأقام الوطئ مقام شغل الرحم، والبلوغ مقام نفس العقل، لان هذه الاسباب مظان هذه المعاني، فليس ما ذكروه مخالفة للنص بالمصلحة أصلا، فإن قيل: فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالاشخاص، مثل المفقود زوجها إذا اندرس خبر موته وحياته وقد انتظرت سنين وتضررت بالعزوبة أيفسخ نكاحها للمصلحة أم لا؟ وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين أحدهما سابق واستبهم الامر ووقع اليأس عن البيان بقيت المرأة محبوسة طول العمر عن الازواج ومحرمة على زوجها المالك لها في علم الله تعالى؟ وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها عشر سنين وتعوقت عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح هل يجوز لها الاعتداد بالاشهر أو تكتفي بتربص أربع سنين؟ وكل ذلك مصلحة ودفع ضرر، ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود شرعا؟ قلنا: المسألتان الأوليان مختلف فيهما، فهما في محل الاجتهاد، فقد قال عمر: تنكح زوجة المفقود بعد أربع سنين من انقطاع الخبر، وبه قال الشافعي في القديم، وقال في الجديد، تصبر إلى قيام البينة على موته أو انقضاء مدة يعلم أنه لا يعيش إليها، لانا إن حكمنا بموته بغير بينة فهو بعيد إذ لا تدارس الاخبار أسباب سوى الموت، لا سيما في الخامل الذكر النازل القدر، وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس على منصوص، والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من أعسار وجب وعنة، فإذا كانت النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطئ، وذلك في الحضرة لا يؤثر، فكذلك في الغيبة، فإن قيل: سبب الفسخ دفع الضرر عنها ورعاية جانبها، فيعارضه أن رعاية جانبه أيضا مهم ودفع الضرر عنه واجب، وفي تسليم زوجته إلى غيره في غيبته، ولعله محبوس أو مريض معذور إضرار به، فقد تقابل الضرران، وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن، فليس تصفو هذه المصلحة عن معارض، وكذلك اختلف قول الشافعي في مسألة الوليين، ولو قيل بالفسخ من حيث تعذر إمضاء العقد فليس ذلك حكما بمجرد مصلحة، لا يعتضد بأصل معين، بل تشهد له الاصول المعينة، أما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي، ولم يبلغنا خلاف عن العلماء، وقد أوجب الله تعالى التربص بالاقراء إلا على اللائي يئسن من المحيض، وليست هذه من الآيسات، ما من لحظة إلا ويتوقع فيها هجوم الحيض وهي شابة، فمثل هذا القدر النادر لا يسلطنا على تخصيص النص، فإنا لم نر الشرع يلتفت إلى النوادر في أكثر الاحوال، وكان لا يبعد عندي لو اكتفي بأقصى مدة الحمل وهو أربع سنين، لكن لما أوجبت العدة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب التعبد فإن قيل: فقد ملتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الاصول الموهومة، فليلحق هذا بالاصول الصحيحة ليصير أصلا خامسا بعد الكتاب والسنة والإجماع والعقل، قلنا: هذا من الاصول الموهومة، إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ، لانا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع، فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود، فهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة مطرحة، ومن صار إليها فقد شرع، كما أن من استحسن فقد شرع، وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجا من هذه الاصول، لكنه لا يسمى قياسا، بل مصلحة مرسلة، إذ القياس أصل معين، وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الاحوال وتفاريق الامارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة، وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع، فلا وجه للخلاف في اتباعها، بل يجب القطع بكونها حجة، وحيث ذكرنا خلافا فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين، وعند ذلك يجب ترجيح الاقوى، ولذلك قطعنا بكون الاكراه مبيحا لكلمة الردة، وشرب الخمر، وأكل مال الغير، وترك الصوم والصلاة، لان الحذر من سفك الدم أشد من هذه الامور، ولا يباح به الزنا، لانه مثل محذور الاكراه، فإذا منشأ الخلاف في مسألة الترس الترجيح، إذ الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة السفينة، ورجح الكل على الجزء في قطع اليد المتأكلة، وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة الترس؟ فيه خلاف ولذلك يمكن إظهار هذه المصالح في صيغة البرهان، إذ تقول في مسألة الترس مخالفة مقصود الشرع حرام وفي الكف عن قتال الكفار، مخالفة لمقصود الشرع. فإن قيل: لا ننكر أن مخالفة مقصود الشرع حرام، ولكن لا نسلم أن هذه مخالفة؟ قلنا: قهر الكفار واستعلاء الاسلام مقصود، وفي هذا استئصال الاسلام واستعلاء الكفر، فإن قيل: فالكف عن المسلم الذي لم يذنب مقصود، وفي هذا مخالفة المقصود؟ قلنا: هذا مقصود، وقد اضطررنا إلى مخالفة أحد المقصودين، ولا بد من الترجيح، والجزئي محتقر بالاضافة إلى الكلي، وهذا جزئي بالاضافة، فلا يعارض بالكلي، فإن قيل: مسلم أن هذا جزئي، ولكن لا يسلم أن الجزئي محتقر بالاضافة إلى الكلي، فاحتقار الشرع له يعرف بنص أو قياس على منصوص؟ قلنا: قد عرفنا ذلك لا بنص واحد معين، بل بتفاريق أحكام واقتران دلالات، لم يبق معها شك في أن حفظ خطة الاسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار، وسيعود الكفار عليه بالقتل، فهذا مما لا يشك فيه، كما أبحنا أكل مال الغير بالاكراه، لعلمنا بأن المال حقير في ميزان الشرع بالاضافة إلى الدم وعرف ذلك بأدلة كثيرة، فإن قيل: فهلا فهمتم أن حفظ الكثير أهم من حفظ القليل في مسألة السفينة وفي الاكراه وفي المخمصة؟ قلنا، لم نفهم ذلك، إذ أجمعت الامة على أنه لو أكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله، وأنه لا يحل لمسلمين أكل مسلم في المخمصة، فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة، أما ترجيح الكلي فمعلوم إما على القطع وإما بظن قريب من القطع يجب اتباع مثله في الشرع، ولم يرد نص على خلافه، بخلاف الكثرة، إذ الإجماع في الاكراه وفي المخمصة منع منه فبهذه الشروط التي ذكرناها يجوز اتباع المصالح، وتبين أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه، بل من استصلح فقد شرع، كما أن من استحسن فقد شرع، وتبين به أن الاستصلاح على ما ذكرنا، وهذا تمام الكلام في القطب الثاني من الاصول. |
|
|
12-06-2012, 03:17 PM | #42 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
القطب الثالث في كيفية استثمار الاحكام من مثمرات الاصول
ويشتمل هذا القطب على صدر ومقدمة وثلاثة فنون: صدر القطب الثالث: اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الاصول: لان ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الاحكام من أصولها واجتنائها من أغصانها إذ نفس الاحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها، والاصول الاربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها، وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه استعمال الفكر في استنباط الاحكام واقتباسها من مداركها، والمدارك هي الأدلة السمعية، ومرجعها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ منه يسمع الكتاب أيضا، وبه يعرف الإجماع والصادر منه من مدارك الاحكام ثلاثة، إما لفظ، وإما فعل، وإما سكوت وتقرير، ونرى أن نؤخر الكلام في الفعل والسكوت، لان الكلام فيهما أوجز. واللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه، أو بفحواه ومفهومه، أو بمعناه ومعقوله، وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا، فهذه ثلاثة فنون: المنظوم والمفهوم، والمعقول. الفن الأول: في المنظوم وكيفية الاستدلال بالصيغة من حيث اللغة والوضع ويشتمل هذا الفن على مقدمة وأربعة أقسام: القسم الأول: في المجمل والمبين، القسم الثاني: في الظاهر والمؤول، القسم الثالث: في الامر والنهي، القسم الرابع: في العام والخاص، فهذا صدر هذا القطب. أما المقدمة فتشتمل على سبعة فصول: الفصل الأول: في مبدأ اللغات أنه اصطلاح أم توقيف. الفصل الثاني: في أن اللغة هل تثبت قياسا. الفصل الثالث: في الاسماء العرفية. الفصل الرابع: في الاسماء الشرعية. الفصل الخامس: في اللفظ المفيد وغير المفيد. الفصل السادس: في طريق فهم المراد من الخطاب على الجملة. الفصل السابع: في المجاز والحقيقة. الفصل الأول: في مبدأ اللغات وقد ذهب قوم إلى أنها اصطلاحية، إذ كيف تكون توقيفا ولا يفهم التوقيف إذا لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب باصطلاح سابق، وقال قوم: إنها توقيفية، إذ الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع، ولا يكون ذلك إلا بلفظ معروف قبل الاجتماع للاصطلاح، وقال قوم: القدر الذي يحصل به التنبيه والبعث على الاصطلاح يكون بالتوقيف، وما بعده يكون بالاصطلاح، والمختار: أن النظر في هذا إما أن يقع في الجواز أو في الوقوع. أما الجواز العقلي: فشامل للمذاهب الثلاثة، والكل في حيز الامكان. أما التوقيف: فبأن يخلق الاصوات والحروف، بحيث يسمعها واحد أو جمع، ويخلق لهم العلم بأنها قصدت للدلالة على المسميات، والقدرة الازلية لا تقصر عن ذلك. وأما الاصطلاح: فبأن يجمع الله دواعي جمع من العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم، من تعريف الامور الغائبة التي لا يمكن الانسان أن يصل إليها فيبتدئ واحد ويتبعه الآخر حتى يتم الاصطلاح، بل العاقل الواحد ربما ينقدح له وجه الحاجة، وإمكان التعريف بتأليف الحروف، فيتولى الوضع ثم يعرف الآخرين بالاشارة والتكرير معها للفظ مرة بعد أخرى، كما يفعل الوالدان بالولد الصغير، وكما يعرف الاخرس ما في ضميره بالاشارة، وإذا أمكن كل واحد من القسمين أمكن التركيب منهما جميعا، أما الواقع من هذه الاقسام فلا مطمع في معرفته يقينا إلا ببرهان عقلي، أو بتواتر خبر أو سمع قاطع، ولا مجال لبرها العقل في هذا، ولم ينقل تواتر ولا فيه سمع قاطع، فلا يبقى إلا رجم الظن في أمر لا يرتبط به تعبد عملي، ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة، فالخوض فيه إذا فصول لا أصل له، فإن قيل: قال الله تعالى: {وعلم آدم الاسماء كلها} (البقرة: 13) وهذا يدل على أنه كان بوحي وتوقيف، فيدل على الوقوع وإن لم يدل على استحالة خلافه؟ قلنا: وليس ذلك دليلا قاطعا على الوقوع أيضا، إذ يتطرق إليه أربعة احتمالات: أحدها: أنه ربما ألهمه الله تعالى الحاجة إلى الوضع، فوضع بتدبيره وفكره، ونسب ذلك إلى تعليم الله تعالى، لانه الهادي والملهم، ومحرك الداعية، كما تنسب جميع أفعالنا إلى الله تعالى. الثاني: أن الاسماء ربما كانت موضوعة باصطلاح من خلق الله تعالى قبل آدم من الجن، أو فريق من الملائكة، فعلمه الله تعالى ما تواضع عليه غيره. الثالث: أن الاسماء صيغة عموم، فلعله أراد به أسماء السماء والارض، وما في الجنة والنار، دون الاسامي التي حدثت مسمياتها بعد آدم عليه السلام من الحرف والصناعات والآلات وتخصيص قوله تعالى كلها كتخصيص قوله تعالى: {وأوتيت من كل شئ} (النمل: 32) وقوله تعالى: {تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} (الاحقاف: 52) وهو على كل شى قدير إذ يخرج عنه ذاته وصفاته. الرابع: أنه ربما علمه ثم نسيه أو لم يعلم غيره ثم اصطلح بعده أولاده على هذه اللغات المعهودة الآن والغالب أن أكثرها حادثة بعده. الفصل الثاني في أن الاسماء اللغوية هل تثبت قاسا وقد اختلفوا فيه: فقال بعضهم: سموا الخمر من العنب خمرا لانها تخمر العقل، فيسمى النبيذ خمرا لتحقق ذلك المعنى فيه، قياسا عليه، حتى يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: حرمت الخمر لعينها وسمي الزاني زانيا لانه مولج فرجه في فرج محرم، فيقاس عليه اللائط في إثبات اسم الزاني، حتى يدخل في عموم قوله تعالى: {(24) الزانية والزاني} (النور: 2) وسمي السارق سارقا، لانه أخذ مال الغير في خفية، وهذه العلة موجودة في النباش، فيثبت له اسم السارق قياسا، حتى يدخل تحت عموم قوله تعالى: {والسارق والسارقة} (المائدة: 83) وهذا غير مرضي عندنا، لان العرب إن عرفتنا بتوقيفها أنا وضعنا الاسم للمسكر: المعتصر من العنب خاصة، فوضعه لغيره، تقول عليهم واختراع، فلا يكون لغتهم، بل يكون وضعا من جهتنا، وإن عرفتنا أنها وضعته لكل ما يخامر العقل أو يخمره فكيفما كان قاسم الخمر ثابت للنبيذ بتوقيفهم لا بقياسنا، كما أنهم عرفونا أن كل مصدر فله فاعل، فإذا سمينا فاعل الضرب ضاربا كان ذلك عن توقيف لا عن قياس، وإن سكتوا عن الامرين احتمل أن يكون الخمر اسم ما يعتصر من العنب خاصة واحتمل غيره، فلم نتهكم عليهم ونقول: لغتهم هذا، وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعاني ويخصصونها بالمحل، كما يسمون الفرس أدهم لسواده كميتا لحمرته، والثوب المتلون بذلك اللون، بل الآدمي المتلون بالسواد لا يسمونه بذلك الاسم، لانهم ما وضعوا الادهم والكميت للاسود والاحمر، بل لفرس أسود وأحمر، وكما سموا الزجاج الذي تقر فيه المائعات قارورة أخذا من القرار، ولا يسمون الكوز والحوض قارورة وإن قر الماء فيه، فإذا: كل ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم بالتوقيف فلا سبيل إلى إثباته ووضعه بالقياس، وقد أطنبنا في شرح هذه المسألة في كتاب أساس القياس فثبت بهذا أن اللغة وضع كلها وتوقيف ليس فيها قياس أصلا. الفصل الثالث في الاسماء العرفية اعلم أن الاسماء اللغوية تنقسم إلى وضعية وعرفية، والاسم يسمى عرفيا باعتبارين: أحدهما: أن يوضع الاسم لمعنى عام، ثم يخصص عرف الاستعمال من أهل اللغة، ذلك الاسم ببعض مسمياته، كاختصاص اسم الدابة بذوات الاربع، مع أن الوضع لكل ما يدب، واختصاص اسم المتكلم بالعالم بعلم الكلام، مع أن كل قائل ومتلفظ متكلم، وكاختصاص اسم الفقيه والمتعلم وببعض العلماء وبعض المتعلمين، مع أن الوضع عام، قال الله تعالى: {وعلم آدم الاسماء كلها} (البقرة: 13)، وقال تعالى: {خلق الانسان ئ علمه البيان} (الرحمن: 3 - 4) وقال عزوجل: {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} (النساء: 87). الاعتبار الثاني: أن يصير الاسم شائعا في غير ما وضع له أولا، بل فيما هو مجاز فيه، كالغائط المطمئن من الارض، والعذرة البناء الذي يستتر به، وتقضى الحاجة من ورائه، فصار أصل الوضع منسيا، والمجاز معروفا سابقا إلى الفهم بعرف الاستعمال، وذلك بالوضع الأول، فالاسامي اللغوية، إما وضعية، وإما عرفية، أما ما انفرد المحترفون وأرباب الصناعات بوضعه لادواتهم، فلا يجوز أن يسمى عرفيا، لان مبادئ اللغات والوضع الأصلي كلها كانت كذلك، فيلزم أن يكون جميع الاسامي اللغوية عرفية. الفصل الرابع في الاسماء الشرعية قالت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء: الاسماء لغوية، ودينية، وشرعية، أما اللغوية فظاهرة، وأما الدينية فما نقلته الشريعة إلى أصل الدين، كلفظ الايمان والكفر والفسق، وأما الشرعية فكالصلاة والصوم والحج والزكاة، واستدل القاضي على إفساد مذهبهم بمسلكين: الأول: أن هذه الالفاظ يشتمل عليها القرآن، والقرآن نزل بلغة العرب، قال الله تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا} (يوسف: 2)، {بلسان عربي مبين} {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} (إبراهيم: 4) ولو قال: أطعموا العلماء: وأراد الفقراء لم يكن هذا بلسانهم، وإن كان اللفظ المنقول عربيا، فكذلك إذا نقل اللفظ عن موضوعه إلى غير موضوعه، أو جعل عبارة عن بعض موضوعه، أو متناولا لموضوعه وغير موضوعه، فكل ذلك ليس من لسان العرب. الثاني: أن الشارع لو فعل ذلك للزمه تعريف الامة بالتوقيف نقل تلك الاسامي، فإنه إذا خاطبهم بلغتهم لم يفهموا إلا موضوعها، ولو ورد فيه توقيف لكان متواترا، فإن الحجة لا تقوم بالآحاد، احتجوا بقوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (البقرة: 341) وأراد به الصلاة نحو بيت المقدس، وقال صلى الله عليه وسلم: نهيت عن قتل المصلين وأراد به المؤمنين، وهو خلاف اللغة، قلنا: أراد بالايمان التصديق بالصلاة والقبلة، وأراد بالمصلين المصدقين بالصلاة، وسمي التصديق بالصلاة صلاة على سبيل التجوز، وعادة العرب تسمية الشئ بما يتعلق به نوعا من التعلق والتجوز منفس اللغة، احتجوا بقوله: الايمان بضع وسبعون بابا، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الاذى عن الطريق وتسمية الاماطة إيمانا خلاف الوضع، قلنا: هذا من أخبار الآحاد، فلا يثبت به مثل هذه القاعدة، وإن ثبتت فهي دلالة الايمان، فيتجوز بتسميته أيمانا، احتجوا بأن الشرع وضع عبادات لم تكن معهودة، فافتقرت إلى أسام، وكان استعارتها من اللغة أقرب من نقلها من لغة أخرى أو إبداع أسام لها، قلنا: لا نسلم أنه حدث في الشريعة عبادة لم يكن لها اسم في اللغة، فإن قيل: فالصلاة في اللغة ليست عبارة عن الركوع والسجود، ولا الحج عبارة عن الطواف والسعي، قلنا: عنه جوابان: الأول: أنه ليست الصلاة في الشرع أيضا عبارة عنه بل الصلاة عبارة عن الدعاء كما في اللغة، والحج عبارة عن القصد، والصوم عبارة عن الامساك، والزكاة عبارة عن النمو، لكن الشرع شرط في أجزاء هذه الامور أمورا أخر تنضم إليها، فشرط في الاعتداد بالدعاء الواجب انضمام الركوع والسجود إليه، وفي قصد البيت أن ينضم إليه الوقوف والطواف والاسم غير متناول له، لكنه شرط الاعتداد، بما ينطلق عليه الاسم، فالشرع تصرف بوضع الشرط لا بتغيير الوضع. الثاني: أنه يمكن أن يقال: سميت جميع الافعال صلاة لكونها متبعا بها فعل الامام، فإن التالي للسابق في الخيل يسمى مصليا لكونه متبعا، هذا كلام القاضي رحمه الله، والمختار عندنا أنه لا سبيل إلى إنكار تصرف الشرع في هذه الاسامي، ولا سبيل إلى دعوى كونها منقولة عن اللغة بالكلية، كما ظنه قوم، ولكن عرف اللغة تصرف في الاسامي من وجهين: أحدهما: التخصيص ببعض المسميات، كما في الدابة، فتصرف الشرع في الحج والصوم والايمان من هذا الجنس إذ للشرع عرف في الاستعمال كما للعرب. والثاني: في إطلاقهم الاسم على ما يتعلق به الشئ ويتصل به، كتسميتهم الخمر محرمة، والمحرم شربها، والام محرمة والمحرم وطؤها، فتصرفه في الصلاة كذلك، لان الركوع والسجود شرطه الشرع في تمام الصلاة، فشمله الاسم بعرف استعمال الشرع إذ إنكار كون الركوع والسجود ركن الصلاة، ومن نفسها بعيد، فتسليم هذا القدر من التصرف بتعارف الاستعمال للشرع أهون من إخراج السجود والركوع من نفس الصلاة، وهو كالمهم المحتاج إليه، إذ ما يصوره الشرع من العبادات ينبغي أن يكون لها أسام معروفة، ولا يوجد ذلك في اللغة إلا بنوع تصرف فيه، وأما ما استدل به من أن القرآن عربي، فهذا لا يخرج هذه الاسامي عن أن تكون عربية، ولا يسلب اسم العربي عن القرآن، فإنه لو اشتمل على مثل هذه الكلمات بالعجمية لكان لا يخرجه عن كونه عربيا أيضا، كما ذكرناه، في القطب الأول من الكتاب. وأما قوله: إنه كان يجب عليه التوقيف على تصرفه، فهذا أيضا، إنما يجب إذا لم يفهم مقصوده من هذه الالفاظ بالتكرير والقرائن مرة بعد أخرى، فإذا فهم هذا فقد حصل الغرض فهذا أقرب عندنا بما ذكره القاضي رحمه الله. الفصل الخامس في الكلام المفيد اعلم أن الامور منقسمة إلى ما يدل على غيره وإلى ما لا يدل، فأما ما يدل فينقسم إلى ما يدل بذاته، وهو الأدلة العقلية وقد ذكرنا مجامع أقسامها في مدارك العقول من مقدمة الكتاب، وإلى ما يدل بالوضع، وهو ينقسم إلى صوت وغير صوت، كالاشارة والرمز، والصوت ينقسم في دلالته إلى مفيد وغير مفيد، والمفيد كقولك: زيد قائم، وزيد خرج راكبا، وغير المفيد كقولك: زيد لا وعمرو في، فإن هذا لا يحصل منه معنى، وإن كان آحاد كلماته موضوعة للدلالة، وقد اختلف في تسمية هذا كلاما، فمنهم من قال: هو كمقلوب رجل وزيد لجر وديز، فإن هذا لا يسمى كلاما، ومنهم من سماه كلاما، لان آحاده وضعت للافادة. واعلم أن المفيد من الكلام ثلاثة أقسام: اسم، وفعل، وحرف، كما في علم النحو، وهذا لا يكون مفيدا حتى يشتمل على اسمين أسند أحدهما إلى الآخر، نحو: زيد أخوك، والله ربك، أو اسم أسند إلى فعل، نحو قولك: ضرب زيد وقام عمرو، وأما الاسم والحرف كقولك: زيد من وعمرو في فلا يفيد حتى تقول من مضر وفي الدار، وكذلك قولك: ضرب قام لا يفيد إذ لم يتخلله اسم، وكذلك قولك: من في قد على. واعلم أن المركب من الاسم والفعل والحرف تركيبا مفيدا ينقسم إلى مستقل بالافادة من كل وجه، وإلى ما لا يستقل بالافادة إلا بقرينة، وإلى ما يستقل بالافادة من وجه دون وجه، مثال الأول قوله تعالى: {ذلك} (الاسراء: 23)، {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء: 92) وذلك يسمى نصا لظهوره، والنص في السير هو الظهور فيه، ومنه منصة العروس للكرسي الذي تظهر عليه، والنص ضربان ضرب هو نص بلفظه ومنظومه، كما ذكرناه، وضرب هو نص بفحواه ومفهومه، نحو قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (الاسراء: 32} (ولا تظلمون فتيلا} (النساء: 77} (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} (الزلزلة: 7} (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} (آل عمران: 57). فقد اتفق أهل اللغة على أن فهم ما فوق التأفيف من الضرب والشتم وما وراء الفتيل والذرة من المقدار الكثير أسبق إلى الفهم منه من نفس الذرة والفتيل والتأفيف، ومن قال: إن هذا معلوم بالقياس، فإن أراد به أن المسكوت عنه عرف بالمنطوق فهو حق، وإن أراد به أن يحتاج فيه إلى تأمل أو يتطرق إليه احتمال فهو غلط، وأما الذي لا يستقل إلا بقرينة فكقوله تعالى: {أو يعفوا الذي بيده} (البقرة: 237) وقوله: {ثلاثة قروء} (البقرة: 822) وكل لفظ مشترك ومبهم، وكقوله: رأيت أسدا وحمارا وثورا، إذا أراد شجاعا وبليدا، فإنه لا يستقل بالدلالة على مقصوده إلا بقرينة، وأما الذي يستقل من وجه دون وجه، فكقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الانعام: 141) وكقوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة: 92) (التوبة: 92) فإن الايتاء ويوم الحصاد معلوم، ومقدار ما يؤتى غير معلوم، والقتال وأهل الكتاب معلوم، وقدر الجزية مجهول، فخرج من هذا أن اللفظ المفيد بالاضافة إلى مدلوله، إما أن لا يتطرق إليه احتمال فيسمى نصا، أو يتعارض فيه الاحتمالات من غير ترجيح، فيسمى مجملا ومبهما، أو يترجح أحد احتمالاته على الآخر فيسمى بالاضافة إلى الاحتمال الارجح ظاهرا، وبالاضافة إلى الاحتمال البعيد مؤولا، فاللفظ المفيد إذا ما نص أو ظاهر أو مجمل. الفصل السادس في طريق فهم المراد من الخطاب اعلم أن الكلام إما أن يسمعه نبي أو ملك من الله تعالى، أو يسمعه نبي أو ولي من ملك، أو تسمعه الامة من النبي، فإن سمعه ملك أو نبي من الله تعالى فلا يكون حرفا ولا صوتا ولا لغة موضوعة حتى يعرف معناه بسبب تقدم المعرفة بالمواضعة، لكن يعرف المراد منه بأن يخلق الله تعالى في السامع علما ضروريا بثلاثة أمور: بالمتكلم وبأن ما سمعه من كلامه، وبمراده من كلامه، فهذه ثلاثة أمور ، لا بد وأن تكون معلومة، والقدرة الازلية ليست قاصرة عن اضطرار الملك والنبي إلى العلم بذلك، ولا متكلم إلا وهو محتاج إلى نصب علامة لتعريف ما في ضميره، إلا الله تعالى، فإنه قادر على اختراع علم ضروري به من غير نصب علامة، وكما أن كلامه ليس من جنس كلام البشر، فسمعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سمع الاصوات، ولذلك يعسر علينا تفهم كيفية سماع موسى كلام الله تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت، كما يعسر على الاكمة تفهم كيفية إدراك البصير للالوان والاشكال، أما سماع النبي من الملك فيحتمل أن يكون بحرف وصوت دال على معنى كلام الله، فيكون المسموع الاصوات الحادثة، التي هي فعل الملك دون نفس الكلام، ولا يكون هذا إسماعا لكلام الله بغير واسطة، وإن كان يطلق عليه اسم سماع كلام الله تعالى، كما يقال: فلان سمع شعر المتنبي وكلامه، وإن سمعه من غيره وسمع صوت غيره، وكما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} (التوبة: 6) وكذلك سماع الامة من الرسول صلى الله عليه وسلم كسماع الرسول من الملك، ويكون طريق فهم المراد تقدم المعرفة بوضع اللغة التي بها المخاطبة، ثم إن كان نصا لا يحتمل كفى معرفة اللغة وإن تطرق إليه الاحتمال فلا يعرف المراد منه حقيقة إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ، والقرينة إما لفظ مكشوف، كقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الانعام: 141) والحق هو العشر، وإما إحالة على دليل العقل، كقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} (الزمر: 76) وقوله عليه السلام: قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن. وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر والتخمين يختص بدركها المشاهد لها، فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة، أو مع قرائن من ذلك الجنس أو من جنس آخر، حتى توجب علما ضروريا بفهم المراد، أو توجب ظنا، وكل ما ليس عبارة موضوعة في اللغة فتتعين فيه القرائن، وعند منكري صيغة العموم والامر يتعين تعريف الامر والاستغراق بالقرائن، فإن قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين) (التوبة: 5) وإن أكده بقوله: كلهم وجميعهم فيحتمل الخصوص عندهم تقوله تعالى: (ولله} (الاحقاف: 52} ((27) وأوتيت من كل شئ) (النمل: 32) فإنه أريد به البعض، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى. الفصل السابع: في الحقيقة والمجاز اعلم أن اسم الحقيقة مشترك، إذ قد يراد به ذات الشئ وحده ويراد به حقيقة الكلام، ولكن إذا استعمل في الالفاظ أريد به ما استعمل في موضوعه. والمجاز ما استعمله العرب في غير موضوعه وهو ثلاثة أنواع، الأول: ما استعير للشئ بسببه المشابهة في خاصية مشهورة، كقولهم للشجاع: أسد وللبليد: حمار، فلو سمي الابخر أسدا لم يجز، لان البخر ليس مشهورا في حق الاسد. الثاني: الزيادة كقوله تعالى: {ليس كمثله شئ} (الشورى: 11) فإن الكاف وضعت للافادة، فإذا استعملت على وجه لا يفيد كان على خلاف الوضع. الثالث: النقصان الذي لا يبطل التفهيم، كقوله عزوجل: {واسأل القرية} (يوسف: 28) والمعنى: واسأل أهل القرية، وهذا النقصان اعتادته العرب فهو توسع وتجوز، وقد يعرف المجاز بإحدى علامات أربع: الأولى: أن الحقيقة جارية على العموم في نظائره، إذ قولنا: عالم لما عني به ذو علم صدق على كل ذي علم، وقوله: {واسئل القرية} يصح في بعض الجمادات لارادة صاحب القرية، ولا يقال: سل البساط والكوز، وإن كان قد يقال: سل الطلل والربع، لقربه من المجاز المستعمل. الثانية: أن يعرف بامتناع الاشتقاق عليه، إذ الامر إذا استعمل في حقيقته اشتق منه اسم الآمر وإذا استعمل في الشأن مجازا لم يشتق منه آمر، والشأن هو المراد بقوله تعالى: {وما أمر فرعون برشيد} (هود: 79) وبقوله تعالى: {إذا جاء أمرنا} (هود: 04). الثالثة: أن تختلف صيغة الجمع على الاسم، فيعلم أنه مجاز في أحدهما، إذ الامر الحقيقي يجمع على أوامر، وإذا أريد به الشأن يجمع على أمور. الرابعة: أن الحقيقي إذا كان له تعلق بالغير، فإذا استعمل فيما لا تعلق له به لم يكن له متعلق كالقدرة إذا أريد بها الصفة، كان لها مقدور، وإن أريد بها المقدور كالنبات الحسن العجيب، إذ يقال: انظر إلى قدرة الله تعالى: أي إلى عجائب مقدوراته لم يكن له متعلق، إذ النبات لا مقدور له. واعلم أن كل مجاز فله حقيقة، وليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز، بل ضربان من الاسماء لا يدخلهما المجاز، الأول: أسماء الاعلام، نحو: زيد وعمرو، لانها أسام وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق في الصفات، نعم الموضوع للصفات قد يجعل علما فيكون مجازا، كالاسود بن الحرث إذ لا يراد به الدلالة على الصفة مع أنه وضع له فهو مجاز، أما إذا قال: قرأت المزني وسيبويه وهو يريد كتابيهما فليس ذلك، إلا كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف: 28) فهو على طريق حذف اسم الكتاب، معناه: قرأت كتاب المزني، فيكون في الكلام مجاز بالمعنى الثالث المذكور للمجاز. الثاني: الاسماء التي لا أعم منها ولا أبعد، كالمعلوم والمجهول، والمدلول والمذكور، إذ لا شئ إلا وهو حقيقة فيه فكيف يكون مجازا عن شئ. هذا تمام المقدمة، ولنشتغل بالمقاصد، وهي كيفية اقتباس الاحكام من الصيغ والالفاظ المنطوق بها وهي أربعة أقسام. القسم الأول من الفن الأول من مقاصد القطب الثالث في المجمل والمبين اعلم أن اللفظ إما أن يتعين معناه بحيث لا يحتمل غيره فيسمى مبينا ونصا، وإما أن يتردد بين معنيين فصاعدا من غير ترجيح، فيسمى مجملا، وإما أن يظهر في أحدهما ولا يظهر في الثاني فيسمى ظاهرا، والمجمل هو اللفظ الصالح لاحد معنيين الذي لا يتعين معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال وينكشف ذلك بمسائل. مسألة (كيفية معرفة المجمل) قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} (النساء: 32) و: {حرمت عليكم الميتة} (المائدة: 3) ليس بمجمل، وقال قوم من القدرية: هو مجمل لان الاعيان لا تتصف بالتحريم، وإنما يحرم فعل ما يتعلق بالعين وليس يدري ما ذلك الفعل، فيحرم من الميتة مسها أو أكلها أو النظر إليها أو بيعها والانتفاع بها فهو مجمل، والام يحرم منها النظر أو المضاجعة أو الوطئ، فلا يدري أيه، ولا بد من تقدير فعل وتلك الافعال كثيرة وليس بعضها أولى من بعض، وهذا فاسد إذ عرف الاستعمال كالوضع، ولذلك قسمنا الاسماء إلى عرفية ووضعية، وقدمنا بيانها، ومن أنس بتعارف أهل اللغة واطلع على عرفهم علم أنهم لا يستريبون في أن من قال: حرمت عليك الطعام والشراب أنه يريد الاكل دون النظر والمس، وإذا قال: حرمت عليك هذا الثوب أنه يريد اللبس، وإذا قال حرمت عليك النساء أنه يريد الوقاع، وهذا صريح عندهم مقطوع به فكيف يكون مجملا والصريح تارة يكون بعرف الاستعمال وتارة بالوضع، وكل ذلك واحد في نفي الاجمال، وقال قوم: هو من قبيل المحذوف كقوله تعالى: {واسأل القرية} أي أهل القرية (يوسف: 28) وكذلك قوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الانعام} أي أكل البهيمة {أحل لكم صيد البحر} (المائدة: 69) وهذا إن أراد به إلحاقه بالمجمل، فهو خطأ، وإن أراد به حصول الفهم به مع كونه محذوفا فهو صحيح، وإن أراد به إلحاقه بالمجاز فيلزمه تسمية الاسماء العربية مجازا. مسألة (رفع الخطأ والنسيان) قوله صلى الله عليه وسلم: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان يقتضي بالوضع نفي نفس الخطأ والنسيان وليس كذلك، وكلامه صلى الله عليه وسلم يجل عن الخلف، فالمراد به رفع حكمه لا على الاطلاق، بل الحكم الذي عرف بعرف الاستعمال قبل ورود الشرع إرادته بهذا اللفظ، فقد كان يفهم قبل الشرع من قول القائل لغيره: رفعت عنك الخطأ والنسيان، إذ يفهم منه رفع حكمه لا على الاطلاق، وهو المؤاخذة بالذم والعقوبة فكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم نص صريح فيه، وليس بعام في جميع أحكامه من الضمان ولزوم القضاء وغيره، ولا هو مجمل بين المؤاخذة التي ترجع إلى الذم ناجزا أو إلى العقاب آجلا وبين الغرم والقضاء، لانه لا صيغة لعمومه حتى يجعل عاما في كل حكم، كما لم يجعل قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} (النساء: 32) عاما في كل فعل، مع أنه لا بد من إضمار فعل، فالحكم هاهنا لا بد من إضماره لاضافة الرفع إليه، كالفعل، ثم ينزل على ما يقتضيه عرف الاستعمال، وهو الذم، والعقاب هاهنا والوطئ، ثم فإن قيل: فالضمان أيضا عقاب، فليرتفع؟ قلنا: الضمان قد يجب امتحانا ليثاب عليه، لا للانتقام، ولذلك يجب على الصبي والمجنون، وعلى العاقلة بسبب الغير، ويجب حيث يجب الاتلاف، كالمضطر في المخمصة وقد يجب عقابا كما يجب على المعتمد لقتل الصيد ليذوق وبال أمره، وإن وجب على المخطئ بالقتل امتحانا، فغاية ما يلزم أن يقال ينتفي به كل ضمان هو بطريق العقاب لانه مؤاخذة وانتقام بخلاف ما هو بطريق الجبران والامتحان، والمقصود أن من ظن أن هذا اللفظ خاص أو عام لجميع أحكام الخطأ أو مجمل متردد فقد غلط فيه، فإن قيل: فلو ورد في موضع لا عرف فيه يدرك به خصوص معناه، فهل يجعل نفيا لاثره بالكلية حتى يقوم مقام العموم، أو يجعل مجملا؟ قلنا: هو مجمل، يحتمل نفي الاثر مطلقا، ونفي آحاد الآثار، ويصلح أن يراد به الجميع، ولا يترجح أحد الاحتمالات، وهذا عند من لا يقول بصيغة العموم ظاهر، أما من يقول بها فيتبع فيه الصيغة، ولا صيغة للمضمرات، وهذا قد أضمر فيه الاثر، فعلى ماذا يعول في التعميم؟ فإن قيل: هو نفي فيقتضي وضعه نفي الاثر والمؤثر جميعا، فإن تعذر نفي المؤثر بقرينة الحس فالتعذر مقصور عليه، فيبقى الاثر منفيا؟ قلنا: ليس قوله: لا صيام ولا عمل ولا خطأ ولا نسيان، أو رفع الخطأ والنسيان عاما في نفي المؤثر والاثر حتى إذا تعذر في المؤثر، بقي في الاثر، بل هو لنفي المؤثر فقط، والاثر ينتفي ضرورة بانتفاء المؤثر لا بحكم عموم اللفظ وشموله له، فإذا تعذر حمله على المؤثر صار مجازا، إما عن جميع الآثار أو عن بعض الآثار، ولا تترجح الجملة على البعض، ولا أحد الابعاض على غيره. مسألة (نفي الكمال أو الصحة في اللفظ الشرعي) في قوله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة إلا بطهور ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل، ولا نكاح إلا بولي ولا نكاح إلا بشهود، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، فإن هذا نفي لما ليس منفيا بصورته، فإن صورة النكاح والصوم والصلاة موجودة كالخطأ والنسيان، وقالت المعتزلة: هو مجمل لتردده بين نفي الصورة والحكم، وهو أيضا فاسد، بل فساده في هذه الصورة أظهر، فإن الخطأ والنسيان ليس اسما شرعيا، والصلاة والصوم والوضوء والنكاح ألفاظ تصرف الشرع فيها، فهي شرعية، وعرف الشرع في تنزيل الاسامي الشرعية على مقاصده، كعرف اللغة على ما قدمنا وجه تصرف الشرع في هذه الالفاظ، فلا يشك في أن الشرع ليس يقصد بكلامه نفي الصورة فيكون خلفا، بل يريد نفي الوضوء والصوم والنكاح الشرعي، فعرف الشرع يزيل هذا الاحتمال فكأنه صرح بنفي نفس الصلاة الشرعية والنكاح الشرعي، فإن قيل: فيحتمل نفي الصحة ونفي الكمال، أي لا صلاة كاملة ولا صوم فاضلا ولا نكاح مؤكدا ثابتا، فهل هو محتمل بينهما؟ قلنا: ذهب القاضي إلى أنه مردد بين نفي الكمال والصحة، إذ لا بد من إضمار الصحة أو الكمال، وليس أحدهما بأولى من الآخر، والمختار أنه ظاهر في نفي الصحة محتمل لنفي الكمال على سبيل التأويل، لان الوضوء والصوم صارا عبارة عن الشرعي، وقوله: لا صيام صريح في نفي الصوم، ومهما حصل الصوم الشرعي، وإن لم يكن فاضلا كاملا كان ذلك على خلاف مقتضى النفي، فإن قيل: فقوله صلى الله عليه وسلم: لا عمل إلا بنية من قبيل قوله: لا صلاة أو من قبيل قوله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان قلنا: الخطأ والنسيان ليسا من الاسماء الشرعية، والصوم والصلاة من الاسماء الشرعية، وأما العمل فليس للشرع فيه تصرف، وكيفما كان، فقوله صلى الله عليه وسلم: لا عمل إلا بنية وقوله: إنما الاعمال بالنيات يقتضي عرف الاستعمال نفي جدواه وفائدته، كما يقتضي عرف الشرع نفي الصحة في الصوم والصلاة، فليس هذا من المجملات، بل من المألوف في عرف الاستعمال قولهم: لا علم إلا ما نفع، ولا كلام إلا ما أفاد ولا حكم إلا لله، ولا طاعة إلا له، ولا عمل إلا ما نفع وأجدى، وكل ذلك نفي لما لا ينتفي، وهو صدق لان المراد منه نفي مقاصده. دقيقة: القاضي رحمه الله إنما لزمه جعل اللفظ مجملا بالاضافة إلى الصحة والكمال من حيث أنه نفى الاسماء الشرعية، وأنكر أن يكون للشرع فيها عرف يخالف الوضع، فلزمه إضمار شئ في قوله عليه السلام: لا صيام أي لا صيام مجزئا صحيحا، أو لا صيام فاضلا كاملا، ولم يكن أحد الاضمارين بأولى من الآخر، وأما نحن إذا اعترفنا بعرف الشرع في هذه الالفاظ صار هذا النفي راجعا إلى نفس الصوم، كقوله: لا رجل في البلد، فإنه يرجع إلى نفي الرجل، ولا ينصرف إلى الكمال إلا بقرينة الاحتمال. مسألة (معنى المجمل) إذا أمكن حمل لفظ الشارع على ما يفيد معنيين وحمله على ما يفيد معنى واحدا وهو مردد بينهما فهو مجمل، وقال بعض الاصوليين يترجح حمله على ما يفيد معنيين، كما لو دار بين ما يفيد وما لا يفيد يتعين حمله على المفيد، لان المعنى الثاني مما قصر اللفظ عن إفادته إذا حمل على الوجه الآخر فحمله على الوجه المفيد بالاضافة إليه أولى، وهذا فاسد، لان حمله على غير المفيد يجعل الكلام عبثا ولغوا يجل عنه منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما المفيد لمعنى واحد فليس بلغو، وكلماته التي أفادت معنى واحدا لعلها أغلب وأكثر مما يفيد معنيين، فلا معنى لهذا الترجيح. مسألة (الاحكام المتعددة في اللفظ) ما أمكن حمله على حكم متعدد فليس بأولى مما يحمل اللفظ فيه على التقرير على الحكم الأصلي والحكم العقلي والاسم اللغوي لان كل واحد محتمل، وليس حمل الكلام عليه ردا له إلى العبث، وقال قوم: حمله على الحكم الشرعي الذي هو فائدة خاصة بالشرع أولى وهو ضعيف، إذ لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق بالحكم العقلي ولا بالاسم اللغوي ولا بالحكم الأصلي، فهذا ترجيح بالتحكم، مثاله قوله صلى الله عليه وسلم: الاثنان فما فوقهما جماعة فإنه يحتمل أن يكون المراد به أنه يسمى جماعة ويحتمل أن يكون المراد به انعقاد الجماعة أو حصول فضيلتها، ومثاله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: الطواف بالبيت صلاة إذ يحتمل أن يكون المراد به الافتقار إلى الطهارة، أي هو كالصلاة حكما، ويحتمل أن فيه دعاء كما في الصلاة، ويحتمل أنه يسمى صلاة شرعا وإن كان لا يسمى في اللغة صلاة، فهو مجمل بين هذه الجهات ولا ترجيح. |
12-06-2012, 07:46 PM | #43 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (دوران الاسم بين المعنى اللغوي والشرعي) إذا دار الاسم بين معناه اللغوي ومعناه الشرعي كالصوم والصلاة، قال القاضي: هو مجمل، لان الرسول عليه السلام يناطق العرب بلغتهم، كما يناطقهم بعرف شرعه، ولعل هذا منه تفريع على مذهب من يثبت الاسامي الشرعية، وإلا فهو منكر للاسامي الشرعية، وهذا فيه نظر، لان غالب عادة الشارع استعمال هذه الاسامي على عرف الشرع لبيان الاحكام الشرعية، وإن كان أيضا كثيرا ما يطلق على الوضع اللغوي، كقوله صلى الله عليه وسلم: دعي الصلاة أيام أقرائك ومن باع حرا أو من باع خمرا. فحكمه كذا، وإن كانت الصلاة في حالة الحيض وبيع الخمر والحر لا يتصور إلا بموجب الوضع، فأما الشرعي فلا، ومثال هذه المسألة قوله صلى الله عليه وسلم حيث لم يقدم إليه غداء إني إذا أصوم فإنه إن حمل على الصوم الشرعي، دل على جواز النية نهارا، وإن حمل على الامساك لم يدل، وقوله صلى الله عليه وسلم: لا تصوموا يوم النحر إن حمل على الامساك الشرعي دل على انعقاده، إذ لولا إمكانه لما قيل له لا تفعل، إذ لا يقال للاعمى لا تبصر، وإن حمل على الصوم الحسي لم ينشأ منه دليل على الانعقاد، وقد قال الشافعي: لو حلف أن لا يبيع الخمر لا يحنث ببيعه، لان البيع الشرعي لا يتصور فيه، وقال المزني: يحنث، لان القرينة تدل على أنه أراد البيع اللغوي، والمختار عندنا أن ما ورد في الاثبات والامر فهو للمعنى الشرعي، وما ورد في النهي كقوله: دعي الصلاة فهو مجمل. إعلم أن البيان عبارة عن أمر يتعلق بالتعريف والاعلام، وإنما يحصل الاعلام بدليل، والدليل محصل للعلم، فها هنا ثلاثة أمور: إعلام، ودليل به الاعلام وعلم يحصل من الدليل. فمن الناس من جعله عبارة عن التعريف فقال في حده: أنه إخراج الشئ من حيز الاشكال إلى حيز التجلي ومنهم من جعله عبارة عما به تحصل المعرفة فيما يحتاج إلى المعرفة، أعني الامور، التي ليست ضرورية، وهو الدليل، فقال في حده: أنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه، وهو اختيار القاضي، ومنهم من جعله عبارة عن نفس العلم، وهو تبين الشئ، فكأن البيان عنده والتبيين واحد، ولا حجر في إطلاق إسم البيان على كل واحد من هذه الاقسام الثلاثة، إلا أن الاقرب إلى اللغة وإلى المتداول بين أهل العلم ما ذكره القاضي إذ يقال لمن دل غيره على الشئ بينه له، وهذا بيان منك، لكنه لم يتبين، وقال تعالى: * هذا بيان للناس} (آل عمران: 831) وأراد به القرآن، وعلى هذا فبيان الشئ قد يكون بعبارات وضعت بالاصطلاح، فهي بيان في حق من تقدمت معرفته بوجه المواضعة، وقد يكون بالفعل والاشارة والرمز، إذا لكل دليل ومبين، ولكن صار في عرف المتكلمين مخصوصا بالدلالة بالقول، فيقال له: بيان حسن، أي كلام حسن رشيق الدلالة على المقاصد. وإعلم أنه ليس من شرط البيان أن يحصل التبيين به لكل أحد بل أن يكون بحيث إذا سمع وتؤمل وعرفت المواضعة صح أن يعلم به، ويجوز أن يختلف الناس في تبين ذلك وتعرفه، وليس من شرطه أن يكون بيانا لمشكل، لان النصوص المعربة عن الامور ابتداء بيان وإن لم يتقدم فيها إشكال، وبهذا يبطل قول من حده بأنه إخراج الشئ من حيز الاشكال إلى حيز التجلي، فذلك ضرب من البيان وهو بيان المجمل فقط. وإعلم أن كل مفيد من كلام الشارع وفعله وسكوته واستبشاره، حيث يكون دليلا وتنبيهه، بفحوى الكلام على علة الحكم، كل ذلك بيان، لان جميع ذلك دليل، وإن كان بعضها يفيد غلبة الظن فهو من حيث إنه يفيد العلم بوجوب العمل قطعا دليل وبيان، وهو كالنص، نعم، كل ما لا يفيد علما ولا ظنا ظاهرا فهو مجمل، وليس ببيان، بل هو محتاج إلى البيان، والعموم يفيد ظن الاستغراق عند القائلين به، لكنه يحتاج إلى البيان ليصير الظن علما، فيتحقق الاستغراق، أو يتبين خلافه فيتحقق الخصوص، وكذلك الفعل يحتاج إلى بيان تقدمه أنه أريد به بيان الشرع لان الفعل لا صيغة له.
مسألة (تعارض الحقيقة والمجاز أيهما يقدم؟) إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فاللفظ للحقيقة إلى أن يدل الدليل أنه أراد المجاز، ولا يكون مجملا، كقوله: رأيت اليوم حمارا، واستقبلني في الطريق أسد، فلا يحمل على البليد والشجاع إلا بقرينة زائدة، فإن لم تظهر فاللفظ للبهيمة والسبع، ولو جعلنا كل لفظ أمكن أن يتجوز به مجملا تعذرت الاستفادة من أكثر الالفاظ، فإن المجاز إنما يصار إليه لعارض، وهذا في مجاز لم يغلب بالعرف بحيث صار الوضع كالمتروك مثل الغائط والعذرة، فإنه لو قال: رأيت اليوم عذرة أو غائطا لم يفهم منه المطمئن من الارض وفناء الدار، لانه صار كالمتروك بعرف الاستعمال والمعنى العرفي كالمعنى الوضعي في تردد اللفظ بينهما، وليس المجاز كالحقيقي، لكن المجاز إذا صار عرفيا كان الحكم للعرف. خاتمة جامعة إعلم أن الاجمال تارة يكون في لفظ مفرد وتارة يكون في لفظ مركب وتارة في نظم الكلام والتصريف وحروف النسق ومواضع الوقف والابتداء. أما اللفظ المفرد فقد يصلح لمعان مختلفة، كالعين للشمس والذهب والعضو الباصر والميزان، وقد يصلح لمتضادين، كالقرء للطهر والحيض، والناهل للعطشان والريان، وقد يصلح لمتشابهين بوجه ما كالنور للعقل، ونور الشمس، وقد يصلح لمتماثلين، كالجسم للسماء والارض، والرجل لزيد وعمرو، وقد يكون موضوعا لهما من غير تقديم وتأخير، وقد يكون مستعارا لاحدهما من الآخر، كقولك: الارض أم البشر، فإن الام وضع اسما للوالدة أولا، وكذلك اسم المنافق والكافر والفاسق والصوم والصلاة، فإنه نقل في الشرع إلى معان، ولم يترك المعنى الوضعي أيضا. أما الاشتراك مع التركيب فكقوله تعالى: * أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح} (البقرة: 237) فإن جميع هذه الالفاظ مرددة بين الزوج والولي، وأما الذي بحسب التصريف فكالمختار للفاعل والمفعول، وأما الذي بحسب نسق الكلام فكقولك: كل ما علمه الحكيم فهو كما علمه، فإن قولك: فهو كما علمه متردد بين أن يرجع إلى كل ما وبين أن يرجع إلى الحكم حتى يقول: والحكيم يعلم الحجر، فهو إذا كالحجر، وقد يكون بحسب الوقف والابتداء، فإن الوقف على السموات في قوله تعالى: {وهو الله في السموات وفى الارضى يعلم سركم وجهركم} (الانعام: 3) له معنى يخالف الوقف على الارض والابتداء بقوله: {يعلم سركم وجهركم} وقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} (آل عمران: 7) من غير وقف يخالف الوقف على قوله: {إلا الله} (ال عمران: 7) وذلك لتردد الواو بين العطف والابتداء، ولذلك قد يصدق قولك: الخمسة زوج وفرد. أي هو اثنان وثلاثة، ويصدق قولك: الانسان حيوان وجسم، لانه حيوان وجسم أيضا، ولا يصدق قولك، الانسان حيوان وجسم، ولا قولك الخمسة زوج وفرد، لان الانسان ليس بحيوان وجسم وليست الخمسة زوجا وفرد أيضا، وذلك لان الواو يحتمل جمع الاجزاء وجمع الصفات، وكذلك تقول زيد طبيب بصير يصدق، وإن كان جاهلا ضعيف المعرفة بالطب ولكن بصير بالخياطة فيتردد البصير بين أن يراد به البصير في الطب، أو يراد وصف زائد في نفسه، فهذه أمثلة مواضع الاحمال، وقد تم القول في المجمل، وفي مقابلته المبين فلنتكلم في البيان وحكمه وحده. القول في البيان والمبين إعلم أنه جرت عادة الاصوليين برسم كتاب في البيان، وليس النظر فيه مما يستوجب أن يسمى كتابا، فالخطب فيه يسير، والامر فيه قريب، ورأيت أولى المواضع به أن يذكر عقيب المجمل، فإنه المفتقر إلى البيان، والنظر فيه حد البيان وجواز تأخيره والتدريج في إظهاره، وفي طريق ثبوته، فهذه أربعة أمور نرسم في كل واحد منها مسألة: مسألة في حد البيان |
12-06-2012, 07:47 PM | #44 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة في تأخير البيان لا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا على مذهب من يجوز تكليف المحال، أما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الحق خلافا للمعتزلة، وكثير من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب الظاهر، وإليه ذهب أبو إسحق المروزي وأبو بكر الصيرفي، وفرق جماعة بين العام والمجمل فقالوا: يجوز تأخير بيان المجمل، إذ لا يحصل من المجمل جهل، وأما العام فإنه يوهم العموم، فإذا أريد به الخصوص فلا ينبغي أن يتأخر بيانه، مثل قوله: {فاقتلوا المشركين} (التوبة: 5) فإنه إن لم يقترن به البيان له أوهم جواز قتل غير أهل الحرب، وأدى ذلك إلى قتل من لا يجوز قتله، والمجمل مثل قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الانعام: 141) يجوز تأخير بيانه، لان الحق مجمل لا يسبق إلى الفهم منه شئ، وهو كما لو قال: حج في هذه السنة كما سأفصله، أو أقتل فلانا غدا بآلة سأعينها من سيف أو سكين، وفرق طوائف بين الامر والنهي، وبين الوعد والوعيد، فلم يجوزوا تأخير البيان في الوعد والوعيد. ويدل على جواز التأخير مسالك: الأول: أنه لو كان ممتنعا لكان الاستحالته في ذاته أو لافضائه إلى مجال وكل ذلك يعرف بضرورة أو نظر، وإذا انتفى المسلكان ثبت الجواز، وهذا دليل يستعمله القاضي في مسائل كثيرة وفيه نظر، لانه لا يورث العلم ببطلان الاحالة ولا بثبوت الجواز، إذ يمكن أن يكون وراء من ذكره وفصله دليل على الاحالة لم يخطر له، فلا يمكن أن يكون دليلا لا على الاحالة ولا على الجواز فعدم العلم العلم بدليل الجواز لا يثبت الاحالة، وكذلك عدم العلم بدليل الاحالة لا يثبت الجواز، بل عدم العلم بدليل الاحالة لا يكون علما لعدم الاحالة، فلعل عليه دليلا ولم نعرفه، بل لو عرفنا انتفاء دليل الاحالة لم يثبت الجواز بل لعله محال وليس عليه دليل يعرفه آدمي، فمن أين يجب أن يكون كل جائز ومحال في مقدور الآدمي معرفته؟. الثاني: أنه إنما يحتاج إلى البيان للامتثال وإمكانه، ولاجله يحتاج إلى القدرة والآلة، ثم جاز تأخير القدرة وخلق الآلة، فكذلك البيان، وهذا أيضا ذكره القاضي وفيه نظر لانه إنما ينفع، لو اعترف الخصم بأنه يحيله لتعذر الامتثال، ولعله يحيله لما من تجهيل، أو لكونه لغوا بلا فائدة، أو لسبب آخر، وليس في تسليمه تعليل القدرة والآلة بتأتي الامتثال ما يلزمه تعليل غير به. الثالث: الاستدلال على جوازه بوقوعه في القرآن والسنة، قال الله تعالى: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه} (القيامة: 81) وثم للتأخير، وقال تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وإنما أراد بقرة معينة، ولم يفصل إلا بعد السؤال، وقال تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شئ فان الله خمسة وللرسول ولذي القربى} (الانفال: 41) الآية، وإنما أراد بذي القربى بني هاشم وبنى المطلب دون بني أمية، وكل من عدا بني هاشم، فلما منع بني أمية وبني نوفل وسئل عن ذلك قال: أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، ولم نزل هكذا وشبك بين أصابعه، وقال في قصة نوح: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} (هود: 64) بين بعد أن توهم أنه من أهله، وأما السنن فبيان المراد بقوله: وأقيموا الصلاة بصلاة جبريل في يومين بين الوقتين. وقوله عليه السلام: ليس في الخضروات صدقة ثم قال بعد ذلك، ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وقال: في أربعين شاة شاة وخذوا عني مناسككم كله ورد متأخرا عن قوله: {وآتوا الزكاة} (النساء: 77} (ولله على الناس حج البيت من استطاع} (آل عمران: 79) الآية وقال: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم} (التوبة: 14) وهو عام، ثم ورد بعده: {إذا} (النور: 16) وكذلك جميع الاعذار، وكذلك أمر النكاح والبيع والارث ورد أولا أصلها، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم بالتدريج من يرث ومن لا يرث ومن يحل نكاحه ومن لا يحل، وما يصح بيعه وما لا يصح، وكذلك كل عام ورد في الشرع، فإنما ورد دليل خصوصه بعده، وهذا مسلك لا سبيل إلى إنكاره، وإن تطرق الاحتمال، إلى أحد هذه الاستشهادات بتقدير اقتران البيان، فلا يتطرق إلى الجميع. الرابع: أنه يجوز تأخير النسخ بالاتفاق، بل يجب تأخيره، لا سيما عند المعتزلة، فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة، ويجوز أن يرد لفظ يدل على تكرر الافعال على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام، لكن بشرط أن لا يرد نسخ، وهذا أيضا واقع، فهذه الأدلة واقعة دالة على جواز تأخير البيان عن كل ما يحتاج إلى البيان، من عام ومجمل ومجاز وفعل متردد وشرط مطلق غير مقيد، وهو أيضا دليل على من جوز في الامر دون الوعيد، وعلى من قال بعكس ذلك. وللمخالف أربع شبه: الأولى: قالوا: إن جوزتم خطاب العربي بالعجمية والفارسي بالزنجية، فقد ركبتم بعيدا وتعسفتم، وإن منعتم فما الفرق بينه وبين مخاطبة العربي بلفظ مجمل لا يفهم معناه، ولكن يسمع لفظه ويلزم منه جواز خطابه بلغة هو واضعها وحده إلى أن يبين، والجواب من وجهين: أحدهما: وهو الأولى أنهم لم قالوا قوله: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الانعام: 141) كالكلام بلغة لا تفهم مع أنه يفهم أصل الايجاب ويعزم على أدائه وينتظر بيانه وقت الحصاد فالتسوية بينهما تعسف وظلم. الجواب الثاني: أنا نجوز للنبي عليه السلام أن يخاطب جميع أهل الارض من الزنج والترك بالقرآن، ويشعرهم أنه يشتمل على أوامر يعرفهم بها المترجم، وكيف يبعد هذا ونحن نجوز كون المعدوم مامورا على تقدير الوجود، فأمر العجم على تقدير البيان أقرب؟ نعم: لا يحصل ذلك خطابا، بل إنما يسمى خطابا إذا فهمه المخاطب، والمخاطب في مسألتنا فهم أصل الامر بالزكاة، وجهل قدر الحق الواجب عند الحصاد، وكذلك قوله تعالى: {أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح} (البقرة: 732) مفهوم وتردده بين الزوج والولي معلوم والتعيين منتظر، فإن قيل: فليجز خطاب المجنون والصبي؟ قلنا: أما من لا يفهم فلا يسمى مخاطبا ويسمى مأمورا، كالمعدوم على تقدير الوجود وكذك لا لصبي مأمور على تقدير البلوغ، أعني من علم الله أنه سيبلغ، أما الذي يفهم ويعلم الله ببلوغه فلا نحيل أن يقال له: إذا بلغت فأنت مأمور بالصلاة والزكاة، والصبا لا ينافي مثل هذا الخطاب، وإنما ينافي خطابا يعرضه للعقاب في الصبا. الثانية: قولهم الخطاب يراد لفائدة وما لا فائدة فيه، فيكون وجوده كعدمه، ولا يجوز أن يقول: أبجد هوز، ويريد به وجوب الصلاة والصوم ثم يبينه من بعد، لانه لغو من الكلام، وكذلك المجمل الذي لا يفيد؟ قلنا: إنما يجوز الخطاب بمجمل يفيد فائدة ما لان قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الانعام: 141) يعرف منه وجوب الايتاء ووقته، وأنه حق في المال، فيمكن العزم فيه على الامتثال والاستعداد له، ولو عزم على تركه عصى، وكذلك مطلق الامر إذا ورد ولم يتبين أنه للايجاب أو الندب، أو أنه على الفور أو التراخي، أو أنه للتكرار أو للمرة الواحدة أفاد علم اعتقاد الأصل ومعرفة التردد بين الجهتين، وكذلك: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) [ البقر: 237 ] يعرف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي، فلا يخلو عن أصل الفائدة، وإنما يخلو عن كمالها وذلك غير مستنكر، بل هو واقع في الشريعة والعادة، بخلاف قوله: أبجد هوز، فإن ذلك لا فائدة له أصلا. الثالثة: أنه لا خلاف في أنه لو قال: في خمس من الابل شاة وأراد خمسا من الافراس لا يجوز ذلك، وإن كان بشرط البيان بعده، لانه تجهيل في الحال وإيهام لخلاف المراد فكذلك قوله: {(9) فاقتلوا المشركين} (التوبة: 5) يوهم قتل كل مشرك وهو خلاف المراد، فهو تجهيل في الحال، ولو أراد بالعشرة سبعة كان ذلك تجهيلا، وإن كان ذلك جائزا إن اتصل الاستثناء به بأن يقول: عشرة إلا ثلاثة، وكذلك العموم للاستغراق في الوضع إنما يراد به الخصوص، بشرط قرينة متصلة مبينة، فأما إرادة الخصوص دون القرينة فهو تغيير للوضع، وهذا حجة من فرق بين العام والمجمل، والجواب: أن العموم لو كان نصا في الاستغراق لكان كما ذكرتموه، وليس كذلك، بل هو مجمل عند أكثر المتكلمين، متردد بين الاستغراق والخصوص، وهو ظاهر عند أكثر الفقهاء في الاستغراق، وإرادة الخصوص به من كلام العرب، فإن الرجل قد يعبر بلفظ العموم عن كل ما تمثل في ذهنه وحضر في فكره، فيقول مثلا ليس للقاتل من الميراث شئ، فإذا قيل له: فالجلاد والقاتل قصاصا لم يرث. فيقول: ما أردت هذا ولم يخطر لي بالبال، ويقول: للبنت النصف من الميراث، فيقال: فالبنت الرقيقة والكافرة لا ترث شيئا؟ فيقول: ما خطر ببالي هذا، وإنما أردت غير الرقيقة والكافرة، ويقول الاب، إذا انفرد يرث المال أجمع، فيقال: والاب الكافر أو الرقيق لا يرث. فيقول: إنما خطر ببالي الاب غير الرقيق والكافر، فهذا من كلام العرب، وإذا أراد السبعة بالعشرة فليس من كلام العرب، فإذا اعتقد العموم قطعا فذلك لجهله، بل ينبغي أن يعتقد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص، وعليه الحكم بالعموم إن خلي والظاهر، وينتظر أن ينبه على الخصوص أيضا. الرابعة: أنه إن جاز تأخير البيان إلى مدة مخصوصة طويلة كانت أو قصيرة فهو تحكم، وإن جاز إلى غير نهاية فربما يخترم لنبي صلى الله عليه وسلم قبل البيان، فيبقى العامل بالعموم في ورطة الجهل، متمسكا بعموم ما أريد به الخصوص؟ قلنا: النبي عليه السلام لا يؤخر البيان إلا إذا جوز له التأخير، أو أوجب وعين له وقت البيان وعرف أنه يبقى إلى ذلك الوقت، فإن اخترم قبل البيا ن بسبب من الاسباب فيبقى العبد مكلفا بالعموم عند من يرى العموم ظاهرا ولا يلزمه حكم ما لم يبلغه، كما لو اخترم قبل النسخ لما أمر بنسخه، فإنه يبقى مكلفا به دائما، فإن أحالوا اخترامه قبل تبليغ النسخ فيما أنزل عليه النسخ فيه فيستحيل أيضا اخترامه قبل بيان الخصوص فيما أريد به الخصوص ولا فرق.
مسألة (هل يجوز منع التدرج في البيان؟) ذهب بعض المجوزين لتأخير البيان في العموم إلى منع التدريج في البيان فقالوا: إذا ذكر إخراج شئ من العموم فينبغي أن يذكر جميع ما يخرج وإلا أوهم ذلك استعمال العموم في الباقي، وهذا أيضا غلط، بل من توهم ذلك فهو المخطئ فإنه كما كان يجوز الخصوص فإنه ينبغي أن يبقى مجوزا له في الباقي، وإن أخرج البعض، إذ ليس في إخراج البعض تصريح بحسم سبيل لشئ آخر، كيف وقد نزل قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران: 79) فسئل النبي عليه السلام عن الاستطاعة فقال: الزاد والراحلة ولم يتعرض لامن الطريق والسلامة وطلب الخفارة، وذلك يجوز أن يتبين بدليل آخر بعده وقال تعالى: {والسارق والسارقة} (المائدة: 83) ثم ذكر النصاب بعده ثم ذكر الحرز بعد ذلك، وكذلك كان يخرج شيئا شيئا من العموم على قدر وقوع الوقائع، وكذلك يخرج من قوله: {فاقتلوا المشركين} (التوبة: 5) أهل الذمة مرة والعسيف مرة والمرأة مرة أخرى، وكذلك على التدريج ولا إحالة في شئ من ذلك، فإن قيل: فإذا كان كذلك فمتى يجب على المجتهد الحكم بالعموم ولا يزال منتظرا لدليل بعده؟ قلنا: سيأتي ذلك في كتاب العموم والخصوص إن شاء الله. مسألة (هل يصح تخصيص المتواتر بخبر الآحاد) لا يشترط أن يكون طريق البيان للمجمل والتخصيص للعموم، كطريق المجمل والعموم، حتى يجوز بيان مجمل القرآن وعمومه، وما ثبت بالتواتر بخبر الواحد خلافا لاهل العراق، فإنهم لم يجوزوا التخصيص في عموم القرآن والمتواتر بخبر الواحد، وأما المجمل فيما تعم به البلوى كأوقات الصلاة وكيفيتها وعدد ركعاتها ومقدار واجب الزكاة وجنسها فإنهم قالوا: لا يجوز أن يبين إلا بطريق قاطع، وأما ما لا تعم به البلوى كقطع يد السارق وما يجب على الائمة من الحد وذكر أحكام المكاتب والمدبر فيجوز أن يبين بخبر الواحد، وهذا يتعلق طرف منه بطريق التخصيص، وسيأتي في القسم الرابع، وطرف يتعلق بما تعم به البلوى، وقد ذكرناه في كتاب الاخبار. القسم الثاني من الفن الأول في الظاهر والمؤول إعلم أنا بينا أن اللفظ الدال الذي ليس بمجمل إما أن يكون نصا وإما أن يكون ظاهرا، والنص هو الذي لا يحتمل التأويل، والظاهر هو الذي يحتمله، فهذا القدر قد عرفته على الجملة، وبقي عليك الآن أن تعرف الاختلاف في إطلاق لفظ النص، وأن تعرف حده وحد الظاهر، وشرط التأويل المقبول، فنقول: النص إسم مشترك يطلق في تعارف العلماء على ثلاثة أوجه: الأول: ما أطلقه الشافعي رحمه الله، فإنه سمى الظاهر نصا، وهو منطبق على اللغة، ولا مانع منه في الشرع، والنص في اللغة بمعنى الظهور، تقول العرب: نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته، وسمي الكرسي منصة إذ تظهر عليه العروس، وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد فرجة نص، فعلى هذا حده حد الظاهر هو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع، فهو بالاضافة إلى ذلك المعنى الغالب ظاهر ونص. الثاني: وهو الاشهر، ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا، لا على قرب ولا على بعد، كالخمسة مثلا، فإنه نص في معناه لا يحتمل الستة ولا الاربعة وسائر الاعداد، ولفظ الفرس لا يحتمل الحمار والبعير وغيره، فكل ما كانت دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالاضافة إلى معناه نصا في طرفي الاثبات والنفي، أعني في إثبات المسمى ونفي ما لا ينطلق عليه الاسم، فعلى هذا حده اللفظ الذي يفهم منه على القطع معنى، فهو بالاضافة إلى معناه المقطوع به نص، ويجوز أن يكون اللفظ الواحد نصا ظاهرا مجملا، لكن بالاضافة إلى ثلاثة معان لا إلى معنى واحد. الثالث: التعبير بالنص عما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل، أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصا، فكان شرط النص بالوضع الثاني أن لا يتطرق إليه احتمال أصلا، وبالوضع الثالث أن لا يتطرق إليه احتمال مخصوص، وهو المعتضد بدليل، ولا حجر في إطلاق اسم النص على هذه المعاني الثلاثة، لكن الاطلاق الثاني أوجه وأشهر، وعن الاشتباه بالظاهر أبعد، هذا هو القول في النص والظاهر. أما القول في التأويل فيستدعي تمهيد أصل وضرب أمثلة: أما التمهيد: فهو أن التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر، ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز، وكذلك تخصيص العموم يرد اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز، فإنه إن ثبت أن وضعه وحقيقته للاستغراق فهو مجاز في الاقتصار على البعض، فكأنه رد له إلى المجاز، إلا أن الاحتمال تارة يقرب وتارة يبعد، فإن قرب كفى في إثباته دليل قريب، وإن لم يكن بالغا في القوة، وإن كان بعيدا افتقر إلى دليل قوي يجبر بعده حتى يكون ركوب ذلك الاحتمال البعيد أغلب على الظن من مخالفة ذلك الدليل، وقد يكون ذلك الدليل قرينة وقد يكون قياسا، وقد يكون ظاهرا آخر أقوى منه، ورب تأويل لا ينقدح إلا بتقدير قرينة وإن لم تنقل القرينة، كقوله عليه السلام: إنما الربا في النسيئة فإنه يحمل على مختلفي الجنس، ولا ينقدح هذا التخصيص إلا بتقدير واقعة وسؤال عن مختلفي الجنس ولكن يجوز تقدير مثل هذه القرينة إذا اعتضد بنص، وقوله عليه السلام: لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء نص في إثبات ربا الفضل، وقوله: إنما الربا في النسيئة حصر للربا في النسيئة، ونفي لربا الفضل، فالجمع بالتأويل البعيد الذي ذكرناه أولى من مخالفة النص، ولهذا المعنى كان الاحتمال البعيد كالقريب في العقليات، فإن دليل العقل لا تمكن مخالفته بوجه ما، والاحتمال البعيد يمكن أني يكون مرادا باللفظ بوجه ما، فلا يجوز التمسك في العقليات إلا بالنص بالوضع الثاني، وهو الذي لا يتطرق إليه احتمال قريب ولا بعيد، ومهما كان الاحتمال قريبا وكان الدليل أيضا قريبا وجب على المجتهد الترجيح والمصير إلى ما يغلب على ظنه.، فليس كل تأويل مقبولا بوسيلة كل دليل، بل ذلك يختلف، ولا يدخل تحت ضبط، إلا أنا نضرب أمثلة فيما يرتضي من التأويل وما لا يرتضي ونرسم في كل مثال مسألة ونذكر لاجل المثال عشر مسائل خمسة في تأويل العموم وخمسة في تخصيص العموم. |
12-06-2012, 07:48 PM | #45 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (فساد التأويل بقرائن) التأويل وإن كان محتملا فقد تجتمع قرائن تدل على فساده، وأحاد تلك القرائن لا تدفعه، لكن يخرج بمجموعها عن أن يكون منقدحا غالبا، مثاله: قوله عليه السلام لغيلان حين أسلم على عشر نسوة أمسك أربعا وفارق سائرهن وقوله عليه السلام لفيروز الديلمي حين أسلم على أختين: أمسك إحداهما وفارق الاخرى فإن ظاهر هذا يدل على دوام النكاح، فقال أبو حنيفة: أراد به ابتداء النكاح، أي أمسك أربعا فأنكحهن وفارق سائرهن، أي انقطع عنهن ولا تنكحهن، ولا شك أن ظاهر لفظ الامساك الاستصحاب والاستدامة، وما ذكره أيضا محتمل، ويعتضد أحتماله بالقياس، إلا أن جملة من القرائن عضدت الظاهر وجعلته أقوى في النفس من التأويل، أولها أنا نعلم أن الحاضرين من الصحابة لم يسبق إلى إفهامهم من هذه الكلمة إلا الاستدامة في النكاح، وهو السابق إلى أفهامنا، فإنا لو سمعناه في زماننا لكان هو السابق إلى أفهامنا. الثاني: أنه قابل لفظ الامساك بلفظ المفارقة وفوضه إلى اختياره، فليكن الامساك والمفارقة إليه، وعندهم الفراق واقع والنكاح لا يصح إلا برضا المرأة. الثالث: أنه لو أراد ابتداء النكاح لذكر شرائطه، فإنه كان لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، وما أحوج جديد العهد بالاسلام إلى أن يعرف شروط النكاح. الرابع: أنه لا يتوقع في اطراد العادة انسلاكهن في ربقة الرضا على حسب مراده، بل ربما كان يمتنع جميعهن، فكيف أطلق الامر مع هذا الامكان. الخامس: أن قوله: أمسك أمر وظاهره الايجاب، فكيف أوجب عليه ما لم يجب، ولعله أراد أن لا ينكح أصلا. السادس: أنه ربما أراد أن لا ينكحهن بعد أن قضى منهن وطرا، فكيف حصره فيهن بل، كان ينبغي أن يقول: إنكح أربعا ممن شئت من نساء العالم من الاجنبيات، فإنهن عندكم كسائر نساء العالم، فهذا وأمثاله من القرائن ينبغي أن يلتفت إليها في تقرير التأويل ورده، وآحادها لا يبطل الاحتمال، لكن المجموع يشكك في صحة القياس المخالف للظاهر، ويصير اتباع الظاهر بسببها أقوى في النفس من اتباع القياس، والانصاف أن ذلك يختلف بتنوع أحوال المجتهدين، وإلا فلسنا نقطع ببطلان تأويل أبي حنيفة مع هذه القرائن، وإنما المقصود تذليل الطريق للمجتهدين.
مسألة (التأويل في حديث غيلان الثقفي) من تأويلاتهم في هذه المسألة أن الواقعة ربما وقعت في ابتداء الاسلام قبل الحصر في عدد النساء، فكان على وفق الشرع، وإنما الباطل من أنكحة الكفار ما يخالف الشرع، كما لو جمع في صفقة واحدة بين عشر بعد نزول الحصر، فنقول: إذا سلم هذا أمكن القياس عليه، لان قياسهم يقتضي اندفاع جميع هذه الانكحة، كما لو نكح أجنبيتين ثم حدث بينهما أخوة برضاع اندفاع النكاح ولم يتخير، ومع هذا فنقول هذا بناء تأويل على احتمال من غير نقل، ولم يثبت عندنا رفع حجر في ابتداء الاسلام، ويشهد له أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة زيادة على أربعة، وهم الناكحون، ولو كان جائزا لفارقوا عند نزول الحصر ولاوشك أن ينقل ذلك، وقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف} (النساء: 23) أراد به زمان الجاهلية، هذا ما ورد في التفسير، فإن قيل: فلو صح رفع حجر في الابتداء، هل كان هذا الاحتمال مقبولا؟ قلنا: قال بعض أصحابنا الاصوليين: لا يقبل، لان الحديث استقل حجة، فلا يدفع بمجرد الاحتمال، ما لم ينقل وقوع نكاح غيلان قبل نزول الحجر، وهذا ضعيف، لان الحديث لا يستقل حجة ما لم ينقل تأخر نكاحه عن نزول الحصر لانه إن تقدم فليس بحجة وإن تأخر فهو حجة، فليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر، ولا تقوم الحجة باحتمال يعارضه غيره. مسألة (هل يرفع التأويل النص؟) قال بعض الاصوليين كل تأويل يرفع النص أو شيئا منه فهو باطل، ومثاله تأويل أبي حنيفة في مسألة الابدال حيث قال عليه الصلاة والسلام في أربعين شاة شاة فقال أبو حنيفة، الشاة غير واجبة، وإنما الواجب مقدار قيمتها من أي مال كان، قال: فهذا باطل لان اللفظ نص في وجوب شاة، وهذا رفع وجوب الشاة، فيكون رفعا للنص، فإن قوله: (وآتوا الزكاة} (النساء: 77) للايجاب، وقوله عليه السلام: في أربعين شاة شاة بيان للواجب وإسقاط وجوب الشاة رفع للنص، وهذا غير مرضي عندنا، فإن وجوب الشاة إنما يسقط بتجويز الترك مطلقا، فأما إذا لم يجز تركها إلا ببدل يقوم مقامها فلا تخرج الشاة عن كونها واجبة، فإن من أدى خصلة من خصال الكفارة المخير فيها فقد أدى واجبها، وإن كان الوجوب يتأدى بخصلة أخرى، فهذا توسيع للوجوب واللفظ نعى في أصل الوجوب لا في تعيينه وتصنيفه ولعله ظاهر في التعيين محتمل للتوسيع والتخيير، وهو كقوله: وليستنج بثلاثة أحجار فإن إقامة المدر مقامه لا يبطل وجوب الاستنجاء، لكن الحجر يجوز أن يتعين ويجوز أن يتخير بينه وبين ما في معناه، نعم إنما ينكر الشافعي هذا التأويل لا من حيث أنه نص لا يحتمل لكن من وجهين: أحدهما: أن دليل الخصم أن المقصود سد الخلة، ومسلم أن سد الخلة مقصود، لكن غير مسلم أنه كل المقصود، فلعله قصد مع ذلك التعبد بإشراك الفقير في جنس مال الغني فالجمع بين الظاهر وبين التعبد ومقصود سد الخلة أغلب على الظن في العبادات، لان العبادات مبناها على الاحتياط، من تجريد النظر إلى مجرد سد الخلة. الثاني: أن التعليل بسد الخلة مستنبط من قوله: في أربعين شاة شاة وهو استنباط يعود على أصل النص بالابطال، أو على الظاهر بالرفع، وظاهره وجوب الشاة على التعيين، فإبراز معنى لا يوافق الحكم السابق إلى الفهم من اللفظ لا معنى له، لان العلة ما يوافق الحكم، والحكم لا معنى له إلا ما يدل عليه ظاهر اللفظ، وظاهر اللفظ يدل على تعيين الشاة، وهذا التعليل يدفع هذا الظاهر، وهذا أيضا عندنا في محل الاجتهاد، فإن معنى سد الخلة ما يسبق إلى الفهم من إيجاب الزكاة للفقراء وتعيين الشاة يحتمل أن يكون للتعبد، كما ذكر الشافعي رحمه الله، ويحتمل أن لا يكون متعينا، لكن الباعث على تعيينه شيئان: أحدهما: أن الايسر على الملاك، والاسهل في العبادات كما عين ذكر الحجر في الاستنجاء، لانه أكثر في تلك البلاد وأسهل، وكما يقول المفتي وجبت عليه كفارة اليمين: تصدق بعشرة أمداد من البر، لانه يرى ذلك أسهل عليه من العتق، ويعلم من عادته أنه لو خير بينهما لاختار الاطعام على الاعتاق ليسره، فيكون ذلك باعثا على تخصيصه بالذكر. والثاني: أن الشاة معيار لمقدار الواجب فلا بد من ذكرها، إذ القيمة تعرف بها، وهي تعرف بنفسها، فهي أصل على التحقيق، ولو فسر النبي عليه الصلاة والسلام كلامه بذلك لم يكن متناقضا، ولكان حكما بأن البدل يجري في الزكاة فهذا كله في محل الاجتهاد، وإنما تشمئز عنه طباع من لم يأنس بتوسع العرب في الكلام، وظن اللفظ نصا في كل ما يسبق إلى الفهم منه، فليس يبطل الشافعي رحمه الله هذا الانتفاء الاحتمال، لكن لقصور الدليل الذي يعضده، ولامكان كون التعبد مقصودا مع سد الخلة، ولانه ذكر الشاة في خمس من الابل وليس من جنسه حتى يكون للتسهيل، ثم في الجبران ردد بين شاة وعشرة دراهم، ولم يردهم إلى قيمة الشاة، وفي خمس من الابل لم يردد فهذه قرائن تدل على التعبد والباب باب التعبد والاحتياط فيه أولى. مسألة (تأويل آية مصارف الزكاة) يقرب مما ذكرنا تأويل الآية في مسألة أصناف الزكاة، فقال قوم، قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} (التوبة: 06) الآية، نص في التشريك، فالصرف إلى واحد إبطال له، وليس كذلك عندنا، بل هو عطف على قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} ولو أنهم رضوا} (التوبة: 58، 59) إلى قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} (التوبة: 60) يعني أن طمعهم في الزكاة مع خلوهم عن شرط الاستحقاق باطل، ثم عدد شروط الاستحقاق ليبين مصرف الزكاة، ومن يجوز صرف الزكاة إليه، فهذا محتمل، فإن منعه فللقصور في دليل التأويل، لا لانتفاء الاحتمال، فهذا وأمثاله ينبغي أن يسمى نصا بالوضع الأول أو الثالث أما بالوضع الثاني فلا. مسألة (هل المعتبر العدد أم الجنس؟) قال قوم: قوله تعالى: {فإطعام ستين مسكينا} (المجادلة: 4) نص في وجوب رعاية العدد ومنع الصرف إلى مسكين واحد في ستين يوما، وقطعوا ببطلان تأويله، وهو عندنا من جنس ما تقدم فإنه إن أبطل لقصور الاحتمال، وكون الآية نصا بالوضع الثاني فهو غير مرضي، فإنه يجوز أن يكون ذكر المساكين لبيان مقدار الواجب ومعناه فإطعام طعام ستين مسكينا، وليس هذا ممتنعا في توسع لسان العرب، نعم دليله تجريد النظر إلى سد الخلة، والشافعي يقول: لا يبعد أن يقصد الشرع، ذلك لاحياء ستين مهجة تبركا بدعائهم وتحصنا عن حلول العذاب بهم، ولا يخلو جمع من المسلمين عن ولي من الأولياء يغتنم دعاؤه، ولا دليل على بطلان هذا المقصود فتصير الآية نصا بالوضع الأول والثالث، لا بالوضع الثاني هذه أمثلة التأويل، ولنذكر أمثلة التخصيص، فإن العموم إن جعلنا ظاهرا في الاستغراق لم يكن في التخصيص إلا إزالة ظاهر، فلاجل ذلك عجلنا ذكر هذا القدر، وإلا فبيانه في القسم الرابع المرسوم لبيان العموم أليق. مسألة (أقسام العموم) إعلم أن العموم عند من يرى التمسك به ينقسم إلى قوي يبعد عن قبول التخصيص إلا بدليل قاطع أو كالقاطع، وهو الذي يحوج إلى تقدير قرينة، حتى تنقدح إرادة الخصوص به، وإلى ضعيف ربما يشك في ظهوره، ويقتنع في تخصيصه، بدليل ضعيف وإلى متوسط، مثال القوي منه قوله صلى الله عليه وسلم: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل الحديث، وقد حمله الخصم على الامة، فنبا عن قبوله قوله، فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن مهر الامة للسيد، فعدلوا إلى الحمل على المكاتبة، وهذا تعسف ظاهر، لان العموم قوي، والمكاتبة نادرة بالاضافة إلى النساء، وليس من كلام العرب إرادة النادر الشاذ باللفظ الذي ظهر منه قصد العموم إلا بقرينة تقترن باللفظ، وقياس النكاح على المال وقياس الاناث على الذكور ليس قرينة مقترنة باللفظ حتى يصلح لتنزيله على صورة نادرة، ودليل ظهور قصد التعمم بهذا اللفظ أمور: الأول: أنه صدر الكلام بأي، وهي من كلمات الشرط، ولم يتوقف في عموم أدوات الشرط جماعة ممن توقف في صيغ العموم الثاني: أنه أكده بما فقال: أيما وهي من المؤكدات المستقلة بإفادة العموم أيضا. الثالث: أنه قال فنكاحها باطل رتب الحكم على الشرط في معرض الجزاء، وذلك أيضا يؤكد قصد العموم، ونحن نعلم أن العربي الفصيح لو اقتراح عليه بأن يأتي بصيغة عامة دالة على قصد العموم مع الفصاحة والجزالة لم تسمح قريحته بأبلغ من هذه الصيغة، ونحن نعلم قطعا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا من هذه الصيغة المكاتبة، وأنا لو سمعنا واحدا منا يقول لغيره: أيما امرأة رأيتها اليوم فأعطها درهما، لا يفهم منه المكاتبة، ولو قال: أردت المكاتبة نسب إلى الالغاز والهزء، ولو قال: أيما أهاب دبغ فقد طهر، ثم قال: أردت به الكلب أو الثعلب على الخصوص، لنسب إلى اللكنة والجهل باللغة، ثم لو أخرج الكلب أو الثعلب أو المكاتبة وقال: ما خطر ذلك ببالي لم يستنكر، فما لا يخطر بالبال أو بالاخطار وجاز أن يشذ عن ذكر اللافظ وذهنه حتى جاز إخراجه عن اللفظ، كيف يجوز قصر اللفظ عليه؟ بل نقول: من ذهب إلى إنكار صيغ العموم وجعلها مجملة فلا ينكر منع التخصيص إذا دلت القرائن عليه، فالمريض إذا قال لغلامه: لا تدخل علي الناس، فأدخل عليه جماعة من الثقلاء وزعم أني أخرجت هذا من عموم لفظ الناس فإنه ليس نصا في الاستغراق استوجب التعزيز، فلنتخذ هذه المسألة مثالا لمنع التخصيص بالنوادر. |
12-06-2012, 07:48 PM | #46 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (مثال عن العام القوي) يقرب من هذا قوله عليه الصلاة والسلام: من ملك ذا رحم محرم عتق عليه إذ قبله بعض أصحاب الشافعي وخصصه بالاب، وهذا بعيد، لان الاب يختص بخاصية تتقاضى تلك الخاصية التنصيص عليه فيما يوجب الاحترام والعدول عن لفظه الخاص إلى لفظ يعم قريب من الالغاز والالباس، ولا يليق بمنصب الشارع عليه السلام إلا إذا اقترن به قرينة معرفة، ولا سبيل إلى وضع القرائن من غير ضرورة، وليس قياس الشافعي في تخصيص النفقة بالبعضية بالغا في القوة مبلغا ينبغي أن يخترع تقدير القرائن بسببه، فلو صح هذا اللفظ لعمل الشافعي رحمه الله بموجبه، فإن من كان من عادته إكرام أبيه فقال: من عادتي إكرام الناس كان ذلك خلفا من الكلام، ولكن قال الشافعي: الحديث موقوف على الحسن بن عمارة.
مسألة (مثال عن العام الضعيف) ما ذكرناه مثال العموم القوي، أما مثال العموم الضعيف، فقوله عليه السلام: فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي ينضح أو دالية نصف العشر فقد ذهب بعض القائلين بصيغ العموم إلى أن هذا لا يحتج به في إيجاب العشر ونصف العشر في جميع ما سقته السماء، ولا في جميع ما سقي بنضح، لان المقصود منه الفرق بين العشر ونصف العشر لا بيان ما يجب فيه العشر حتى يتعلق بعمومه، وهذا فيه نظر عندنا، إذ لا يبعد أن يكون كل واحد مقصودا وهو إيجاب العشر في جميع ما سقته السماء، وإيجاب نصفه في جميع ما سقي بنضح، واللفظ عام في صيغته، فلا يزول ظهوره بمجرد الوهم، لكن يكفي في التخصيص أدنى دليل، لكنه لو لم يرد إلا بهذا اللفظ، ولم يرد دليل مخصص لوجب التعميم في الطرفين على مذهب من يرى صيغ العموم حجة. مسألة (تأويل آية الانفال) قال الله تعالى: {اعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى} (الانفال: 14) فقال أبو حنيفة: تعتبر الحاجة مع القرابة، ثم جوز حرمان ذوي القربى فقال أصحاب الشافعي رحمه الله: هذا تخصيص باطل لا يحتمله اللفظ، لانه أضاف المال إليهم بلام التمليك، وعرف كل جهة بصفة، وعرف هذه الجهة في الاستحقاق بالقرابة، وأبو حنيفة ألغى القرابة المذكورة، واعتبر الحاجة المتروكة، وهو مناقضة للفظ لا تأويل، وهذا عندنا في مجال الاجتهاد، وليس فيه إلا تخصيص عموم لفظ، ذوي القربى بالمحتاجين منهم كما فعله الشافعي على أحد القولين في اعتبار الحاجة مع اليتم في سياق هذه الآية، فإن قيل: لفظ اليتم ينبئ عن الحاجة؟ قيل: فلم لا يحمل عليه قوله: لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر فإن قيل: قرينة إعطاء المال هي التي تنبه على اعتبار الحاجة مع اليتم فله هو أن يقول واقتران ذوي القربى باليتامى والمساكين قرينة أيضا، وإنما دعا إلى ذكر القرابة كونهم محرومين عن الزكاة حتى يعلم أنهم ليسوا محرومين عن هذا المال، وهذا تخصيص لو دل عليه دليل فلا بد من قبوله، فليس ينبو عنه اللفظ نبوة حديث النكاح بلا ولي عن المكاتبة. مسألة (تأويل نية الصيام) قوله عليه السلام: لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل حمله أبو حنيفة على القضاء والنذر، فقال أصحابنا: قوله: لا صيام نفي عام لا يسبق منه إلى الفهم إلا الصوم الأصلي الشرعي، وهو الفرض والتطوع، ثم التطوع غير مراد، فلا يبقى إلا الفرض الذي هو ركن الدين وهو صوم رمضان، وأما القضاء والنذر فيجب بأسباب عارضة، ولا يتذكر بذكر الصوم مطلقا، ولا يخطر بالبال، بل يجري مجرى النوادر كالمكاتبة في مسألة النكاح، وهذا فيه نظر، إذ ليس ندور القضاء والنذر كندور المكاتبة، وإن كان الفرض أسبق منه إلى الفهم، فيحتاج مثل هذا التخصيص إلى دليل قوي، فليس يظهر بطلانه كظهور بطلان التخصيص بالمكاتبة وعند هذا يعلم أن إخراج النادر قريب، والقصر على النادر ممتنع وبينهما درجات متفاوتة في القرب والبعد لا تدخل تحت الحصر، ولكل مسألة ذوق، ويجب أن تفرد بنص خاص، ويليق ذلك بالفروع، ولم نذكر هذا القدر إلا لوقوع الانس بجنس التصرف فيه والله أعلم. هذا تمام النظر في المجمل والمبين، والظاهر والمؤول، وهو نظر يتعلق بالالفاظ كلها، والقسمان الباقيان نظر أخص، فإنه نظر في الامر والنهي خاصة، وفي العموم والخصوص خاصة، فلذلك قدمنا النظر في الاعم على النظر في الاخص. القسم الثالث في الامر والنهي فنبدأ بالامر فنقول: أولا: في حده وحقيقته، وثانيا: في صيغته، وثالثا: في مقتضاه من الفور والتراخي أو الوجوب أو الندب، وفي التكرار والاتحاد وإثباته. النظر الأول: في حده وحقيقته وهو قسم من أقسام الكلام، إذ بينا أن الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر واستخبار، فالامر أحد أقسامه، وحد الامر أنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به والنهي هو القول المقتضي ترك الفعل، وقيل في حد الامر أنه طلب الفعل واقتضاؤه على غير وجه المسألة، وممن هو دون الآمر في الدرجة احترازا عن قوله: اللهم اغفر لي، وعن سؤال العبد من سيده، والولد من والده، ولا حاجة إلى هذا الاحتراز، بل يتصور من العبد والولد أمر السيد والوالد، وإن لم تجب عليهما الطاعة، فليس من ضرورة كل أمر أن يكون واجب الطاعة، بل الطاعة لا تجب إلا لله تعالى، والعرب قد تقول: فلان أمر أباه، والعبد أمر سيده، ومن يعلم أن طلب الطاعة لا يحسن منه، فيرون ذلك أمرا وإن لم يستحسنوه، وكذلك قوله: اغفر لي، فلا يستحيل أن يقوم بذاته اقتضاء الطاعة من الله تعالى أو من غيره، فيكون آمرا ويكون عاصيا بأمره، فإن قيل: قولكم الامر هو القول المقتضي طاعة المأمور أردتم به القول باللسان أو كلام النفس قلنا: الناس فيه فريقان: الفريق الأول: هم المثبتون لكلام النفس وهؤلاء يريدون بالقول ما يقوم بالنفس من اقتضاء الطاعة، وهو الذي يكون النطق عبارة عنه ودليلا عليه، وهو قائم بالنفس وهو أمر بذاته وجنسه، ويتعلق بالمأمور به، وهو كالقدرة، فإنها قدرة لذاتها، وتتعلق بمتعلقها، ولا يختلف في الشاهد والغائب في نوعه وحده وينقسم إلى قديم ومحدث كالقدرة، ويدل عليه تارة بالاشارة والرمز والفعل وتارة بالالفاظ، فإن سميت الاشارة المعرفة أمرا فمجاز، لانه دليل على الامر، لا أنه نفس الامر، وأما الالفاظ فمثل قوله: أمرتك، فاقتضى طاعته، وهو ينقسم إلى إيجاب وندب، ويدل على معنى الندب بقوله: ندبتك ورغبتك فافعل فإنه خير لك، وعلى معنى الوجوب بقوله: أوجبت عليك أو فرضت أو حتمت فافعل فإن تركت فأنت معاقب وما يجري مجراه، وهذه الالفاظ الدالة على معنى الامر تسمى أمرا، وكأن الاسم مشترك بين المعنى القائم بالنفس وبين اللفظ الدال، فيكون حقيقة فيهما، أو يكون حقيقة في المعنى القائم بالنفس، وقوله: إفعل، يسمى أمرا مجازا: كما تسمى الاشارة المعرفة أمرا مجازا، ومثل هذا الخلاف جاز في اسم الكلام أنه مشترك بين ما في النفس وبين اللفظ، أو هو مجاز في اللفظ. الفريق الثاني: هم المنكرون لكلام النفس، وهؤلاء انقسموا إلى ثلاثة أصناف، وتحزبوا على ثلاث مراتب: الحزب الأول: قالوا: لا معنى للامر إلا حرف وصوت، وهو مثل قوله: إفعل، أو ما يفيد معناه، وإليه ذهب البلخي من المعتزلة، وزعم أن قوله: إفعل، أمر لذاته وجنسه، وأنه لا يتصور أن لا يكون أمرا، فقيل له: هذه الصيغة قد تصدر للتهديد، كقوله: اعملوا ما شئتم، وقد تصدر للاباحة، كقوله: {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة: 2) فقال: ذلك جنس آخر لا من هذا الجنس، وهو مناكرة للحس، فلما استشعر ضعف هذه المجاحدة اعترف. الحزب الثاني: وفيهم جماعة من الفقهاء يقولون: إن قوله: أفعل ليس أمرا بمجرد صيغته ولذاته، بل لصيغته وتجرده عن القرائن الصارفة له عن جهة الامر إلى التهديد والاباحة وغيره، وزعموا أنه لو صدر من النائم والمجنون أيضا لم يكن أمرا للقرينة، وهذا بعارضه قوله من قال أنه لغير الامر، إلا إذا صرفته قرينة إلى معنى الامر، لانه إذا سلم إطلاق العرب هذه الصيغة على أوجه مختلفة فحوالة البعض على الصيغة، وحوالة الباقي على القرينة تحكم مجرد لا يعلم بضرورة العقل، ولا بنظر ولا بنقل متواتر من أهل اللغة، فيجب التوقف فيه، فعند ذلك اعترف. الحزب الثالث: من محققي المعتزلة: أنه ليس أمر الصيغة وذاته ولا لكونه مجردا عن القرائن مع الصيغة، بل يصير أمرا بثلاث إرادات، إرادة المأمور به، وإرادة إحداث الصيغة، وإرادة الدلالة بالصيغة على الامر دون الاباحة والتهديد، وقال بعضهم: تكفي إرادة واحدة وهي إرادة المأمور، وهذا فاسد من أوجه: الأول: أنه يلزم أن يكون قوله تعالى: {ادخلوها بسلام آمنين} (الحجر: 64) وقوله: {كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الايام الخالية} (الحاقة: 42) أمرا لاهل الجنة، ولا يمكن تحقيق الامر إلا بوعد ووعيد، فتكون الدار الآخرة دار تكليف ومحنة، وهو خلاف الإجماع. وقد ركب ابن الجبائي هذا وقال: إن الله مريد دخولهم الجنة، وكاره امتناعهم، إذ يتعذر به إيصال الثواب إليهم وهذا ظلم والله سبحانه يكره الظلم، فإن قيل: قد وجدت إرادة الصيغة وإرادة المأمور به، لكن لم توجد إرادة الدلالة به على الامر؟ قلنا: وهل للامر معنى وراء الصيغة حتى تراه الدلالة عليه أم لا، فإن كان له معنى فما هو وهل له حقيقة سوى ما يقول بالنفس من اقتضاء الطاعة، وإن لم يكن سوى الصيغة، فلا معنى لاعتبار هذه الارادة الثالثة. الوجه الثاني: أنه يلزمهم أن يكون القائل لنفسه: إفعل، مع إرادة الفعل من نفسه آمرا لنفسه، وهو محال بالاتفاق، فإن الامر هو المقتضى، وأمره لنفسه لا يكون مقتضيا للفعل، بل المقتضي دواعيه وأغراضه، ولهذا لو قال لنفسه: إفعل، وسكت وجد هاهنا إرادة الصيغة وإرادة المأمور به، وليس بأمر، فدل أن حقيقته اقتضاء الطاعة وهو معنى قائم بالنفس من ضرورته أن يتعلق بغيره، وهل يشترط أن لا يكون ذلك الغير فوقه في الرتبة فيه كلام سبق، فإن قيل: وما الدليل على قيام معنى بالنفس سوى إرادة الفعل المأمور به، فإن السيد لا يجد من نفسه عند قوله لعبده إسقني أو أسرج الدابة إلا إرادة السقي والاسراج، أعني طلبه والميل إليه، لارتباط غرضه به، فإن ثبت أن الامر يرجع إلى هذه الارادة لزم إقتران الامر، والارادة في حق الله تعالى، حتى لا تكون المعاصي الواقعة إلا مأمورا بها مرادة إذ الكائنات كلها مرادة، أو ينكر وقوعها بإرادة الله، فيقال: إنها على خلاف إرادته، وهو شنيع إذ يؤدي إلى أن يكون ما يجري في ملكه، على خلاف ما أراد أكثر مما يجري على وفق إرادته، وهي الطاعات، وذلك أيضا منكر، فما المخلص من هذه الورطة؟ قلنا: هذه الضرورة التي دعت الاصحاب إلى تمييز الامر عن الارادة فقالوا: قد يأمر السيد عبده بما لا يريده، كالمعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده إذا مهد عنده عذره لمخالفة أوامره فقال له بين يدي الملك: أسرج الدابة، وهو يريد أن لا يسرج إذ في إسراجه خطر وإهلاك للسيد، فيعلم أنه لا يريده، وهو آمرا إذ لولاه لما كان العبد مخالفا ولما تمهد عذره عند السلطان وكيف لا يكون آمرا وقد منهم العبد والسلطان والحاضرون منه الامر، فدل أنه قد يأمر بما لا يريده هذا منتهى كلامهم، وتحته غور لو كشفناه لم تحتمل لاصول التفصي عن عهدة ما يلزم منه ولتزلزلت به قواعد لا يمكن تداركها إلا بتفهيمها على وجه يخالف ما سبق إلى أوهام أكثر المتكلمين، والقول فيه يطول ويخرج عن خصوص مقصود الاصول. النظر الثاني: في الصيغة وقد حكى بعض الاصوليين خلافا في أن الامر هل له صيغة، وهذه الترجمة خطأ، فإن قول الشارع: أمرتكم بكذا وأنتم مأمورون بكذا، أو قول الصحابي: أمرت بكذا، كل ذلك صيغ دالة على الامر، وإذا قال: أوجبت عليكم أو فرضت عليكم، أو أمرتكم بكذا وأنتم معاقبون على تركه، فكل ذلك يدل على الوجوب، ولو قال: أنتم مثابون على فعل كذا ولستم معاقبين على تركه فهو صيغة دالة على الندب، فليس في هذا خلاف، وإنما الخلاف في أن قوله: إفعل، هل يدل على الامر بمجرد صيغته إذا تجرد عن القرائن، فإنه قد يطلق على أوجه: منها بالوجوب، كقوله: أقم الصلاة [ لقمان: 17 ] والندب، كقوله: فكاتبوهم والارشاد، كقوله: {واستشهدوا} [البقره: 282] والاباحة، كقوله: فاصطادوا، والتأديب، كقوله لابن عباس: كل مما يليك والامتنان، كقوله: كلوا مما رزقكم الله، وإلا كرام، كقوله: {ادخلوها بسلام آمنين} (الحجر: 64) والتهديد كقوله: {اعملوا ما شئتم} (فصلت: 40) والتسخير كقوله: {كونوا قردة خاسئين} (البقرة: 56) والاهانة كقوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: 94) والتسوية كقوله: {فاصبروا أو لا تصبروا} (الطور: 61) والانذار كقوله: {كلوا وتمتعوا} (المرسلات: 64). والدعاء كقوله: اللهم اغفر لي والتمني كقول الشاعر: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ولكمال القدرة كقوله: {كن فيكون} (البقره 117، آل عمران: 47، 59، الانعام: 73، النحل: 40، مريم: 35، يس 28، غافر: 86) وأما صيغة النهي وهو قوله: لا تفعل، فقد تكون للتحريم وللكراهية والتحقير، كقوله: {لا تمدن عينيك} (الحجر: 88) ولبيان العاقبة كقوله: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون} (إبراهيم: 24) وللدعاء كقوله: ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولليأس كقوله: {لا تعتذروا اليوم} (التحريم: 7) وللارشاد كقوله: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} (المائدة: 101) فهذه خمسة عشر وجها في إطلاق صيغة الامر، وسبعة أوجه في إطلاق صيغة النهي فلا بد من البحث عن الوضع الأصلي في جملة ذلك ما هو والمتجوز به ما هو، وهذه الاوجه عدها الاصوليون شغفا منهم بالتكثير، وبعضها كالمتداخل، فإن قوله: كل مما يليك جعل للتأديب، وهو داخل في الندب، والآداب مندوب إليها، وقوله: {تمتعوا) (هود 65، إبراهيم: 30، الذاريات: 43) للانذار، قريب من قوله: {إعملوا ما شئتم} (فصلت: 04) الذي هو للتهديد، ولا نطول بتفصيل ذلك وتحصيله، فالوجوب والندب والارشاد والاباحة أربعة وجوه محصلة، ولا فرق بين الارشاد والندب، إلا أن الندب لثواب الآخرة، والارشاد للتنبيه على المصلحة الدنيوية، فلا ينقص ثواب بترك الاشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله. وقال قوم: هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة عشر، كلفظ العين والقرء، وقال قوم: يدل على أقل الدرجات، وهو الاباحة، وقال قوم: هو للندب، ويحمل على الوجوب بزيادة قرينة، وقال قوم: هو للوجوب، فلا يحمل على ما عداه إلا بقرينة، وسبيل كشف الغطاء أن نرتب النظر على مقامين: الأول: في بيان أن هذه الصيغة هل تدل على اقتضاء وطلب أم لا. والثاني: في بيان أنه إن اشتمل في اقتضاء، والاقتضاء موجود في الندب، والوجوب على اختيارنا في أن الندب داخل تحت الامر فهل يتعين لاحدهما أو هو مشترك؟. المقام الأول: في دلالته على اقتضاء الطاعة، فنقول: قد أبعد من قال أن قوله: إفعل مشترك بين الاباحة والتهديد الذي هو المنع وبين الاقتضاء، فإنا ندرك التفرقة في وضع اللغات كلها، بين قولهم، إفعل ولا تفعل، وإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل، حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن كلها، وقدرنا هذا منقولا على سبيل الحكاية عن ميت أو غائب لا في فعل معين من قيام وقعود وصيام وصلاة، بل في الفعل مجملا، سبق إلى فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ، وعلمنا قطعا أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد، كما أنا ندرك التفرقة بين قولهم في الاخبار: قام زيد ويقوم زيد، وزيد قائم، في أن الأول للماضي، والثاني للمستقبل الثالث للحال، هذا هو الوضع، وإن كان قد يعبر بالماضي عن المستقبل، وبالمستقبل عن الماضي لقرائن تدل عليه، وكما ميزوا الماضي عن المستقبل ميزوا الامر عن النهي، وقالوا في باب الامر: إفعل، وفي باب النهي: لا تفعل، وإنهما لا ينبئان عن معنى قوله: إن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعل، فهذا أمر نعلمه بالضرورة من العربية والتركية والعجمية وسائر اللغات، لا يشككنا فيه لطلاق مع قرينة التهديد ومع قرينة الاباحة في نوادر الاحوال، فإن قيل: بم تنكرون على من يحمله على الاباحة، لانها أقل الدرجات فهو مستيقن؟ قلنا: هذا باطل من وجهين: أحدهما: أنه محتمل للتهديد والمنع، فالطريق الذي يعرف أنه لم يوضع للتهديد يعرف أنه لم يوضع للتخيير. الثاني: أن هذا من قبيل الاستصحاب، لا من قبيل البحث عن الوضع، فإنا نقول: هل تعلم أن مقتضى قوله: إفعل للتخيير بين الفعل والترك؟ فإن قال: نعم، فقد باهت واخترع، وإن قال: لا، فنقول: فأنت شاك في معناه، فيلزمك التوقف، فيحصل من هذا أن قوله: إفعل يدل على ترجيح جانب الفعل على جانب الترك بأنه ينبغي أن يوجد، وقوله: لا تفعل، يدل على ترجيح جانب الترك على جانب الفعل، وأنه ينبغي أن لا يوجد، وقوله: أبحت لك، فإن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعل يرفع الترجيح. المقام الثاني: في ترجيح بعض ما ينبغي أن يوجد، فإن الواجب و المندوب كل واحد منهما ينبغي أن يوجد ويرجح فعله على تركه، وكذا ما أرشد إليه، إلا أن الارشاد يدل على أنه ينبغي أن يوجد ويرجح فعله على تركه لمصلحة العبد في الدنيا، والندب لمصلحته في الآخرة، والوجوب لنجاته في الآخرة، هذا إذا فرض من الشارع، وفي حق السيد إذا قال لعبده إفعل، أيضا يتصور ذلك مع زيادة أمر، وهو أن يكون لغرض السيد فقط، كقوله: إسقني عند العطش، وهو غير متصور في حق الله تعالى: فإن الله غني عن العالمين، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، وقد ذهب ذاهبون إلى أن وضعه للوجوب، وقال قوم: هو للندب، وقال قوم: يتوقف فيه، ثم منهم من قال: هو مشترك، كلفظ العين، ومنهم من قال: لا ندري أيضا أنه مشترك، أو وضع لاحدهما واستعمل في الثاني مجازا، والمختار أنه متوقف فيه، والدليل القاطع فيه أن كونه موضوعا لواحد من الاقسام، لا يخلو إما أن يعرف عن عقل أو نقل، ونظر العقل إما ضروري أو نظري، ولا مجال للعقل في اللغات، والنقل إما متواتر أو آحاد ولا حجة في الآحاد، والتواتر في النقل لا يعدو أربعة أقسام: فإنه إما أن ينقل عن أهل اللغة عند وضعهم أنهم صرحوا بأنا وضعناه لكذا، أو أقروا به بعد الوضع، وإما أن ينقل عن الشارع الاخبار عن أهل اللغة بذلك، أو تصديق من ادعى ذلك، وإما أن ينقل عن أهل الإجماع، وإما أن يذكر بين يدي جماعة يمتنع عليهم السكوت على الباطل، فهذه الوجوه الاربعة هي وجوه تصحيح النقل ودعوى شئ من ذلك في قوله: إفعل، أو في قوله: أمرتك بكذا، وقول الصحابي: أمرنا بكذا لا يمكن، فوجب التوقف فيه، وكذلك قصر دلالة الامر على الفور أو التراخي وعلى التكرار أو الاتحاد يعرف بمثل هذه الطريق، وكذلك التوقف في صيغة العموم عمن توقف فيها هذا مستنده، وعليه ثلاثة أسئلة بها يتم الدليل، ونذكر شبه المخالفين: السؤال الأول: قولهم إن هذا ينقلب عليكم في إخراج الاباحة والتهديد من مقتضى اللفظ، مع أنه لا يدل عليه عقل ولا نقل، فإنه لم ينقل عن العرب صريحا بأنا ما وضعنا هذه الصيغة للاباحة والتهديد، لكن استعملناها فيهما على سبيل التجوز، قلنا: ما يعرف باستقراء اللغة وتصفح وجوه الاستعمال أقوى مما يعرف بالنقل الصريح، ونحن كما عرفنا أن الاسد وضع لسبع، والحمار وضع لبهيمة، وإن كان كل واحد منهما يستعمل في الشجاع والبليد، فيتميز عندنا بتواتر الاستعمال الحقيقة من المجاز، فكذلك يتميز صيغة الامر والنهي والتخيير تميز صيغة الماضي والمستقبل والحال، ولسنا نشك فيه أصلا، وليس كذلك تميز الوجوب عن الندب. السؤال الثاني: قولهم إن هذا ينقلب عليكم في الوقف، فإن الوقف في هذه الصيغة غير منقول عن العرب، فلم توقفتم بالتحكم؟ قلنا: لسنا نقول: التوقف مذهب، لكنهم أطلقوا هذه الصيغة للندب مرة وللوجوب أخرى، ولم يوقفونا على أنه موضوع لاحدهما دون الثاني، فسبيلنا أن لا ننسب إليهم ما لم يصرحوا به، وأن نتوقف عن التقول والاختراع عليهم، وهذا كقولنا بالاتفاق أنا رأيناهم يستعملون لفظ الفرقة والجماعة، والنفر تارة في الثلاثة، وتارة في الاربعة، وتارة في الخمسة، فهي لفظة مرددة، ولا سبيل إلى تخصيصها بعدد على سبيل الحكم وجعلها مجازا في الباقي. السؤال الثالث: قولهم إن هذا ينقلب عليكم في قولكم إن هذه الصيغة مشتركة اشتراك لفظ الجارية بين المرأة والسفينة، والقرء بين الطهر والحيض، فإنه لم ينقل أنه مشترك؟ قلنا: لسنا نقول أنه مشترك، لكنا نقول: نتوقف في هذه أيضا، فلا ندري أنه وضع لاحدهما وتجوز به عن الآخر، أو وضع لهما معا، ويحتمل أن نقول أنه مشترك، بمعنى أنا إذا رأيناهم أطلقوا اللفظ لمعنيين ولم يوقفونا على أنهم وضعوه لاحدهما وتجوزوا به في الآخر، فنحمل إطلاقهم فيهما على لفظ الوضع لهما، وكيفما قلنا فالامر فيه قريب. شبه المخالفين الصائرين إلى أنه للندب وقد ذهب إليه كثير من المتكلمين وهم المعتزلة وجماعة من الفقهاء، ومنهم من نقله عن الشافعي، وقد صرح الشافعي في كتاب أحكام القرآن بتردد الامر بين الندب والوجوب وقال: النهي على التحريم، فقال: إنما أوجبنا تزويج الايم، لقوله تعالى: {فلا تعضلوهن} (البقرة: 232) وقال لم يتبين لي وجوب إنكاح العبد، لانه لم يرد فيه النهي عن العضل، بل لم يرد إلا قوله تعالى: {وأتكحوا الايامى} (النور: 23) الآية، فهذا أمر، وهو محتمل للوجوب والندب. الشبهة الأولى: لمن ذهب إلى أنه للندب أنه لا بد من تنزيل قوله: إفعل، وقوله أمرتكم على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب، وهو طلب الفعل واقتضاؤه وأن فعله خير من تركه، وهذا معلوم، وأما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم، فيتوقف فيه، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه: الأول: أن هذا استدلال، والاستدلال لا مدخل له في اللغات، وليس هذا نقلا عن أهل اللغة قوله إفعل للندب. الثاني: أنه لو وجب تنزيل الالفاظ على الاقل المستيقن لوجب تنزيل هذا على الاباحة والاذن، إذ قد يقال: أذنت لك في كذا فافعله، فهو الاقل المشترك، أما حصول الثواب بفعله فليس بمعلوم، كلزوم العقاب بتركه، لا سيما على مذهب المعتزلة، فالمباح عندهم حسن، ويجوز أن يفعله الفاعل لحسنه ويأمر به، وكذلك يلزم تنزيل صيغة الجمع على أقل الجمع ولم يذهبوا إليه. الثالث: وهو التحقيق أن ما ذكروه إنما يستقيم أن لو كان الواجب ندبا وزيادة، فتسقط الزيادة المشكوك فيها، ويبقى الأصل، وليس كذلك، بل يدخل في حد الندب جواز تركه، فهل تعلمون أن المقول فيه، إفعل يجوز تركه أم لا، فإن لم تعلموه فقد شككتم في كونه ندبا وإن علمتموه فمن أين ذلك؟ واللفظ لا يدل على لزوم المأثم بتركه، فلا يدل على سقوط المأثم بتركه أيضا. فإن قيل: لا معنى لجواز تركه إلا أنه لا حرج عليه في فعله، وذلك كان معلوما قبل ورود السمع، فلا يحتاج فيه إلى تعريف السمع، بخلاف لزوم المأثم، قلنا: لا يبقى لحكم العقل بالنفي بعد ورود صيغة الامر حكم فإنه معين للوجوب عند قوم فلا أقل من احتمال حصل الشك في كونه ندبا فلا وجه إلا التوقف، نعم: يجوز الاستدلال به على بطلان قول من يقول أنه منهي عنه محرم، لانه ضد الوجوب والندب جميعا. الشبهة الثانية: التمسك بقوله عليه السلام: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فانتهوا ففوض الامر إلى استطاعتنا ومشيئتنا، وجزم في النهي طلب الانتهاء، قلنا، هذا اعتراف بأنه من جهة اللغة، والوضع ليس للندب واستدلال بالشرع، ولا يثبت مثل ذلك بخبر الواحد لو صحت دلالته، كيف ولا دلالة له إذ لم يقل فافعلوا ما شئتم، بل قال: ما استطعتم، كما قال: فاتقوا الله ما استطعتم وكل إيجاب مشروط بالاستطاعة، وأما قوله: فانتهوا، كيف دل على وجوب الانتهاء، وقوله: فانتهوا صيغة أمر، وهو محتمل للندب. شبه الصائرين إلى أنه للوجوب وجميع ما ذكرناه في إبطال مذهب الندب جار هاهنا وزيادة، وهو أن الندب داخل تحت الامر حقيقة كما قدمناه، ولو حمل على الوجوب لكان مجازا في الندب، وكيف يكون مجازا فيه مع وجود حقيقته، إذ حقيقة الامر ما يكون ممتثله مطيعا، والممتثل مطيع بفعل الندب، ولذلك إذا قيل: أمرنا بكذا حسن أن يستفهم، فيقال: أمر إيجاب أو أمر استحباب وندب، ولو قال: رأيت أسدا لم يحسن أن يقال: أردت سبعا أو شجاعا، لانه موضوع للسبع، ويصرف إلى الشجاع بقرينة، وشبههم سبع: الأولى: قولهم إن المأمور في اللغة والشرع جميعا يفهم وجوب المأمور به حتى لا يسبعد الذم والعقاب عند المخالفة، ولا الوصف بالعصيان، وهم اسم ذم، ولذلك فهمت الامة وجوب الصلاة والعبادات، ووجوب السجود لآدم بقوله إسجدوا، [ البقره: 34، الاعراف: 11، الاسرء: 61،، الكهف: 50، طه: 116، ] وبه يفهم العبد والولد وجوب أمر السيد والوالد، قلنا: هذا كله نفس الدعوى وحكاية المذهب، وليس شئ من ذلك مسلما، وكل ذلك علم بالقرائن، فقد تكون للآمر عادة مع المأمور، وعهد وتقترن به أحوال وأسباب، بها يفهم الشاهد الوجوب، واسم العصيان لا يسلم إطلاقه على وجه الذم إلا بعد قرينة الوجوب، لكن قد يطلق لا على وجه الذم، كما يقال: أشرت عليك فعصيتني وخالفتني. الشبهة الثانية: أن الايجاب من المهمات في المحاورات، فإن لم يكن قولهم: إفعل عبارة عنه فلا يبقى له اسم، ومحال إهمال العرب ذلك، قلنا: هذا يقابله أن الندب أمر مهم فليكن إفعل عبارة عنه، فإن زعموا أن دلالته قولهم ندبت وأرشدت ورغبت، فدلالة الوجوب قولهم: أوجبت وحتمت وفرضت وألزمت، فإن زعموا أنه صيغة إخبار أو صيغة إرشاد فأين صيغة الانشاء عورضوا بمثله في الندب، ثم يبطل عليهم بالبيع والاجارة والنكاح، إذ ليس لها إلا صيغة الاخبار، كقولهم: بعت وزوجت، وقد جعله الشرع إنشاء إذ ليس لانشائه لفظ. الشبهة الثالثة: أن قوله: إفهل إما أن يفيد المنع أو التخيير أو الدعاء، فإذا بطل التخيير والمنع تعين الدعاء والايجاب، قلنا: بل يبقى قسم رابع وهو أن لا يفيد واحدا من الاقسام إلا بقرينة، كالالفاظ المشتركة، فإن قيل: أليس قوله: لا تفعل أفاد التحريم، فقوله: إفعل ينبغي أن يفيد الايجاب، قلنا: هذا قد نقل عن الشافعي، والمختار أن قوله: لا تفعل متردد بين التنزيه والتحريم كقوله: إفعل ولو صح ذلك في النهي لما جاز قياس الامر عليه، فإن اللغة تثبت نقلا لا قياسا، فهذه شبههم اللغوية والعقلية. أما الشبهة الشرعية: فهي أقرب، فإنه لو دل دليل الشرع على أن الامر للوجوب لحملناه على الوجوب لكن لا دليل عليه، وإنما الشبهة الأولى قولهم نسلم أن اللغة والعقل لا يدل على تخصيص الامر بالوجوب لكن يدل عليه من جهة الكتاب قوله تعال: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) [ النور: 45 ] وهذا لا حجة فيه، لان الخلاف في قوله: {وأطيوا) قائم أنه للندب أو الوجوب وقوله: {عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) أي: كل واحد عليه ما حمل من التبليغ والقبول، وهذا إن كان معناه التهديد والنسبة إلى الاعراض عن الرسول عليه السلام فهو دليل على أنه أراد به الطاعة في أصل الايمان، وهو على الوجوب بالاتفاق، وغاية هذا اللفظ عموم فنخصه بالاوامر التي هي على الوجوب، وكل ما يتمسك به من الآيات من هذا الجنس، فهي صيغ أمر يقع النزاع في أنه للندب أم لا، فإن اقترن بذكر وعيد فيكون قرينة دالة على وجوب ذلك الامر خاصة فإن كان أمرا عاما يحمل على الامر بأصل الدين، وما عرف بالدليل أنه على الوجوب، وبه يعرف الجواب عن قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} (الحشر: 7) وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} (المرسلات: 84) وقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} (النساء: 56) فكل ذلك أمر بتصديقه ونهى عن الشك في قوله، وأمر بالانقياد في الاتيان بما أوجبه الشبهة الثانية: تمسكهم بقوله: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (النور: 36) قلنا: تدعون أنه نص في كل أمر أو عام، ولا سبيل إلى دعوى النص، وإن ادعيتم العموم فقد لا نقول بالعموم ونتوقف في صيغته، كما نتوقف في صيغة الامر أو نخصصه بالامر بالدخول في دينه، بدليل أن ندبه أيضا أمره، ومن خالف عن أمره في قوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} (النور: 33) وقوله: {واستشهدوا شهيدين} (البقرة: 282) وأمثاله لا يتعرض للعقاب، ثم نقول هذا نهي عن المخالفة وأمر بالموافقة أي يؤتى به على وجهه إن كان واجبا فواجبا، وإن كان ندبا فندبا، والكلام في صيغة الايجاب لا في الموافقة والمخالفة، ثم لا تدل الآية إلا على وجوب أمر الرسول عليه السلام، فأين الدليل على وجوب أمر الله تعالى. الشبهة الثالثة: تمسكهم من جهة السنة بأخبار آحاد، لو كانت صريحة صحيحة لم يثت بها مثل هذا الأصل، وليس شئ منها صريحا، فمنها قوله عليه السلام لبريرة وقد عتقت تحت عبد وكرهته: لو راجعتيه فقالت: بأمرك يا رسول الله؟ فقال: لا، إنما أنا شافع فقالت: لا حاجة لي فيه فقد علمت أنه لو كان أمرا لوجب وكذلك عقلت الامة، قلنا: هذا وضع على بريرة وتوهم، فليس في قولها إلا استفهام أنه أمر شرعي من جهة الله تعالى حتى تطيع طلبا للثواب، أو شفاعة لسبب الزوج حتى تؤثر غرض نفسها عليه، فإن قيل شفاعة الرسول عليه السلام أيضا مندوب إلى إجابتها وفيها ثواب، قلنا: وكيف قالت: لا حاجة لي فيه والمسلم يحتاج إلى الثواب، فلا يقول ذلك، لكنها اعتقدت أن الثواب في طاعته في الامر الصادر عن الله تعالى وفيما هو لله لا فيما يتعلق بالاغراض الدنيوية، أو علمت أن ذلك في الدرجة دون ما ندبت إليه فاستفهمت، أو أفهمت بالقرينة أنها شكت في الوجوب، فعبرت بالامر عن الوجوب فأفهمت، ومنها قوله عليه السلام: لولا أني أخاف أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل صلاة فدل على أنه للوجوب، وإلا فهو مندوب، قلنا: لما كان قد حثهم على السواك ندبا قبل ذلك أفهم أنه أراد بالامر ما هو شاق، أو كان قد أوحي إليه أنك لو أمرتهم بقولك استاكوا لاوجبنا ذلك عليهم، فعلمنا أن ذلك يجب بإيجاب الله تعالى عند إطلاقه صيغة الامر، ومنها قوله عليه السلام لابي سعيد الخدري لما دعاه وهو في الصلاة فلم يجبه: أما سمعت الله تعالى يقول: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (الانفال: 42)، فكان هذا التوبيخ على مخالفة أمره، قلنا: لم يصدر منه أمر، بل مجرد نداء، وكان قد عرفهم بالقرائن تفهيما ضروريا وجوب التعظيم له، وأن ترك جواب النداء تهاون وتحقير بأمره، بدليل أنه كان في الصلاة وإتمام الصلاة واجب، ومجرد النداء لا يدل على ترك واجب، بل يجب تركه بما هو أوجب منه، كما يجب ترك الصلاة لانقاذ الغرقى، ومجرد النداء لا يدل عليه، ومنها قول الاقرع بن حابس: أحجنا هذا لعامنا هذا أم للابد؟ فقال عليه السلام: للابد، ولو قلت نعم لوجب فدل على أن جميع أوامره للايجاب، قلنا: قد كان عرف وجوب الحج بقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} (آل عمران: 79) وبأمور أخر صريحة، لكن شك في أن الامر للتكرار أو للمرة الواحدة، فإنه متردد بينهما، ولو عين الرسول عليه السلام أحدهما لتعين وصار متعينا في حقنا ببيانه، فمعنى قوله: لو قلت نعم لوجب أي لو عينت لتعين. الشبهة الرابعة من جهة الإجماع: زعموا أن الامة لم تزل في جميع الاعصار ترجع في إيجاب العبادات وتحريم المحظورات إلى الاوامر والنواهي، كقوله: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (البقرة: 34} (وقاتلوا المشركين كافة} (التوبة: 63) وقوله: {ولا تقربوا الزنا} (الاسراء: 23} (لا تأكلوا الربا} (آل عمران: 031} (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (النساء: 2} (ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء: 92} (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم} (النساء: 22) وأمثاله، والجواب: أن هذا وضع وتقول على الامة ونسبه لهم إلى الخطأ ويجب تنزيههم عنه، نعم يجوز أن يصدر ذلك من طائفة ظنوا أن ظاهر الامر للوجوب، وإنما فهم المحصلون وهم الاقلون ذلك من القرائن والأدلة، بدليل أنهم قطعوا بوجوب الصلاة وتحريم الزنا، والامر محتمل للندب وإن لم يكن موضوعا له، والنهي يحتمل التنزيه، وكيف قطعوا مع الاحتمال لولا أدلة قاطعة، وما قولهم إلا كقول من يقول: الامر للندب بالإجماع، لانهم حكموا بالندب في الكتابة والاستشهاد وأمثاله لصيغة الامر، والاوامر التي حملتها الامة على الندب أكثر، فإن النوافل والسنن والآداب أكثر من الفرائض إذا ما من فريضة إلا ويتعلق بها وبإتمامها وبآدابها سنن كثيرة، أو نقول: هي للاباحة بدليل حكمهم بالاباحة في قوله: {فاصطادوا} (المائدة: 2) وقوله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض} (الجمعة: 01) وإن كان ذلك للقرائن، فكذلك الوجوب، فإن قيل: وما تلك القرائن قلنا: أما في الصلاة فمثل قوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} (النساء: 301) وما ورد من التهديدات في ترك الصلاة، وما ورد من تكليف الصلاة في حال شدة الخوف والمرض إلى غير ذلك، وأما الزكاة فقد اقترن بقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} (البقرة: 34) وغيرها ] وقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} (التوبة: 43) إلى قوله: {فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} (التوبة: 53) وأما الصوم فقوله: {كتب عليكم الصيام} (البقرة: 381) وقوله: {فعده من أيام أخر) [ البقره: 184، 185 ] وإيجاب تداركه على الحائض، وكذلك الزنا والقتل ورد فيهما تهديدات ودلالات تواردت على طول مدة النبوة لا تحصى، فلذلك قطعوا به، لا بمجرد الامر الذي منتهاه أن يكون ظاهرا فيتطرق إليه الاحتمال. |
12-06-2012, 07:49 PM | #47 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (هل بعد انتهاء الخطر فيه إباحة؟) فإن قال قائل: قوله: افعل بعد الحظر ما موجبه، وهل لتقدم الحظر تأثير؟ قلنا: قال قوم: لا تأثير لتقدم الحظر أصلا، وقال قوم هي قرينة تصرفها إلى الاباحة، والمختار أنه ينتظر، فإن كان الحظر السابق عارضا لعلة، وعلقت صيغة افعل بزواله، كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة: 2) فعرف الاستعمال يدل على أنه لرفع الذم فقط حتى يرجع حكمه إلى ما قبله، وإن احتمل أن يكون رفع هذا الحظر بندب وإباحة لكن الاغلب ما ذكرناه، كقوله: {فانتشروا} (الجمعة: 01) وكقوله عليه السلام: كنت نهيتكم عن لحوم الاضاحي فادخروا أما إذا لم يكن الحظر عارضا لعلة ولا صيغة افعل علق بزوالها، فيبقى موجب الصيغة على أصل التردد بين الندب والاباحة، ونزيح هاهنا احتمال الاباحة، ويكون هذا قرينة تزيح هذا الاحتمال، وإن لم تعينه، إذ لا يمكن دعوى عرف الاستعمال في هذه الصيغة حتى يغلب العرف الوضع، أما إذا لم ترد صيغة افعل، لكن قال: {فإذا حللتم} (المائدة: 2) فأنتم مأمورون بالاصطياد، فهذا يحتمل الوجوب والندب ولا يحتمل الاباحة لانه عرف في هذه الصورة، وقوله: أمرتكم بكذا، يضاهي قوله: افعل في جميع المواضع إلا في هذه الصورة وما يقرب منها.
النظر الثالث: في موجب الامر ومقتضاه في موجب الامر ومقتضاه بالاضافة إلى الفور والتراخي والتكرار وغيره، ولا يتعلق هذا النظر بصيغة مخصوصة، بل يجري في قوله، افعل، كان للندب أو للوجوب، وفي قوله: أمرتكم وأنتم مأمورون، وفي كل دليل يدل على الامر بالشئ، إشارة كانت أو لفظا أو قرينة أخرى، لكنا نتكلم في مقتضى قوله: افعل ليقاس عليه غيره، ونرسم فيه مسائل: مسألة (أحكام الامر) قوله: صم، كما أنه في نفسه يتردد بين الوجوب والندب، فهو بالاضافة إلى الزمان يتردد بين الفور والتراخي، وبالاضافة إلى المقدار يتردد بين المرة الواحدة و استغراق العمر، وقد قال قوم: هو للمرة، ويحتمل التكرار وقال قوم: هو للتكرار، والمختار أن المرة الواحدة معلومة وحصول براءة الذمة بمجردها مختلف فيه، واللفظ بوضعه ليس فيه دلالة على نفي الزيادة ولا على إثباتها، وقياس مذهب الواقفية التوقف فيه لتردد اللفظ، كتردده بين الوجوب والندب، لكني أقول: ليس هذا ترددا في نفس اللفظ على نحو تردد اللفظ، المشترك بل اللفظ خال عن التعرض لكمية المأمور به، لكن يحتمل الاتمام ببيان الكمية، كما أنه يحتمل أن نتممه بسبع مرات أو خمس، وليس في نفس اللفظ تعرض للعدد، ولا هو موضوع لآحاد الاعداد وضع اللفظ المشترك، وكما أن قوله: أقتل إذا لم يقل أقتل زيدا أو عمرا فهو دون زيادة كلام ناقص، فإتمامه بلفظ دال على تلك الزيادة، لا بمعنى البيان، فإن قيل: بين مسألتنا وبين القتل فرق، فإن قوله: اقتل، كلام ناقص لا يمكن امتثاله، وقوله: صم، كلام تام مفهوم يمكن امتثاله، قلنا: يحتمل أن يقال: يصير ممتثلا بقتل أي شخص كان بمجرد قوله أقتل، كما يصير ممتثلا بصوم أي يوم كان إذا قال: صم يوما بلا فرق، ويكون قوله: أقتل، كقوله: أقتل شخصا، لان الشخص القتيل من ضرورة القتل، وإن لم يذكر، كما أن اليوم من ضرورة الصوم وإن لم يصرح به، فيتحصل من هذا أنه تبرأ ذمته بالمرة، الواحدة، لان وجوبها معلوم، والزيادة لا دليل على وجوبها، إذ لم يتعرض اللفظ لها، فصار كما قبل قوله: صم، وكنا لا نشك في نفي الوجوب، بل نقطع بانتفائه، وقوله: صم دال على القطع في يوم واحد، فبقي الزائد على ما كان، هذا هو الظاهر من مطلق اللفظ المجرد عن الكمية، ويعتضد هذا باليمين، فإنه لو قال: والله لاصومن، لبر بيوم واحد، ولو قال: لله علي صوم لتفصى عن عهدة النذر بيوم واحد، لان الزائد لم يتعرض له، فإن قيل: فلو فسر التكرار بصوم العمر فقد فسره بمحتمل، أو كان ذلك الحاق زيادة، كما لو قال: أردت بقولي: اقتل. أي أقتل زيدا، وبقولي: صم، أي صم يوم السبت خاصة. فإن هذا تفسير بما لا يحتمله اللفظ، بل ليس تفسيرا، إنما ذكر زيادة لم يذكرها، ولم يوضع اللفظ المذكور لها، لا بالاشتراك ولا بالتجوز ولا بالتنصيص. قلنا: هذا فيه نظر، والاظهر عندنا أنه إن فسره بعدد مخصوص كتسعة أو عشرة، فهو إتمام بزيادة وليس بتفسير، إذ اللفظ لا يصلح للدلالة على تكرر وعدد، وإن أراد إستغراق العمر فقد أراد كلية الصوم في حقه، وكأن كلية الصوم شئ فرد أذله حد واحد وحقيقة واحدة، فهو واحد بالنوع، كما أن اليوم الواحد واحد بالعدد، واللفظ يحتمله، ويكون ذلك بيانا للمراد لا استئناف زيادة، ولهذا لو قال: أنت طالق، ولم يخطر بباله عدد كانت الطلقة الواحدة ضرورة لفظه فيقتصر عليها، ولو نوى الثلاثة بعد لانه كلية الطلاق فهو كالواحد بالجنس أو النوع، ولو نوى طلقتين، فالاغوص ما قاله أبو حنيفة، وهو أنه لا يحتمله، ووجه مذهب الشافعي قد تكلفناه في كتاب المبادئ والغايات، فإن قيل: الزيادة التي هي كالمتممة لا تبعد إرادتها في اللفظ، فلو قال: طلقت زوجتي وله أربع نسوة وقال: أردت زينب بنيتي وقع الطلاق من وقت اللفظ، ولولا احتماله لوقع من وقت التعيين، قلنا: الفرق أغوص، لان قوله: زوجتي، مشترك بين الاربع، يصلح لكل واحدة، فهو كإدارة إحدى المسميات بالمشترك، أما الطلاق فموضوع لمعنى لا يتعرض للعدد، والصوم موضوع لمعنى لا يتعرض للسبعة والعشرة، وليست الاعداد موجودات، فيكون اسم الصوم مشتركا بينهما اشتراك اسم الزوجة بين النسوة الزوجات شبه المخالفين ثلاث: الشبهة الأولى: قولهم قوله: {اقتلوا المشركين} (التوبة: 5) يعم قتل كل مشرك، فقوله: صم وصل ينبغي أن يعم كل زمان، لان إضافته إلى جميع الازمان واحد، كإضافة لفظ المشترك إلى جميع الاشخاص، قلنا: إن سلمنا صيغة العموم فليس هذا نظيرا له، بل نظيره أن يقال: صم الايام، وصل في الاوقات، أما مجرد قوله: صم، فلا يتعرض للزمان، لا بعموم ولا بخصوص، لكن الزمان من ضرورته كالمكان، ولا يجب عموم الاماكن بالفعل، وإن كان نسبة الفعل إلى كل مكان على وتيرة واحدة، وكذلك الزمان. الشبة الثانية: قولهم: إن قوله صم، كقوله: لا تصم، وموجب النهي ترك الصوم أبدا، فليكن موجب الامر فعل الصوم أبدا، وتحقيقه أن الامر بالشئ نهي عن ضده، فقوله قم، وقوله: لا تقعد، واحد وقوله تحرك، وقوله: لا تسكن واحد، ولو قال: لا تسكن، لزمت الحركة دائما، فقوله: تحرك، تضمن قوله: لا تسكن، قلنا: أما قولكم أن الامر بالشئ نهي عن ضده، فقد أبطلناه في القطب الأول، وإن سلمنا فعموم النهي الذي هو ضمن بحسب الامر المتضمن، لانه تابع له، فلو قال: تحرك مرة واحدة كان السكون المنهي عنه مقصورا على المرة، وقوله: تحرك، كقوله: تحرك مرة واحدة، كما سبق تقريره، وأما قياسهم الامر على النهي فباطل من خمسة أوجه: الأول: أن القياس باطل في اللغات لانها تثبت توقيفا. الثاني: أنا لا نسلم في النهي لزوم الانتهاء مطلقا بمجرد اللفظ، بل لو قيل للصائم لا تصم، يجوز أن تقول: نهاني عن صوم هذا اليوم أو عن الصوم أبدا، فيستفسر بل التصريح أن يقول: لا تصم أبدا، ولا تصم يوما واحدا، فإذا اقتصر على قوله: لا تصم، فانتهى يوما واحدا جاز أن يقال: قضى حق النهي ولا يغنيهم عن هذا الاسترواح إلى المناهي الشرعية والعرفية وحملها على الدوام. فإن هذا القائل يقول: عرفت ذلك بأدلة أفادت علما ضروريا بأن الشرع يريد عدم الزنا والسرقة وسائر الفواحش مطلقا، وفي كل حال: لا بمجرد صيغة النهي، وهذا كما أنا نوجب الايمان دائما لا بمجرد قوله: آمنوا لكن الأدلة دلت على أن دوام الايمان مقصود. الثالث: أنا نفرق، ولعله الاصح، فنقول: إن الامر يدل على أن المأمور ينبغي أن يوجد مطلقا، والنهي يدل على أنه ينبغي أن لا يوجد مطلقا، والنفي المطلق يعم، والوجود المطلق لا يعم، فكل ما وجد مرة فقد وجد مطلقا، وما انتفى مرة فما انتفى مطلقا، ولذلك إذا قال في اليمين: لافعلن، بر بمرة، ولو قال: لا أفعل، حنث بمرة، ومن قال: لاصومن صدق وعده بمرة، ومن قال: لا أصوم، كان كاذبا مهما صام مرة. الرابع: أنه لو حمل الامر على التكرار لتعطلت الاشغال كلها، وحمل النهي على التكرار لا يفضي إليه إذ يمكن الانتهاء في حال واحدة عن أشياء كثيرة مع الاشتغال بشغل ليس ضد المنهي عنه، وهذا فاسد، لانه تفسير للغة بما يرجع إلى المشقة والتعذر، ولو قال افعل دائما، لم يتغير موجب اللفظ بتعذره، وإن كان التعذر هو المانع فليقتصر على ما يطاق ويشق دون ما يتيسر. الخامس: أن النهي يقتضي قبح المنهي عنه، ويجب الكف عن القبيح كله، والامر يقتضي الحسن، ولا يجب الاتيان بالحسن كله، وهذا أيضا فاسد. فإن الامر والنهي لا يدلان على الحسن والقبح، فإن الامر بالقبيح تسميه العرب أمرا فتقول أمر بالقبيح، وما كان ينبغي أن يأمر به، وأما الامر الشرعي فقد ثبت أنه لا يدل على الحسن، ولا النهي على القبح فإنه لا معنى للحسن والقبح بالاضافة إلى ذوات الاشياء بل الحسن ما أمر به، والقبيح ما نهى عنه فيكون الحسن والقبح تابعا للامر والنهي لا علة ولا متبوعا. الشبهة الثالثة: أن أوامر الشرع في الصوم والصلاة والزكاة حملت على التكرار فتدل على أنه موضوع له، قلنا: وقد حمل في الحج على الاتحاد فليدل على أنه موضوع له، فإن كان ذلك بدليل فكذلك هذا بدليل وقرائن. بل بصرائح سوى مجرد الامر وقد أجاب قوم عن هذا: بأن القرينة فيه إضافتها إلى أسباب وشروط، وكل ما أضيف إلى شر وتكرر الشرط تكرر الوجوب، وسنبين ذلك في المسألة الثانية: مسألة (تكرار الامر المضاف لشرط) اختلف الصائرون إلى أن الامر ليس للتكرار في الامر المضاف إلى شرط، فقال قوم: لا أثر للاضافة، وقال قوم: يتكرر بتكرر الشرط، والمختار أنه لا أثر للشرط، لان قوله: اضربه، أمر ليس يقتضي التكرار، فقوله: اضربه، إن كان قائما، أو إذا كان قائما لا يقتضيه أيضا، بل لا يريد إلا اختصاص الضرب الذي يقتضيه الاطلاق بحالة للقيام، وهو كقوله لوكيله: طلق زوجتي إن دخلت الدار، لا يقتضي التكرار بتكرر الدخول، بل لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق لم يتكرر بتكرر الدخول إلا أن يقول: كلما دخلت الدار، وكذلك قوله تعالى: {من شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة: 581)، وإذا زالت الشمس. فصل قوله لزوجاته: فمن شهد منكن الشهر فهي طالق، ومن زالت عليها الشمس فهي طالق، ولهم شبهتان: الأولى: أن الحكم يتكرر بتكرر العلة، والشرط كالعلة، فإن علل الشرع علامات، قلنا: العلة إن كانت عقلية فهي موجبة لذاتها، ولا يعقل وجود ذاتها دون المعلول، وإن كانت شرعية فلسنا نسلم تكرر الحكم بمجرد إضافة الحكم إلى العلة ما لم تقترن به قرينة أخرى وهو التعبد بالقياس، ومعنى التعبد بالقياس الامر باتباع العلة، وكأن الشرع يقول: الحكم يثبت بها فاتبعوها. الشبهة الثانية: إن أوامر الشرع إنما تتكرر بتكرر الاسباب، كقوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} (المائدة: 6). و {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (المائدة: 6) قلنا: ليس ذلك بموجب اللغة: ومجرد الاضافة بل بدليل شرعي في كل شرط، فقد قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران: 79) ولا يتكرر الوجوب بتكرر الاستطاعة، فإن أحالوا ذلك على الدليل أحلنا ما يتكرر أيضا على الدليل، كيف ومن قام إلى الصلاة غير محدث فلا يتكرر عليه، ومن كان جنبا فليس عليه أن يتطهر إذا لم يرد الصلاة فلم يتكرر مطلقا، لكن اتبع فيه موجب الدليل. مسألة (هل الامر على الفور أم لا؟) مطلق الامر يقتضي الفور عند قوم ولا يقتضيه عند قوم وتوقف فيه من الواقفية قوم، ثم منهم من قال: التوقف في المؤخر هل هو ممتثل أم لا، أما المبادر فممتثل قطعا، ومنهم من غلا وقال: يتوقف في المبادر أيضا، والمختار أنه لا يقتضي إلا الامتثال، ويستوي فيه البدار والتأخير، وندل على بطلان الوقف أولا فنقول للمتوقف: المبادر ممتثل أم لا؟ فإن توقفت فقد خالفت إجماع الامة قبلك، فإنهم متفقون على أن المسارع إلى الامتثال مبالغ في الطاعة مستوجب جميل الثناء، والمأمور إذا قيل له: قم فقام يعلم نفسه ممتثلا، ولا يعد به مخطئا باتفاق أهل اللغة قبل ورود الشرع، وقد أثنى الله تعالى على المسارعين، فقال عز من قائل: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم} (آل عمران: 331) وقال: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون: 16) وإذا بطل هذا التوقف فنقول: لا معنى للتوقف في المؤخر لان قوله: اغسل هذا الثوب: مثلا لا يقتضي إلا طلب الغسل والزمان من ضرورة الغسل كالمكان، وكالشخص في القتل والضرب والسوط والسيف في الضرب، ثم لا يقتضي الامر بالضرب مضروبا مخصوصا، ولا سوطا ولا مكانا للامر، فكذلك الزمان، لان اللافظ ساكت عن التعرض للزمان والمكان، فهما سيان، ويعتضد هذا بطريق ضرب المثال لا بطريق القياس بصدق الوعد. إذا قال: أغسل وأقتل فإنه صادق، بادر أو أخر، ولو حلف: لادخلن الدار، لم يلزمه البدار، وتحقيقه أن مدعي الفور متحكم، وهو محتاج إلى أن ينقل عن أهل اللغة أن قولهم افعل للبدار، ولا سبيل إلى نقل ذلك لا تواترا ولا آحادا. ولهم شبهتان: الأولى: أن الامر للوجوب، وفي تجويز التأخير ما ينافي الوجوب، إما بالتوسع وإما بالتخيير في فعل لا بعينه من جملة الافعال الواقعة في الاوقات والتوسع والتخيير كلاهما يناقض الوجوب. قلنا: قد بينا في القطب الأول أن الواجب المخير والموسع جائز، ويدل عليه أنه لو صرح وقال: اغسل الثوب أي وقت شئت، فقد أوجبته عليك لم يتناقض، ثم لا نسلم أن الامر للوجوب، ولو كان للوجوب أما بنفسه أو بقرينة فالتوسع لا ينافيه كما سبق. الشبهة الثانية: أن الامر يقتضي وجوب الفعل، واعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال ثم وجوب الاعتقاد والعزم على الفور، فليكن كذلك الفعل، قلنا: القياس باطل في اللغات، ثم هو منقوض بقوله: افعل أي وقت شئت، فإن الاعتقاد والعزم فيه على الفور دون الفعل، ثم نقول: وجوب الفور في العزم والاعتقاد معلوم بقرينة وأدلة دلت على التصديق للشارع، والعزم على الانقياد له ولم يحصل ذلك بمجرد الصيغة. مسألة (قضاء العبادات) مذهب بعض الفقهاء أن وجوب القضاء لا يفتقر إلى أمر مجدد، ومذهب المحصلين أن الامر بعبادة في وقت لا يقتضي القضاء، لان تخصيص العبادة بوقت الزوال أو شهر رمضان، كتخصيص الحج بعرفات، وتخصيص الزكاة بالمساكين، وتخصيص الضرب والقتل بشخص، وتخصيص الصلاة بالقبلة، فلا فرق بين الزمان والمكان والشخص فإن جميع ذلك تقييد للمأمور بصفة، والعاري عن تلك الصفة لا يتناوله اللفظ، بل يبقى على ما كان قبل الامر، فإن قيل: الوقت للعبادة كالاجل للدين، فكما لا يسقط الدين بانقضاء الاجل لا تسقط الصلاة الواجبة في الذمة بانقضاء المدة، قلنا: مثال الاجل الحول في الزكاة لا جرم لا تسقط الزكاة بانقضائه، لان الاجل مهلة لتأخير المطالبة حتى ينجز بعد المدة، وأما الوقت فقد صار وصفا للواجب، كالمكان والشخص، ومن أوجب عليه شئ بصفة، فإذا أتى به لا على تلك الصفة لم يكن ممتثلا، نعم يجب القضاء في الشرع إما بنص، كقوله: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها أو بقياس، فإنا نقيس الصوم، إذا نسيه على الصلاة إذا نسيها، ونراه في معناها، ولا نقيس عليه الجمعة ولا الاضحية، فإنهما لا يقضيان في غير وقتهما، وفي رمي الجمار تردد أنه بأي الأصلين أشبه، ولا نقيس صلاة الحائض على صومها في القضاء، لفرق النص، ولا نقيس صلاة الكافر وزكاته على صلاة المرتد وإن تساويا في أصل الامر والوجوب عندها. مسألة (في موضوع القضاء أيضا) ذهب بعض الفقهاء إلى أن الامر يقتضي وقوع الاجزاء بالمأمور به إذا امتثل، وقال بعض المتكلمين: لا يدل على الاجزاء لا بمعنى أنه لا يدل على كونه طاعة وقربة وسبب ثواب وامتثالا، لكن بمعنى أنه لا يمنع الامتثال من وجوب القضاء، ولا يلزم حصول الاجزاء بالاداء، بدليل أن من أفسد حجه فهو مأمور بالاتمام، ولا يجزئه، بل يلزمه القضاء، ومن ظن أنه متطهر فهو مأمور بالصلاة وممتثل إذا صلى ومطيع ومتقر ب ويلزمه القضاء، فلا يمكن إنكار كونه مأمورا ولا إنكار كونه ممتثلا حتى يسقط العقاب، ولا إنكار كونه مأمورا بالقضاء، فهذه أمور مقطوع بها، والصواب عندنا أن نفصل ونقول: إذا ثبت أن القضاء يجب بأمر متجدد وأنه مثل الواجب الأول فالامر بالشئ لا يمنع إيجاب مثله بعد الامتثال، وهذا لا شك فيه، ولكن ذلك المثل إنما يسمى قضاء. إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها، وإن لم يكن فوات وخلل استال تسميته قضاء فنقول الامر يدل على أجزاء المأمور. إذا أدى بكمال وصفه وشرطه من غير خلل، وإن تطرق إليه خلل كما في الحج الفاسد والصلاة على غير الطهارة فلا يدل الامر على أجزائه بمعنى منع إيجاب القضاء، فإن قيل: فالذي ظن أنه متطهر مأمور بالصلاة على تلك الحالة أو مأمور بالطهارة، فإن كان مأمور بالطهارة مع تنجز الصلاة، فينبغي أن يكون عاصيا، وإن كان مأمورا بالصلاة على حالته فقد امتثل من غير خلل، فبم عقل إيجاب القضاء؟ وكذلك المأمور بإتمام الحج الفاسد أتم كما أمر، قلنا: هذا مأمور بالصلاة مع الخلل بضرورة نسيانه، فقد أتى بصلاة مختلة فاقدة شرطها لضرورة حاله، فعقل الامر لتدارك الخلل، أما إذا لم يكن الخلل لا عن قصد ولا عن نسيان فلا تدارك فيه، فلا يعقل إيجاب قضائه، وهو المعني بأجزائه، وكذلك مفسد الحج مأمور بحج خال عن فساد، وقد فوت على نفسه ذلك فيقضيه. |
12-06-2012, 07:50 PM | #48 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (دليل الامر)
الامر بالامر بالشئ ليس أمرا بالشئ ما لم يدل عليه دليل، مثاله قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} (التوبة: 301) لا يدل على وجوب الاداء بمجرده على الامة، وربما ظن ظان أنه يدل على الوجوب، وليس الامر كذلك، لكن دل الشرع على أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام، واجب الطاعة، وأنهم لو كانوا مأذونين في المنع لكان ذلك تحقيرا للنبي عليه السلام وتنفيرا للامة عنه، وذلك يغض من قدره، ويشوش مقصود الشرع، وإلا فلا يستحيل أن يقال للزوج الشافعي إذا قال لزوجته: أنت بائن علي نية الطلاق راجعها وطالبها بالوطئ ويقال للحنفية التي ترى أنها بائنة: يجب عليك المنع، ويقال للولي الذي يرى أن لطفله على طل غيره شيئا أطلبه، ويقال للمدعي عليه إذا عرف أنه لا شئ على طفله لا تعطه ومانعه، ويقول السيد لاحد العبدين، أوجبت عليك أن تأمر العبد الآخر، ويقول للآخر: أوجبت عليك العصيان له، وبهذا تعرف أن قوله عليه السلام: مروهم بالصلاة لسبع ليس خطابا من الشرع مع الصبي ولا إيجابا عليه مع أن الامر واجب على الولي، فإن قيل: فلو قال للنبي: أوجبت عليك أن توجب على الامة، وقال للامة: أوجبت عليكم خلافه: قلنا ذلك يدل على أن الواجب على النبي أن يقول: أوجبت لا على حقيقة الايجاب، فإن أراد حقيقة الايجاب فهو متناقض، بخلاف قوله: {خذ من أموالهم صدقة} (التوبة: 301) فإن ذلك لا يناقضه أمرهم بالمنع، فإن قيل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والتسلم لا يتم إلا بالتسليم، قلنا: لا يجب التسلم، بل يجب الطلب فقط، ثم إن وجب التسلم فذلك يتم بالتسليم المحرم، وإنما يناقض التسلم أنتفاء التسليم في نفسه لانتفاء علته وحكمه، وبالجملة: كما أن من أمر زيدا بضرب عمرو فلا يطلب من عمرو شيئا، فكذلك إذا أمره يأمر عمرا فلا يطلب من عمرو شيئا. مسألة (خطاب الجماعة بالامر) ظاهر الخطاب مع جماعة بالامر يقتضي وجوبه على كل واحد، إلا أن يدل دليل على سقوط الفرض عن الجميع بفعل واحد، أو يرد الخطاب بلفظ لا يعم الجميع، كقوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (آل عمران: 401) كقوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين} (التوبة: 221) فإن هذا لا يدل على الوجوب في حق كل واحد على التعيين، فإن قيل: فما حقيقة فرض الكفاية: أهو فرض على الجميع ثم يسقط الفرض بفعل البعض، أو هو فرض على واحد لا بعينه، أي واحد كان، كالواجب المخير في خصال الكفارة، أو هو واجب على من حضر وتعين أعني حضر الجنازة أو المنكر، أما من لم يتعين فهو ندب في حقه، قلنا: الصحيح من هذه الاقسام الأول وهو عموم الفرضية، فإن سقوط الفرض دون الاداء يمكن، إما بالنسخ أو بسبب آخر. ويدل عليه أنهم لو فعلوا بأجمعهم نال كل واحد منهم ثواب الفرض وإن امتنعوا عم الحرج الجميع، ولو خلا بعضهم عن الوجوب لا نفك عن الاثم. أما الايجاب على واحد لا بعينه فمحال: لان المكلف ينبغي أن يعلم أنه مكلف، وإذا أبهم الوجوب تعذر الامتثال كما حققناه في بيان الواجب المخير. مسألة (متى يعلم الامر والامتثال) ذهبت المعتزلة إلى أن المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال، وذهب القاضي وجماهير أهل الحق إلى أنه يعلم ذلك، وفي تفهيم حقيقة المسألة غموض، وسبيل كشف الغطاء عنه أن نقول: إنما يعلم المأمور كونه مأمورا مهما كان مأمورا، لان العلم يتبع المعلوم. وإنما يكون مأمورا إذا توجه الامر عليه ولا خلاف أنه يتصور أن يقول السيد لعبده: صم غدا، وأن هذا أمر مقق ناجز في الحال، وإن كان مشروطا ببقاء العبد إلى غد، ولكن اتفقت المعتزلة على أن الامر المقيد بالشرط أمر حاصل ناجز في الحال، لكن يشترط أن يكون تحقق الشرط مجهولا عند الآمر والمأمور، أما إذا كان معلوما فلا، فإنه لو قال: صم إن صعدت إلى السماء أو إن عشت ألف سنة، فليس هذا بأمر، أي هذه الصيغة، ليست عبارة عن حقيقة عن حقيقة المعنى الذي يقوم بالنفس ويسمى أمرا، ولو قل: صم إن كان العالم مخلوقا أو كان الله موجودا، فهذا أمر، ولكن ليس بمقيد بشرط، وليس هذا من الشرط في شئ فإن الشرط هو الذي يمكن أن يوجد ولا يوجد، فلما كان العلم بوجود الشرط أو عدمه منافيا وجود الامر المقيد بالشرط زعموا أن الله عالم بعواقب الامر، فالشرط في أمره محال ونحن نسلم أن جهل المأمور شرط، أما جهل الآمر فليس بشرط، حتى لو علم السيد بقول نبي صادق أن عبده يموت قبل رمضان، فيتصور أن يأمره بصوم رمضان مهما جهل العبد ذلك، وربما كان له فيه لطف يدعوه إلى الطاعات ويزجره عن المعاصي، وربما كان لطفا لغير المأمور بحث أو زجر وربما كان امتحانا له ليشتغل بالاستعداد، فيثاب على العزم على الامتثال، ويعاقب على العزم على الترك، والمعتزلة أحالوا ذلك وقالوا: إذا شهد العبد هلال رمضان توجه عليه الامر بحكم قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة: 581) لكن ذلك بناء على ظن البقاء ودوام القدرة فإن الحياة والقدرة شرط في التكليف فإذا مات في منتصف الشهر تبينا أنه كان مأمورا بالنصف الأول، وأنه لم يكن مأمورا بالنصف الثاني. ويدلك على بطلان مذهبهم مسالك: المسلك الأول: أن الامة مجمعة قبل ظهور المعتزلة أن الصبي كما يبلغ يجب عليه أن يعلم ويعتقد كونه مأمورا بشرائع الاسلام منهيا عن الزنا والسرقة والقتل في الحال وإن لم يحضره وقت صلاة ولا زكاة، ولا حضر من يمكن قتله والزنا به، ولا حضر مال تمكن سرقته، ولكن يعلم نفسه مأمورا منهيا بشرط التمكن، لانه جاهل بعواقب أمره، وعلمه بأن الله تعالى عالم بها لا يدفع عنه وجوب هذا الاعتقاد. المسلك الثاني: أن الامة مجمعة على أن من عزم على ترك ما ليس منهيا عنه، فليس بمتقرب إلى الله تعالى، ومن عزم على ترك المنهيات، و الاتيان بالمأمورات، كان متقربا إلى الله تعالى، وإن احتمل أن لا يكون مأمورا أو منهيا، لعلم الله بأنه لا يساعده التمكن، فينبغي أن نشك في كونه متقربا، ونتوقف ونقول: إن مت بعد هذا العزم وقبل التمكن فلا ثواب لك، لانه لا تقرب منك، وإن عشت وتمكنت تبينا عند ذلك كونك متقربا، وهذا خلاف الإجماع. المسلك الثالث: إجماع الامة على أن صلاة الفرض لا تصح إلا بنية الفرضية، ولا يعقل تثبيت نية الفرضية إلا بعد معرفة الفرضية، والعبد ينوي في أول وقت الصلاة فرض الظهر، وربما يموت في أثناء وقت الصلاة، فيتبين عند المعتزلة أنه لم يكن فرضا، فليكن شاكا في الفرضية، وعند ذلك تمتنع النية، فإن النية قصد لا يتوجه إلا إلى معلوم فإن قيل: إن نوى فرضية أربع ركعات، فلو مات بعد ركعتين يعلم أنه لم تكن إلا ربع فريضة، وهو مجوز للموت، فكيف ينوي فرض ما هو شاك فيه؟ قلنا: ليس شاكا فيه، بل هو قاطع بأن الاربع فرض بشرط البقاء، فالامر بالشرط أمر في الحال، وليس بمعلق، والفرض بالشرط فرض، أي أنه مأمور أمر إيجاب، من عزم عليه يثاب ثواب من عزم على واجب. وإذا قال السيد لعبده: صم غدا، فهو أمر في الحال يصوم في الغد، لا أنه أمر في الغد. وإذا قال له: أوجبت عليك بشرط بقائك وقدرتك، فهو موجب في الحال، لكن إيجابا بشرط، فهكذا ينبغي أن تفهم حقيقة هذه المسألة، وكذلك إذا قال لوكيله: بع داري غدا، فهو موكل وآمر في الحال، والوكيل مأمور، ووكيل في الحال، حتى يعقل أن يعزل قبل مجئ الغد، فإذا قال الوكيل وكلني ثم عزلني، وأمرني ثم منعني، كان صادقا، فلو مات قبل مجئ الغد لا يتبين أنه كان كاذبا، وقد حققنا هذا في مسألة نسخ الامر قبل التمكن من الامتثال، وفي نسخ الذبح عن إبراهيم عليه السلام، ولهذا فرق الفقهاء بين أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فأنت وكيلي، وبين أن يقول: وكلتك ببيع داري لكن تبيعها عند رأس الشهر، فإن الأول تعليق، ومن منع تعليق الوكالة ربما جوز تنجيز الوكالة مع تأخير التنفيذ إلى رأس الشهر. المسلك الرابع: إجماع الامة على لزوم الشروع في صوم رمضان، أعني أول يوم مثلا، ولو كان الموت في أثناء النهار يبين عدم الامر فالموت مجوز، فيصير الامر مشكوكا فيه، ولا يلزمه الشروع بالشك، فإن قيل، لانه إن بقي كان واجبا، والظاهر بقاؤه والحاصل في الحال يستصحب، والاستصحاب أصل تبنى عليه الامور، كما أن من أقبل عليه سبع يهرب، وإن كان يحتمل موت السبع قبل الانتهاء إليه، لكن الأصل بقاؤه فيستصحبه، ولانه لو فتح هذا الباب لم يتصور امتثال الاوامر المضيقة أوقاتها كالصوم، فإنه إنما يعلم تمام التمكن بعد انقضاء اليوم ويكون قد فات، قلنا: هذا يلزمكم في الصوم، ومذهبكم هو الذي يفضي إلى هذا المحال، وما يفضي إلى المحال فهو محال، وأما الهرب من السبع فحزم وأخذ بأسوأ الاحوال، ويكفي فيه الاحتمال البعيد، فإن من شك في سبع على الطريق أو سارق فيحسن منه الحزم والاحتراز، أما الوجوب فلا يثبت بالشك والاحتمال، وينبغي أن يقال: من أعرض عن الصوم، ومات قبل الغروب لم يكن عاصيا، لانه أخذ بالاحتمال الآخر، وهو احتمال الموت، فليكن معذورا به. فإن زعموا أن ظن البقاء بالاستصحاب أورث ظن الوجوب، وظن الوجوب اقتضى تحقق الوجوب من الشرع جزما قطعا فهذا تعسف وتناقض. المسلك الخامس: أن الإجماع منعقد على أن من حبس المصلي في أول الوقت وقيده ومنعه من الصلاة متعد عاص بسبب منعه من الصلاة الواجبة، فإن كان التكليف يندفع به فقد أحسن إليه إذ منع التكليف عنه فلم عصي، وهذا فيه نظر، لانه عصي، لان التصرف في الغير بضبطه ومنعه حرام، وإن منعه غير مباح أيضا، ولان منعه صار سببا لوجوب القضاء في ذمته وهو على خطر من فواته، أو يحرم لانه أخرجه عن أن يكلفه، وفي التكليف مصلحة وقد فوتها عليه، بدليل أنه لو قيده قبل وقت الصلاة أو قبل وقت الصلاة أو قبل البلوغ إلى أن بلغ ودخل وقت الصلاة عصى، ولم يكن على الصبي أمر ناجز لا بشرط ولا بغير شرط. شبه المعتزلة الأولى: قولهم: إثبات الامر بشرط يؤدي إلى أن يكون وجود الشئ مشروطا بما يوجد بعده، والشرط ينبغي أن يقارن أو يتقدم أما تأخير الشرط عن المشروط فمحال، قلنا: ليس هذا شرطا لوجود ذات الامر، وقيامه بذات الآمر بل الامر موجود قائم بذات الآمر وجد الشرط أو لم يوجد، وإنما هو شرط لكون الامر لازما واجب التنفيذ، وليس ذلك من شرط كونه موجودا بسبيل، ولهذا قلنا: الامر أمر للمعدوم بتقدير الوجود، وإن لم يبلغه بشرط بلوغه فليس البلوغ شرطا لقيام نفس الامر بذات الآمر بل للزوم تنفيذه، فإن قال قائل اختلاف قول الشافعي في أن من جامع في نهار رمضان ثم مات أو جن قبل الغروب هل يلزمه الكفارة؟ هل يلتفت إلى هذا الأصل؟ قلنا: أما من ذهب إلى أنا نتبين عند زوال الحياة انتفاء الامر من أصله فلا يمكنه إيجاب الكفارة، وأما من ذهب إلى أنا لا نتبين عدم الامر فيحتمل منه التردد، إذ يحتمل أن يقول: قد أفسد بالجماع الصوم الذي كان واجبا عليه، وقطع الصوم الواجب بحكم الوقت وإفساده يوجب الكفارة، يحتمل أن يقال: وجبت الكفارة بإفساد صوم لا يتعرض للفساد والانقطاع قبل الغروب، وهذا متعرض له، فيكون هذا مانعا من الالحاق بالصوم، الذي يتعين الجماع لافساده، فإن قال قائل: فلو علمت المرأة بالعادة أنها تحيض في أثناء النهار أو بقول نبي صادق حيضا أو جنونا أو موتا، فهل يلزمها الصوم حتى تصوم بعض اليوم؟ قلنا: على مذهب المعتزلة لا ينبغي أن يلزم لان بعض اليوم غير مأمور به، وهي غير مأمورة بالكل، أما عندنا فالاظهر وجوبه، لان المرخص في الافطار لم يوجد، والامر قائم في الحال، والميسور لا يسقط بالمعسور، فإن قال قائل: لو قال: إن صليت أو شرعت في الصلاة أو الصوم فزوجتي طالق ثم شرع ثم أفسد أو مات أو جن قبل الاتمام فقد اختلفوا في وقوع الطلاق، فهل يلتفت هذا إلى هذا الأصل؟ قلنا: نعم، قياس مذهب المعتزلة أن لا يحنث، لان بعض الصوم ليس بصوم، والفاسد ليس بصوم، وقد تبين ذلك بالآخرة، وعلى مذهبنا ينبغي أن يحنث، وهذه صلاة في الحال، وتمامها مقيد بالشرط، حتى لو قال: والله لاعتكفن صائما، أوان اعتكفت صائما فزوجتي طالق ثلاثا، فاعتكف ساعة صائما ثم جن أو مات لم تجب الكفارة في تركته ولم ترثه زوجته. ولا تخلو هذه المسائل عن الالتفات إلى هذا الأصل، ولو قال: إن أمرت عبدي فزوجتي طالق، ثم قال: صم غدا، طلقت زوجته، فإن مات قبل الغد فلا يتبين انتفاء الطلاق، ولو قال: إن وكلت وكيلا فزوجتي طالق، وإن عزلت وكيلا فعبدي حر. ثم وكل من يبيع داره غدا ثم عزل قبل الغد طلقت زوجته وعتق عبده. الشبهة الثانية: وهي الاقوى، قولهم: إن الامر طلب، فلا يقوم بذات من يعلم امتناع وجود المأمور، فكيف يقوم بذات السيد طلب الخياطة إن صعد العبد إلى السماء، وهو يعلم أنه لا يصعد، نعم يمكن أن يقول: خط إن صعدت إلى السماء، لكنه صيغة أمر، ولا يقوم الطلب بذاته، كما لو قال له: اصعد إلى السماء، لم يكن أمرا لعجزه، وعلم الآمر بامتناعه إلا على مذهب من يجوز تكليف ما لا يطاق، وأنتم قد ملتم إلى منع تكليف المحال، وبه يفارق الآمر الجاهل فإن من لا يعرف عجز عبده عن القيام يتصور أن يقول: قم ويقوم بذاته الطلب، أما إذا علم عجزه فلا يقوم بذاته طلب الممتنع، وهذا التحقيق، وهو أن الجهل إذا كان شرطا لقيام هذا الامر بذاته فالمؤثر في صفة ذاته جهله لا جهل المأمور، فهما علم الآمر عدم الشرط، فكيف يكون طالبا، وإذا لم يكن طالبا فكيف يكون آمرا، والآمر هو الطلب، هذا واقع، والجواب: أن هذا لا يصح من المعتزلة مع إنكارهم كلام النفس، أما عندنا فليس المراد بالطلب الذي هو معنى الامر إرادة وتشوقا، لان المعاصي عندنا مرادة وهي غير مأمور بها، والطاعات مأمور بها، وقد لا تكون مرادة، فإن ما أراد الله واقع، والتشوق على الله محال، وإنما معناه اقتضاء فعله لمصلحة العبد، ولكنه يكون توطئة للنفس على عزم الامتثال أو الترك لما يخالفه لطفا به في الاستعداد والانحراف عن الفساد، وهذا لطف متصور من الله تعالى، ويتصور أيضا من السيد أن يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه، مع عزمه على نسخ الامر قبل الامتثال، امتحانا للعبد واستصلاحا له، وكل أمر مقيد بشرط أن لا ينسخ، وكوكالة مقيدة بشرط أن لا يعزل الوكيل، وقوله: وكلتك ببيع العبد غدا، مع العلم بأنه سيعتق العبد قبل الغد وكالة في الحال يقصد بها استمالة الوكيل مثلا وامتحانه في إظهار الاستبشار بأمره أو الكراهية، فكل ذلك معقول لهذه الفائدة، وليس تحت الامر إلا أنه اقتضاء من هذا الجنس والله أعلم. لقول في صيغة النهي اعلم أن ما ذكرناه من مسائل الاوامر تتضح به أحكام النواهي، إذ لكل مسألة وزان من النهي على العكس، فلا حاجة إلى التكرار، ولكنا نتعرض لمسائل لابد من افرادها بالكلام. مسألة (هل النهي يقتضي الفساد) اختلفوا في أن النهي عن البيع والنكاح والتصرفات المفيدة للاحكام هل يقتضي فسادها؟ فذهب الجماهير إلى أنه يقتضي فسادها، وذهب قوم إلى أنه إن كان نهيا عنه لعينه دل على الفساد، وإن كان لغيره فلا، والمختار أنه لا يقتضي الفساد، وبيانه أنا نعني بالفساد تخلف الاحكام عنها وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة للاحكام، ولو صرح الشارع وقال: حرمت عليك إستيلاد جارية الابن ونهيتك عنه لعينه، لكن إن فعلت ملكت الجارية، ونهيتك عن الطلاق في الحيض لعينه لكن إن فعلت بانت زوجتك، ونهيتك عن إزالة النجاسة عن الثوب بالماء المغصوب لكن إن فعلت طهر الثوب، ونهيتك عن ذبح شاة الغير بسكين الغير من غير إذن، لكن إن فعلت حلت الذبيحة، فشئ من هذا ليس يمتنع ولا يتناقض، بخلاف قوله: حرمت عليك الطلاق وأمرتك به، أو أبحثه لك، وحرمت عليك الاستيلاد لجارية الابن وأوجبته عليك، فإن ذلك متناقض لا يعقل، لان التحريم يضاد الايجاب ولا يضاده كون المحرم منصوبا علامة على حصول الملك والحل وسائر الاحكام، إذ يتناقض أن يقول: حرمت الزنا وأبحته، ولا يتناقض أن يقول: حرمت الزنا وجعلت الفعل الحرام في عينه سببا لحصول الملك في العوضين، فإن شرط التحريم التعرض لعقاب الآخرة فقط دون تخلف الثمرات والاحكام عنه، فإذا ثبت هذا فقوله: لا تبع، ولا تطلق، ولا تنكح لو دل على تخلف الاحكام وهو المراد بالفساد فلا يخلو إما أن يدل من حيث اللغة أو من حيث الشرع، ومحال أن يدل من حيث اللغة، لان العرب قد تنهى عن الطاعات وعن الاسباب المشروعة وتعتقد ذلك نهيا حقيقيا دالا على أن المنهي ينبغي أن لا يوجد، أما الاحكام فإنها شرعية لا يناسبها اللفظ من حيث وضع اللسان، إذ يعقل أن يقول العربي: هذا العقد الذي يفيد الملك والاحكام إياك أن تفعله وتقدم عليه، ولو صرح به الشارع أيضا لكان منتظما مفهوما، أما من حيث الشرع فلو قام دليل على أن النهي للافساد ونقل ذلك عن النبي عليه السلام صريحا لكان ذلك من جهة الشرع تصرفا في اللغة بالتغيير، أو كان النهي من جهته منصوبا علامة على الفساد، ويجب قبول ذلك ولكن الشأن في إثبات هذه الحجة ونقلها، وشبههم الشرعية أربع: الشبهة الأولى: قولهم إن المنهي عنه قبيح ومعصية، فكيف يكون مشروعا؟ قلنا: إن أردتم بالمشروع كونه مأمورا به أو مباحا أو مندوبا فذلك محال، ولسنا نقول به، وإن عنيتم به كونه منصوبا علامة للملك أو الحال أو حكم من الاحكام ففيه وقع النزاع، فلم ادعيتم استحالته ولم يستحل أن يحرم الاستيلاد وينصب سببا لملك الجارية ويحرم الطلاق وينصب سببا للفراق، بل لا يستحيل أن ينهي عن الصلاة في الدار المغصوبة وتنصب سببا لبراءة الذمة وسقوط الفرض. الشبهة الثانية: قولهم إن النهي لا يرد من الشارع في البيع والنكاح إلا لبيان خروجه عن كونه مملكا أو مشروعا، قلنا: في هذا وقع النزاع الدليل عليه، وكم من بيع ونكاح ونهي عنه وبقي سببا للافادة، فما هذا التحكم؟ الشبهة الثالثة: قوله عليه السلام: كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردو من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد قلنا: معنى قوله: رد، أي غير مقبول طاعة وقربة ولا شك في أن المجرم لا يقع طاعة. أما أن لا يكون سببا للحكم فلا، فإن الاستيلاد والطلاق وذبح شاة الغير ليس عليه أمرنا، ثم ليس برد بهذا المعنى. الشبهة الرابعة: قولهم أجمع سلف الامة على الاستدلال بالمناهي على الفساد ففهموا فساد الربا من قوله: {وذروا ما بقي من الربا} (البقرة: 122) واحتج ابن عمر رضي الله عنه في فساد نكاح المشركات بقوله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} (البقرة: 322) وفي نكاح المحارم بالنهي، قلنا: هذا يصح من بعض الامة أما من جميع الامة فلا يصح، ولا حجة في قول البعض، نعم: يتمسك به في التحريم والمنع أما في الافساد فلا. |
12-06-2012, 07:51 PM | #49 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (الفرق بين الفساد والبطلان) الذين اتفقوا على أن النهي عن التصرفات لا يدل على فسادها، اختلفوا في أنه هل يدل على صحتها؟ فنقل أبو زيد عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنه يدل على الصحة، وأنه يستدل بالنهي عن صوم يوم النحر على انعقاده، فإنه لو استحال انقعاد لما نهي عنه فإن المحال لا ينهي عنه، كما لا يؤمر، فلا يقال للاعمى: لا تبصر، كما لا يقال له: أبصر فزعموا أن النهي عن الزنا يدل على انعقاده، وهذا فاسد، لانا بينا أن الامر بمجرده لا يدل على الاجزاء والصحة، فكيف يدل عليه النهي؟ بل الامر والنهي يدل على اقتضاء الفعل واقتضاء الترك فقط، أو على الوجوب والتحريم فقط، أما حصول الاجزاء والفائدة أو نفيهما فيحتاج إلى دليل آخر، واللفظ من حيث اللغة غير موضوع لهذه القضايا بالشرعية، وأما من حيث الشرع فلو قال الشارع: إذا نهيتكم عن أمر أردت به صحته لتلقيناه منه، ولكنه لم يثبت ذلك صريحا لا بالتواتر ولا بنقل الآحاد، وليس من ضرورة المأمور أن يكون صحيحا مجزئا فكيف يكون من ضرورة المنهي ذلك، فإذا لم يثبت ذلك شرعا ولغة وضرورة بمقتضى اللفظ فالمصير إليه تحكم، بل الاستدلال به على فساده أقرب من الاستدلال به على صحته، فإن قيل: المحال لا ينهي عنه، لان الامر كما يقتضي مأمورا يمكن امتثاله، فالنهي يقتضي منهيا يمكن ارتكابه، فصوم يوم النحر إذا نهى عنه ينبغي أن يصح ارتكابه ويكون صوما، فاسم الصوم للصوم الشرعي لا للامساك. فإنه صوم لغة لا شرعا، والاسامي الشرعية تحمل على موضوع الشرع هذا هو الأصل، ولا يلزم عليه قوله: دعي الصلاة أيام أقرائك وقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} النساء: 22) لانه حمل النكاح والصلاة بالمعنى اللغوي على خلاف الوضعي بدليل دل عليه، ولا يلزم عليه قوله عليه السلام: لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود، لان ذلك نفي، وليس نهيا، قلنا: الأصل أن الاسم لموضوعه اللغوي إلا ما صرفه عنه عرف الاستعمال في الشرع وقد ألفينا عرف الشرع في الاوامر أنه يستعمل الصوم والنكاح والبيع لمعانيها الشرعية، أما في المنهيات فلم يثبت هذا العرف المغير للوضع، بدليل قوله: دعي الصلاة أيام أقرائك {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} وأمثال هذه المناهي مما لا ينعقد أصلا، ولم يثبت فيه عرف استعمال الشرع، فيرجع إلى أصل الوضع، ونقول: إذا تعارض فيه عرف الشرع والوضع فمن صام يوم النحر فقد ارتكب النهي وإن لم ينعقد صومه، ويكون هذا أولى، لان مذهبهم يفضي إلى صرف النهي عن ذلك المنهي عنه إلى غيره. فإنه لو كان منهيا في عينه استحال أن يكون عبادة منعقدة، ومطلق النهي عن الشئ يدل على النهي عن عينه إلا أن يدل دليل، فلا معنى لترك الظاهر من غير ضرورة، فإن قيل: فإذا اخترتم أن النهي لا يدل على الصحة ولا على الفساد في أسباب المعاملات، فما قولكم في النهي عن العبادات؟ قد بينا أن النهي يضاد كون المنهي عنه قربة وطاعة، لان الطاعة عبارة عما يوافق الامر، والامر والنهي متضادان، فعلى هذا صوم يوم النحر لا يكون منعقدا إن أريد بانعقاده كونه طاعة وقربة وامتثالا، لان النهي يضاده، وإذالم يكن قربة لم يلزم بالنذر، إذ لا يلزم بالنذر ما ليس بقربة نعم: لو أمكن صرف النهي عن عين الصوم إلى ترك إجابة دعوة الله تعالى فذلك لا يمنع انعقاده، ولكن ذلك أيضا فاسد كما سبق في القطب الأول، وإن قيل فقد حمل بعض المناهي في الشرع على الفساد دون البعض، فما الفصل؟ قلنا: النهي لا يدل على الفساد وإنما يعرف فساد العقد والعبادة بفوات شرطه وركنه، ويعرف فوات الشرط إما بالإجماع كالطهارة في الصلاة وستر العورة واستقبال القبلة، وإما بنص، وإما بصيغة النفي كقوله لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود فذلك ظاهر في النفي عند عدم الشرط، وأما القياس على منصوص فكل نهي يتضمن ارتكابه الاخلال بالشرط فيدل على الفساد من حيث الاخلال بالشرط لا من حيث النهي، وشرط المبيع أن يكون مالا متقوما مقدورا على تسليمه معينا، أما كونه مرئيا ففي اشتراطه خلاف، وشرط الثمن أن يكون مالا معلوم القدر والجنس، وليس من شرط النكاح الصداق، فلذلك لم يفسد بكون النكاح على خمر أو خنزير أو مغصوب وإن كان منهيا عنه، ولا فرق بين الطلاق السني والبدعي في شرط النفوذ وإن اختلفا في التحريم، فإن قيل: فلو قال قائل: كل نهي رجع إلى عين الشئ فهو دليل الفساد دون ما يرجع إلى غيره، فهل يصح؟ قلنا: لا، لانه لا فرق بين الطلاق في حال الحيض والصلاة في الدار المغصوبة، لانه إن أمكن أن يقال: ليس منهيا عن الطلاق لعينه ولا عن الصلاة لعينها بل لوقوعه في حال الحيض، ولوقوعها في الدار المغصوبة، أمكن تقدير مثله في الصلاة في حال الحيض، فلا اعتماد إلا على فوات الشرط، ويعرف الشرط بدليل يدل عليه وعلى ارتباط الصحة به، ولا يعرف بمجرد النهي، فإنه لا يدل عليه وضعا وشرعا كما سبق في المسألة التي قبلها، وهذا القدر كاف في صيغة الامر والنهي فإن ما يتعلق منه بحقيقة الوجوب والتحريم ويضادهما ويوافقهما فقد ميزناه عما يتعلق بمقتضى الصيغة وقررناه في القطب الأول عند البحث عن حقيقة الحكم، فإن ذلك نظر عقلي وهذا نظر لغوي من حيث دلالة الالفاظ فلذلك ميزناه على خلاف عادة الاصوليين.
القسم الرابع من النظر في الصيغة القول في العام والخاص ويشتمل على مقدمة وخمسة أبواب: المقدمة القول في حد العام والخاص ومعناهما أعلم أن العموم والخصوص من عوارض الالفاظ لامن عوارض المعاني والافعال. والعام عبارة عن اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا مثل الرجال والمشركين ومن دخل الدار فأعطه درهما، ونظائره كما سيأتي تفصيل صيغ العموم، واحترزنا بقولنا: من جهة واحدة، عن قولهم: ضرب زيد عمرا، وعن قولهم: ضرب زيدا عمرو، فإنه يدل على شيئين، ولكن بلفظين لا بلفظ واحد، ومن جهتين لا من جهة واحدة، وأعلم أن اللفظ إما خاص في ذاته مطلقا كقولك: زيد وهذا الرجل، وإما عام مطلقا كالمذكور والمعلوم، إذ لا يخرج منه موجود ولا معدوم، وإما عام بالاضافة كلفظ المؤمنين، فإنه عام بالاضافة إلى آحاد المؤمنين خاص بالاضافة إلى جملتهم، إذ يتناولهم دون المشركين فكأنه يسمى عاما من حيث شموله لما شمله خاصا من حيث اقتصاره على ما شمله وقصوره عما لم يشمله، ومن هذا الوجه يمكن أن يقال: ليس في الالفاظ عام مطلق، لان لفظ المعلوم لا يتناول المجهول، والمذكور لا يتناول المسكوت عنه، فإن قيل: فلم قلتم، إن العموم من عوارض الالفاظ لا من عوارض المعاني والافعال، والعطاء فعل، وقد يعطي عمرا وزيدا وتقول عممهما بالعطاء، والوجود معنى، وهو يعم الجواهر والاعراض، قلنا: عطاء زيد متميز عن عطاء عمرو من حيث أنه فعل، فليس في الوجود فعل واحد هو عطاء، وتكون نسبته إلى زيد وعمرو واحدة، وكذلك وجود السواد يفارق وجود البياض، وليس الوجود معنى واحدا حاصلا مشركا بينهما وإن كانت حقيقته واحدة في العقل وعمو الناس وقدرهم وإن كانت مشتركة في كونها علما وقدرة لا يوصف بأنه عموم، فقولنا: الرجل له وجود في الاعيان وفي الاذهان وفي اللسان، أما وجوده في اللسان فلقط الرجل قد وضع للدلالة ونسبته في الدلالة إلى زيد وعمرو واحدة يسمى عاما باعتبار نسبة الدلالة إلى المدلولات الكثيرة، وأما ما في الاذهان من معنى الرجل فيسمى كليا من حيث أن العقل يأخذ من مشاهدة زيد حقيقة الانسان وحقيقة الرجل، فإذا رأى عمرا لم يأخذ منه صورة أخرى، وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو والذي حدث الآن كنسبته إلى زيد الذي عهده أولا، فهذا معنى كليته، فإن سمي عاما بهذا فلا بأس، فإن قيل: فهل يجوز أن يقال: هذا عام مخصوص، وهذا عام قد خصص؟ قلنا: لا، لان المذاهب ثلاثة: مذهب أرباب الخصوص، ومذهب أرباب العموم، ومذهب الواقفية. أما أرباب الخصوص: فإنهم يقولون: لفظ المشركين مثلا موضوع لاقل الجمع، وهو للخصوص، فكيف يقولون إنه عموم قد خصص. وأما أرباب العموم: فيقولون: هو الاستغراق، فإن أريد به البعض فقد تجوز به عن حقيقته ووضعه، فلم يتصرف في الوضع ولم يغير حتى يقال إنه خصص العام أو هو عام مخصوص. وأما الواقفية: فإنهم يقولون: إن اللفظ مشترك، وإنما ينزل على خصوص أو عموم بقرينة وإرادة معينة، كلفظ العين، فإن أريد به الخصوص فهو موضوع له، لا أنه عام قد خصص، وإن أريد به العموم فهو موضوع له، لا أنه خاص قد عمم فإذا هذا اللفظ مؤول، على كل مذهب، فيكون معناه أنه كان يصلح أن يقصد به العموم فقصد به الخصوص، وهذا على مذهب الوقف، وعلى مذهب الاستغراق أن وضعه للعموم واستعمل في غير وضعه مجازا فهو عام بالوضع، خاص بالارادة والتجوز، وإلا فالعام والخاص بالوضع لا ينقلب عن وضعه بإرادة المتكلم فإن قيل: فما معنى قولهم: خصص فلان عموم الآية والخبران كان العام لا يقبل التخصيص؟ قلنا: تخصيص العام محال كما سبق، وتأويل هذا اللفظ أن يعرف أنه أريد باللفظ العام بالوضع أو الصالح لارادة العموم الخصوص، فيقال على سبيل التوسع لمن عرف ذلك أنه خصص العموم، أي عرف أنه أريد به الخصوص، ثم من لم يعرف ذلك لكن اعتقده أو ظنه أو أخبر عنه بلسانه أو نصب الدليل عليه يسمى مخصصا، وإنما هو معرف ومخبر عن إرادة المتكلم، ومستدل عليه بالقرائن، لا أنه مخصص بنفسه، هذه هي المقدمة. أما الابواب فهي خمسة: الباب الأول: في أن العموم هل له صيغة أم لا واختلاف المذاهب فيه. الباب الثاني: في تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه عما لا يمكن. الباب الثالث: في تفصيل الأدلة المخصصة. الباب الرابع: في تعارض العمومين. الباب الخامس: في الاستثناء والشرط. الباب الأول في أن العموم هل له صيغة في اللغة أم لا؟ ولنشرح أولا صيغ العموم عند القائلين بها، ثم اختلاف المذاهب، ثم أدلة أرباب الخصوص، ثم أدلة أرباب العموم، ثم أدلة أرباب الوقف، ثم المختار فيه عندنا، ثم حكم العام عند القائلين به إذا دخله التخصيص فهذه سبعة فصول في صيغ العموم. وأعلم أنها عند القائلين بها خمسة أنواع: الأول: ألفاظ الجموع، أما المعرفة كالرجال والمشركين، وأما المنكرة كقولهم: رجال ومشركون، كما قال تعالى: {ما لنا لا نرى رجالا} (ص: 26) والمعرفة للعموم إذا لم يقصد بها تعريف المعهود كقولهم: أقبل الرجل والرجال، أي المعهودون المنتظرون. الثاني: من وما إذا ورد للشرط والجزاء، كقوله عليه السلام: من أحيا أرضا ميتة فهي له. وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه وفي معناه متى وأين للمكان والزمان، كقوله: متى جئتني أكرمتك، وأينما كنت أتيتك. الثالث: ألفاظ النفي، كقولك: ما جاءني أحد، وما في الدار ديار. الرابع: الاسم المفرد إذا دخل عليه الالف واللام لا للتعريف، كقوله تعالى: {إن الانسان لفي خسر} (العصر: 2) وقوله: {والسارق والسارقة} (المائدة: 83) أما النكرة، كقولك: مشرك وسارق، فلا يتناول إلا واحدا. الخامس: الالفاظ المؤكدة، كقولهم: كل وجميع وأجمعون وأكتعون. تفصيل المذاهب: أعلم أن الناس اختلفوا في هذه الانواع الخمسة على ثلاثة مذاهب: فقال قوم يلقبون بأرباب الخصوص: إنه موضوع لاقل الجمع، وهو إما اثنان وإما ثلاثة على ما سيأتي الخلاف فيه، وقال أرباب العموم: هو للاستغراق بالوضع، إلا أن يتجوز به عن وضعه، وقالت الواقفية: لم يوضع لا لخصوص ولا لعموم، بل أقل الجمع داخل فيه لضرورة صدق اللفظ بحكم الوضع، وهو بالاضافة إلى الاستغراق للجميع أو الاقتصار على الاقل، أو تناول صنف أو عدد بين الاقل، والاستغراق مشترك يصلح لكل واحد من الاقسام كاشتراك لفظ الفرقة والنفر بين الثلاثة والخمسة والستة، إذ يصلح لكل واحد منهم، فليس مخصوصا في الوضع بعدد، وإن كنا نعلم أن أقل الجمع لا بد منه ليجوز إطلاقه ثم أرباب العموم اختلفوا في التفصيل في ثلاث مسائل: الأولى: الفرق بين المعرف والمنكر، فقال الجمهور: لا فرق بين قولنا: اضربوا الرجال، وبين قولنا: اضربوا رجالا واقتلوا المشركين وأقتلوا مشركين، وإليه ذهب الجبائي، وقال قوم: يدل المنكر على جمع غير معين ولا مقدر، ولا يدل على الاستغراق وهو الاظهر. الثاني: اختلفوا في الجمع المعرف بالالف واللام، كالسارقين والمشركين والفقراء والمساكين والعاملين، فقال قوم: هو للاستغراق، وقال قوم: هو لاقل الجمع، ولا يحمل على الاستغراق إلا بدليل، والأول أقوى وأليق بمذاهب أرباب العموم. الثالثة: الاسم المفرد إذا دخل عليه الالف واللام، كقولهم: الدينار خير من الدرهم، فمنهم من قال: هو لتعريف الواحد فقط، وذلك في تعريف المعهود، وقال قوم: هو للاستغراق، وقال قوم: يصلح للواحد والجنس ولبعض الجنس، فهو مشترك، ومذهب الواقفية أن جميع هذه الالفاظ مشتركة، ولم يبق منها شئ للاستغراق حتى كل وكلما وأي والذي ومن وما، واختلفوا في مسألة واحدة، فقال قوم: إنما التوقف في العموم الواردة في الاخبار والوعد والوعيد، أما الامر والنهي فلا. فإنا متعبدون بفهمه ولو كان مشتركا لكان مجملا غير مفهوم، وهذا فاسد لا يليق بمذهب الواقفية، لان دليلهم لا يفرق بين جنس وجنس، إذ العرب تريد بصيغ الجمع البعض في كل جنس كما تريد الكل، ويستوي في ذلك قولهم، فعلوا وافعلوا، وقولهم: قتل المشركون واقتلوا المشركين، ولان من الاخبار ما تعبد بفهمه، كقوله تعالى: {وهو بكل شئ عليم} (البقرة: 92)، (الانعام: 101) وقوله: {وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها} (هود: 6) (تنبيه): لا ينبغي أن يقول الواقفية الوقف في ألفاظ العموم جائز وفيما مخرجه مخرج العموم واجب، فقد أطلق ذلك الشيخ أبو الحسن الاشعري وجماعة، لان المتوقف لا يسلم أنه لفظ العموم كما لا يسلم أنه لفظ الخصوص إلا أن يعني به أنه لفظ العموم عند معتقدي العموم بل ينبغي أن يقول: التوقف في صيغ الجموع وأدوات الشرط واجب. القول في أدلة أرباب العموم ونقضهاوهي خمسة: الدليل الأول: أن أهل اللغة بل أهل جميع اللغات كما عقلوا الاعداد والانواع والاشخاص والاجناس ووضعوا لكل واحدا اسما لحاجتهم إليه، عقلوا أيضا معنى العموم واستغراق الجنس واحتاجوا إليه، فكيف لم يضعوا له صيغة ولفظا؟ الاعتراض من أربعة أوجه: الأول: أن هذا قياس واستدلال في اللغات، واللغة تثبت توقيفا ونقلا لا قياسا واستدلالا، بل هي كسنن الرسول عليه السلام، وليس لقائل أن يقول: الشارع كما عرف الاشياء الستة وجريان الربا فيها ومست إليه حاجة الخلق ونص عليها فينبغي أن يكون قد نص على سائر الربويات، وهذا فاسد. الثاني: أنه وإن سلم أن ذلك واجب في الحكمة، فمن يسلم عصمة واضعي اللغة حتى لا يخالفوا الحكمة في وضعها، وهم في حكم من يترك مالا تقتضي الحكمة تركه. الثالث: إن هذا منقوض، فإن العرب عقلت الماضي والمستقبل والحال، ثم لم تضع للحال لفظا مخصوصا حتى لزم استعمال المستقبل أو اسم الفاعل فيها، فتقول: رأيته يضرب أو ضاربا، ثم كما عقلت الالوان عقلت الروائح، ثم لم تضع للروائح أسامي حتى لزم تعريفها بالاضافة فيقال: ريح المسك، وريح العود، ولا يقال: لون الدم ولون الزعفران، بل أصفر أو أحمر. الرابع: أنا لا نسلم أنهم لم يضعوا للعموم لفظا، كما لا نسلم أنهم لم يضعوا للعين الباصرة لفظا، وإن كان العين مشتركا بين أشياء لم يخرج عن كونه موضوعا له، وإن لم يكن وقفا عليه بل صالحا له ولغيره، وكذلك صيغ الجموع مشتركة بين العموم والخصوص. الدليل الثاني: أنه يحسن أن تقول: اقتلوا المشركين إلا زيدا، ومن دخل الدار فأكرمه إلا الفاسق، ومن عصاني عاقبته إلا المعتذر، ومعنى الاستثناء: إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ، إذ لا يجوز أن تقول: اكرم الناس إلا الثور، الاعتراض أن للاستثناء فائدتين إحداهما: ما ذكرتموه، وهو إخراج ما يجب دخوله تحت اللفظ، كقوله: علي عشرة إلا ثلاثة، والثاني: ما يصلح أن يدخل تحته ويتوهم أن يكون مرادا به وهذا صالح لان يدخل تحت اللفظ، والاستثناء لقطع صلاحيته لا لقطع وجوبه، بخلاف الثور، إن لفظ الناس لا يصلح لارادته. الدليل الثالث: أن تأكيد الشئ ينبغي أن يكون موافقا لمعناه ومطابقا له وتأكيدا لخصوص غير تأكيد العموم، إذ يقال: اضرب زيدا نفسه، واضرب الرجال أجمعين أكتعين، ولا يقال: اضرب زيدا كلهم. الاعتراض أن الخصم يسلم أن لفظ الجمع يتناول قوما، وهو أقل الجمع فما زاد، ويجوز أن يقال: اضرب القوم كلهم، لان للقوم كلية وجزئية، أما زيد والواحد المعين ليس له بعض، فليس فيه كل، وكما أن الفظ العموم لا يتعين مبلغ المراد منه بعد مجاوزة أقل الجمع، فكذلك لفظ المشركين والمؤمنين، والكلام في أنه لاستغراق الجنس أو لاقل الجمع أو لعدد بين الدرجتين وكيفما كان، فلفظ الكلية لائق به، فإن قيل: فإذا قال: أكرم الناس أكتعين أجمعين كلهم وكافتهم ينبغي أن يدل هذا على الاستغراق، ثم يكون الدال هو المؤكد دون التأكيد، فإن التأكيد تابع، وإنما يؤكد بالاستغراق ما يدل على استغراق الجماعة الذين أرادهم بلفظ الناس، قلنا: لا يشعر بالاستغراق، كما لو قال: أكرم الفرقة والطائفة كلهم وكافتهم وجملتهم، لم يتغير به مفهوم لفظ الفرقة، ولم يتعين للاكثر، بل نقول: لو كان لفظ الناس يدل على الاستغراق لم يحسن أن يقول: كافتهم وجملتهم فإنما تذكر هذه الزيادة لمزيد فائدة فهو مشعر بنقيض غرضهم. الدليل الرابع: أن صيغ العموم باطل أن تكون لاقل الجمع خاصة كما سيأتي، وباطل أن تكون مشتركا، إذ يبقى مجهولا، ولا يفهم إلا بقرينة، وتلك القرينة لفظ أو معنى، فإن كان لفظا فالنزاع في ذلك اللفظ قائم، فإن الخلاف في أنه: هل وضع العرب صيغة تدل على الاستغراق أم لا؟ وإن كان معنى فالمعنى تابع للفظ، فكيف تزيد دلالته على اللفظ؟ الاعتراض: إن قصد الاستغراق يعلم بعلم ضروري يحصل عن قرائن أحوال ورموز وإشارات وحركات من المتكلم وتغيرات في وجهه، وأمور معلومة من عادته ومقاصده، وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس ولا ضبطها بوصف، بل هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل ووجل الوجل وجبن الجبان، وكما يعلم قصد المتكلم إذا قال: السلام عليكم، أنه يريد التحية، أو الاستهزاء واللهو، ومن جملة القرائن فعل المتكلم، فإنه إذا قال: على المائدة هات الماء، فهم أنه يريد الماء العذب البارد دون الحار الملح، وقد تكون دليل العقل كعموم قوله تعالى: {وهو بكل شئ عليم} (البقرة: 92)، (الانعام: 101)، {وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها} وخصوص قوله تعالى: {الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل} (الزمر: 62) إذ لا يدخل فيه ذاته وصفاته، ومن جملته تكرير الالفاظ المؤكدة، كقوله: اضرب الجناة، وأكرم المؤمنين كافتهم، صغيرهم وكبيرهم، شيخهم وشابهم، ذكرهم وأنثاهم، كيف كانوا وعلى أي وجه وصورة كانوا، ولا تغادر منهم أحدا بسبب من الاسباب ووجه من الوجوه، ولا يزال يؤكد حتى يحصل علم ضروري بمراده، أما قولهم ما ليس بلفظ فهو تابع للفظ فهو فاسد، فمن سلم أن حركة المتكلم وأخلاقه وعادته وأفعاله وتغير لونه وتقطيب وجهه وجبينه وحركة رأسه وتقليب عينيه تابع للفظه، بل هذه أدلة مستقلة يفيد اقتران جملة علوما ضرورية، فإن قيل: فبم عرفت الامة عموم ألفاظ الكتاب والسنة وإن لم يفهموه من اللفظ، وبم عرف الرسول من جبريل، وجبريل من الله تعالى، حتى عمموا الاحكام؟ قلنا: أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد عرفوه بقرائن أحوال النبي عليه السلام وتكريراته وعادته المتكررة، وعلم التابعون بقرائن أحوال الصحابة وإشاراتهم، ورموزهم وتكريراتهم المختلفة، وأما جبريل عليه السلام فإن سمع من الله بغير واسطة، فالله تعالى يخلق له العلم الضروري بما يريده بالخطاب بكلامه المخالف لاجناس كلام الخلق، وإن رآه جبريل في اللوح المحفوظ فبأن يراه مكتوبا بلغة ملكية ودلالة قطعية لا احتمال فيها. الدليل الخامس: وهو عمدتهم: إجماع الصحابة فإنهم وأهل اللغة بأجمعهم أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم، إلا ما دل الدليل على تخصيصه، وإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم، فعملوا بقول الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} (النساء: 11) واستدلوا به على إرث فاطمة رضي الله عنها، حتى نقل أبو بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: نحن معاشر الانبياء لا نورث وقوله: {الزانية والزاني} (النور: 2)، {والسارق والسارقة} (المائدة: 83} (ومن قتل مظلوما} (الاسراء: 33} (وذروا ما بقي من الربا} (البقرة: 872} (ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء: 92} (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (المائدة: 59) ولا وصية لوارث ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها ومن ألقى سلاحه فهو آمن ولا يرث القاتل ولا يقتل والد بولده إلى غير ذلك مما لا يحصى، ويدل عليه: أنه لما نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين} (النساء: 59) الآية قال ابن أم مكتوم ما قال، وكان ضريرا فنزل قوله تعالى: {غير اولى الضرر} (النساء: 59) فشمل الضرير وغيره عموم لفظ المؤمنين ولما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} (الانبياء: 89) قال بعض اليهود: أنا أخصم لكم محمدا، فجاءه وقال: قد عبدت الملائكة وعبد المسيح، فيجب أن يكونوا من حطب جهنم، فأنزل الله عزوجل: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} (الانبياء: 101) تنبيها على التخصيص، ولم ينكر النبي عليه السلام والصحابة رضي الله عنهم تعلقه بالعموم، وما قالوا له: لم استدللت بلفظ مشترك مجمل؟ ولما نزل قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} (الانعام: 28) قالت الصحابة: فأينا لم يظلم، فبين أنه إنما أراد ظلم النفاق والكفر، واحتج عمر رضي الله عنه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فدفعه أبو بكر بقوله: إلا بحقها ولم ينكر عليه التعلق بالعموم، وهذا وأمثاله لا تنحصر حكايته الاعتراض من وجهين: أحدهما: أن هذا إن صح من بعض الامة فلا يصح من جميعهم، فلا يبعد من بعض الامة اعتقاد العموم، فإنه الاسبق إلى أكثر الافهام، ولا يسلم صحة ذلك على كافة الصحابة. الثاني: إنه لو نقل ما ذكروه عن جملة الصحابة، فلم ينقل عنهم قولهم على التواتر إنا حكمنا في هذه المسائل بمجرد العموم لاجل اللفظ من غير التفات إلى قرينة، فلعل بعضهم قضى باللفظ مع القرينة المسوية بين المراد باللفظ وبين بقية المسميات، لعلمه بأنه لا مدخل في التأثير للفارق بين محل القطع ومحل الشك، والخلاف راجع إلى أن العموم متمسك به بشرط انتفاء قرينة مخصصة أو بشرط اقتران قرينة مسوية بين المسميات، ولم يصرح الصحابة بحقيقة هذه المسألة ومجرى الخلاف فيها، وأنه متمسك به بشرط انتفاء المخصص لا بشرط وجود القرينة المسوية. شبه أرباب الخصوص ذهب قوم إلى أن لفظ الفقراء والمساكين والمشركين ينزل على أقل الجمع، واستدلوا بأنه القدر المستيقن دخوله تحت اللفظ. والباقي مشكوك فيه، ولا سبيل إلى إثبات حكم بالشك، وهذا استدلال فاسد، لان كون هذا القدر مستيقنا لا يدل على كونه مجازا في الزيادة، والخلاف في أنه لو أريد به الزيادة لكان حقيقة أو مجازا، فإن الثلاثة مستيقنة من لفظ العشرة، ولا يوجب كونه مجازا في الباقي وكون ارتفاع الحرج معلوما من صيغة الامر لا يوجب كونه مجازا في الوجوب والندب، وكون الواحد مستيقنا من لفظ الناس لا يوجب كونه مجازا في الباقي، وكون الندب مستقينا من الامر لا يوجب كونه مجازا في الوجوب، وكون الفعلة الواحدة مستيقنة في الامر لا يوجب كونه مجازا في التكرار، وكون البدار معلوما في الامر لا يوجب كونه مجازا في التراخي، ثم نقول: هذا متناقض، لان قولهم: إن الثلاثة هو المفهوم فقط، يناقض قولهم: الباقي مشكوك، لانه إن كان هو المفهوم فقط فالباقي غير داخل قطعا. وإن كانوا شاكين في الباقي، فقد شكوا في نفس المسألة، فإن الخلاف في الباقي وأخطأوا في قولهم إن الثلاثة مفهومه فقط. شبه أرباب الوقف قد ذهب القاضي والاشعري وجماعة من المتكلمين إلى الوقف، ولهم شبه ثلاث: الأولى: أن كون هذه الصيغ موضوعة للعموم لا يخلو إما أن تعرف بعقل أو نقل، والنقل إما نقل عن أهل اللغة أو نقل عن الشارع، وكل واحد إما آحاد وإما تواتر، والآحاد لا حجة فيها، والتواتر لا يمكن دعواه، فإنه لو كان لافاد علما ضروريا، والعقل لا مدخل له في اللغات وهلم جرا، إلى تمام الدليل الذي سقناه في بيان أن صيغة الامر مترددة بين الايجاب والندب، الاعتراض: أن هذا مطالبة بالدليل، وليس بدليل، ومسلم أنه إن لم يدل دليل، فلا سبيل إلى القول به، وسنذكر وجه الدليل عليه إن شاء الله. الثانية: إنا لما رأينا العرب تستعمل لفظ العين في مسمياته، ولفظ اللون في السواد والبياض والحمرة، استعمالا واحدا متشابها، قضينا بأنه مشترك، فمن ادعى أنه حقيقة في واحد ومجاز في الآخر فهو متحكم، وكذلك رأيناهم يستعملون هذه الصيغ للعموم والخصوص جميعا بل استعمالهم لها في الخصوص أكثر، فقلما وجد في الكتاب والسنة والكلمات المطلقة في المحاورات ما لا يتطرق إليه التخصيص، فمن زعم أنه مجاز في الخصوص حقيقة، في العموم كان كمن قال: هو حقيقة في الخصوص مجاز في العموم، والقولان متقابلان فيجب تدافعهما والاعتراف بالاشتراك. الاعتراض: إن هذا أيضا يرجع إلى المطالبة بالدليل وليس بدليل، لان العرب تستعمل المجاز والحقيقة كما تستعمل اللفظ المشترك، ولم تقيموا دليلا على أن هذا ليس من قبيل المجاز والحقيقة بل طالبتم بالدليل على أن هذا ليس من المشترك. الشبهة الثالثة: قولهم: إنه كم يحسن الاستفهام في قوله: افعل إنه للوجوب أو الندب، فيحسن الاستفهام في صيغ الجمع أنه أريد به البعض أو الكل، فإنه إذا قال السيد لعبده من أخذ مالي فأقتله، يحسن أن يقول: وإن كان إباك أو ولدك، فيقول: لا أو نعم، ويقول: من أطاعني فأكرمه، فيقول وإن كان كافرا أو فاسقا فيقول: لا أو نعم، فكل ذلك مما يحسن، فلو قال اقتل كل مشرك، فيقول: والمؤمن أيضا اقتله أم لا؟ فلا يحسن هذا الاستفهام لظهور التجوز به عن الخصوص، قلنا: المجاز إذا كثر استعماله كان للمستفهم الاحتياط في طلبه، أو يحسن إذا عرف من عادة المتكلم أنه يهين الفاسق والكافر وإن أطاعه، ويسامح الاب في بذل المال والقرينة تشهد للخصوص واللفظ يشهد للعموم ويتعارض ما يورث الشك فيحسن الاستفهام. بيان الطريق المختار عندنا في إثبات العموم أعلم أن هذ النظر لا يختص بلغة العرب، بل هو جار في جميع اللغات، لان صيغ العموم محتاج إليها في جميع اللغات، فيبعد أن يغفل عنها جميع أصناف الخلق، فلا يضعونها مع الحاجة إليها، ويدل على وضعها توجه الاعتراض على من عصى الامر العام، وسقوط الاعتراض عمن أطاع، ولزوم النقض والخلف عن الخبر العام، وجواز بناء الاستحلال على المحللات العامة، فهذه أمور أربعة تدل على الغرض، وبيانها: أن السيد إذا قال لعبده: من دخل اليوم داري فأعطه درهما أو رغيفا، فأعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه، فإن عاتبه في إعطائه واحدا من الداخلين مثلا وقال: لم أعطيت هذا من جملتهم وهو قصير، وإنما أردت الطوال أو هو أسود، وإنما أردت البيض فللعبد أن يقول ما أمرتني بإعطاء الطوال ولا البيض، بل بإعطاء من دخل، وهذا داخل، فالعقلاء إذا سمعوا هذا الكلام في اللغات كلها أو إعتراض السيد ساقطا وعذر العبد متوجها، وقالوا للسيد: أنت أمرته بإعطاء من دخل وهذا قد دخل ولو أنه أعطى الجميع إلا واحدا فعاتبه السيد وقال: لم لم تعطه؟ فقال العبد: لان هذا طويل أو أبيض، وكان لفظك عاما فقلت: لعلك أردت القصار أو السود، استوجب التأديب بهذا الكلام، وقيل له: مالك وللنظر إلى الطول واللون، وقد أمرت بإعطاء الداخل، فهذا معنى سقوط الاعتراض عن المطيع وتوجهه على العاصي، وأما النقض على الخبر فإذا قال ما رأيت اليوم أحدا وكان قد رأى جماعة كان كلامه خلفا منقوضا وكذبا، فإن أردت أحدا غير تلك الجماعة كان مستنكرا، وهذه كصيغ الجميع فإن النكرة في النفي تعم عند القائلين بالعموم، ولذلك قال الله تعالى: {إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} (الانعام: 19) وإنما أورد هذا نقضا على كلامهم، فإن لم يكن عاما فلم ورد النقض عليهم؟ فإن هم أرادوا غير موسى فلم لزم دخول موسى تحت اسم البشر، وأما الاستحلال بالعموم، فإذا قال الرجل: أعتقت عبيدي وإمائي ومات عقيبه، جاز لمن سمعه أن يزوج من أي عبيده شاء، ويتزوج من أي جواريه شاء بغير رضا الورثة، وإذا قال العبيد الذين هم في يدي ملك فلان، كان ذلك إقرارا محكوما به في الجميع وبناء الاحكام على أمثال هذه العمومات في سائر اللغات لا ينحصر، ولا خلاف في أنه لو قال: أنفق على عبدي غانم أو على زوجتي زينب، أو قال: غانم حر، وزينب طالق، وله عبدان اسمهما غانم، وزوجتان اسمهما زينب، فتجب المراجعة والاستفهام، لانه أتى باسم مشترك غير مفهوم، فإن كان لفظ العموم فيما وراء أقل الجمع مشتركا فينبغي أن يجب التوقف على العبد إذا أعطى ثلاثة ممن دخل الدار، وينبغي أن يراجع في الباقي، وليس كذلك عند العقلاء كلهم في اللغات كلها، فإن قيل: إن سلم لكم ما ذكرتموه فإنما يسلم بسبب القرائن لا بمجرد اللفظ، فإن عرى عن القرائن فلا يسلم، قلنا: كل قرينة قدرتموها فعلينا أن نقدر نفيها أو يبقى حكم الاعتراض والنقض كما سبق، فإن غايتهم أن يقولوا: إذا قال: أنفق على عبيدي وجواري في غيبتي، وكان مطيعا بالانفاق على الجميع لاجل قرينة لحاجة إلى النفقة، أو أعط من دخل داري، فهو بقرينة إكرام الزائر، فهذا وما يجري مجراه إذا قدروه فسبيلنا أن نقدر أضدادها، فإنه لو قال: لا تنفق على عبيدي وزوجاتي كان عاصيا بالانفاق مطيعا بالتضييع، ولو قال: اضربهم، لم يكن عليه أن يقتصر على ثلاثة، بل إذا ضرب جميعهم عد مطيعا، ولو قال: من دخل داري فخذ منه شيئا، بقي العموم، بل نقدر ما لا غرض في نفيه وإثباته، فلو قال: من قال من عبيدي جيم فقل له صاد، ومن قال من جواري ألف فأعتقها فامتثل أو عصى، كان ما ذكرناه من سقوط الاعتراض وتوجهه جاريا، بل نعلم قطعا أنه لو ورد من صادق عرف صدقه بالمعجزة، ولم يعش إلا ساعة من نهار، وقال في تلك الساعة: من سرق فأقطعوه، ومن زنى فاضربوه والصلاة واجبة على كل عاقل بالغ، وكذلك الزكاة، ومن قتل مسلما فعلية القصاص، ومن كان له ولد فعليه النفقة، ومات عقيب هذا الكلام ولم نعرف له عادة ولا أدركنا من أحواله قرينة ولا صدر منه سوى هذه الالفاظ إشارة ورمزا ولا ظهر في وجهه حالة، لكنا نحكم بهذه الالفاظ ونتبعها، ولا يقال: جاء بألفاظ مشتركة مجملة ومات قبل أن يبينها، فلا يمكن العمل بها، ولو قدروا قرينة في نطقه وصورة حركته عند كلامه فليقدر أنه كتب في كتاب وسلمه إلينا وقال: اعملوا بما فيه ومات، وإن قدروا قرينة مناسبة بين هذه الجنايات والعقوبات فنقدر أمورا لا مناسبة فيها، كحروف المعجم، فإذا قال: من قال لكم ألف فقولوا جيم وأمثاله، فيكون جميع ذلك مفهوما معمولا به، وكل قرينة قدروها فنقدر نفيها ويبقى ما ذكرنا بمجرد اللفظ، وبهذا تبين أن الصحابة إنما تمسكوا بالعمومات بمجرد اللفظ وانتفاء القرائن المخصصة، لا أنهم طلبوا قرينة معممة وتسوية بين أقل الجمع والزيادة، فإن قيل: إذا قال: من دخل داري فأعطه، فيحسن أن يقال: ولو كان كافرا فاسقا، فربما يقول نعم، وربما يقول لا، فلو عم اللفظ فلم حسن الاستفهام؟ قلنا: لا يحسن أن يقال: وإن كان طويلا أو أبيض أو محترفا وما جرى مجراه، وإنما حسن السؤال عن الفاسق، لانه يفهم من الاعطاء الاكرام، ويعلم من عادته أنه لا يكرم الفاسق، أو علم من عادة الناس ذلك فتوهم أنه يقتدي بالناس فيه، فلتوهم هذه القرينة المخصصة حسن منه السؤال، ولذلك لم يحسن في سائر الصفات، ولذلك لو لم يراجع وأعطى الفاسق وعاتبه السيد فله أن يقول: أمرتني بإعطاء كل داخل وهذا قد دخل فيقول السيد: كان ينبغي أن تعرف بعقلك أن هذا إكرام، والفاسق لا يكرم، فيتمسك بقرينة مخصصة، فربما يكون مقبولا، فلو لم يقل هذا ولكن قال: كان لفظي مشتركا غير مفهوم، فلم أقدمت قبل السؤال؟ لم يكن هذا العتاب متوجها قطعا، فإن قيل فقد فرضتم الكلام في أداة الشرط، وقد قال بعمومه من أنكر سائر العمومات، فما الدليل في سائر الصور؟ قلنا: هذا يجري في (من) و (ما) و (متى) و (حيث) وأي وقت، وأي شخص ونظائره، ويجري أيضا في النكرة في النفي، كقوله: ما رأيت أحدا مثل قوله تعالى: {ما أنزل الله على بشر من شئ} (الانعام: 19) وكذلك في قولهم: (كل) و (جميع) و (أجمعون) بل هو أظهر، وهو النوع الثالث، وكذلك في النوع الرابع وهي صيغ الجموع، كالفقراء والمساكين، وهذا أيضا جار فيه، فإنه إذا قال لعبده: أعط الفقراء واقتل المشركين، واقتصر على هذا، وانتفت القرائن جري حكم الطاعة والعصيان، وتوجه الاعتراض وسقوطه كما سبق، وهو جار في كل جمع إلا في بعض الجموع المبنية للتقليل، كما ورد على وزن الافعال كالاثواب، والافعلة كالارغفة، والافعل كالاكلب، والفعلة كالصبية، وقد قال سيبويه: جميع هذا للتقليل وما عداه للتكثير، وقيل أيضا جمع السلامة للتقليل، وهذا بعيد، لا سيما فيما ليس فيه جمع مبني للتكثير وجمع القلة أيضا لا يتقدر المراد منه، بل يختلف ذلك بالقرائن والاحوال، إلا أنه ليس موضوعا للاستغراق. وأما النوع الخامس: وهو الاسم المفرد إذا دخل عليه الالف واللام فهذا فيه نظر، وقد اختلفوا فيه، والصحيح التفصيل، وهو أنه ينقسم إلى ما يتميز فيه لفظ الواحد عن الجنس بالهاء، كالتمرة والتمر، والبرة والبر، فإن عري عن الهاء فهو للاستغراق، فقوله: لا تبيعوا البر بالبر، ولا التمر بالتمر يعم كل بر وتمر، وما لا يتميز بالهاء ينقسم إلى ما يتشخص ويتعدد، كالدينار والرجل، حتى يقال: دينار واحد ورجل واحد، وإلى ما لا يتشخص واحد منه، كالذهب، إذ لا يقال: ذهب واحد فهذا لاستغراق الجنس، أما الدينار والرجل فيشبه أن يكون للواحد والالف واللام فيه للتعريف فقط، وقولهم: الدينار أفضل من الدرهم يعرف بقرينة التسعير، ويحتمل أن يقال: هو دليل على الاستغراق فإنه لو قال: لا يقتل المسلم بالكافر ولا يقتل الرجل بالمرأة فهم ذلك في الجميع فإنه لو قد حيث لا مناسبة فلا يخلو عن الدلالة على الجنس. القول في العموم إذا خص هل يصير مجازا في الباقي وهل يبقى حجة وهما نظران: أما صيرورته مجازا فقد اختلفوا فيه على أربعة مذاهب. فقال قوم: يبقى حقيقة، لانه كان متناولا لما بقي حقيقة، فخروج غيره عنه لا يؤثر، وقال قوم: يصير مجازا لانه وضع للعموم، فإذا أريد به غير ما وضع له بالقرينة كان مجازا، وإن لم يكن هذا مجازا فلا يبقى للمجاز معنى، ولا يكفي تناوله مع غيره، لانه لا خلاف أنه لورد إلى ما دون أقل الجمع صار مجازا، فإذا قال: لا تكلم الناس ثم قال: أردت زيدا خاصة كان مجازا، وإن كان هو داخلا فيه. وقال قوم: هو حقيقة في تناوله مجاز في الاقتصار عليه، وهذا ضعيف، فإنه لورد إلى الواحد كان مجازا مطلقا، لانه تغير عن وضعه في الدلالة، فالسارق مهما صار عبارة عن سارق النصاب خاصة فقد تغير الوضع واستعمل لا على الوجه الذي وضعته العرب، وقد اختار القاضي في التفريع على مذهب أرباب العموم أنه صار مجازا، لكن قال: إنما يصير مجازا إذا أخرج منه البعض بدليل منفصل من عقل أو نقل، أما ما خرج بلفظ متصل كالاستثناء فلا يجعله مجازا، بل يصير الكلام بسبب الزيادة المتصلة به كلاما آخر موضوعا لشئ آخر، فإنا نريد الواو والنون في قولنا: مسلم، فنقول: مسلمون، فيدل على أمر زائد ولا نجعله مجازا، ونزيد الالف واللام على قولنا: رجل، فنقول: الرجل، فيزيد فائدة أخرى وهي التعريف، لان هذه صارت صيغة أخرى بهذه الزيادة، فجاز أن يدل على معنى آخر، ولا فرق بين أن نزيد حرفا أو كلمة، فإذا قال: يقطع السارق إلا من سرق دون النصاب، كان مجموع هذا الكلام موضوعا للدلالة على ما دل عليه، فقوله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} (العنكبوت: 41) دل على تسعمائة وخمسين لا على سبيل المجاز، بل الوضع كذلك وضع، وكأن العرب وضعت عن تسعمائة وخمسين عبارتين إحداهما ألف سنة إلا خمسين، والاخرى تسعمائة وخمسون، ويمكن أن يقال: ما صار عبارة بالوضع عن هذا القدر بل بقي الالف للالف، والخمسون للخمسين، وإلا للرفع بعد الاثبات، ونحن بعلم الحساب عرفنا أن هذا تسعمائة وخمسون، فإنا إذا وضعنا ألفا ورفعنا خمسين علمنا مقدار الباقي بعلم الحساب، فلا نقول المجموع صار عبارة موضوعة عن هذا العدد وهذا أدق وأحق، لا كزيادة الالف واللام والياء والنون على المسلم، فإن تلك الزيادة لا معنى لها بغير اللفظ الأول. فإن قيل: لو قال الله تعالى: {براءة من الله ورسوله}، فقال الرسول متصلا به: إلا زيدا، فهل يكون هذا كالمتصل الذي لا يجعل لفظ المشركين مجازا في الباقي؟ قلنا: اختلفوا فيه، والظاهر أن هذا من غير المتكلم يجري مجرى الدليل المنفصل من قياس العقل والنقل، ولهذا لو قال زيد، وقال غيره: قام، لا يصير خبرا حتى يصدر من الأول قوله قام، لان نظم الكلام إنما يكون من متكلم واحد، وذلك يجعله خبرا، فإن قيل: فلو أخرج بالاستثناء عن لفظ المشركين الجميع إلا زيدا فهل يصير لفظ المشركين مجازا؟ قلنا: نعم لانه للجمع بالاتفاق، والخلاف في أنه مستغرق أو غير مستغرق، فهو عند أرباب العموم عند الاستثناء لجمع غير مستغرق دون الاستثناء لجمع مستغرق. وأما النظر الثاني في كونه حجة في الباقي، فقد قال قوم من القائلين بالعموم: إنه لا يبقى حجة، بل صار مجملا، وإليه ذهبت القدرية، لانه إذا لم يترك على الوضع فلا يبقى للفهم معتمد سوى، القرينة، وتلك القرينة غير معينة فلا يهتدي إليها، ومن هؤلاء من قال: أقل الجمع يبقى لانه مستيقن، واحتج القائلون بكونه مجملا بأن السارق إذا خرج منه سارق ما دون النصاب والسارق من غير الحرز ومن يستحق النفقة وغير ذلك فبم يفهم المراد منه على سبيل الحصر وقد خرج الوضع من أيدينا، ولا قرينة تفصل وتحصر فيبقى مجملا؟ والصحيح أنه يبقى حجه إلا إذا استثنى منه مجهولا، كما لو قال: اقتلوا المشركين إلا رجلا أما إذا استخرج منه معلوم فإنه يبقى دليلا في الباقي، ولاجله تمسك الصحابة بالعمومات وما من عموم: إلا وقد تطرق إليه التخصيص، وهذا لان لفظ السارق يتناول كل سارق بالوضع لولا دليل مخصوص، والدليل المخصوص صرف دلالته عن البعض، ولا مسقط لدلالته في الباقي، نعم: لا يدل اللفظ على إخراج ما خرج، فافتقر إلى دليل مخرج، وقصوره عنه لا يدل على قصوره عن تناول الباقي، فمن قال: أعتق رقبة ثم قال: لا تعتق معيبة ولا كافرة، لم يخرج به كلامه الأول عن كونه مفهوما، والرجوع في هذا إلى عادة اللسان وأهل اللغة وعادات الصحابة إذ لم يطرحوا جميع عمومات الكتاب والسنة لتطرق التخصيص إليها، وعلى الجملة: كلام الواقفية في العموم المخصص أظهر لا محالة، فإن قيل: قد سلمتم أنه صار مجازا، فيفتقر العمل به إلى دليل، إذا المجاز لا يعمل به إلا بدليل؟ قلنا: هو حقيقة في وضعه، والدليل المخصص هو الذي جعله مجازا، أما سقوط دلالة المجاز فلا وجه له لا سيما المجاز المعروف، فإنا نتمسك به بغير دليل زائد، كقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} (المائدة: 6)، (النساء: 34) فإنه وإن كان مجازا فهو معروف، وكذلك التفهيم بالعمومات المخصصة معروف في اللسان ولا يمكن اطراحه. |
12-06-2012, 07:51 PM | #50 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الباب الثاني في تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه عما لا يمكن وفيه مسائل:
مسألة (بيان العموم) إنما يمكن دعوى العموم فيما ذكره الشارع على سبيل الابتداء، أما ما ذكره في جواب السائل فإنه ينظر، فإن أتى بلفظ مستقل لو ابتدأ به كان عاما كما سئل عن بئر بضاعة، فقال: خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه وكما سئل عن ماء البحر فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته وأما إذا لم يكن مستقلا نظر، فإن لم يكن لفظ السائل عاما فلا يثبت العموم للجواب، كما لو قال السائل: توضأت بماء البحر، فقال: يجزيك، أو قال: وطئت في نهار رمضان، فقال: أعتق رقبة، فهذا لا عموم له، لانه خطاب مع شخص واحد، وإنما يثبت الحكم في حق غيره، بدليل مستأنف من قياس إذا ورد التعبد بالقياس أو تعلق بقوله عليه السلام، حكمي على الواحد حكمي على الجماعة، وذلك بشرط أن يكون حال غيره مثل حاله في كل وصف مؤثر في الحكم حتى لا يفترقا إلا في الشخص، والاحوال التي لا مدخل لها في التفرقة من الطول واللون وأمثاله، والذكورة والانوثة، كالطول واللون في بعض الاحكام كالعتق، ولذلك قلنا: حكمه في العبد بالسراية حكم في الامة، وفي باب ولاية النكاح ليس كذلك، إذ عرف من الشرع ترك الالتفات إلى الذكورة والانوثة في العتق والرق، ولم يعرف ذلك في النكاح، ولذلك نقول روي في الصحيح أن أبا بكر رضي الله عنه أم بالناس في مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج عليه السلام وهو في أثناء الصلاة فهم بأن يتخلف، فأشار عليه بالمنع ووقف بجانبه، واقتدى أبو بكر بالنبي عليه السلام واستمر الناس على الاقتداء بأبي بكر رضي الله عنه، وصلى الناس بصلاة أبي بكر، وصلى أبو بكر بصلاة النبي عليه السلام وفيه اقتداء الامام بغيره، واقتداء الناس بالمقتدى بغيره، وليس يظهر لنا أن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى النبي عليه السلام وفإن التقدم عليه مع حضوره مستبعد فيما يرجع إلى الامام، وللنبوة فيها تأثير، وهذا فعل خاص لا عموم له، ودعوى الالحاق تحكم مع ظهور الفرق ولا عموم يتعلق به، بل قوله لعبد الرحمن بن عوف: البس الحرير ولابي بردة بن نيار في الاضحية بجذعة من الضان تجزيك وإذنه للعرنيين بشرب أبوال الابل وقوله لعمر: مره فليراجعها إلا عموم لشئ منه، فيفتقر تعميمه إلى دليل متسأنف من قياس أو غيره أما ما نقل من اقتداء الناس بأبي بكر مع اقتدائه بالنبي عليه السلام فيحتمل أن مقتدي الكل كان بالنبي عليه السلام، وكان أبو بكر سفيرا برفع الصوت بالتكبيرات. أما إذا كان لفظ السائل عاما نزل منزلة عموم لفظ الشارع، كما لو سأله سائل عمن أفطر في نهار رمضان فقال: أعتق رقبة، كان كما لو قال: من أفطر في نهار رمضان أعتق رقبة، لانه يجيب عن السؤال، فلا يكون الجواب إلا مطابقا للسؤال أو أعم منه، فأما أخص منه فلا، أما لو قال السائل: أفطر زيد في نهار رمضان، فقال: عليه عتق رقبة: أو قال: طلق ابن عمر زوجته، فقال: مره فليراجعها فهذا لا عموم له، فلعله عرف من حاله ما يوجب العتق والمراجعة عليه خاصة، ولا نعرف ما تلك الحال ومن الذي يساويه فيها، ولا يدري أنه أفطر عمدا أو سهوا أو بأكل أو جماع، فإن قيل: ترك الاستفصال مع تعارض الاحوال يدل على عموم الحكم، وهذا من كلام الشافعي، قلنا: من أين تحقق ذلك، ولعله عليه السلام عرف خصوص الحال فأجاب بناء على معرفته ولم يستفصل، فهذا تقرير عموم بالوهم المجرد. مسألة (ورود العام على سبب خاص لا يسقط دعوى العموم) كقوله (صلى الله عليه وسلم) حيث مر بشاة ميمونة: أيما إهاب دبغ فقد طهر وقال قوم: يسقط عمومه، وهو خطأ، نعم: يصير احتمال التخصيص أقرب، ويقنع فيه بدليل أخف وأضعف، وقد يعرف بقرينة اختصاصه بالواقعة، كما إذا قيل: كلم فلانا في واقعة، فقال: والله لا أكلمه أبدا، فإنه يفهم بالقرينة أنه يريد ترك الكلام في تلك الواقعة لا على الاطلاق، والدليل على بقاء العموم أن الحجة في لفظ الشارع لا في السؤال والسبب، ولذلك يجوز أن يكون الجواب معدولا عن سنن السؤال، حتى لو قال السائل: أيحل شرب الماء وأكل الطعام والاصطياد؟ فيقول: الاكل واجب والشرب مندوب، والصيد حرام، فيجب اتباع هذه الاحكام وإن كان فيه خطر، ووجوب والسؤال وقع عن الاباحة فقط، وكيف ينكر هذا وأكثر أصول الشرع خرجت على أسباب، كقوله تعالى: {لبئس} (المائدة: 83) نزل في سرقة المجن أو رداء صفوان، ونزلت آية الظهار في سلمة بن صخر، وآية اللعان في هلال بن أمية، وكل ذلك على العموم. وشبه المخالفين ثلاث: الأولى: أنه لو لم يكن للسبب تأثير والنظر إلى اللفظ خاصة فينبغي أن يجوز إخراج السبب بحكم التخصيص عن عموم المسميات، كما لو لم يرد على سبب، قلنا: لا خلاف في أن كلامه بيان للواقعة، لكن الكلام في أنه بيان له خاصة أوله ولغيره، واللفظ يعمه ويعم غيره، وتناوله له مقطوع به وتناوله لغيره ظاهر، فلا يجوز أن يسأل عن شئ فيجيب عن غيره، نعم: يجوز أن يجيب عنه وعن غيره، ويجوز أيضا أن يجيب عن غيره بما ينبه على محل السؤال، كما قال لعمر: أرأيت لو تمضمضت، وقد سأله عن القبلة وقال للخثعمية، أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته. الشبهة الثانية: إنه لو لم يكن للسبب مدخل لما نقله الراوي، إذ لا فائدة فيه، قلنا: فائدته معرفة أسباب التنزيل والسير والقصص واتساع علم الشريعة، وأيضا: امتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد، ولذلك غلط أبو حنيفة رحمه الله في إخراج الامة المستفرشة من قوله: الولد للفراش، والخبر إنما ورد في وليدة زمعة، إذ قال عبد بن زمعة: هو أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال عليه السلام: الولد للفراش وللعاهر الحجر فأثبت للامة فراشا، وأبو حنيفة لم يبلغه السبب، فأخرج الامة من العموم. الشبهة الثالثة: إنه لولا أن المراد بيان السبب لما أخر البيان إلى وقوع الواقعة، فإن الغرض إذا كان تمهيد قاعدة عامة فلم أخرها إلى وقوع واقعة؟ قلنا: ولم قلتم: لا فائدة في تأخيره، والله تعالى أعلم بفائدته، ولم طلبتم لافعال الله فائدة؟ بل لله تعالى أن ينشئ التكليف في أي وقت شاء، ولا يسأل عمايفعل، ثم نقول: لعله علم أن تأخيره إلى الواقعة لطف ومصلحة للعباد، داعية إلى الانقياد، ولا يحصل ذلك بالتقديم والتأخير، ثم نقول: يلزم لهذه العلة اختصاص الرجم بما عز، والظهار واللعان، وقطع السرقة بالاشخاص الذين ورد فيهم، لان الله تعالى آخر البيان إلى وقوع وقائعهم، وذلك خلاف الإجماع. مسألة (العموم للالفاظ دون المعاني) المقتضى لا عموم له، وإنما العموم للالفاظ لا للمعاني، فتضمنها من ضرورة الالفاظ، بيانه: أن قوله: لا صيام لمن لم يبيت الصيام ظاهره ينفي صورة الصوم حسا، لكن وجب رده إلى الحكم، وهو نفي الاجزاء أو الكمال، وقد قيل: إنه متردد بينهما، فهو مجمل، وقيل إنه عام لنفي الاجزاء والكمال، وهو غلط، نعم: لو قال: لا حكم لصوم بغير تبييت، لكن الحكم لفظا عاما في الاجزاء والكمال، أما إذا قال لا صيام، فالحكم غير منطوق به، وإنما أثبت ذلك من طريق الضرورة، وكذلك قوله عليه السلام: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان معناه حكم الخطأ والنسيان ولا عموم له، ولو قال: لا حكم للخطأ لامكن حمله على نفي الاثم والغرم وغير ذلك، لا على العموم في الاجزاء والكمال، لان الاجزاء الصحة إذا انتفيا كان انتفاء الكمال ضرورة، وإنما العموم ما يشتمل على معنيين يمكن انتفاء كل واحد منهما دون الآخر. مسألة (العام في الفعل المتعدي) الفعل المتعدي إلى مفعول اختلفوا في أنه بالاضافة إلى مفعولاته هل يجري مجرى العموم؟ فقال أصحاب أبي حنيفة: لا عموم له، حتى لو قال: والله لا آكل، ونوى طعاما بعينه، أو قال: إن أكلت فأنت طالق، ونوى طعاما بعينه، لم يقبل، وكذلك إذا نوى بالضرب آلة بعينها، واستدل أصحاب أبي حنيفة بأن هذا من قبيل المقتضى، فلا عموم له، لان الاكل يستدعي مأكولا بالضرورة، لا أن اللفظ تعرض له، فما ليس منطوقا لا عموم له، فالمكان للخروج، والطعام للاكل، والآلة للضرب، كالوقت للفعل، والحال للفاعل، ولو قال: أنت طالق، ثم قال: أردت به إن دخلت الدار، أو أردت به يوم الجمعة، لم يقبل، وكذلك قالوا: لو نوى بقوله: أنت طالق عددا، لم يجزه، وجوز أصحاب الشافعي ذلك، والانصاف أن هذا ليس من قبيل المقتضى، ولا هو من قبيل الوقت، والحال فإن اللفظ المعتدي إلى المفعول يدل على المفعول بصيغته ووضعه، فأما الحال والوقت فمن ضرورة وجود الاشياء، لكن لا تعلق بها بالالفاظ، والمقتضى هو ضرورة صدق الكلام، كقوله: لا صيام، أو ضرورة وجود المذكور كقوله: أعتق عني، فإنه يدل على حصول الملك قبله لا من حيث اللفظ، لكن من حيث كون الملك شرطا لتصور العتق شرعا، أما الاكل فيدل على المأكول والضرب على الآلة والخروج على المكان وتتشابه نسبته إلى الجميع فهو بالعموم أشبه، فإن قيل: لا خلاف في أنه لو أمر بالاكل والضرب والخروج كان ممتثلا بكل طعام وبكل آلة وكل مكان ولو علق العتق حصل بالجميع، فهذا يدل على العموم، قلنا: ليس ذلك لاجل العموم، ولكن لاجل أن ما علق عليه وجد، والآلة والمكان والمأكول غير متعرض له أصلا، حتى لو تصور هذه الافعال دون الطعام والآلة والمكان والمأكول يحصل الامتثال، وهو كالوقت والحال فإنه إن أكل وهو داخل في الدار أو خارج وراكب أو راجل حنث وكان ممتثلا لا لعموم اللفظ، لكن لحصول الملفوظ في الاحوال كلها، وإنما تظهر فائدة العموم في إرادة بعض هذه الامور، وإلاظهر عندنا جواز نية البعض، وأنه جار مجرى العموم ومفارق للمقتضى كما ذكرنا. مسألة (العموم في الافعال) لا يمكن دعوى العموم في الفعل، لان الفعل لا يقع إلا على وجه معين، فلا يجوز أن يحمل على كل وجه يمكن أن يقع عليه، لان سائر الوجوه متساوية بالنسبة إلى محتملاته، والعموم ما يتساوى بالنسبة إلى دلالة اللفظ عليه، بل الفعل كاللفظ المجمل المتردد بين معان متساوية في صلاح اللفظ، ومثاله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعد غيبوبة الشفق، فقال قائل: الشفق شفقان: الحمرة والبياض، وأنا أحمله على وقوع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدهما جميعا، وكذلك صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الكعبة، فليس لقائل أن يستدل به على جواز الفرض في البيت، مصيرا إلى أن الصلاة تعم النفل والفرض، لانه إنما يعم لفظ الصلاة لا فعل الصلاة، أما الفعل فإما أن يكون فرضا فلا يكون نفلا أو يكون نفلا فلا يكون فرضا. مسألة (هل الفعل النبي صلى الله عليه وسلم عموم؟) فعل النبي عليه السلام كما لا عموم له بالاضافة إلى أحوال الفعل، فلا عموم له بالاضافة إلى غيره، بل يكون خاصا في حقه إلا أن يقول: أريد بالفعل بيان حكم الشرع في حقكم، كما قال: صلوا كما رأيتموني أصلي بل نزيد ونقول قوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله} (الاحزاب: 1) وقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} (الزمر: 56) مختص به بحكم اللفظ، وإنما يشاركه غيره بدليل لا بموجب هذا اللفظ، كقوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (المائدة: 76) وقوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر} (الحجر: 49). وقال قوم: ما ثبت في حقه فهو ثابت في حق غيره إلا ما دل الدليل على أنه خاص به، وهذا فاسد، لان الاحكام إذ قسمت إلى خاص وعام فالأصل اتباع موجب الخطاب، فما ثبت بمثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} و {يا أيها الناس} و {يا عبادي} و {يا أيها المؤمنون} فيتناول النبي إلا ما استثنى بدليل، وما ثبت للنبي كقوله: {يا أيها النبي} فيختص به إلا ما دل الدليل على الالحاق، وقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} (الطلاق: 1) عام، لان ذكر النبي جرى في صدر الكلام تشريفا، وإلا فقوله: طلقتم عام في صيغته، وكذلك قوله النبي صلى الله عليه وسلم لابي هريرة: افعل، ولابن عمر راجعها، خاص، إنما يشمل الحكم غيره بدليل آخر، مثل قوله: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة أو ما جرى مجراه. مسألة (هل النهي يقتضي العموم؟) قول الصحابي: نهى النبي عليه السلام عن كذا، كبيع الغرر، ونكاح الشغار وغيره، لا عموم له، لان الحجة في المحكي، لا في قول الحاكي ولفظه، وما رواه الصحابي من حكى النهي يحتمل أن يكون فعلا لا عموم له نهى عنه النبي عليه السلام، ويحتمل أن يكون لفظا خاصا، ويحتمل أن يكون لفظا عاما، فإذا تعارض الاحتمالات لم يكن إثبات العموم بالتوهم، فإذا قال الصحابي: نهى عن بيع الرطب بالتمر، فيحتمل أن يكون قد رأى شخصا باع رطبا بتمر، فنهاه، فقال الراوي ما قال، ويحتمل أن يكون قد سمع الرسول عليه السلام ينهي عنه ويقول: أنهاكم عن بيع الرطب بالتمر، ويحتمل أن يكون قد سئل عن واقعة معينة فنهى عنها، فالتمسك بعموم هذا تمسك بتوهم العموم لا بلفظ عرف عمومه بالقطع، وهذا على مذهب من يرى هذا حجة في أصل النهي، وقد قال قوم: لا بد أن يحكي الصحابي قول الرسول ولفظه، وإلا فربما سمع ما يعتقده نهيا باجتهاده، ولا يكون نهيا، فإن قوله: لا تفعل فيه خلاف أنه للنهي أم لا، وكذلك في ألفاظ أخر، وكذلك إذا قال: نسخ فلا يحتج به ما لم يقل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول نسخت آية كذا، لانه ربما يرى ما ليس بنسخ نسخا، وهذا قد ذكرناه في باب الاخبار وهو أصل السنة في القطب الثاني. مسألة (هل قول الصحابي يقتضي العموم) قول الصحابي: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار وبالشاهد واليمين، كقوله نهى، في أنه لا عموم له، لان حكاية، والحجة في المحكي، ولعله حكم في عين أو بخطاب خاص مع شخص، فكيف يتمسك بعمومه، فيقال مثلا: يقضي بالشاهد واليمين في البضع، أو في الدم، لان الراوي أطلق، مع أن للراوي أن يطلق هذا إذا رآه قد قضى في مال، أو في بضع، بل لو قال الصحابي: سمعته يقول: قضيت بالشفعة للجار، فهذا يحتمل الحكاية عن قضاء الجار معروف، ويكون الالف واللام للتعريف، وقوله: قضيت، حكاية فعل ماض، فأما لو قال: قضيت بأن الشفعة للجار، فهذا أظهر في الدلالة على التعريف للحكم دون الحكاية، ولو قال الراوي: قضى النبي عليه السلام بأن الشفعة للجار اختلفوا فيه، فمنهم من جعله عاما، ومنهم من قال: يجوز أن يكون قد قضى في واقعة بأن الشفعة للجار، فدعوى العموم فيه حكم بالتوهم. مسألة (لا عموم لواقعة الحال) لا يمكن دعوى العموم في واقعة لشخص معين قضى فيها النبي عليه السلام بحكم وذكر علة حكمه أيضا إذا أمكن اختصاص العلة بصاحب الواقعة، مثاله: حكمه في أعرابي محرم وقصت به ناقته: لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا، فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا فإنه يحتمل أن يقال: إما لانه وقصت به ناقته محرما لا بمجرد إحرامه، أو لانه علم من نيته أنه كان مخلصا في عبادته، وأنه مات مسلما وغيره لا يعلم موته على الاسلام، فضلا عن الاخلاص، وكذلك قال عليه السلام في قتلي أحد: زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما يجوز أن يكون لقتلى أحد خاصة لعلو درجتهم، أو لعلمه أنهم أخلصوا الله فهم شهداء حقا، ولو صرح بأن ذلك خاصيتهم قبل ذلك فاللفظ خاص والتعميم وهم، والشافعي رحمه الله تعالى عمم هذا الحكم نظرا إلى العلة، وأن ذلك كان بسبب الجهاد والاحرام، وأن العلة حشرهم على هذه الصفات، وعلة حشرهم الجهاد أو الاحرام، وقد وقعت الشركة في العلة، وهذا أسبق إلى الفهم، لكن خلافه وهو الذي اختاره القاضي ممكن، والاحتمال متعارض، والحكم بأحد الاحتمالين، لانه أسبق إلى الفهم فيه نظر، فإن الحكم بالعموم إنما أخذ من العادة، ومن وضع اللسان ولم يثبت ههنا في مثل هذه الصورة لا وضع ولا عادة فلا يكون في معنى العموم. |
12-06-2012, 07:52 PM | #51 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (هل للمفهوم عموم؟) من يقول بالمفهوم قد يظن للمفهوم عموما ويتمسك به، وفيه نظر لان العموم لفظ تتشابه دلالالته بالاضافة إلى المسميات، والمتمسك بالمفهوم والفحوى ليس متمسكا بلفظ بل بسكوت، فإذا قال عليه السلام: في سائمة الغنم زكاة فنفي الزكاة في المعلوفة ليس بلفظ حتى يعم اللفظ، أو يخص، وقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (الاسراء: 32) دل على تحريم الضرب لا بلفظه المنطوق به حتى يتمسك بعمومه، وقد ذكرنا أن العموم للالفاظ لا للمعاني ولا للافعال.
مسألة (لا يقتضي العطف العموم) ظن قوم أن من مقتضيات العموم الاقتران بالعام والعطف عليه، وهو غلط، إذ المختلفات قد تجمع العرب بينهما، فيجوز أن يعطف الواجب على الندب، والعام على الخاص، فقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} (البقرة: 822) عام، وقوله بعد: {وبعولتهن أحق بردهن} (البقرة: 822) في ذلك خاص وقوله تعالى: {كلوا من ثمره} (الانعام: 141) إباحة، وقوله بعده: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الانعام: 141) إيجاب، وقوله تعالى: {فكاتبوهم} (النور: 33) استحباب، وقوله: {(24) وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} (النور: 33) إيجاب. مسألة (هل في المشترك عموم؟) الاسم المشترك بين مسميين لا يمكن دعوى العموم فيه عندنا، خلافا للقاضي والشافعي، لان المشترك لم يوضع للجمع، مثاله: القرء للطهر والحيض، والجارية للسفينة والامة، والمشتري للكوكب السعد وقابل البيع، والعرب ما وضعت هذه الالفاظ وضعا يستعمل في مسمياتها إلا على سبيل البدل، أما على سبيل الجمع فلا، نعم: نسبة المشترك إلى مسمياته متشابهة، ونسبة العموم إلى آحاد المسميات متشابهة، لكن تشابه نسبة كل واحد من آحاد العموم على الجمع، ونسبة كل واحد من آحاد المشترك على البدل، وتشاب نسبة المفهوم في السكوت عن الجمع لا في الدلالة، وتشابه نسبة الفعل في إمكان وقوعه على كل وجه، إذ الصلاة المعينة إذا تلقيت من فعل النبي عليه السلام أمكن أن تكون فرضا ونفلا وأداء وقضاء، وظهرا وعصرا، والامكان شامل بالاضافة إلى علمنا، أما الواقع في نفسه وفي علم الله تعالى واحد متعين لا يحتمل غيره، فهذه أنواع التشابه، والوهم سابق إلى التسوية بين المتشابهات، وأنواع هذا التشابه متشابهة من وجه، فربما يسبق إلى بعض الاوهام أن العموم كان دليلا لتشابه نسبة اللفظ إلى المسميات والتشابه ههنا موجود فيثبت حكم العموم وهو غفلة عن تفصيل هذا التشابه، وإن تشابه نسبة العموم إلى مسمياته في دلالته على الجمع بخلاف هذه الانواع، احتج القاضي بأنه لو ذكر اللفظ مرتين، وأراد في كل مرة معنى آخر جاز، فأي بعد في أن يقتصر على مرة واحدة، ويريد به كلا المعنيين مع صلاح اللفظ للكل؟ بخلاف ما إذا قصد بلفظ المؤمنين الدلالة على المؤمنين والمشركين جميعا، فإن لفظ المؤمنين لا يصلح للمشركين بخلاف اللفظ المشترك فنقول: إن قصد باللفظ الدلالة على المعنيين جميعا بالمرة الواحدة فهذا ممكن، لكن يكون قد خالف الوضع كما في لفظ المؤمنين فإن العرب وضعت اسم العين للذهب والعضو الباصر على سبيل البدل لا على سبيل الجمع، فإن قيل: اللفظ الذي هو حقيقة في شئ مجاز في غيره، هل يطلق لارادة معنييه جميعا مثل النكاح للوطئ والعقد واللمس للجس وللوطئ حتى يحمل قوله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} (النساء: 22) على وطئ الاب وعقده جميعا، وقوله تعالى: {أو لامستم النساء} (النساء: 34) على الوطئ والمس جميعا؟ قلنا: هذا عندنا كاللفظ المشترك، وإن كان التعميم فيه أقرب قليلا، وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: أحمل آية اللمس على المس والوطئ جميعا، وإنما قلنا: إن هذا أقرب، لان المس مقدمة الوطئ، والنكاح أيضا يراد للوطئ، فهو مقدمته، ولاجله استعير للعقد اسم النكاح الذي وضعه للوطئ، واستعير للوطئ اسم اللمس، فلتعلق أحدهما بالآخر، ربما لا يبعد أن يقصدا جميعا باللفظ المذكور مرة واحدة، لكن الاظهر عندنا أن ذلك أيضا على خلاف عادة العرب، فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} (الاحزاب: 65)، والصلاة من الله مغفرة، ومن الملائكة استغفار، وهما معنيان مختلفان والاسم مشترك، وقد ذكر مرة واحدة وأريد به المعنيان جميعا، وكذلك قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الارض والشمس القمر والنجوم والجبال والشجر والدواب) [ الحج: 18 ] وسجود الناس غير سجود الشجر والدواب، بل هو في الشجر مجاز قلنا: هذا يعضد ما ذكره الشافعي رحمه الله، ويفتح هذا الباب في معنيين يتعلق أحدهما بالآخر، فإن طلب المغفرة يتعلق بالمغفرة، لكن الاظهر عندنا أن هذا إنما أطلق على المعنيين بإزاء معنى واحد مشترك بين المعنيين، وهو العناية بأمر الشئ لشرفه وحرمته، والعناية من الله مغفرة، ومن الملائكة إستغفار ودعاء، ومن الامة دعاء وصلوات، وكذلك العذر عن السجود. مسألة (هل العبد مخاطب بالتكاليف الشرعية؟) ما ورد من الخطاب مضافا إلى الناس والمؤمنين يدخل تحته العبد، كقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} (آل عمران: 79) وأمثاله، وقال قوم: لا يدخل تحته لانه مملوك للآدمي بتمليك الله تعالى: فلا يتناوله إلا خطاب خاص به، وهذا هوس لانه لم يخرج عن معظم التكاليف، وخروجه عن بعضها كخروج المريض والحائض والمسافر، وذلك لا يوجب رفع العموم، فلا يجوز إخراجه إلا بدليل خاص. مسألة (هل الخطاب الشرعي يعم الكافر؟) يدخل الكافر تحت خطاب الناس وكل لفظ عام، لانا بينا أن خطابه بفروع العبادات ممكن، وإنما خرج عن بعضها بدليل خاص، ومن الناس من أنكر ذلك، وهو باطل لما قررناه في أحكام التكاليف. مسألة (هل تدخل النساء في عموم الخطاب؟) يدخل النساء تحت الحكم المضاف إلى الناس فأما المؤمنون والمسلمون وصيغ جمع الذكر اختلفوا فيه، فقال قوم: تدخل النساء تحته، لان الذكور والاناث إذا اجتمعوا غلبت العرب التذكير، واختار القاضي أنها لا تدخل، وهو الاظهر، لان الله تعالى ذكر المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، فجمع الذكور متميز، نعم: إذا اجتمعوا في الحكم وأراد الاخبار تجوز العرب الاقتصار على لفظ التذكير، أما ما ينشأ على سبيل الابتداء ويخصه بلفظ المؤمنين فإلحاق المؤمنات إنما يكون بدليل آخر من قياس، أو كونه في معنى المنصوص أو ما جرى مجراه. مسألة (هل تدخل الامة عند خطاب الله للنبي صلى الله عليه وسلم؟) كما لا تدخل الامة تحت خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {يا أيها النبي} لا يدخل النبي تحت الخطاب الخاص بالامة، أما الخطاب بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} و {يا أيها الناس} فيدخل النبي تحته لعموم هذه الالفاظ، وقال قوم: لا يدخل، لانه قد خص بالخطاب في أحكام، فلا يلزمه إلا الخطاب الذي يخصه، وهو فاسد، لانه قد خص المسافر والعبد والحائض والمريض بأحكام، ولا يمنع ذلك دخولهم تحت العموم حيث يعم الخطاب، كذلك ههنا. مسألة (هل للمشافهة عموم؟) المخاطبة شفاها لا يمكن دعوى العموم فيها، بالاضافة إلى جميع الحاضرين، فإذا قال لجميع نسائه الحاضرات: طلقتكن، ولجميع عبيده: أعتقتكم، فإنما يكون مخاطبا من جملتهم من أقبل عليه بوجهه وقصد خطابه، وذلك يعرف بصورته وشمائله والتفاته ونظره، فقد يحضره جماعة من الغلمان من البالغين والصبيان فيقول: اركبوا معي، ويريد به أهل الركوب منهم دون من ليس أهلا له، فلا يتناول خطابه إلا من قصده ولا يعرف قصده إلا بلفظه أو شمائله الظاهرة، فلا يمكن دعوى العموم فيها، فنقول: على هذا كل حكم يدل بصيغة المخابة، كقوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا} و {يا أيها المؤمنون} و {يا أيها الناس} فهو خطاب مع الموجودين في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإثباته في حق من يحدث بعده بدليل زائد دال على أن كل حكم ثبت في زمانه، فهو دائم إلى يوم القيامة على كل مكلف، ولولاه لم يقتض مجرد اللفظ ذلك، ولما ثبت ذلك أفاد مثل هذه الالفاظ فائدة العموم لاقتران الدليل الآخر بها لا بمجرد الخطاب، فإن قيل: فإذا كان الخطاب خاصا مع شخص مشافهة أو مع جمع فهل يدل على العموم مثل قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} (سبأ: 28) وقوله عليه السلام: بعثت إلى الناس كافة، وبعثت إلى الاحمر والاسود، وقوله: حكمي على لواحد حكمي على الجماعة وقوله تعالى: {واتقون يا أولي الالباب} (البقرة: 791) و {يا أولي الابصار} و {يا أيها الناس} وأمثاله؟ قلنا: لا، بل عرف الصحابة عموم الحكم الثابت في عصره للاعصار كلها بقرائن كثيرة، وعرفنا ذلك من الصحابة ضرورة، ومجرد هذه الالفاظ ليست قاطعة، فإنه وإن كان مبعوثا إلى الكافة فلا يلزم تساويهم في الاحكام، فهو مبعوث إلى الحر والعبد، والحائض والطاهر والمريض والصحيح، ليعرفهم أحكامهم المختلفة، وكذلك قوله تعالى: {لانذركم به ومن بلغ} (الانعام: 91) أي ينذر كل قوم بل كل شخص بحكمه، فيكون شرعه عاما، وقوله: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة لا يتناول إلا عصره، فإن الجماعة عبارة عن الموجودين فلا يتناول من بعده، فإن قيل: فهل يدل على عموم الحكم أنه كان إذا أراد التخصيص خصص وقال: تجزئ عنك ولا تجزئ عن أحد بعدك وحلل الحرير لعبد الرحمن بن عوف خاصة، قلنا: لا، لانه ذكره حيث قدم عموما أو حيث توهم أنهم يلحقون غيره به للتعبد بالقياس، وكذلك قوله تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين} (الاحزاب: 05) لا يدل على أن الخطاب معه خطاب مع الامة لمثل ما ذكرناه. مسألة (التفريق بين العام والمجمل) من الصيغ ما يظن عموما، وهي إلى الاجمال أقرب، مثل من يتمسك في إيجاب الوتر بقوله: {وافعلوا الخير} (الحج: 77) مصيرا إلى أن ظاهر الامر الوجوب، والخير اسم عام وإخراج ما قام الدليل على نفي وجوبه لا يمنع التمسك به، وكمن يستدل على منع قتل المسلم بالذمي بقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) (النساء: 141) وأن ذلك يفيد منع السلطنة إلا ما دل عليه الدليل من الدية والضمان والشركة وطلب الثمن وغيره، أو يستدل بقوله: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} (الحشر: 02) وأن إيجاب القصاص تسوية، وهذا كله مجمل، ولفظ الخير ولفظ السبيل ولفظ الاستوا إلى الاجمال أقرب، وينضم إليه أن المستثنى من هذه العمومات ليس داخلا تحت الحصر، وليس مضبوطا بضابط واحد ولا بضوابط محصورة، وإن لم ينحصر المستثنى كان المستثني مجهولا وليس من هذا القبيل قوله: فيما سقت السماء العشر وقد قال قوم: لا يتمسك بعمومه، لان المقصود ذكر الفصل بين العشر ونصف العشر، وهذا فاسد لان صيغة ما صيغة شرط وضع للعموم بخلاف لفظ السبيل والخير والاستواء، نعم: تردد الشافعي في قوله تعالى: {وأحل الله البيع} (البقرة: 572) في أنه عام أو مجمل من حيث أن الالف واللام احتمل أن يكون فيه للتعريف، ومعناه: وأحل الله البيع الذي عرف الشرع بشرطه. مسألة (هل المخاطب يندرج تحت العموم لمخاطب يندرج تحت الخطاب العام) وقال قوم: لا يندرج تحت خطابه بدليل قوله تعالى: {وهو رب كل شئ} (الانعام: 164)، ولا يدخل هو تحته وبدليل قول القائل لغلامه، من دخل الدار فأعطه درهما، فإنه لا يحسن أن يعطي السيد، وهذا فاسد لان الخطاب عام، والقرينة هي التي أخرجت المخاطب مما ذكروه، ويعارضه قوله: {وهو بكل شئ عليم} (البقرة: 92) وهو عالم بذاته، ويتناوله اللفظ، ومجرد كونه مخاطبا ليس قرينة قاضية بالخروج عن العموم في كل خطاب، بل القرائن فيه تتعارض، والأصل اتباع العموم في اللفظ. مسألة (فائدة العموم للاسم المفرد) اسم الفرد وإن لم يكن على صيغة الجمع يفيد فائدة العموم في ثلاثة مواضع: أحدها: أن يدخل عليه الالف واللام، كقوله: لا تبيعوا البر بالبر. والثاني: النفي في النكرة لان النكرة في النفي تعم، كقولك: ما رأيت رجلا لان النفي لا خصوص له بل هو مطلق فإذا أضيف إلى منكر لم يتخصص بخلاف قوله: رأيت رجلا، فإنه إثبات، والاثبات يتخصص في الوجود، فإذا أخبر عنه لم يتصور عمومه، وإذا أضيف إلى مفرد اختص به. الثالث: أن يضاف إليه أمر أو مصدر، والفعل بعد غير واقع، بل منتظر، كقوله: أعتق رقبة، وقوله تعالى: {فتحرير رقبة} (المجادلة: 3) فإنه ما من رقبة إلا وهو ممتثل باعتاقها، والاسم متناول للكل، فنزل منزلة العموم، بخلاف قوله: أعتقت رقبة، فإنه إخبار عن ماض قد تم وجوده، ولا يدخل في الوجود إلا فعل خاص. مسألة (أقل عدد الجمع) صرف العموم إلى غير الاستغراق جائز، وهو معتاد، أما رده إلى ما دون أقل الجمع فغير جائز، ولا بد من بيان أقل الجمع، وقد اختلفوا فيه، فقال عمر وزيد بن ثابت: إنه اثنان، وبه قال مالك وجماعة، وقال ابن عباس والشافعي وأبو حنيفة: ثلاثة حتى قال ابن عباس لعثمان حين رد الام من الثلث إلى السدس بأخوين: ليس الاخوان أخوة في لغة قومك، فقال: حجبها قومك يا غلام، وقال ابن مسعود: إذا اقتدى بالامام ثلاثة اصطفوا خلفه، وإذا اقتدى اثنان وقف كل واحد عن جانب وهذا يشعر من مذهبه بأنه يرى أقل الجمع ثلاثة، وليس من حقيقة هذا الخلاف منع جمع الاثنين بلفظ يعمهما، فإن ذلك جائز ومعتاد، لكن الخلاف في أن لفظ الناس والرجال والفقراء وأمثاله يطلق على ثلاثة فما زاد حقيقة، وهل يطلق على الاثنين حقيقة أم لا؟ واختار القاضي أن أقل الجمع اثنان، واستدل بإجماع أهل اللغة على جواز إطلاق اسم الجمع على اثنين في قولهم: فعلتم وفعلنا وتفعلون، وقد ورد به القرآن، قال الله تعالى في قصة موسى وهارون: {إنا معكم مستمعون} (الشعراء: 51) وقال: {فررتم} (يوسف: 38) وهما يوسف وأخوه، وقال: {فقد صغت قلوبكما} (التحريم: 4) ولهما قلبان، وقال: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث} (الانبياء: 87) إلى قوله: {وكنا لحكمهم شاهدين} (الانبياء: 87) وهما اثنان، وقال: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} (الحجرات: 9) وهما طائفتان، وقال: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب} (ص: 12) وهما ملكان، فإن قيل: عن كل واحد من هذا جواب، فقوله: {إنا معكم مستمعون} (الشعراء: 51) يعني هارون وموسى وفرعون وقومه وهم جماعة، وقوله: {قلوبكما} (التحريم: 4) لضرورة استثقال الجمع بين اثنتين، مع أن القلوب على وزن الواحد في بعض الالفاظ، وقوله: {عسى الله يأتيني بهم جميعا} (يوسف: 38) أراد به يوسف وأخاه، والاخ الاكبر الذي تخلف عن الاخوة، وقوله تعالى: {وكنا لحكمهم شاهدين} (الانبياء: 87) أي حكمهما مع الجمع المحكوم عليهم، وقوله: {وإن طائفتان} (الحجرات: 9) كل طائفة جمع، قلنا: هذه تعسفات وتكلفات إنما يحوج إليها ضرورة نقل من أهل اللغة في استحالة إطلاق اسم الجمع على الاثنين وإذا لم يكن نقل صريح فيحمل خلافهم على الحقيقة كما ورد، فإن قيل: ههنا أدلة أربعة الأول: أن الاثنين لو كانا جمعا لكان قولنا فعلا اسم جمع، فليجز إطلاقه على الثلاثة فصاعدا، كقوله: فعلوا، فإنه لما كان اسم جمع جاز على الثلاثة فما فوقها، قلنا: فعلوا اسم جمع مشترك بين سائر أعداد الجمع، وفعلا اسم جمع خاص، لان الجمع لا يستدعي إلا الانضمام، وذلك يحصل في الاثنين، وهو كالعشرة، فإنه اسم مع، لكن جمع خاص، فلا يصلح لغيره، وكيف ينكر كون الاثنين جمعا. ويقول الرجلان: نحن فعلنا، فإن قيل: قد يقول الواحد ذلك، كقوله: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} (القدر: 1) قلنا: ذلك مجاز بالاتفاق وهذا ليس بمجاز. الثاني: قولهم أجمع أهل اللغة على أن الاسماء ثلاثة أضرب: توحيد وتثنية وجمع، وهو رجل ورجلان ورجال، فلتكن هذه الثلاثة متباينة، قلنا: ما قالوا الرجلان ليس اسم جمع لكن وضعوا البعض أعداد الجمع اسما خاصا كالعشرة، وجعلوا اسم الرجال مشتركا. الثالث: قولهم فرق في اللسان بين الرجال والرجلين، وما ذكرتموه رفع للفرق؟ قلنا: الفرق أن الرجلين اسم جمع خاص وهو للاثنين، والرجال اسم جمع مشترك لكل جمع من الاثنين والثلاثة، فما زاد. الرابع: قولهم لو صح هذا لجاز أن يقال: رأيت اثنين رجال، كما يقال رأيت ثلاثة رجال، قلنا: هذا ممتنع لان العرب لم تستعمله على هذا الوجه، ولا يمكن تعدي عرفهم، وعلى الجملة فمن يرد لفظ الجمع إلى الاثنين ربما يفتقر إلى دليل أظهر ممن يرده إلى الثلاثة، وإذا رده إلى الواحد فقد غير اللفظ النص بقرينة، فإن قيل: فقد يقول لامرأته أتخرجين وتكلمين الرجال، وربما يريد رجلا واحدا؟ قلنا: ذلك استعمال لفظ الجمع بدلا عن لفظ الواحد، لتعلق غرض الزوج لجنس الرجال، لا أنه عنى بلفظ الرجال رجلا واحدا، أما إذا أراد رجلين أو ثلاثة فقد ترك اللفظ على حقيقته. |
12-06-2012, 07:53 PM | #52 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الباب الثالث في الأدلة التي يخص بها العموم لا نعرف خلافا بين القائلين بالعموم في جواز تخصيصه بالدليل، إما بدليل العقل أو السمع أو غيرهما، وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قوله تعالى: {خالق كل شئ} (الانعام: 201، الرعد: 61، الزمر: 62، غافر: 62) ويحيى إليه ثمرات كل شئ} (القصص: 57) و (تدمر كل شئ) [ الاحقاف: 25 ] و (أوتيت من كل شئ) [ النمل: 83 ] {الزانية والزاني} (النور: 2} (وورثه أبواه} (النساء: 11) (ويوصيكم الله في أولادكم) (النساء: 11) وفيما سقت السماء العشر فإن جميع عمومات الشرع مخصصة بشروط في الأصل والمحل والسبب، وقلما يوجد عام لا يخصص، مثل قوله تعالى: {وهو بكل شئ عليم) فإنه باق على العموم. والأدلة التي يخص بها العموم أنواع عشرة: الأول: دليل الحس وبه خصص قوله تعالى: {وأوتيت من كل شئ} (النمل: 32) فإن ما كان في يد سليمان لم يكن في يدها وهو شئ، وقوله تعالى: {تدمر كل شئ بأمر ربها} (الاحقاف: 52) خرج منه السماء والارض وأمور كثيرة بالحس. الثاني: دليل العقل، وبه خصص قوله تعالى: {خالق كل شئ} (الانعام: 102) الرعد 16، الزمر: 62، غافر: 62) إذ خرج عنه ذاته وصفاته، إذ القديم يستحيل تعلق القدرة به، وكذلك قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} (آل عمران: 79) خرج منه الصبي والمجنون، لان العقل قد دل على استحالة تكليف من لا يفهم، فإن قيل كيف يكون العقل مخصصا وهو سابق على أدلة السمع، والمخصص ينبغي أن يكون متأخرا، ولان التخصيص إخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ وخلاف المعقول لا يمكن أن يتناوله اللفظ؟ قلنا: قال قائلون: لا يسمى دليل العقل مخصصا لهذا الحال، وهو نزاع في عبارة فإن تسمية الأدلة مخصصة تجوز، فقد بينا أن تخصيص العام محال، لكن الدليل يعرف إرادة المتكلم، وأنه أراد باللفظ الموضوع للعموم معنى خاصا، ودليل العقل يجوز أن يبين لنا أن الله تعالى ما أراد بقوله: {خالق كل شئ} (الانعام: 201، الرعد: 16، الرمر: 62، غافر: 62) نفسه وذاته، فإنه وإن تقدم دليل العقل فهو موجود أيضا عند نزول اللفظ، وإنما يسمى مخصصا بعد نزول الآية لا قبله، وأما قولهم: لا يجوز دخوله تحت اللفظ، فليس كذلك، بل يدخل تحت اللفظ من حيث اللسان، ولكن يكون قائله كاذبا، ولما وجب الصدق في كلام الله تعالى تبين أنه يمتنع دخوله تحت الارادة مع شمول اللفظ له من حيث الوضع. الثالث: دليل الإجماع، ويخصص به العام، لان الإجماع قاطع لا يمكن الخطأ فيه والعام يتطرق إليه الاحتمال، ولا تقضي الامة في بعض مسميات العموم، بخلاف موجب العموم إلا عن قاطع بلغهم في نسخ اللفظ الذي كان قد أريد به العموم، أو في عدم دخوله تحت الارادة عند ذكر العموم، والإجماع أقوى من النص الخاص، لان النص الخاص محتمل نسخه، والإجماع لا ينسخ، فإنه إنما ينعقد بعد انقطاع الوحي. الرابع: النص الخاص يخصص اللفظ العام، فقوله: فيما سقت السماء العشر يعم ما دون النصاب، وقد خصصه قوله عليه السلام: لا زكاة فيما دون خمسة أوسق وقوله تعالى: {والسارق والسارقة} (المائدة: 83) يعم كل مال، وخرج ما دون النصاب بقوله: لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وقوله: {فتحرير رقبة} (المجادلة: 3) يعم الكافرة، فلو ورد مرة أخرى {فتحرير رقبة مؤمنة} (النساء: 29) في الظهار بعينة لتبين لنا أن المراد بالرقبة المطلبة العامة هي المؤمنة على الخصوص، وقد ذهب قوم إلى أن الخاص والعام يتعارضان ويتدافعان، فيجوز أن يكون الخاص سابقا، وقد ورد العام بعده لارادة العموم فنسخ الخاص، ويجوز أن يكون العام سابقا، وقد أريد به العموم ثم نسخ باللفظ الخاص بعده، فعموم الرقبة مثلا يقتضي أجزاء الكافرة مهما أريد به العموم، والتقييد بالمؤمنة يقتضي منع أجزاء الكافرة فهما متعارضان، وإذا أمكن النسخ والبيان جميعا فلم يتحكم بحمله على البيان دون النسخ، ولم يقطع بالحكم على العام بالخاص، ولعل العام هو المتأخر الذي أريد به العموم وينسخ به الخاص، وهذا هو الذي اختاره القاضي، والاصح عندنا تقديم الخاص، وإن كان ما ذكره القاضي ممكنا، ولكن تقدير النسخ محتاج إلى الحكم بدخول الكافرة. تحت اللفظ ثم خروجه عنه، فهو إثبات وضع ورفع بالتوهم، وإرادة الخاص باللفظ العام غالب معتاد بل هو الاكثر، والنسخ كالنادر، فلا سبيل إلى تقديره بالتوهم، ويكاد يشهد لما ذكرناه من سير الصحابة والتابعين كثير، فإنهم كانوا يسارعون إلى الحكم بالخاص على العام، وما اشتغلوا بطلب التاريخ والتقدم والتأخر. الخامس: المفهوم بالفحوى كتحريم ضرب الاب، حيث فهم من النهي عن التأفيف، فهو قاطع كالنص، وإن لم يكن مستندا إلى لفظ، ولسنا نريد اللفظ بعينه بل لدلالته، فكل دليل سمعي قاطع، فهو كالنص، والمفهوم عند القائلين به أيضا كالمنطوق، حتى إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم، ثم قال الشارع: في سائمة الغنم زكاة، أخرجت المعلوفة من مفهوم هذا اللفظ عن عموم اسم الغنم والنعم. السادس: فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل على ما سيأتي بشرطه عند ذكر دلالة الافعال، وإنما يكون دليلا إذا عرف من قوله أنه قصد به بيان الاحكام، كقوله عليه السلام: صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم فإن لم يتبين أنه أراد به البيان، فإذا ناقض فعله لحكمه الذي حكم به فلا يرفع أصل الحكم بفعله المخالف له لكن قد يدل على التخصيص، ونذكر له ثلاثة أمثلة: المثال الأول: إنه نهى عن الوصال ثم واصل، فقيل له: نهيت عن الوصال ونراك تواصل؟ فقال: إني لست كأحدكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني فبين أنه ليس يريد بفعله بيان الحكم، ثم تحريم الوصال إن كان بقوله لا تواصلوا أو نهيتكم عن الوصال فلا يدخل فيه الرسول عليه السلام لانه مخاطب غيره، والمخاطب إنما يدخل تحت خطاب نفسه إذا أثبت الحكم بلفظ عام، كقوله: حرم الوصال على كل عبد أو على كل مكلف، أو على كل إنسان، أو كل مؤمن أو ما يجري مجراه، وإن كان بلفظ عام فيكون فعله تخصيصا. المثال الثاني: أنه نهى عن استقبال القبلة في قضاء الحاجة ثم رآه ابن عمر مستقبلا بيت المقدس على سطح، فيحتمل أنه تخصيص، لانه كان وراء سترة والنهي كان مطلقا، وأريد به ما إذا لم يكن ساتر، ويحتمل أنه كان مستثنى ومخصوصا فهو دليل على خروجه عن العموم إن كان اللفظ المحرم عاما له، ولا يصلح هذا، لان ينسخ به تحريم الاستقبال لانه فعل يكون في خلوة وخفية فلا يصلح لان يراد به البيان، فإن ما أريد به البيان يلزمه إظهاره عند أهل التواتر أن تعبد فيه الخلق بالعلم وإن لم يتعبدوا إلا بالظن والعمل، فلا بد من إظهاره لعدل أو لعدلين. المثال الثالث: أنه نهى عن كشف العورة ثم كشف فخذه بحضرة أبي بكر وعمر، ثم دخل عثمان رضي الله عنهم فستره، فعجبوا منه فقال: ألا أستحي ممن تستحي منه ملائكة السماء فهذا لا يرفع النهي، لاحتمال أنه لم يكن داخلا فيه، أو لعله كشفه لعارض وعذر، فإنه حكاية حال، أو أريد بالفخذ ما يقرب منه وليس داخلا في حده أو إباحته خاصة له أو نسخ تحريم كشف العورة، وإذا تعارضت الاحتمالات فلا يرتفع التحريم في حق غيره بالوهم. السابع: تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من أمته على خلاف موجب العموم، وسكوته عليه السلام عليه يحتمل نسخ أصل الحكم، أو تخصيص ذلك الشخص بالنسخ في حقه خاصة له، أو تخصيص وصف وحال ووقت ذلك الشخص ملابس له فيشاركه في الخصوص من شاركه في ذلك المعنى، فإن كان قد ثبت ذلك الحكم في كل وقت وفي كل حال تعين تقرير لكونه نسخا، إما على الجملة، وإما في حقه خاصة، والمستيقن حقه خاصة لكن لو كان من خاصيته لوجب على النبي عليه السلام أن يبين اختصاصه بعد أن عرف أمته أن حكمه في الواحد كحكمه في الجماعة، فيدل من هذا الوجه على النسخ المطلق، ولما أقر عليه السلام أصحابه على ترك زكاة الخيل مع كثرتها في أيديهم دل على سقوط زكاة الخيل، إذ ترك الفرض منكر يجب إنكاره، فإن قيل: فلعلهم أخرجوا ولم ينقل إلينا، أو لعله لم يكن في خيلهم سائمة، قلنا: العادة تحيل اندراس إخراجهم الزكاة طول أعمارهم والسوم قريب من الامكان، ويجب شرح ما يقرب وقوعه فلو وجب لذكره فهذه سبع مخصصات ووراءها ثلاثة تظن مخصصات، وليست منها فننظمها في سلك المخصصات. الثامن: عادة المخاطبين فإذا قال لجماعة من أمته: حرمت عليكم الطعام والشراب مثلا وكانت عادتهم تناولهم جنسا من الطعام، فلا يقتصر بالنهي على معتادهم بل يدخل فيه لحم السمك والطير، وما لا يعتاد في أرضهم لان الحجة في لفظه، وهو عام وألفاظه غير مبنية على عادة الناس في معاملاتهم، حتى يدخل فيه شرب البول وأكل التراب وابتلاع الحصاة والنواة، وهذا بخلاف لفظ الدابة، فإنها تحمل على ذوات الاربع خاصة لعرف أهل اللسان في تخصيص اللفظ وأكل النواة والحصاة يسمى أكلا في العادة، وإن كان لا يعتاد فعله، ففرق بين أن لا يعتاد الفعل وبين أن يعتاد إطلاق الاسم على الشئ، وعلى الجملة: فعادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم، حتى أن الجالس على المائدة يطلب الماء يفهم منه العذب البارد، لكن لا تؤثر في تغيير خطاب الشارع إياهم. التاسع: مذهب الصحابي إذا كان بخلاف العموم فيجعل مخصصا عند من يرى قول الصحابي حجة يجب تقليده وقد أفسدناه، وكذلك تخصيص الراوي يرفع العموم عند من يرى أن مذهب الراوي إذا خالف روايته يقدم مذهبه على روايته، وهذا أيضا مما أفسدناه بل الحجة في الحديث ومخالفته وتأويله وتخصيصه يجوز أن تكون عن اجتهاد ونظر لا نرتضيه فلا نترك الحجة بما ليس بحجة بل لو كان اللفظ محتملا وأخذ الراوي بأحد محتملاته واحتمل أن يكون ذلك عن توقيف فلا تجب متابعته ما لم يقل إني عرفته من التوقيف، بدليل أنه لو رواه روايان وأخذ كل واحد باحتمال آخر فلا يمكننا أن نتبعهما أصلا. العاشر: خروج العام على سبب خاص جعل دليلا على تخصصه عند قوم، وهو غير مرضي عندنا كما سبق تقريره واختتام هذا الكتاب بذكر مسألتين في تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبالقياس.
مسألة (تخصيص العموم بخبر الواحد) خبر الواحد إذا ورد مخصصا لعموم القرآن اتفقوا على جواز التعبد به لتقديم أحدهما على الآخر، لكن اختلفوا في وقوعه على أربعة مذاهب، فقال: بتقديم العموم قوم وبتقديم الخبر قوم، وبتقابلهما والتوقف إلى ظهور دليل آخر قوم، وقال قوم: إن كان العموم مما دخله التخصيص بدليل قاطع فقد ضعف وصار مجازا، فالخبر أولى منه وإلا فالعموم أولى وإليه ذهب عيسى بن أبان. احتج القائلون بترجيح العموم بمسلكين: الأول: أن عموم الكتاب، مقطوع به، وخبر الواحد مظنون، فكيف يقدم عليه؟ الاعتراض من أوجه: الأول: أن دخول أصل محل الخصوص في العموم، وكونه مراد، به مظنون ظنا ضعيفا يستند إلى صيغة العموم وقد أنكره الواقفية وزعموا أنه مجمل، فكيف ينفع كون أصل الكتاب مقطوعاته فيما لا يقطع بكونه مرادا بلفظه. الثاني: أنه لو كان مقطوعا به للزم تكذيب الراوي قطعا ولا شك في إمكان صدقه، فإن قيل: فلو نقل النسخ فصدقه أيضا ممكن ولا يقبل، قلنا: لا جرم لا يعلل رده بكون الآية مقطوعا بها، لان دوام حكمها إنما يقطع به بشرط أن الايراد ناسخ فلا يبقى القطع مع وروده، لكن الإجماع منع من نسخ القرآن بخبر الواحد، ولا مانع من التخصيص. الثالث: أن براءة الذمة قبل ورود السمع مقطوع بها، ثم ترفع بخبر الواحد، لانه مقطوع بها بشرط أن لا يرد سمع، وماء البحر مقطوع بطهارته إذا جعل في كوز، لكن بشرط أن لا يرد سمع بأن يخبر عدل بوقوع النجاسة فيه، وكذلك العموم ظاهر في الاستغراق بشرط أن لا يرد خاص. الرابع: أن وجوب العمل بخبر الواحد مقطوع به بالإجماع، وإنما الاحتمال في صدق الراوي ولا تكليف علينا في اعتقاد صدقه، فإن سفك الدم وتحليل البضع واجب بقول عدلين قطعا مع أنا لا نقطع بصدقهما، فوجوب العمل بالخبر مقطوع به وكون العموم مستغرقا غير مقطوع به فإن قيل: إنما يجب العمل بخبر لا يقابل عموم القرآن؟ قلنا: يقابله أنه إنما يجب العمل بعموم لا يخصصه حديث نص ينقله عدل ولا فصل بين الكلامين. المسلك الثاني: قولهم إن الحديث إما أن يكون نسخا أو بيانا، والنسخ لا يثبت بخبر الواحد إتفاقا وإن كان بيانا فعال إذا البيان ما يقترن بالمبين وما يعرفه الشارع أهل التواتر حتى تقوم الحجة به قلنا هو بيان ولا يجب اقتران البيان، بل يجوز تأخيره عندنا وما يدريهم أنه وقع متراخيا، فلعله كان مقترنا، والراوي لم يرو اقترانه، كيف ويجوز أن يقول بعد ورود آية السرقة لا قطع إلا في ربع دينار من الحرز وأما قولهم: ينبغي أن يلقيه إلى عدد التواتر فتحكم، بل إذا لم يكلفهم العلم، بل العمل جاز تكليفهم بقول عدل واحد، ثم ما يدر بهم فلعله ألقاه إلى عدد التواتر فماتوا قبل النقل أو نسوا، أو هم في الاحياء، لكنا ما لقينا منهم إلا واحدا حجة القائلين بتقديم الخبر أن الصحابة ذهبت إليه، إذ روى أبو هريرة أن المرأة لا تنكح على عمتها وخالتها فخصصوا به قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} (النساء: 42) وخصصوا عموم آية المواريث برواية أبي هريرة أنه لا يرث القاتل والعبد ولا أهل ملتين ورفعوا عموم آية الوصية بقوله: لا وصية لوارث ورفعوا عموم قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} (البقرة: 32) برواية من روى: حتى تذوق عسيلتها إلى نظائر لذلك كثيرة لا تحصى. الاعتراض: إن هذا ليس قاطعا بأنهم رفعوا العموم بمجرد قول الراوي، بل ربما قامت الحجة عندهم على صحة قوله بأمور وقرائن وأدلة سوى مجرد قوله، كما نقل أن أهل قباء تحولوا عن القبلة بخبر واحد، وهو نسخ، لكنهم لعلهم عرفوا صدقه برفع صوته في جوار النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وأن ذلك لا يمكن الكذب فيه. حجة القائلين بالتوقف وهو اختيار القاضي أن العموم وحده دليل مقطوع الأصل مظنون الشمول، والخبر وحده مظنون الأصل مقطوع به في اللفظ والمعنى وهما متقابلان، ولا دليل على الترجيح فيتعارضان والرجوع إلى دليل آخر، والمختار أن خبر العدل أولى، لان سكون النفس إلى عدل واحد في الرواية لما هو نص كسكونها إلى عدلين في الشهادة أما اقتضاء آية المواريث الحكم في حق القاتل والكافر ضعيف، وكلام من يدعي إجمال العموم قوي واقع وكلام من ينكر خبر الواحد ولا يجعله حجة في غاية الضعف، ولذلك ترك توريث فاطمة رضي الله عنها بقول أبي بكر: نحن معاشر الانبياء لا نورث الحديث فنحن نعلم أن تقدير كذب أبي بكر وكذب كل عدل أبعد في النفس من تقدير كون آية المواريث مسوقة لتقدير المواريث لا للقصد إلى بيان حكم النبي عليه الصلاة والسلام والقاتل والعبد والكافر وهذه النوادر. |
12-06-2012, 07:54 PM | #53 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (تعارض القياس مع العموم) قياس نص خاص إذا قابل عموم نص آخر، فالذاهبون إلى أن العموم حجة لو انفرد والقياس حجة لو انفرد، اختلفوا فيه على خمسة مذاهب: فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأبو الحسن الاشعري إلى تقديم القياس على العموم، ذهب الجبائي وابنه وطائفة من المتكلمين والفقهاء إلى تقديم العموم، وذهب القاضي وجماعة إلى التوقف لحصول التعارض، وقال قوم: يقدم على العموم جلى القياس دون خفيه، وقال عيسى بن أبان: يقدم القياس على عموم دخله التخصيص دون ما لم يدخله. حجاج من قدم العموم ثلاث: الأولى: أن القياس فرع، والعموم أصل، فكيف يقدم فرع على أصل؟ الاعتراض من وجوه: الأول: أن القياس فرع نص آخر لا فرع النص المخصوص به، والنص تارة يخصص بنص آخر وتارة بمعقول نص آخر، ولا معنى للقياس إلا معقول النص، وهو الذي يفهم المراد من النص، والله هو الواضع لاضافة الحكم إلى معنى النص، إلا أنه مظنون نص، كما أن العموم وتناوله للمسمى الخاص مظنون نص آخر فهما ظنان في نصين مختلفين، وإذا خصصنا بقياس الارز على البر عموم قوله: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (البقرة: 572) لم نخصص الأصل بفرعه: فإن الارز فرع، حديث البر لا فرع آية إحلال البيع. الثاني: أنه يلزم أن لا يخصص القرآن بخبر الواحد لانه فرع، فإنه يثبت بأصل من كتاب وسنة فيكون فرعا له، فقد سلم التخصيص بخبر الواحد من لا يسلم التخصيص بالقياس فهذا لازم لهم، فإن قيل: خبر الواحد ثبت بالإجماع لا بالظاهر والنص، قلنا وكون القياس حجة ثبت أيضا بالإجماع، ثم لا مستند للإجماع سوى النص فهو فرع الإجماع والإجماع فرع النص الحجة الثانية: أنه إنما يطلب القياس حكم ما ليس منطوقا به، فما هو منطوق به كيف يثبت بالقياس؟. الاعتراض: أنه ليس منطوقا به كالنطق بالعين الواحدة، لان زيدا في قوله: {فاقتلوا المشركين} (التوبة: 5) ليس كقوله: اقتلوا زيدا، والارز في قوله: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (البقرة: 572) ليس كقوله: يحل بيع الارز بالارز متفاضلا ومتماثلا، فإذا كان كونه مرادا بآية إحلال البيع مشكوكا فيه كان كونه منطوقا به مشكوكا فيه لان العام إذا أريد به الخاص كان ذلك نطقا بذلك القدر، ولم يكن نطقا بما ليس بمراد، والدليل عليه جواز تخصيصه بدليل العقل القاطع، ودليل العقل لا يجوز أن يقابل النطق الصريح من الشارع، لان الأدلة لا تتعارض، فإن قيل: ما أخرجه العقل عرف أنه لم يدخل تحت العموم قلنا: تحت لفظه أو تحت الارادة، فإن قلتم تحت اللفظ، فإن الله تعالى شئ وهو داخل تحت اللفظ من قوله تعالى: {خالق كل شئ} (الانعام: 201، الرعد: 16، الزمر: 62، غافر: 62) وإن قلتم: لا يدخل تحت الارادة فكذلك دليل القياس يعرفنا ذلك ولا فرق. الحجة الثالثة: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ: بم تحكم؟ فقال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد قال: بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي فجعل الاجتهاد مؤخرا، فكيف يقدم على الكتاب؟ قلنا: كونه مذكورا في الكتاب مبني على كونه مرادا بالعموم، وهو مشكوك فيه، فكونه في الكتاب مشكوك فيه، ولذلك جاز لمعاذ ترك العموم بالخبر المتواتر وخبر الواحد، ونص الكتاب لا يترك بالسنة إلا أن تكون السنة بيانا لمعنى الكتاب، والكتاب يبين الكتاب، والسنة تبين السنة تارة بلفظ وتارة بمعقول لفظ، ثم نقول: حكم العقل الأصلي في براءة الذمة يترك بخبر الواحد وبقياس خبر الواحد: لانه ليس يحكم به العقل مع ورود الخبر فيصير مشكوكا فيه معه فكذلك العموم. حجاج القائلين بتقديم القياس اثنتان: الأولى: أن العموم يحتمل المجاز والخصوص، والاستعمال في غير ما وضع له، والقياس لا يحتمل شيئا من ذلك، ولانه يخصص العموم بالنص الخاص مع إمكان كونه مجازا ومؤولا فالقياس أولى. الاعتراض: أن احتمال الغلط في القياس ليس بأقل من احتمال ما ذكر في العموم من احتمال الخصوص والمجاز بل ذلك موجود في أصل القياس، وزيادة ضعف ما يختص به من احتمال الخصوص، والمجاز إذ القياس ربما يكون منتزعا من خبر واحد فيتطرق الاحتمال إلى أصله، وربما استنبطه من ليس أهلا للاجتهاد، فظن أنه من أهله، ولا حكم لاجتهاد غير الاهل، والعموم لا يستند إلى اجتهاد وربما يستدل على إثبات العلة بما يظنه دليلا وليس بدليل، وربما لا يستوفي جميع أوصاف الأصل فيشذ عنه وصف داخل في الاعتبار، وربما يغلط في إلحاق الفرع به لفرق دقيق بينهما لم يتنبه له، فمظنة الاحتمال والغلط في القياس أكثر. الحجة الثانية: قولهم تخصيص العموم بالقياس جمع بين القياس وبين الكتاب، فهو أولى من تعطيل أحدهما أو تعطيلهما وهذا فاسد، لان القدر الذي وقع فيه التقابل ليس فيه جمع، بل هو رفع للعموم وتجريد للعمل بالقياس. حجة الواقفية: قالوا إذا بطل كلام المرجحين كما سبق، وكل واحد من القياس والعموم دليل لو انفرد وقد تقابلا ولا ترجيح، فهل يبقى إلا التوقف، لان الترجيح إما أن يدرك بعقل أو نقل والعقل إما نظري أو ضروري، والنقل إما تواتر أو آحاد، ولم يتحقق شئ من ذلك، فيجب طلب دليل آخر، فإن قيل: هذا يخالف الإجماع، لان الامة مجمعة على تقديم أحدهما وإن اختلفوا في التعيين، ولم يذهب أحد قبل القاضي إلى التوقف، أجاب القاضي: بأنهم لم يصرحوا ببطلان التوقف قطعا ولم يجمعوا عليه، لكن كل واحد رأى ترجيحا. والإجماع لا يثبت بمثل ذلك، كيف ومن لا يقطع ببطلان مذهب مخالفه في ترجيح القياس كيف يقطع بخطئه إن توقف؟ حجة من فرق بين جلى القياس وخفيه: وهي أن جلي القياس قوي وهو أقوى من العموم والخفي ضعيف، ثم حكي عنهم أنهم فسروا الجلي بقياس العلة، والخفي بقياس الشبه، وعن بعضهم أن الجلي مثل قوله عليه السلام: " لا يقض القاضي وهو غضبان " وتعليل ذلك بما يدهش العقل عن تمام الفكر حتى يجري في الجائع والحاقن خفي. والمختار أن ما ذكروه غير بعيد، فإن العموم يفيد ظنا، والقياس يفيد ظنا، وقد يكون أحدهما أقوى في نفس المجتهد، فيلزمه اتباع الاقوى، والعموم تارة يضعف بأن لا يظهر منه قصد التعميم، ويظهر ذلك بأن يكثر المخرج منه ويتطرق إليه تخصيصات كثيرة، كقوله تعالى: (وأحل الله البيع) (البقرة: 572) فإن دلالة قوله عليه السلام: " لا تبيعوا البر بالبر "، على تحريم الارز، والتمر أظهر من دلالة هذا العموم على تحليله، وقد دل الكتاب على تحريم الخمر، وخصص به قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه} (الانعام: 541) وإذا ظهر منه التعليل بالاسكار فلو لم يرد خبر في تحريم كل مسكر لكان إلحاق النبيذ بالخمر بقياس الاسكار أغلب على الظن من بقائه تحت عموم قوله: {لا احد فيما أوحى إلى محرما} (الانعام: 541) وهذا ظاهر في هذه الآية، وآية احلال البيع لكثرة ما أخرج منهما ولضعف قصد العموم فيهما، ولذلك جوزه عيسى بن أبان في أمثاله دون ما بقي على العموم، ولكن لا يبعد ذلك عندنا أيضا فيما بقي عاما لانا لا نشك في أن العمومات بالاضافة إلى بعض المسميات تختلف في القوة لاختلافها في ظهور إرادة قصد ذلك المسمى بها، فإن تقابلا وجب تقديم أقوى العمومين، وكذلك أقوى القياسين إذا تقابلا قدمنا أجلاهما وأقواهما، فكذلك العموم والقياس إذا تقابلا، فلا يبعد أن يكون قياس قوي أغلب على الظن من عموم ضعيف أو عموم قوي أغلب على الظن من قياس ضعيف فنقدم الاقوى، وإن تعادلا فيجب التوقف كما قاله القاضي، إذ ليس كون هذا عموما أو كون ذلك قياسا مما يوجب ترجيحا لعينهما، بل لقوة دلالتهما، فمذهب القاضي صحيح بهذا الشرط، فإن قيل: فهذا الخلاف الذي في تخصيص بقياس مستنبط من الكتاب إذا خصص به عموم الكتاب، فهل يجري في قياس مستنبط من الاخبار؟ قلنا: نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر، وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد، والخلاف جار في الكل وكذا قياس الخبر المتواتر بالنسبة إلى عموم الكتاب، وقياس نص الكتاب بالاضافة إلى عموم الخبر المتواتر، أما قياس خبر الواحد إذا عارض عموم القرآن فلا يخفي ترجيح الكتاب عند من لا يقدم خبر الواحد على عموم القرآن، أما من يقدم الخبر فيجوز أن يتوقف في قياس الخبر، فإنه ازداد ضعفا وبعدا وما في معنى الأصل، والمعلوم بالنظر الجلي قريب من الأصل، فلا يبعد أن يكون أقوى في النفس في بعض الاحوال من ظن العموم، فالنظر فيه إلى المجتهد، فإن قيل الخلاف في هذه المسألة من جنس الخلاف في القطعيات أو في المجتهدات، قلنا يدل سياق كلام القاضي على أن القول في تقديم خبر الواحد على عموم الكتاب، وفي تقديم القياس على العموم مما يجب القطع بخطأ المخالف فيه، لانه من مسائل الاصول، وعندي أن إلحاق هذا بالمجتهدات أولى فإن الأدلة من سائر الجوانب فيه متقاربة غير بالغة مبلغ القطع.
الباب الرابع في تعارض العمومين ووقت جواز الحكم بالعموم وفيه فصول: الفصل الأول: في التعارض اعلم أن المهم الأول معرفة محل التعارض، فنقول: كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال إذ الأدلة العقلية يستحيل نسخها وتكاذبها، فإن ورد دليل سمي على خلاف العقل، فأما لا يكون متواترا فيعلم أنه غير صحيح، وإما أن يكون متواترا فيكون مؤولا ولا يكون متعارضا، وأما نص متواتر لا يحتمل الخطأ والتأويل، وهو على خلاف دليل العقل، فذلك محال، لان دليل العقل لا يقبل النسخ والبصلان، مثال ذلك: المؤول في العقليات: قوله تعالى: {خالق كل شئ} (الانعام: 102) الرعد: 160، الزمر: 62، غافر: 62) إذ خرج بدليل العقل ذات القديم وصفاته، وقوله: {وهو بكل شئ عليم} (الانعام: 101، الحديد: 3) دل العقل على عمومه، ولا يعارضه قوله تعالى: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم} (يونس: 81) إذ معناه ما لا يعلم له أصلا، أي يعلم أنه لا أصل له، ولا يعارضه قوله تعالى: {حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} (محمد: 13) إذا معناه أنه يعلم المجاهدة كائنة وحاصلة، وفي الازل لا يوصف علمه بتعلقه بحصول المجاهدة قبل حصولها، وكذلك قوله تعالى: {وتخلقون إفكا} (العنكبوت: 71) لا يعارض قوله: {خالق كل شئ} لان المعنى به الكذب دون الايجاد، وكذلك قوله تعالى: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير} (المائدة: 011) لان معناه: تقدر والخلق هو التقدير، وكذلك قوله: {أحسن الخالقين} (المؤمنون: 41، الصافات: 25) أي المقدرين، وهكذا أبدا تأويل ما خالف دليل العقل أو خالف دليلا شرعا دل العقل على عمومه. أما الشرعيات: فإذا تعارض فيها دليلان فأما أن يستحيل الجمع أو يمكن، فإن امتنع الجمع لكونهما متناقضين كقوله مثلا: من بدل دينه فاقتلوه من بدل دينه فلا تقتلوه، لا يصح نكاح بغير ولي، يصح نكاح بغير ولي، فمثل هذا لا بد أن يكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا فإن أشكل التاريخ فيطلب الحكم من دليل آخر، ويقدر تدافع النصين، فإن عجزنا عن دليل آخر فنتخير العمل بأيهما شئنا لان الممكنات أربعة: العمل بهما وهو متناقض، أو اطراحهما، وهو إخلاء الواقعة عن الحكم وهو متناقض أو استعمال واحد بغير مرجح وهو تحكم، فلا يبقى إلا التخير الذي يجوز ورود التعبدية ابتداء فإن الله تعالى لو كلفنا واحدا بعينه لنصب عليه دليلا، ولجعل لنا إليه سبيلا، إذ لا يجوز تكليف بالمحال، وفي التخيير بين الدليلين المتعارضين مزيد غور سنذكره في كتاب الاجتهاد عند تخير المجتهد وتحيره، أما إذا أمكن الجمع بوجه ما فهو على مراتب: المرتبة الأولى: عام وخاص، كقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر مع قوله لا صدقة فيما دون خمسة أوسق فقد ذكرنا من مذهب القاضي أن التعارض واقع لامكان كون أحدهما نسخا بتقدير إرادة العموم بالعام، والمختار أن يجعل بيانا ولا يقدر النسخ إلا لضرورة فإن فيه تقدير دخول ما دون النصاب تحت وجوب العشر ثم خروجه منه وذلك لا سبيل إلى إثباته بالتوهم من غير ضرورة. المرتبة الثانية: وهي قريبة من الأولى أن يكون اللفظ المؤول قويا في الظهور بعيدا عن التأويل لا ينقدح تأويله إلا بقرينة، فكلام القاضي فيه أوجه، ومثاله قوله عليه السلام: إنما الربا في النسيئة كما رواه ابن عباس، فإنه كالصريح في نفي ربا الفضل، ورواية عبادة بن الصامت في قوله: الحنطة بالحنطة مثلا بمثل صريح في إثبات ربا الفضل، فيمكن أن يكون أحدهما ناسخا للآخر، ويمكن أن يكون قوله: إنما الربا في النسيئة أي في مختلفي الجنس، ويكون قد خرج على سؤال خاص عن المختلفين أو حاجة خاصة حتى ينقدح الاحتمال، والجمع بهذا التقدير ممكن، والمختار أنه وإن بعد أولى من تقدير النسخ، وللقاضي أن يقول: قطعكم بأنه أراد به الجنسين تحكم لا يدل عليه قاطع، ويخالف ظاهر اللفظ المفيد للظن، والتحكم بتقدير ليس يعضده دليل قطعي ولا ظني لا وجه له، قلنا: يحملنا عليه ضرورة الاحتراز عن النسخ، فيقول: فما المانع من تقدير النسخ، وليس في إثباته اتركاب محال ولا مخالفة دليل قطعي ولا ظني، وفيما ذكرتم مخالفة صيغة العموم ودلالة اللفظ وهو دليل ظني، فما هو الخوف والحذر من النسخ وإمكانه كإمكان البيان، فليس أحدهما بأولى من الآخر، فإن قلنا البيان أغلب على عادة الرسول عليه السلام من النسخ وهو أكثر وقوعا فله أن يقول: وما الدليل على جواز الاخذ بالاحتمال الاكثر وإذا اشتبهت رضيعة بعشر نسوة فالاكثر حلال، وإذا اشتبه إناء نجس بعشر أوان طاهرة فلا ترجيح للاكثر بل لا بد من الاجتهاد والدليل ولا يجوز أن يأخذوا واحدا ويقدر حله أو طهارته، لان جنسه أكثر، لكنا نقول: الظن عبارة عن أغلب الاحتمالين، ولكن لا يجوز إتباعه إلا بدليل فخبر الواحد لا يورث إلا غلبة الظن من حيث إن صدق العدل أكثر وأغلب من كذبه، وصيغة العموم تتبع، لان إرادة ما يدل عليه الظاهر أغلب، وأكثر من وقوع غيره والفرق بين الفرع والأصل ممكن غير مقطوع ببطلائه في الاقيسة الظنية، لكن الجمع أغلب على الظن، واتباع الظن في هذه الاصول لا لكونه ظنا، لكن لعمل الصحابة به واتفاقاتهم عليه، فكذا نعلم من سيرة الصحابة إنهم ما اعتقدوا كون غير القرآن منسوخا من أوله إلى آخره، ولم يبق فيه عام لم يخصص إلا قوله تعالى: {وهو بكل شئ عليم} (البقرة: 92) وألفاظ نادرة، بل قدروا جملة ذلك بيانا، وورد العام والخاص في الاخبار، ولا يتطرق النسخ إلى الخبر، كقوله تعالى: {وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون} (القلم: 03) وتخصيصا لقوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون} (المرسلات: 53) وتخصيص قوله تعالى: {وأوتيت من كل شئ} (النمل: 32) و {تدمر كل شئ بأمر ربها} (الاحقاف: 52) و {ويحيى إليه ثمرات كل شئ) (القصص: 75) وكانوا لا ينسخون إلا بنص وضرورة، أما بالتوهم فلا، ولعل السبب أن في جعلهما متضادين إسقاطهما ذا لم يظهر التاريخ، وفي جعله بيانا استعمالها، وإذا تخيرنا بين الاستعمال والاسقاط فالاستعمال هو الأصل ولا يجوز الاسقاط إلا لضرورة. تنبيه: أعلم أن القاضي أيضا إنما يقدر النسخ بشرط أن لا يظهر دلالة على إرادة البيان، مثاله قوله: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، عام يعارضه خصوص قوله صلى الله عليه وسلم: إهاب دبغ فقد طهر لكن القاضي يقدره نسخا بشرطين: أحدهما: أن لا ينبت في اللسان اختصاص اسم الاهاب بغير المدبوغ، فقد قيل ما لم يدبغ الجلد يسمى إهابا، فإذا دبغ فأديم وصرم وغيره، فإن صح هذا فلا تعارض بين اللفظين. الثاني: أنه روي عن ابن عباس أنه عليه السلام مر بشاة لميمونة ميتة فقال: ألا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفعوا به وكانوا قد تركوها لكونها ميتة ثم كتب: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، فساق الحديث سياقا يشعر بأنه جرى متصلا، فيكون بيانا ناسخا لان شرط النسخ التراخي. المرتبة الثالثة: من التعارض أن يتعارض عمومان، فيزيد أحدهما على الآخر من وجه وينقص عنه من وجه، مثاله قوله عليه السلام من بدل دينه فاقتلوه فإنه يعم النساء مع قوله: نهيت عن قتل النساء فإنه يعم المرتدات، وكذلك قوله: نهيت عن الصلاة بعد العصر فإنه يعم الفائتة أيضا مع قوله: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإنه يعم المستيقظ بعد العصر، وكذلك قوله: {تعلمون} (النساء: 32) فإنه يشمل جمع الاختين في ملك اليمين أيضا مع قوله: {أو ما ملكت أيمانكم} (النساء: 3) فإنه يحل الجمع بين الاختين بعمومه فيمكن أن يخصص قوله: {وأن تجمعوا بني الاختين} (النساء: 32) بجمع الاختين في النكاح دون ملك اليمين لعموم قوله: {أو ما ملكت أيمانكم} فهو على مذهب القاضي تعارض وتدافع بتقدير النسخ، ويشهد له قول علي وعثمان رضي الله عنهما لما سئلا عن هذه المسألة، أعني جمع أختين في ملك اليمين، فقالا: حرمتهما آية وحللتهما آية، أما على مذهبنا في حمله على البيان ما أمكن ليس أيضا أحدهما، بأولى من الآخر ما لم يظهر ترجيح، وقد ظهر فنقول: حفظ عموم قوله: {وأن تجمعوا بين الاختين} أولى لمعنيين: أحدهما: إنه عموم لم يتطرق إليه تخصيص متفق عليه، فهو أقوى من عموم تطرق إليه التخصيص بالاتفاق إذ قد استثنى عن تحليل ملك اليمن المشتركة والمستبرأة والمجوسية والاخت من الرضاع والنسب وسائر المحرمات أما الجمع بين الاختين فحرام على العموم. الثاني: أن قوله: {وأن تجمعوا بين الاختين} (النساء: 32) سيق بعد ذكر المحرمات وعدها على الاستقصاء إلحاقا لمحرمات تعم الحرائر والاماء، وقوله: {أو ما ملكت أيمانكم} (النساء: 3) ما سيق لبيان المحللات قصدا بل في معرض الثناء على أهل التقوى الحافظين فروجهم عن غير الزوجات والسراري فلا يظهر منه قصد البيان. فإن قيل: هل يجوز أن يتعارض عمومان ويخلوا عن دليل الترجيح؟ قلنا: قال قوم: لا يجوز ذلك، لانه يؤدي إلى التهمة ووقوع الشبهة لتناقض الكلامين، وهو منفر عن الطاعة والاتباع والتصديق، وهذا فاسد بل، ذلك جائز ويكون ذلك مبينا لاهل العصر الأول، وإنما خفي علينا لطول المدة واندراس القرائن والأدلة ويكون ذلك محنة وتكليفا علينا لنطلب الدليل من وجه آخر من ترجيح أو نتخير، ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا فليس فيه محال، وأما ما ذكروه من التنفير والتهمة فباطل، فإن ذلك قد نفر طائفة من الكفار في ورود النسخ حتى قال تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر} (النحل: 101) الآية، ثم ذلك لم يدل على استحالة النسخ. الفصل الثاني في جواز إسماع العموم من لم يسمع الخصوص وقد اختلفوا في جوازه فقيل: لا يجوز ذلك، لان فيه الباسا وتجهيلا، ونحن نقول: يجب على الشارع أن يذكر دليل الخصوص إما مقترنا وإما متراخيا على ما ذكرناه من تأخير البيان، وليس من ضرورة كل مجتهد بلغه العموم أن يبلغه دليل الخصوص، بل يجوز أن يغفل عنه، ويكون حكم الله عليه العمل بالعموم، وهذا القدر الذي بلغه لا يكلف ما لم يبلغه، ودليل جوازه وقوعه بالإجماع فإن من الأدلة المخصصة ما هي عقلية غامضة عجز عنها الاكثرون إلا الراسخون في العلم وغلطوا فيها، فالالفاظ المتشابهة في القرآن الموهمة للتشبيه بلغت الجميع والأدلة العقلية الغامضة لم ينتبه لها الجميع، ولم يرد الشرع صريحا بنفي التشبيه وقطع الوهم، وذلك سبب للجهل، والدليل عليه وقوع الجهل للمشبهة، فإن قيل: العقل الذي يدل على التخصيص عتيد لكل عاقل، فالحوالة عليه ليس بتجهيل، قلنا وأي شئ ينفع كونه عتيدا ولم يزل به جهل الاكثرين وكان يزول بالتصريح، والنص الذي لا يوهم التشبيه أصلا، احتجوا بشبهتين: الأولى: إنه لو جاز ذلك لجاز أن يسمعهم المنسوخ دون الناسخ، والمستثنى دون الاستثناء. قلنا: ذلك جائز في النسخ، وعليه العمل بالمنسوخ إلى أن يبلغه الناسخ، وليس عليه إلا تجويز النسخ والتصفح عن دليله، فإذا لم يبلغه فلا تكليف عليه بما لم يبلغه، كما إذا عجز من معرفة التخصيص بعد البحث عمل بالعموم، وأما الاستثناء فيشترط إتصاله، فكيف لا يبلغه؟ نعم: يجوز أن يسمعه الأول فينزعج عن المكان لعارض قبل سماع الاستثناء فلا يسمعه فلا يكون مكلفا بما لم يبلغه. الشبهة الثانية: قولهم تبليغ العام دون دليل الخصوص تجهيل فإنه يعتقد العموم وهو جهل، قلنا جهل من جهته إن اعتقد جزما عمومه، بل ينبغي أن يعتقد أن ظاهره العموم وهو محتمل للخصوص ومكلف بطلب دليل الخصوص إلى أن يبلغه أو يظهر له انتفاؤه، لانه إن اعتقد أنه عام قطعا أو خاص قطعا أو لا عام ولا خاص، أو هو عام وخاص معا، فكل ذلك جهل، فإذا بطل الكل لم يبق إلا اعتقاد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص، وبهذا يتبين بطلان مذهب أبي حنيفة حيث قال: قوله: {فتحرير رقبة} (النساء: 92، المجادلة: 3) يجب أن يعتقد عمومه قطعا حتى يكون إخراج الكافرة نسخا، وقوله: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج: 92) يجب اعتقاد إجزائه قطعا، حتى يكون اشتراط الطهارة بدليل آخر نسخا، وهو خطأ بل يعتقده ظاهرا محتملا، أو يتوقف عن القطع والجزم نفيا وإثباتا، فإنه ليس بقاطع. |
12-06-2012, 07:55 PM | #54 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفصل الثالث في الوقت الذي يجوز للمجتهد الحكم بالعموم فيه
فإن قال قائل: إذا لم يجز الحكم بالعموم ما لم يتبين انتفاء دليل الخصوص، فمتى يتبين له ذلك: وهل يشترط أن يعلم انتفاء المخصص قطعا أو يظنه ظنا؟ قلنا: لا خلاف في أنه لا يجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم قبل البحث عن الأدلة العشرة التي أوردناها في المخصصات، لان العموم دليل بشرط انتفاء المخصص، والشرط بعد لم يظهر، وكذلك كل دليل يمكن أن يعارضه دليل، فهو دليل بشرط السلامة عن المعارضة، فلا بد من معرفة الشرط، وكذلك الجمع بعلة مخيلة بين الفرع والأصل دليل بشرط أن لا ينقدح فرق فعليه أن يبحث عن الفوارق جهده أو ينفيها ثم يحكم بالقياس، وهذا الشرط لا يحصل إلا بالبحث، ولكن المشكل أنه إلى متى يجب البحث فإن المجتهد وإن استقصى أمكن أن يشذ عنه دليل لم يعثر عليه فكيف يحكم مع إمكانه، أو كيف ينحسم سبيل إمكانه، وقد انقسم الناس في هذا على ثلاثة مذاهب: فقال قوم: يكفيه أن يحصل غلبة الظن بالانتفاء عند الاستقصاء في البحث، كالذي يبحث عن متاع في بيت فيه أمتعة كثيرة فلا يجده، فيغلب على ظنه عدمه، وقائل يقول: لا بد من اعتقاد جازم وسكون نفس بأنه لا دليل، أما إذا كان يشعر بجواز دليل يشذ عنه ويحيك في صدره إمكانه، فكيف يحكم بدليل يجوز أن يكون الحكم به حراما؟ نعم إذا اعتقد جزما وسكنت نفسه إلى الدليل جاز له الحكم كان مخطئا عند الله أو مصيبا، كما لو سكنت نفسه إلى القبلة فصلى إليها، وقال قوم: لا بد أن يقطع بانتفاء الأدلة، وإليه ذهب القاضي لان الاعتقاد الجزم من غير دليل قاطع سلامة قلب وجهل، بل العالم الكامل يشعر نفسه بالاحتمال حيث لا قاطع ولا تسكن نفسه، والمشكل على هذا طريق تحصيل القطع بالنفي، وقد ذكر فيه القاضي مسلكين: أحدهما: إنه إذا بحث في مسألة قتل المسلم بالذمي عن مخصصات قوله: لا يقتل مؤمن بكافر مثلا: فقال هذه مسألة طال فيها خوض العلماء وكثر بحثهم فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم مدركها وهذه المدارك المنقولة عنهم علمت بطلانها، فأقطع بأن لا مخصص لها، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: إنه حجر على الصحابة أن يتمسكوا بالعموم في كل واقعة لم يكثر الخوض فيها ولم يطل البحث عنها، ولا شك في عملهم مع جواز التخصيص بل مع جواز نسخ لم يبلغهم كما حكموا بصحة المخابرة بدليل عموم إحلال البيع، حتى روى رافع بن خديج النهي عنها. الثاني: أنه بعد طول الخوض لا يحصل اليقين، بل إن سلم إنه لا يشذ المخصص عن جميع العلماء، فمن أين لقي جميع العلماء، ومن أين عرف أنه بلغه كلام جميعهم، فلعل منهم من تنبه لدليله وما كتبه في تصنيفه ولا نقل عنه، وإن أورده في تصنيفه فلعله لم يبلغه، وعلى الجملة لا يظن بالصحابة فعل المخابرة مع اليقين بانتفاء النهي: وكان النهي حاصلا ولم يبلغهم، بل كان الحاصل إما ظنا وإما سكون نفس. المسلك الثاني: قال القاضي: لا يبعد أن يدعي المجتهد اليقين وإن لم يدع الاحاطة بجميع المدارك، إذ يقول: لو كان الحكم خاصا لنصب الله تعالى عليه دليلا للمكلفين، ولبلغهم ذلك وما خفي عليهم، وهذا أيضا من الطراز الأول، فإنه: لو اجتمعت الامة على شئ أمكن القطع بأن لا دليل يخالفه إذ يستحيل إجماعهم على الخطأ، أما في مسألة الخلاف كيف يتصور ذلك والمختار عندنا، أن تيقن الانتفاء إلى هذا الحد لا يشترط، وأن المبادرة قبل البحث لا تجوز، بل عليه تحصيل علم وظن باستقصاء البحث، أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه، وأما القطع فبانتفائه في حقه بتحقق عجز نفسه عن الوصول إليه بعد بذل غاية وسعه، فيأتي بالبحث الممكن إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع، ويحس من نفسه بالعجز يقينا فيكون العجز عن العثور على الدليل في حقه يقينا، وانتفاء الدليل في نفسه مظنون، وهو الظن بالصحابة في المخابرة ونظائرها، وكذلك الواجب في القياس والاستصحاب وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر. الباب الخامس في الاستثناء والشرط والتقييد بعد الاطلاق الكلام في الاستثناء والنظر في حقيقته وحده، ثم في شرطه، ثم في تعقب الجمل المترادفة، فهذه ثلاثة فصول. الفصل الأول في حقيقة الاستثناء وصيغه معرفة، وهي: إلا وعدا، وحاشا وسوى، وما جرى مجراها، وأم الباب: لا، وحده أنه قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دال على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول، ففيه احتراز عن أدلة التخصيص، لانها قد لا تكون قولا وتكون فعلا وقرينة ودليل عقل فإن كان قولا فلا تنحصر صيغه، واحترزنا بقولنا ذو صيغ محصورة: عن قوله: رأيت المؤمنين ولم أر زيدا، فإن العرب لا تسميه استثناء وإن أفاد ما يفيده قوله إلا زيدا، ويفارق الاستثناء التخصيص في أنه يشترط اتصاله وأنه يتطرق إلى الظاهر والنص جميعا، إذ يجوز أن يقول: عشرة إلا ثلاثة: كما يقول: اقتلوا المشركين إلا زيدا والتخصيص لا يتطرق إلى النص أصلا، وفيه احتراز عن النسخ إذ هو رفع وقطع، وفرق بين النسخ والاستثناء والتخصيص أن النسخ رفع لما دخل تحت اللفظ والاستثناء يدخل على الكلام، فيمنع أن يدخل تحت اللفظ ما كان يدخل لولاه، والتخصيص يبين كون اللفظ قاصرا عن البعض فالنسخ قطع ورفع، والاستثناء رفع، والتخصيص بيان، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق في فصل الشرط إن شاء الله. الفصل الثاني في الشروط وهي ثلاثة: الأول: الاتصال، فمن قال: اضرب المشركين: ثم قال بعد ساعة: إلا زيدا لم يعد هذا كلاما، بخلاف ما لو قال: أردت بالمشركين قوما ما دون قوم، ونقل عن ابن عباس أنه جوز تأخير الاستثناء، ولعله لا يصح عنه النقل، إذ لا يليق ذلك بمنصبه، وأن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أولا ثم أظهر نيته بعده فيدين بينه وبين الله فيما نواه، ومذهبه أن ما يدين فيه العبد فيقبل ظاهرا أيضا فهذا له وجه. أما تجويز التأخير لو أجيز عليه دون هذا التأويل، فيرد عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه لانه جزء من الكلام يحصل به الاتمام، فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط وخبر المبتدأ، فإنه لو قال: اضرب زيدا إذا قام فهذا شرط، فلو أخر ثم قال: بعد شهر، إذا قام لم يفهم هذا الكلام فضلا عن أن يصير شرطا، وكذلك قوله: إلا زيدا بعد شهر لا يفهم، وكذلك لو قال زيد، ثم قال بعد شهر: قام لم يعد هذا خبرا أصلا، ومن ههنا قال قوم يجوز التأخير لكن بشرط أن يذكر عند قوله: إلا زيدا أني أريد الاستثناء حتى يفهم، وهذا أيضا لا يغني فإن هذا لا يسمى استثناء. احتجوا بجواز تأخير النسخ وأدلة التخصيص وتأخير البيان فنقول: إن جاز القياس في اللغة فينبغي أن يقاس عليه الشرط والخبر، ولا ذاهب إليه لانه لا قياس في اللغات، وكيف يشبه بأدلة التخصيص وقوله: إلا زيدا يخرج عن كونه مفهوما، فضلا عن أن يكون إتماما للكلام الأول. والشرط الثاني: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، كقوله رأيت الناس إلا زيدا، ولا تقول: رأيت الناس إلا حمارا، أو تستثنى جزءا مما دخل تحت اللفظ كقوله: رأيت الدار إلا بابها، ورأيت زيدا إلا وجهه، وهذا استثناء من غير الجنس، لان اسم الدار لا ينطلق على الباب، واسم زيد على وجهه، بخلاف قوله: مائة ثوب إلا ثوبا، وعن هذا قال قوم: ليس مشرط الاستثناء أن يكون من الجنس، قال الشافعي: لو قال: علي مائة درهم إلا ثوبا صح ويكون معناه: إلا قيمة ثوب، ولكن إذا رد إلى القيمة فكأنه تكلف رده إلى الجنس، وقد ورد الاستثناء من غير الجنس، كقوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون كيف} (الحجر: 03 - 13) ولم يكن من الملائكة، فإنه قال: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} (الكهف: 05) وقال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} (النساء: 29) استثنى الخطأ من العمد، وقال تعالى: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} (الشعراء: 77) وقال: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة} (النساء: 92) وقال تعالى: {وما لاحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغآء وجه ربه الاعلى) (الليل: 91 - 02) وهذا الاستثناء ليس فيه معنى التخصيص والاخراج إذ المستثنى ما كان ليدخل تحت اللفظ أصلا، ومن معتاد كلام العرب ما في الدار رجل إلا امرأة، وما له ابن إلا ابنة، وما رأيت أحدا إلا ثورا، وقال شاعرهم: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وقال آخر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وقد تكلف قوم عن هذا كله جوابا فقالوا: ليس هذا استثناء حقيقة، بل هو مجاز، وهذا خلاف اللغة، فإن إلا في اللغة للاستثناء والعرب تسمى هذا استثناء ولكن تقول: هو استثناء من غير الجنس وأبو جنيفة رحمه الله جوز استثناء المكيل من الموزون وعكسه ولم يجوز استثناء غير المكيل والموزون منهما في الاقارير، وجوزه الشافعي رحمه الله، والأولى التجويز في الاقارير، لانه إذا صار معتادا في كلام العرب وجب قبوله لانتظامه، نعم اسم الاستثناء عليه مجاز أو حقيقة، وهذا فيه نظر، واختار القاضي رحمه الله أنه حقيقة، والاظهر عندي أنه مجاز، لان الاستثناء من الثني، تقول: ثنيت زيدا عن رأيه وثنيت العنان، فيشعر الاستثناء بصرف الكلام عن صوبه الذي كان يقتضيه سياقه، فإذا ذكر ما لا دخول له في الكلام الأول لولا الاستثناء أيضا فما صرف الكلام ولا ثناه عن وجه استرساله، فتسميته استثناء تجوز باللفظ عن موضعه، فتكون إلا في هذا الموضع بمعنى لكن. الشرط الثالث: أن لا يكون مستغرقا، فلو قال: لفلان علي عشرة إلا عشرة لزمته العشرة، لانه رفع الاقرار، والاقرار لا يجوز رفعه، وكذلك كل منطوق به لا يرفع، ولكن يتمم بما يجري مجرى الجزء من الكلام، وكما أن الشرط جزء من الكلام، فالاستثناء جزء، وإنما لا يكون رفعا بشرط أن يبقى للكلام معنى، أما استثناء الاكثر فقد اختلفوا فيه، والاكثرون على جوازه. قال القاضي رحمه الله: وقد نظرنا في مواضع جوازه، والاشبه أن لا يجوز، لان العرب تستقبح استثناء الاكثر وتستمحق قول القائل: رأيت ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين بل قال كثير من أهل اللغة لا يستحسن استثناء عقد صحيح بأن يقول: عندي مائة إلا عشرة، أو عشرة إلا درهم بل مائة إلا خمسة، وعشرة إلا دانقا، كما قال تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) (العنكبوت: 41) فلو بلغ المائة لقال: فلبث فيهم، تسعمائة، ولكن لما كان كسرا استثناه قال: ولا وجه لقول من قال: لا ندري استقباحهم أطراح لهذا الكلام عن لغتهم، أو هو كراهة واستثقال، لانه إذا ثبت كراهتهم وإنكارهم ثبت أنه ليس من لغتهم، ولو جاز في هذا لجاز في كل ما أنكروه وقبحوه من كلامهم، احتجوا بأنه لما جاز استثناء الاقل، جاز استثناء الاكثر وهذا قياس فاسد كقول القائل إذا جاز استثناء البعض جاز استثناء الكل ولا قياس في اللغة، ثم كيف يقاس ما كرهوه وأنكروه على استحسنوه واحتجوا بقوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا ئ نصفه أو انقص منه قليلا فالملقيات} (المزمل: 2 - 3 - 4) ولا فرق بين استثناء النصف والاكثر، فإنه ليس بأقل، وقال الشاعر: أدوا التي نقصت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا والجواب: أن قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا نصفه} [ المزمل: 2 - 4 ] أي قم نصفه، وليس باستثناء، وقول الشاعر ليس باستثناء، إذ يجوزأن تقول: أسقطت تسعين من جملة المائة، هذا ما كره القاضي، والأولى عندنا: أن هذا استثناء صحيح وإن كان مستكرها، فإذا قال: علي عشرة إلا تسعة فلا يلزمه باتفاق الفقهاء إلا درهم، ولا سبب له إلا أنه استثناء صحيح وإن كان قبيحا، كقوله علي عشرة إلا تسع سدس ربع درهم، فإن هذا قبيح لكن يصح، وإنما المستحسن استثناء الكسر، وأما قوله عشرة إلا أربعة فليس بمستحسن بل ربما يستنكر أيضا، لكن الاستنكار على الاكثر أشد، وكلما ازداد قلة ازداد حسنا. |
12-06-2012, 07:56 PM | #55 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفصل الثالث في تعقب الجمل بالاستثناء فإذا قال القائل: من قذف زيدا فأضر به وأرد: شهادته واحكم بفسقه إلا أن يتوب، أو: إلا الذين تابوا، ومن دخل الدار وأفحش الكلام وأكل الطعام عاقبه إلا من تاب، فقال قوم: يرجع إلى الجميع، وقال قوم: يقصر على الاخير، وقال قوم: يحتمل كليهما، فيجب التوقف إلى قيام دليل. وحجج القائلين بالشمول ثلاث: الأولى: أنه لا فرق بين أن يقول: اضرب الجماعة التي منها قتلة وسراق وزناة إلا من تاب، وبين قوله عاقب من قتل وزنى وسرق إلا من تاب في رجوع الاستثناء إلى الجميع. الاعتراض: أن هذا قياس، ولا مجال للقياس في اللغة، فلم قلتم: أن اللفظ المتفاضل المتعدد كاللفظ المتحد. الثانية: قولهم أهل اللغة مطبقون على أن تكرار الاستثناء عقيب كل جملة نوع من العى واللكنة، كقوله: إن دخل الدار فأضربه إلا أن يتوب، وإن أكل فاضربه إلا أن يتوب، وإن تكلم فاضربه إلا أن يتوب، وهذا ما لا يستنكر الخصم استقباحه، بل يقول. ذلك واجب لتعرف شمول الاستثناء. الثالثة: أنه لو قال: والله لا أكلت الطعام ولا دخلت الدار ولا كلمت زيدا إن شاء الله تعالى، يرجع الاستثناء إلى الجميع، وكذلك الشرط عقيب الجمل يرجع إليها، كقوله: أعط العلوية والعلماء إن كانوا فقراء، وهذا مما لا تسلمه، الواقفية، بل يقولون: هو متردد بين الشمول والاقتصار، والشك كاف في استصحاب الأصل من براءة الذمة في اليمن، ومنع الاعطاء إلا عند الاذن المستيقن، ومن سلم من المخصصة ذلك فهو مشكل عليه إلا أن يجيب بإظهار دليل فقهي يقضي في الشرط خاصة دون الاستثناء، وحجة المخصصة اثنتان: الأولى: قولهم أن المعممين عمموا لان كل جملة غير مستقلة فصارت جملة واحدة بالواو والعاطفة، ونحن إذا خصصنا بالاخير جعلناها مستقلة، وهذا تقرير علة للخصم واعتراض عليهم، ولعلهم لا يعللون بذلك، ثم علة عدم الاستقلال أنه لو اقتصر عليه لم يغد وهذا لا يندفع بتخصيص الاستثناء به. الثانية: قولهم إطلاق الكلام الأول معلوم، ودخوله تحت الاستثناء مشكوك فيه، فلا ينبغي أن يخرج منه ما دخل فيه إلا بيقين، وهذا فاسد من أوجه: الأول: أنا لا نسلم إطلاق الأول قبل تمام الكلام، وما تم الكلام حتى أردف باستثناء يرجع إليه عند المعمم، ويحتمل الرجوع إليه عند المتوقف. الثاني: أنه لا يتعين رجوعه إلى الاخير، بل يجوز رجوعه إلى الأول فقط فكيف نسلم اليقين. الثالث: أنه لا يسلم ما ذكروه في الشرط والصفة ويسلم أكثرهم عموم ذلك، ويلزمهم قصر لفظ الجمع على الاثنين أو الثلاثة لانه المستيقن. حجة الواقفية: أنه إذا بطل التعميم والتخصيص، لان كل واحد تحكم ورأينا العرب تستعمل كل واحد منهما لا يمكن الحكم بأن أحدهما حقيقة والآخر مجاز، فيجب التوقف لا محالة إلا أن يثبت نقل متواتر من أهل اللغة أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخرة، وهذا هو الاحق، وإن لم يكن بد من رفع التوقف، فمذهب المعممين أولى، لان الواو ظاهرة في العطف، وذلك يوجب نوعا من الاتحاديين بين المعطوف والمعطوف عليه، لكن الواو محتمل أيضا للابتداء، كقوله تعالى: {لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى) [ الحج: 5 ] وقوله عزوجل: (فإن يشأ اللهه يختم على قلبك ويمح الله) [ الشورى: 24 ] والذي يدل على أن التوقف أولى أنه ورد في القرآن الاقسام كلها من الشمول والاقتصار على الاخير والرجوع إلى بعض الجمل السابقة، كقوله تعالى: {في} (النور: 4) فقوله تعالى: {إلا الذين تابوا} (النور: 5) لا يرجع إلى الجلد، ويرجع إلى الفسق، وهل يرجع إلى الشهادة؟ فيه خلاف، وقوله تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} (النساء: 29) يرجع إلى الاخير وهو الدية، لان التصدق لا يؤثر في الاعتاق، وقوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) [ المائدة: 89 ] فقوله: (فمن لم يجد) [ المئده: 89 ] يرجع إلى الخصال الثلاثة، وقوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه} إلى قوله: {إلا قليلا} (النساء: 83) فهذا يبعد حمله على الذي يليه لانه يؤذي إلى أن لا يتبع الشيطان بعض من لم يشمله فضل الله ورحمته، فقيل أنه محمول على قوله: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) (النساء: 83) إلا قليلا منهم لتقصير وإهمال وغلط، وقيل: إنه يرجع إلى قوله: {أذاعوا به} (النساء: 83) ولا يبعد أن يرجع إلى الاخير، ومعناه: ولولا فصل الله عليكم ورحمته ببعثة محمد عليه السلام لاتبعتم الشيطان إلا قليلا قد كان تفضل عليهم بالعصمة من الكفر قبل البعثة، كأويس القرني، وزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة وغيرهم ممن تفضل الله عليهم بتوحيده واتباع رسوله قبله. القول في دخول الشرط على الكلام اعلم أن الشرط عبارة عما لا يوجد المشروط مع عدمه، لكن لا يلزم أن يوجد عند وجوده، وبه يفارق العلة، إذ العلة يلزم وجودها وجود المعلول، والشرط يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجوده، والشرط عقلي وشرعي ولغوي، والعقلي: كالحياة للعلم، والعلم للارادة، والمحل للحياة، إذ الحياة تنتفي بانتفاء المحل، فإنه لا بد لها من محل، ولا يلزم وجودها بوجود المحل. والشرعي كالطهارة للصلاة، والاحصان للرجم. واللغوي: كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق، وإن جئتني أكرمتك، فإن مقتضاه في اللسان باتفاق أهل اللغة اختصاص الاكرام بالمجئ، فإنه إن كان يكرمه دون المجئ لم يكن كلامه اشتراطا، فنزل الشرط منزلة تخصيص العموم ومنزلة الاستثناء إذ لا فرق بين قوله: {فاقتلوا المشركين} (التوبة: 5) إلا أن يكونوا أهل عهد، وبين أن يقول: اقتلوا المشركين إن كانوا حربيين، وكل واحد من الشرط والاستثناء يدخل على الكلام فيغيره عما كان يقتضيه لولا الشرط والاستثناء حتى يجعله متكلما بالباقي، لا إنه مخرج من كلامه ما دخل فيه فإنه لو دخل فيه لما خرج، نعم: كان يقبل القطع في الدوام بطريق النسخ، فأما رفع ما سبق دخوله في الكلام فمحال، فإذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار، فمعناه: أنك عند الدخول طالق، فكأنه لم يتكلم بالطلاق إلا بالاضافة إلى حال الدخول، أما أن نقول: تكلم بالطلاق عاما مطلقا دخل أو لم يدخل، ثم أخرج ما قبل الدخول فليس هذا بصحيح. فإن قيل: قوله {فاقتلوا المشركين} إلا أهل الذمة، أو إن لم يكونوا ذميين، فلفظ المشركين متناول للجميع، ولاهل الذمة لكن خرج أهل الذمة بإخراجه بالشرط والاستثناء، قلنا: هو كذلك لو اقتصر عليه، ولذلك يمتنع الاخراج بالشرط، والاستثناء منفصلا ولو قدر على الاخراج لم يفرق بين المنفصل والمتصل، ولكن إذا لم يقتصر وألحق به ما هو جزء منه وإتمام له غير موضوع الكلام، فجعله كالناطق بالباقي ودفع دخول البعض، ومعنى الدفع أنه كان يدخل لولا الشرط والاستثناء فإذا لحقا قبل الوقوف دفعا، فقوله تعالى: {فويل للمصلين} (الماعون: 4) لا حكم له قبل إتمام الكلام، فإذا تم الكلام كان الويل مقصورا على من وجد فيه شرط السهو والرياء، لا أنه دخل فيه كل مصل ثم خرج البعض، فهكذا ينبغي أن يفهم حقيقة الاستثناء والشرط، فاعلموه ترشدوا. القول في المطلق والمقيد اعلم أن التقييد اشتراط والمطلق محمول على المقيد إن اتحد الموجب والموجب كما لو قال: لا نكاح إلا بولي وشهود وقال: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فيحمل المطلق على المقيد، فلو قال في كفارة القتل: (فتحرير رقبة) (النساء: 92) ثم قال فيها مرة أخرى: (فتحرير رقبة) (النساء: 29) فيكون هذا اشتراطا ينزل عليه الاطلاق، وهذا صحيح، ولكن على مذهب من لا يرى بين الخاص والعام تقابل الناسخ والمنسوخ كما نقلناه عن القاضي والقاضي مع مصيره إلى التعارض نقل الاتفاق عن العلماء على تنزيل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم، أما إذا اختلف الحكم كالظهار والقتل، فقال قوم: يحمل المطلق على المقيد من غير حاجة إلى دليل، كما لو اتحدت الواقعة وهذا تحكم محض يخالف وضع اللغة إذ لا يتعرض القتل للظهار فكيف يرفع الاطلاق الذي فيه والاسباب المختلفة تختلف في الاكثر شروط واجباتها، كيف ويلزم من هذا تناقض، فإن الصوم مقيد بالتتابع في الظهار والتفريق في الحج، حيث قال تعالى: {ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} (البقرة: 691) ومطلق في اليمين، فليت شعري على أي المقيدين يحمل، فقال قوم: لا يحمل على المقيد أصلا، وإن قام دليل القياس لانه نسخ ولا سبيل إلى نسخ الكتاب بالقياس، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، إذا جعل الزيادة على النص نسخا، وقد بينا فساد هذا في كتاب النسخ، وأن قوله تعالى: {فتحرير رقبة} (النساء: 92) ليس هو نصا في أجزاء الكافرة، بل هو عام يعتقد ظهوره مع تجويز قيام الدليل على خصوصه، أما أن يعتقد عمومه قطعا، فهذا خطأ في اللغة. وقال الشافعي رحمه الله: إن قام دليل حمل عليه، ولم يكن فيه إلا تخصيص العموم، وهذا هو الطريق الصحيح، فإن قيل: إنما يطلب بالقياس حكم مما ليس منطوقا به في كفارة الظهار، ومقتضاها أجزاء الكافرة، قلنا بينا أن كون الكافرة منطوقا بها مشكوك فيه، إذ ليس تناول عموم الرقبة له كالتنصيص على الكافرة، وقد كشفنا الغطاء في مسألة تخصيص عموم القرآن بالقياس. هذا تمام القول في العموم والخصوص ولواحقه من الاستثناء والشرط والتقييد، وبه تم الكلام في الفن الأول وهو دلالة اللفظ على معناه من حيث الصيغة والوضع.
الفن الثاني فيما يقتبس من الالفاظ لا من حيث صيغتها بل من حيث فحواها وإشارتها وهي خمسة أضرب الضرب الأول: ما يسمى اقتضاء، وهو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا به ولكن يكون من ضرورة اللفظ إما من حيث لا يمكن كون المتكلم صادقا إلا به، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إلا به، أو من حيث يمتنع نبوته عقلا إلا به. أما المقتضى الذي هو ضرورة صدق المتكلم فكقوله عليه السلام: لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فإنه نفى الصوم والصوم لا ينتفي بصورته، فمعناه لا صيام صحيح أو كامل فيكون حكم الصوم هو المنفي لا نفسه، والحكم غير منطوق به، لكن لا بد منه لتحقيق صدق الكلام، فعن هذا قلنا لا عموم له لانه ثبت اقتضاء لا لفظا، وهذا يصح على مذهب من ينكر الاسماء الشرعية ويقول: لفظ الصوم باق على مقتضى اللغة، فيفتقر فيه إلى إضمار الحكم، أما من جعله عبارة عن الصوم الشرعي فيكون انتفاؤه بطريق النطق لا بطريق الاقتضاء، بل مثاله: لا عمل إلا بنية ورفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما سبقت أمثلته في باب المجمل. وأما مثال ما ثبت اقتضاء لتصور المنطوق به شرعا، فقول القائل: أعتق عبدك عني فإنه يتضمن الملك ويقتضيه ولم ينطق به لكن العتق المنطوق به شرط نفوذه شرعا تقدم الملك، فكان ذلك مقتضى اللفظ وكذلك لو أشار إلى عبد الغير، وقال: والله لاعتقن هذا العبد، يلزمه تحصيل الملك فيه إن أراد البرد، وإن لم يتعرض له لضرورة الملتزم، وأما مثال ما ثبت اقتضاء لتصور المنطوق به عقلا، فقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} (النساء: 32) فإنه يقتضي إضمار الوطئ، أي حرم عليكم وطئ أمهاتكم لان الامهات عبارة عن الاعيان، والاحكام لا تتعلق بالاعيان، بل لا يعقل تعلقها إلا بأفعال المكلفين، فاقتضى اللفظ فعلا وصار ذلك هو الوطئ من بين سائر الافعال بعرف الاستعمال، وكذلك قوله: {حرمت عليكم الميتة والدم} (المائدة: 3} (أحلت لكم بهيمة الانعام} (المائدة: 1) أي الاكل، ويقرب منه {واسأل القرية} (يوسف: 28) أي أهل القرية لانه لا بد من الاهل حتى يعقل السؤال فلا بد من إضماره ويجوز أن يلقب هذا بالاضمار دون الاقتضاء. والقول في هذا قريب. الضرب الثاني ما يؤخذ من إشارة اللفظ لا من اللفظ، ونعني به ما يتسع اللفظ من غير تجريد قصد إليه، فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه نفس اللفظ، فيسمى إشارة، فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به ويبني عليه، ومثال ذلك تمسك العلماء في تقدير أقل الطهر وأكثر الحيض بخمسة عشر يوما بقوله عليه السلام إنهن ناقصات عقل ودين فقيل: ما نقصان دينهن فقال: تقعد إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها لا تصلي ولا تصوم فهذا إنما سيق لبيان نقصان الدين وما وقع المنطق قصدا إلا به لكن حصل به إشارة إلى أكثر الحيض وأقل الطهر، وأنه لا يكون فوق شطر الدهر وهو خمسة عشر يوما من الشهر، إذ لو تصور الزيادة لتعرض لها عند قصد المبالغة في نقصان دينها. ومثاله استدلال الشافعي رحمه الله في تنجس الماء القليل بنجاسة لا تغيره بقوله عليه السلام: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في لاناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده إذ قال: لولا أن يقين النجاسة ينجس لكان توهمها لا يوجب الاستحباب. ومثاله تقدير أقل مدة الحمل بستة أشهر، أخذا من قوله: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} (الاحقاف: 51) وقد قال في موضع آخر: {وفصاله في عامين} (لقمان: 41) ومثاله المصير إلى من وطئ بالليل في رمضان فأصبح جنبا لم يفسد صومه، لانه قال: {وكلوا واشربوا حتى يتبين} (البقرة: 781) وقال: {فالآن باشروهن} (البقرة: 781) ثم مد الرخصة إلى يتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر، فتشعر الآية بجواز الاكل والشرب والجماع في جميع الليل ومن فعل ذلك في آخر الليل استأخر غسله إلى النهار وإلا وجب إن يحرم الوطئ في آخر جزء من الليل بمقدار ما يتسع للغسل، فهذا وأمثاله مما يكثر ويسمى إشارة اللفظ. الضرب الثالث فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب، كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (المائدة: 83) و {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما} (النور: 2) فإنه كما فهم وجوب القطع والجلد على السارق والزاني وهو المنطوق به فهم كون السرقة والزنا علة للحكم، وكونه علة غير منطوق به، لكن يسبق إلى الفهم من فحوى الكلام، وقوله تعالى: {إن الابرار لفي نعيم ئ وإن الفجار لفي جحيم} (الانفطار: 13 - 14) أي لبرهم وفجورهم، وكذلك كل ما خرج مخرج الذم والمدح، والترغيب والترهيب، وكذلك إذا قال: ذم الفاجر وامدح المطيع وعظم العالم، فجميع ذلك يفهم منه التعليل من غير نطق به، وهذا قد يسمى إيماء وإشارة، كما يسمى فحوى الكلام ولحنه، وإليك الخيرة في تسميته بعد الوقوف على جنسه وحقيقته. الضرب الرابع فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده، كفهم تحريم الشتم والقتل والضرب، من قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} (الاسراء: 32) وفهم تحريم مال اليتيم وإحراقه وإهلاكه من قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} (النساء: 01) وفهم ما وراء الذرة والدينار من قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} (الزلزلة: 7) وقوله: {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} (آل عمران: 57) وكذلك قول القائل: ما أكلت له برة، ولا شربت له شربة، ولا أخذت من ماله حبة: فإنه يدل على ما وراءه، فإن قيل هذا من قبيل التنبيه بالادنى على الاعلى، قلنا: لا حجر في هذه التسمية، لكن يشترط أن يفهم أن مجرد ذكر الادنى لا يحصل هذا التنبيه ما لم يفهم الكلام وما سيق له، فلولا معرفتنا بأن الآية سيقت لتعظيم الوالدين واحترامهما لما فهمنا منع الضرب والقتل من منع التأفيف، إذ قد يقول: السلطان إذا أمر بقتل ملك لا تقل له أف لكن اقتله، وقد يقول: والله ما أكلت مال فلان، ويكون قد أحرق ماله فلا يحنث، فإن قيل: الضرب حرام قياسا على التأفيف، لان التأفيف إنما حرم للايذاء، وهذا الايذاء فوقه، قلنا: إن أردت بكونه قياسا أنه محتاج إلى تأمل واستنباط علة فهو خطأ، وإن أردت أنه مسكوت فهم من منطوق فهو صحيح بشرط أن يفهم أنه أسبق إلى الفهم من المنطوق، أو هو معه وليس متأخرا عنه، وهذا قد يسمى مفهوم الموافقة، وقد يسمى فحوى اللفظ ولكل فريق اصطلاح آخر فلا تلتفت إلى الالفاظ واجتهد في إدراك حقيقة هذا الجنس. الضرب الخامس هو المفهوم، ومعناه الاستدلال بتخصيص الشئ بالذكر على نفي الحكم عما عداه، ويسمى مفهوما، لانه مفهوم مجرد لا يستند إلى منطوق، وإلا فما دل عليه المنطوق أيضا مفهوم، وربما سمي هذا دليل الخطاب ولا التفات إلى الاسامي، وحقيقته أن تعليق الحكم بأحد، وصفي الشئ هل يدل على نفيه عما يخالفه في الصفة؟ كقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا} (المائدة: 59) وكقوله عليه السلام: في سائمة الغنم الزكاة والثيب أحق بنفسها من وليها ومن باع نخلة مؤبرة فثمرتها للبائع فتخصيص العمد والسوم والثيوبة والتأبير بهذه الاحكام هل يدل على نفي الحكم عما عداها؟ فقال الشافعي وما لك والاكثرون من أصحابهما: أنه يدل، وإليه ذهب الاشعري، إذا احتج في إثبات خبر الواحد بقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (الحجرات: 6) قال: هذا يدل على أن العدل بخلافه، واحتج في مسألة الرؤية بقوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (المطففين: 51) قال: وهذا يدل على أن المؤمنين بخلافهم، وقال جماعة من المتكلمين ومنهم القاضي وجماعة من حذاق الفقهاء، ومنهم ابن شريح: إن ذلك لا دلالة له وهو الاوجه عندنا. ويدل عليه مسالك. الأول: أن إثبات زكاة السائمة مفهوم، أما نفيها عن المعلوفة اقتباسا من مجرد الاثبات لا يعلم إلا بنقل من أهل اللغة متواترا وجار مجرى المتواتر والجاري مجرى المتواتر، كعلمنا بأن قولهم: ضروب وقتول وأمثاله للتكثير وأن قولهم: عليم وأعلم وقدير وأقدر للمبالغة، أعني الافعل، أما نقل الآحاد فلا يكفي، إذ الحكم على لغة ينزل عليها كلام الله تعالى بقول الآحاد مع جواز الغلط لا سبيل إليه، فإن قيل: فمن نفي المفهوم افتقر إلى نقل متواترا أيضا؟ قلنا: لا حاجة إلى حجة، فيما لم يضعوه فإن ذلك لا يناهي، إنما الحجة على من يدعي الوضع. الثاني: حسن الاستفهام. فإن من قال: إن ضربك زيد عامدا فاضربه، حسن أن يقول: فإن ضربني خاطئا أفأضربه؟ وإذا قال أخرج الزكاة من ما شيتك السائمة حسن أن يقول: هل أخرجها من المعلوفة، وحسن الاستفهام يدل على أن ذلك غير مفهوم، فإنه لا يحسن في المنطوق وحسن في المسكوت عنه، فإن قيل: حسن لانه قد لا يراد به النفي مجازا، قلنا: الأصل أنه إذا احتمل ذلك كان حقيقة، وإنما يرد إلى المجاز بضرورة دليل ولا دليل. المسلك الثالث أنا نجدهم يعلقون الحكم على الصفة تارة مع مساواة المسكوت عنه للمنطوق، وتارة مع المخالفة، فالثبوت للموصوف معلوم منطوق، والنفي عن المسكوت محتمل، فليكن على الوقف إلى البيان بقرينة زائدة، ودليل آخر أما دعوى كونه مجازا عند الموافقة حقيقة عند المخالفة فتحكم بغير دليل يعارضه عكسه من غير ترجيح. المسلك الرابع أن الخبر عن ذي الصفة لا ينفي غير الموصوف، فإذا قال: قام الاسود، أو خرج أو قعد، لم يدل على نفيه عن الابيض، بل هو سكوت عن الابيض، وإن منع ذلك مانع وقد قيل به لزمه تخصيص اللقب والاسم العلم، حتى يكون قولك: رأيت زيدا نفيا للرؤية عن غيره، وإذا قال: ركب زيد، دل على نفي الركوب عن غيره، وقد تبع هذا بعضهم، وهو بهت واختراع على اللغات كلها، فإن قولنا: رأيت زيدا لا يوجب نفي رؤيته عن ثوب زيد ودابته وخادمه، ولا عن غيره، إذ يلزم أن يكون قوله: زيد عالم كفرا، لانه نفي للعلم عن الله وملائكته ورسله، وقوله عيسى نبي الله كفرا لانه نفي النبوة عن محمد عليه السلام وعن غيره من الانبياء. فإن قيل: هذا قياس الوصف على اللقب ولا قياس في اللغة، قلنا ما قصدنا به إلا ضرب مثال ليتنببه به حتى يعلم أن الصفة لتعريف الموصوف فقط كما أن أسماء الاعلام لتعريف الاشخاص، ولا فرق بين قوله: في الغنم زكاة في نفي الزكاة عن البقر والابل، وبين قوله: في سائمة الغنم زكاة في نفي الزكاة عن المعلوفة. المسلك الخامس أنا كما أنا لا نشك في أن للعرب طريقا إلى الخبر عن مخبر واحد واثنين وثلاثة اقتصارا عليه مع السكوت عن الباقي فلها طريق أيضا في الخبر عن الموصوف بصفة، فتقول، رأيت الظريف، وقام الطويل، ونكحت الثيب، واشتريت السائمة، وبعت النخلة المؤبرة، فلو قال بعد ذلك: نكحت البكر أيضا، واشتريت المعلوفة أيضا، لم يكن هذا مناقضا للاول ورفعا له وتكذيبا لنفسه، كما لو قال: ما نكحت الثيب وما اشتريت السائمة، ولو فهم النفي كما فهم الاثبات لكان الاثبات بعده تكذيبا ومضادا لما سبق. وقد احتج القائلون بالمفهوم بمسالك: الأول: أن الشافعي رحمه الله من جملة العرب ومن علماء اللغة وقد قال بدليل الخطاب، وكذلك أبو عبيدة من أئمة اللغة، وقد قال في قوله عليه السلام: لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته فقال: دليله أن من ليس بواجد لا يحل ذلك منه، وفي قوله: لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خيرمن أن يمتلئ شعرا فقيل: أنه أراد الهجاء والسب، أو هجو الرسول عليه السلام فقال: ذلك حرام قليله وكثيره امتلا به الجوف أو قصر، فتخصيصه بالامتلاء يدل على أن ما دونه بخلافه، وأن من لم يتجرد للشعر ليس مرادا بهذا الوعيد، والجواب، أنهما: ما إن قالاه عن اجتهاد فلا يجب تقليدهما، وقد صرحا بالاجتهاد إذ قالا: لو لم يدل على النفي لما كان للتخصيص بالذكر فائدة، وهذا الاستدلال معرض للاعتراض كما سيأتي، فليس على المجتهد قبول قول من لم يثبت عصمته عن الخطأ فيما يظنه بأهل اللغة أو بالرسول، وإن كان ما قالاه عن نقل فلا يثبت هذا بقول الآحاد، ويعارضه أقوال جماعة أنكروه، وقد قال قوم: لا تثبت اللغة بنقل أرباب المذاهب والآراء فإنهم يميلون إلى نصرة مذاهبهم، فلا تحصل الثقة بقولهم. المسلك الثاني أن الله تعالى قال: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} (التوبة: 08) فقال عليه السلام: لازيدن على السبعين فهذا يدل على أن حكم ما عدا السبعين بخلافه، والجواب من أوجه: الأول: أن هذا خبر واحد لا تقوم به الحجة في إثبات اللغة، والاظهر أنه غير صحيح لانه عليه السلام أعرف الخلق بمعاني الكلام، وذكر السبعين جرى مبالغة في اليأس وقطع الطمع عن الغفران، كقول القائل: أشفع أو لا تشفع، وإن شفعت لهم سبعين مرة لم أقبل منك شفاعتك. الثاني: أنه قال: لازيدن على السبعين ولم يقل ليغفر لهم، فما كان ذلك لانتظار الغفران، بل لعله كان لاستمالة قلوب الاحياء منهم لما رأى من المصلحة فيهم ولترغيبهم في الدين، لا لانتظار غفران الله تعالى للموتى مع المبالغة في اليأس وقطع الطمع. الجواب الثالث: أن تخصيص نفي المغفرة بالسبعين أدل على جواز المغفرة بعد السبعين أو على وقوعه، فإن قلتم: على وقوعه فهو خلاف الإجماع، وإن قلتم على جوازه فقد كان الجواز ثابتا بالعقل قبل الآية، فانتفى الجواز المقدر بالسبعين والزيادة ثبت جوازها بدليل العقل، لا بالمفهوم. المسلك الثالث أن الصحابة قالوا: الماء من الماء منسوخ بقول عائشة رضي الله عنها إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل فلو لم يتضمن نفي الماء عن غير الماء لما كان وجوبه بسبب آخر نسخا له، فإنه لم ينسخ وجوبه بالماء، بل انحصاره عليه واختصاصه به، والجواب من أوجه: الأول: أن هذا نقل آحاد ولا تثبت به اللغة. الثاني: أنه إنما يصح عن قوم مخصوصين لا عن كافة الصحابة، فيكون ذلك مذهبا لهم بطريق الاجتهاد ولا يجب تقليدهم. الثالث: أنه يحتمل أنهم فهموا منه أن كل الماء من الماء ففهموا من لفظ الماء المذكور أولا، العموم والاستغراق لجنس استعمال الماء، وفهموا أخيرا، كون خبر التقاء الختانين نسخا لعموم، الأول لا لمفهومه ودليل خطابه، وكل عام أريد به الاستغراق، فالخاص بعده يكون نسخا لبعضه ويتقابلان إن اتحدث الواقعة. الرابع: أنه نقل عنه عليه السلام أنه قال: لا ماء إلا من الماء وهذا تصريح بطرفي النفي والاثبات، كقوله عليه السلام: لا نكاح إلا بولي ولا صلاة إلا بطهور وروي أنه أتى باب رجل من الانصار فصاح به فلم يخرج ساعة ثم خرج ورأسه يقطر ماء فقال عليه السلام: عجلت عجلت ولم تنزل فلا تغتسل فالماء من الماء وهذا تصريح بالنفي فرأوا خبر التقاء الختانين ناسخا لما فهم من هذه الأدلة. الخامس: أنه قال في رواية إنما الماء من الماء وقد قال بعض منكري المفوم أن هذا للحصر والنفي والاثبات ولا مفهوم للقب والماء اسم لقب فدل أنه مأخوذ من الحصر الذي دل عليه الالف واللام وقوله: إنما ولم يقل أحد من الصحابة أن المنسوخ مفهوم هذا اللفظ فلعل المنسوخ عمومه أو حصره المعلو لا بمجرد التخصيص والكلام في مجرد التخصيص. المسلك الرابع قولهم أن يعلى بن أمية قال لعمر رضي الله عنه: ما بالنا نقصر وقد أمنا؟ فقال تعجبت مما تعجبت منه، فسألت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: هي صدقة تصدق الله بها عليكم أو على عباده، فاقبلوا صدقته وتعجبهما من بطلان مفهوم تخصيص قوله تعالى: {إن خفتم} (النساء: 101) قلنا: لان الأصل الاتمام، واستثنى حالة الخوف، فكان الاتمام واجبا عند عدم الخوف بحكم الأصل لا بالتخصيص. المسلك الخامس أن ابن عباس رضي الله عنهما فهم من قوله: إنما الربا في النسيئة نفي ربا الفضل، وكذلك عقل من قوله تعالى: {فإن كان له إخوة فلامه السدس} (النساء: 11) إنه إن كان له إخوان فلامه الثلث، وكذلك قال الاخوات لا يرثن مع الأولاد: لقوله تعالى: {إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} (النساء: 671) فإنه لما جعل لها النصف بشرط عدم الولد دل على انتفائه عند وجود الولد، والجواب عن هذا من أوجه: الأول: أن هذا غايته أن يكون مذهب ابن عباس ولا حجة فيه. الثاني: أن جميع الصحابة خالفوه في ذلك، فإن دل مذهبه عليه دل مذهبهم على نقيضه. الثالث: أنه لم يثبت أنه دفع ربا الفضل بمجرد هذا اللفظ بل ربما دفعه بدليل آخر وقرينة أخرى. الرابع: أنه لعله اعتقد أن البيع أصله على الاباحة بدليل العقل، أو عموم قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (البقرة: 572) فإذا كان النهي قاصرا على النسيئة كان الباقي حلالا بالعموم، ودليل العقل لا بالمفهوم. الخامس: أنه روي أنه قال: لا ربا إلا في النسيئة، وهذا نص في النفي والاثبات، وقوله: إنما الربا في النسيئة أيضا قد أقربه بعض منكري المفهوم لما فيه من الحصر. المسلك السادس أنه إذا قال: اشتر لي عبدا أسود، يفهم نفي الابيض، وإذا قال أضربه إذا قام، يفهم المنع إذا لم يقم، قلنا: هذا باطل، بل الأصل منع الشراء والضرب إلا فيما أذن والاذن قاصر فبقي الباقي على النفي، وتولد منه درك الفرق بين الابيض والاسود وعماد الفرق إثبات ونفي، ومستندا لنفي الأصل، ومستند الاثبات الاذن القاصر، والذهن إنما ينتبه للفرق عند الاذن القاصر على الاسود فإنه يذكر الابيض، فيسبق إلى الاوهام العامية أن إدراك الذهن هذا الاختصاص، والفرق من الذكر القاصر لا بل هو عند الذكر القاصر لكن أحد طرفي الفرق حصل من الذكر والآخر كان حاصلا في الأصل فيذكره عند التخصيص فكان حصول الفرق عنده لا به، فهذا مزلة القدم، وهو دقيق، ولاجله غلط الاكثرون، ويدل عليه أيضا أنه لو عرض على البيع شاة وبقرة وغانما وسالما وقال: اشتر غانما والشاة لسبق إلى الفهم الفرق بين غانم وسالم، وبين البقرة والشاة، واللقب لا مفهوم له بالاتفاق عند كل محصل إذ قوله: لا تبيعوا البر بالبر لم يدل على نفي الربا من غير الاشياء الستة بالاتفاق، ولو دل لا نحسم باب القياس، وإن القياس فائدته إبطال التخصيص، وتعدية الحكم من المنصوص إلى غيره، لكن مزلة القدم ما ذكرناه، وهو جار في كل ما يتضمن الاقتطاع من أصل ثابت، كقوله: أنت طالق إن دخلت الدار، فإن لم تدخل لم تطلق، لان الأصل عدم الطلاق، لا لتخصيص الدخول، بدليل أنه لو قال: إن دخلت فلست بطالق، فلا يقع إذا لم تدخل، لانه ليس الأصل وقوع الطلاق حتى يكون تخصيص النفي بالدخول موجبا للرجوع إلى الأصل عند عدم الدخول، وهذا واضح. المسلك الرابع وعليه تعويل الاكثرين، وهو السبب الاعظم في وقوع هذا الوهم، أن تخصيص الشئ بالذكر لا بد أن تكون له فائدة، فإن استوت السائمة والمعلوفة والثيب والبكر، والعمد والخطأ فلم خصص البعض بالذكر والحكم شامل، والحاجة إلى البيان تعم القسمين، فلا داعي له إلى اختصاص الحكم، وإلا صار الكلام لغوا؟ والجواب من أربعة أوجه: الأول: أن هذا عكس الواجب، فإنكم جعلتم طلب الفائدة طريقا إلى معرفة وضع اللفظ، وينبغي أن يفهم أولا الوضع، ثم ترتب الفائدة عليه، والعلم بالفائدة ثمرة معرفة الوضع أما أن يكون الوضع تبع معرفة الفائدة فلا. الثاني: وأن عماد هذا الكلام أصلان. أحدهما: أنه لا بد من فائدة التخصيص. والثاني: أنه لا فائدة إلا اختصاص الحكم، والنتيجة أنه الفائدة إذا، ومسلم أنه لا بد من فائدة، لكن الأصل الثاني وهو أنه لا فائدة إلا هذا فغير مسلم، فلعل فيه فائدة فليست الفائدة محصورة في هذا، بل البواعث على التخصيص كثرة واختصاص الحكم أحد البواعث، فإن قيل: فلو كان له فائدة أو عليه باعث سوى اختصاص الحكم لعرفناه قلنا ولم قلتم أن كل فائدة ينبغي أن تكون معلومة لكم، فلعلها حاضرة ولم تعثروا عليها، فكأنكم جعلتم عدم علم الفائدة علما بعدم الفائدة، وهذا خطأ فعماد هذا الدليل هو الجهل بفائدة أخرى. الثالث: وهو قاصمة الظهر على هذا المسلك، أن تخصيص اللقب لا يقول به محصل، فلم لم تطلبوا الفائدة فيه، فإذا خصص الاشياء الستة في الربا، وعمم الحكم في المكيلات والمطعومات كلها، وخصص الغنم بالزكاة مع وجوبها في الابل والبقر، فما سببه مع استواء الحكم؟ فيقال: لعل إليه داعيا من سؤال أو حاجة أو سبب لا نعرفه، فليكن كذلك في تخصيص الوصف. الرابع: أن في تخصيص الحكم بالصفة الخاصة فوائد: الأولى: أنه لو استوعب جميع محل الحكم لم يبق للاجتهاد مجال فأراد بتخصيص بعض الالقاب والاوصاف بالذكر أن يعرض المجتهدين لثواب جزيل في الاجتهاد إذ بذلك تتوفر دواعيهم على العلم ويدوم العلم محفوظا بإقبالهم ونشاطهم في الفكر والاستنباط، ولولا هذا لذكر لكل حكم رابطة عامة جامعة لجميع مجاري الحكم، حتى لا يبقى للقياس مجال. الثانية: أنه لو قال: في الغنم زكاة ولم يخصص السائمة لجاز للمجتهد إخراج السائمة عن العموم بالاجتهاد الذي ينقدح له، فخص السائمة بالذكر لتقاس المعلوفة عليها إن رأى أنها في معناها أو لا تلحق بها فتبقى السائمة بمعزل عن محل الاجتهاد، وكذلك لو قال: لا تبيعوا الطعام بالطعام، ربما أدى اجتهاد مجتهد إلى إخراج البر والتمر فنص على ما لا وجه لاخراجه، وترك ما هو موكول إلى الاجتهاد، لا سيما ولو ذكر الطعام أو الغنم، وهو لفظ عام، لصار عند الواقفية محتملا للعموم وللبر خاصة أو التمر خاصة وللمعلوفة خاصة، وللسائمة خاصة، فأخرج المخصوص عن محل الوقف والشك، ورد الباقي إلى الاجتهاد لما رأى فيه من اللطف والصلاح. الثالثة: أن يكون الباعث على التخصيص للاشياء الستة عموم وقوع أو خصوص سؤال أو وقوع واقعة أو اتفاق معاملة فيها خاصة أو غير ذلك من أسباب لا نطلع عليها، فعدم علمنا بذلك لا ينزل بمنزلة علمنا بعدم ذلك، بل نقول: لعل إليه داعيا لم نعرفه، فكذلك في الاوصاف. المسلك الثامن: قولهم إن التعليق بالصفة كالتعليق بالعلة وذلك يوجب الثبوت بثبوت العلة والانتفاء بانتفائها، والجواب: أن الخلاف في العلة والصفة واحد فتعليق الحكم بالعلة يوجب ثبوته بثبوتها، أما انتفاؤه بانتفائها فلا، بل يبقى بعد انتفاء العلة على ما يقتضيه الأصل، وكيف ونحن نجوز تعليل الحكم بعلتين، فلو كان إيجاب القتل بالردة نافيا للقتل عند انتفائها لكان إيجاب القصاص نسخا لذلك النفي، بل فائدة ذكر العلة معرفة الرابطة فقط، وليس من فائدته أيضا تعدية العلة من محلها إلى غير محلها، فإن ذلك عرف بورود التعبد بالقياس، ولولاه لكان قوله: حرمت عليكم الخمر لشدتها لا يوجب تحريم النبيذ المشتد بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة إلى أن يرد دليل، وتعبد باتباع العلة وترك الالتفات إلى المحل. المسلك التاسع: استدلالهم بتخصيصات في الكتاب والسنة خالف الموصوف فيها غير الموصوف بتلك الصفات، وسبيل الجواب عن جميعها إما لبقائها على الأصل أو معرفتها بدليل آخر أو بقرينة، ولو دل ما ذكروه لدلت تخصيصات في الكتاب والسنة لا أثر لها على نقيضه، كقوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا} (المائدة: 59) في جزاء الصيد إذ يجب على الخاطئ، وقوله تعالى: {(4) ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} (النساء: 29) إذ تجب على العامد عند الشافعي رحمه الله، وقوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} (النساء: 101) الآية، وقوله في الخلع: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} (النساء: 53) وقوله عليه السلام: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها إلى أمثال له لا تحصى. القول في درجات دليل الخطاب اعلم أن توهم النفي من الاثبات على مراتب ودرجات، وهي ثمانية: الأولى: وهي أبعدها، وقد أقر ببطلانها كل محصل من القائلين بالمفهوم وهو مفهوم اللقب، كتخصيص الاشياء الستة في الربا. الثانية: الاسم المشتق الدال على جنس، كقوله: لا تبيعوا الطعام بالطعام وهذا أيضا يظهر إلحاقه باللقب، لان الطعام لقب لجنسه، وإن كان مشتقا مما يطعم، إذ لا تدرك تفرقة بين قوله: في الغنم زكاة وفي الماشية زكاة، وإن كانت الماشية مشتقة مثلا. الثالثه: تخصيص الاوصاف التي تطرأ و تزول، كقوله: الثيب أحق بنفسها والسائمة تجب فيها الزكاة، فلاجل أن السوم يطرأ ويزول ربما يتقاضى الذهن طلب سبب التخصيص، وإذا لم يجد حمله على انتفاء الحكم، وهو أيضا ضعيف ومنشؤه الجهل بمعرفة الباعث على التخصيص. الرابعة: أن يذكر الاسم العام ثم تذكر الصفة الخاصة في معرض الاستدراك والبيان، كما لو قال: في الغنم السائمة زكاة، وكقوله: من باع نخلة مؤبرة فثمرها للبائع و اقتلوا المشركين الحربيين، فإنه ذكر الغنم والنخلة والمشركين، وهي عامة، فلو كان الحكم يعمها لما أنشأ بعده استدراكا، لكن الصحيح أن مجرد هذا التخصيص من غير قرينة لا مفهوم له فيرجع حاصل الكلام إلى طلب سبب الاستدراك، ويجوز أن يكون له سبب سوى اختصاص الحكم لم نعرفه، ووجه التفاوت بين هذه الصور أن تخصيص اللقب يمكن حمله على أنه لم يحضره ذكر المسكوت عنه، ولذلك ذكر الاشياء الستة، فهذا احتمال وهو الغفلة عن غير المنطوق به، والغفلة البكر عند التعرض للثيب أبعد، لان ذكر الصفة بذكر ضدها يضعف هذا الاحتمال، فصار احتمال المفهوم أظهر، وعند الاستدراك بعد التعميم انقطع هذا الاحتمال بالكلية، فظهر احتمال المفهوم لانحسام أحد الاحتمالات الباعثة على التخصيص، لكن وراء هذه احتمالات داعية إلى التخصيص، وإن لم نعرفها فلا يحتج بما لا يعلم فينظر إلى لفظه، ومن تعرض للغنم السائمة والنخلة المؤبرة فهو ساكت، عن المعلوفة وغير المؤبرة، كما لو قال: في السائمة وفي المؤبرة، وكما قال: في سائمة الغنم زكاة. الخامسة: الشرط، وذلك أن يقول: إن كان كذا فافعل كذا، وإن جاءكم كريم قوم فأكرموه، وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن، وقد ذهب ابن شريح وجماعة من المنكرين للمفهوم إلى أن هذا يدل على النفي، والذي ذهب إليه القاضي إنكاره وهو الصحيح عندنا على قياس ما سبق، لان الشرط يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط فقط، فيقصر عن الدلالة على الحكم عند عدم الشرط، أما أن يدل على عدم عنذ العدم فلا. وفرق بين أن لا يدل على الوجود فيبقى على ما كان قبل الذكر وبين أن يدل على النفي فيتغير عما كان، والدليل عليه أنه يجوز تعليق الحكم بشرطين، كما يجوز بعلتين، فإذا قال: احكم بالمال للمدعي إن كانت له بينة، واحكم له بالمال إن شهد له شاهدان، لا يدل على نفي الحكم بالاقرار واليمين والشاهد، ولا يكون الامر بالحكم بالاقرار والشاهد واليمين نسخا له ورفعا للنص أصلا، ولهذا المعنى جوزناه بخبر الواحد، وقوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن} (الطلاق: 6) أنكر أبو حنيفة مفهومه لما ذكرناه، ويجوز أن نوافق الشافعي في هذه المسألة، وإن خالفناه في المفهوم من حيث أن انقطاع ملك النكاح يوجب سقوط النفقة إلا ما استثنى، والحامل هي المستثنى، فيبقى الحائل على أصل النفي، وانتفت نفقتها إلا بالشرط، لكن بانتفاء النكاح الذي كان علة النفقة. السادسة: قوله عليه السلام: إنما الماء من الماء وإنما الشفعة فيما لم يقسم وإنما الولاء لمن أعتق وإنما الربا بالنسيئة إنما الاعمال بالنيات وهذا قد أصر أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم على إنكاره وقالوا إنه إثبات فقط، ولا يدل على الحصر، وأقر القاضي بأنه ظاهر في الحصر محتمل للتأكيد، إذ قوله تعالى: {إنما الله إله واحد} (النساء: 171) و {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 82) يشعر بالحصر، ولكن قد يقول: إنما النبي محمد، وإنما العالم في البلد زيد يريد به الكمال والتأكيد، وهذا هو المختار عندنا أيضا، ولكن خصص القاضي هذا بقوله إنما، ولم يطرده في قوله: الاعمال بالنيات، والشفعة فيما لم يقسم وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، والعالم في البلد زيد، وعندنا أن هذا يلحق بقوله: إنما وإن كان دونه في القوة لكنه ظاهر في الحصر أيضا، فإنا ندرك التفرقة بين قول القائل، زيد صديقي وبين قوله: صديقي زيد، وبين قوله: زيد عالم وبين قوله: العالم زيد وهذا التحقيق، وهو أن الخبر لا يجوز أن يكون أخص من المبتدأ، بل ينبغي أن يكون أعم منه أو مساويا له، فلا يجوز أن تقول الحيوان إنسان، ويجوز أن تقول: الانسان حيون، فإذا جعل زيدا مبتدأ وقال: زيد صديقي جاز أن تكون الصداقة أعم من زيد، وزيد أخص من الصديق، لان المبتدأ يجوز أن يكون أخص من الخبر، أما إذا جعل الصديق مبتدأ فقال: صديقي زيد، فلو كان له صديق آخر كان المبتدأ أعم من الخبر والخبر أخص، وكان كقوله: اللون سواد، والحيوان إنسان، وذلك ممتنع، وإن كان عكسه جائزا.، فإن قيل: يجوز أن يقول: صديقي زيد وعمرو أيضا، والولاء لمن أعتق ولمن كاتب، ولمن باع بشرط العتق، ولو كان للحصر لكان هذا نقضا له، قلنا: هو للحصر بشرط أن لا يقترن به قبل الفراغ من الكلام ما يغيره، كما أن العشرة لمعناها بشرط أن لا يتصل بها الاستثناء، وقوله: {اقتلوا المشركين} (التوبة: 5) ظاهر في الجميع بشرط أن لا يقول: إلا زيدا. السابعة: مد الحكم إلى غاية بصيغة إلى وحتى، كقوله تعالى: {(2) ولا تقربوهن حتى يطهرن} (البقرة: 222} (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} (البقرة: 032) وقوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد} (التوبة: 9) وقد أصر على إنكار هذا أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم وقالوا: هذا نطق بما قبل الغاية وسكوت عما بعد الغاية، فيبقى على ما كان قبل النطق، وأقر القاضي بهذا، لان قوله تعالى: {حتى تنكح زوجا غيره} و {حتى يطهرن} ليس كلاما مستقلا، فإن لم يتعلق بقوله: {ولا تقربوهن} وقوله: {فلا تحل له} فيكون لغوا من الكلام، وإنما صح لما فيه من إضمار، وهو قوله: حتى يطهرن فأقربوهن، وحتى تنكح فتحل، ولهذا يقبح الاستفهام إذا قال: لا تعط زيدا حتى يقوم، ولو قال: أعطه، إذا قام فلا يحسن، إذ معناه، أعطه إذا قام، ولان الغاية نهاية، ونهاية الشئ مقطعة، فإن لم يكن مقطع فلا يكون نهاية، فإنه إذا قال: اضربه حتى يتوب، فلا يحسن معه أن يقول: وهل أضربه، وإن تاب، وهذا وإن كان له ظهور ما ولكن لا ينفك عن نظر، إذ يحتمل أن يقال: كل ماله ابتداء، فغايته مقطع لبدايته فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية، فيكون الاثبات مقصورا أو ممدودا إلى الغاية المذكورة، ويكون ما بعد الغاية كما قبل البداية، فإذا هذه الرتبة أضعف في الدلالة على النفي مما قبلها. الرتبة الثامنة: لا عالم في البلد إلا زيد، وهذا قد أنكره غلاة منكري المفهوم وقالوا: هذا نطق بالمستثنى عنه، وسكوت عن المستثنى، فما خرج بقوله إلا فمعناه أنه لم يدخل في الكلام، فصار الكلام مقصورا على الباقي، وهذا ظاهر البطلان، لان هذا صريح في النفي والاثبات، فمن قال: لا إله إلا الله، لم يقتصر على النفي، بل أثبت لله تعالى الالوهية ونفاها عن غيره، ومن قال: لا عالم إلا زيد، ولا فتى إلا علي، ولا سيف إلا ذو الفقار، فقد نفى وأثبت قطعا وليس كذلك، قوله: لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بولي ولا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء هذا صيغة الشرط، ومقتضاها نفي المنفى عند انتفاء الشرط، فليس منطوقا به، بل تفسد الصلاة مع الطهارة لسبب آخر، وكذلك: النكاح مع الولي والبيع مع المساواة، وهذا على وفق قاعدة المفهوم، فإن إثبات الحكم عند ثبوت وصف لا يدل على إبطاله عند انتفائه، بل يبقى على ما كان قبل النطق، وكذلك نفيه عند انتفاء شئ لا يدل على إثباته عند ثبوت ذلك الشئ، بل يبقى على ما كان قبل النطق، وكذلك نفيه عند انتقاء شئ لا يدل على إثباته عند ثبوت ذلك الشئ بل يبقى على ما كان قبل النطق ويكون المنطوق به النفي عند الانتقاء فقط بخلاف قوله: لا إله إلا الله، ولا عالم إلا زيد، لانه إثبات ورد على النفي والاستثناء من النفي إثبات، ومن الاثبات نفي، وقوله لا صلاة ليس فيه تعرض للطهارة بل للصلاة فقط، وقوله: إلا بطهور ليس إثباتا للصلاة، بل للطهور الذي لم يتعرض له في الكلام فلا يفهم منه إلا الشرط. |
12-06-2012, 07:57 PM | #56 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (مفهوم اللقب) القائلون بالمفهوم أقروا بأنه لا مفهوم لقوله: {وإن خفتم شقاق بينهما} (النساء: 53) ولا لقوله: إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها لان الباعث على التخصيص العادة، لان الخلع لا يجري إلا عند الشقاق، والمرأة لا تنكح نفسها إلا إذا أبى الولي. وكذلك القائلون بمفهوم اللقب قالوا: لا مفهوم لقوله: صبوا عليه ذنوبا من ماء وليستنج بثلاثة أحجار لانه ذكرهما لكونهما غالبين، وإذا كان يسقط المفهوم بمثل هذا الباعث فحيث لم يظهر لنا الباعث احتمل أن يكون ثم باعث لم يظهر لنا، فكيف يبني الحكم على عدم ظهور الباعث لنا، فإن قيل: فلو انتفى الباعث المخصص في علم الله تعالى واستوت الحاجة في المذكور والمسكوت واستويا في الذكر ولم يكن أحدهما منسيا، فهل يجوز للنبي عليه السلام أن يخص أحدهما بالذكر؟ فإن جوزتم فهو نسبة له إلى اللغو والعبث، وكان كقوله: يجب الصوم على الطويل والابيض، فقلنا: وهل يجب على القصير والاسود؟ فقال: نعم، قلنا: فلم خصصت هذا بالذكر؟ فقال: بالتشهي والتحكم، فلا شك أنه ينسب إلى خلاف الجد ويصلح ذلك لان يلقب به ليضحك منه كما يقول القائل: اليهودي إذا مات لا يبصر فيكون ذلك هزؤا، فثبت بهذا أن هذا دليل إن لم يكن باعث، فإذا لم يظهر فالأصل عدمه، أما إسقاط دلالته بالتوهم باعث على التخصيص سوى اختصاص الحكم به، فهو رفع للدلالة بالتوهم، قلنا: ما ذكرتموه مسلم، وهو أيضا جار في تخصيص اللقب، واليهودي اسم لقب، ويستقبح تخصيصه. ولا مفهوم للقب، لان ذلك يحسم سبيل القياس، وإنما أسقط مفهوم اللقب لانه ليس فيه دلالة من حيث اللفظ، بل هو نطق بشئ وسكوت عن شئ، فينبغي أن يقال: فلم سكت عن البعض ونطق بالبعض، فنقول: لا ندري فإن ذلك يحتمل أن يكون بسبب اختصاص الحكم ويحتمل أن يكون بسبب آخر فلا يثبت الاختصاص بمجرد احتمال ووهم، وكذلك تخصيص الوصف، ولا فرق، فإذا لسنا ندرأ الدليل بالوهم بل الخصم يبني الدليل على الوهم، فإنه ما لم ينتف سائر البواعث لا يتعين باعث اختصاص الحكم وتقدير انتفاء البواعث وهم مجرد، وأما قول القائل: اليهودي إذا مات لا يبصر، فليس استقباحه للتخصيص، بل لانه ذكر ما هو جلي، فإنه لو قال: الانسان إذا مات لم يبصر، أو الحيوان إذا مات لا يبصر استقبح ئذلك، لانه تعرض لما هو واضح في نفسه، فإن تعرض لمشكل فلا يستقبح التخصيص في كل مقام، كقوله: العبد إذا وقع في الحج لزمته الكفارة، فهذا لا يستقبح وإن شاركه الحر، وكقوله: الانسان لا يتحرك إلا بالارادة، ولا يريد إلا بعد الادراك، فلا يستقبح وإن كان سائر الحيوان شاركه فيهما. هذا تمام التحقيق في المفهوم، وبه تمام النظر في الفن الثاني، وهو اقتباس الحكم من اللفظ لا من حيث صيغته ووضعه، بل من حيث فحواه وإشارته، ولم يبق إلا الفن الثالث وهو اقتباس الحكم من حيث معناه ومعقوله، وهو القياس، والقول فيه طويل. ونرى أن نلحق بآخر الفن الثاني القول في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكوته ووجه دلالته على الاحكام، فإنه قد يظن أنه نازل منزلة القول في الدلالة، ثم بعد الفراغ منه نخوض في الفن الثالث وهو شرح القياس.
القول في دلالة أفعال النبي عليه السلام وسكوته واستبشاره وفيه فصول الفصل الأول في دلالة الفعل ونقدم عليه مقدمة في عصمة الانبياء، فنقول: لما ثبت ببرهان العقل صدق الانبياء وتصديق الله تعالى إياهم بالمعجزات، فكل ما يناقض مدلول المعجزة فهو محال عليهم بدليل العقل، ويناقض مدلول المعجزة جواز الكفر والجهل بالله تعالى وكتمان رسالة الله والكذب والخطأ والغلط فيما يبلغ، والتقصير في التبليغ والجهل بتفاصيل الشرع الذي أمر بالدعوة إليه، أما ما يرجع إلى مقارفة الذنب فيما يخصه ولا يتعلق بالرسالة فلا يدل على عصمتهم عنه، عندنا دليل العقل، بل دليل التوقيف والإجماع، قد دل على عصمتهم عن الكبائر وعصمتهم أيضا عما يصغر أقدارهم من القاذورات، كالزنا والسرقة واللواط، أما الصغائر فقد أنكرها جماعة وقالوا: الذنوب كلها كبائر، فأوجبوا عصمتهم عنها، والصحيح أن من الذنوب صغائر، وهي التي تكفرها الصلوات الخمس واجتناب الكبائر، كما ورد في الخبر، وكما قررنا حقيقته في كتاب التوبة من كتاب إحياء علوم الدين، فإن قيل: لم لم تثبت عصمتهم بدليل العقل، لانهم لو لم يعصموا لنفرت قلوب الخلق عنهم، قلنا: لا يجب عندنا عصمتهم من جميع ما ينفر، فقد كانت الحرب سجالا بينه وبين الكفار، وكان ذلك ينفر قلوب قوم عن الايمان، ولم يعصم عنه، وإن ارتاب المبطلون، مع أنه حفظ عن الخط والكتابة كي لا يرتاب المبطلون، وقد ارتاب جماعة بسبب النسخ، كما قال تعالى: {16) وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر} (النحل: 201) وجماعة بسبب المتشابهات فقالوا: كان يقدر على كشف الغطاء لو كان نبيا لخلص الخلق من كلمات الجهل والخلاف، كما قال تعالى: {فيتبعون ما نشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) [ آل عمران: 7 ] وهذا لان نفي المنفرات ليس بشرط دلالة المعجزة، هذا حكم الذنوب أما النسيان والسهو فلا خلاف في عصمتهم بما يتعلق بتبليغ الشرع والرسالة، فإنهم كلفوا تصديقه جزما، ولا يمكن التصديق مع تجويز الغلط، وقد قال قوم: يجوز عليه الغلط فيما شرعه بالاجتهاد، لكن لا يقر عليه، وهذا على مذهب من يقول المصيب واحد من المجتهدين، أما من قال: كل مجتهد مصيب فلا يتصور الخطأ عنده في اجتهاد غيره فكيف في اجتهاده. رجعنا إلى المقصود، وهو أفعاله عليه السلام، فما عرف بقوله أنه تعاطاه بيانا للواجب كقوله عليه السلام: صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم أو علم بقرينة الحال أنه إمضاء لحكم نازل، كقطع يد السارق من الكوع، فهذا دليل وبيان، وما عرف أنه خاصيته، فلا يكون دليلا في حق غيره، وأما ما لم يقترن به بيان في نفي ولا إثبات فالصحيح عندنا أنه لا دلالة له، بل هو متردد بين الاباحة والندب والوجوب وبين أن يكون مخصوصا به وبين أن يشاركه غيره فيه، ولا يتعين واحد من هذه الاقسام إلا بدليل زائد، بل يحتمل الحظر أيضا عند من يجوز عليهم الصغائر، وقال قوم أنه على الحظر، وقال قوم على الاباحة، وقال قوم على الندب، وقال قوم على الوجوب إن كان في العبادات وإن كان في العادات فعلى الندب، ويستحب التأسي به، وهذه تحكمات، لان الفعل لا صيغة له وهذه الاحتمالات متعارضة، ونحن نفرد كل واحد بالابطال. أما إبطال الحمل على الحظر: فهو أن هذا خيال من رأى الافعال قبل ورود الشرع على الحظر، قال: وهذا الفعل لم يرد فيه شرع، ولا يتعين بنفسه لاباحة ولا لوجوب، فيبقى على ما كان، فلقد صدق في إبقاء الحكم على ما كان، وأخطأ في قوله بأن الاحكام قبل الشرع على الحظر، وقد أبطلنا ذلك، ويعارضه قول من قال إنها على الاباحة، وهو أقرب من الحظر، ثم يلزم منه تناقض، وهو أن يأتي بفعلين متضادين في وقتين فيؤدي إلى أن يحرم الشئ وضده، وهو تكليف المحال. أما إبطال الاباحة: فهو أنه إن أراد به أنه أطلق لنا مثل ذلك فهو تحكم لا يدل عليه عقل ولا سمع، وإن أراد به أن الأصل في الافعال نفي الحرج فيبقى على ما كان قبل الشرع، فهو حق، وقد كان كذلك قبل فعله فلا دلالة، إذا لفعله. أما إبطال الحمل على الندب: فإنه تحكم، إذا لم يحمل على الوجوب لاحتمال كونه ندبا، فلا يحمل على الندب لاحتمال كونه واجبا بل لاحتمال كونه مباحا. وقد تمسكوا بشبهتين: الأولى: أن فعله يحتمل الوجوب و الندب، والندب أقل درجاته فيحمل عليه، قلنا: إنما يصح ما ذكروه، لو كان الندب داخلا في الوجوب، ويكون الوجوب ندبا وزيادة، وليس كذلك، إذ يدخل جواز الترك في حد الندب دون حد الوجوب، وأقرب ما قيل فيه الحمل على الندب، لا سيما في العبادات، أما في العادات فلا أقل من حمله على الاباحة، لا بمجرد الفعل، ولكن نعلم أن الصحابة كانوا يعتقدون في كل فعل له أنه جائز ويستدلون به على الجواز، ويدل هذا على نفي الصغائر عنه، وكانوا يتبركون بالاقتداء به في العادات، لكن هذا أيضا ليس بقاطع، إذ يحتمل أن يكون، استدلالهم بذلك مع قرائن حسمت بقية الاحتمالات، وكلامنا في مجرد الافعال دون قرينة، ولا شك في أن ابن عمر لما رآه مستقبل بيت المقدس في قضاء حاجته استدل به على كونه مباحا إذا كان في بناء، لانه كان في البناء ولم يعتقد أنه ينبغي أن يقتدي به فيه، لانه خبنفسه، فلم يكن يقصد إظهاره ليعلم بالقرينة قصده الدعاء إلى الاقتداء، فتبين من هذا أنهم اعتقدوا وأن ما فعله مباح، وهذا يدل على أنهم لم يجوزوا عليه الصغائر وأنهم لم يعتقدوا الاقتداء في كل فعل بل ما يقترن به قرينة تدل على إرادته البيان بالفعل. الثانية: التمسك بقوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الاحزاب: 12) فأخبر أن لنا، التأسي، ولم يقل عليكم التأسي فيحمل على الندب لا على الوجوب، قلنا: الآية حجة عليكم، لان التأسي به في إيقاع الفعل الذي أوقعه على ما أوقعه فما أوقعه واجبا أو مباحا إذا أوقعناه على وجه الندب لم نكن مقتدين به، كما أنه إذا قصد الندب فأوقعناه واجبا خالفنا التأسي فلا سبيل إلى التأسي به، قبل معرفة قصده ولا يعرف قصده إلا بقوله أو بقرينة ثم نقول: إذا انقسمت أفعاله إلى الواجب والندب لم يكن من يحمل الكل على الوجوب متأسيا ومن يجعل الكل أيضا ندبا متأسيا، بل كان النبي عليه السلام يفعل ما لا يدري فمن فعل ما لا يدري على أي وجه فعله لم يكن متأسيا. أما أبطال الحمل على الوجوب: فإن ذلك لا يعرف بضرورة عقل ولا نظر، ولا بدليل قاطع، فهو تحكم، لان فعله متردد بين الوجوب والندب، وعند من لم يوجب عصمته من الصغائر يحتمل الحظر أيضا، فلم يتحكم بالحمل على الوجوب ولهم شبه: الأولى: قولهم لا بد من وصف فعله بأنه حق وصواب ومصلحة ولولاه لما أقدم عليه ولا تعيد به، قلنا: جملة ذلك مسلم في حقه خاصة ليخرج به عن كونه محظورا، وإنما الكلام في حقنا، وليس يلزم الحكم بأن ما كان في حقه حقا وصوابا ومصلحة كان في حقنا كذلك، بل لعله مصلحة بالاضافة إلى صفة النبوة أو صفة هو يختص بها، ولذلك خالفنا في جملة من الجائزات والواجبات والمحظورات، بل اختلف المقيم والمسافر والحائض والطاهر في الصلوات فلم يمتنع اختلاف النبي والامة. الثانية: أنه نبي، وتعظيم النبي واجب، والتأسي به تعظيم، قلنا: تعظيم الملك في الانقياد له فيما يأمر وينهي لا في التربع إذا تربع، ولا في الجلوس على السرير إذا جلس عليه، فلو نذر الرسول أشياء لم يكن تعظيمه في أن ننذرها مثل ما نذرها، ولو طلق أو باع أو اشترى لم يكن تعظيمه في التشبه به. الثالث: أنه لو لم يتابع في أفعاله لجاز أن لا يتابع في أقواله، وذلك تصغير لقدره وتنفير للقلوب عنه، قلنا هذا هذيان، فإن المخالفة في القول عصيان له، وهو مبعوث للتبليغ حتى يطاع في أقاويله، لان قوله متعد إلى غيره، وفعله قاصر عليه، وأما التنفير فقد بينا أنه لا التفات إليه ولو كان ترك التشبه به تصغيرا له لكنا تركنا للوصال، وتركنا نكاح تسع بل تركنا دعوى النبوة تصغيرا، فاستبان أن هذه خيالات، وأن التحقيق أن الفعل متردد، كما أن اللفظ المشترك كالقرء متردد، فلا يجوز حمله على أحد الوجوه إلا بدليل زائد. الرابعة: تمسكهم بآي من الكتاب، كقوله تعالى: {ونصروا} (الانعام: 351) وأنه يعم الاقوال والافعال، وكقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} (النور: 36) وقوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه} (الحشر: 7) وأمثاله، وجمع ذلك يرجع إلى قبول أقواله، وغايته أن يعم الاقوال والافعال، وتخصيص العموم ممكن، ولذلك لم يجب على الحائض و المريض موافقته مع أنهم مأمورون بالاتباع والطاعة. الخامسة: وهي أظهرها تمسكهم بفعل الصحابة، وهو أنهم واصلوا الصيام لما واصل وخلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع، وأمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق فتوقفوا، فشكا إلى أم سلمة، فقالت أخرج إليهم واذبح واحلق ففعل، فذبحوا وحلقوا مسارعين، وإنه خلع خاتمه فخلعوا، وبأن عمر كان يقبل الحجر ويقول: إني لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي عليه السلام يقبلك ما قبلتك وبأنه قال في جواب من سأل أم سلمة عن قلبة الصائم فقال: ألا أخبرته أني أقبل وأنا صائم وكذلك الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين، فقالت عائشة رضي الله عنها: فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا فرجعوا إلى ذلك الجواب من وجوه. الأول: أن هذه أخبار آحاد، وكما لا يثبت القياس وخبر الواحد إلا بدليل قاطع فكذلك هذا لانه أصل من الاصول. الثاني: أنهم لم يتبعوه في جميع أفعاله وعباداته، فكيف صار اتباعهم للبعض دليلا ولم تصر مخالفتهم في البعض دليل جواز المخالفة. الثالث: وهو التحقيق: أن أكثر هذه الاخبار تتعلق بالصلاة والحج والصوم والوضوء، وقد كان بين لهم أن شرعه وشرعهم فيه سواء فقال: صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم وعلمهم الوضوء وقال: هذا وضوئي ووضوء الانبياء من قبلي وأما الوصال فإنهم ظنوا لما أمرهم بالصوم واشتغل معهم به أنه قصد بفعله امتثال الواجب وبيانه، فرد عليهم ظنهم وأنكر عليهم الموافقة، وكذلك في قبلة الصائم ربما كان قد بين لهم مساواة الحكم في المفطرات وأن شرعه شرعهم، وكذلك في الاحداث قد عرفهم مساواة الحكم فيها، ففهموا لا بمجرد حكاية الفعل، كيف وقد نقل أنه عليه السلام قال: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل وأما خلع الخاتم فهو مباح، فلما خلع أحبوا موافقته لا لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم، أو توهموا أنه لما ساواهم في سنة التختم فيساويهم في سنة الخلع، فإن قيل: الأصل أن ما ثبت في حقه عام إلا ما استثنى قلنا: لا بل الأصل أن ما ثبت في حقه فهو خاص إلا ما عممه فإن قيل: التعميم أكثر فلينزل عليه، قلنا: ولم يجب التنزيل على الاكثر وإذا اشتبهت أخت بعشر أجنبيات، فالاكثر حلال، ولا يجوز الاخذ به، كيف والمباحات أكثر من المندوبات، فلتلحق بها والمندوبات أكثر من الواجبات فلتلحق بها، بل ربما قال القائل: المحظورات أكثر من الواجبات فلتنزل عليها. الفصل الثاني في شبهات متفرقة في أحكام الافعال الأولى قال قائل: إذا نقل إلينا فعله عليه السلام فما الذي يجب على المجتهد أن يبحث عنه، وما الذي يستحب؟ قلنا: لا يجب إلا أمر واحد، وهو البحث عنه، هل ورد بيانا لخطاب عام أو تنفيذا لحكم لازم عام فيجب علينا اتباعه، أو ليس كذلك فيكون قاصرا عليه فإن لم يقم دليل على كونه بيانا لحكم عام فالبحث عن كونه ندبا في حقه أو واجبا أو مباحا أو محظورا أو قضاء أو أداء موسعا أو مضيقا لا يجب، بل هو زيادة درجة، وفضل في العلم يستحب للعالم أن يعرفه، فإن قيل: كم أصناف ما يحتاج إلى البيان سوى الفعل؟ قلنا: ما يتطرق إليه احتمال كالمجمل والمجاز والمنقول عن وضعه والمنقول بتصرف الشرع، والعام المحتمل للخصوص، والظاهر المحتمل للتأويل، ونسخ الحكم بعد استقراره، ومعنى قول: افعل أنه للندب أو للوجوب أو أنه على الفور أو التراخي، أو أنه للتكرار أو المرة الواحد، والجمل المعطوفة إذا أعقبت باستثناء وما يجري مجراه مما يتعارض فيه الاحتمال والفعل من جملة ذلك، فإن قيل: فإن بين لنا بفعله ندبا فهل يكون فعله واجبا؟ قلنا: نعم، هو من حيث أنه بيان واجب، لانه تبليغ للشرعه، ومن حيث أنه فعل ندب، وذهب بعض القدرية إلى أن بيان الواجب واجب، وبيان الندب ندب، وبيان المباح مباح، ويلزم على ذلك أن يكون بيان المحظور محظورا، فإذا كان بيان المحظور واجبا فلم لا يكون بيان الندب واجبا، وكذلك بيان المباح، وهي أحكام الله تعالى على عباده والرسول مأمور بالتبليغ وبيانه: بالقول أو الفعل، وهو مخير بينهما، فإذا أتى بالفعل فقد أتى بإحدى خصلتي الواجب فيكون فعله، واقعا عن الواجب، فإن قيل: وبم يعرف كون فعله بيانا؟ قلنا: إما بصريح قوله وهو ظاهر، أو بقرائن، وهي كثيرة. إحداها: أن يرد خطاب مجمل ولم يبينه بقوله إلى وقت الحاجة، ثم فعل عند الحاجة والتنفيذ للحكم فعلا صالحا للبيان، فيعلم أنه بيان، إذا لم يكن لكان مؤخرا للبيان عن وقت الحاجة، وذلك محال عقلا عند قوم وسمعا عند آخرين، وكونه غير واقع متفق عليه، لكن كون الفعل متعينا للبيان، يظهر للصحابة، إذ قد علموا عدم البيان بالقول، أما نحن فيجوز أن يكون قد بين بالقول ولم يبلغنا، فيكون الظاهر عندنا أن الفعل بيان، فقطع يد السارق من الكوع وتيممه إلى المرفقين، بيان لقوله عزوجل: {فاقطعوا أيديهما} (المائدة: 83) ولقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} (المائدة: 6) الثانية: أن ينقل فعل غير مفصل، كمسحه رأسه وأذنيه من غير تعرض لكونهما مسحا بماء واحد أو بماء جديد ثم ينقل أنه أخذ لاذنيه ماء جديدا، فهذا في الظاهر يزيل الاحتمال عن الأول، ولكن يحتمل أن الواجب ماء واحد، وأن المستحب ماء جديدا فيكون أحد الفعلين على الاقل، والثاني على الاكمل. الثالثة: أن يترك ما لزمه فيكون بيانا لكونه منسوخا في حقه، أما في حق غيره فلا يثبت النسخ إلا ببيان الاشتراك في الحكم، نعم لو ترك غيره بين يديه فلم ينكر مع معرفته فيدل على النسخ في حق الغير. الرابعة: أنه إذا أتى بسارق ثمر أو ما دون النصاب فلم يقطع فيدل على تخصيص الآية، لكن هذا بشرط أن يعلم انتفاء شبهة أخرى تدرأ القطع، لانه لو أتى بسارق سيف فلم يقطعه فلا يتبين لنا سقوط القطع في السيف ولا في الحديد، لكن يبحث عن سببه، فكذلك الثمر وما دون النصاب، وكذلك تركه القنوت والتسمية والتشهد الأول مرة واحدة لا يدل على النسخ، إذ يحمل على نسيان أو على بيان جواز ترك السنة، وإن ترك مرات دل على عدم الوجوب، وكذلك لو ترك الفخذ مكشوفا دل على أنه ليس من العورة. الخامسة: إذا فعل في الصلاة ما لو لم يكن واجبا لافسد الصلاة دل على الوجوب، كزيادة ركوع في الخسوف، وكحمل أمامة في الصلاة يدل على أن الفعل القليل لا يبطل وأنه فعل قليل هذا مع قوله: صلوا كما رأيتموني أصلي يكون بيانا في حقنا. السادسة: إذا أمر الله تعالى بالصلاة وأخذ الجزية والزكاة مجملا ثم أنشأ الصلاة وابتدأ بأخذ الجزية فيظهر كونه بيانا وتنفيذا، لكن إن لم تكن الحاجة متنجزة بحيث يجوز تأخير البيان فلا يتعين لكونه بيانا، بل يحتمل أن يكون فعلا أمر به خاصة في ذلك الوقت، فإذا لا يصير بيانا للحكم العام إلا بقرينة أخرى. السابعة: أخذه مالا ممن فعل فعلا أو إيقاعه به ضربا أو نوع عقوبة، فإنه له خاصة ما لم ينبه على أن من فعل ذلك الفعل فعليه مثل ذلك المال، فإنه لا يمتنع، لانه وإن تقدم ذلك الفعل فلا يتعين لكونه موجب أخذ المال، وأنه لا يمتنع وجود سبب آخر هو المقتضى للمال وللعقوبة أما قضاؤه على من فعل فعلا بعقوبة أو مال كقضائه على الاعرابي بإعتاق رقبة فإنه يدل على أنه موجب ذلك الفعل، لان الراوي لا يقول: قضى على فلان بكذا لما فعل كذا إلا بعد معرفته بالقرينة، فإن قيل: فإذا فعل فعلا وكان بيانا ووقع في زمان ومكان وعلى هيئة فهل يتبع الزمان والمكان والهيئة؟ فيقال: أما الهيئة والكيفية فنعم، وأما الزمان والمكان فهو كتغيم السماء وصحوها، ولا مدخل له في الاحكام إلا أن يكون الزمان والمكان لائقا به بدليل دل عليه كاختصاص الحج بعرفات والبيت، واختصاص الصلوات بأوقات، لانه لو اتبع المكان للزم مراعاة تلك الرواية بعينها، ووجب مراعاة ذلك الوقت، وقد انقضى ولا يمكن إعادته وما بعده من الاوقات ليس مثلا، فيجب إعادة الفعل في الزمان الماضي وهو محال، وقد قال قوم إن تكرر فعله في مكان واحد وزمان واحد دل على الاختصاص وإلا فلا، وهو فاسد لما سبق ذكره، فإن قيل، إن كان فعله بيانا فتقريره على الفعل وسكوته عليه وتركه الانكار واستبشاره بالفعل أو مدحه له، هل يدل على الجواز وهل يكون بيانا؟ قلنا: نعم، سكوته مع المعرفة وتركه الانكار دليل على الجواز إذ لا يجوز له ترك الانكار لو كان حراما، ولا يجوز له الاستبشار بالباطل، فيكون دليلا على الجواز كما نقل في قاعدة القيافة، وإنما تسقط دلالته عند من يحمل ذلك على المعصية، ويجوز عليه الصغيرة، ونحن نعلم إتفاق الصحابة على إنكار ذلك وإحالته، فإن قيل: لعله، منع من الانكار مانع، كعلمه بأنه لم يبلغه التحريم فلذلك فعله، أو بلغه الانكار مرة فلم ينجح فيه فلم يعاوده. قلنا: ليس هذا مانعا لان من لم يبلغه التحريم فيلزمه تبليغه ونهيه حتى لا يعود ومن بلغه، ولم ينجح فيه فيلزمه إعادته وتكراره كيلا يتوهم نسخ التحريم، فإن قيل: فلم لم يجب عليه أن يطوف صبيحة كل سبت وأحد على اليهود والنصارى إذا اجتمعوا في كنائسهم وبيعهم؟ قلنا: لانه علم أنهم مصرون مع تبليغه وعلم الخلق أنه مصر على تكفيرهم دائما، فلم يكن ذلك مما يوهم النسخ، بخلاف فعل يجري بين يديه مرة واحدة أو مرات، فإن السكوت عنه يوهم النسخ. الفصل الثالث في تعارض الفعلين فنقول: معنى التعارض التناقض، فإن وقع في الخبر أوجب كون واحد منهما كذبا، ولذلك لا يجوز التعارض في الاخبار من الله تعالى ورسوله، وإن وقع في الامر والنهي والاحكام فيتناقض فيرفع الاخير الأول ويكون نسخا، وهذا متصور، وإذا عرفت أن التعارض هو التناقض، فلا يتصور التعارض في الفعل، لانه لا بد من فرض الفعلين في زمانين أو في شخصين، فيمكن الجمع بين وجوب أحدهما وتحريم الآخر فلا تعارض، فإن قيل: فالقول أيضا لا يتناقض إذ يوجد القولان في حالتين، وإنما يتناقض حكمهما، فكذلك يتناقض حكم الفعلين، قلنا: إنما يتناقض حكم القولين، لان القول الأول اقتضى حكما دائما، فيقطع القول الثاني دوامه، والفعل لا يدل أصلا على حكم ولا على دوام حكم، نعم: لو أشعرنا الشارع بأنه يريد بمباشرة فعل بيان دوام وجوبه ثم ترك ذلك الفعل بعده كان ذلك نسخا وقطعا لدوام حكم ظهر بالفعل مع تقدم الاشعار، فهذا القدر ممكن، وأما التعارض بين القول والفعل فممكن بأن يقول قولا يوجب على أمته فعلا دائما وأشعرهم بأن حكمه فيه حكمهم ابتداء ونسخا، ثم فعل خلافه أو سكت على خلافه، كان الاخير نسخا، وإن أشكل التاريخ وجب طلبه وإلا فهو متعارض، كما روي أنه قال في السارق: وإن سرق خامسة فاقتلوه ثم أتى بمن سرق خامسة فلم يقتله، فهذا إن تأخر فهو نسخ القول والفعل، وإن تأخر القول فهو نسخ ما دل عليه: الفعل، وقد قال قوم: إذا تعارضا وأشكل التاريخ يقدم القول، لان القول بيان بنفسه بخلاف الفعل، فإن الفعل يتصور أن يخصه، والقول يتعدى إلى غيره، ولان القول يتأكد بالتكرار بخلاف الفعل، فنقول: أما قولكم أن الفعل ليس بيانا بنفسه فمسلم، ولكن كلامنا في فعل صار بيانا لغيره فلا يتأخر عما كان بيانا بنفسه، وأما خصوص الفعل فمسلم أيضا، ولكن كلامنا في فعل لا يمكن حمله على خاصيته، وأما تأكيد القول بالتكرار إن عني به أنه إذا تواتر أفاد العلم، فهذا مسلم إذا توتر من أشخاص، فليس ذلك تكرارا وتكراره من شخص واحد لا أثر له كتكرار الفعل، هذا تمام الكلام في الافعال الملحقة بالاقوال، وبيان ما فيها من البيان والاجمال، ولنشتغل بعدها بالفن الثالث من القطب وهو المرسوم لبيان كيفية دلالة الالفاظ على المدلولات بمعقولها ومعناها، وهو الذي يسمى قياسا فلنخض في شرح كتاب القياس مستعينين بالله عزوجل. |
12-06-2012, 07:59 PM | #57 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفن الثالث في كيفية استثمار الاحكام من الالفاظ والاقتباس من معقول الالفاظ بطريق القياس ويشتمل على مقدمتين وأربعة أبواب الأول: في إثبات أصل القياس على منكريه. الثاني: في طريق إثبات العلة. الثالث: في قياس الشبه. الرابع: في أركان القياس، وهي أربعة: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم، وبيان شروط كل ركن من هذه الاركان. مقدمة في حد القياس وحده أنه جمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما، ثم إن كان الجامع موجبا للاجتماع على الحكم كان قياسا صحيحا، وإلا كان فاسدا، واسم القياس يشتمل على الصحيح والفاسد في اللغة، ولا بد في كل قياس من فرع وأصل وعلة وحكم، وليس من شرط الفرع والأصل كونهما موجودين، بل ربما يستدل بالنفي على النفي، فلذلك لم نقل حمل شئ، لان المعدوم ليس بشئ عندنا، وأبدلنا لفظ الشئ بالمعلوم ولم نقل حمل فرع على أصل، لانه ربما ينبو هذا اللفظ عن المعدوم، وإن كان لا يبعد إطلاق هذا الاسم عليه بتأويل ما، والحكم يجوز أن يكون نفيا ويجوز أن يكون إثباتا، والنفي كانتفاء الضمان والتكليف، والانتفاء أيضا يجوز أن يكون علة، فلذلك أدرجنا الجميع في الحد، ودليل صحة هذا الحد إطراده وانعكاسه، أما قول من قال في حد القياس أنه الدليل الموصل إلى الحق أو العلم الواقع بالمعلوم عن نظر أو رد غائب إلى شاهد، فبعض هذا أعم من القياس وبعضه أخص، ولا حاجة إلى الاطناب في إبطاله، وأبعد منه إطلاق الفلاسفة اسمه على تركيب مقدمتين يحصل منهما نتيجة، كقول القائل: كل مسكر حرام، وكل نبيذ مسكر، فيلزم منه أن كل نبيذ حرام، فإن لزوم هذه النتيحه من المقدمتين لا ننكره، لكن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بنوع من المساواة، إذ تقول العرب: لا يقاس فلان إلى فلان في عقله ونسبه وفلان يقاس إلى فلان، فهو عبارة عن معنى إضافي بين شيئين، وقال بعض الفقهاء: القياس هو الاجتهاد، وهو خطأ، لان الاجتهاد أعم من القياس، لانه قد يكون بالنظر في العمومات ودقائق الالفاظ وسائر طرق الأدلة سوى القياس، ثم أنه لا ينبئ في عرف العلماء إلا عن بذل المجتهد وسعه في طلب الحكم، ولا يطلق إلا على من يجهد نفسه ويستفرغ الوسع، فمن حمل خردلة لا يقال اجتهد، ولا ينبئ هذا عن خصوص معنى القياس، بل عن الجهد الذي هو حال القياس فقط. مقدمة أخرى في حصر مجاري الاجتهاد في العلل اعلم أنا نعني بالعلة في الشرعيات مناط الحكم، أي ما أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به ونصبه علامة عليه، والاجتهاد في العلة إما أن يكون في تحقيق مناط الحكم أو في تنقيح مناط الحكم أو في تخريج مناط الحكم واستنباطه. أما الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم: فلا نعرف خلافا بين الامة في جوازه مثاله الاجتهاد في تعيين الامام بالاجتهاد مع قدرة الشارع في الامام الأول على النص، وكذا تعيين الولاة والقضاة، وكذلك في تقدير المقدرات وتقدير الكفايات في نفقة القرابات، وإيجاب المثل في قيم المتلفات، وأروش الجنايات، وطلب المثل في جزاء الصيد، فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية، وذلك معلوم النص، أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بالاجتهاد والتخمين، وينتظم هذا الاجتهاد بأصلين. أحدهما: أنه لا بد من الكفاية. والثاني: أن الرطل قدر الكفاية فيلزم منه أنه الواجب على القريب، أما الأصل الأول فمعلوم بالنص والإجماع، وأما الثاني فمعلوم بالظن، وكذلك نقول يجب في حمار الوحش بقرة، لقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} (المائدة: 59) فنقول: المثل واجب، والبقرة مثل، فإذا هي الواجب، والأول معلوم بالنص وهي المثلية التي هي مناط الحكم، أما تحقق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من المقايسة والاجتهاد، وكذلك من أتلف فرسا فعليه ضمانه، والضمان هو المثل في القيمة، أما كونه مائة درهم مثلا في القيمة فإنما يعرف بالاجتهاد، ومن هذا القبيل الاجتهاد في القبلة وليس ذلك من القياس في شئ بل الواجب استقبال جهة القبلة وهو معلوم بالنص، أما أن هذه جهة القبلة فإنه يعلم بالاجتهاد والامارات الموجبة للظن عند تعذر اليقين، وكذلك حكم القاضي بقول الشهود ظني لكن الحكم بالصدق واجب، وهو معلوم بالنص، وقول العدل صدق معلوم بالظن وأمارات العدالة، والعدالة لا تعلم إلا بالظن فلنعبر عن هذا الجنس بتحقيق مناط الحكم، لان المناط معلوم، بنص أو إجماع لا حاجة إلى استنباطه، لكن تعذرت معرفته باليقين فاستدل عليه بإمارات ظنية، وهذا لا خلاف فيه بين الامة، وهو نوع اجتهاد، والقياس مختلف فيه، فكيف يكون هذا قياسا وكيف يكون مختلفا فيه، وهو ضرورة كل شريعة، لان التنصيص على عدالة الاشخاص وقدر كفاية كل شخص محال، فمن ينكر القياس ينكره حيث يمكن التعريف للحكم بالنص المحيط بمجاري الحكم. الاجتهاد الثاني: في تنقيح مناط الحكم: وهذا أيضا يقربه أكثر منكري القياس، مثاله: أن يضيف الشارع الحكم إلى سبب وينوطه به وتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الاضافة، فيجب حذفها عن درجة الاعتبار حتى يتسع الحكم، مثاله: إيجاب العتق على الاعرابي حيث أفطر في رمضان بالوقاع مع أهله، فإنا نلحق به أعرابيا آخر بقوله عليه السلام: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة أو بالإجماع على أن التكليف يعم الاشخاص، ولكنا نلحق التركي والعجمي به، لانا نعلم أن مناط الحكم وقاع مكلف لا وقاع أعرابي، ونلحق به من أفطر في رمضان آخر، لانا نعلم أن المناط هتك حرمة رمضان لا حرمة ذلك الرمضان، بل نلحق به يوما آخر من ذلك الرمضان، ولو وطئ أمته أوجبنا عليه الكفارة، لانا نعلم أن كون الموطوءة منكوحة لا مدخل له في هذا الحكم بل يلحق به الزنا، لانه أشد في هتك الحرمة، إلا أن هذه إلحاقات معلومة تنبئ على تنقيح مناط الحكم بحذف ما علم بعادة الشرع في موارده ومصادره في أحكامه أنه لا مدخل له في التأثير، وقد يكون حذف بعض الاوصاف مظنونا فينقدح الخلاف فيه، كإيجاب الكفارة بالاكل والشرب إذ يمكن أن يقال: مناط الكفارة كونه مفسدا للصوم المحترم والجماع آلة الافساد، كما أن مناط القصاص في القتل بالسيف كونه مزهقا روحا محترمة، والسيف آلة فيلحق به السكين والرمح والمثقل، فكذلك الطعام والشراب آلة، ويمكن أن يقال: الجماع مما لا تنزجر النفس عنه عند هيجان شهوته لمجرد وازع الدين، فيحتاج فيه إلى كفارة وازعة، بخلاف الاكل، وهذا محتمل، والمقصود أن هذا تنقيح المناط بعد أن عرف المناط بالنص لا بالاستنباط، ولذلك أقر به أكثر منكري القياس، بل قال أبو حنيفة رحمه الله: لا قياس في الكفارات وأثبت هذا النمط من التصرف وسماه استدلالا، فمن جحد هذا الجنس من منكري القياس وأصحاب الظاهر لم يخف فساد كلامه. الاجتهاد الثالث في تخريج مناط الحكم واستنباطه مثاله: أن يحكم بتحريم في محل ولا يذكر إلا الحكم والمحل، ولا يتعرض لمناط الحكم وعلته، كتحريم شرب الخمر والربا في البر، فنحن نستنبط المناط بالرأي والنظر فنقول: حرمه لكونه مسكرا، وهو العلة، ونقيس عليه النبيذ، وحرم الربا في البر لكونه مطعوما ونقيس عليه الارز والزبيب، ويوجب العشر في البر فنقول: أوجبه لكونه قوتا. فنلحق به الاقوات، أو لكونه نبات الارض وفائدتها، فنلحق به الخضراوات وأنواع النبات، فهذا هو الاجتهاد القياسي الذي عظم الخلاف فيه وأنكره أهل الظاهر وطائفة من معتزلة بغداد وجميع الشيعة، والعلة المستنبطة أيضا عندنا لا يجوز التحكم بها بل قد تعلم بالايماء وإشارة النص فتلحق بالمنصوص وقد تعلم بالسير حيث يقوم دليل على وجوب التعليل، وتنحصر الاقسام في ثلاثة مثلا، ويبطل قسمان فيتعين الثالث، فتكون العلة ثابتة بنوع من الاستدلال، فلا تفارق تحقيق المناط وتنقيح المناط، وقد يقوم الدليل على كون الوصف المستنبط مؤثرا بالإجماع فيلحق به ما لا يفارقه إلا فيما لا مدخل له في التأثير، كقولنا الصغير يولي عليه في ماله لصغره، فيلحق بالمال البضع، إذ ثبت بالإجماع تأثير الصغر في جلب الحكم، ولا يفارق البضع المال في معنى مؤثر في الحكم، فكل ذلك استدلال قريب من القسمين الأولين، والقسم الأول متفق عليه، والثاني مسلم من الاكثرين. هذا شرح المقدمتين ولنشرع الآن في الابواب.
|
12-06-2012, 08:00 PM | #58 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الباب الأول في إثبات القياس على منكريه وقد قالت الشيعة وبعض المعتزلة: يستحيل التعبد بالقياس عقلا، وقال قوم في مقابلتهم: يجب التعبد به عقلا، وقال قوم: لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ولكنه في مظنة الجواز، ثم اختلفوا في وقوعه، فأنكر أهل الظاهر وقوعه، بل ادعوا حظر الشرع له والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم رحمهم الله وقوع التعبد به شرعا، ففرق المبطلة له ثلاث: المحيل له عقلا، والموجب له عقلا والحاظر له شرعا، فنفرض على كل فريق مسألة، ونبطل عليهم خيالهم ونقول للمحيل للتعبد به عقلا: بم عرفت إحالته، بضرورة أو نظر؟ ولا سبيل إلى دعوى شئ من ذلك ولهم مسالك. الأول: قولهم كلما نصب الله تعالى دليلا قاطعا، على معرفته فلا نحيل التعبد به، إنما نحيل التعبد بما لا سبيل إلى معرفته، لان رحم الظن جهل، ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه، ويحكموا بما لا يتحققون أنه حكم الله، بل يجوز أنه نقيض حكم الله تعالى فهذا أصلان: أحدهما: أن الصلاح واجب على الله تعالى. والثاني: أنه لا صلاح في التعبد بالقياس، ففي أيهما النزاع؟. والجواب: إننا ننازعكم في الأصلين جميعا، أما إيجاب صلاح العباد على الله تعالى فقد أبطلناه، فلا نسلم، وإن سلمنا فقد جوز التعبد بالقياس، بعض من أوجب الصلاح، وقال: لعل الله تعالى علم لطفا بعباده في الرد إلى القياس لتحمل كلفة الاجتهاد وكد القلب والعقل في الاستنباط لنيل الخيرات الجزيلة: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة: 11) وتجشم القلب بالفكر لا يتقاعد عن تجشم البدن بالعبادات، فإن قيل: كان الشارع قادرا على أن يكفيهم بالتنصيص كلمات الظن، وذلك أصلح، قلنا: من أوجب الصلاح لا يوجب الأصلح، ثم لعل الله تعالى علم من عباده أنه لو نص على جميع التكاليف لبقوا وعصوا، وإذا فرض إلى رأيهم انبعث حرصهم لاتباع اجتهادهم وظنونهم، ثم نقول: أليس قد أقحمهم ورطة الجهل في الحكم بقول الشاهدين والاستدلال على القبلة وتقدير المثل والكفايات في النفاقات والجنايات وكل ذلك ظن وتخمين، فإن قيل: ما تعبد القاضي بصدق الشاهدين فإن ذلك لا يقدر عليه، بل أوجب الحكم عليه عند ظن الصدق، وأوجب داستقبال جهة يظن أن القبلة فيها لا استقبال القبلة، قلنا: وكذلك تعبد المجتهد بأن يحكم بشهادة الأصل للفرع إذا غلب على ظنه دلالته عليه وشهادته له، ولا تكليف عليه في تحقيق تلك الشهادة، بل هو مكلف بظنه، وإن فسدت الشهادة كما كلف الحاكم الحكم بظنه، وإن كان كذب الشهود ممكنا ولا فرق، ولذلك نقول: كل مجتهد مصيب، والخطأ محال إذ يستحيل أن يكلف إصابة ما لم ينصب عليه دليل قاطع وما ذكروه إنما يشكل على من يقول المصيب واحد، وتحقيقه أنه لو قال الشارع: حرمت كل مسكر، أو حرمت الخمر لكونه مسكرا، لم يكن التعبد به ممتنعا، فلو قال: متى حرمت الربا في البر فأسيروا حاله، وقسموا صفاته، فإن غلب على ظنكم بإمارة أني حرمته لكونه قوتا، وحرمت الخمر لكونه مسكرا، فقد حرمت عليكم كل قوت وكل مسكر، ومن غلب على ظنه أني حرمته لكونه مكيلا فقد حرمت عليه كل مكيل، لم يكن بين هذا وبين قوله إذا اشتبهت عليكم القبلة، فكل جهة غلب على ظنكم أن القبلة فيها فاستقبلوها فرق حتى لو غلب جهتان على ظن رجلين فيكون كل واحد مصيبا، وكما لم يمتنع أن يلحق ظن القبلة بمشاهدتها، وظن صدق العدل بتحقيق صدق الرسول المؤيد بالمعجزة وصدق الراوي الواحد بتحقيق صدق التواتر، فكذلك لا يمتنع أن يلحق ظن ارتباط الحكم بمناط بتحقيق ارتباطه به بالنص الصريح، فإن قيل: فأي مصلحة في تحريم الربا في البر لكونه مكيلا أو قوتا أو مطعوما قلنا: ومن أوجب الأصلح لم يشترط كون المصلحة مكشوفة للعباد، وأي مصلحة في تقدير المغرب ثلاث ركعات والصبح بركعتين، وفي تقدير الحدود والكفارات ونصب الزكوات بمقادير مختلفة لكن علم الله تعالى في التعبد لطفا استأثر بعلمه يقرب العباد بسببه من الطاعة، ويبعدون به عن المعصية وأسباب الشقاوة، حتى لو أضاف الحكم إلى اسم مجرد ثبت واعتقدنا فيه لطفا ندركه فكيف لا يتصور ذلك في الاوصاف؟ الشبهة الثانية: قولهم لا يستقيم قياس إلا بعلة، والعلة ما توجب الحكم لذاتها، وعلل الشرع ليست كذلك، فكيف يستقيم التعليل مع أن ما نصب علة للتحريم يجوز أن يكون علة للتحليل؟ قلنا: لا معنى لعلة الحكم إلا علامة منصوبة على الحكم، ويجوز أن ينصب الشرع السكر علامة لتحريم الخمر ويقول: اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر، ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضا، ويجوز أن يقول: من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر حتى يختلف المجتهدون في هذه الظنون، وكلهم مصيبون. الشبهة الثالثة: قولهم حكم الله تعالى خبره، ويعرف ذلك بتوقيف، فإذا لم يخبر الله عن حكم الزبيب فكيف يقال: حكم الله في الزبيب التحريم والنص، لم ينطق إلا بالاشياء الستة، قلنا: إذا قال الله تعالى: قد تعبدتكم بالقياس فإذا ظننتم أني حرمت الربا في البر لكونه مطعوما فقيسوا عليه كل مطعوم، فيكون هذا خبرا عن حكم الزبيب، وما لم يقم دليل على التعبد بالقياس لا يجوز القياس عندنا فالقياس عندنا حكم بالتوقيف المحض كما قررناه في كتاب أساس القياس، لكن هذا النص بعينه وإن لم يرد فقد دل إجماع الصحابة على القياس، على أنهم ما فعلوا ذلك إلا وقد فهموا من الشارع هذا المعنى بألفاظ وقرائن وإن لم ينقلوها إلينا. الشبهة الرابعة: قولهم إذا اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات أو ميتة بعشر مذكيات لم يجز مد اليد إلى واحدة، وإن وجدت علامات لامكان الخطأ والخطأ ممكن في كل اجتهاد وقياس، فكيف يجوز الهجوم مع إمكان الخطأ، ولا يلزم هذا على الاجتهاد في القبلة، وعدالة الشاهد والقاضي والامام ومتولي الاوقاف لمعنيين. أحدهما: أن ذلك حكم في الاشخاص والاعيان ولا نهاية لها، ولا يمكن تعريفها بالنص. والثاني: أن الخطأ فيه غير ممكن، لانهم متعبدون بظنونهم لا بصدق الشهود، قلنا: وكذلك نحن نعترف بأنه لا خلاص عن هذا الاشكال إلا بتصويب كل مجتهد، وأن المجتهد وإن خالف النص فهو مصيب إذ لم يكلف إلا بما بلغه، فالخطأ غير ممكن في حقه، أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فيلزمه هذا الاشكال، وأما اختلاط الرضيعة بأجنبيات فلسنا نسلم أن المانع مجرد، إمكان الخطأ، فإنه لو شك في رضاع امرأة حل له نكاحها، والخطأ ممكن، لكن الشرع إنما أباح نكاح امرأة يعلم أنها أجنبية بيقين، وحكم أن اليقين لا يندفع بالشك الطارئ، أما إذا تعارض يقينان وهو يقين التحريم والتحليل، فليس ذلك في معنى اليقين الصافي عن المعارضة، ولا في معنى اليقين الذي لم يعارضه إلا الشك المجرد فلم يلحق به اتباعا لموجب الدليل، ولو ورد الشرع بالرخصة فيه لم يكن ذلك ممتنعا.
مسألة (القائلين بوجوب القياس عقلا) الذين ذهبوا إلى أن التعبد بالقياس واجب عقلا متحكمون فمطالبون بالدليل ولهم شبهتان: الأولى: أن الانبياء مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة، والصور لا نهاية لها فكيف تحيط النصوص بها، فيجب ردهم إلى الاجتهاد ضرورة، فنقول: هذا فاسد لان الحكم في الاشخاص التي ليست متناهية، إنما يتم بمقدمتين كلية، كقولنا: كل مطعوم ربوي، وجزئية كقولنا: هذا النبات مطعوم، أو الزعفران مطعوم، وكقولنا: كل مسكر حرام وهذا الشراب بعينه مسكر، وكل عدل مصدق، وزيد عدل، وكل زان مرجوم، وماعز قد زنى فهو إذا مرجوم، والمقدمة الجزئية هي التي لا تتناهى مجاريها فيضطر فيها إلى الاجتهاد لا محالة، وهو اجتهاد في تحقيق مناط الحكم، وليس ذلك بقياس، أما المقدمة الكلية فتشتمل على مناط الحكم وروابطه، وذلك يمكن التنصيص عليه بالروابط الكلية، كقوله: كل مطعوم ربوي، بدلا عن قوله: لا تبيعوا البر بالبر، وكقوله: كل مسكر حرام، بدلا عن قوله: حرمت الخمر، وإذا أتى بهذه الالفاظ العامة وقع الاستغناء عن استنباط مناط الحكم واستغنى عن القياس، هذا مع أنه يمكن منازعة هذا القائل بأنه لم يجب استيعاب جميع الصور بالحكم ولم يستحيل خلو بعضها عن الحكم فإنه في المقدمة الجزئية أيضا يمكن أن يراد فيه إلى اليقين فيقال: من تيقنتم صدقة، وما تيقنتم كونه مطعوما أو مسكرا فاحكموا به، وما لم تتيقنوا به فاتركوه على حكم الأصل، إلا أن هذا لا يجري في جميع الجزئيات، لانه لا سبيل إلى تيقين صدق الشهود وعدالة القضاة والولاة، ولا سبيل إلى تقدير متيقن في كفاية الاقارب وأروش المتلفات، فإن التكثير فيه إلى حصول اليقين ربما يضر بجانب الموجب عليه كما يضر التقليل بجانب الموجب له، فالاجتهاد في تحقيق مناط الحكم ضرورة، أما في تخريج المناط وتنقيح المناط فلا. الثانية: قولهم إن العقل كما دل على العلل العقلية دل على العلل الشرعية، فإنها تدرك بالعقل، ومناسبة الحكم مناسبة عقلية مصلحة يتقاضى العقل ورود الشرع بها، وهذا فاسد، لان القياس إنما يتصور لخصوص النص ببعض مجاري الحكم، وكل حكم قدر خصوصه، فتعميمه ممكن، فلو عم لم يبق للقياس مجال، وما ذكروه من قياس العلة الشرعية بالعلة العقلية خطأ، لان من العلل ما لا يناسب، وما تناسب لا توجب الحكم لذاتها، بل يجوز أ يتخلف الحكم عنها فيجوز أن لا يحرم المسكر وأن لا يوجب الحد بالزنا والسرقة، وكذا سائر العلل والاسباب. مسألة (الرد على منكري الاجتهاد) في الرد على من حسم سبيل الاجتهاد بالظن، ولم يجوز الحكم في الشرع إلا بدليل قاطع، كالنص وما يجري مجراه، فأما الحكم بالرأي والاجتهاد فمنعوه وزعموا أنه لا دليل عليه، وإنما الرد عليهم بإظهار الدليل، وما عندي أن أحدا ينازع في الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم، فلا تصرف الزكاة إلا إلى فقير ويعلم فقره بأمارة ظنية، ولا يحكم إلا بقول عدل، وتعرف عدالته بالظن، وكذلك الاجتهاد في الوقت والقبلة وأروش الجنايات وكفاية القريب، وإن اعتذروا عن جميع ذلك بأن كل عبد مأمور باتباع ظنه في ذلك موجود قطعا، والحكم عند الظن واجب قطعا، فنحن كذلك نقول في سائر الاجتهادات، وإن اعتذروا عن ذلك بأن ذلك ضرورة، فإنما نزاعنا في معرفة مناط الاحكام بالرأي والاجتهاد، فيستدل على ذلك بإجماع الصحابة على الحكم بالرأي والاجتهاد في كل واقعة وقعت لهم ولم يجدوا فيها نصا، وهذا مما تواتر إلينا عنهم تواترا لا شك فيه، فننقل من ذلك بعضه وإن لم يمكن نقل الجميع، فمن ذلك حكم الصحابة بإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالاجتهاد مع انتفاء النص، ونعلم قطعا بطلان دعوى النص عليه وعلى علي وعلى العباس، إذ لو كان لنقل ولتمسك به المنصوص عليه ولم يبق للمشورة مجال حتى ألقى عمر رضي الله عنه الشورى بين ستة وفيهم علي رضي الله عنه، فلو كان منصوصا عليه وقد استصلحه له فلم تردد بينه وبين غيره، ومن ذلك قياسهم العهد على العقد، إذ ورد في الاخبار عقد الامامة بالبيعة، ولم ينص على واحد، وأبو بكر عهد إلى عمر خاصة ولم يرد فيه نص، ولكن قاسوا تعيين الامام على تعيين الامة لعقد البيعة، فكتب أبو بكر: هذا ما عهد أبو بكر، ولم يعترض عليه أحد، ومن ذلك رجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر ورأيه في قتال ما نعى الزكاة، حتى قال عمر: فكيف تقاتلهم؟ وقد قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فقال أبو بكر: ألم يقل إلا بحقها؟ فمن حقها إيتاء الزكاة، كما أن من حقها إقام الصلاة، فلا أفرق بين ما جمع الله، والله لو منعوني عقالا مما أعطوا النبي عليه السلام؟ لقاتلتهم عليه، وبنو حنيفة الممتنعون من الزكاة جاؤوا إلى أبي بكر رضي الله عنه متمسكين بدليل أصحاب الظاهر في اتباع النص وقالوا: إنما أمر النبي عليه السلام بأخذ الصدقات، لان صلاته كانت سكنا لنا، وصلاتك ليست بسكن لنا، إذ قال الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} (التوبة: 301) فأوجبوا تخصيص الحكم بمحل النص، وقاس أبو بكر والصحابة خليفة الرسول على الرسول، إذ الرسول إنما كان يأخذ للفقراء لا لحق نفسه والخليفة نائب في استيفاء الحقوق، ومن ذلك ما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد بعد طول التوقف فيه، ككتب المصحف، وجمع القرآن بين الدفتين، فاقترح عمر ذلك أولا على أبي بكر فقال: كيف أفعل ما لم يفعله النبي عليه السلام؟ حتى شرح الله له صدر أبي بكر، وكذلك جمعه عثمان على ترتيب واحد بعد أن كثرت المصاحف مختلفة الترتيب، ومن ذلك إجماعهم على الاجتهاد في مسألة الجد والاخوة على وجوه مختلفة، مع قطعهم بأنه لا نص في المسألة التي قد أجمعوا على الاجتهاد فيها، وننقل الآن من أخبارهم ما يدل على قولهم بالرأي: فمن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، الكلالة ما عدا الوالد والولد، ومن ذلك أنه ورث أم الام دون أم الاب، فقال له بعض الانصار: لقد ورثت امرأة من ميت، لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت، فرجع إلى الاشتراك بينهما في السدس. ومن ذلك حكمه بالرأي في التسوية في العطاء، فقال عمر: لا نجعل من ترك دياره وأمواله مهاجرا إلى النبي عليه السلام كمن دخل في الاسلام كرها فقال أبو بكر: إنما أسلموا الله وأجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ. ولما انتهت الخلافة إلى عمر فرق بينهم ووزع على تفاوت درجاتهم، واجتهاد أبي بكر أن العطاء إذا لم يكن جزاء على طاعتهم لم يختلف باختلافها، واجتهاد عمر أنه لولا الاسلام لما استحقوها، فيجوز أن يختلفوا، وأن يجعل معيشة العالم أوسع من معيشة الجاهل، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه أقضي في الجد برأيي وأقول فيه برأيي، وقضى بآراء مختلفة، وقوله: من أحب أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض في الجد برأيه، أي الرأي العاري عن الحجة، وقال لما سمع الحديث في الجنين: لولا هذا لقضينا فيه برأينا، ولما قيل في مسألة المشتركة: هب أن أبانا كان حمارا، ألسنا من أم واحدة؟ أشرك بينهم بهذا الرأي. ومن ذلك أنه قيل لعمر: إن سمرة أخذ من تجار اليهود الخمر في العشور وخللها وباعها، فقال: قاتل الله سمرة، أما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها فقاس عمر الخمر على الشحم، وأن تحريمها تحريم لثمنها. وكذلك جلد أبا بكرة، لما لم يكمل نصاب الشهادة مع أنه جاء شاهدا في مجلس الحكم لا قاذفا لكنه قاسه على القاذف، وقال علي رضي الله عنه اجتماع رأيي ورأي عمر في أم الولد أن لا تباع، ورأيت الآن بيعهن، فهو تصريح بالقول بالرأي. وكذلك عهد عمر إلى أبي موسى الاشعري: أعرف الاشباه والامثال، ثم قس الامور برأيك، ومن ذلك قول عثمان لعمر رضي الله عنهما في بعض الاحكام إن اتبعت رأيك فرأيك أسد، وإن تتبع رأي من قبلك فنعم الرأي كان فلو كان في المسألة دليل قاطع لما صوبهما جمعا. وقال عثمان وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الاختين: المملوكتين: أحلتهما آية وحرمتهما آية، وقضى عثمان بتوريث المبتوتة بالرأي. ومن ذلك قول علي رضي الله عنه في حد الشرب، من شرب هذي ومن هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري، وهو قياس للشرب على القذف، لانه مظنة القذف التفاتا إلى أن الشرع قد ينزل مظنة الشئ منزلته، كما أنزل النوم منزلة الحدث والوطئ في إيجاب العدة منزلة حقيقة شغل الرحم ونظائره، ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا. وكان ابن مسعود يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول: الامر في القضاء بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين فإن لم يكن شئ من ذلك فاجتهد رأيك. ومن ذلك قول معاذ بن جبل للنبي صلى الله عليه وسلم: أجتهد رأيي عند فقد الكتاب والسنة فزكاة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك قول ابن عباس لمن قضى بتفاوت الدية في الاسنان لاختلاف منافعها، كيف لم يعتبروا بالاصابع وقال في العول: من شاء باهلته الحديث، ولما سمع نهيه عن بيع الطعام قبل أن يقبض قال: لا أحسب كل شئ إلا مثله، وقال في المتطوع: إذا بدا له الافطار أنه كالمتبرع أراد التصدق بمال فتصدق ببعضه ثم بدا له. ومن ذلك قول زيد في الفرائض والحجب وميراث الجد، ولما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين قال ابن عباس: أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال زيد: أقول برأيي وتقول برأيك، فهذا وأمثاله مما لا يدخل تحت الحصر مشهور، وما من مفت إلا وقد قال بالرأي ومن لم يقل فلانه أغناه غيره عن الاجتهاد ولم يعترض عليهم في الرأي فانقعد اجماع قاطع على جواز القول بالرأي. وجه الاستدلال: أنه في هذه المسائل التي اختلفوا واجتهدوا فيها، فلا يخلوا إما أن يكون فيها دليل قاطع لله على حكم معين أو لم يكن، فإن لم يكن وقد حكموا بما ليس بقاطع فقد ثبت الاجتهاد، وإن كان فمحال، إذ كان يجب على من عرف الدليل القاطع أن لا يكتمه، ولو أظهره وكان قاطعا لما خالفه أحد، ولو خالفه لوجب تفسيقه وتأثيمه ونسبته إلى البدعة والضلال ولوجب منعه من الفتوى ومنع العامة من تقليده، هذا أقل ما يجب فيه إن لم يجب قتله، وقد قال به قوم، وإن كنا لا نراه، وعلى الجملة: فلو كان فيها دليل قاطع لكان المخالف فاسقا، وكان المحق بالسكوت عن المخالف، وترك دعوته إلى الحق فاسقا، فيعم الفسق جميع الصحابة بل يعم العباد جميعهم، وليس هذا كالعقليات، فإن أدلتها غامضة قد لا يدركها بعض الخلق فلا يكون معاندا، أما القاطع الشرعي فهو نص ظاهر، وقد قال أهل الظاهر: إنما يحكم بنص منطوق به أو بدليل ظاهر فيما ليس منطوقا به لا يحتمل التأويل، كقوله تعالى: {وورثه أبواه فلامه الثلث} (النساء: 11) فمعقول هذا أن لابيه الثلثين، وقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} (الجمعة: 9) فمعقولة تحريم التجارة والجلوس في البيت، وقوله: {ولا تظلمون فتيلا} (النساء: 77) و {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} (الزلزلة: 7) و {فلا تقل لهما أف} (الاسراء: 32) فلم يرخص في الحكم في المسكوت عنه إلا في هذا الجنس، ولا يخفى هذا على عامي، فكيف خفي على الصحابة رضي الله عنهم مع جلالة قدرهم حتى نشأ الخلاف بينهم في المسائل، هذا تمهيد الدليل وتمامه بدفع الاعتراضات، وقد يعترض الخصم عليه تارة بإنكار كون الإجماع حجة، وهو قول النظام، وقد فرغنا من إثباته، وتارة بإنكار تمام الإجماع في القياس، من حيث أن ما ذكرناه منقول عن بعضهم، وليس للباقين إلا السكوت، وقد نقلوا عن بعضهم إنكار الرأي، وتارة يسلمون السكوت، لكن حملوه على المجاملة في ترك الاعتراض، لا على الموافقة في الرأي، وتارة يقرون بالإجماع، ولا يكترثون بتفسيق الصحابة، وتارة يردون رأيهم إلى العمومات، ومقتضى الالفاظ وتحقيق مناط الحكم دون القيا س، فهذه مدارك اعتراضتهم وهي خمسة. الاعتراض الأول: قال الجاحظ حكاية عن النظا: إن الصحابة لو لزموا العمل بما أمروا به ولم يتكلفوا ما كفوا القول فيه من أعمال الرأي والقياس لم يقع بينهم التهارج والخلاف، ولم يسفكوا الدماء، لكن لما عدلوا عما كلفوا وتخيروا وتآمروا وتكلفوا القول بالرأي جعلوا الخلاف طريقا، وتورطوا فيما كان بينهم من القتل والقتال، وكذلك الرافضة بأسرهم زعموا أن السلف بأسرهم تآمروا وغصبوا الحق أهله وعدلوا عن طاعة الامام المعصوم المحيط بجميع النصوص المحيطة بالاحكام إلى القيامة، فتورطوا فيما شجر بينهم من الخلاف، وهذا اعتراض من عجز عن إنكار اتفاقهم على الرأي، ففسق وضل ونسبهم إلى الصلال ويدل على فساد قوله ما دل على أن الامة لا تجتمع على الخطأ، وما دل على منصب الصحابة رضوان الله عليهم من ثناء القرآن والاخبار عليهم، كما تتركز في كتاب الامامة وكيف يعتقد العاقل القدح فمن أثنى الله ورسوله عليهم بقول مبتدع مثل النظام؟ الاعتراض الثاني: قولهم لا يصح الرأي والقياس إلا من بعضهم وكذلك السكوت لا يصح إلا من بعضهم، فإن فيهم من لم يخض في القياس، وفيهم من لم يسكت عن الاعتراض، قال النظام فيما حكاه الجاحظ عنه إنه لم يخض في القياس إلا نفر يسير من قدمائهم، كأبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ونفر يسير من أحداثهم، كابن مسعود وابن عباس وابن الزبير، ثم شرع في ثلب العبادلة وقال: كأنهم كانوا أعرف بأحوال النبي عليه السلام من آبائهم، وأثنى على العباس والزبير، إذ تركا القول بالرأي ولم يشرعا، وقال الداودية: لا نسلم سكوت جميعهم عن إنكار الرأي والتخطئة فيه، إذ قال أبو بكر: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي، وقال: أقول في الكلالة برأيي، فإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، وقال علي لعمر رضي الله عنهما في قصة الجنين: إن اجتهدوا فقد أخطأوا، وإن لم يجتهدوا فقد غشوا، وقالت عائشة رضي الله عنها: أخبروا زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب لفتواه بالرأي في مسألة العينة. وقال ابن عباس: من شاء باهلته إن الله لم يجعل في المال النصف والثلثين، وقال: ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الاب أبا، وقال ابن مسعود في مسألة المفوضة: إن يك خطأ فمني ومن الشيطان، وقال عمر: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الاحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. وقال علي وعثمان رضي الله عنهما: لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره، وقال عمر رضي الله عنه: اتهموا الرأي على الدين، فإن الرأي منا تكلف وظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وقال أيضا: إن قوما يفتون بآرائهم، ولو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون، وقال ابن مسعود: قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون ما لم يكن بما كان، وقال أيضا: إن حكمتم في دينكم بالرأي أحللتم كثيرا مما حرمه الله، وحرمتم كثيرا مما أحله الله، وقال ابن عباس: إن الله لم يجعل لاحد أن يحكم في دينه برأيه، وقال الله تعالى لنبيه عليه السلام: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} (النساء: 501) ولم يقل: بما رأيت، وقال: إياكم والمقاييس، فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس. وقال ابن عمر: ذروني من أرأيت وأرأيت، وكذلك أنكر التابعون القياس. قال الشعبي: ما أخبروك عن أصحاب أحمد فأقبله، وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الجش أن السنة لم توضع بالمقاييس، وقال مسروق بن الاجدع: لا أقيس شيئا بشئ أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها والجواب من أوجه: الأول: أنا بينا بالقواطع من جميع الصحابة الاجتهاد والقول بالرأي والسكوت عن القائلين به، وثبت ذلك بالتواتر في وقائع مشهورة، كميراث الجد والاخوة وتعيين الامام بالبيعة، وجمع المصحف، والعهد إلى عمر الخلافة وما لم يتواتر كذلك فقد صح من آحاد الوقائع بروايات صحيحة لا ينكرها أحد من الامة ما أورث علما ضروريا بقولهم بالرأي، وعرف ذلك ضرورة كما عرف سخاء حاتم وشجاعة علي، فجاوز الامر حدا يمكن التشكك في حكمهم بالاجتهاد، وما نقلوه بخلافه، فأكثرها مقاطيع ومروية عن غير ثبت، وهي بعينها معارضة برواية صحيحة عن صاحبها بنقيضه، فكيف يترك المعلوم ضرورة بما ليس مثله، ولو تساوت في الصحة لوجب إطراح جميعها والرجوع إلى ما تواتر من مشاورة الصحابة واجتهادهم. الثاني: أنه لو صحت هذه الروايات وتواترت أيضا لوجب الجمع بينها وبين المشهور من اجتهاداتهم، فيحمل ما أنكروه على الرأي المخالف للنص أو الرأي الصادر عن الجهل الذي يصدر ممن ليس أهلا للاجتهاد، أو وضع الرأي في غير محله والرأي الفاسد الذي لا يشهد له أصل ويرجع إلى محض الاستحسان ووضع الشرع ابتداء من غير نسخ على منوال سابق، وفي ألفاظ روايتهم ما يدل عليه إذ قال اتخذ الناس رؤساء جهالا، وقال: لو قالوا بالرأي لحرموا الحلال وأحلوا الحرام، فإذا القائلون بالقياس مقرون بإبطال أنواع من الرأي والقياس والمنكرون للقياس: لا يقرون بصحة شئ منه أصلا، ونحن نقر بفساد أنواع من الرأي والقياس، كقياس أصحاب الظاهر، إذا قالوا: الاصول لا تثبت قياسا فلتكن الفروع كذلك، ولا تثبت الاصول بالظن فكذلك الفروع، وقالوا: لو كان في الشريعة علة لكانت كالعلة العقلية، فقاسوا الشئ بما لا يشبهه، فإذا إن بطل كل قياس فليبطل قياسهم ورأيهم في إبطال القياس أيضا، وذلك يؤدي إلى إبطال المذهبين. الاعتراض الثالث: أن دليل الإجماع إنما تم بسكوت الباقين وإن ذلك لو كان باطلا لانكروه فنقول: لعلهم سكتوا على سبيل المجاملة، والمصالحة خيفة من ثوران فتنة النزاع، أو سكتوا عن إظهار الدليل لخفائه، والدليل عليه أن مسائل الاصول فيها قواطع، وقد اختلف الاصوليون في صيغة الامر وصيغة العموم والمفهوم واستصحاب الحال وأفعال النبي عليه السلام، بل في أصل خبر الواحد، وأصل القياس، وأصل الإجماع وفي هذه المسائل أدلة قاطعة عندكم في النفي والاثبات، ولم ينقل عن الصحابة والتابعين التأثيم والتفسيق فيها. والجواب: أن حمل سكوتهم على المجاملة والمصالحة واتقاء الفتنة محال لانهم اختلفوا في المسائل وتناظروا وتحاجوا ولم يتجاملوا، ثم افترقت بهم المجالس عن اجتهادات مختلفة ولم ينكر بعضهم على بعض، ولو كان ذلك بالغا مبلغا قطعيا لبادروا إلى التأثيم والتفسيق كما فعلوا بالخوارج والروافض والقدرية وكل من عرف بقاطع فساد مذهبهم، وأما سكوتهم لخفاء الدليل فمحال، فإن قول القائل لغيرة لست شارعا ولا مؤذونا من جهة الشارع فلم تضع أحكام الله برأيك ليس كلاما خفيا عجز عن دركه الافهام، وكل من قاس بغير إذن فقد شرع، فلولا علمهم حقيقة بالاذن لكانوا ينكرون على من يسامي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضع الشرع واختراع الاحكام، وأما ما ذكروه من مسائل الاصول فليس بين الصحابة خلاف في صحة القياس ولا في خبر الواحد ولا في الإجماع، بل أجمعوا عليه وبإجماعهم تمسكنا في هذه القواعد، وأما العموم والمفهوم وصيغة الامر فقلما خاضوا في هذه المسائل بتجريد النظر فيما خوض الاصوليين، ولكن كانوا يتمسكون في مناظراتهم بالعموم والصيغة، ولم يذكروا أنا نتمسك بمجرد الصيغة من غير قرينة بل كانت القرائن المعرفة للاحكام المتقرنة بالصيغ في زمانهم غضة طرية متوافرة متظاهرة، فما جردوا النظر في هذه المسائل، كيف وقد قال بعض الفقهاء: ليس في هذه المسائل سوى خبر الواحد وأصل القياس والإجماع أدلة قاطعة، بل هي في محل الاجتهاد، فمن سلك هذا الطريق اندفع عنه الاشكال، وإن لم يكن هذا مرضيا عند المحققين من الاصوليين، فإن هذه أصول الاحكام فلا ينبغي أن تثبت إلا بقاطع، لكن الصحابة لم يجردوا النظر فيها، وبالجملة من اعتقد في مسألة دليلا قاطعا فلا يسكت عن تعصية مخالفة، وتأثيمه كما سبق في حق الخوارج والروافض والقدرية. الاعتراض الرابع: قولهم إن ما ذكرتموه نقل للحكم بالظن والاجتهاد، فلعلهم عولوا فيه على صيغة عموم وصيغة أمر، واستصحاب حال ومفهوم لفظ، واستنباط معنى صيغة من حيث الوضع واللغة في جمع بين آيتين وخبرين، وصحة رد مقيد إلى مطلق، وبناء عام على خاص وترجيح خبر على خبر وتقرير على حكم العقل الأصلي، وما جاوز هذا كان اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم لا في تنقيحه واستنباطه، والحكم إذا صار معلوما بضابط، فتحقيق الضابط في كل محل يحتاج إلى اجتهاد لا ننكره، فقد علموا قطعا أنه لا بد من إمام وعلموا أن الأصلح ينبغي أن يقدم وعرفوا بالاجتهاد الأصلح إذ لا بد منه ولا سبيل إلى معرفته إلا بالاجتهاد، وعرفوا أن حفظ القرآن عن الاختلاط والنسيان واجب قطعا، وعلموا أنه لا طريق إلى حفظه إلا الكتبة في المصحف، فهذه أمور علقت على المصلحة نصا وإجماعا، ولا يمكن تعيين المصلحة في الاشخاص وا لاحوال إلا بالاجتهاد، فهو من قبيل تحقيق المناط للحكم وما جاوز هذا من تشبيه مسألة بمسألة واعتبارها بها، كان ذلك في معرض النقض بخيال فاسد لا في معرض اقتباس الحكم، كقول ابن عباس في دية الاسنان: كيف لم يعتبروا بالاصابع، إذ عللوا اختلاف دية الاسنان باختلاف منافعها، وذلك منقوض بالاصابع ونحن لا ننكر أن النقض من طرق إفساد القياس وإن كان القياس فاسدا بنفسه أيضا وكذلك قول علي أيضا: أرأيت لو اشتركوا في السرقة حيث توقف عمر عن قتل سبعة بواحد، فإنه لما تخيل كون الشركة مانعا بنوع من القياس نقضه علي بالسرقة فإذا ليس في شئ مما ذكرتموه ما يصحح القياس أصلا. والجواب: أن هذا اعتراف بأنه لا حاجة في الحكم إلى دليل قاطع وأن الحكم بالظن جائز والانصاف الاعتراف بأنه لو لم يثبت إلا هذا النوع من الظن، لكنا لا نقيس ظن القياس على ظن الاجتهاد في مفهوم الالفاظ وتحقيق مناط الاحكام إذ يجوز أن يتعبد بنوع من الظن دون نوع ولكن بان لنا على القطع أن اجتهاد الصحابة لم يكن مقصورا على ما ذكروه بل جاوزوا ذلك إلى القياس والتشبيه، وحكموا بأحكام لا يمكن تصحيح ذلك إلا بالقياس تعليل النص وتنقيح مناط الحكم، وذلك كعهد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما، فإنه قاس العهد على العقد بالبيعة، وقياس أبي بكر الزكاة على الصلاة في قتال من منع الزكاة، ورجوع أبي بكر إلى توريث أم الاب قياسا على أم الام، وقياس عمر الخمر على الشحم في تحريم ثمنه وقياسه الشاهد على القاذف في حد أبي بكرة، وتصريح علي بالقياس على الافتراء في حد الشرب، ولسنا نعني بالقياس إلا هذا الجنس، وهو معلوم منهم ضرورة في وقائع لا تحصى ولا تنحصر، ولنعين مسألتين مشهورتين نقلنا على التواتر، وهي مسألة الجد والاخوة ومسألة الحرام، أما في قوله: أنت علي حرام ألحقه بعضهم بالظهار وبعضهم بالطلاق وبعضهم باليمين، وكل ذلك قياس وتشبيه في مسألة لا نص فيها إذ النص ورد في المملوكة في قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} (التحريم: 1) والنزاع وقع في المنكوحة، فكان من حقهم أن يقولوا: هذه لفظة لا نص في النكاح، فلا حكم لها ويبقى الحل والملك مستمرا، كما كان، لان قطع الحل والملك، أو إيجاب الكفارة يعرف بنص أو قياس على منصوص، ولا نص والقياس باطل، فلا حكم، فلم قاسوا المنكوحة على الامة؟ ولم قاسوا هذا اللفظ على لقظ الطلاق وعلى لفظ الظهار وعلى لفظ اليمين؟ ولم يقل أحد من الصحابة قد أغناكم الله عن إثبات حكم في مسألة لا نص فيها، وكذلك الجد وحده عصبة بالنص والاخ وحده عصبة ولا نص عند الاجتماع، فقضوا حيث لا نص بقضايا مختلفة وصرحوا بالتشبيه بالحوضين والخليجين وصرح من قدم الجد، وقال ابن الابن ابن فليكن أبو الأب أبا، وصرح من سوى بينهما بأن الاخ يدلي بالاب والجد أيضا يدلي به والمدلي به واحد والادلاء مختلف، فقاسوا الادلاء بجهة الابوة على الادلاء بجهة البنوة مع أن البنوة قد تفارق الابوة في أحكام وكذلك قال زيد في مسألة زوج وأبوين للام ثلث ما بقي، فقال ابن عباس: أين رأيت في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي، فقال: أقول برأيي وتقول برأيك، فزيد قاس حال وجود الزوج على ما إذا لم يكن زوج. إذ يكون للاب ضعف ما للام، فقال نقدر كأن الباقي بعد الزوج والزوجة كل المال، ونقدر كأن الزوج لم يكن وكذلك من فتش عن اختلافاتهم في مسائل الفرائض وغيرها علم ضرورة سلوكم طرق المقايسة والتشبيه، وأنهم إذا رأوا فارقا بين محل النص وغيره ورأوا جامعا وكان الجامع في اقتضاء الاجتماع أقوى في القلب من الفارق في اقتضاء الافتراق مالوا إلى الاقوى الاغلب، فإنا نعلم أنهم ما طلبوا المشابهة من كل وجه إذ لو تشابها من كل وجه لاتحدت المسألة ولم تتعدد فيبطل التشبيه والمقايسة، وكانوا لا يكتفون بالاشتراك في أي وصف كان، بل في وصف هو مناط الحكم وكون ذلك الوصف مناطا لو عرفوه بالنص لما بقي للاجتهاد والخلاف مجال، فكانوا يدركون ذلك بظنون وأمارات ونحن أيضا نشترط ذلك في كل قياس كما سيأتي في باب إثبات علة الأصل. الاعتراض الخامس: أن الصحابة إن قالوا بالقياس اختراعا من تلقاء أنفسهم فهو محال، وإن قالوا به عن سماع من النبي عليه السلام فيجب إظهار مستندهم والتمسك به، فإنكم تسلمون أنه لا حجة فيما أبدعوه ووضعوه، ونحن نسلم وجوب الاتباع فيما سمعوه، فإنه إذا قال عليه السلام: إذا غلب على ظنكم أن مناط الحكم بعض الاوصاف فاتبعوه، فإن الامر كما ظننتموه، أو حكم الظان على ما ظنه، فهي علامة في حقه، وغير علامة في حق من ظنه بخلافه، فلا ينكر وجوب قبول هذا لو صرح به، فإنه إذا قال إذا ظننتم أن زيدا في الدار فاعلموا أن عمرا في الدار، واعلموا أني حرمت الربا في البر لكنا، نقطع بتحريم البر وكون عمرو في الدار مهما ظننا أن زيدا في الدار، فإن هذا يرجع إلى القول بالقياس، ولكن من أين فهم الصحابة هذا وليس في الكتاب والسنة ما يدل عليه. والجواب من وجهين: أحدهما: أن هذه مؤونة كفيناها، فإنهم مهما أجمعوا على القياس، فقد ثبت بالقواطع أن الامة لا تجتمع على الخطأ، بل لو وضعوا القياس واخترعوا استصوابا برأيهم ومن عند أنفسهم لكان ذلك حقا واجب الاتباع، فلا يجمع الله أمة محمد عليه السلام على الخطأ، فلا حاجة بنا إلى البحث عن مستندهم. الثاني: هو أنا نعلم أنهم قالوا ذلك عن مستندات كثيرة خارجة عن الحصر، وعن دلالات وقرائن أحوال وتكريرات وتنبيهات تفيد علما ضروريا بالتعبد وبالقياس وربط الحكم بما غلب على الظن كونه مناطا للحكم، لكن انقسمت تلك المستندات إلى ما اندرس، فلم ينقل اكتفاء بما علمته الامة ضرورة، وإلى ما نقل، ولكن لم يبق في هذه الاعصار إلا نقل الآحاد لم يبق على حد التواتر، ولا يورث العلم وإلى ما تواتر ولكن آحاد لفظها يتطرق الاحتمال والتأويل إليه، فلا يحصل العلم بآحادها، وإلى ما هي قرائن أحوال يعسر وصفها ونقلها، فلم ينقل إلينا، فكفينا مؤونة البحث عن المستند لما علمناه عل التواتر من إجماعهم، ونحن مع هذا نشبع القول في شرح مستندات الصحابة والالفاظ التي هي مدارك تنبيهاتهم للتعبد بالقياس، وذلك من القرآن، وقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الابصار} (الحشر: 2) إذ معنى الاعتبار العبور من الشئ إلى نظيره إذا شاركه في المعنى، كما قال ابن عباس: هلا اعتبروا بالاصابع؟ وقوله تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: 38) وقوله: {ما فرطنا في الكتاب من شئ} (الانعام: 83) وليس في الكتاب مسألة الجد والاخوة ومسألة الحرام إذا لم يكن الاقتباس من المعاني التي في الكتاب، وقد تمسك القائلون بالقياس بهذه الآيات، وليست مرضية، لانها ليست بمجردها نصوصا صريحة إن لم تنضم إليها قرائن، ومن ذلك قوله عليه السلام لمعاذ: بم تحكم قال: بكتاب الله وسنة نبيه، قال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي، فقال: الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله وهذا حديث تلقته الامة بالقبول، ولم يظهر أحد فيه طعنا وإنكارا، وما كان كذلك فلا يقدح فيه كونه مرسلا بل لا يجب البحث عن إسناده، وهذا كقوله: لا وصية لوارث ولا تنكح المرأة على عمتها ولا يتوارث أهل ملتين وغير ذلك مما علمت به الامة كافة، إلا أنه نص في أصل الاجتهاد، ولعله في تحقيق المناط وتعيين المصلحة فيما علق أصله بالمصلحة، فلا يتناول القياس إلا بعمومه، ومن ذلك قوله لعمر حين تردد في قبلة الصائم: أرأيت لو تمضمضت أكان عليك من جناح؟ فقال: لا فقال: فلم إذا؟ فشبه مقدمة الوقاع بمقدمة الشرب، لكنه ليس بصريح إلا بقرينه، إذ يمكن أن يكون ذلك نقضا لقياسه حيث ألحق مقدمة الشئ بالشئ فقال إن كنت تقيس غير المنصوص على المنصوص لانه مقدمته فألحق المضمضة بالشرب، ومن ذلك قوله عليه السلام للخثعمية: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه؟ قالت: نعم قال: فدين الله أحق بالقضاء فهو تنبيه على قياس دين الله تعالى على دين الخلق، ولا بد من قرينة تعرف القصد أيضا، إذ لو كان لتعلم القياس لقيس عليه السلام الصوم والصلاة ومن ذلك قوله عليه السلام: كنت نهيتكم عن لحوم الاضاحي لاجل الدافة - أي القافلة -: فادخروا فبين أنه وان سكت عن العلة فقد كان النهي لعلة وقد زالت العلة فزال الحكم، ومن ذلك قوله عليه السلام: أينقض الرطب إذا يبس؟ فقيل: نعم قال: فلا إذا وقوله تعالى: {كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم} (الحشر: 7) وقال لام سلمة وقد سئلت عن قبلة الصائم: ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم؟ تنبيها على قياس غيره عليه، وروت أم سلمة رضي الله عنها أنه قال: أني أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي ودل عليه قوله تعالى: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} (النساء: 501) وليس الرأي إلا تشبيها وتمثيلا بحكم ما هو أقرب إلى الشئ وأشبه به، وإذا ثبت أنه كان مجتهدا بالامر وثبت اجتهاد الصحابة فيعلم أنهم اجتهدوا بالامر، وقال عمر: يا أيها الناس، إن الرأي كان من النبي عليه السلام مصيبا، فإن الله تعالى كان يسدده، وإنما هو منا الظن والتكلف، فلم يفرق إلا في العصمة، ومن ذلك أمره سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة برأيه، فأمرهم بالنزول على حكمه، فأمر بقتلهم وسبي نسائهم، فقال عليه السلام: لقد وافق حكمه حكم الله ومن ذلك قوله: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران ومن ذلك أنه عليه السلام شاور الصحابة في عقوبة الزنا والسرقة قبل نزول الحد ومن ذلك قوله عليه السلام: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها علل تحريم ثمنها بتحريم أكلها، واستدل عمر بهذا في الرد على سمرة حيث أخذ الخمر في عشور الكفار وباعها، ومن تعليلاته بعض الاحكام كقوله: لا تخمروا رأسه فإنه يحشر ملبيا وقوله في الشهداء مثل لك، وقوله: أنها من الطوافين عليكم والطوافات وقوله في الذي ابتاع غلاما واستغفله ثم رده الخراج بالضمان فهذه أجناس لا تدخل تحت الحصر، وآحادها لا تدل دلالة قاطعة، ولكن لا يبعد تأثير اقترانها مع نظائرها في أشعار الصحابة بكونهم متعبدين بالقياس والله أعلم. القول في شبه المنكرين للقياس والصائرين إلى حظره من جهة الكتاب والسنة وهي سبع الأولى: تمسكهم بقوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شئ} (الانعام: 83) وقوله: {تبيانا لكل شئ} (النحل: 98) قالوا: معناه بيانا لكل شئ مما شرع لكم، فإنه ليس فيه بيان الاشياء كلها، فليكن كل مشروع في الكتاب، وما ليس مشروعا فيبقى على النفي الأصلي والجواب من أوجه: الأول: أنه أين في كتاب الله تعالى مسألة الجد والاخوة والعول والمبتوتة والمفوضة، وأنت علي حرام، وفيها حكم لله تعالى شرعي اتفق الصحابة على طلبه، والكتاب بيان له، إما بتمهيد طريق الاعتبار، أو بالدلالة على الإجماع والسنة، وقد ثبت القياس بالإجماع والسنة، فيكون الكتاب قد بينه. الثاني: أنكم حرمتم القياس، وليس في كتاب الله تعالى بيان تحريمه، فيلزمكم تخصيص قوله تعالى لكل شئ كما خصص قوله: {خالق كل شئ} (الانعام: 201} (وأوتيت من كل شئ} (النمل: 32} (تدمر كل شئ} (الاحقاف: 52). الثانية: قوله تعالى: {كفارة} (المائدة: 94) وهذا حكم بغير المنزل؟ قلنا: القياس ثابت بالسنة والإجماع، وقد دل عليه الكتاب المنزل كيف ومن حكم بمعنى استنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل، ثم هذا خطاب مع الرسول عليه السلام وقد قاسوا عليه غيره، فأقروا بالقياس في معرض إبطال القياس مع انقداح الفرق إذ قال قوم: لم يجز الاجتهاد للرسول عليه السلام كي لا يتهم، ولانه كان يقدر على التبليغ بالوحي بخلاف الامة، وهذا الجواب أيضا عن قوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} (الاعراف: 3} (ومن لم يحكم بما أنزل الله} (المائدة: 44، 45، 47). الثالثة: قوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (البقرة: 961، الاعراف: 33} (ولا تقف ما ليس لك به علم} (الاسراء: 63} (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} (النجم: 82) و {إن بعض الظن إثم} (الحجرات: 21) قلنا: إذا علمنا أنا إذا ظننا كون زيد في الدار حرم علينا الربا في البر، ثم ظننا كان الحكم مقطوعا به لا مظنونا، كما إذا ظن القاضي صدق الشهود، وكما في القبلة وجزاء الصيد وأبواب تحقيق مناط الحكم، ثم نقول: هذا عام أراد به ظنون الكفار المخالفة للأدلة القاطعة، ثم نقول ألستم قاطعين بإبطال القياس مع أنا نقطع بخطئكم فلا تحكموا بالظن، وليس من الجواب المرضي قول القائل: الظن علم في الظاهر فإن العلم ليس له ظاهر وباطن. الرابعة: قوله تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} (الانعام: 121) قالوا: وأنتم تجادلون في القياس؟ قلنا: وأنتم تجادلون في نفيه وإبطاله، فإن قلتم: أراد به الجدال الباطل فهو عذرنا، فإنه رد عليهم في جدالهم، بخلاف النص حيث قالوا: نأكل ما قتلناه ولا نأكل مما قتله الله، وكما قاسوا الربا على البيع فرد الله تعالى عليهم في قولهم: {إنما البيع مثل الربا} (البقرة: 572). الخامسة: قوله: {تعلمها} (النساء: 95) قالوا: وأنتم تردون إلى الرأي، قلنا: لا بل نرده إلى العلل المستنبطة من نصوص النبي عليه السلام، والقياس عباره عن تفهم معاني النصوص بتجريد مناط الحكم، وحذف الحشو الذي لا أثر له في الحكم، وأنتم: فقد رددتم القياس من غير رد إلى نص النبي عليه السلام ولا إلى معنى مستنبط من النص. السادسة: قوله عليه السلام تعمل هذه الامة برهة بالكتاب، وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا قلنا: أراد به الرأي المخالف للنص، بدليل قوله: ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الامور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال وما نقلوا من آثار الصحابة في ذم الرأي والقياس قد تكلمنا عليه. السابعة: قول الشيعة وأهل التعليم: إنكم اعترفتم ببطلان القياس بخلاف النص، والنصوص محيطة بجميع المسائل، وإنما يعلمها الامام المعصوم، وهو نائب الرسول، فيجب مراجعته، قالوا: ولا يمنع من هذا كون الوقائع غير متناهية، وكون النصوص متناهية لان التي لا تتناهى أحكام الاشخاص، كحكم زيد وعمرو في أنه عدل تقل شهادته أم لا، وفقير تصرف إليه الزكاة أم لا، ومسلم أن هذا يعرف بالاجتهاد، لانه يرجع إلى تحقيق مناط الحكم، أما الروابط الكلية للاحكام فيمكن ضبطها بالنص بأن نقول مثلا: من سرق نصابا كاملا من حرز مثله لا شبهة له فيه فيلزمه القطع، ومن أفطر في نهار رمضان بجماع تام أثم به لاجل الصوم لزمته الكفارة، فما تناولته الرابطة الجامعة يجري فيه الحكم، وما خرج عنه مما لا يتناهى يبقى على الحكم الأصلي، فتكون محيطة بهذه الطرق. والجواب: أنا لا نسلم بطلان القياس مع النص، ونسلم إمكان الربط بالضوابط والروابط الكلية، لكنكم اخترعتم هذه الدعوى، فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسألة الجد والحرام والمفوضة و مسائل كثيرة وكانوا يطلبون من سمع فيها حديثا من النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم المعصوم بزعمكم وكانوا يشاورونه ويراجعونه، فتارة وافقوه وتارة خالفوه، ولم ينقل قط حديث ولا نص إلا ساعدوه، بل قبلوا النقل من كل عدل، فضلا عن الخلفاء الراشدين فلم كتم النص عنهم في بعض المسائل وتركهم مختلفين إن كانت النصوص محيطة، فبلضرورة يعلم من اجتهادهم واختلافهم أن النصوص لم تكن محيطة، فدل هذا أنهم كانوا متعبدين بالاجتهاد. القول في شبههم المعنوية وهي ست: الأولى: قول الشيعة والتعليمية: إن الاختلاف ليس من دين الله، ودين الله واحد ليس بمختلف، وفي رد الخلق إلى الظنون ما يوجب الاختلاف ضرورة، الرأي منبع الخلاف فإن كان كل مجتهد مصيبا فكيف يكون الشئ ونقيضه دينا، وإن كان المصيب واحدا فهو محال، إذ ظن، هذا كظن ذاك، والطنيات لا دليل فيها بل ترجع إلى ميل النفوس ورب كلام تميل إليه نفس زيد وهو بعينه ينفر عنه قلب عمرو، والدليل على ذم الاختلاف قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: 28) وقال: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (الشورى: 31) وقال: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (الانفام: 46) وقال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ} (الانعام: 159) وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات} (آل عمران: 501) وكذلك ذم الصحابة رضي الله عنهم الاختلاف، فقال عمر رضي الله عنه: لا تختلفوا، فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا، وسمع ابن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد والثوبين، فصعد عمر إلى المنبر وقال: اختلف رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أي فتياكم يصدر المسلمون، لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت. وقال جرير بن كليب: رأيت عمر ينهى عن المتعة وعلي يأمر بها، فقلت: إن بينكما لشرا، فقال علي: ما بيننا إلا خير، ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين، وكتب علي رضي الله عنه إلى قضاته أيام الخلافة أن اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف، وأرجو أن أموت كما مات أصحابي. والجواب: أن الذي نراه تصويب المجتهدين، وقولهم أن الشئ ونقيضه كيف يكون دينا، قلنا يجوز: ذلك في حق شخصين، كالصلاة وتركها في حق الحائض والطاهر، والقبلة في حق، من يظنها إذا اختلف الاجتهاد في القبلة، وكجواز ركوب البحر وتحريمه في حق رجلين يغلب على ظن أحدهما السلامة وعلى ظن الآخر الهلاك، وكتصديق الراوي والشاهد وتكذيبهما في حق قاضيين ومفتيين يظن أحدهما الصدق والآخر الكذب، وأما قولهم كيف يكون الاختلاف مأمورا به؟ قلنا: بل يؤمر المجتهد بظنه، وإن خالفه غيره فليس رفعه داخلا تحت اختياره، فالاختلاف واقع ضرورة لا أنه أمر به، وقوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: 28) معناه التناقض والكذب الذي يدعيه الملحدة، أو الاختلاف في البلاغة واضطراب اللفظ الذي يتطرق إلى كلام البشر بسبب اختلاف أحواله في نظمه ونثره، وليس المراد به نفي الاختلاف في الاحكام، لان جميع الشرائع والملل من عند الله، وهي مختلفة، والقرآن فيه أمر ونهي وإباحة ووعد ووعيد، وأمثال ومواعظ وهذه اختلافات، أما قوله: {ولا تتفرقوا} (الشورى: 31} (ولا تنازعوا} فكل ذلك نهي عن الاختلاف في التوحيد والايمان بالنبي عليه السلام والقيام بنصرته، وكذلك أصول جميع الديانات التي الحق فيها واحد، ولذلك قال تعالى: {من بعدما جاءهم البينات} (آل عمران: 501) وقوله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (الانفال: 64) أراد به التخاذل عن نصرة الدين، وأما ما رووه عن الصحابة رضي الله عنهم في ذم الاختلاف، فكيف يصح وهم أول المختلفين والمجتهدين، واختلافهم واجتهادهم معلوم تواترا، كيف تدفعها روايات يتطرق إلى سندها ضعف وإلى متنها تأويل من النهي عن الاختلاف في أصل الدين أو نصرة الدين، أو في أمر الخلافة والامامة والخلاف بعد الإجماع، أو الاختلاف على الائمة والولاة والقضاة، أو نهي العوام عن الاختلاف بالرأي وليسوا أهل الاجتهاد؟ وأما إنكار عمر اختلاف ابن مسعود وأبي بن كعب فلعله قد كان سبق إجماع على ثوب واحد، ومن خالف ظن أن انقضاء العصر شرط في الإجماع، ولذلك قال عمر: عن أي فتياكم يصدر المسلمون وأنتم جميعا تروون عن النبي عليه السلام، أو لعل كل واحد أثم صاحبه وبالغ فيه، فنهى عن وجه الاختلاف لا عن أصله، أو لعلهما اختلفا على مستفت واحد، فتحير السائل فقال، عن أي فتياكم يصدر الناس، أي العامة، بل إذا ذكر المفتي في محل الاجتهاد شيئا للعامي فلا ينبغي للمفتي الآخر أن يخالفه بين يديه فيتحير السائل، وأما اختلاف عمر وعلي رضي الله عنهما في تحريم المتعة فلا يصح، بل صح عن علي نقله تحريم متعة النساء ولحوم الحمر الاهلية يوم خيبر كيف وقد علم قطعا أنهم جوزوا الاجتهاد، أما كتاب علي إلى قضاته وكراهية الاختلاف فيحتمل وجوها: أحدها: أنهم ربما كتبوا إليه يطلبون رأيه في بعض الوقائع فقال: اقضوا كما كنتم تقضون، إذ لو خالفتموهم الآن لا نفتق به فتق آخر وحمل ذلك على تعصب مني ومخالفة، ويحتمل أنهم استأذنوه في مخالفة إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ظن أن العصر لم ينقرض، بعد فيجوز الخلاف، فكره لهم مخالفة السابقين، واستأذنوه في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج وغيرهم أو ردها فأمرهم بقبولها كما كان قبل الحرب لانهم حاربوا على تأويل وفي رد شهادتهم تعصب وتجديد خلاف. الثانية: قولهم النفي الأصلي معلوم، والاستثناء عنه بالنص معلوم فيبقى المسكوت عنه على النفي الأصلي المعلوم، فكيف يندفع المعلوم: على القطع بالقياس المظنون؟ قلنا: العموم والظواهر وخبر الواحد وقول المقوم في أروش الجنايات والنفقات وجزاء الصيد وصدق الشهود وصدق المخالف في مجلس الحكم، كل ذلك مظنون، ويرفع به النفي الأصلي، ثم نقول: نحن لا نرفع ذلك إلا بقاطع، فإنا إذا تعبدنا بإتباع العلة المظنونة وظننا فنقطع بوجود الظن، ونقطع بوجود الحكم عند الظن فلا يرفع ذلك إلا بقاطع. الثالثة: قولهم كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد، والفرق بين المتماثلات والجمع بين المتفرقات، إذ قال يغسل الثوب من بول الصبية ويرش من بول الصبي، ويجب الغسل من المني والحيض، ولا يجب من البول والمذي، وفرق في حق الحائض بين قضاء الصلاة والصوم، وأباح النظر إلى الرقيقة دون الحرة، وجمع بين المختلفات فأوجب جزاء الصيد على من قتله عمدا أو خطأ، وفرق في حلق الشعر والتطيب بين العمد والخطأ، وأوجب الكفارة بالظهار، والقتل واليمين والافطار، وأوجب القتل على الزاني والكافر والقاتل وتارك الصلاة، وقال لابي بردة: تجزئ عنك ولا تجزئ عن أحد بعدك في الاضحية. وقيل للنبي عليه السلام: {خالصة لك من دون المؤمنين} (الاحزاب: 50) وكيف يتحاسر في شرع هذا منهاجه على إلحاق المسكوت بالمنطوق، وما من نص على محل إلا ويمكن أن يكون ذلك تحكما وتعبدا؟ قلنا: لا ننكر إشتمال الشرع على تحكمات وتعبدات، فلا جرم نقول: الاحكام ثلاثة أقسام: قسم لا يعلل أصلا، وقسم يعلم كونه معللا، كالحجر على الصبي، فإنه لضعف عقله، وقسم يتردد فيه، ونحن لا نقيس ما لم يقم لنا دليل على كون الحكم معللا، ودليل على عين العلة المستنبطة، ودليل على وجود العلة في الفرع، وعند ذلك يندفع الاشكال المذكور، ولما كثرت التعبدات في العبادات لم يرتضى قياس غير التكبير والتسليم والفاتحة عليها، ولا قياس غير المنصوص في الزكاة على المنصوص، وإنما نقيس في المعاملات وغرامات الجنايات، وما علم بقرائن كثيرة بناؤها على معان معقولة ومصالح دنيوية. الرابعة: قولهم إن النبي عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم، فكيف يليق به أن يترك الوجيز المفهم، ويعدل إلى الطويل الموهم، فيعدل عن قوله: حرمت الربا في كل مطعوم أو كل مكيل إلى عد الاشياء الستة ليرتبك الخلق في ظلمات الجهل؟ قلنا: ولو ذكر الاشياء الستة وذكر معها أن ما عداها لا ربا فيه وأن القياس حرام فيه، لكان ذلك أصرح، وللجهل والاختلاف أدفع، فلم لم يصرح وقد كان قادرا ببلاغته على قطع الاحتمال للالفاظ العامة والظواهر وعلى أن يبين الجميع في القرآن المتواتر، ليحسم الاحتمال عن المتن والسند جميعا، وكان قادرا على رفع احتمال التشبيه في صفات الله تعالى بالتصريح بالحق في جميع ما وقع الخلاف فيه في العقليات، وإذا لم يفعل فلا سبيل إلى التحكم على الله ورسوله فيما صرح ونبه وطول وأوجز، والله أعلم بأسرار ذلك كله، ثم نقول: إن علم الله تعالى لطفا وسرا في تعبد العلماء بالاجتهاد وأمرهم بالتشمير عن ساق الجد في استنباط أسرار الشرع فيتعين عليه أن يذكر البعض ويسكت عن البعض، وينبه عليها تنبيها يحرك الدواعي للاجتهاد: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة: 11) هذا على مذهب من يوجب الصلاح وعندنا فلله تعالى أن يفعل بعباده ما يشاء. الخامسة: قولهم أن الحكم يثبت في الأصل بالنص لا بالعلة، فكيف يثبت في الفرع، بالعلة وهو تابع للاصل، فكيف يكون ثبوت الحكم فيه بطرق سوى طريق الامل، وأن ثبت في الأصل بالعلة فهو محال، لان النص قاطع، والعلة مظنونة، والحكم مقطوع به، فكيف يحال المقطوع به على العلة المظنونة؟ قلنا: الحكم في الأصل يثبت بالنص، وفائدة استنباط العلة المظنونة إما تعدية العلة وأما الوقوف على مناط الحكم المظنون للمصلحة، وأما زوال الحكم عند زوال المناط كما سيأتي في العلة القاصرة، وأما الحكم في الفرع وإن كان تابعا للاصل في الحكم فلا يلزم أن يتبعه في الطريق، فإن الضروريات والمحسوسات أصل للنظريات، ولا يلزم مساواة الفرع لها في الطريق، وإن لزمت المساواة في الحكم. السادسة: وهي عمدتهم الكبرى أن الحكم لا يثبت إلا بتوقيف والعلة غايتها أن تكون منصوصا عليها، فلو قال الشارع: اتقوا الربا في كل مطعوم، فهو توقيف عام، ولو قال: اتقوا الربا في البر لانه مطعوم، فهذا لا يساويه ولا يقتضي الربا في غير البر، كما لو قال المالك: أعتق من عبيدي كل أسود، عتق كل أسود، فلو قال: أعتق غانما لسواده، أو لانه أسود، لم يعتق جميع عبيده السود، وكذلك لو علل بمخيل وقال: أعتقوا غانما لانه سئ الخلق حتى أتخلص منه، لم يلزم عتق سالم، وإن كان أسوأ خلقا منه، فإذا كانت العلة المنصوصة لا يمكن تعديتها لقصور لفظها، فالمستنبطة كيف تعدى أو كيف يفرق بين كلام الشارع وبين كلام غيره في الفهم، وإنما منهاج الفهم وضع اللسان وذلك لا يختلف. والجواب: أن نفاة القياس ثلاث فرق، وهذا لا يستقيم من فريقين، وإنما يستقيم من الفريق الثالث. إذ منهم من قال: التنصيص على العلة كذكر اللفظ العام، فإنه لا فرق بين قوله: حرمت الخمر لشدتها، وبين قوله: حرمت كل مشتد، في أن كل واحد: يوجب تحريم النبيذ، لكن بطريق اللفظ لا بطريق القياس، بل فائدة قوله: لشدتها، إقامة الشدة مقام الاسم العام فقد أقر هذا القائل بالالحاق، وإنما أنكر تسميته قياسا. الفريق الثاني من القاشانية والنهروانية فإنهم أجازوا القياس بالعلة المنصوصة دون المستنبطة فقالوا: إذا كشف النص أو دليل آخر عن الأصل كانت العلة جامعة للحكم في جميع مجاريها، وما فارقهم الفريق الأول: إلا في التسمية، حيث لم يسموا هذا الفن قياسا، والفريقان مقران بأن هذا في العتق والوكالة لا يجري، فلا يصح منهما الاستشهاد مع الاقرار بالفرق. أما الفريق الثالث وهو من أنكر الالحاق مع التنصيص على العلة فتستقيم لهم هذه الحجة. وجوابهم من ثلاثة أوجه. الأول: ان الصيرفي من أصحابنا يتشوف إلى التسوية فقال: لو قال أعتقت هذا العبد لسواده، فاعتبروا وقيسوا عليه كل أسود، لعتق كل عبد أسود، وهو وزان مسألتنا، إذا أمرنا بالقياس والاعتبار، ولو لم يثبت التعبد به لكان مجرد، التنصيص على العلة لا يرخص في الالحاق، إذ يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة، ومنهم من قال: إن علم قطعا قصده إلى عتقه لسواده عتق كل عبد أسود بقوله: أعتقت غانما لسواده، ومنهم من قال: لا يكفي أن يعلم قصده عتقه بمجرد السواد ما لم ينو بهذا اللفظ عتق جميع السودان، فإن نوى كفاه هذا اللفظ لاعتاق جميع السودان مع النية، ولم يكن فيه إلا إرادته معنى عاما بلفظ خاص، وذلك غير منكر، كما لو قال: والله لا أكلت لفلان خبزا ولا شربت من مائة جرعة، ونوى به دفع المنة، حنث بأخذ الدراهم والثياب والامتعة، وصلح اللفظ الخاص مع هذه النية للمعنى العام، كما صلح قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} (النساء: 01) للنهي عن الاتلاف العام: وقوله {فلا تقل لهما أف} (الاسراء: 32) للنهي عن الايذاء العام، فإذا استتب لهؤلاء الفرق التسوية بين الخطابين فإنهم إنما يعممون الحكم إذا دل الدليل على إرادة الشرع تعليق الحكم المجردة، ولكنه غير مرضي عندنا، بل الصحيح أنه لا يعتق إلا غانم بقوله: أعتقت غانما لسواده، وإن نوى عتق السودان، لانه يبقى في حق غير غانم مجرد النية والارادة فلا تؤثر. الوجه الثاني: من الجواب أن الامة مجمعة على الفرق، إذ تجب التسوية في الحكم مهما قال: حرمت الخمر لشدتها فقيسوا عليها كل مشتد، ولو قال: أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه كل أسود، اقتصر العتق على غانم عند الاكثرين، فكيف يقاس أحدهما على الآخر مع الاعتراف بالفرق، وإنما اعترفوا بالفرق لان الحكم لله في أملاك العباد، وفي أحكام الشرع وقد علق أحكام الاملاك حصولا وزوالا بالالفاظ دون الارادات المجردة، وأما أحكام الشرع فتتبت بكل ما دل على رضا الشرع وإرادته من قرينة ودلالة وإن لم يكن لفظا بدليل أنه لو بيع مال لتاجر بمشهد منه بأضعاف ثمنه فاستبشر وظهر أثر الفرح عليه لم ينفذ البيع إلا بتلفظه بإذن سابق أو إجازة لاحقة عند أبي حنيفة ولو جرى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فسكت عليه دل سكوته على رضاه وثبت الحكم به، فكيف يتساويان، بل ضيق الشرع تصرفات العباد حتى لم تحصل أحكامها بكل لفظ بل ببعض الالفاظ، فإنه لو قال الزوج: فسخت النكاح وقطعت الزوجية ورفعت علاقة الحل بيني وبين زوجتي لم يقع الطلاق ما لم ينو الطلاق، فإذا تلفظ بالطلاق وقع وإن نوى غير الطلاق، فإذا لم تحصل الاحكام بجميع الالفاظ بل ببعضها فكيف تحصل بما دون اللفظ مما يدل على الرضا. الوجه الثالث: أن قول القائل: لا تأكل هذه الحشيشة لانها سم ولا تأكل الهليلج فإنه مسهل، ولا تأكل العسل فإنه حار، ولا تأكل أيها المفلوج القثاء فإنه بارد، ولا تشرب الخمر فإنه يزيل العقل، ولا تجالس فلانا فإنه أسود، فأهل اللغة متفقون على أن معقول هذا التعليل تعدى النهي إلى كل ما فيه العله هذا مقتضى اللغة، وهذا أيضا مقتضاه في العتق، لكن التعبد منع من الحكم بالعتق بالتعليل بل، لا بد فيه من اللفظ الصريح المطابق للمحل، ولا مانع منه في الشرع، إذ كل ما عرف بإشارة وأمارة وقرينة فهو كما عرف باللفظ، فكيف يستويان مع الإجماع على الفرق، لان المفرق بين المتماثلات كالجامع بين المختلفات، فمن أثبت الحكم للخلافين يتعجب منه ويطلب منه الجامع، ومن فرق بين المثلين يتعجب منه لماذا فرق بينهما، فإن قيل: إن قال من تجب طاعته: بع هذه الدابة لجماحها، وبع هذا العبد لسوء خلقه، فهل يجوز للمأمور بيع ما شاركه في العلة؟ فإن قلتم يجوز، فقد خالفتم الفقهاء، وإن منعتم فما، الفرق بين كلامه وبين كلام الشارع مع الاتفاق في الموضعين؟ وإن ثبت تعبد في لفظ العتق والطلاق بخصوص الجهة فلم يثبت في لفظ الوكالة. قلنا: أن كان قد قال له إن ما ظهر لك إرادتي إياه أو رضاي به بطرق الاستدلال دون صريح اللفظ فافعله، فله أن يفعل ذلك، وهو وزان حكم الشرع، لكن يشترط أمر آخر وهو أن يقطع بأنه أمر ببيعه لمجرد سوء الخلق لا لسوء الخلق مع القبح أو مع الخرق في الخدمة، فإنه قد يذكر بعض أوصاف العلة، فإن لم يعلم قطعا ولكن ظنه ظنا فينبغي أن يكون قد قال له ظنك نازل منزلة العلم في تسليطك على التصرف، فإن اجتمع هذه الشروط جاز التصرف وهو وزان مسألتنا، فإن قيل: وإن كان الشارع قد قال: ما عرفتموه بالقرائن والدلائل من رضاي وإرادتي فهو كما عرفتموه بالصريح فلم يقل إني إذا ذكرت علة شئ ذكرت تمام أوصافه، فلعله علل تحريم الخمر بشدة الخمر وتحريم الربا بطعم البر خاصة لا للشدة المجردة، ولله أسرار في الاعيان، فقد حرم الخنزير والميتة والدم والموقوذة والحمر الاهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، لخواص، لا يطلع عليها، فلم يبعد أن يكون لشدة الخمر من الخاصية ما ليس لشدة النبيذ، فبماذا يقع الامر عن هذا، وهذا أوقع كلام في مدافعة القياس والجواب: أن خاصة المحل قد يعلم ضرورة سقوط اعتبارها، كقوله: أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أولى بمتاعه إذ يعلم أن المرأة في معناه، وقوله: من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي فالامة في معناه، لانا عرفنا بتصفح أحكام العتق والبيع وبمجموع إمارات وتكريرات وقرائن أنه لا مدخل للانوثة في البيع والعتق، وقد يعلم ذلك ظنا بسكون النفس إليه، وقد عرفنا أن الصحابة رضي الله عنهم عولوا على الظن، فعلمنا أنهم فهموا من النبي عليه السلام قطعا إلحاق الظن بالقطع، ولولا سيرة الصحابة لما تجاسرنا عليه، وقد اختلفوا في مسائل ولو كانت قطيعة لما اختلفوا فيها، فعلمنا أن الظن كالعلم أما حيث انتفى الظن والعلم وحصل الشك فلا يقدم على القياس أصلا. |
12-06-2012, 08:00 PM | #59 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (العلة المنصوصة) قال النظام: العلة المنصوصة توجب الالحاق، لكن لا بطريق القياس، بل بطريق اللفظ والعموم، إذ لا فرق في اللغة بين قوله: حرمت كل مشتد، وبين قوله. حرمت الخمر لشدتها، وهذا فاسد، لان قوله حرمت الخمر لشدتها لا يقتضي من حيث اللفظ والوضع إلا تحريم الخمر خاصة، ولا يجوز إلحاق النبيذ ما لم يرد التعبد بالقياس، وإن لم يرد فهو كقوله: أعتقت غانما لسواده، فإنه لا يقتضي إعتاق جميع السودان، فكيف يصح هذا ولله أن ينصب شدة الخمر خاصة علة ويكون فائدة ذكر العلة زوال التحريم عند زوال الشدة ويجوز أن يعلم الله خاصية في شدة الخمر تدعو إلى ركوب القبائح ويعلم في شدة النبيذ لطفا داعيا إلى العبادات، فإذا قد ظن النظام أنه منكر للقياس، وقد زاد علينا إذ قاس حيث لا نقيس لكنه أنكر اسم القياس، فإن قيل: قول السيد والوالد لعبده ولده: لا تأكل هذا لانه سم وكل هذا فإنه غذاء، يفهم منه المنع عن أكل سم آخر، والامر يتناول ما هو مثله في الاغتذاء، قلنا: لان ذلك معلوم بقرينة إطراد العادات، ومعرفة أخلاق الآباء والسادات في مقاصدهم من العبيد والابناء، وأنهم لا يفرقون بين سم وسم، وإنما يتقون الهلاك، وأما الله تعالى إذا حرم شيئا بمجرد إرادته فيجوز أن يبيح مثله وأن يحرم، لان فيه رفقا ومصلحة، فيجوز أن يكون قد سبق في علمه أن مثله مفسدة، لان تضمنه الصلاح والفساد ليس لطبعه ولذاته ولوصف هو عليه في نفسه، بل يجوز أن يكون في فعل شئ وقت الزوال مصلحة، وفيه وقت العصر مفسدة، وكذلك يجوز أن يختلف بيوم السبت والجمعة والمكان والحال، فكذلك يجوز أن يفارق شدة الخمر شدة النبيذ، فإن قيل: فإن لم يفهم النبيذ من الخمر فينبغي أن لا يفهم تحريم الضرب والاذى من التأفيف؟ قلنا؟ الحق عندنا، أن ذلك غير مفهوم من مجرد اللفظ العاري عن القرينة، لكن إذا دلت قرينة الحال على قصد الاكرام فعند ذلك يدل لفظ التأفيف على تحريم الضرب بل يكون ذلك أسبق إلى الفهم من التأفيف المذكور، إذا التأفيف لا يكون مقصودا في نفسه بل يقصد به التنبيه على منع الايذاء بذكر أقل درجاته. وكذلك النقير والقطمير والذرة والدينار لا يدل بمجرد اللفظ على ما فوقه في قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} (الزلزلة: 7) وفي قوله تعالى: {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} (آل عمران: 57) وفي قوله: والله ما شربت لفلان جرعة، ولا أخذت من ماله حبة، بل بقرينة دفع المنة وإظهار جزاء العمل، وليس إلحاق الضرب بالتأفيف أيضا بطريق القياس، لان الفرع المسكوت عنه الملحق بطريق القياس هو الذي يتصور أن يغفل عنه المتكلم ولا يقصده بكلامه وهاهنا المسكوت عنه هو الأصل في القصد الباعث على النطق بالتأفيف، وهو الاسبق إلى فهم السامع، فهذا مفهوم من لحن القول وفحواه، وعند ظهور القرينة المذكورة ربما تظهر قرينة أخرى تمنع هذا الفهم، إذا الملك قد يقتل أخاه المنازع له، فيقول للجلاد: اقتله ولا تهنه ولا تقل له أف، أما تحريم النبيذ بتحريم الخمر فليس من هذا بالقبيل، بل لا وجه له إلا القياس، فإذا لم يرد التعبد بالقياس، فقوله حرمت الخمر لشدتها، لا يفهم تحريم النبيذ، بخلاف قوله: حرمت كل مشتد.
مسألة (تخصيص القياس) ذهب القاشاني والنهرواني إلى الاقرار بالقياس لاجل إجماع الصحابة، لكن خصصوا ذلك بموضعين: أحدهما: أن تكون العلة منصوصة، كقوله: حرمت الخمر لشدتها وفإنها من الطوافين عليكم والطوافات. الثاني: الاحكام المعلقة بالاسباب، كرجم ماعز لزناه، وقطع سارق رداء صفوان، وكأنهم يعنون بهذا الجنس تنقيح مناط الحكم ويعترفون به. قلنا: هذا المذهب يمكن تنزيله على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشترطوا مع هذا أن يقول: وحرمت كل مشارك للخمر في الشدة، ويقول في رجم ماعز: وحكمي على الواحد حكمي على الجماعة فهذا ليس قولا بالقياس بل بالعموم، فلا يحصل التقصي به عن عهدة الإجماع المنعقد من الصحابة على القياس. الثاني: أن لا يشترط هذا ولا يشترط أيضا ورود التعبد بالقياس، فهذه زيادة علينا، وقول بالقياس حيث لا نقول به كما رددناه على النظام. الثالث: أن يقول: مهما ورد التعبد بالقياس جاز الالحاق بالعلة المنصوصة، فهذا قول حق في الأصل، خطأ في الحصر، فإنه قصر طريق إثبات علة الأصل على النص، وليس مقصورا عليه، بل ربما دل عليه السبر والتقسيم أو دليل آخر، وما لم يدل عليه دليل فنحن لا نجوز الجمع بين الفرع والأصل، ولا فرق بين دليل ودليل. فإن قيل إذا كانت العلة منصوصة كان الحكم في الفرع معلوما ولم يكن مظنونا، وحصل الامن من الخطأ، وإن كانت مستنبطة لم يؤمن الخطأ؟ قلنا: أخطأتم في طرفي الكلام حيث ظننتم حصول الامن بالنص، وإمكان الخطأ عند عدم النص، فإن وإن نص على شدة الخمر فلا نعلم قطعا أن شدة النبيذ في معناها، بل يجوز أن يكون معللا بشدة الخمر خاصة إلا أن يصرح ويقول يتبع الحكم مجرد الشدة في كل محل فيكون ذلك لفظا عاما، ولا يكون حكما بالقياس، فلا يحصل التقصي عن عهدة الإجماع، وإذا لم يصرح فنحن نظن أن النبيذ في معناه ولا نقطع، فللظن مثاران في العلة المستنبطة: أحدهما: أصل العلة، والآخر إلحاق الفرع بالأصل، فإنه مشروط بانتفاء الفوارق، وفي العلة المنصوصة مثار الظن واحد، وهو إلحاق الفرع لانه مبني على الوقوف على جميع أوصاف علة الأصل، وأنه الشدة بمجردها دون شدة الخمر، وذلك لا يعلم إلا بنص يوجب عموم الحكم ويدفع الحاجة إلى القياس. أما قوله في العلة المستنبطة أنه لا يؤمن فيها الخطأ فهذا لا يستقيم على مذهب من يصوب كل مجتهد، إذ شهادة الأصل للفرع عنده كشهادة العدل عند القاضي، والقاضي في أمن من الخطأ وإن كان الشاهد مزورا، لانه لم يتعبد باتباع الصدق، بل باتباع ظن الصدق، وكذلك هاهنا لم يتعبد باتباع العلة بل باتباع ظن العلة وقد تحقق الظن. نعم: هذا الاشكال متوجه على من يقول المصيب واحد، لانه لا يأمن الخطأ، ولا دليل يميز الصواب عن الخطأ، إذ لو كان عليه دليل لكان آثما إذا أخطأ كما في العقليات، ثم نقول: إن محملهم على الاقرار بهذا القياس إجماع الصحابة، ولم يقتصر قياسهم على العلة المنصوصة إذ قاسوا في قوله: أنت علي حرام وفي مسألة الجد والاخوة، وفي تشبيه حد الشرب بحد القذف لما فيه من خوف الافتراء والقذف أوجب ثمانين جلدة، لانه نفس الافتراء لا الخوف من الافتراء، ولكنهم رأوا الشارع في بعض المواضع أقام مظنة الشئ مقام نفسه، فشبهوا هذا به بنوع من الظن هو في غاية الضعف، فدل أنهم لم يطلبوا النص ولا القطع، بل اكتفوا بالظن، ثم نقول: إذا جاز القياس بالعلة المعلومة فلنلحق بها المظنونة في حق العمل، كما لتحق رواية العدل بالتواتر وشهادة العدل بشهادة النبي عليه السلام المعصوم، والقبلة المظنونة بالقبلة المعاينة، وهذا فيه نظر لانا وإن أثبتنا خبر الواحد وقبول الشهادة بأدلة قاطعة فقبول الشرع الظن في موضع لا يرخص لنا في قياس ظن آخر عليه، بل لا بد من دليل على القياس المظنون كما في خبر الواحد وغيره. مسألة (التفريق بين الفعل والترك) فرق بعض القدرية الفعل والترك، فقال: إذا علل الشارع وجوب فعل بعلة فلا يقاس عليه غيره إلا بتعبد بالقياس، ولو علل تحريم الخمر بعلة وجب قياس النبيذ عليه دون التعبد بالقياس، لان من ترك العسل لحلاوته لزمه أن يترك كل حلو ومن ترك الخمر لاسكاره لزمه أن يترك كل مسكر. أما من شرب العسل لحلاوته فلا يلزمه أن يشرب كل حلو، ومن صلى لانها عبادة لا يلزمه أن يأتي بكل عبادة، وبنوا على هذا أن التوبة لا تصح من بعض الذنوب، بل من ترك ذنبا لكونه معصية لزمه ترك كل ذنب، أما من أتى بعبادة لكونها طاعة فلا يلزمه أن يأتي بكل طاعة، وهذا محال في الطرفين، لانه لا يبعد في جانب التحريم أن يحرم الخمر لشدة الخمر خاصة، ويفرق بين شدة الخمر وشدة النبيذ. وأما في جانب الفعل فمن تناول العسل لحلاوته ولفراغ معدته وصدق شهوته لا يفرق بين عسل وعسل، نعم لا يلزمه أن يأكل مرة بعد أخرى لزوال الشهوة وامتلاء المعدة واختلاف الحال، فما ثبت للشئ ثبت لمثله، كان ذلك في ترك أو فعل لكن المثل المطلق لا يتصور إذا الاثنينية شرط المثلية، ومن شرط الاثنينية مغايرة ومخالفة، وإذا جاءت المخالفة بطلت المماثلة، وهذا له غور وليس هذا موضع بيانه. هذا تمام النظر في إثبات أصل القياس على منكريه. الباب الثاني في طريق إثبات علة الأصل وكيفية إقامة الدلالة على صحة آحاد الاقيسة وننبه في صدر الكتاب على مثارات الاحتمال في كل قياس، إذ لا حاجة إلى الدليل إلا في محل الاحتمال، ثم على انحصار الدليل في الأدلة السمعية، ثم على انقسام الأدلة السمعية إلى ظنية وقطعية، فهذه ثلاث مقدمات. المقدمة الأولى في مواضع الاحتمال من كل قياس وهي ستة: الأول: يجوز أن لا يكون الأصل معلولا عند الله تعالى، فيكون القائس قد علل ما ليس بمعلل. الثاني: أنه إن كان معللا فلعله لم يصب ما هو العلة عند الله تعالى، بل علله بعلة أخرى. الثالث: أنه إن أصاب في أصل التعليل وفي عين العلة فلعله قصر على وصفين أو ثلاثة، وهو معلل به مع قرينة أخرى زائدة على ما قصر اعتباره عليه. الرابع: أن يكون قد جمع إلى العلة وصفا ليس مناطا للحكم فزاد على الواحد. الخامس: أن يصيب في أصل العلة وتعيينها وضبطها لكن يخطئ في وجودها في الفرع، فيظنها موجودة بجميع قيودها وقرائنها ولا تكون كذلك. السادس: أن يكون قد استدل على تصحيح العلة بما ليس بدليل، وعند ذلك لا يحل له القياس وإن أصاب العلة، كما لو أصاب بمجرد الوهم والحدس من غير دليل، وكما لو ظن القبلة في جهة من غير اجتهاد فصلى، فإنه لا تصح الصلاة، وزاد آخرون احتمالا سابعا وهو الخطأ في أصل القياس، إذا يحتمل أن يكون أصل القياس في الشرع باطلا، وهذا خطأ لان صحة القياس ليس مظنونا بل هو مقطوع به، ولو تطرق إليه احتمال التطرق إلى جميع القطعيات من التوحيد والنبوة وغيرهما والمثارات الستة لاحتمال الخطأ: إنما تستقيم على مذهب من يقول المصيب واحد وفي موضع يقدر نصب الله تعالى أدلة قاطعة يتصور أن يحيط بها الناظر. أما من قال: كل مجتهد مصيب، فليس في الأصل وصف معين هو العلة عند الله تعالى حتى يخطئ أصلها أو وصفها، بل العلة عند الله تعالى في حق كل مجتهد ما ظنه علة فلا يتصور الخطأ، ولكنه على الجملة يحتاج إلى إقامة الدليل في هذه وإن كانت أدلة ظنية. المقدمة الثانية إن هذه الأدلة لا تكون إلا سمعية، بل لا مجال للنظر العقلي في هذه المثارات إلا في تحقيق وجود علة الأصل في الفرع، فإن العلة إذا كانت محسوسة كالسكر والطعم والطوف في السؤر، فوجود ذلك في النبيذ والارز والفأرة قد يعلم بالحس وبالأدلة العقلية، أما أصل تعليل الحكم وإثبات عين العلة ووصفها فلا يمكن إلا بالأدلة السمعية لان العلة الشرعية علامة وأمارة لا توجب الحكم بذاتها إنما معنى كونها علة نصب الشرع إياها علامة، وذلك وضع من الشارع، ولا فرق بين وضع الحكم وبين وضع العلامة ونصبها أمارة على الحكم، فالشدة التي جعلت أمارة التحريم يجوز أن يجعلها الشرع أمارة الحل، فليس إيجابها لذاتها، ولا فرق بين قوله الشارع: راجموا ماعزا، وبين قوله: جعلت الزنا علامة إيجاب الرجم، فإن قيل: فالحكم لا يثبت إلا توقيفا ونصا فلتكن العلة كذلك، قلنا: لا يثبت الحكم إلا توقيفا لكن ليس طريق معرفة التوقيف في الاحكام مجرد النص بل النص والعموم والفحوى ومفهوم القول وقرائن الاحوال وشواهد الاصول وأنواع الأدلة، فكذلك إثبات العلة تتسع طرقه ولا يقتصر فيه على النص. المقدمة الثالثة إن الحاق المسكوت بالمنطوق ينقسم إلى مقطوع ومظنون، والمقطوع به على مرتبتين: إحداهما: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، كقوله: (لا تقل لهما أف} [ الاسراء: 32 ] فإنه أفهم تحريم الضرب والشتم، وكقوله عليه السلام أدوا الخيط والمخيط فإنه أفهم تحريم الغلول في الغنيمة بكل قليل وكثير، وكنهيه عن الضحية بالعوراء والعرجاء، فإنه أفهم المنع من العمياء ومقطوعة الرجلين، وكقوله: العينان وكاء السه فإذا نامت العينا استطلق الوكاء، فإن الجنون والاغماء والسكر وكل ما أزال العقل أولى به من النوم، وقد اختلفوا في تسمية هذا قياسا وتبعد تسميته قياسا، لانه لا يحتاج فيه إلى فكر واستنباط علة، ولان المسكوت عنه هاهنا كأنه أولى بالحكم من المنطوق به ومن سماه قياسا اعترف بأنه مقطوع به، ولا مشاحة في الاسامي، فمن كان القياس عنده عبارة عن نوع من الالحاق يشمل هذه الصورة، فإنما مخالفته في عبارة، وهذا الجنس قد يلتحق بأذياله ما يشبهه من وجه، ولكنه يفيد الظن دون العلم، كقولهم: إذا جبت الكفارة في قتل الخطأ فبأن تجب في العمد أولى، لان فيه ما فيه الخطأ وزيادة عدوان، وإذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى، لان الكفر فسق وزيادة، وإذا أخذت الجزية من الكتابي فمن الوثني أولى، لانه كافر مع زيادة جهل، وهذا يفيد الظن في حق بعض المجتهدين، وليس من جنس الأول بل جنس الأول أن يقول إذا قبلت شهادة اثنين فشهادة الثلاثة أولى. وهو مقطوع به لانه وجد فيه الأول وزيادة. والعمياء عوراء مرتين، ومقطوع الرجلين أعرج مرتين، فأما العمد فيخالف الخطأ، فيجوز أن لا تقوى الكفارة على محوه بخلاف الخطأ، بل جنس الأول قولنا: من واقع أهله في نهار رمضان فعليه الكفارة. فالزاني به أولى إذ وجد في الزنا إفساد الصوم بالوطئ وزيادة ولم يوجد في العمد الخطأ وزيادة، وكذلك االوثنى، لبدليل أنه لو وقع التصريح بالفرق بين هذه المسائل لم تنفر النفس عن قبوله، ولو قيل: تجزئ العمياء دون العوراء أو تقبل شهادة اثنين ولا تقبل شهادة ثلاثة. كان ذلك مما تنفر النفس عن قبوله وإنما نفرت النفس عن قبوله لما علم قطعا من أن منع العوراء لاجل نقصانها، وقبول شهادة اثنين لظهور صدق الدعوى وتحريم التأفيف لاكرام الآباء، فمع فهم هذه المعاني يتناقض الفرق، ولم يفهم مثل ذلك من قتل الخطأ وشهادة الكافر وجزية الوثني. المرتبة الثانية: ما يكون المسكوت عنه مثل المنطوق به، ولا يكون أولى منه ولا هو دونه، فيقال إنه في معنى الأصل، وربما اختلفوا في تسميته قياسا، ومثاله قوله: من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي فإن الامة في معناه. وقوله: أيما رجل أفلس أو مات فصاحب المتاع أحق بمتاعه فالمرأة في معناه، وقوله تعالى: {فعليهن نصف من على المحصنات من العذاب} (النساء: 52) فالعبد في معناها، وقوله عليه السلام: من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع فإن الجارية في معناه، وقوله في موت الحيوان في السمن أنه يراق المائع ويقور ما حوالي الجامد، أن العسل لو كان جامدا في معناه، وهذا جنس يرجع حاصله إلى العلم بأن الفارق بين المسكوت عنه والمنطوق به لا مدخل له في التأثير في جنس ذلك الحكم، وإنما يعرف أنه لا مدخل له في التأثير باستقراء أحكام الشرع وموارده ومصادره في ذلك الجنس حتى يعلم أن حكم الرق والحرية ليس يختلف بذكورة وأنوثة، كما لا يختلف بالبياض والسواد والطول والقصر والحسن والقبح فلا يجري هذا في جنس من الحكم تؤثر الذكورة فيه والانوثة، كولاية النكاح والقضاء والشهادة وأمثالها، وضابط هذا الجنس أن لا يحتاج إلى التعرض للعلة الجامعة، بل يتعرض للفارق ويعلم أنه لا فارق إلا كذا، ولا مدخل له في التأثير قطعا، فإن تطرق الاحتمال إلى قولنا: لا فارق إلا كذا بأن احتمل أن يكون ثم فارق آخر وتطرق الاحتمال إلى قولنا لا مدخل له في التأثير بأن احتمل أن يكون له مدخل، لم يكن هذا الالحاق مقطوعا به، بل ربما كان مظنونا. ويتعلق بأذيال هذا الجنس ما هو مظنون، كقولنا إنه لو أضاف العتق إلى عضو معين سرى، فإنه إذا أضاف إلى النصف سرى لانه بعض، واليد بعض، وهذا يغلب على ظن بعض المجتهدين، ومساواة البعض المعين للبعض الشائع في هذا الحكم غير مقطوع به، لان هذا النوع من المفارقة لا يبعد أن يكون له مدخل في التأثير. ومن هذا الجنس ما يتعلق بتنقيح مناط الحكم، كقوله للاعرابي الذي جامع امرأته في رمضان أعتق رقبة فإنا نعلم أن التركي والهندي في معنى العربي إذ علمنا أن ذلك لا مدخل له في الحكم، ويعلم أن العبد في معنى الحر فيلزمه الصوم، لانه شاركه في وجوب الصوم، ولا نرى الصبي في معناه لانه لا يشاركه في اللزوم، وللزوم مدخل في التأثير، وإن نظرنا إلى المحل فقد واقع أهله، فيعلم أنه لو واقع مملوكته فهو في معناه، بل لو زنى بامرأة فهو بالكفارة أولى، أما اللواط وإتيان البهيمة والمرأة الميتة هل هو في معناه؟ ربما يتردد فيه، والاظهر أن اللواط في معناه، وإن نظرنا إلى الصوم المجني عليه فقد جرى وقاع الاعرابي في يوم معين وشهر معين، فيعلم أن سائر الايام في ذلك الشهر، وسائر شهور رمضان في معناه، والقضاء والنذر ليس في معناه لان حرمة رمضان أعظم، فهتكها أفحش، وللحرمة مدخل في جنس هذا الحكم، وإن نظرنا إلى نفس هذا الفعل فهل يلتحق به الاكل والشرب وسائر المفطرات، هذا في محل النظر، إذ يحتمل أن يقال: إنما وجبت الكفارة لتفويت الصوم، والوطئ آلته، كما يجب القصاص لتفويت الدم ثم السيف والسكين وسائر الآلات على وتيرة واحدة. ويحتمل أن يقال: الكفارة زجر ودواعي الوقاع لا تنخنس بمجرد وازع الدين فافتقر إلى كفارة زاجرة، بخلاف داعية الاكل، وهذه ظنون تختلف بالاضافة إلى المجتهدين، وهل يسمى إلحاق الاكل ههنا بالجماع قياسا؟ اختلفوا فيه فقال أصحاب أبي حنيفة: لا قياس في الكفارات، وهذا استدلال وليس بقياس، بل هو استدلال على تجريد مناط الحكم وحذف الحشو منه، ولفظة القياس اصطلاح للفقهاء، فيختلف إطلاقها بحسب اختلافهم في الاصطلاح، فلست أرى الاطناب في تصحيح ذلك أو إفساده لان أكثر تدوار النظر لا فيه على اللفظ، وعلى الجملة فلا يظه بالظاهر في المنكر للقياس إنكار المعلوم، والمقطوع به من هذه الالحاقات، لكن لعله ينكر المظنون منه ويقول: ما علم قطعا أنه لا مدخل له في التأثير، فه كاختلاف الزمان والمكان والسواد والبياض والطوال والقصر فيجب حذفه عن درجة الاعتبار. أما ما يحتمل فلا يجوز حذفه بالظن، وإذا بان لنا إجماع الصحابة أنهم عملوا بالظن كان ذلك دليلا على نزول الظن منزلة العلم في وجوب العمل، لان المسائل التي اختلفوا فيها واجتهدوا، كمسألة الحرام ومسألة الجد وحد الخمر والمفوضة وغيرها من المسائل ظنية وليست قطعية، وعلى الجملة: فلالحاق المسكوت عنه بالمنطوق طريقان متباينان: أحدهما: أن لا يتعرض إلا للفارق وسقوط أثره فيقول: لا فارق إلا كذا وهذه مقدمة، ثم يقول: ولا مدخل لهذا الفارق في التأثير، وهذه مقدمة أخرى، فيلزم منه نتيجة وهو أنه لا فرق في الحكم، وهذا إنما يحسن إذا ظهر التقارب بين الفرع والأصل، كقرب الامة من العبد، لانه لا يحتاج إلى التعرض للجامع لكثرة ما فيه من الاجتماع. الطريق الثاني: أن يتعرض للجامع ويقصد نحوه، ولا يلتفت إلى الفوارق وإن كثرت، ويظهر تأثير الجامع في الحكم فيقول: العلة في الأصل كذا، وهي موجودة في الفرع، فيجب الاجتماع في الحكم، وهذا هو الذي يسمى قياسا بالاتفاق. أما الأول: ففي تسميته قياسا خلاف لان القياس ما قصد به الجمع بين شيئين، وذلك قصد فيه نفي الفرق، فحصل الاجتماع بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، فلم يكن على صورة المقايسة بالاضافة إلى القصد الأول والطريق الأول الذي هو التعرض للفارق ونفيه ينتظم حيث لم تعرف علة الحكم، بل ينتظم في حكم لا يعلل وينتظم حيث عرف أنه معلل، لكن لم تتعين العلة، فإنا نقول: الزبيب في معنى التمر في الربا قبل أن يتعين عندنا علة الربا أنه الطعم أو الكيل أو القوت، وينتظم حيث ظهر أصل العلة وتعين أيضا ولكن لم تتلخص بعد أوصافه ولم تتحرر بعد قيوده وحدوده. أما الطريق الثاني وهو الجمع فلا يمكن إلا بعد تعين العلة وتلخيصها بحدها وقيودها وبيان تحقيق وجودها بكمالها في الفرع، وكل واحد من الطريقين ينقسم إلى مقطوع به وإلى مظنون، فإذا تمهدت هذه المقدمات فيرجع إلى المقصود وهو بيان إثبات العلة في الطريق الثاني الذي هو القياس بالاتفاق، وهو رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما، وهذا القياس يحتاج إلى إثبات مقدمتين: إحداهما: مثلا أن علة تحريم الخمر الاسكار. والثانية: أن الاسكار موجود في النبيذ، أما الثانية فيجوز أن تثبت بالحس ودليل العقل والعرب وبدليل الشرع وسائر أنواع الأدلة، أما الأولى فلا تثبت إلا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، أو نوع استدلال مستنبط، فإن كون الشدة علامة التحريم وضع شرعي، كما أن نفس التحريم كذلك وطريقه طريقه، وجملة الأدلة الشرعية ترجع إلى ألفاظ الكتاب والسنة والإجماع والاستنباط، فنحصره في ثلاث أقسام: |
12-06-2012, 08:01 PM | #60 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
القسم الأول إثبات العلة بأدلة نقلية وذلك إنما يستفاد من صريح النطق أو من الايماء أو من التنبيه على الاسباب، وهي ثلاثة أضرب: الضرب الأول: الصريح، وذلك أن يرد فيه لفظ التعليل، كقوله لكذا أو لعلة كذا أو لاجل كذا، أو لكيلا يكون كذا، وما يجري مجراه من صيغ التعليل، مثل قوله تعالى: {كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم} (الحشر: 7} (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} (المائدة: 23) و {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} (الانفال: 31) وقوله عليه السلام: إنما جعل الاستئذان لاجل البصر وإنما نهيتكم لاجل الدافة فهذه صيغ التعليل، إلا إذا دل دليل على أنه ما قصد التعليل فيكون مجازا كما يقال: لم فعلت؟ فيقول لاني أردت أن أفعل، فهذا لا يصح أن يكون علة، فهو استعمال اللفظ في غير محله. قال القاضي: قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (الاسراء: 87) من هذا الجنس، لان هذا لام التعليل، والدلوك لا يصلح أن يكون علة، فمعناه: صل عنده، فهو للتوقيت، وهذا فيه نظر إذ الزوال والغروب لا يبعد أن ينصبه الشرع علامة للوجوب، ولا معنى لعلة الشرع إلا العلامة المنصوبة، وقد قال الفقهاء: الاوقات أسباب، ولذلك يتكرر الوجوب بتكررها ولا يبعد تسمية السبب علة. الضرب الثاني: التنبيه والايماء على العلة: كقوله عليه السلام لما سئل عن الهرة إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات فإنه وإن لم يقل لانها أو لاجل أنها من الطوافين لكن أومأ إلى التعليل لانه لو لم يكن علة لم يكن ذكر وصف الطواف مفيدا، فإنه لو قال: إنها سوداء أو بيضاء، لم يكن منظوما إذ لم يرد التعليل، وكذلك قوله: فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا وإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما وقوله جل جلاله: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء} (المائدة: 19) فإنه بيان لتعليل تحريم الخمر حتى يطرد في كل مسكر، وكذلك ذكر الصفة قبل الحكم، كقوله: {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} (البقرة: 222) فهو تعليل حتى يفهم منه تحريم الاتيان في غير المأتي، لان الاذى فيه دائم، ولا يجري في المستحاضة، لان ذلك عارض وليس بطبيعي، وكذلك قوله: تمرة طيبة وماء طهور فإن ذلك لو لم يكن تعليلا لاستعماله لما كان الكلام واقعا في محله، وهو الذي يدل على أنه كان ماء نبذ فيه تميرات، فيقاس عليه الزبيب و غيره ولا يقاس عليه المرقة والعصيدة وما انقلب شيئا آخر بالطبخ، وكذلك قوله عليه السلام: أينقص الرطب إذا يبس؟ فقيل: نعم، فقال فلا إذا ففيه تنبيه على العلة من ثلاثة أوجه. أحدها: أنه لا وجه لذكر هذا الوصف لولا التعليل به. الثاني: قوله: إذا فإنه للتعليل. الثالث: الفاء في قوله: فلا إذا فإنه للتعقيب والتسبيب، ومن ذلك أن يجيب عن المسألة بذكر نظيرها كقوله: أرأيت لو تمضمضت أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه؟ فإنه لو لم يكن للتعليل لما كان التعرض لغير محل السؤال منتظما ومن ذلك أن يفصل الشارع بين قسمين بوصف ويخصه بالحكم، كقول القائل: القاتل لا يرث، فإنه يدل في الظاهر على أنه لا يرث لكونه قاتلا، وليس هذا للمناسبة، بل لو قال: الطويل لا يرث أو الاسود لا يرث لكنا نفهم منه جعله الطول والسواد علامة على انفصاله عن الورثة فهذا وأمثاله مما يكثر، ولا يدخل تحت الحصر، فوجوه التنبيه لا تنضبط، وقد أطنبنا في تفصيلها في كتاب شفاء الغليل. وهذا القدر كاف ههنا. الضرب الثالث: التنبيه على الاسباب بترتيب الاحكام عليها بصيغة الجزاء والشرط وبالفاء التي هي للتعقيب والتسبيب، كقوله عليه السلام: من أحيا أرضا ميتة فهي له ومن بدل دينه فاقتلوه وقوله تعالى: {كانوا} (المائدة: 38) و {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما} (النور: 2) وقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} (المائدة: 6) ويلتحق بهذا القسم ما يرتبه الراوي بفاء الترتيب كقوله: زنى ماعز فرجم، وسها النبي فسجد، ورضخ يهودي رأس جارية فرضخ النبي رأسه، فكل هذا يدل على التسبيب، وليس للمناسبة، فإن قوله: من مس ذكره فليتوضأ يفهم منه السبب، وإن لم يناسب، بل يلتحق بهذا الجنس كل حكم حدث عقيب وصف حادث سواء كان من الاقوال كحدوث الملك والحل عند البيع والنكاح والتصرفات، أو من الافعال كاشتغال الذمة عند القتل والاتلاف، أو من الصفات، كتحريم الشرب عند طريان الشدة على العصير وتحريم الوطئ عند طريان الحيض فإنه ينقدح أن يقال: لا يتجدد إلا بتجدد سبب ولم يتجدد إلا هذا، فإذا هو السبب، وإن لم يناسب. فإن قيل: فهذه الوجوه المذكورة تدل على السبب، والعلة دلالة قاطعة أو دلالة ظنية؟ قلنا: أما ما رتب على غيره بفاء الترتيب وصيغة الجزاء والشرط فيدل على أن المرتب عليه معتبر في الحكم لا محالة، فهو صريح في أصل الاعتبار. أما اعتباره بطريق كونه علة أو سببا متضمنا للعلة بطريق الملازمة والمجاورة أو شرطا يظهر الحكم عنده بسبب آخر، أو يفيد الحكم على تجرده حتى يعم الحكم المحال أو يضم إليه وصف آخر حتى يختص ببعض المحال، فمطلق الاضافة من الالفاظ المذكورة ليس صريحا فيها، ولكن قد يكون ظاهرا من وجه ويحتمل غيره، وقد يكون مترددا بين وجهين فيتبع فيه موجب الأدلة وإنما الثابت بالايماء، والتنبيه كون الوصف المذكور معتبرا بحيث لا يجوز إلغاؤه، مثال هذا قوله عليه السلام: لا يقض القاضي وهو غضبان وهو تنبيه على أن الغضب علة في منع القضاء، لكن قد يتبين بالنظر أنه ليس علة لذاته، بل لما يتضمنه من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر حتى يلحق به الجائع والحاقن والمتألم فيكون الغضب مناطا لا لعينه بل لمعنى يتضمنه. وكذلك قوله: سها فسجد، يحتمل أن يكون السبب هو السهو لعينه ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من ترك أبعاض الصلاة، حتى لو تركه عمدا ربما قيل يسجد أيضا، وكذلك قوله: زنى ما عز فرجم، احتمل أن يكون لانه زنى، واحتمل أن يكون لما يتضمنه الزنا من إيلاج فرج في فرج محرم قطعا مشتهى طبعا، حتى يتعدى إلى اللواط. وكذلك قوله: من جامع في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر يحتمل أن يكون لنفس الجماع، ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من هتك حرمة الشهر، ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من إفساد الصوم، حتى يتعدى إلى الاكل، والظاهر الاضافة إلى الأصل ومن صرفه عن الأصل إلى ما يتضمنه من إفساد الصوم حتى يتعدى إلى الاكل افتقر إلى دليل. وهذا النوع من التصرف غير منقطع عن هذه الاضافات. فهذا ظاهر في الاضافات اللفظية إيماء كان أو صريحا. أما ما يحدث بحدوث وصف كحدوث الشدة ففي إضافة الحكم إليه نظر سيأتي في الطرد والعكس.
القسم الثاني في إثبات العلة بالإجماع على كونها مؤثرة في الحكم مثاله قولهم: إذا قدم الاخ من الاب والام على الاخ للاب في الميراث، فينبغي أن يقدم في ولاية النكاح فإن العلة في الميراث التقديم بسبب امتزاج الاخوة، وهو المؤثر بالاتفاق، وكذلك قول بعضهم: الجهل بالمهر يفسد النكاح، لانه جهل بعوض في معاوضة، فصار كالبيع، إذ الجهل مؤثر في الافساد في البيع بالاتفاق وكذلك نقول: يجب الضمان على السارق وإن قطع لانه مال تلف تحت اليد العارية فيضمن، كما في الغصب وهذا الوصف هو المؤثر في الغصب اتفاقا، وكذلك يقول الحنفي: صغيرة فيولي عليها قياسا لثيب الصغيرة على البكر الصغيرة، فالمطالبة منقطعة عن إثبات علة الأصل، لانها بالاتفاق مؤثرة. ويبقى سؤال وهو أن يقال: لم قلتم إذا أثر امتزاج الاخوة في التقديم في الارث فينبغي أن يؤثر في النكاح؟ وإذا أثر الصغر في البكر فهو يؤثر في الثيب، وهذا السؤال إما أن يوجهه المجتهد على نفسه أو يوجهه المناظر في المناظرة، أما المجتهد فيدفعه بوجهين: أحدهما: أن يعرف مناسبة المؤثر كالصغر، فإنه يسلط الولي على التزويج للعجز، فنقول: الثيب كالبكر في هذه المناسبة. الثاني: أن يتبين أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا كذا وكذا، ولا مدخل له في التأثر كما ذكرناه في إلحاق الامة بالعبد في سراية العتق ونظائره، فيكون هذا القياس تمامه بالتعرض للجامع ونفي الفارق جميعا، وإن ظهرت المناسبة استغنى عن التعرض للفارق، وإن كان السؤال من مناظر فيكفي أن يقال: القياس لتعدية حكم العلة من موضع إلى موضع وما من تعدية إلا ويتوجه عليها هذا السؤال، فلا ينبغي أن يفتح هذ الالباب، بل يكلف المعترض الفرق أو التنبيه على مثار خيال الفرق بأن يقول مثلا: إخوة الام أثرت في الميراث في الترجيح، لان مجردها يؤثر في التوريث، فلم قلت: إذا استعمل في الترجيح ما يستقل بالتأثير فيستعمل حيث لا يستقل، فتقبل المطالبة على هذه الصيغة، وهي أولى من إبدائه في معرض الفرق ابتداء، أما إذا لم ينبه على مثار خيال الفرق وأصر على صرف المطالبة فلا ينبغي أن يصطلح المناظرون على قبوله، لانه يفتح بابا من اللجاج لا ينسد، ولا يجوز إرهافه إلى طلب المناسبة فإن ما ظهر تأثيره بإضافة الحكم إليه، فهو علة ناسب أو لم يناسب، فقد قال عليه السلام: من مس ذكره فليتوضأ فنحن نقيس عليه ذكر غيره ولا مناسبة، ولكن نقول: ظهر تأثير المس ولا مدخل للفارق في التأثير، فإنه وإن ظهر مناسبته أيضا فيجوز أن يختص اعتبار المناسب ببعض المواضع، إذ السرقة تناسب القطع ثم تختص بالنصاب، والزنا يناسب الرجم ثم يختص بالمحصن، فيتوجه على المناسب أيضا أن يقول: لم قلت إذا أثر هذا المناسب وهو الصغر في ولاية المال فينبغي أن يؤثر في ولاية البضع، وإذا أثر في البكر يؤثر في الثيب، وإذا أثر في التزويج من الابن يؤثر في التزويج من البنت ومن المناسبات ما يختص ببعض المواضع، وهذا السؤال يستمد من خيال منكري القياس، فلا ينبغي أن يقبل. القسم الثالث في إثبات العلة بالاستنباط وطرق الاستدلال وهي أنواع: النوع الأول: السبر والتقسيم: وهو دليل صحيح، وذلك بأن يقول هذا الحكم معلل، ولا علة له إلا كذا أو كذا، وقد بطل أحدهما فتعين الآخر، وإذا استقام السبر كذلك فلا يحتاج إلى مناسبة، بل له أن يقول: حرم الربا في البر، ولا بد من علامة تضبط مجرى الحكم عن موقعه، ولا علامة إلا الطعم أو القوت أو الكيل، وقد بطل القوت والكيل بدليل كذا وكذا، فثبت الطعم، لكن يحتج ههنا إلى إقامة الدليل على ثلاثة أمور. أحدها: أنه لا بد من علامة، إذ قد يقال: هو معلوم باسم البر، فلا يحتاج إلى علامة وعلة فنقول: ليس كذلك، لان إذا صار دقيقا وخبزا وسويقا نفى حكم الربا وزال اسم البر، فدل أن مناط الربا أمر أعم من اسم البر. الثاني: أن يكون سبره حاصرا، فيحصر جميع ما يمكن أن يكون علة أما بأن يوافقه الخصم على أن الممكنات ما ذكره، وذلك ظاهر أو لا يسلم، فإن كان يسلم، فإن كان مجتهدا فعليه سبر بقدر إمكانه حتى يعجز عن إيراد غيره، وإن كان مناظرا فيكفيه أن يقول: هذا منتهى قدرتي في السبر فإن شاركتني في الجهل بغيره لزمك ما لزمني، وإن أطلعت على علة أخرى فيلزمك التنبيه عليها حتى أنظر في صحتها أو فسادها. فإن قال: لا يلزمني ولا أظهر العلة وإن كنت أعرفها، فهذا عناد محرم، وصاحبه إما كاذب وإما فاسق بكتمان حكم مست الحاجة إلى إظهار، ومثل هذا الجدل حرام وليس من الدين، ثم إفساد سائر العلل تارة يكون ببيان سقوط أثرها في الحكم بأن يظهر بقاء الحكم مع انتفائها أو بانتقاضها بأن يظهر انتفاء الحكم مع وجودها. النوع الثاني: من الاستنباط: إثبات العلة بإبداء مناسبتها للحكم، والاكتفاء بمجرد المناسبة في إثبات الحكم مختلف فيه، وينشأ منه أن المراد بالمناسب ما هو على منهاج المصالح، بحيث إذا أضيف الحكم إليه انتظم، مثاله: قولنا حرمت الخمر لانها تزيل العقل الذي هو مناط التكليف، وهو مناسب، لا كقولنا: حرمت لانها تقذف بالزبد، أو لانها تحفظ في الدن، فإن ذلك لا يناسب، وقد ذكرنا حقيقة المناسب وأقسامه ومراتبه في آخر القطب الثاني من باب الاستحسان والاستصلاح، فلا نعيده، لكنا نقول: المناسب ينقسم إلى مؤثر وملائم وغريب. ومثال المؤثر: التعليل للولاية بالصغر ومعنى كونه مؤثرا أنه ظهر تأثيره في الحكم بالإجماع أو النص، وإذا ظهر تأثيره فلا يحتاج إلى المناسبة، بل قوله: من مس ذكره فليتوضأ لما دل على تأثير المس قسنا عليه مس ذكر غيره. أما الملائم: فعبارة عما لم يظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم كما في الصغر، لكن ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم. مثاله قوله: لا يجب على الحائض قضاء الصلاة دون الصوم، لما في قضاء الصلاة من الحرج بسبب كثرة الصلاة، وهذا قد ظهر تأثير جنسه لان لجنس المشقة تأثيرا في التخفيف، أما هذه المشقة نفسها وهي مشقة التكرر فلم يظهر تأثيرها في موضع آخر، نعم: لو كان قد ورد النص بسقوط قضاء الصلاة عن الحرائر الحيض وقسنا عليهن الاماء لكان ذلك تعليلا بما ظهر تأثير عينه في عين الحكم لكن في محل مخصوص فعديناه إلى محل آخر، ومثاله أيضا قولنا إن قليل النبيذ وإن لم يسكر حرام قياسا على قليل الخمر، وتعليلنا قليل الخمر بأن ذلك منه يدعو إلى كثيره فهذا مناسب لم يظهر تأثير عينه، لكن ظهر تأثير جنسه إذا الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا حرمها الشرع، كتحريم الزنا فكان هذا ملائما للجنس بصرف الشرع وأن لم يظهر تأثير عينه في الحكم. وأما الغريب الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع، فمثاله قولنا: إن الخمر إنماح رمت، لكونها مسكرة، ففي معناها: كل مسكر، ولم يظهر أثر السكر في موضع آخر لكنه مناسب. وهذا مثال الغريب لو لم يقدبر التنبيه بقوله: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر} (المائدة: 19) ومثاله أيضا قولنا: المطلقة ثلاثا في مرض الموت ترث، لان الزوج قصد الفرار من ميراثها، فيعارض بنقيض قصده، قياسا على القاتل، فإنه لا يرث، لانه يستعجل الميراث فعورض بنقيض قصده، فإن التعليل حرمان القاتل بهذا تعليل بمناسب لا يلائم جنس تصرفات الشرع، لانا لا نرى الشرع في موضع آخر قد التفت إلى جنسه، فتبقى مناسبة مجردة غريبة، ولو علل الحرمان بكونه متعديا بالقتل وجعل هذا جزاء على العدوان كان تعليلا بمناسبة ملائم ليس بمؤثر لان الجناية بعينها وإن ظهر تأثيرها في العقوبات فلم يظهر تأثيرها في الحرمان عن الميراث، فلم يؤثر في عين الحكم، وإنما أثر في جنس آخر من الاحكام فهو من جنس الملائم لا من جنس المؤثر، ولا من جنس الغريب، فإذا عرفت مثال هذه الاقسام الثلاثة، فأعلم أن المؤثر مقبول باتفاق القائلين بالقياس، وقصر أبو زيد الدبوسي القياس عليه وقال: لا يقبل إلا مؤثر، ولكن أورد للمؤثر أمثله عرف بها أنه قبل الملائم لكنه سماه أيضا مؤثرا، وذكرنا تفصيل أمثلته والاعتراض عليها في كتاب شفاء الغليل، ولا سبيل إلى الاقتصار على المؤثر، لان المطلوب غلبة الظن، ومن استقرأ أقيسة الصحابة رضي الله عنهم واجتهاداتهم علم أنهم لم يشترطوا في كل قياس، كون العلة معلومة بالنص والإجماع، وأما المناسب الغريب فهذا في محل الاجتهاد. ولا يبعد عندي أن يغلب ذلك على ظن بعض المجتهدين، ولا يدل دليل قاطع على بطلان اجتهاده، فإن قيل: يدل على بطلانه أنه متحكم بالتعليل من غير دليل يشهد لاضافة الحكم إلى علته، قلنا: إثبات الحكم على وفقه يشهد لملاحظة الشرع له ويغلب ذلك على الظن، فإن قيل: قولكم إثبات الحكم على وفقه تلبيس إذ معناه أنه تقاضى الحكم بمناسبة، وبعث الشارع على الحكم فأجاب باعثه وانبعث على وفق بعثه، وهذا تحكم، لانه يحتمل أن يكون حكم الشرع بتحريم الخمر تعبدا أو تحكما، كتحريم الخنزير والميتة والدم والحمر الاهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، مع تحليل الضبع والثعلب على بعض المذاهب، وهي تحكمات، لكن اتفق معنى الاسكار في الخمر فظن أنه لاجل الاسكار، ولم يتفق مثله في الميتة والخنزير، فقيل أنه تحكم، وهذا على تقدير عدم التنبيه في القرآن بذكر العداوة والبغضاء، ويحتمل أن يكون بمعنى آخر مناسب لم يظهر لنا، ويحتمل أن يكون للاسكار فهذه ثلاثة احتمالات، فالحكم بواحد من هذه الثلاثة تحكم بغير دليل وإلا فبم يترجح هذا الاحتمال وهذا لا ينقلب في المؤثر فإنه عرف كونه علة بإضافة الحكم إليه نصا أو إجماعا، كالصغر وتقديم الاخ للاب والام. والجواب: أنا نرجح هذا الاحتمال على احتمال التحكم بما رددنا به مذهب منكري القياس، كما في المؤثر، فإن العلة إذا أضيف الحكم إليها في محل احتمل أن يكون مختصا بذلك المحل، كما اختص تأثير الزنا بالمحصن وتأثير السرقة بالنصاب، فلا يبعد أن يؤثر الصغر في ولاية المال دون ولاية البضع وامتزاج الاخوة في التقديم في الميراث دون الولاية، وبه اعتصم نفاة القياس، لكن قيل لهم: علم من الصحابة رضي الله عنهم اتباع العلل، وإطراح تنزيل الشرع على التحكم ما أمكن، فكذلك ههنا ولا فرق، وأما قولهم: لعل فيه معنى آخر مناسبا هو الباعث للشارع ولم يظهر لنا، وإنما مالت أنفسنا إلى المعنى الذي ظهر لعدم ظهور الآخر لا لدليل دل عليه، فهو وهم محض. فنقول: غلبة الظن في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم وتعتمد انتفاء الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطلت غلبة الظن، ولو فتح هذا الباب لم يستقم قياس، فإن العلة الجامعة بين الفرع والأصل، وإن كانت مؤثرة فإنما يغلب على الظن الاجتماع لعدم ظهور الفرق، ولعل فيه معنى لو ظهر لزالت عنه غلبة الظن، ولعدم علة معارضة لتلك العلة، فلو ظهر أصل آخر يشهد للفرع بعلة أخرى تناقض العلة الأولى لا تدفع غلبة الظن، بل يحصل الظن من صيغ العموم والظواهر بشرط انتفاء قرينة مخصصة لو ظهرت لزال الظن، لكن إذا لم تظهر جاز التعويل عليه، وذلك لانه لم يظهر لنا من إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الاجتهاد إلا اتباع الرأي الاغلب، وإلا فلم يضبطوا أجناس غلبة الظن ، ولم يميزوا جنسا عن جنس، فإن سلمتم حصول الظن بمجرد المناسبة وجب إتباعه، فإن قيل: لا نسلم أن هذا ظن، بل هو وهم مجرد، فإن التحكم محتمل ومناسب آخر لم يظهر لنا محتمل وهذا الذي ظهر محتمل، ووهم الانسان مائل إلى طلب علة وسبب لكل حكم ثم أنه سباق إلى ما ظهر له وقاض بأنه ليس في الوجود إلا ما ظهر له فتقضي نفسه بأنه لا بد من سبب، ولا سبب إلا هذا فإذا هو السبب، فقوله: لا بد من سبب إن سلمناه ولم ينزل على التحكم ونقول بلا علة ولا سبب، فقوله: لا سبب إلا هذا، تحكم مستنده أنه لم يعلم إلا هذا، فجعل عدم علمه بسبب آخر علما بعدم سبب آخر، وهو غلط، وبمثل هذا الطريق أبطلتم القول بالمفهوم، إذ مستند القائل به أنه لابد من باعث على التخصيص، ولم يظهر لنا باعث سوى اختصاص الحكم، فإذا هو الباعث إذ قلتم بما عرفتم أنه لا باعث سواه؟ فلعله بعثه على التخصيص باعث لم يظهر لكم، وهذا كلام واقع في إمكان التعليل بمناسب لا يؤثر ولا يلائم. والجواب أن هذا استمداد من مأخذ نفاة القياس، وهو منقلب في المؤثر والملائم فإن الظن الحاصل به أيضا يقابله احتمال التحكم واحتمال فرق ينقدح واحتمال علة تعارض هذه العلة في الفرع، ولا فرق بين هذه الاحتمالات، ولولاها لم يكن الالحاق مظنونا بل مقطوعا، كإلحاق الامة بالعبد، وفهم الضرب من التأفيف، وقول القائل: أن هذا وهم وليس بظن، ليس كذلك، فإن الوهم عبارة عن ميل النفس من غير سبب مرجح والظن عبارة عن الميل بسبب، ومن بنى أمره في المعاملات الدنيوية على الوهم سفه في عقله، ومن بناه على الظن كان معذورا، حتى لو تصرف في مال الطفل بالوهم ضمن، ولو تصرف بالظن لم يضمن، فمن رأى مركب الرئيس على باب دار السلطان فاعتقد أن الرئيس ليس في داره بل في دار السلطان وبنى عليه مصلحته لم يعد متوهما، وإن أمكن أن يكون الرئيس قد أعار مركبه أو ركبه الركابي في شغل ومن رأى الرئيس أمر غلامه بضرب رجل وكان قد عرف أنه يشتم الرئيس فحمل ضربه على أنه شتمه كان معذورا، ومن رأى ماعزا أقر بالزنا، ثم رأى النبي عليه السلام قد أمر برجمه فاعتقد أنه أمر برجمه لزناه، وروى ذلك كان معذورا ظانا ولم يكن متوهما، ومن عرف شخصا بأنه جاسوس ثم رأى السلطان قد أمر بقتله فحمله عليه لم يكن متوهما، فإن قيل: لا بل، يكون متوهما، فإنه لو عرف من عادة الرئيس أنه يقابل الاساءة بالاحسان ولا يضرب من يشتمه، وعرف من عادة الامير الاغضاء عن الجاسوس إما استهانة بالخصم أو استمالة ثم رآه قتل جاسوسا فحكم بأنه قتله لتجسسه، فهو متوهم متحكم، أما إذا عرف من عادته ذلك فتكون عادته المطردة علامة شاهدة لحكم ظنه، ووزانه من مسألتنا الملائم الذي التفت الشرع إلى مثله وعرف من عادته ملاحظة عينه أو ملاحظة جنسه، وكلامنا في الغريب الذي ليس بملائم ولا مؤثر. والجواب: أن ههنا ثلاث مراتب: إحداها: أن يعرف أن من عادة الرئيس الاحسان إلى المسئ ومن عادة الامير الاغضاء عن الجاسوس، فهذا يمنع تعليل الضرب والقتل بالشتم والتجسس، ووزانه أن يعلل الحكم بمناسب أعرض الشرع عنه وحكم بنقيض موجبه، فهذا لا يعول عليه، لان الشرع كما التفت إلى مصالح فقد أعرض عن مصالح، فما أعرض عنه لا يعلل به. والثانية: أن يعرف من عادة الرئيس والامير ضرب الشاتم وقتل الجاسوس، فوزانه الملائم وهذا مقبول وفاقا من القائسين. وإنما النظر في رتبة ثالثة وهو من لم تعرف له عادة أصلا في الشاتم والجاسوس، فنحن نعلم أنه لو ضرب وقتل غلب على ظنون العقلاء الحوالة عليه، وأنه سلك مسلك المكافأة، لان الجريمة تناسب العقوبة، فإن قيل: لان أغلب عادة الملوك ذلك، والاغلب أن طبائعهم تتقارب قلنا: فليس في هذا إلا الاخذ بالاغلب، وكذلك أغلب عادات الشرع في غير العبادات اتباع المناسبات والمصالح دون التحكمات الجامدة، فتنزيل حكمه عليه أغلب على الظن، ويبقى أن يقال لعله حكم بمناسب آخر لم يظهر لنا فنقول: ما بحثنا عنه بحسب جهدنا فلم نعثر عليه فهو معدوم في حقنا، ولم يكلف المجتهد غيره وعليه دلت أقيسة الصحابة والتمسك بالمؤثر والملائم، لقول النبي عليه السلام لعمر: أرأيت لو تمضمضت معناه: لم لم تفهم أن القبلة مقدمة الوقاع، والمضمضة مقدمة الشرب، فلو قال عمر: لعلك عفوت عن المضمضة لخاصية في المضمضة أو لمعنى مناسب لم يظهر لي ولا يتحقق ذلك في القبلة، لم يقبل منه ذلك، وعد ذلك مجادلة وكذلك قوله: أرأيت لو كان على أبيك دين فتقضينه؟ وكذلك كل قياس نقل عن الصحابة، وبالجملة إذا فتح باب القياس فالضبط بعده غير ممكن، لكن يتبع الظن، والظن على مراتب، وأقواه المؤثر، فإنه لا يعارضه إلا احتمال التعليل بتخصيص المحل ودونه الملائم ودونه المناسب الذي لا يلائم، وهو أيضا درجات، وإن كان على ضعف، ولكن يختلف باختلاف قوة المناسبة، وربما يورث الظن لبعض المجتهدين في بعض المواضع، فلا يقطع ببطلانه ولا يمكن ضبط درجات المناسبة أصلا، بل لكل مسألة ذوق آخر ينبغي أن ينظر فيه المجتهد. وأما المفهوم فلا يبعد أيضا أن يغلب في بعض المواضع على ظن بعض المتجهدين وعند ذلك يعسر الوقوف، على أن ذلك الظن حصل بمجرد التخصيص وحده أو به مع قرينة، فلا يبعد أن يقال: هو مجتهد فيه وليس مقطوعا، فإنه ظهر لنا أن صيغة العموم بمجردها إذا تجردت عن القرائن أفادت العموم، وليس يفهم ذلك من مجرد لفظ التخصيص وإن كان يمكن انقداحه في النفس في بعض المواضع، فليكن ذلك أيضا في محل الاجتهاد، وقد خرج على هذا أن المعنى باعتبار الملاءمة وشهادة الأصل المعين أربعة أقسام، ملائم يشهد له أصل معين يقبل قطعا عند القائسين، ومناسب لا يلائم ولا يشهد له أصل معين، فلا يقبل قطعا عند القائسين فإنه استحسان ووضع للشرع بالرأي ومثاله: حرمان القاتل لو لم يرد فيه نص لمعارضته بنقيض قصده، فهذا وضع للشرع بالرأي ومناسب يشهد له أصل معين، لكن لا يلائم، فهو في محل الاجتهاد، وملائم لا يشهد له أصل معين، وهو الاستدلال المرسل وهو أيضا في محل الاجتهاد، وقد ذكرناه في باب الاستصلاح في آخر القطب الثاني وبينا مراتبه. القول في المسالك الفاسدة في إثبات علة الأصل وهي ثلاثة: الأول: أن نقول الدليل على صحة علة الأصل سلامتها عن علة تعارضها تقتضي نقيض حكمها، وسلامتها عن المعارضة دليل صحتها، وهذا فاسد، لانه إن سلم عنه فإنما سلم عن مفسد واحد، فربما لا يسلم عن مفسد آخر، وإن سلم عن كل مفسد أيضا لم يدل على صحته، كما لو سلم شهادة المجهول عن علة قادحة، لا يدل على كونه حجة ما لم تقم بينة معدلة مزيكة، فكذلك لا يكفي للصحة انتفاء المفسد بل لابد من قيام الدليل على الصحة. فإن قيل: دليل صحتها انتفاء المفسد، قلنا: لا بل، دليل، فساده انتفاء المصحح، فهذا منقلب ولا فرق بين الكلامين المسلك الثاني: الاستدلال على صحتها بأطرادها وجريانها في حكمها، وهذا لا معنى له إلا سلامتها عن مفسد واحد وهو النقض، فهو كقول القائل: زيد عالم لانه دليل يفسد دعوى العلم ويعارضه أنه جاهل، لانه لا دليل يفسد دعوى الجهل، والحق أنه لا يعلم كونه عالما بانتفاء دليل الجهل، ولا كونه جاهلا بانتفاء دليل العلم بل يتوقف فيه إلى ظهور الدليل، فكذلك الصحة والفساد، فإن قيل: ثبوت حكمها معها واقترانه بها دليل على كونها علة، قلنا غلطتم في قولكم ثبوت حكمها، لان هذه إضافة للحكم لا تثبت إلا بعد قيام الدليل على كونها علة، فإذا لم يثبت لم يكن حكمها بل بحال غلبة الظن عليه كان حكم علته واقترن بها، والاقتران لا يدل على الاضافة، فقد يلزم الخمر لون وطعم يقترن به التحريم ويطرد وينعكس والعلة الشدة واقترانه بما ليس بعلة كاقتران الاحكام بطلوع كوكب وهبوب ريح وبالجملة، فنصب العلة مذهب يفتقر إلى دليل كوضع الحكم ولا يكفي في إثبات الحكم أنه لا نقض عليه ولا مفسد له، بل لا بد من دليل فكذلك العلة. المسلك الثالث: الطرد والعكس، وقد قال قوم: الوصف إذا ثبت الحكم معه وزال مع زواله يدل على أنه علة، وهو فاسد، لان الرائحة المخصوصة مقرونة بالشدة في الخمر ويزول التحريم عند زوالها ويتجدد عند تجددها وليس بعلة بل هو مقترن بالعلة، وهذا لان الوجود عند الوجود طرد محض، فزيادة العكس لا تؤثر لان العكس ليس بشرط في العلل الشرعية فلا أثر لوجوده وعدمه، ولان زواله عند زواله يحتمل أن يكون لملازمته للعلة كالرائحة أو لكونه جزءا من أجزاء العلة، أو شرطا من شروطها، والحكم ينتفي بانتفاء بعض شروط العلة وبعض أجزائها فإذا تعارضت الاحتمالات فلا معنى للتحكم، وعلى الجملة فنسلم أن ما ثبت الحكم بثبوته فهو علة، فكيف إذا انضم إليه أنه زال بزواله؟ أما ما ثبت مع ثبوته وزال مع زواله فلا يلزم كونه علة، كالرائحة المخصوصة مع الشدة، أما إذا انضم إليه سبر وتقسيم كان ذلك حجة، كما لو قال هذا الحكم لا بد له من علة، لانه حدث بحدوث حادث ولا حادث يمكن أن يعلل به إلا كذا وكذا، وقد بطل الكل إلا هذا فهو العلة، ومثل هذا السبر حجة في الطرد المحض وإن لم ينضم إليها العكس، ولا يرد على هذا إلا أنه ربما شذ عنه وصف آخر هو العلة، ولا يجب على المجتهد إلا سبر بحسب وسعه، ولا يجب على الناظر غير ذلك، وعلى من يدعي وصفا رخر إبرازه حتى ينظر فيه، فإن قيل فما معنى إبطالكم التمسك بالطرد والعكس وقد رأيتم تصويب المجتهدين، وقد غلب هذا على ظن قوم، فإن قلتم: لا يجوز لهم الحكم به فمحال، إذ ليس على المجتهد إلا الحكم بالظن، وإن قلتم: لم يغلب على ظنهم فمحال، لان هذا قد غلب على ظن قوم ولولاه لما حكموا به. قلنا: أجاب القاضي رحمه الله عن هذا بأن قال: نعني بإبطاله أنه باطل في حقنا، لانه لم يصح عندنا ولم يغلب على ظننا إما من غلب على ظنه فهو صحيح في حقه. وهذا فيه نظر عندي، لان المجتهد مصيب إذا استوفى النظر وأتمه، وأما إذا قضى بسابق الرأي وبادئ الوهم فهو مخطئ، فإن سبر وقسم فقد أتم النظر وأصاب، أما حكمه قبل السبر والتقسيم بأن ما اقترن بشئ ينبغي أن يكون علة فيه تحكم ووهم، إذ تمام دليله أن ما اقترن بشئ فهو علته، وهذا قد اقترن به فهو إذا علته، والمقدمة الأولى منقوضة بالطم والرم فإذا كأنه لم ينظر ولم يتمم النظر ولم يعثر على مناسبة العلة ولم يتوصل إليه بالسير والتقسيم، ومن كشف له هذا لم يبق له غلبة ظن بالطرد المجرد إلا أن يكون جاهلا ناقص الرتبة عن درجة المجتهدين، ومن اجتهد وليس أهلا له فهو مخطئ، وليس كذلك عندي المناسب الغريب والاستدلال المرسل فإن ذلك مما يوجب الظن لبعض المجتهدين، وليس يقوم فيه دليل قاطع من عرفه محق ظنه بخلاف الطرد المجرد الذي ليس معه سبر وتقسيم، وهذا تمام القول في قيا س العلة، ولنشرع في قياس الشبه. |
12-06-2012, 08:03 PM | #61 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الباب الثالث في قياس الشبه
ويتعلق النظر فهذا الباب بثلاثة أطراف: الطرف الأول: في حقيقة الشبه وأمثلته وتفصيل المذاهب فيه وإقامة الدليل على صحته. أما حقيقته فاعلم أن اسم الشبه يطلق على كل قياس، فإن الفرع يلحق بالأصل بجامع يشبهه فيه، فهو إذا يشبهه، وكذلك اسم الطرد، لان الاطراد شرط كل علة جمع فيها بين الفرع والأصل، ومعنى الطرد السلامة عن النقض، لكن العلة الجامعة إن كانت مؤثرة أو مناسبة عرفت بأشرف صفاتها وأقواها وهو التأثير، والمناسبة دون الاخس الاعم الذي هو الاطراد والمشابهة فإن لم يكن للعلة خاصية إلا الاطراد الذي هو أعم أوصاف العلل وأضعفها في الدلالة على الصحة خص باسم الطرد لا لاختصاص الاطراد بها لكن لانه لا خاصية لها سواه، فإن انضاف إلى الاطراد زيادة ولم ينته إلى درجة المناسب والمؤثر سمي شبها وتلك الزيادة هي مناسبة الوصف الجامع لعلة الحكم وإن لم يناسب نفس الحكم، بيانه أنا نقدر أن لله تعالى في كل حكم سرا وهو مصلحة مناسبة للحكم، وربما لا يطلع على عين تلك المصلحة، لكن يطلع على وصف يوهم الاشتمال على تلك المصلحة ويظن أنه مظنتها وقالبها الذي يتضمنها وإن كنا لا نطلع على عين ذلك السر، فالاجتماع في ذلك الوصف الذي يوهم الاجتماع في المصلحة الموجبة للحكم يوجب الاجتماع في الحكم، ويتميز عن المناسب بأن المناسب هو الذي يناسب الحكم ويتقاضاه بنفسه، كمناسبة الشدة للتحريم، ويتميز عن الطرد بأن الطرد لا يناسب الحكم ولا المصلحة المتوهمة للحكم بل نعلم إن ذلك الجنس لا يكون مظنة المصالح وقالبها، كقول القائل، الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا يزيل النجاسة كالدهن، وكأنه علل إزالة النجاسة بالماء بأنه تبنى القنطرة على جنسه واحترز من الماء القليل. فإنه وإن كان لا تبنى القنطرة عليه فإنه تبنى على جنسه، فهذه علة مطردة لا نقض عليها ليس فيها خصلة سوى الاطراد ونعلم أنه لا يناسب الحكم ولا يناسب العلة التي تقتضي الحكم بالتضمن لها، والاشتمال عليها، فإنا نعلم أن الماء جعل مزيلا للنجاسة لخاصية وعلة وسبب يعلمه الله تعالى وإن لم نعلمها ونعلم أن بناء القنطرة مما لا يوهم الاشتمال عليها ولا يناسبها فإذا معنى التشبيه الجمع بين الفرع، والأصل بوصف مع الاعتراف بأن ذلك الوصف ليس علة للحكم بخلاف قياس العلة، فإنه جمع بما هو علة الحكم، فإن لم يرد الاصوليون بقياس الشبه هذا الجنس فلست أدري ما الذي أرادوا وبم فصلوه عن الطرد المحض وعن المناسب وعلى الجملة فنحن نريد هذا بالشبه، فعلينا الآن تفهيمه بالامثلة وإقامة الدليل على صحته، أما أمثلة قياس الشبه فهي كثيرة ولعل جل أقيسة الفقهاء ترجع إليها إذ يعسر إظهار تأثير العلل بالنص والإجماع والمناسبة المصلحية: المثال الأول: قول أبي حنيفة: مسح الرأس لا يتكرر تشبيها له بمسح الخف والتيمم، والجامع أنه مسح، فلا يستحب فيه التكرار قياسا على التيمم ومسح الخف، ولا مطمع فيما ذكره أبو زيد من تأثير المسح، فإنه أورد هذا مثالا للقياس المؤثر وقال: ظهر تأثير المسح في التخفيف في الخف والتيمم، فهو تعليل بمؤثر وقد غلط فيه، إذ ليس يسلم الشافعي أن الحكم في الأصل معلل بكونه مسحا بل لعله تعبد ولا علة له أو معلل بمعنى آخر مناسب لم يظهر لنا والنزاع واقع في علة الأصل، وهو أن مسح الخف لم لا يستحب تكراره. أيقال أنه تعبد لا يعلل؟ أو لان تكراره يؤدي إلى تمزيق الخف، أو لانه وظيفة تعبدية تمرينية لا تفيد فائدة الأصل إذ لا نظافة فيه، لكن وضع لكيلا تركن النفس إلى الكسل، أو لانه وظيفة على بدل محل الوضوء لا على الأصل، فمن سلم أن العلة المؤثرة في الأصل هي المسح يلزمه فالشافعي يقول: أصل يؤدي بالماء، فيتكرر كالاعضاء الثلاثة، فكأنه يقول: هي إحدى الوظائف الاربع في الوضوء، فالاشبه التسوية بين الاركان الاربعة، ولا يمكن ادعاء التأثير والمناسبة في التعلتين على المذهبين ولا ينكر تأثير كل واحد من الشبهين في تحريك الظن إلى أن يترجح. المثال الثاني: قال الشافعي رحمه الله: في مسألة النية طهارتان، فكيف يفترقان؟ وقد يقال: طهارة موجبها في غير محل موجبها، فتفتقر إلى النية كالتيمم، وهذا يوهم الاجتماع في مناسب هو مأخذ النية وإن يطلع على ذلك المناسب. المثال الثالث: تشبيه الارز والزبيب بالتمر والبر لكونهما مطعومين أو قوتين، فإن ذلك إذا قوبل بالتشبيه بكونهما مقدرين أو مكيلين ظهر الفرق، إذ يعلم أن الربا ثبت لسر ومصلحة، والطعم والقوت وصف ينبئ عن معنى به قوام النفس، والاغلب على الظن أن تلك المصلحة في ضمنهما لا في ضمن الكيل الذي هو عبارة عن تقدير الاجسام. المثال الرابع: تعليلنا وجوب الضمان في يد السوم بأنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق ونعديه إلى يد العارية، وتعليل أبي حنيفة بأنه أخذ على جهة الشراء، والمأخوذ على جهة الشراء كالمأخوذ على حقيقته ويعديه إلى الرهن، فكل واحدة من العلتين ليست مناسبة ولا مؤثرة، إذ لم يظهر بالنص أو الإجماع إضافة الحكم إلى هذين الوصفين في غير يد السوم وهو في يد السوم متنازع فيه. المثال الخامس: قولنا إن قليل أرش الجناية يضرب على العاقلة لانه بدل الجناية على الآدمي كالكثير، فإنا نقول: ثبت ضرب الدية وضرب أرش اليد والاطراف، ونحن لا نعرف معنى مناسبا يوجب الضرب على العاقلة، فإنه على خلاف المناسب، لكن يظن أن ضابط الحكم الذي تميز به عن الاموال هو أنه بدل الجناية على الآدمي فهو مظنة المصلحة التي غابت عنا. المثال السادس: قولنا في مسألة التبييت: أنه صوم مفروض، فافتقر إلى التبييت كالقضاء، وهم يقولون: صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع، وكأن الشرع رخص في التطوع ومنع من القضاء فظهر لنا أن فاصل الحكم هو الفرضية، فهذا وأمثاله مما يكثر شبهه ربما ينقدح لبعض المنكرين للشبه، في بعض هذه الامثلة إثبات العلة بتأثير أو مناسبة، أو بالتعرض للفارق وإسقاط أثره، فيقول: هي مأخذ الذي الذي ظهر لهذا الناظر، وعند انتفائه يبقى ما ذكرناه من الايهام، وهو كتقديرنا في تمثيل المناسب بإسكار الخمر عدم ورود الايماء في قوله تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء} (المائدة: 19) والمقصود أن المثال ليس مقصودا في نفسه، فإن انقدح في بعض الصور معنى زائد على الايهام المذكور فليقدر انتفاؤه، هذا حقيقة الشبه وأمثلته. وأما إقامة الدليل على صحته فهو: أن الدليل إما أن يطلب من المناظر أو يطلبه المجتهد من نفسه، والأصل هو المجتهد، وهذا الجنس مما يغلب على ظن بعض المجتهدين، وما من مجتهد يمارس النظر في مأخذ الاحكام إلا ويجد ذلك من نفسه، فمن أثر ذلك في نفسه حتى غلب ذلك على ظنه فهو كالمناسب، ولم يكلف إلا غلبة الظن، فهو صحيح في حقه، ومن لم يغلب ذلك على ظنه فليس له الحكم به، وليس معنا دليل قاطع يبطل الاعتماد على هذا الظن بعد حصوله بخلاف الطرد على ما ذكرناه، أما المناظر فلا يمكنه إقامة الدليل على على الخصم المنكر فإنه إن خرج إلى طريق السبر والتقسيم كان ذلك طريقا مستقلا لو ساعد مثله في الطرد لكان دليلا، وإذا لم يسبر فطريقه أن يقول: هذا يوهم الاجتماع في مأخذ الحكم ويغلب على الظن، والخصم يجاحد، إما معاندا جاحدا وإما صادقا من حيث أنه لا يوهم عنده ولا يغلب على ظنه، وإن غلب على ظن خصمه، والمجتهدون الذين أفضى بهم النظر إلى أن هذا الجنس مما يغلب على الظن لا ينبغي أن يصطلحوا في المناظرة على فتح باب المطالبة أصلا كما فعله القدماء من الاصحاب، فإنهم لم يفتحوا هذا الباب، واكتفوا من العلل بالجمع بين الفرع والأصل بوصف جامع كيف كان، وأخرجوا المعترض إلى إفساده بالنقض أو الفرق أو المعارضة، لان إضافة وصف آخر من الأصل إلى ما جعله علة الأصل وإبداء ذلك في معرض قطع الجمع أهون من تكليف إقامة الدليل على كونه مغلبا على الظن، فإن ذلك يفتح طريق النظر في أوصاف الأصل، والمطالبة تحسم سبيل النظر، وترهق إلى ما لا سبيل فيه إلى إرهاق الخصم وإفحامه، والجدل شريعة وضعها الجدليون فليضعوها على وجه هو أقرب إلى الاتنفاع فإن قيل: وضعها كذلك يفتح باب الطرديات المستقبحة، وذلك أيضا شنيع، قلنا: الطرد الشنيع يمكن إفساده على الفور بطريق أقرب من المطالبة فإنه إذا علل الأصل بوصف مطرد يشمل الفرع فيعارض بوصف مطرد يخص الأصل ولا يشمل الفرع، فيكون ذلك معارضة الفاسد بالفاسد، وهو مسكت معلوم على الفور، والاصطلاح عليه كما فعله قدماء الاصحاب أولى، بل لا سبيل إلى الاصطلاح على غيره لمن يقول بالشبه، فإن لم يستحسن هذا الاصطلاح فليقع الاصطلاح على أن يسير المعلل أوصاف الأصل ويقول: لا بد للحكم من مناط، وعلامة ضابطة، ولا علة ولا مناط إلا كذا وكذا، وما ذكرته أولى من غيره أو ما ذكرته فهو منقوض وباطل، فلا يبقى عليه سؤال إلا أن يقول: مناط الحكم في محل النص الاسم أو المعنى الذي يخص المحل كقوله: الحكم في البر معلوم باسم البر فلا حاجة إلى علامة أخرى، وفي الدراهم والدنانير معلوم بالنقدية التي تخصها، أو يقول مناط الحكم وصف آخر لا أذكره، ولا يلزمني أن أذكره، وعليك تصحيح علة نفسك، وهذا الثاني مجادلة محرمة محظورة، إذ يقال له: إن لم يظهر لك إلا ما ظهر لي لزمك ما لزمني بحكم استفراغ الوسع في السبر، وإن ظهر لك شئ آخر يلزمك التنبيه عليه بذكره حتى أنظر فيه فأفسده أو أرجح علتي على علتك، فإن قال: هو اسم البر أو النقدية فذلك صحيح مقبول، وعلى المعلل أن يفسد ما ذكره بأن يقول: ليس المناط اسم البر بدليل أنه إذا صار دقيقا أو عجينا أو خبزا دام حكم الربا وزال اسم البر، فدل أن علامة الحكم أمر يشترط فيه هذه الاحوال من طعم أو قوت أو كيل. والقوت لا يشهد له الملح، فالطعم الذي يشهد له الملح أولى، والكيل ينبئ عن معنى يشعر بتضمن المصالح بخلاف الطعم. فهكذا نأخذ من الترجيح ونتجاذب أطراف الكلام، فإذا الطريق إما اصطلاح القدماء وإما الاكتفاء بالسبر، وإما إبطال القول بالشبه رأسا والاكتفاء بالمؤثر الذي دل النص أو الإجماع أو السبر القاطع على كونه مناطا للحكم ويلزم منه أيضا ترك المناسب، وإن كان ملائما، فكيف إذا كان غريبا فإن للخصم أن يقول: إنما غلب على ظنك مناسبته من حيث لم تطلع على مناسبة أظهر وأشد إخالة مما اطلعت عليه، وما أنت إلا كمن رأى إنسانا أعطى فقيرا شيئا فظن أنه أعطاه لفقره، لانه لم يطلع على أنه ابنه ولو اطلع لم يظن ما ظنه وكمن رأى ملكا قتل جاسوسا فظن أنه قتله لذلك، ولم يعلم أنه دخل على حريمه وفجر بأهله ولو علم لما ظن ذلك الظن، فإن قبل من المتمسك بالمناسب أن يقول: هذا ظني بحسب سبري وجهدي واستفراغ وسعي، فليقبل ذلك من المشبه بل من الطارد ويلزم إبداء ما هو أظهر منه حتى يمحق ظنه. وهذا تحقيق قياس الشبه وتمثيله ودليله. أما تفصيل المذاهب فيه ونقل الاقاويل المختلفة في تفهيمه فقد آثرت الاعراض عنه لقلة فائدته، فمن عرف ما ذكرناه لم يخف عليه غور ما سواه ومن طلب الحق من أقاويل الناس دار رأسه وحار عقله، وقد استقصيت ذلك في تهذيب الاصول. الطرف الثاني في بيان التدريج في منازل هذه الاقيسة من أعلاها إلى أدناها وأدناها الطرد الذي ينبغي أن ينكره كل قائل بالقياس، وأعلاها ما في معنى الأصل الذي ينبغي أن يقربه كل منكر للقياس، وبيانه أن القياس أربعة أنواع: المؤثر، ثم المناسب، ثم الشبه، ثم الطرد، والمؤثر يعرف كونه مؤثرا بنص أو إجماع أو سبر حاصر، وأعلاها المؤثر، وهو ما ظهر تأثيره في الحكم، أي الذي عرف إضافة الحكم إليه وجعله مناطا وهو باعتبار النظر إلى عين العلة وجنسها، وعين الحكم وجنسه أربعة، لانه إما أن يظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم أو تأثير عينه في جنس ذلك الحكم، أو تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم أو تأثير جنسه في عين ذلك الحكم، فإن ظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم فهو الدي يقال له أنه في معنى الأصل وهو المقطوع به الذي ربما يعترف به منكرو القياس، إذ لا يبقى بين الفرع والأصل مباينة إلا تعدد المحل، فإنه إذا ظهر أن عين السكر أثر في تحريم عين الشرب في الخمر، والنبيذ ملحق به قطعا، وإذا ظهر أن علة الربا في التمر الطعم فالزبيب ملحق به قطعا، إذ لا يقى إلا اختلاف عدد الاشخاص التي هي مجازي المعنى، ويكون ذلك كظهور أثر الوقاع في إيجاب الكفارة على الاعرابي، إذ يكون الهندي والتركي في معناه. الثاني في المرتبة: أن يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم لا في عينه، كتأثير أخوة الاب والام في التقديم في الميراث، فيقاس عليه ولاية النكاح، فإن الولاية ليس هي عين الميراث، لكن بينهما مجانسة في الحقيقة، فإن هذا حق، وذلك حق، فهذا دون الأول: لان المفارقة بين جنس وجنس غير بعيد بخلاف المفارقة بين محل ومحل لا يفترقان أصلا فيما يتوهم أن له مدخلا في التأثير. الثالث في المرتبة: أن يؤثر جنسه في عين ذلك الحكم، كإسقاط قضاء الصلاة عن الحائض تعليلا بالجرح والمشقة، فإنه ظهر تأثير جنس الحرج في إسقاط قضاء الصلاة، كتأثير مشقة السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين بالقصر، وهذا هو الذي خصصناه باسم الملائم، وخصصنا اسم المؤثر بما ظهر تأثير عينه. الرابع في المرتبة: ما ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم وهو الذي سميناه المناسب الغريب، لان الجنس الاعم للمعاني كونها مصلحة والمناسب مصلحة، وقد ظهر أثر المصالح في الاحكام، إذ عهد من الشرع الالتفات إلى المصالح، فلاجل هذا الاستمداد العام من ملاحظة الشرع جنس المصالح اقتضى ظهور المناسبة تحريك الظن. ولاجل شمة من الالتفات إلى عادة الشرع أيضا أفاد الشبه الظن لانه عبارة عن أنواع من الصفات عهد من الشرع ضبط الاحكام بجنسها، ككون الصيام فرضا في مسألة التبييت، وككون الطهارة تعبدا موجبها في غير محل موجبها، وكون الواجب بدل الجناية على الآدمي في مسألة ضرب القليل على العاقلة، بخلاف بناء القنطرة على الماء وأمثاله من الصفات، فإن الشرع لم يلتفت إلى جنسه، والمألوف من عادة الشرع هو الذي يعرف مقاصد الشرع، والعادة تارة تثبت في جنس وتارة تثبت في عين، ثم للجنسية أيضا مراتب بعضها أعم من بعض، وبعضها أخص، وإلى العين أقرب، فإن أعم أوصاف الاحكام كونه حكما، ثم تنقسم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة، والواجب مثلا ينقسم إلى عبادة وغير عبادة، والعبادة تنقسم إلى صلاة وغير صلاة، والصلاة تنقسم إلى فرض ونفل، وما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة، وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة، وما ظهر تأثيره في العبادة أخص مما ظهر في جنس الواجبات، وما ظهر في جنس الواجبات أخص مما ظهر في جنس الاحكام. وكذلك في جانب المعنى أعم أوصافه أن يكون وصفا تناط الاحكام بجنسه حتى يدخل فيه الاشباه، وأخص منه كونه مصلحة حتى يدخل فيه المناسب دون الشبه، وأخص منه أن يكون مصلحة خاصة، كالردع والزجر، أو معنى سد الحاجات، أو معنى حفظ العقل بالاحتراز عن المسكوات، فليس كل جنس على مرتبة واحدة، فالاشباه أضعفها، لانها لا تعتضد بالعادة المألوفة إلا من حيث أنه من جنس الاوصاف التي قد يضبط الشرع الاحكام بها، وأقواها المؤثر الذي ظهر أثر عينه في عين الحكم، فإن قياس الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة في ولاية التزويج ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال، فإن الصغر إن أثر في ولاية المال فولاية البضع جنس آخر، فإذا ظهر أثره في حق الابن الصغير في نفس ولاية النكاح ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال، فقد عرفت بهذا أن الظن ليس بتحريك، والنفس ليست تميل إلا بالالتفات إلى عادة الشرع في التفات الشرع إلى عين ذلك المعنى أو جنسه في عين ذلك الحكم أو جنسه، وأن للجنسية درجات متفاوتة في القرب والبعد لا تنحصر، فلاجل ذلك تتفاوت درجات الظن، والاعلى مقدم على الاسفل، والاقرب مقدم على الابعد في الجنسية، ولكل مسألة ذوق مفرد ينظر فيه المجتهد. ومن حاول حصر هذه الاجناس في عدد وضبط فقد كلف نفسه شططا لا تتسع له قوة البشر، وما ذكرناه هو النهاية في الاشارة إلى الاجناس ومراتبها وفي مقنع وكفاية. تنبيه آخر على خواص الاقيسة إعلم أن المؤثر من خاصيته أن يستغنى عن السبر والحصر، فلا يحتاج إلى نفي ما عداه، لانه لو ظهر في الأصل مؤثر آخر لم يطرح بل يجب التعليل بهما، فإن الحيض والردة والعدة قد تجتمع على امرأة، ويعلل تحريم الوطئ بالجميع لانه قد ظهر تأثير كل واحد على الانفراد بإضافة الشرع التحريم إليه، أما المناسب فلم يثبت إلا بشهادة المناسبة وإثبات الحكم على وفقه، فإذا ظهرت مناسبة أخرى انمحقت الشهادة الأولى، كما في إعطاء الفقير القريب، فإنا لا ندري أنه أعطى للفقر أو للقرابة أو لمجموع الامرين، فلا يتم نظر المجتهد في التعليل بالمناسب ما لم يعتقد نفي مناسب آخر أقوى ولم يتوصل بالسبر إليه. أما المناظر فينبغي أن يكتفي منه بإظهار المناسبة ولا يطالب بالسبر، لان المناسبة تحرك الظن إلا في حق من اطلع على مناسب آخر، فيلزم المعترض إظهاره إن اطلع عليه، وإلا فليعترض بطريق آخر فهذا فرق ما بين المناسب والمؤثر، وأما الشبه فمن خاصيته أنه يحتاج إلى نوع ضرورة في استنباط مناط الحكم، فإن لم تكن ضرورة فقد ذهب ذاهبوان إلى أنه لا يجوز اعتباره، وليس هذا بعيدا عندي في أكثر المواضع، فإنه إذا أمكن قصر الحكم على المحل وكان المحل المنصوص عليه معرفا بوصف مضبوط فأي حاجة إلى طلب ضابط آخر ليس بمناسب، فكان تمام النظر في الشبه بأن يقال: لا بد من علامة ولا علامة أولى من هذا، فإذا هو العلامة كما تقول: الربا جار في الدقيق والعجين، فلم ينضبط باسم البر، فلا بد من ضابط، ولا ضابط أولى من الطعم. والضرب على العاقلة ورد في النفس والطرف وفارق المال، فلا بد من ضابط ولا ضابط إلا أنه بدل الجناية على الآدمي وهذا يجري في القليل، والتطوع يستغني عن التبييت، و القضاء لا يستغنى، والاداء دائر بينهما، ولا بد من فاصل للقسمين، والفرضية أولى الفواصل، وهذا بخلاف المناسب، فإنه يجذب الظن ويحركه وإن لم يكن إلى طلب العلة ضرورة، فإن قيل: فإذا تحققت الضرورة حتى جاز أن يقال: لا بد من علامة وتم السبر حتى لم تظهر علامة إلا الطرد المحض الذي لا يوهم جاز القياس به أيضا فإنه خاصية تنفي الشبه وإيهام الاشتمال على مخيل، قلنا: لهذا السؤال قال قائلون: لا تشترط هذه الضرورة في الشبه كما في المناسب، فإن شرطناه فيكاد لا يبقى بين الشبه والطرد من حيث الذات فرق، لكن من حيث الاضافة إلى القرب و البعد، فإن جعلنا الطرد عبارة عما بعد عن ذات الشئ كبناء القنطرة فيقضي بادئ الرأي ببطلانه، لانه يظهر سواه على البديهة صفات هي أحرى بتضمن حكم المصلحة، فيه فيكون فساده لظهور ما هو أقرب منه لا لذاته، وعلى الجملة فمهما ظهر الأقرب والاخص أمحق الظن الحاصل بالابعد، وقد يكون ظهور الاقرب بديهيا لا يحتاج إلى تأمل، فيصير بطلان الابعد بديهيا، فيظن أنه لذاته وإنما هو لانمحاق الظن به من حيث وجد ما هو أقرب، وقد بينا أن ضبط هذا الجنس بالضوابط الكلية عسير، بل للمجتهد في كل مسألة ذوق يختص بها، فلنفوض ذلك إلى رأي المجتهد، وإنما القدر الذي قطعنا به في إبطال الطرد أن مجرد كون الحكم مع الوصف لا يحرك الظن للتعليل به ما لم يستمد من شمة إخالة أو مناسبة أو إيهام مناسبة أو سبر وحصر مع ضرورة طلب مناط، وقد ينطوي الذهن على معنى تلك الضرورة، والسبر وإن لم يشعر صاحبه بشعور نفسه به فإن الشعور بالشئ غير الشعور بالشعور، فلو قدر تجرده عن هذا الشعور لم يحرك ظن عاقل أصلا. الطرف الثالث في بيان ما يظن أنه من الشبه المختلف فيه وليس منه وهي ثلاثة أقسام: الأول: ما عرف منه مناط الحكم قطعا وافتقر إلى تحقيق المناط، مثاله: طلب الشبه في جزاء الصيد، وبه فسر بعض الاصوليين الشبه وهذا خطأ، لان صحة ذلك مقطوع به لانه قال: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} (المائدة: 59) فعلم أن المطلوب هو المثل، وليس في النعم ما يماثل الصيد من كل وجه، فعلم أن المراد به الاشبه الامثل، فوجب طلبه كما أوجب الشرع مهر المثل وقيمة المثل وكفاية المثل في الاقارب، ولا سبيل إلا المقايسة بينها وبين نساء العشيرة وبين شخص القريب المكفى في السن والحال والشخص وبين سائر الاشخاص لتعرف الكفاية، فذلك مقطوع به، فكيف يمثل به الشبه المختلف فيه الذي يصعب الدليل على إثباته. |
12-06-2012, 08:03 PM | #62 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
القسم الثاني: ما عرف منه مناط الحكم ثم اجتمع مناطان متعارضان في موضع واحد فيجب ترجيح أحد المناطين ضرورة، فلا يكون ذلك من الشبه، مثاله أن بدل المال غير مقدر وبدل النفس مقدر، والعبد نفس كالحر ومال كالفرس، فأما أن يقدر بدله أو لا يقدر، فتارة يشبه بالفرس وتارة بالحر، وذلك يظهر في ترجيح أحد المعنيين على الآخر وقد ظهر كون المعنيين من مناط الحكم، وإنما المشكل من الشبه جعل الوصف الذي لا يناسب مناطا مع أن الحكم لم يضف إليه، وههنا بالاتفاق الحكم ينضاف إلى هذين المناطين.
القسم الثالث: ما لم يوجد فيه كل مناط على الكمال لكن تركبت الواقعة من مناطين وليس يتمحض أحدهما فيحكم فيه بالاغلب، مثاله: أن اللعان مركب من الشهادة واليمين وليس بيمين محض، لان يمين المدعي لا تقبل، والملاعن مدع، وليس بشهادة لان الشاهد يشهد لغيره، وهو إنما يشهد لنفسه، وفي اللعان لفظ اليمين والشهادة، فإذا كان العبد من أهل اليمين لا من أهل الشهادة، وتردد في أنه هل هو من أهل اللعان، وبان لنا غلبة إحدى الشائبتين، فلا ينبغي أن يختلف في أن الحكم به واجب، وليس من الشبه المختلف فيه، وكذلك الظهار لفظ محرم، وهو كلمة زور، فيدور بين القذف والطلاق، وزكاة الفطر تتردد بين المؤنة والقربة، والكفارة تتردد بين العبادة والعقوبة، وفي مشابههما، فإذا تناقض حكم الشائبتين، ولا يمكن إخلاء الواقعة عن أحد الحكمين وظهر دليل على غلبة إحدى الشائبتين ولم يظهر معنى مناسب في الطرفين فينبغي أن يحكم بالاغلب الاشبه، وهذا أشبه هذه الاقسام الثلاثة بمأخذ الشبه، فإنا نظن أن العبد ممنوع من الشهادة لسر فيه مصلحة وممكن من اليمين لمصلحة، وأشكل الامر في اللعان، وبان أن إحدى الشائبتين أغلب، فيكون الاغلب على ظننا بقاء تلك المصلحة المودعة تحت المعنى الاغلب. فإن قيل: وبم يعلم المعنى الاغلب المعين؟ قلنا: تارة بالبحث عن حقيقة الذات، وتارة بالاحكام وكثرتها، وتارة بقوة بعض الاحكام وخاصيته في الدلالة، وهو مجال نظر المجتهدين، وإنما يتولى بيانه الفقيه دون الاصولي، والغرض أنه إذا سلم أن أحد المناطين أغلب وجب الاعتراق بالحكم بموجبه، لانه إما أن يخلى عن أحد الحكمين المتناقضين وهو محال أو يحكم بالمغلوب أو بالغالب، فيتيعين الحكم بالغالب فيكيف يلحق هذا بالشبه المشكل المختلف فيه؟ نعم لو دار الفرع بين أصلين وأشبه أحدهما في وصف ليس مناطا وأشبه الآخر في وصفين ليسا مناطين فهذا من قبيل الحكم بالشبه، والالحاق بالاشبه والامر فيه إلى المجتهد فإن غلب على ظنه أن المشاركة في الوصفين توهم المشاركة في المصلحة المجهولة عنده التي هي مناط الحكم عند الله تعالى، وكان ذلك أغلب في نفسه من مشاركة الأصل الآخر الذي لم يشبهه إلا في صفة واحدة، فحكم هنا بظنه، فهذا من قبيل الحكم بالشبه، أما كل وصف ظهر كونه مناطا للحكم فاتباعه من قبيل قياس العلة لا من قبيل قياس الشبه. هذا ما أردنا ذكره في قياس الشبه، وكان القول فيه من تتمة الباب الثاني لانه نظر في طريق إثبات علة الأصل، لكنا أفردناه بباب لكيلا يطول الكلام في الباب الأول، وإذا فرغنا من طريق إثبات العلل فلا بد من بيان أركان القياس وشروطه بعد ذلك. الباب الرابع في أركان القياس وشروط كل ركن وأركانه أربعة: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم، فلنميز القول في شرط كل ركن ليكون أقرب إلى الضبط الركن الأول وهو الأصل وله شروط ثمانية. الشرط الأول: أن يكون حكم الأصل ثابتا، فإنه إن أمكن توجيه المنع عليه لم ينتفع به الناظر ولا المناظر قبل إقامة الدليل على ثبوته. الثاني: أن يكون الحكم ثابتا بطريق سمعي شرعي إذ ما ثبت بطريق عقلي أو لغوي لم يكن حكما شرعيا، والحكم اللغوي والعقلي لا يثبت قياسا عندنا كما ذكرناه في كتاب أساس القياس. الثالث: أن يكون الطريق الذي به عرف كون المستنبط من الأصل علة سمعا، لان كون الوصف علة حكم شرعي ووضع شرعي. الرابع: أن لا يكون الأصل فرعا لاصل آخر، بل يكون ثبوت الحكم فيه بنص أو إجماع فلا معنى لقياس الذرة على الازر، ثم قياس الارز على البر، لان الوصف الجامع إن كان موجودا في الأصل الأول كالطعم مثلا، فتطويل الطريق عبث. إذ ليست الذرة بأن تجعل فرعا للارز أولى من عكسه، وإن لم يكن موجودا في الأصل فبم يعرف كون الجامع علة، وإنما يعرف كون الشبه والمناسب علة بشهادة الحكم، وإثباته على وفق المعنى، فإذا لم يكن الحكم منصوصا عليه أو مجمعا عليه لم يصح لان يستدل به على ملاحظة المعنى المقرون به لان ذلك يؤدي في قياس الشبه إلى أن يشبه بالفرع الثالث رابع، وبالرابع خامس فينتهي الاخير إلى حد لا يشبه الأول، كما لو التقط حصاة وطلب ما يشبهها، ثم طلب ما يشبه الثانية ثم طلب ما يشبه الثالثة، ثم ينتهي بالآخرة إلى أن لا يشبه العاشر الأول، لان الفروق الدقيقة تجتمع فتظهر المفارقة، فإن قيل: فأي فائدة لفرض المناظر الكلام في بعض الصور؟ قلنا: للفرض محلان. أحدهما: أن يعم السائل بسؤاله جملة من الصور، فيخصص المناظر بعض الصور إذ يساعده فيه خبر أو دليل خاص أو يندفع فيه بعض شبه الخصم. الثاني: أن تبني فرعا على فرآخر، وهو ممتنع على الناظر المجتهد لما ذكرناه، أما قبوله من المناظر فإنه ينبني على اصطلاح الجدليين، فالجدل شريعة وضعها المتناظرون، ونظرنا في المجتهد وهو لا ينتفع بذلك، وموافقة الخصم على الفرع لا تنفع ولا تجعله أصلا، إذ الخطأ ممكن على الخصمين، إلا أن يكون ذلك إجماعا مطلقا فيصير أصلا مستقلا. الخامس: أن يكون دليل إثبات العلة في الأصل مخصوصا بالأصل لا يعم الفرع، مثاله أنه لو قال السفرجل مطعوم، فيجري فيه الربا قياسا على البر، ثم استدل على إثبات كون الطعم علة بقوله عليه السلام، لا تبيعوا الطعام بالطعام أو قال: فضل القاتل القتيل بفضيلة الاسلام فلا يقتل به كما لو قتل المسلم المعاهد ثم استند في إثبات علته إلى قوله: لا يقتل مؤمن بكافر فهذا قياس منصوص على منصوص، وهو كقياس البر على الشعير والدراهم على الدنانير. السادس: قال قوم: شرط الأصل أن يقوم دليل بجواز القياس عليه، وقال قوم: بل أن يقوم دليل على وجوب تعليه، وهذا كلام مختل لا أصل له، فإن الصحابة حيث قاسوا لفظ الحرام على الظهار أو الطلاق أو اليمين، لم يقم دليل عندهم على وجوب تعليل أو جوازه، لكن الحق أنه إن القدح فيه معنى مخيل غلب على الظن اتباعه، وترك الالتفات إلى المحل الخاص، وإن كان الوصف من قبيل الشبه كالطعم الذي يناسب فيحتمل أن يقال: لولا ضرورة جريان الربا في الدقيق والعجين وامتناع ضبط الحكم باسم البر لما وجب استنباط الطعم، فهذا له وجه وقد ذكرناه وإن لم يرد به هذا فلا وجه له. السابع: أن لا يتغير حكم الأصل بالتعليل ومعناه ما ذكرناه من أن العلة إذا عكرت على الأصل بالتخصيص فلا تقبل، كما ذكرناه في كتاب التأويل في مسألة الابدال، وقد بينا أن المعنى إن كان سابقا إلى الفهم جاز أن يكون قرينة مخصصة للعموم، أما المستنبط بالتأمل ففيه نظر. الثامن: أن لا يكون الأصل معدولا به عن سنن القياس، فإن الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره، وهذا مما أطلق ويحتاج إلى تفصيل، فنقول: قد اشتهر في ألسنة الفقهاء أن الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره ويطلق اسم الخارج عن القياس على أربعة أقسام مختلفة فإن ذلك يطلق على ما استثنى من قاعدة عامة وتارة على ما استفتح ابتداء من قاعدة مقررة بنفسها لم تقطع من أصل سابق، وكل واحد من المستثنى والمستفتح ينقسم إلى ما يعقل معناه وإلى ما لا يعقل معناه، فهي أربعة أقسام: الأول: ما استثنى عن قاعدة عامة وخصص بالحكم ولا يعقل معنى التخصيص، فلا يقاس عليه غيره لانه فهم ثبوت الحكم في محله على الخصوص، وفى القياس إبطال الخصوص المعلوم بالنص، ولا سبيل إلى إبطال النص بالقياس، بيانه ما فهم من تخصيص النبي عليه السلام واستثناؤه في تسع نسوة، وفي نكاح امرأة على سبيل الهبة من غير مهر. وفي تخصيصه بصفي المغنم، وما ثبت من تخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده، وتخصيصه أبا بردة في العناق أنها تجزئ عنه في الضحية، فهذا لا يقاس عليه، لانه لم يرد ورود النسخ للقاعدة السابقة، بل ورود الاستثناء مع إبقاء القاعدة، فكيف يقاس عليه؟ وكونه خاصية لمن ورد في حقه تارة يعلم وتارة يظن، فالمظنون كاختصاص قوله: لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا، وقوله في شهداء أحد: زملوهم بكلومهم ودمائهم فقال أبو حنيفة: لا ترفع به قاعدة الغسل في حق المحرمين والشهداء، لان اللفظ خاص، ويحتمل أن يكو الحكم خاصا لاطلاعه عليه السلام على إخلاصهم في العبادة، ونحن لا نطلع على موت غيرهم على الاسلام فضلا عن موتهم على الاحرام والشهادة، ولما قال للاعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان: تصدق به على أهل بيتك ولم يقر الكفارة في ذمته عند عجزه وجعل الشبق عجزا عن الصوم، قال أكثر العلماء: هو خاصية، وقال صاحب التقريب: يلتحق به من يساويه في الشبق والعجز، ومن جعله خاصية استند فيه إلى أنه لو فتح هذا الباب فيلزم مثله في كفارة المظاهر وسائر الكفارات، ونص القرآن دليل على أنهم لا ينفكون عن واجب وإن اختلفت أحوالهم في العجز، فحمله على الخاصية أهون من هدم القواعد المعلومة. القسم الثاني: ما استثنى عن قاعدة سابقة ويتطرق إلى استثنائه معنى، فهذا يقاس عليه كل مسألة دارت بين المستثنى والمستبقى، وشارك المستثنى في علة الاستثناء، مثاله: استثناء العرايا، فإنه لم يرد ناسخا لقاعدة الربا ولا هادما لها، لكن استثني للحاجة، فنقيس العنب على الرطب، لانا نراه في معناه، وكذلك إيجاب صاع من تمر في لبن المصراة لم يرد هادما لضمان المثليات بالمثل، لكن لما اختلط اللبن الحادث بالكائن في الضرع عند البيع ولا سبيل إلى التمييز ولا إلى معرفة القدر. وكان متعلقا بمطعوم يقرب الامر فيه خلص الشارع المتبايعين من ورطة الجهل بالتقدير بصاع من تمر، فلا جرم نقول: لورد المصراة بعيب آخر لا بعيب التصرية فيضمن اللبن أيضا بصاع، وهو نوع الحاق وإن كان في معنى الأصل، ولولا أنا نشم منه رائحة المعنى لم نتجاسر على الالحاق، فإنه لما فرق في بول الصبيان بين الذكور والاناث وقال: يغسل من بول الصبية، ويرش على بول الغلام ولم ينقدح فيه معنى لم يقس عليه الفرق في حق البهائم بين ذكورها وإناثها، وكذلك حكم الشرع ببقاء صوم الناسي على خلاف قياس المأمورات، قال ابو حنيفة: لا نقيس عليه كلام الناسي في الصلاة ولا أكل المكره والمخطئ في المضمضة، ولكن قال: جماع الناسي في معناه لان الافطار باب واحد، والشافعي قال: الصوم من جملة المأمورات بمعناه إذا افتقر إلى النية والتحق بأركان العبادات، وهو من جملة المنهيات في نفسه وحقيقته، إذ ليس فيه إلا ترك يتصور من النائم جميع النهار فإسقاط الشرع عهدة الناسي ترجيح لنزوعه إلى المنهيات فنقيس عليه كلام الناسي، ونقيس عليه المكره والمخطئ على قول. القسم الثالث: القاعدة المستقلة المستفتحة التي لا يعقل معناها فلا يقاس عليها غيرها لعدم العلة، فيسمى خارجا عن القياس تجوزا إذ معناه أنه ليس منقاسا، لانه لم يسبق عموم قياس ولا استثناء حتى يسمى المستثنى خارجا عن القياس بعد دخوله فيه، ومثاله المقدرات في أعداد الركعات ونصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات، وجميع التحكمات المبتدأة التي لا ينقدح فيها معنى، فلا يقاس عليها غيرها لانها لا تعقل علتها. القسم الرابع: في القواعد المبتدأة العديمة النظير لا يقاس عليها مع أنه يعقل معناها، لانه لا يوجد لها نظير خارج مما تناوله النص والإجماع. والمانع من القياس فقد العلة في غير المنصوص. فكأنه معلل بعلة قاصرة، ومثاله: رخص السفر في القصر والمسح على الخفين، ورخصة المضطر في أكل الميتة وضرب الدية على العاقلة، وتعلق الارش برقبة العبد وإيجاب غرة الجنين والشفعة في العقار وخاصية الاجارة والنكاح، وحكم اللعان والقسامة وغير ذلك من نظائرها، فإن هذه القواعد متباينة المأخذ، فلا يجوز أن يقال: بعضها خارج عن قياس البعض، بل لكل واحد من هذه القواعد معنى منفرد به لا يوجد له نظير فيه، فليس البعض بأن يوضع أصلا ويجعل الآخر خارجا عن قياسه بأولى من عكسه، ولا ينظر فيه إلى كثرة العدد وقلته، وتحقيقه أنا نعلم أنه إنما جوز المسح على الخف لعسر النزع ومسيس الحاجة إلى استصحابه، فلا نقيس عليه العمامة والقفازين، وما لا يستر جميع القدم، لا لانه خارج عن القياس، لكن لانه لا يوجد ما يساويه في الحاجة وعسر النزع وعموم الوقوع، وكذلك رخصة السفر لاشك في ثبوتها بالمشقة، ولا يقاس عليها مشقة أخرى، لانها لا يشاركها غيرها في جملة معانيها ومصالحها، لان المرض يحوج إلى الجمع لا إلى القصر، وقد يقضي في حقه بالرد من القيام إلى القعود ولما ساواه في حاجة الفطر سوى الشرع بينهما، وكذلك قولهم: تناول الميتة رخصة خارجة عن القياس غلط، لانه إن أريد به أنه لا يقاس عليه غير المضطر، فلانه ليس في معناه، وإلا فلنقس الخمر على الميتة، والمكره على المضطر، فهو منقاس، وكذلك بداءة الشرع بإيمان المدعي في القسامة لشرف أمر الدم ولخاصية لا يوجد مثلها في غيره، ولانه عديم النظير فلا يقاس عليه، وأقرب شئ إليه البضع وقد ورد تصديق المدعي باللعان على ما يليق به، وكذلك ضرب الدية على العاقلة فإن ذلك حكم الجاهلية قرره الشرع لكثرة وقوع الخطأ وشدة الحاجة إلى ممارسة السلاح، ولا نظير له في غير الدية، وهذا مما يكثر، فبهذا يعرف أن قول الفقهاء تأقت الاجارة خارج عن قياس البيع والنكاح خطأ، كقولهم: تأبد البيع والنكاح خارج عن قياس الاجارة، وتأقت المساقاة خارج عن تأبد القراض بل تأبد القراض خارج عن قياس تأقت المسافاة، فإذا هذه الاقسام الاربعة لا بد من فهمها وبفهم بيانها يحصل الوقوف على سر هذا الأصل. الركن الثاني للقياس وله خمسة شروط: الشرط الأول: أن تكون علة الأصل موجودة في الفرع فإن تعدي الحكم فرع تعدي العلة، فإن كان وجودها في الفرع غير مقطوع به لكنه مظنون صح الحكم، وقال قوم: لا يجوز ذلك لان مشاركته للاصل في العلة لم تعلم، وإنما المعلوم بالقياس أن الحكم يتبع العلة ولا يقتصر على المحل أما إذا وقع الشك في العلة فلا يلحق وهذا ضعيف لانه إذا ثبت أن النجاسة هي علة بطلان البيع في جلد الميتة قسنا عليه الكلب إذا ثبت عندنا نجاسة الكلب بدليل مظنون، وكذلك قد يكون علة الكفارة العصيان ويدرك تحقيقه في بعض الصور بدليل ظني، فإذا ثبت التحق بالأصل، وكذلك الماء الكثير، إذا تغير بالنجاسة فطرح فيه التراب فإن كان التراب ساترا كالزعفران لم تزل النجاسة، وإن كان مبطلا كهبوب الريح وطول المدة زالت النجاسة وربما يعرف ذلك بدليل ظني فالظن كالعلم في هذه الابواب. الثاني: أن لا يتقدم الفرع في الثبوت على الأصل، ومثاله قياس الوضوء على التيمم في النية، والتيمم متأخر، وهذا فيه نظر لانه إذا كان بطريق الدلالة، فالدليل يجوز أن يتأخر عن المدلول، فإن حدوث العالم دل على الصانع القديم، وإن كان بطريق التعليل فلا يستقيم لان الحكم يحدث بحدوث العلة، فكيف يتأخر عن المعلول لكن يمكن العدول إلى طريق الاستدلال فإن إثبات الشرع الحكم في التيمم على وفق العلة يشهد لكونه ملحوظا بعين الاعتبار، وإن كان للعلة دليل آخر سوى التيمم، فلا يكون التيمم وحده دليلا لعلة الوضوء السابق. الثالث: أن لا يفارق حكم الفرع حكم الأصل في جنسية ولا في زيادة ولا نقصان، فإن القياس عبارة عن تعدية حكم من محل إلى محل، فكيف يختلف بالتعدية؟ وليس من شكل القياس قول القائل بلغ رأس المال أقصى مراتب الاعيان، فليبلغ المسلم فيه أقصى مراتب الديون، قياسا لاحد العوضين على الآخر، لان هذا إلحاق فرع بأصل في إثبات خلاف حكمه. الرابع: أن يكون الحكم في الفرع مما ثبتت حملته بالنص وإن لم يثبت تفصيله، وهذا ذكره أبو هاشم وقال: لولا أن الشرع ورد بميراث الجد جملة لما نظرت الصحابة في توريث الجد مع الاخوة، وهذا فاسد، لانهم قاسوا قوله: أنت علي حرام، على الظهار والطلاق واليمين، ولم يكن قد ورد فيه حكم لا على العموم ولا على الخصوص، بل الكم إذا ثبت في الأصل بعلة تعدي بتعدي العلة كيفما كان. الخامس: أن لا يكون الفرع منصوصا عليه، فإنه إنما يطلب الحكم بقياس أصل آخر فيما لا نص فيه، فإن قيل: فلم قستم كفارة الظهار على كفارة القتل في الرقبة المؤمنة والظهار أيضا منصوص عليه، واسم الرقبة يشمل الكافرة؟ قلنا: اسم الرقبة ليس نصا في إجزاء الكافرة، لكنه ظاهر فيه، كما في المعيبة، وعلة اشتراط الايمان في كفارة القتل عرفنا تخصيص عموم آية الظهار، فخرج عن أن يكون أجزاء الكافرة منصوصا عليه فطلبنا حكمه بالقياس لذلك. الركن الثالث الحكم وشرطه أن يكون حكما شرعيا لم يتعبد فيه بالعلم، وبيانه بمسائل: مسألة (لا قياس في اللغويات والعقليات) الحكم العقلي والاسم اللغوي لا يثبت بالقياس، فلا يجوز إثبات اسم الخمر للنبيذ، الزنا للواط، والسرقة للنبش، والخليط للجار بالقياس، لان العرب تسمي الخمر إذا حمضت خلا لحموضته، ولا تجريه في كل حامض، وتسمي الفرس أدهم لسواده ولا تجريه في كل أسود، وتسمي القطع في الآنف جدعا ولا تطرده في غيره، وهذه المسألة قد قدمناها فلا نعيدها، وكذلك لا يعرف كون المكره قاتلا، والشاهد قاتلا، والشريك قاتلا بالقياس، بل يتعرف حد القتل بالبحث العقلي، وكذلك غاصب الماشية هل هو غاصب للنتاج؟ والمستولي على العقار هل هو غاصب للغلة؟ فهذه مباحث عقلية تعرف بصناعة الجدل، نعم: يجوز أن يقال: ألحق الشرع الشريك بالمنفرد بالقتل حكما، فنقيس عليه الشريك في القطع والحق المكره بالقاتل فنقيس عليه الشاهد إذا رجع، وذلك إلحاق من ليس قائلا بالقاتل في الحكم. مسألة (لا قياس في الامور التعبدية) ما تعبد فيه بالعلم لا يجوز إثباته بالقياس، كمن يريد إثبات خبر الواحد بالقياس على قبول الشهادة، ولذلك أورد في مثال هذا الباب إثبات صلاة سادسة أو صوم شوال، أنه لا يثبت بالقياس، لان مثل هذه الاصول ينبغي أن تكون معلومة، وهذا فيه نظر، إذ يمكن أن يقال: إن الوتر صلاة سادسة وقد وقع الخلاف في وجوبها، فلم يشترط أن تكون السادسة معلومة الوجوب على القطع، بل سبب بطلان هذا القياس علمنا ببطلانه، لانه لو وجب صوم شوال وصلاة سادسة لكانت العادة تحيل أن لا يتواتر، أو لانا لا نجد أصلا نقيسه عليه، فإنه لا يمكن قياس شوال على رمضان، إذ لم يثبت لنا أن وجوب صوم رمضان لانه شهر من الشهور أو وقت من الاوقات، أو لو صف يشاركه فيه شوال حتى يقاس عليه. مسألة (قياس الدلالة وقياس العلة) اختلفوا في أن النفي الأصلي هل يعرف بالقياس، وأعني بالنفي الأصلي البقاء على ما كان قبل ورود الشرع، والمختار أنه يجري فيه قياس الدلالة لا قياس العلة، وقياس الدلالة أن يستبدل بانتفاء الحكم عن الشئ على انتفائه عن مثله، ويكون ذلك ضم دليل إلى دليل، وإلا فهو باستصحاب موجب العقل النافي للاحكام قبل ورود الشرع مستغن عن الاستدلال بالنظر، أما قياس العلة فلا يجري، لان الصلاة السادسة وصوم شوال انتفى وجوبهما، لانه لا موجب لهما كما كان قبل ورود الشرع، وليس ذلك حكما حادثا سمعيا حتى تطلب له علة شرعية، بل ليس ذلك من أحكام الشرع، بل هو نفي لحكم الشرع ولا علة له إنما العلة لما يتجدد، فحدوث العالم له سبب، وهو إرادة الصانع، أما عدمه في الازل فلم تكن له علة، إذ لو أحيل على إرادة الله تعالى لوجب أن ينقلب موجودا لو قدرنا عدم المريد والارادة، كما أن الارادة لو قدر انتفاؤها لانتفى وجود العالم في وقت حدوثه، فإذا لم يكن الانتفاء الأصلي حكما شرعيا على لتحقيق لم يثبت بعلة سمعية، أما النفي الطارئ كبراءة الذمة عن الدين فهو حكم شرعي يفتقر إلى علة، فيجري فيه قياس العلة. مسألة (قياس الحكم المعلل) كل حكم شرعي أمكن تعليله فالقياس جار فيه، وحكم الشرع نوعان. أحدهما: نفس الحكم. والثاني: نصب أسباب الحكم، فلله تعالى في إيجاب الرجم والقطع على الزاني والسارق حكمان. أحدهما: إيجاب الرجم والآخر: نصب الزنا سببا لوجوب الرجم، فيقال: وجب الرجم في الزنا لعلة كذا، وتلك العلة موجودة في اللواط فنجعله سببا وإن كان لا يسمى زنا. وأنكر أبو زيد الدبوسي هذا النوع من التعليل وقال: الحكم يتبع السبب دون حكمة السبب، وإنما الحكمة ثمرة وليست بعلة، فلا يجوز أن يقال جعل القتل سببا للقصاص للزجر والردع. فينبغي أن يجب القصاص على شهود القصاص لمسيس الحاجة إلى الزجر وإن لم يتحقق القتل، وهذا فاسد. والبرهان القاطع على أن هذا الحكم شرعي، أعني نصب الاسباب لايجاب الاحكام، فيمكن أن تعقل علته، ويمكن أن يتعدى إلى سبب آخر، فإن اعترفوا بإمكان معرفة العلة وإمكان تعديته ثم توقفوا عن التعدية كانوا متحكمين بالفرق بين حكم وحكم، كمن يقول: يجري القياس في حكم الضمان لا في القصاص وفي البيع لا في النكاح، وإن ادعوا الاحالة فمن أين عرفوا استحالته، أبضرورة أو نظر، ولا بد من بيانه، كيف ونحن نبين إمكانه بالامثلة، فإن قيل: الامكان مسلم في العقل، لكنه غير واقع، لانه لا يلفي للاسباب علة مستقيمة تتعدى، فنقول: الآن قد ارتفع النزاع الاصولي، إذ لا ذاهب إلى تجويز القياس، حيث لا تعقل العلة أو لا تتعدى، وهم قد ساعدوا على جواز القياس، حيث أمكن معرفة العلة وتعديتها فارتفع الخلاف. الجواب الثاني: هو أنا نذكر إمكان القياس في الاسباب على منهجين: المنهج الأول: ما لقبناه بتنقيح مناط الحكم فنقول: قياسنا اللائط والنباش على الزاني والسارق مع الاعتراق بخروج النباش واللائط عن اسم الزاني والسارق، كقياسكم الاكل على الجماع في كفارة الفطر مع أن الاكل لا يسمى وقاعا، وقد قال الاعرابي: واقعت في نهار رمضان، فإن قيل ليس هذا قياسا، فإنا نعرف بالبحث أن الكفارة ليست كفارة الجماع، بل كفارة الافطار، قلنا وكذلك نقول: ليس الحد حد الزنا، بل حد إيلاج الفرج في الفرج المحرم قطعا المشتهى طبعا، والقطع قطع أخذ مال محرز لا شبهة للاخذ فيه، فإن قيل: إنما القياس أن يقال: علق الحكم بالزنا لعلة كذا وهي موجودة في غير الزنا، وعلقت الكفارة بالوقاع لعلة كذا. وهي موجودة في الاكل، كما يقال أثبت التحريم في الخمر لعلة الشدة، وهي موجودة في النبيذ، ونحن في الكفارة نبين أنه لم يثبت الحكم للجماع، ولم يتعلق به، فنتعرف، محل الحكم الوارد شرعا أنه أين ورد وكيف ورد، وليس هذا قياسا، فإن استمر لكم مثل هذا في اللائط والنباش فنحن، لا ننازع فيه، قلنا: فهذا الطريق جار لنا في اللائط والنباش بلا فرق، وهو نوع إلحاق لغير المنصوص بالمنصوص بفهم العلة التي هي مناط الحكم، فيرجع النزاع إلى الاسم. المنهج الثاني: هو أنا نقول: إذا انفتح باب المنهج الأول تعدينا إلى إيقاع الحكم والتعليل بها، فإنا لسنا نعني بالحكمة إلا المصلحة المخيلة المناسبة، كقولنا في قوله عليه السلام: لا يقض القاضي وهو غضبان إنه إنما جعل الغضب سبب المنع، لانه يدهش العقل، ويمنع من استيفاء الفكر، وذلك موجود في الجوع المفرط، والعطش المفرط، والالم المبرح، فنقيسه عليه وكقولنا أن الصبي يولي عليه لحكمة، وهي عجزه عن النظر لنفسه، فليس الصبا سبب الولاية لذاته، بل لهذه الحكمة، فننصب الجنون سببا قياسا على الصغر، والدليل على جواز مثل ذلك اتفاق عمر وعلي رضي الله عنهما على جواز قتل الجماعة بالواحد، والشرع إنما أوجب القتل على القاتل، والشريك ليس بقاتل على الكمال، لكنهم قالوا: إنما اقتص من القاتل لاجل الزجر وعصمة الدماء، وهذا المعنى يقتضي إلحاق المشارك بالمنفرد، ونزيد على هذا القياس ونقول: هذه الحكمة جريانها في الاطراف كجريانها في النفوس، فيصان الطرف في القصاص عن المشارك كما يصان عن المنفرد، وكذلك نقول: يجب القصاص بالجارح لحكمة الزجر وعصمة الدماء، فالمثقل في معنى الجارح بالاضافة إلى هذه العلة، فهذه تعليلات معقولة في هذه الاسباب لا فرق بينها وبين تعليل تحريم الخمر بالشدة، وتعليل ولاية الصغر بالعجز، ومنع الحكم بالغضب فإن قيل: المانع منه أن الزجر حكمة، وهي ثمرة، وإنما تحصل بعد القصاص وتتأخر عنه، فكيف تكون علة وجوب القصاص، بل علة وجوب القصاص القتل. قلنا: مسلم أن علة وجوب القصاص القتل، لكن علة كون القتل علة للقصاص الحاجة إلى الزجر، والحاجة إلى الزجر هي العلة دون نفس الزجر، والحاجة سابقة، وحصول الزجر هو المتأخر إذ يقال: خرج الامير عن البلد للقاء زيد، ولقاء زيد يقع بعد خروجه، ولكن تكون الحاجة إلى اللقاء علة باعثة على الخروج سابقة عليه، وإنما المتأخر نفس اللقاء، فكذلك الحاجة إلى عصمة الدماء هي الباعثة للشرع على جعل القتل سببا للقصاص، والشريك في هذا المعنى يساوي المنفرد، والمثقل يساوي الجارح فألحق به قياسا. |
12-06-2012, 08:04 PM | #63 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (قياس الحدود والكفارات)
نقل عن قوم أن القياس لا يجري في الكفارات والحدود، وما قدمناه يبين فساد هذا الكلام، فإن إلحاق الاكل بالجماع قياس وإلحاق النباش بالسارق قياس، فإن زعموا أن ذلك تنقيح لمناط الحكم لا استنباط للمناط، فما ذكروه حق والانصاف يقتضي مساعدتهم إذ فسروا كلامهم بهذا فيجب الاعتراف بأن الجاري في الكفارات والحدود، بل وفي سائر أسباب الاحكام المنهج الأول في الالحاق دون المنهج الثاني، وأن المنهج الثاني يرجع إلى تنقيح مناط الحكم وهو المنهج الأول، فإنا إذا ألحقنا المجنون بالصبي بان لنا أن الصبا لم يكن مناط الولاية، بل أمر أعم منه، وهو فقد عقل التدبير، وإذا ألحقنا الجوع بالغضب بان لنا أن الغضب لم يكن مناطا بل أمر أعم منه، وهو ما يدهش العقل عن النظر، وعند هذا يظهر الفرق للمنصف بين تعليل الحكم وتعليل السبب. فإن تعليل الحكم تعدية الحكم عن محله وتقريره في محله، فإنا نقول: حرم الشرع شرب الخمر، والخمر محل الحكم ونحن نطلب مناط الحكم وعلته، فإذا تبينت لنا الشدة عديناها إلى النبيذ، فضممنا النبيذ إلى الخمر في التحريم، ولم نغير من أمر الخمر شيئا، أما ههنا إذا قلنا علق الشرع الرجم بالزنا لعلة كذا فيلحق به غير الزنا، يناقض آخر الكلام أوله، لان الزنا إن كان مناطا من حيث أنه زنا، فإذا ألحقنا به ما ليس بزنا فقد أخرجنا الزنا عن كونه مناطا، فكيف يعلل كونه مناطا، بما يخرجه عن كونه مناطا والتعليل تقرير لا تغيير، ومن ضرورة تعليل الاسباب تغييرها فإنك إذا اعترفت بكونه سببا ثم أثبت ذلك الحكم بعينه عند فقد ذلك السبب فقد نقضت قولك الأول أنه سبب، فإنا إذا ألحقنا الاكل بالجماع بان لنا بالآخرة أن الجماع لم يكن هو السبب بل معنى أعم منه وهو الافطار وإنما كان يكون هذا تعليلا لو بقي الجماع مناطا وانضم إليه مناط آخر يشاركه في العلة، كما بقي الخمر محلا للتحريم، وانضم إليه محل آخر وهو النبيذ، فلم يخرج المحل الذي طلبنا علة حكمه عن كونه محلا لكن انضم إليه محل آخر وهو النبيذ وكذلك ينبغي أن لا يخرج الجماع عن كونه مناطا وينضم إليه مناط آخر وهو الاكل، وذلك محال، بل الحاق الاكل يخرج وصف الجماع عن كونه مناطا، ويوجب حذفه عن درجة الاعتبار، ويوجب إضافة الحكم إلى معنى آخر حتى يصير وصف الجماع حشوا زائدا، وكذلك يصير وصف الزنا حشوا زائدا، ويعود الامر إلى أن مناط الرجم وصف زائد، لان مناط الرجم أمر أعم من الزنا، وهو إيلاج فرج في فرج حرام، فإذا مهما فسر مذهبهم على هذا الوجه اقتضى الانصاف المساعدة والله أعلم. الركن الرابع العلة ويجوز أن تكون العلة حكما كقولنا: بطل بيع الخمر، لان حرم الانتفاع به، ولانه نجس، وغلط من قال أن الحكم أيضا يحتاج إلى علة فلا يعلل به، ويجوز أن يكون وصفا محسوسا عارضا كالشدة، أو لازما كالطعم والنقدية والصغر أو من أفعال المكلفين كالقتل والسرقة، أو وصفا مجردا أو مركبا من أوصاف، ولا فرق بين أن يكون نفيا أو إثباتا، ويجوز أن يكون مناسبا وغير مناسب أو متضمنا لمصلحة مناسبة، ويجوز أن لا تكون العلة موجودة في محل الحكم، كتحريم نكاح الامة بعلة رق الولد، وتفارق العلة الشرعية في بعض هذه المعاني العلة العقلية على ما بينا في كتاب التهذيب ولم نر فيه فائدة، لان العلة العقلية مما لا نراها أصلا، فلا معنى لقولهم: العلم علة كون العالم عالما، لا كون الذات عالمة، ولا أن العالمية حال وراء قيام العلم بالذات، فلا وجه لهذا عندنا في المعقولات، بل لا معنى لكونه عالما إلا قيام العلم بذاته. وأما الفقهيات فمعنى العلة فيها العلامة وسائر الاقسام التي ذكرناها يجوز أن ينصبها الشارع علامة. فالذي يتعرض له في هذا الركن كيفية إضافة الحكم إلى العلة، ويتهذب ذلك بالنظر في أربع مسائل: إحداها: تخلف الحكم عن العلة مع وجودها وهو الملقب بالنقض والتخصيص. و الثانية: وجود الحكم دون العلة، وهو الملقب بالعكس وتعليل الحكم بعلتين و الثالثة: أن الحكم في محل النص يضاف إلى النص أو إلى العلة وعنه تتشعب الرابعة: وهي العلة القاصرة.. مسألة (تخصيص العلة) اختلفوا في تخصيص العلة، ومعناه أن فقد الحكم مع وجود العلة يبين فساد العلة وانتفاضها أو يبقيها علة، ولكن يخصصها بما وراء موقعها، فقال قوم: إنه ينقض العلة و يفسدها. ويبين أنها لم تكن علة، إذ لو كانت لا طردت ووجد الحكم حيث وجدت، و قال قوم: تبقى علة فيما وراء النقض وتخلف الحكم عنها يخصصها، كتخلف حكم العموم، فإنه يخصص العموم بما وراءه، وقال قوم: إن كانت العلة مستنبطة مظنونة انتقضت وفسدت، وإن كانت منصوصا عليها تخصصت ولم تنتقض، وسبيل كشف الغطاء عن الحق أن نقول: تخلف الحكم عن العلة يعرض على ثلاثة أوجه: الأول: أن يعرض في صوب جريان العلة ما يمنع اطرادها وهو الذي يسمى نقضا. وهو ينقسم إلى ما يعلم أنه ورد مستثنى عن القياس، وإلى ما لا يظهر ذلك منه فما ظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استبقاء القياس، فلا يرد نقضا على القياس ولا يفسد العلة، بل يخصصها بما وراء المستثنى، فتكون علة في غير محل الاستثناء ولا فرق بين أن يرد ذلك على علة مقطوعة أو مظنونة، مثال الوارد على العلة المقطوعة: إيجاب صاع من التمر في لبن المصراة، فإن علة إيجاب المثل في المثليات المتلفة تماثل الاجزاء، والشرع لم ينقض هذه العلة، إذ عليها تعويلنا في الضمانات، لكن استثنى هذه الصورة، فهذا الاستثناء لا يبين للمجتهد فساد هذه العلة، ولا ينبغي أن يكلف المناظر الاحتراز عنه حتى يقول في علته تماثل أجزاء في غير المصراة، فيقتضي إيجاب المثل، لان هذا تكليف قبيح، وكذلك صدور الجناية من الشخص علة وجوب الغرامة عليه، فورود الضرب على العاقلة لم ينقض هذه العلة ولم يفسد هذا القياس، لكن استثنى هذه الصورة فتخصصت العلة بما وراءها، ومثال ما يرد على العلة المظنونة مسألة العرايا، فإنها لا تنقض التعليل بالطعم إذ فهم أن ذلك استثناء لرخصة الحاجة، ولم يرد ورود النسخ للربا، ودليل كونه مستثنى أنه يرد على علة الكيل وعلى كل علة، وكذلك إذا قلنا عبادة مفروضة، فتفتقر إلى تعيين النية لم تنتقض بالحج، فإنه ورد على خلاف قياس العبادات، لانه لو أهل بإهلال زيد صح ولا يعهد مثله في العبادات، أما إذا لم يرد مورد الاستثناء فلا يخلو إما أن يرد على العلة المنصوصة أو على المظنونة، فإن ورد على المنصوصة فلا يتصور هذا إلا بأن ينعطف منه قيد على العلة، ويتبين أن ما ذكرناه لم يكن تمام العلة، مثاله قولنا: خارح فينقض الطهارة أخذا من قوله: الوضوء مما خرج، ثم بأن أنه لم يتوضأ من الحجامة، فعلمنا أن العلة بتمامها لم يذكرها، وأن العلة خارج من المخرج المعتاد، فكان ما ذكرناه بعض العلة، فالعلة إن كانت منصوصة ولم يرد النقض مورد الاستثناء لم يتصور إلا كذلك، فإن لم تكن كذلك فيجب تأويل التعليل، إذ قد يرد بصيغة التعليل ما لا يراد به التعليل لذلك الحكم، فقوله تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} (الحشر: 2) ثم قال: {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله} (الحشر: 4) وليس كل من يشاقق الله يخرب بيته، فتكون العلة منقوضة، ولا يمكن أن يقال إنه علة في حقهم خاصة، لان هذا يعد تهافتا في الكلام، بل نقول: تبين بآخر الكلام أن الحكم المعلل ليس هو نفس الخراب، بل استحقاق الخراب خرب أو لم يخرب. أو نقول: ليس الخراب معلولا بهذه العلة لكونه خرابا بل لكونه عذابا، وكل من شاق الله وسوله فهو معذب إما بخراب البيت أو غيره، فإن لم يتكلف مثل هذا كان الكلام منتقضا، أما إذا ورد على العلة المظنونة لا في معرض الاستثناء، وانقدح جواب عن محل النقض من طريق الا خالة، أن كانت العلة مخيلة أو من طريق الشبه إن كانت شبها، فهذا بين أن ما ذكرناه أولا لم يكن تمام العلة، وانعطف قيد على العلة من مسألة النقض به يندفع النقص. أما إذا كانت العلة مخيلة ولم ينقدح جواب مناسب وأمكن أن يكون النقض دليلا على فساد العلة وأمكن أن يكون معرفا اختصاص العلة بمجراها بوصف من قبيل الاوصاف الشبيهة يفصلها عن غير مجراها، فهذا الاحتراز عنه مهم في الجدل للمتناظرين لكن المجتهد الناظر ماذا عليه أن يعتقد في هذه العلة الانتقاض والفساد أو التخصيص، هذا عندي في محل الاجتهاد، ويتبع كل مجتهد ما غلب على ظنه، ومثاله قولنا: صوم رمضان يفتقر إلى النية، لان النية لا تنعطف على ما مضى، وصوم جميع النهار واجب، وأنه لا يتجزأ فينتقض هذا بالتطوع، فإنه لا يصح إلا بنية، ولا يتجزأ على المذهب الصحيح، ولا مبالاة بمذهب من يقول إنه صائم بعض النهار فيحتمل أن ينقدح عند المجتهد فساد هذه العلة بسبب التطوع، ويحتمل أن ينقدح له أن التطوع ورد مستثنى رخصة لتكثير النوافل، فإن الشرع قد سامح في النفل بما لم يسامح به في الفرض، فالمخيل الذي ذكرناه يستعمل في الفرض ويكون وصف الفرضية فاصلا بين مجرى العلة وموقعها، ويكون ذلك وصفا شبيها اعتبر في استعمال المخيل وتميز مجراه عن موقعه، ومن أنكر قياس الشبه جوز الاحتراز عن النقض بمثل هذا الوصف الشبهي، فأكثر العلل المخيلة خصص الشرع اعتبارها بمواضع لا ينقدح في تعيين المحل معنى مناسب على مذاق أصل العلة، وهذا التردد إنما ينقدح في معنى مؤثرة لا يحتاج ألى شهاده الأصل فإن مقدمات هذا القياس مؤثر بالاتفاق من قولنا أن كل اليوم واجب وإن النبه عزم لا ينعطف على الماضي، وإن الصوم لا يصح إلا بنية، فإن كانت العلة مناسبة بحيث تفتقر إلى أصل يستشهد به، فإنما يشهد لصحته ثبوت الحكم في موضع آخر على وفقه فتنتقض هذه الشهادة بتخلف الحكم عنه في موضع آخر، فإن إثبات الحكم على وفق المعنى إن دل على التفات الشرع فقطع الحكم أيضا يدل على إعراض الشرع، وقول القائل: أنا أتبعه إلا في محل إعراض الشرع بالنص ليس هو أولى ممن قال: أعرض عنه إلا في محل اعتبار الشرع إياه بالتنصيص على الحكم، وعلى الجملة: يجوز أن يصرح الشرع بتخصيص العلة واستثناء صورة حكم عنها، ولكن إذا لم يصرح واحتمل نفي الحكم مع وجود العلة احتمل أن يكون لفساد العلة، واحتمل أن يكون لتخصيص العلة، فإن كانت العلة قطعية كان تنزيلها على التخصيص أولى من التنزيل على نسخ العلة، وإن كانت العلة مظنونة ولا مستند للظن إلا إثبات الحجم في موضع على وفقها فينقطع هذا الظن بإعراض الشرع عن اتباعها في موضع آخر، وإن كانت مستقلة مؤثرة كما ذكرناه في مسألة تبييت النية كان ذلك في محل الاجتهاد. الوجه الثاني: لانتفاء حكم العلة أن ينتفي لا لخلل في نفس العلة، لكن يندفع الحكم عنه بمعارضة علة أخرى دافعة، مثاله قولنا: إن علة رق الولد ملك الام ثم المغرور بحرية جارية ينعقد ولده حرا. وقد وجد رق الام وانتفى الولد، لكن هذا انعدام بطريق الاندفاع بعلة دافعة مع كمال العلة المرقة، بدليل أن الغرم يجب على المغرور، ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع لما وجبت قيمة الولد، فهذا النمط لا يرد نقضا على المناظر، ولا يبين لنظر المجتهد فسادا في العلة، لان الحكم ههنا كأنه حاصل تقديرا. الوجه الثالث: أن يكون النقض مائلا عن صوب جريان العلة، ويكون تخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة، لكن لعدم مصادفتها محلها أشرطها أو أهلها، كقولنا: السرقة علة القطع، وقد وجدت في النباش، فليجب القطع، فقيل: يبطل بسرقة ما دون النصاب وسرقة الصبي والسرقة من غير الحرز، ونقول: البيع علة الملك، وقد جرى فليثبت الملك في زمان الخيار، فقيل: هذا باطل ببيع المستولدة والموقوف والمرهون وأمثال ذلك فهذا جنس لا يلتفت إليه المجتهد، لان نظره في تحقيق العلة دون شرطها، ومحلها فهو مائل عن صوب نظره. أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أو يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر وليس عليه البحث عن المحل والشرط؟ هذا مما اختلف الجدليون فيه، والخطب فيه يسير، فالجدل شريعة وضعها الجدليون، وإليهم وضعها كيف شاؤوا، وتكلف الاحتراز أجمع لنشر الكلام، وذلك بأن يقول: بيع صدر من أهله وصادف محله، وجمع شرطه، فيفيد الملك ويقول سرق نصابا كاملا من حرز لا شبهة له فيه فيفيد القطع، فإن قيل: فقد ذكرتم أن النقض إذا ورد على صوب جريان العلة وكان مستثنى عن القياس لم يقبل فبم يعرف الاستثناء وما من معلل يرد عليه نقض إلا وهو يدعي ذلك، قلنا: أما المجتهد فلا يعاند نفسه فيتبع فيه موجب ظنه، وأما المناظر فلا يقبل ذلك منه، إلا أن يبين اضطرار الخصم إلى الاعتراف بأنه على خلاف قياسه أيضا، فإن قياس أبي حنيفة في الحاجة إلى تعيين النية يوجب افتقار الحج إلى التعيين، فهو خارج عن قياسه أيضا، فإن أمكنه إبراز قياس سوى مسألة النقض على قياس نفسه كانت علته المطردة أولى من علته المنقوضة، ولم تقبل دعوى المعلل أنه خارج عن القياس، فإن قيل: فحيث أوردتم مسألة المصراة مثالا فهل تقولون إن العلة موجودة في مسألة المصراة، وهي تماثل الاجزاء، لكن اندفع الحكم بمانع النص، كما تقولون في مسألة المغرور بحرية الولد، قلنا: لا، لان التماثل ليس علة لذاته، بل يجعل الشرع إياه علامة على الحكم، فحيث لم يثبت الحكم لم يجعله علامة فلم يكن علة، كما أنا لا نقول الشدة الموجودة قبل تحريم الخمر كانت علة، لكن لم يرتب الشرع عليها الحكم، بل ما صارت علة إلا حيث جعلها الشرع علة، وما جعلها علة إلا بعد نسخ إباحة الشرب، فكذلك التماثل ليس علة في مسألة المصراة، بخلاف مسألة المغرور، فإن الحكم فيه ثابت تقديرا، وكأنه ثبت ثم اندفع فهو في حكم المنقطع لا في حكم الممتنع، ولو نصب شبكة ثم مات فتعقل بها صيد لقضى منه ديونه، ويستحقه ورثته لان نصب الشبكة سبب ملك الناصب للصيد. ولكن الموت حالة تعقل الصيد دفع الملك فتلقاه الوارث، وهو في حكم الثابت للميت المنتقل إلى الوارث، فليفهم دقيقة الفرق بينهما. فإن قيل: إذا لم يكن التماثل علة في المصراة فقد انعطف به قيد على التماثل، أفتقولون العلة في غير المصراة التماثل المطلق أو تماثل مضاف إلى غير المصراة؟ فإن قلتم هو مطلق التماثل ومجرده فهو محال لانه موجود في المصراة ولا حكم. وإن قلتم هو تماثل مضاف فليجب على المعلل الاحتراز، فإنه إذا ذكر التماثل المطلق فقد ذكر بعض العلة، إذ ليست العلة مجرد التماثل، بل التماثل مع قيد الاضافة إلى غير المصراة، وعند هذا يكون انتفاء الحكم في مسألة المصراة لعدم العلة فلا يكون نقضا للعلة ولا تخصيصا، فإذا قال القائل: اقتلوا زيدا لسواده، اقتضى ظاهره قتل كل أسود، فلو ظهر بنص قاطع أنه ليس يقتل إلا زيد فقد بان أن العلة لم تكن السواد المطلق، بل سواد زيد وسواد زيد لا يوجد إلا في زيد، فإن لم يقتل غيره فلعدم العلة لا لخصوص العلة ولا لانتقاضها ولا لاستثنائها عن العلة. والجواب: أن هذا منشأ تخبط الناس في هذه المسألة، وسبب غموضها أنهم تكلموا في تسمية مطلق التماثل علة قبل معرفة حد العلة، وأن العلة الشرعية تسمى علة أي اعتبار، وقد أطلق الناس اسم العلة باعتبارات مختلفة، ولم يشعروا بها، ثم تنازعوا في تسمية مثل هذا علة، وفي تسمية مجرد السبب علة دون المحل والشرط، فنقول: اسم العلة مستعار في العلامات الشرعية، وقد استعاروها من ثلاثة مواضع على أوجه مختلفة: الأول: الاستعارة من العلة العقلية، وهو عبارة عما يوجب الحكم لذاته، فعلى هذا لا يسمى التماثل علة لانه بمجرده لا يوجب الحكم، ولا يسمى السواد علة بل سواد زيد، ولا تسمى الشدة المجردة علة، لانه بمجرده لا يوجب الحكم بل شدة في زمان. الثاني: الاستعارة من البواعث، فإن الباعث على الفعل يسمى علة الفعل فمن أعطى فقيرا فيقال: أعطاه لفقره فلو علل به ثم منع فقيرا آخر فقيل له لم تعطه وهو فقير؟ فيقول لانه عدوي ومنع فقيرا ثالثا وقال: لانه معتزلي، فلذلك لم أعطه فمن تغلب على طبعه عجرفة الكلام وجدله، فقد يقول: أخطأ في تعليلك الأول، فكان من حقك أن تقول أعطيته لانه فقير وليس عدوا ولا هو معتزلي ومن بقي على الاستقامة التي يقتضيها أصل الفطرة وطبع المحاورة لم يستبعد ذلك ولم يعده متناقضا، وجوز أن يقول: أعطيته لانه فقير، لان باعثه هو الفقر، وقد لا يحضره عند الاعطاء العداوة والاعتزال ولا انتفاؤهما، ولو كانا جزأين من الباعث لم ينبعث إلا عند حضورهما في ذهنه، وقد انبعث ولم يخطر بباله إلا مجرد الفقر فمن جوز تسمية الباعث علة فيجوز أن يسمجرد التماثل علة لانه الذي يبعثنا على إيجاب المثل في ضمانه، وإن لم يخطر ببالنا إضافنه إلى غير المصراة، فإنه قد لا تحضرنا مسألة المصراة أصلا في تلك الحالة. المأخذ الثالث: لاسم العلة علة المريض وما يظهر المرض عنده كالبرودة فإنها علة المرض مثلا، والمرض يظهر عقيب غلبة البرودة، وإن كان لا يحصل بمجرد البرودة، بل ربما ينضاف إليها من المزاج الأصلي أمور مثلا كالبياض، لكن انضاف المرض إلى البرودة الحادثة وكما ينضاف الهلاك إلى اللطم الذي تحصل التردية به في، البئر، وإن كان مجرد اللطم لا يهلك دون البئر لكن يحال بالحكم على اللطم لا على التردية التي ظهر بها الهلاك دون ما تقدم، وبهذا الاعتبار سمى الفقهاء الاسباب عللا فقالوا: علة القصاص القتل، وعلة القطع السرقة، ولم يلتفوا إلى المحل والشرط، فعلى هذا المأخذ أيضا يجوز أن يسمى التماثل المطلق علة، وإذا عرف هذا المأخذ فمن قال مجرد التماثل هل هو علة، فيقال له: ما الذي تفهم من العلة وما الدي تعني بها؟ فإن عنيت بها الموجب للحكم فهذا بمجرده لا يوجب فلا يكون علة، وهذا هو اللائق بمن غلب طبع الكلام، ولهذا أنكر الاستاذ أبو إسحق تخصيص العلة وإن كانت منصوصة وقال: يصير التخصيص قيدا مضموما إلى العلة، ويكون المجموع هو العلة وانتفاء الحكم عند انتفاء المجموع وفاء بالعلة، وليس بنقص لها، وإن عنيت به الباعث أو ما يظهر الحكم به عند الناظر وإن غفل عن غيره فيجوز تسميته علة، هذا حكم النظر في التسمية في حق المجتهد، أما الاحتراز في الجدل فهو تابع للاصطلاح، ويقبح أن يكلف الاحتراز فيه فيقول: تماثل في غير المصراة وشدة في غير ابتداء الاسلام وما يجري مجراه. وأعلم أن العلة إن أخذت من العلة العقلية لم يكن للفرق بين المحل والعلة والشرط معنى بل العلة المجموع والمحل والاهل وصف من أوصاف العلة: ولا فرق بين الجميع، لان العلة هي العلامة، وإنما العلامة جملة الاوصاف والاضافات، نعم لا ينكر ترجيح البعض على البعض في أحكام الضمان وغيرها، إذ يحال الضمان على المردي دون الحافر، وإن كان الهلاك لا يتم إلا بهما لنوع من الترجيح. وكذلك لا ينكرون أن تعجيل الزكاة قبل الحول لا يدل على تعجيل الزكاة قبل تمام النصاب، وإن كان كل واحد لا بد منه، لكن ربما لا ينقدح للمجتهد التسوية بين جميع أجزاء العلة ويراها متفاوتة في مناسبة الحكم، ولا يمتنع أيضا الاصطلاح على التعبير عن البعض بالمحل وعن البعض بركن العلة، وهذا فيه كلام طويل ذكرناه في كتاب شفاء الغليل، ولم نورده ههنا لانها مباحث فقهية قد استوفيناها في الفقه، فلا نطول الاصول بها. مسألة (تعليل الحكم بعلتين) اختلفوا في تعليل الحكم بعلتين. والصحيح عندنا جوازه لان العلة الشرعية علامة، ولا يمتنع نصب علامتين على شئ واحد، وإنما يمتنع هذا في العلل العقلية، ودليل جوازه وقوعه، فإن من لمس ومس وبال في وقت واحد ينتقض وضوؤه، ولا يحال على واحد من هذه الاسباب، ومن أرضعته زوجة أخيك وأختك أيضا أو جمع لبنهما وانتهى إلى حلق المرضع في لحظة واحدة حرمت عليك، لانك خالها وعمها والنكاح فعل واحد، وتحريمه حكم واحد، ولا يمكن أن يحال على الخؤولة دون العمومة أو بعكسه، ولا يمكن أن يقال: هما تحريمان وحكمان، بل التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة، ويستحيل اجتماع مثلين، نعم لو فرض رضاع ونسب فيجوز أن يرجح: النسب لقوته، أو اجتمع ردة وعدة وحيض فيحرم الوطئ، فيجوز أن يتوهم تعديد التحريمات ولو قتل وارتد فيجوز أن يقال المستحق قتلان ولو قتل شخصين فكذلك، ولو باع حرا بشرط خيار مجهول ربما قيل: علة البطلان الحرية دون الخيار، فهذه أوهام ربما تنقدح في بعض المواضع، وإنما فرضناه في اللمس والمس والخؤولة والعمومة لدفع هذه الخيالات، فدل هذا على إمكان نصب علامتين على حكم واحد وعلى وقوعه أيضا، فإن قيل: فإذا قاس المعلل على أصل بعلة فذكر المعترض علة أخرى في الأصل بطل قياس المعلل، وإن أمكن الجمع بين علتين فلم يقبل هذا الاعتراض فنقول: إنما يبطل به استشهاده بالأصل إن كانت علته ثابتة بطريق المناسبة المجردة دون التأثير، أو بطريق العلامة الشبيهة أما إن كان بطريق التأثير، أعني ما دل النص أو الإجماع على كونه علة، فاقتران علة أخرى بها لا يفسدها، كالبول والمس والخؤولة والعمومة في الرضاع، إذ دل الشرع على أن كل واحد من المعنيين علة على حيالها، أما إذا كان إثباته بشهادة الحكم والمناسبة انقطع الظن بظهور علة أخرى. مثاله: إن من أعطى إنسانا فوجدناه فقيرا ظننا أنه أعطاه لفقره وعللناه به، وإن وجدناه قريبا عللنا بالقرابة، فإن ظهر لنا الفقر بعد القرابة أمكن أن يكون الاعطاء للفقر لا للقرابة، أو يكون لاجتماع الامرين، فيزول ذلك الظن، لان تمام ذلك الظن بالسبر، وهو أنه لا بد من باعث على العطاء، ولا باعث إلا الفقر، فإذا هو الباعث أو لا باعث إلا القرابة فإذا هو الباعث، فإذا ظهرت علة أخرى بطلت إحدى مقدمتي السبر، وهو أنه لا باعث إلا كذا، وكذلك عتقت بريرة تحت عبد، فخيرها النبي عليه السلام فيقول أبو حنيفة خيرها لملكها نفسها ولزوال قهر الرق عنها، فإنها كانت مقهورة في النكاح، وهذا مناسب، فيبني عليه تخييرها، وإن عتقت تحت حر فقلنا: العلة خيرها لتضررها بالمقام تحت عبد، ولا يجري ذلك في الحر فكيف يلحق به، وإمكان هذا يقدح في الظن الأول، فإنه لا دليل له عليه إلا المناسبة، ودفع الضرر أيضا مناسب، وليست الحوالة على ذلك أولى من هذا، إلا أن يظهر ترجيح لاحد المعنيين، وأما مثال العلامة الشبهية فعلة الربا فإنه لم يذهب أحد إلى الجمع بين القوت والطعم والكيل، على أن كل واحد علة، لانه لم يقم دليل من جهة النص والإجماع، بل طريقة إظهار الضرورة في طلب علامة ضابطة مميزة مجرى الحكم عن موقعه إذ جرى الربا في الخبز والعجين مع زوال اسم البر، فلا يتم النظر إلا بقولنا، ولا بد من علامة، ولا علامة أولى من الطعم، فإذا هو العلامة، فإذا ظهرت علامة أخرى مساوية بطلت المقدمة الثانية من النظر، فانقطع الظن، والحاصل أن كل تعليل يفتقر إلى السبر فمن ضرورته اتحاد العلة، وإلا انقطع شهادة الحكم للعلة، وما لا يفتقر إلى السبر كالمؤثر فوجود علة أخرى لا يضر، وقد ذكرنا هذا في خواص هذه الاقيسة. |
12-06-2012, 08:05 PM | #64 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (اشتراط العكس في العلة) اختلفوا في اشتراط العكس في العلل الشرعية، وهذا الخلاف لا معنى له، بل لا بد من تفصيل، وقبل التفصيل فاعلم أن العلامات الشرعية دلالات، فإذا جاز اجتماع دلالات لم يكن من ضرورة انتفاء بعضها انتفاء الحكم، لكنا نقول: إن لم يكن للحكم إلا علة واحدة فالعكس لازم لا، لان انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم، بل لان الحكم لا بد له من علة، فإذا اتحدت العلة وانتفت، فلو بقي الحكم لكان ثابتا بغير سبب، أما حيث تعددت العلة فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعض العلل، بل عند انتفاء جميعها. والذي يدل على لزوم العكس عند اتحاد العلة أنا إذا قلنا: لا تثبت الشفعة للجار، لان ثبوتها للشريك معلل بعلة الضرر اللاحق من التزاحم على المرافق المتخذة من المطبخ والخلاء والمطرح للتراب ومصعد السطح وغيره، فلابي حنيفة أن يقول: هذا لا مدخل له في التأثير، فإن الشفعة ثابتة في العرصة البيضاء وما لا مرافق له، فهذا الآن عكس، وهو لازم، لانه يقول: لو كان هذا مناطا للحكم لانتفى الحكم عند انتفائه فنقول: السبب فيه ضرر مزاحمة الشركة فنقول: لو كان كذلك لثبت في شركة العبيد والحيوانات والمنقولات، فإن قلنا: ضرر الشركة فيما يبقى ويتأبد فيقول: فلتجز في الحمام الصغير، وما لا ينقسم فلا يزال يؤاخذنا بالطرد والعكس، وهي مؤاخذة صحيحة إلى أن نعلل بضرر مؤونة القسمة، ونأتي بتمام قيود العلة، بحيث يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها، وهذا المكان أنا أثبتنا هذه العلة بالمناسبة، وشهادة الحكم لها لوروده على وفقها وشرط مثل هذه العلة الاتحاد وشرط الاتحاد العكس، فإن قيل: ولفظ العكس هل يراد به معنى سوى انتفاء الحكم عند انتفاء العلة؟ قلنا: هذا هو المعنى الاشهر، وربما أطلق على غيره بطريق التوهم كما يقول الحنفي لما لم يجب القتل بصغير المثقل لم يجب بكبيره بدليل عكسه، وهو أنه لما وجب بكبير الجارح وجب بصغيرة، وقالوا: لما سقط بزوال العقل جميع العبادات ينبغي أن يجب برجوع العقل جميع العبادات، وهذا فاسد لانه لا مانع من أن يرد الشرع بوجوب القصاص بكل جارح وإن صغر، ثم يخصص في المثقل بالكبير، ولا بعد في أن يكون العقل شرطا في العبادات، ثم لا يكفي مجرده للوجوب، بل يستدعي شرطا آخر.
مسألة (هل تصح العلة القاصرة أم لا؟) العلة القاصرة صحيحة، وذهب أبو حنيفة إلى إبطالها، ونحن نقول: أولا ينظر الناظر في استنباط العلة وإقامة الدليل على صحتها بالايماء أو بالمناسبة أو تضمن المصلحة المبهمة، ثم بعد ذلك ينظر، فإن كان أعم من النص عدي حكمها وإلا اقتصر، فالتعدية فرع الصحة، فكيف يكون ما يتبع الشئ مصححا له؟ فإن قيل: كما أن البيع يراد للملك والنكاح للحل، فإذا تخلفت فائدتهما قيل أنهما باطلان، فكذلك العلة تراد لاثبات الحكم بها في غير محل النص، فإذا لم يثبت بها حكم كانت باطلة لخلوها عن الفائدة، وللجواب منهاجان: أحدهما: أن نسلم عدم الفائدة ونقول: إن عنيتم بالبطلان أنه لا يثبت بها حكم في غير محل النص فهو مسلم، ونحن لا نعني بالصحة إلا أن الناظر ينظر ويطلب العلة. ولا ندري أن ما سيفضي إليه نظره قاصر أو متعد، ويصحح العلة بما يغلب على ظنه من مناسبة أو مصلحة أو تضمن مصلحة، ثم يعرف بعد ذلك تعديه أو قصوره، فما ظهر من قصوره لا ينعطف فسادا على مأخذ ظنه ونظره، ولا ينزع من قلبه ما قر في نفسه من التعليل، فإذا فسرنا الصحة بهذا القدر لم يمكن جحده، وإذا فسروا البطلان بما ذكروه لم نجحده وارتفع الخلاف. الثاني: أنا لا نسلم عدم الفائدة، بل له فائدتان: الأولى: معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالة للقلوب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق، فإن النفوس إلى قبول الاحكام المعقولة الجارية على ذوق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد، ولمثله هذا الغرض استحب الوعظ، وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها وكون المصلحة مطابقة للنص، وعلى قدر حذقه يزيدها حسنا وتأكيدا، فإن قيل: هذا إنما يجري في المناسب دون الاوصاف الشبيهة مثل النقدية في الدراهم والدنانير، وقد جوزتم التعليل بمثل هذه العلة القاصرة؟ قلنا: تعريف الاحكام بمعان توهم الاشتمال على مصلحة ومناسبة أقرب إلى العقول من تعريفها بمجرد الاضافة إلى الاسامي، فلا تخلو من فائدة، ثم إن لم تجر هذه الفائدة في العلة الشبهية فالفائدة الثانية جارية. الفائدة الثانية: المنع من تعدية الحكم عند ظهور علة أخرى متعدية إلا بشرط الترجيح، فإن قيل: تمتنع تعدية الحكم لا بظهور علة قاصرة، بل بأن لا تظهر علة متعدية، فأي حاجة إلى العلة القاصرة، وإن ظهرت علة متعدية فلا يمتنع التعليل بالعلة القاصرة، بل يعلل الحكم في الأصل بعلتين، وفي الفرع بعلة واحدة قلنا: ليس كذلك، فإن كل علة مخيلة أو شبهية، فإنما تثبت بشهادة الحكم وتتم بالسبر، وشرطه الاتحاد كما سبق، فإذا ظهرت علة أخرى انقطع الظن، فإذا ظهرت علة متعدية يجب تعدية الحكم، فإن أمكن التعليل بعلة قاصرة عارضت المتعدية ودفعتها إلا إذا اختصت المتعدية بنوع ترجيح، فإذا أفادت القاصرة دفع المتعدية التي تساويها والمتعدية دفع القاصرة وتقاوما بقي الحكم مقصورا على النص، ولولا القاصرة لتعدي الحكم، فإن قيل: إنما تصح العلة بفائدتها الخاصة بها، وفائدة العلة الحكم بالفرع دون حكم الأصل، فإن حكم الأصل ثابت بالنص لا بالعلة: إنما الذي يثبت بالعلة حكم الفرع، إذ فائدتها تعدية الحكم، فإذا لم تكن تعدية فلا حكم للعلة قلنا: قولكم فائدة العلة حكم الفرع محال، لان علة تحريم الربا في البر طعم البر، ولا تحرم الذرة بطعم البر، بل بطعم الذرة، فحكم الفرع فائدة علة في الفرع لا فائدة علة في الأصل، وقولكم: حكمها التعدية محال، فإن لفظ التعية تجوز واستعارة، وإلا فالحكم لا يتعدى من الأصل إلى الفرع، بل يثبت في الفرع مثل حكم الأصل عند وجود مثل تلك العلة، فلا حقيقة للتعدي، ويتولد من هذا النظر مسألة وهي: أن العلة إذا كانت متعدية فالحكم في محل النص يضاف إلى العلة أو إلى النص، فقال أصحاب الرأي: يضاف إلى النص، لان الحكم مقطوع به في المنصوص، والعلة مظنونة، فكيف يضاف مقطوع إلى مظنون؟ وقال أصحابنا: يضاف إلى العلة، وهو نزاع لا تحقيق تحته، فإنا لا نعني بالعلة إلا باعث الشرع على الحكم، فإنه لو ذكر جميع المسكرات بأسمائها فقال: لا تشربوا الخمر والنبيذ وكذا وكذا، ونص على جميع مجاري الحكم لكان استيعابه مجاري الحكم لا يمنعنا من أن نظن أن الباعث له على التحريم الاسكار، فنقول: الحكم مضاف إلى الخمر والنبيذ بالنص، ولكن الاضافة إليه معلل بالشدة، بمعنى أن باعث الشرع على التحريم هو الشدة، وقولهم: إنه مظنون، فنقول: ونحن لا نزيد على أن نقول: نظن أن باعث الشرع الشدة، فلا يسقط هذا الظن باستيعاب مجاري الحكم، ولا حجر علينا في أن نصدق فنقول: إنما نظن كذا مهما ظننا ذلك. فإن قيل: الظن جهل إنما يجوز لضرورة العمل، والعلة القاصرة لا يتعلق بها عمل، فلا يجوز الهجرة عليها برجم الظنون وعند هذا كاع بعض الاصحاب وقال: إن كانت منصوصة جاز إضافة الحكم إليها في محل النص، كالسرقة مثلا، وإلا فلا، ونحن نقول: لا مانع من هذا الظن للفائدتين المذكورتين: إحداهما: استمالة القلوب إلى حسن التصديق والانقياد وأكثر المواعظ على هذه الصفة ظنية، وخلقت طباع الآدميين مطيعة للظنون بل للاوهام، وأكثر بواعث الناس على أعمالهم وعقائدهم في مصادرهم ومواردهم ظنون. الفائدة الثانية: مدافعة العلة المعارضة له كما سبق. خاتما لهذا الباب فيما يفسد العلة قطعا وما يفسدها ظنا واجتهادا ومثارات فساد العلل القطعية أربعة: الأول: الأصل، وشروطه أربعة: الأول: أن يكون حكما شرعيا، فإن كان عقليا فلا يمكن أن يعلل بعلة تثبت حكما سمعيا. الثاني: أن يكون حكم الأصل معلوما بنص أو إجماع، فإن كان مقيسا على أصل فهو فرع، فالقياس عليه باطل قطعا إن لم يكن الجامع هو علة الأصل الأول، وإن كان هو تلك العلة فتعيين الفرع مع إمكان القياس على الأصل عبث بلا فائدة. والثالث: أن يكون الأصل قابلا للتعليل لا كوجوب شهر رمضان وتقدير صلاة المغرب بثلاث ركعات وأمثاله، وكان هذا فاسدا من جهة عدم الدليل على صحة العلة. الرابع: أن يكون الأصل المستنبط منه غير منسوخ، فإن المنسوخ كان أصلا، وليس هو الآن أصلا، وليس من هذا القبيل قياس رمضان على صوم عاشوراء في التبييت، فإن من سلم وجوبه في ابتداء الاسلام وسلم افتقاره إلى التبييت لم يبعد أن يستشهد به على رمضان الذي أبدل وجوب عاشوراء، به، فإن المنسوخ نفس الوجوب وليس نقيس في الوجوب، لكن في مأخذ دلالة الوجوب على الحاجة إلى التبييت، وهذا أيضا وإن كان قريبا فلا يخلو عن نظر. المثار الثاني: أن يكون من جهة الفرع، وله وجوه ثلاثة: الأول: أن يثبت في الفرع خلاف حكم الأصل، مثاله قوله: بلغ برأس المال في السلم أقصى مراتب الاعيان، فليبلغ بعوضه أقصى مراتب الديون قياسا لاحد العوضين على الآخر، فهذا باطل قطعا، لانه خلاف صورة القياس، إذ القياس لتعدية الحكم، وليس هذا تعدية. الثاني: أن تثبت العلة في الأصل حكما مطلقا، ولا يمكن أن تثبت في الفرع إلا بزيادة أو نقصان، فهو باطل قطعا، لانه ليس على صورة تعدية: الحكم فلا يكون قياسا مثاله قولهم: شرع في صلاة الكسوف ركوع زائد، لانها صلاة تشرع فيها الجماعة، فتختص بزيادة كصلاة الجمعة، فإنها تختص بالخطبة، وصلاة العيد، فإنها تختص بالتكبيرات، وهذا فاسد، فإنه ليس يتمكن من تعدية الحكم على وجه وتفصيله. الثالث: أن لا يكون الحكم اسما لغويا، فقد بينا أن اللغة لا تثبت قياسا، وتلك المسألة قطعية، وربما جعلها قوم مسألة اجتهادية، وإثبات اسم الزنا والسرقة والخمر للائط والنباش والنبيذ من هذا القبيل، فكان هذا بالمثار الأول أليق. المثار الثالث: أن يرجع الفساد إلى طريق العلة وهو على أوجه: الأول: انتفاء دليل على صحة العلة فإنه دليل قاطع على فاسدها، فمن استدل على صحة علته بأنه لا دليل على فسادها فقياسه باطل قطعا، وكذلك إن استدل بمجرد الاطراد إن لم ينضم إليه سبر، وربما رأي بعضهم إبطال الطرد في محل الاجتهاد. الثاني: أن يستدل على صحة العلة بدليل عقلي فهو باطل قطعا، فإن كون الشئ علة للحكم أمر شرعي. الثالث: أن تكون العلة دافعة للنص ومناقضة لحكم منصوص، فالقياس على خلاف النص باطل قطعا. وكذا على خلاف الإجماع. وكذلك ما يخالف العلة المنصوصة، كتعليل تحريم الخمر بغير الاسكار المثير للعداوة والبغضاء، وليس التعليل بالكيل من هذا الجنس، وإن دفع قوله: لا تبيعوا الطعام بالطعام ولانه إيماء إلى التعليل بالطعم، وليس بصريح لا يقبل التأويل، وليس من هذا القبيل التعليل بعلة غير علة صاحب الشرع مع تقرير العلة المنصوصة، فإن النص على علة واحدة لا يمنع وجود علة أخرى، ولذلك يجوز تعليل الحكم بغير ما علل به الصحابة إذا لم تدفع علتهم إذ لم يكن فرض الصحابة استنباط جميع العلل. المثار الرابع: وضع القياس في غير موضعه، كمن أراد أن يثبت أصل القياس أو أصل خبر ا لواحد بالقياس، فقاس الرواية على الشهادة، وكذلك المسائل الاصولية العقلية لا سبيل إلى إثباتها بالاقيسة الظنية، فاستعمال القياس فيها وضع له في غير موضعه، هذه المفسدات القطعية القسم الثاني. في المفسدات الظنية الاجتهادية التي نعني بفسادها أنها فاسدة عندنا: وفي حقنا إذ لم تغلب على ظننا وهي صحيحة في حق من غلبت على ظنه، ومن قال: المصيب واحد فيقول: هي فاسد ة في نفسها لا بالاضافة إلى أني أجوز أن أكون أنا المخطئ وعلى الجملة لا تأثيم في محل الاجتهاد، ومن خالف الدليل القطعي فهو آثم، وهذه المفسدات تسع: الأول: العلة المخصوصة باطلة عند من لا يرى تخصيص العلة صحيحة عند من يبقى ظنه مع التخصيص. الثاني: علة مخصصة لعموم القرآن هي صحيحة عندنا فاسدة عند من رأى تقديم العموم على القياس. الثالث: علة عارضتها علة تقتضي نقيض حكمها، فاسدة عند من يقول: المصيب واحد صحيحة عند من صوب كل مجتهد وهما علامتان لحكمين في حق المجتهدين، وفي حق مجتهد واحد في حالتين، فإن اجتمعا في حالة واحدة. فقد نقول إنه يوجب التخيير كما سيأتي. الرابع: أن لا يدل على صحتها إلا الطرد والعكس وقد يقال: ما يدل عليه مجرد الاطراد فهو أيضا في محل الاجتهاد. الخامس: أن يتضمن زيادة على النص كما في مسألة الرقبة الكافرة. السادس: القياس في الكفارات والحدود، وقد ذكرنا في هذا ما يظن أنه يرفع الخلاف. السابع: ذهب قوم إلى أنه لا يجوز انتزاع العلة من خبر الواحد، بل ينبغي أن تؤخذ من أصل مقطوع به، وهذا فاسد، ولا يبعد من أن يكون فساده مقطوعا به. الثامن: علة تخالف مذهب الصحابة، وهي فاسدة عند من يوجب اتباع الصحابة وإن كان المنع من تقليد الصحابي مسألة اجتهادية، فهذا مجتهد فيه ولا يبعد أن يقول بطلان ذلك المذهب مقطوع به. التاسع: أن يكون وجود العلة في الفرع مظنونا لا مقطوعا به، وقد ذكرنا فيه خلافا والله أعلم. هذه هي المفسدات. ووراء هذا اعتراضات مثل المنع وفساد الوضع وعدم التأثير والكسر والفرق والقول بالموجب والتعدية والتركيب وما يتعلق فيه تصويب نظر المجتهدين قد انطوى تحت ما ذكرناه وما لم يندرج تحت ما ذكرناه فهو نظر جدلي يتبع شريعة الجدل التي وضعها الجدليون باصطلاحهم فإن لم يتعلق بها فائدة دينية فينبغي أن تشح على الاوقات أن تضيعها بها، وتفصيلها وإن تعلق بها فائدة من ضم نشر الكلام ورد كلام المناظرين إلى مجرى الخصام كيلا يذهب كل واحد عرضا وطولا في كلامه منحرفا عن مقصد نظره، فهي ليست فائدة من جنس أصول الفقه، بل هي من علم الجدل، فينبغي أن تفرد بالنظر، ولا تمزح بالاصول التي يقصد بها تذليل طرق الاجتهاد للمجتهدين. وهذا آخر القطب الثالث المشتمل على طرق استثمار الاحكام إما من صيغة اللفظ وموضوعه أو إشارته ومقتضاه ومعقوله، ومعناه فقد استوفيناه والله أعلم. |
12-06-2012, 08:05 PM | #65 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
القطب الرابع في حكم المستثمر وهو المجتهد ويشتمل هذا القطب على ثلاثة فنون: فن في الاجتهاد، وفين في التقليد، وفن في ترجيح المجتهد دليلا على دليل عند التعارض.
الفن الأول في الاجتهاد والنظر في أركانه وأحكامه أما أركانه فثلاثة المجتهد والمجتهد فيه نفس الاجتهاد الركن الأول في نفس الاجتهاد: وهو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الافعال ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد فيقال اجتهد في حمل حجر الرحا ولا يقال اجتهد في حمل خردلة لكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب. الركن الثاني المجتهد: وله شرطان: أحدهما: أن يكون محيطا بمدارك الشرع متمكنا من استثارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره. والشرط الثاني: أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة، وهذا يشترط لجواز الاعتماد على فتواه، فمن ليس عدلا فلا تقبل فتواه. أما هو في نفسه فلا فكأن العدالة شرط القبول للفتوى لا شرط صحة الاجتهاد، فإن قيل: متى يكون محيطا بمدارك الشرع، وما تفصيل العلوم التي لا بد منها لتحصيل منصب الاجتهاد؟ قلنا: إنما يكون متمكنا من الفتوى بعد أن يعرف المدارك المثمرة للاحكام، وأن يعرف كيفية الاستثمار والمدارك المثمرة للاحكام كما فصلناها أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل. وطريق الاستثمار يتم بأربعة علوم: اثنان مقدمان، واثنان متممان، وأربعة في الوسط، فهذه ثمانية فلنفصلها ولننبه فيها على دقائق أهملها الاصوليون، أما كتاب الله عزوجل فهو الأصل، ولا بد من معرفته ولنخفف عنه أمرين. أحدهما: إنه لا يشترط معرفة جميع الكتاب، بل ما تتعلق به الاحكام منه وهو مقدار خمسمائة آية. الثاني: لا يشترط حفظها عن ظهر قلبه، بل أن يكون عالما بمواضعها بحيث يطلب فيها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة، وأما السنة فلا بد من معرفة الاحاديث التي تتعلق بالاحكام، وهي وإن كانت زائدة على ألوف فهي محصورة وفيها التخفيفان المذكوران، إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الاحاديث بالمواعظ وأحكام الآخرة وغيرها الثاني: لا يلزمه حفظها عن ظهر قلبه بل أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الاحاديث المتعلقة بالاحكام، كسنن أبي داود ومعرفة السنن لاحمد البيهقي أو أصل وقعت العناية فيه بجميع الاحاديث المتعلقة بالاحكام ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى، وإن كان يقدر على حفظه فهو أحسن وأكمل. وأما الإجماع فينبغي أن تتميز عنده مواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع كما يلزمه معرفة النصوص حتى لا يفتي بخلافها، والتخفيف في هذا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل كل مسألة يفتي فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليس مخالفا للإجماع إما بأن يعلم أنه موافق مذهبا من مذاهب العلماء أيهم كان أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لاهل الإجماع فيها خوض فهذا القدر فيه كفاية، وأما العقل فنعني به مستند النفي الأصلي للاحكام، فإن العقل قد دل على نفي الحرج في الاقوال والافعال، وعلى نفي الاحكام عنها من صور لا نهاية لها، أما ما استثنته الأدلة السمعية من الكتاب والسنة فالمستثناة محصورة، وإن كانت كثيرة، فينبغي أن يرجع في كل واقعة إلى النفي الأصلي والبراءة الأصلية، ويعلم أن ذلك لا يغير إلا بنص أو قياس على منصوص، فيأخذ في طلب النصوص، وفي معنى النصوص الإجماع، وأفعال الرسول بالاضافة إلى ما يدل عليه الفعل على الشرط الذي فصلناه هذه المدارك الاربعة. فأما العلوم الاربعة التي بها يعرف طرق الاستثمار فعلمان مقدمان: أحدهما: معرفة نصب الأدلة وشروطها التي بها تصير البراهين والأدلة منتجة والحاجة إلى هذا تعم المدارك الاربعة. والثاني: معرفة اللغة والنحو على وجه يتيسر له به فهم خطاب العرب، وهذا يخص فائدة الكتاب والسنة، ولكل واحد من هذين العلمين تفصيل وفيه تخفيف وتثقيل، أما تفصيل العلم الأول فهو أن يعلم أقسام الأدلة وأشكالها وشروطها، فيعلم أن الأدلة ثلاثة عقلية تدل لذاتها وشرعية صارت أدلة بوضع الشرع، ووضعية وهي العبارات اللغوية ويحصل تمام المعرفة فيه بما ذكرناه في مقدمة الاصول من مدارك العقول لا بأقل منه فإن من لم يعرف شروط الأدلة لم يعرف حقيقة الحكم ولا حقيقة الشرع، ولم يعرف مقدمة الشارع، ولا عرف من أرسل الشارع، ثم قالوا: لا بد أن يعرف حدوث العالم وافتقاره إلى محدث موصوف بما يجب لهومن الصفات منزه عما يستحيل عليه، وأنه متعبد عباده ببعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات، وليكن عارفا بصدق الرسول، والنظر في معجزته، والتخفيف في هذا عندي أن القدر الواجب من هذه الجملة اعتقاد جازم، إذ به يصير مسلما، والاسلام شرط المفتي لا محالة، فأما مجاوزة حد التقليد فيه إلى معرفة الدليل فليس بشرط أيضا لذاته لكنه يقع من ضرورة منصب الاجتهاد، فإنه لا يبلغ رتبة الاجتهاد في العلم إلا وقد قرع سمعه أدلة خلق العالم وأوصاف الخالق وبعثة الرسل وإعجاز القرآن، فإن كل ذلك يشتمل عليه كتاب الله، وذلك محصل للمعرفة الحقيقية، مجاوز بصاحبه حد التقليد وإن لم يمارس صاحبه صنعة الكلام فهذا من لوازم منصب الاجتهاد حتى لو تصور مقلد محض في تصديق الرسول وأصول الايمان لجاز له الاجتهاد في الفروع. أما المقدمة الثانية فعلم اللغة والنحو أعني القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهة ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه، والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو، بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه، وأما العلمان المتممان فأحدهما: معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، وذلك في آيات وأحاديث مخصوصة، والتخفيف فيه أن لا يشترط أن يكون جميعه على حفظه، بل كل واقعة يفتي فيها بآية أو حديث فينبغي أن يعلم أن ذلك الحديث وتلك الآية ليست من جملة المنسوخ، وهذا يعم الكتاب والسنة. الثاني: وهو يخص السنة معرفة الرواية، وتمييز الصحيح منها عن الفاسد والمقبول عن المردود، فإن ما لا ينقله العدل عن العدل فلا حجة فيه، والتخفيف فيه أن كل حديث يفتى به مما قبلته الامة، فلا حاجة، به إلى النظر في إسناده، وإن خالفه بعض العلماء فينبغي أن يعرف رواته وعدالتهم، فإن كانوا مشهورين عنده كما يرويه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثلا اعتمد عليه، فهؤلاء قد تواتر عند الناس عدالتهم وأحوالهم والعدالة إنما تعرف بالخبرة والمشاهدة، أو بتواتر الخبر، فما نزل عنه فهو تقليد، وذلك بأن يقلد البخاري ومسلما في أخبار الصحيحين، وإنهما ما رووها إلا عمن عرفوا عدالته فهذا مجرد تقليد، وإنما يزول التقليد بأن يعرف أحوال الرواة بتسامع أحوالهم وسيرهم، ثم ينظر في سيرهم أنها تقتضي العدالة أم لا، وذلك طويل، وهو في زماننا مع كثرة الوسائط عسير. والتخفيف فيه أن يكتفي بتعديل الامام العدل بعد أن عرفنا أن مذهبه في التعديل مذهب صحيح، فإن المذاهب مختلفة فيما يعدل به ويجرح فإن من مات قبلنا بزمان امتنعت الخبرة و المشاهدة في حقه، ولو شرط أن تتواتر سيرته فذلك لا يصادف إلا في الائمة المشهورين، فيقلد في معرفة سيرته عدلا فيما يخبر فنقلده في تعديله، بعد أن عرفنا صحة مذهبه في التعديل فإن جوزنا للمفتي الاعتماد على الكتب الصحيحة التي ارتضى الائمة رواتها قصر الطريق على المفتي، وإلا طال الامر، وعسر الخطب في هذا الزمان مع كثرة الوسائط، ولا يزال الامر يزداد شدة بتعاقب الاعصار، فهذه هي العلوم الثمانية التي يستفاد بها منصب الاجتهاد ومعظم ذلك يشتمل عليه ثلاثة فنون: علم الحديث، وعلم اللغة، وعلم أصول الفقه، فأما الكلام وتفاريع الفقه فلا حاجة إليهما، وكيف يحتاج إلى تفاريع الفقه وهذه التفاريع يولدها المجتهدون ويحكمون فيها بعد حيازة منصب الاجتهاد، فكيف تكون شرطا في منصب الاجتهاد وتقدم الاجتهاد عليها شرط، نعم: إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته، فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك، ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضا. دقيقة في التخفيف يغفل عنها الاكثرون: اجتماع هذه العلوم الثمانية، إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع، وليس الاجتهاد عندي منصبا لا يتجزأ بل يجوز أن يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الاحكام دون بعض، فمن عرف طريق النظر القياسي فله أن يفتي في مسألة قياسية وإلم يكن ماهرا في علم الحديث، فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول الفرائض ومعانيها، وإن لم يكن قد حصل الاخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي، فلا استمداد لنظر هذه المسألمنها، ولا تعلق لتلك الاحاديث بها، فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عمعرفتها نقصا، ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} (المائدة: 6) وقس عليه ما في معناه، وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كل مسألة، فقد سئل مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين منها: لا أدري، وكم توقف الشافعي رحمه الله، بل الصحابة في المسائل، فإذا لا يشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي فيفتي فيما يدري ويدري أنه يدري، ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري فيتوقف فيما لا يدري ويفتي فيما يدري. الركن الثالث المجتهد فيه: والمجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام، فإن الحق فيها واحد والمصيب واحد والمخطئ آثم، وإنما نعني بالمجتهد فيه ما لا يكون المخطئ فيه آثما، ووجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الامة من جليات الشرع فيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف فليس ذلك محل الاجتهاد، فهذه هي الاركان، فإذا صدر الاجتهاد التام من أهله وصادف محله كان ما أدى إليه الاجتهاد حقا وصوابا كما سيأتي، وقد ظن ظانون أن شرط المجتهد أن لا يكون نبيا، فلم يجوزوا الاجتهاد للنبي وأن شرط الاجتهاد أن لا يقع في زمن النبوة، فنرسم فيه مسألتين. |
12-06-2012, 08:06 PM | #66 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم) اختلفوا في جواز التعبد بالقياس والاجتهد في زمان الرسول عليه السلام، فمنعه قوم، وأجازه قوم، وقال قوم: يجوز للقضاة والولاة في غيبته لا في حضور النبي صلى الله عليه وسلم، والذين جوزوا منهم من قال يجوز بالاذن، ومنهم من قال: يكفي سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختلف المجوزون في وقوعه، والمختار أن ذلك جائز في حضرته وغيبته، وأن يدل عليه بالاذن أو السكوت، لانه ليس في التعبد به استحالة في ذاته، ولا يفضي إلى محال ولا إلى مفسدة، وإن أوجبنا الصلاح فيجوز أن يعلم الله لطفا يقتضي ارتباط صلاح العباد بتعبدهم بالاجتهاد لعلمه بأنه لو نص لهم على قاطع لبغوا وعصوا، فإن قيل، الاجتهاد مع النص محال، وتعرف الحكم بالنص بالوحي الصريح ممكن، فكيف يردهم إلى ورطة الظن؟ قلنا: فإذا قال لهم: أوحي إلي أن حكم الله تعالى عليكم ما أدى إليه اجتهادكم، وقد تعبدكم بالاجتهاد، فهذا نص، وقولهم: الاجتهاد مع النص محال مسلم، ولكن لم ينزل نص في الواقعة، وإمكان النص لا يضاد الاجتهاد وإنما يضاده نفس النص، كيف وقد تعبد النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء بقول الشهود حتى قال: إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وكان يمكن نزول الوحي بالحق الصريح في كل واقعة حتى لا يحتاج إلى رجم بالظن وخوف الخطأ، فأما وقوعه فالصحيح أنه قام الدليل على وقوعه في غيبته بدليل قصة معاذ، فأما في حضرته فلم يقم فيه دليل، فإن قيل: فقد قال لعمرو بن العاص: أحكم في بعض القضايا، فقال: إجتهد وأنت حاضر؟ فقال: نعم إن أصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر وقال لعقبة بن عامر ولرجل من الصحابة: اجتهدوا، فإن أصبتما فلكما عشر حسنات، وإن أخطأتما فلكما حسنة قلنا: حديث معاذ مشهور قبلته الامة، وهذه أخبار آحاد لا تثبت وأن ثبتت احتمل أن يكون مخصوصا بهما، أو في واقعة معينة، وإنما الكلام في جواز الاجتهاد مطلقا في زمانه.
مسألة (اختلفوا في النبي عليه السلام) هل يجوز له الحكم بالاجتهاد فيما لا نص فيه؟ والنظر في الجواز والوقوع والمختار جواز تعبد بذلك، لانه ليس بمحال في ذاته، ولا يفضي إلى محال ومفسدة، فإن قيل: المانع منه أنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح فكيف يرجم الظن؟ قلنا: فإذا استكشف فقيل له: حكمنا عليك أن تجتهد وأنت متعبد به فهل له أن ينازع الله فيه أو يلزمه أن يعتقد أن صلاحه فيما تعبد به، فإن قيل: قوله نص قاطع يضاد الظن، والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ فهما متضادان، قلنا: إذا قيل له ظنك علامة الحكم، فهو يستيقن الظن والحكم جميعا، فلا يحتمل، الخطأ، وكذلك اجتهاد غيره عندنا ويكون كظنه صدق الشهود، فإنه يكون مصيبا وإن كان الشاهد مزورا في الباطن، فإن قيل: فإن ساواه غيره في كونه مصيبا بكل حال فليجز لغيره أن يخالف قياسه باجتهاد نفسه، قلنا: لو تعبد بذلك لجاز، ولكن دل الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده، كما دل على تحريم مخالفة الامة كافة، وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد الامام الاعظم والحاكم لان. صلاح الخلق في اتباع رأي الامام والحاكم وكافة الامة، فكذلك النبي، ومن ذهب إلى أن المنصيب واحد يرجح اجتهاده لكونه معصوما عن الخطأ دون غيره، ومنهم من جوز عليه الخطأ ولكن لا يقر عليه، فإن قيل: كيف يجوز ورود التعبد بمخالفة اجتهاده، وذلك يناقض الاتباع وينفر عن الانقياد، قلنا: إذا عرفهم على لسانه بأن حكمهم اتباع ظنهم، وإن خالف ظن النبي كان اتباعه في امتثال ما رسمه لهم كما في القضاء بالشهود، فإن لو قضي النبي بشهادة شخصين لم يعرف فسقهما فشهدا عند حاكم عرف فسقهما لم يقبلهما، وأما التنفير فلا يحصل، بل تكون مخالفته فيه كمخالفته في الشفاعة وفي تأبير النخل ومصالح الدنيا، فإن قيل: لو قاس فرعا على أصل أفيجوز إيراد القياس على فرعه أم لا إن قلتم لا فمحال لانه صار منصوصا عليه من جهته وإن قلتم نعم، فكيف يجوز القياس على الفرع؟ قلنا: يجوز القياس عليه، وعلى كل فرع أجمعت الامة على إلحاقه بأصل، لانه صار أصلا بالإجماع والنص، فلا ينظر إلى مأخذهم، وما ألحقه بعض العلماء فقد جوز بعضهم القياس عليه وإن لم توجد علة الأصل، أما الوقوع فقد قال به قوم وأنكره آخرون وتوقف فيه فريق ثالث وهو الاصح، فإنه لم يثبت فيه قاطع، احتج القائلون به بأنه عوتب عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر، وقيل: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض} (الانفال: 76) وقال النبي عليه السلام: ولو نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر لانه كان قد أشار بالقتل ولو كان قد حكم بالنص لما عوتب، قلنا: لعله كان مخير بالنص في إطلاق الكل أو قتل الكل أو فداء الكل، فأشار بعض الاصحاب بتعيين الاطلاق على سبيل المنع عن غيره، فنزل العتاب مع الذي عينوا لا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ورد بصيغة الجمع، والمراد به، أولئك خاصة، واحتجوا بأنه لما قال: يختلي خلاها ولا يعضد شجرها قال العباس: إلا الاذخر، فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الاذخر وقافي الحج: هو للابد، ولو قلت لعامنا لوجب ونزل منزلا للحرب فقيل له: إن كان بوحي فسمعا وطاعة. وإن كان باجتهاد ورأي فهو منزل مكيدة فقال: بل باجتهاد ورأي فرحل؟ قلنا: أما الاذخر فلعله كان نزل الوحي بأن لا يستثنى الاذخر إلا عند قول العباس، أو كان جبريل عليه السلام حاضرا فأشار عليه بإجابة العباس، وأما الحج فمعناه، لو قلت لعامنا لما قلته إلا عن وحي ولوجب لا محالة، وأما المنزل فذلك اجتهاد في مصالح الدنيا، وذلك جائز بلا خلاف إنما الخلاف في أمور الدين أحتج المنكرون لذلك بأمور: أحدها: أنه لو كان مأمورا به لاجاب عن كل سؤال ولما انتظر الوحي. الثاني: أنه لو كان مجتهدا لنقل ذلك عنه واستفاض. الثالث: أنه لو كان لكان ينبغي أن يختلف اجتهاده ويتغير فيتهم بسبب تغير الرأي. قلنا: أما انتظار الوحي فلعله كان حيث لم ينقدح له اجتهاد أو في حكم لا يدخله الاجتهاد أو نهي عن الاجتهاد فيه، وأما الاستفاضة بالنقل فعلعه لم يطلع الناس عليه، وإن كان متعبدا به، أو لعله كان متعبدا بالاجتهاد إذا لم ينزل نص وكان ينزل النص فيكون كمن تبعد بالزكاة والحج إن ملك النصاب والزاد، فلم يملك فلا يدل على أنه لم يكن متعبدا، وأما التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليها، فقد اتهم بسب النسخ، كما قال تعالى: {قالوا إنما أنت مفتر} (النحل: 101) ولم يدل ذلك على استحالة النسخ كيف وقد عورض هذا الكلام بجنسه؟ فقيل لو لم يكن متعبدا بالاجتهاد لفاته ثواب المجتهدين، ولكان ثواب المجتهدين أجزل من ثوابه، وهذا أيضا فاسد، لان ثواب تحمل الرسالة والاداء عن الله تعالى فوق كل ثواب. فإن قيل فهل يجوز التعبد بوضع العبادات ونصب الزكوات وتقديراتها بالاجتهاد؟ قلنا: لا محيل لذلك، ولا يفضي إلى محال ومفسدة، ولا بعد في أن يجعل الله تعالى صلاح عباده فيما يؤدي إليه اجتهاد رسوله لو كان الامر مبينا على الصلاح ومنع القدرية هذا وقالوا: إن وافق ظنه الصلاح في البعض فيمتنع أن يوافق الجميع، وهذا فساد، لانه لا يبعد أن يلقى الله في اجتهاد رسوله ما فيه صلاح عباده هذا هو الجواز العقلي أما وقوعه فبعيد، وإن لم يكن محالا بل الظاهر أن ذلك، كله كان عن وحي صريح ناص على التفصيل. النظر الثاني: في أحكام الاجتهاد و النظر في حق المجتهد في تأثيمه وتخطئته وإصابته وتحريم التقليد عليه، وتحريم نقض حكمه الصادر عن الاجتهاد، فهذه أحكام النظر. الأول: في تأثيم المخطئ في الاجتهاد، والاثم ينتفي عن كل من جمع صفات المجتهدين إذا تمم الاجتهاد في محله، فكل اجتهاد تام إذا صدر من أهله وصادف محله فثمرته حق وصواب، والاثم عن المجتهد منفي، والذي نختاره أن الاثم والخطأ متلازمان، فكل مخطئ آثم وكل آثم مخطئ ومن انتفى عنه الاثم انتفى عنه الخطأ، فلنقدم حكم الاثم أولا فنقول: النظريات تنقسم إلى ظنية وقطعية فلا إثم في الظنيات إذ لا خطأ فيها والمخطئ في القطعيات آثم، والقطعيات ثلاثة أقسام: كلامية وأصولية وفقهية. أما الكلامية: فنعني بها العقليات المحضة، والحق فيها واحد، ومن أخطأ الحق فيها فهو آثم، ويدخل فيه حدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته الواجبة، والجائزة والمستحيلة وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات وجواز الرؤية وخلق الاعمال وإرادة الكائنات، وجميع ما الكلام فيه مع المعتزلة والخوارج والروافض والمبتدعة وحد المسائل الكلامية المحضة ما يصح للناظر درك حقيقته بنظر العقل قبل ورود الشرع، فهذه المسائل الحق فيها واحد، ومن أخطأه فهو آثم، فإن أخطأ فيما يرجع إلى الايمان بالله ورسوله فهو كافر، وإن أخطأ فيما لا يمنعه من معرفة الله عزوجل ومعرفة رسوله كما في مسألة الرؤية وخلق الاعمال وإرادة الكائنات وأمثالها فهو آثم من حيث عدل عن الحق وضل، ومخطئ من حيث أخطأ الحق المتيقن، ومبتدع من حيق قال قولا مخالفا للمشهور بين السلف ولا يلزم الكفر. وأما الاصولية: فنعني بها كون الإجماع حجة وكون القياس حجة وكون خبر الواحد حجة، ومن جملته خلاف من جوز خلاف الإجماع المنبرم قبل انقضاء العصر وخلاف الإجماع الحاصل عن اجتهاد ومنع المصير إلى أحد قولي الصحابة والتابعين عند اتفاق الامة بعدهم على القول الآخر، ومن جملته اعتقاد كون المصيب واحدا في الظنيات، فإن هذه مسائل أدلتها قطعية، والمخالف فيها آثم مخطئ وقد نبهنا على القطعيات والظنيات في أدراج الكلام في جملة الاصول. وأما الفقهية: فالقطعية منها وجوب الصلوات الخمس، والزكاة، والحج والصوم وتحريم الزنا والقتل والسرقة والشرب وكل ما علم قطعا من دين الله فالحق فيها واحد وهو المعلوم والمخالف فيها آثم، ثم ينظر فإن أنكر ما علم ضرورة من مقصود الشارع: كإنكار تحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم، فهو كافر، لان هذا الانكار لا يصدر إلا عن مكذب بالشرع، وإن علم قطعا بطريق النظر لا بالضرورة ككون الإجماع حجة وكون القياس، وخبر الواحد حجة، وكذلك الفقهيات المعلومة بالإجماع، فهي قطعية فمنكرها ليس بكافر لكنه آثم مخطئ، فإن قيل: كيف حكمتم بأن وجوب الصلاة والصوم ضروري، ولا يعرف ذلك إلا بصدق الرسول وصدق الرسول نظري؟ قلنا: نعني به أن إيجاب الشارع له معلوم تواترا أو ضرورة، أما أن ما أوجبه فهو واجب فذلك نظري يعرف بالنظر في المعجزة المصدقة، ومن ثبت عنده صدقه فلا بد أن يعترف به، فإن أنكره فذلك لتكذيبه الشارع ومكذبه كافر، فلذلك كفرناه به، أما ما عداه من الفقهيات الظنية التي ليس عليها دليل قاطع فهو في محل الاجتهاد، فليس فيها عندنا حق معين ولا إثم على المجتهد إذا تمم اجتهاده وكان من أهله، فخرج من هذا أن النظريات قسمان قطعية وظنية، فالمخطئ في القطعيات آثم ولا إثم في الظنيات أصلا لا عند من قال المصيب فيها واحد، ولا عند من قال: كل مجتهد مصيب، هذا هو مذهب الجماهير، وقد ذهب بشر المريسي إلى إلحاق الفروع بالاصول وقال فيها حق واحد متعين والمخطئ آثم، وقد ذهب الجاحظ والعنبري إلى إلحاق الاصول بالفروع، وقال العنبري: كل مجتهد في الاصول أيضا مصيب، وليس فيها حق متعين، وقال الجاحظ فيها حق واحد متعين لكن المخطئ فيها معذور غير آثم كما في الفروع، فلنرسم في الرد على هؤلاء الثلاثة ثلاث مسائل: |
12-06-2012, 08:07 PM | #67 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (مخالفة أهل الكتاب للاسلام) ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الاسلام من اليهود والنصارى والدهرية إن كان معاندا على خلاف اعتقاده فهو آثم، وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم، وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضا معذور، وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط، لان الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة، وهذا الذي ذكره ليس بمحال عقلا لو ورد الشرع به، وهو جائز ولو ورد التعبد كذلك لوقع، ولكن الواقع خلاف هذا فهو باطل بأدلة سمعية ضرورية، فإنا كما نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة والزكاة ضرورة فيعلم أيضا ضرورة أنه أمر اليهود والنصارى بالايمان به واتباعه، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم، ولذلك قاتل جميعهم، وكان يكشف عن مؤتزر من بلغ منهم ويقتله ويعلم قطعا أن المعاند العارف مما يقل وإنما الاكثر المقلدة الذين اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول عليه السلام وصدقه والآيات الدالة في القرآن على هذا لا تحصى، كقوله تعالى: {ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} (ص: 72) وقوله تعالى: {وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم} (فصلت: 32) وقوله تعالى: {(45) إن هم إلا يظنون} (الجاثية: 42) وقوله تعالى: {ويحسبون أنهم على شئ} (المجادلة: 81) وقوله تعالى: {في قلوبهم مرض} (البقرة: 01) أي شك، وعلى الجملة ذم الله تعالى والرسول عليه السلام المكذبين من الكفار مما لا ينحصر في الكتاب والسنة، وأما قوله: كيف يكلفهم ما لا يطيقون قلنا: نعلم ضرورة أنه كلفهم، أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون فلننظر فيه، بل نيه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل، ونصب من الأدلة وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات الذين نبهوا العقول، وحركوا دواعي النظر حتى لم يبق على الله لاحد حجة بعد الرسل.
مسألة (الاجتهاد في العقليات) ذهب عبد الله بن الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع، فنقول له: إن أردت أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه وهو منتهى مقدورهم في الطلب. فهذا غير محال عقلا ولكنه باطل إجماعا وشرعا كما سبق رده على الجاحظ، وإن عنيت به أن ما أعتقده فهو على ما اعتقده فنقول: كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقا وإثبات الصانع ونفيه حقا وتصديق الرسول وتكذيبه حقا، وليست هذه الاوصاف وضعية كالاحكام الشرعية؟ إذ يجوز أن يكون الشئ حراما على زيد وحلالا لعمرو إذا وضع كذلك، أما الامور الذاتية فلا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها، فهذا المذهب شر من مذهب الجاحظ، فإنه أقر بأن المصيب واحد، ولكن جعل المخطئ معذورا بل هو شر من مذهب السوفسطائية لانهم نفوا حقائق الاشياء، وهذا قد أثبت الحقائق ثم جعلها تابعة للاعتقادات، فهذا أيضا لو ورد به الشرع لكان محالا بخلاف مذهب الجاحظ، وقد استبشع إخوانه من المعتزلة هذا المذهب فأنكروه وأولوه وقالوا أراد به اختلاف المسلمين في المسائل الكلامية التي لا يلزم فيها تكفير، كمسألة الرؤية، وخلق الاعمال، وخلق القرآن، وإرادة الكائنات لان الآيات والاخبار فيها متشابهة وأدلة الشرع فيها متعارضة، وكل فريق ذهب إلى ما رآه أوفق لكلام الله وكلام رسوله عليه السلام وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه، فكانوا فيه مصيبين ومعذورين، فنقول أن زعم أنهم فيه مصيبون فهذا محال عقلا لان هذه أمور ذاتية لا تختلف بالاضافة، بخلاف التكليف فلا يمكن أن يكون القرآن قديما ومخلوقا أيضا، بل أحدهما، والرؤية محالا وممكنا أيضا، والمعاصي بإرادة الله تعالى وخارجة عن إرادته، أو يكون القرآن مخلوقا في حق زيد قديما في حق عمرو، بخلاف الحلال والحرام، فإن ذلك لا يرجع إلى أوصاف الذوات، وإن أراد أن المصيب واحد لكم المخطئ معذور غير آثم، فهذا ليس بمحال عقلا لكنه باطل بدليل الشرع، واتفاق سلف الامة على ذم المبتدعة ومهاجرتهم وقطع الصحبة معهم وتشديد الانكار عليهم، مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه، فهذا من حيث الشرع دليل قاطع، وتحقيقه أن اعتقاد الشئ على خلاف ما هو به جهل، والجهل بالله حرام مذموم، والجهل بجواز رؤية الله تعالى وقدم كلامه الذي هو صفته وشمول إرادته المعاصي وشمول قدرته في التعلق بجميع الحوادث، كل ذلك جهل بالله وجهل بدين الله فينبغي أن يكون حراما، ومهما كان الحق في نفسه واحدا متعينا كان أحدهما معتقدا للشئ على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلا فإن قيل: يبطل هذا بالجهل في المسائل الفقهية وبالجهل في الامور الدنيوية كجهل إذا اعتقد أن الامير في الدار وليس فيها وأن المسافة بين مكة والمدينة أقل أو أكثر مما هي عليها، قلنا: أما الفقهيات، فلا يتصور الجهل فيها، إذ ليس فيها حق معين وأما الدنيويات فلا ثواب في معرفتها ولا عقاب على الجهل فيها، أما معرفة الله تعالى ففيها ثواب وفي الجهل بها عقاب، والمستند فيه الإجماع دون دليل العقل وإلا فدليل العقل لا يحيل حط المأثم عن الجاهل بالله فضلا عن الجاهل بصفات الله تعالى وأفعاله، فإن قيل: إنما يأثم بالجهل فيما يقدر فيه على العلم ويظهر عليه الدليل والأدلة غامضة والشبهات في هذه المسائل متعارضة، قلنا: وكذلك في مسألة حدوث العالم وإثبات النبوات وتمييز المعجزة عن السحر ففيها أدلة غامضة، ولكنه لم ينته الغموض إلى حد لا يمكن فيه تمييز الشبهة عن الدليل، فكذلك في هذه المسألة عندنا أدلة قاطعة على الحق، ولو تصورت مسألة لا دليل عليها لكنا نسلم أنه لا تكليف على الخلق فيها. مسألة (إثم المجتهد في الفروع) ذهب بشر المريسي إلى أن الاثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع بل فيها حق معين، وعليه دليل قاطع، فمن أخطأه فهو آثم كما في العقليات لكن المخطئ قد يكفر كما في أصل الالهية والنبوة، وقد يفسق كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن ونظائرها، وقد يقتصر على مجرد التأثيم كما في الفقهيات، وتابعه على هذا من القائلين بالقياس ابن علية وأبو بكر الاصم، ووافقه جميع نفاة القياس، ومنهم الامامية وقالوا: لا مجال للظن في الاحكام لكن العقل قاض بالنفي الأصلي في جميع الاحكام إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع فما أثبته قاطع سمعي فهو ثابت بدليل قاطع، وما لم يثبته فهو باق على النفي الأصلي قطعا ولا مجال للظن فيه، وإنما استقام هذا لهم لانكارهم القياس وخبر الواحد، وربما أنكروا أيضا القول بالعموم والظاهر المحتمل حتى يستقيم لهم هذا المذهب، وما ذكروه هو اللازم على قول من قال: المصيب واحد، ويلزمهم عليه منع المقلد من استفتاء المخالفين، وقد ركب بعض معتزلة بغداد رأسه في الوفاء بهذا القياس وقال: يجب على العامي النظر وطلب الدليل، وقال بعضهم: يقلد العالم أصاب المقلد أم أخطأ، ويدل على فساد هذا المذهب دليلان: الأول: ما سنذكره في تصويب المجتهدين، ونبين أن هذه المسائل ليس فيها دليل قاطع ولا فيها حكم معين والأدلة الظنية لا تدل لذاتها، وتختلف بالاضافة، فتكليف الاصابة لما لم ينصب عليه دليل قاطع تكليف ما لا يطاق وإذا بطل الايجاب بطل التأثيم فانتفاء الدليل القاطع ينتج نفي التكليف ينتج نفي الاثم، ولذلك يستدل تارة بنفي الاثم على نفي التكليف، كما يستدل في مسألة التصويب، ويستدل في هذه المسألة بانتفاء التكليف على انتفاء الاثم، فإن النتيجة تدل على المنتج كما يدل المنتج على النتيجة. الدليل الثاني: إجماع الصحابة على ترك النكير على المختلفين في الجد والاخوة ومسألة العول ومسألة الحرام وسائر ما اختلفوا فيه من الفرائض وغيرها، فكانوا يتشاورون ويتفرقون مختلفين ولا يعترض بعضهم على بعض، ولا يمنعه من فتوى العامة، ولا يمنع العامة من تقليده ولا يمنعه من الحكم باجتهاده، وهذا متواتر تواترا لا شك فيه وقد بالغوا في تخطئة الخوارج وما نعي الزكاة ومن نصب إماما من غير قريش أو رأى نصب إمامين بل لو أنكر منكر وجوب الصلاة والصوم وتحريم السرقة والزنا لبالغوا في التأثيم والتشديد، لان فيها أدلة قاطعة، فلو كان سائر المجتهدات كذلك لاثموا وأنكروا، فإن قيل لهم: لعلهم أثموا ولم ينقل إلينا وأضمروا التأثيم ولم يظهروا خوف الفتنة والهرج؟ قلنا: العادة تحيل اندراس التأثيم والانكار لكثرة الاختلاف والوقائع، بل لو وقع لتوفرت الدواعي على النقل، كما نقلوا الانكار على مانعي الزكاة ومن استباح الدار، وعلى الخوارج في تكفير علي وعثمان، وعلى قاتلي عثمان، ولو جاز أن يتوهم إندراس مثل هذا لجاز أن يدعي أن بعضهم نقض حكم بعض وأنهم اقتتلوا في المجتهدات ومنعوا العوام من التقليد للمخالفين أو للعلماء، أو أوجبوا على العوام النظر أو اتباع إمام معين معصوم، ثم نقول: تواتر إلينا تعظيم بعضهم بعضا مع كثرة الاختلافات إذ كان توقيرهم وتسليمهم للمجتهد العمل باجتهاده، وتقريره عليه أعظم من التوقير والمجاملة والتسليم في زماننا ومن علمائنا، ولو اعتقد بعضهم في البغض التعصية والتأثيم بالاختلاف لتهاجروا ولتقاطعوا وارتفعت المجاملة وامتنع التوقير والتعظيم، فأما امتناعهم من التأثيم للفتنة فمحال، فإنهم حيث اعتقدوا ذلك لم تأخذهم في الله لومة لائم ولا منعهم ثوران الفتنة وهيجان القتال حتى جرى في قتال مانعي الزكاة، وفي واقعة علي وعثمان والخوارج ما جرى، فهذا توهم محال، فإن قيل: فقد نقل الانكار والتشديد والتأثيم، حتى قال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الاب أبا وقال أيضا: من شاء باهلته أن الله لم يجعل في المال النصف والثلثين. وقالت عائشة رضي الله عنها: أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. قلنا: ما تواتر إلينا من تعظيم بعضهم بعضا وتسليمهم لكل مجتهد أن يحكم ويفتي ولكل عامي أن يقلد من شاء جاوز حدا لا يشك فيه فلا يعارضه أخبار آحاد لا يوثق بها ثم نقول: من ظن بمخالفه أنه خالف دليلا قاطعا فعليه التأثيم والانكار، وإنما نقل إلينا في مسائل معدودة ظن أصحابها أن أدلتها قاطعة، فظن ابن عباس أن الحساب مقطوع به، فلا يكون في المال نصف وثلثان وظنت عائشة رضي الله عنها أن حسم الذرائع مقطوع به فمنعت مسألة العينة، وقد أخطأوا في هذا الظن، فهذه المسائل أيضا ظنية، ولا يجب عصمتها عن مثل هذا الغلط، أما عصمة جملة الصحابة عن العصيان بتعظيم المخالفين وترك تأثيمهم لو أثموا فواجب الحكم الثاني في الاجتهاد والتصويب والتخطئة وقد اختلف الناس فيها، واختلفت الرواية عن الشافعي وأبي حنيفة، وعلى الجملة قد ذهب قوم إلى أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وقال قوم: المصيب واحد، واختلف الفريقان جميعا في أنه هل في الواقعة التي لا نص: فيها حكم معين لله تعالى هو مطلوب المجتهد؟ فالذي ذهب إليه محققو المصوبة أنه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتبع الظن وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه، وهو المختار، وإليه ذهب القاضي، وذهب قوم من المصوبة إلى أن فيه حكما معينا يتوجه إليه الطلب، إذ لابد للطلب من مطلوب، لكن لم يكلف المجتهد إصابته، فلذلك كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين الذي لم يؤمر بإصابته بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه، وأما القائلون بأن المصيب واحد فقد اتفقوا على أن فيه حكما معينا لله تعالى لكن اختلفوا في أنه هل عليه دليلا أم لا؟ فقال قوم: لا دليل عليه، وإنما هو مثل دفين يعثر الطلب عليه بالاتفاق فلمن عثر عليه أجران ولمن حاد عنه أجر واحد لاجل سعيه وطلبه، والذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا اختلفوا في أن عليه دليلا قاطعا أو ظنيا، فقال قوم: وهو قاطع ولكن الاثم محطوط عن المخطئ لغموض الدليل وخفائه، ومن هذا تمادي بشر المريسي في إتمام هذا القياس فقال: إذا كان الدليل قطعيا أثم المخطئ كما في سائر القطعيات، وهو مام الوفاء بقياس مذهب من قال: المصيب واحد، ثم الذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا ظنيا اختلفوا في أن المجتهد هل أمر قطعيا بإصابة ذلك الدليل فقال قوم: لم يكلف المجتهد إصابته لخفائه وغموضه، فلذلك كان معذورا ومأجورا، وقال قوم: أمر بطلبه، وإذا أخطأ لم يكن مأجورا، لكن حط الاثم عنه تخفيفا. هذا تفصيل المذاهب، والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطئ المخالف فيه أن: كل مجتهد في الظنيات مصيب، وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى، وسنكشف الغطاء عن ذلك بفرض الكلام في طرفين: الطرف الأول: مسألة فيها نص للشارع وقد أخطأ مجتهد النص فنقول: ينظر فإن كان النص مما هو مقدور على بلوغه، لو طلبه المجتهد بطريقه فقصر ولم يطلب فهو مخطئ وآثم بسبب تقصيره، لانه كلف الطلب المقدور عليه فتركه فعصى وأثم وأخطأ حكم الله تعالى عليه، أما إذا لم يبلغه النص لا لتقصير من جهته لكن لعائق من جهة بعد المسافة وتأخير المبلغ والنص قبل أن يبلغه ليس حكما في حقه فقد يسمى مخطئا مجازا على معنى أنه أخطأ بلوغ ما لو بلغه لصار حكما في حقه، ولكنه قبل البلوغ ليس حكما في حقه، فليس مخطئا حقيقة، وذلك أنه لو صلى النبي عليه السلام إلى بيت المقدس بعد أن أمر الله تعالى جبريل أن ينزل على محمد عليه السلام ويخبره بتحويل القبلة فلا يكون النبي مخطئا لان خطاب استقبال الكعبة بعد لم يبلغه، فلا يكون مخطئا في صلاته، فلو نزل فأخبره وأهل مسجد قباء يصلون إلى بيت المقدس ولم يخرج بعد إليهم النبي عليه السلام ولا مناد من جهته فليسوا مخطئين، إذ ذلك ليس حكما في حقهم قبل بلوغه، فلو بلغ ذلك أبا بكر وعمر واستمر سكان مكة على استقبال بيت المقدس قبل بلوغ الخبر إليهم فليسوا مخطئين، لانهم ليسوا مقصرين، وكذلك نقل عن ابن عمر أنا كنا نخابر أربعين سنة، حتى روى لنا رافع بن خديج النهي عن المخابرة، فليس ذلك خطأ منهم قبل البلوغ لان الراوي غاب عنهم أو قصر في الرواية، فإذا ثبت هذا في مسألة فيها نص فالمسألة التي لا نص فيها كيف يتصور الخطأ فيها، فإن قيل: فرضتم المسألة حيث لا دليل على الحكم المنصوص و نحن نخطئه إذا كان عليه دليل ووجب عليه طلبه فلم يعثر عليه، قلنا: عليه دليل قاطع أو دليل ظني، فإن كان عليه دليل قاطع فلم يعثر عليه وهو قادر عليه فهوآثم عاص ويجب تأثيمه، وحيث وجب تأثيمه وجبت تخطئته كانت المسألة فقهية أو أصولية أو كلامية، وإنما كلامنا في مسائل ليس عليها دليل قاطع، ولو كان لنبه عليه من عثر عليه من الصحابة غيره ولشدد الانكار عليهم فإن الدليل القاطع في مثل هذه المسألة نص صريح أو في معنى المنصوص على وجه يقطع به ولا يتطرق الشك إليه والتنبيه على ذلك سهل، أفيقولون لم يعثر عليه جميع الصحابة رضي الله عنهم فأخطأ أهل الإجماع الحق، أو عرفه بعضهم وكتمه أو أظهره فلم يفهمه الآخرون أو فهموه فعاندوا الحق وخالفوا النص الصريح وما يجري مجراه، وجميع هذه الاحتمالات مقطوع ببطلانها، ومن نظر في المسائل الفقهية التي لا نص فيها علم ضرورة انتفاء دليل قاطع فيها، وإذا انتفى الدليل فتكليف الاصابة من غير دليل قاطع تكليف محال، فإذا انتفى التكليف انتفى الخطأ، فإن قيل عليه دليل ظني بالاتفاق فمن أخطأ الدليل الظني فقد أخطأ؟ قلنا: الامارات الظنية ليست أدلة بأعيانها، بل يختلف ذلك بالاضافات، فرب دليل يفيد الظن لزيد وهو بعينه لا يفيد الظن لعمرو مع إحاطته به، وربما يفيد الظن لشخص واحد في حال دون حال بل قد يقوم في حق شخص واحد في حال واحدة في مسألة واحدة دليلان متعارضان كان كل واحد لو انفرد لافاد الظن، ولا يتصور في الأدلة القطعية تعارض، وبيانه أن أبا بكر رأى التسوية في العطاء إذ قال: الدنيا بلاغ، كيف وإنما عملوا لله عزوجل وأجورهم على الله، حيث قال عمر: كيف تساوي بين الفاضل والمفضول، ورأى عمر التفاوت ليكون ذلك ترغيبا في طلب الفضائل، ولان أصل الاسلام، وإن كان لله فيوجب الاستحقاق، والمعنى الذي ذكره أبو بكر فهمه عمر رضي الله عنهما، ولم يفده غلبة الظن وما رآه عمر فهمه أبو بكر ولم يفده غلبة الظن ولا مال قلبه إليه، وذلك لاختلاف أحوالهما، فمن خلق خلقة أبي بكر في غلبة التأله وتجريد النظر في الآخرة غلب على ظنه لا محالة ما ظنه أبو بكر، ولم ينقدح في نفسه إلا ذلك، ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته في الالتفات إلى السياسة ورعاية مصالح الخلق وضبطهم وتحريك دواعيهم للخير، فلا بد أن تميل نفسه إلى ما مال إليه عمر مع إحاطة كل واحد منهما بدليل صاحبه، ولكن اختلاف الاخلاق والاحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون، فمن مارس علم الكلام ناسب طبعه أنواعا من الأدلة يتحرك بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه، ولذلك من مارس الوعظ، صار مائلا إلى جنس ذلك الكلام بل يختلف باختلاف الاخلاق، فمن غلب عليه الغضب مالت نفسه إلى كل ما فيه شهامة وانتقام، ومن لان طبعه ورق قلبه نفر عن ذلك ومال إلى ما فيه الرفق والمساهلة، فالامارات كحجر المغناطيس تحرك طبعا يناسبها، كما يحرك المغناطيس الحديد دون النحاس بخلاف دليل العقل، فإنه موجب لذاته، فإن تسليم المقدمتين على الشكل الذي ذكرناه في مدارك العقول يوجب التصديق ضرورة بالنتيجة. فإذا لا دليل في الظنيات على التحقيق، وما يسمى دليلا فهو على سبيل التجوز بالاضافة إلى ما مالت نفسه إليه، فإذا أصل الخطأ في هذه المسألة إقامة الفقهاء للأدلة الظنية وزنا حتى ظنوا أنها أدلة في أنفسها لا بالاضافة، وهو خطأ محض يدل على بطلانه البراهين القاطعة. فإن قيل: لم تنكرون على من يقول فيه أدلة قطعية، وإنما لم يؤثم المخطئ لغموض الدليل؟ قلنا: الشئ ينقسم إلى معجوز عنه ممتنع وإلى مقدور عليه على يسر، وإلى مقدور عليه على عسر فإن كان درك الحق المتعين معجوزا عنه ممتنعا فالتكليف به محال وإن كان مقدورا على يسر فالتارك له ينبغي أن يأثم قطعا لانه ترك ما قدر عليه وقد أمر به، وإن كان مقدورا على عسر فلا يخلوا إما أن يكون العسر صار سببا للرخصة وحط التكليف. كإتمام الصلاة في السفر، أو بقي التكليف مع العسر، فإن بقي التكليف مع العسر فتركه مع القدرة إثم كالصبر على قتل الكفار مع تضاعف عددهم، فإنه شديد جدا وعسير، و لكن يعصى إذا تركه، لان التكليف لم يزل بهذا العسر، وكذلك صبر المرأة على الضرات وحسن التبعل، مع أن ذلك جهاد شديد على النفس. ولكنها تأثم بتركه مع ضعفها وعجزها، وكذلك التمييز بين الدليل، والشبهة في مسألة حدوث العالم ودلالة المعجزة وتمييزها عن السحر في غاية الغموض، ومن أخطأ فيه أثم بل كفر واستحق التخليد في النار، وكذلك الحق في المسائل الفقهية مع العسران أمر به، فالمخطئ آثم فيه وإن لم يؤمر بإصابة الحق، بل بحسب غلبة الظفقد أدى ما كلف، وأصاب ما هو حكم في حقه وأخطأ ما ليس حكما في حقه، بل هو بصدد أن يكون حكما في حقه، لو خوطب به أو نصب على معرفته دليل قاطع، فإذا الحاصل أن الاصابة محال أو ممكن، ولا تكليف بالمحال، ومن أمر بممكن فتركه عصى وأثم، ومحال أن يقال: هو مأمور به، لكن إن خالف لم يعص ولم يأثم وكان معذورا، لان هذا يناقض حد الامر والايجاب، إذ حد الايجاب ما يتعرض تاركه للعقاب والذم. وهذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل منصف، ويرد النزاع إلى عبارة وهو: إن ما ليس حكما في حقه قد أخطأه، وذلك مسلم، ولكنه نوع مجاز، كتخطئة المصلي إلى بيت المقدس قبل بلوغ الخبر، ثم هذا المجاز أيضا إنما ينقدح في حكم نزل من السماء ونطق به الرسول كما في تحويل القبلة ومسألة المخابرة، أما سائر المجتهدات التي يلحق فيها المسكوت بالمنطوق قياسا واجتهادا فليس فيها حكم معين أصلا، إذا الحكم خطاب مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع، وليس فيها خطاب ونطق، فلا حكم فيها أصلا إلا ما غلب على ظن المجتهد، وسنفرد لهذا مسألة ونبين أنه ليس في المسألة أشبه عند الله عزوجل، ونذكر الآن شبه المخالفين وهي أربع: الشبهة الأولى: قولهم هذا المذهب في نفسه محال، لانه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو أن يكون قليل النبيذ مثلا حلالا حراما، والنكاح بلا ولي صحيحا باطلا والمسلم إذا قتل كافرا مهدرا ومقادا، إذ ليس في المسألة حكم معين، وكل واحد من المجتهدين مصيب، فإذا الشئ ونقيضه حق وصواب وتبجح بعضهم بهذا الدليل حتى قال: هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة، لانه في الابتداء يجعل الشئ ونقيضه حقا وبالآخر يرفع الحجر ويخير المجتهد بين الشئ ونقيضه عند تعارض الدليلين ويخير المستفتى لتقليد من شاء وينتقي من المذاهب أطيبها عنده. والجواب: أن هذا كلام فقيه سليم القلب جاهل بالاصول وبحد النقيضين وبحقيقة الحكم، ظان أن الحل والحرمة وصف للاعيان فيقول: يستحيل أن يكون النبيذ حلالا حراما، كما يستحيل أن يكون الشئ قديما حادثا، وليس يدري أن الحكم خطاب لا يتعلق بالاعيان بل بأفعال المكلفين، ولا يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم على عمرو، كالمنكوحة تحل للزوج وتحرم على الاجنبي، وكالميتة تحل للمضطر دون المختار، وكالصلاة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض، وإنما المتناقض أن يجتمع التحليل والتحريم في حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد، فإذا تطرق التعدد والانفصال إلى شئ من هذه الجملة انتفى التناقض حتى نقول: الصلاة في الدار المغصوبة حرام قربة في حالة واحدة لشخص واحد، لكن من وجه دون وجه، فإذا اختلاف الاحوال ينفي التناقص، ولا فرق بين أن يكون اختلاف الاحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر، أو بالعلم والجهل، أو غلبة الظن، فالصلاة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا جهل كونه محدثا، ولو قال الشارع: يحل ركوب البحر لمن غلب على ظنه السلامة، ويحرم على من غلب على ظنه الهلاك، فغلب على ظن الجبان الهلاك وعلى ظن الجسور السلامة، حرم على الجبان وحل للجسور لاختلاف حالهما، وكذلك لو صرح الشارع وقال: من غلب على ظنه أن النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه، ومن غلب على ظنه أنه بالمباحات أشبه فقد حللته له لم يتناقض، فصريح مذهبنا إن لو نطق به الشرع لم يكن متناقضا ولا محالا، ومذهب الخصم لو صرح به الشرع كان محالا وهو أن يقول: كلفتك العثور على ما لا دليل عليه، أو يقول: كلفتك العثور على ما عليه دليل، لكن لو تركته مع القدرة لم تأثم، فيكون الأول محالا من جهة تكليف ما لا يطاق، ويكون الثاني محالا من جهة تناقض حد الامر إذ حد الامر ما يعصى تاركه. الجواب الثاني: أن نقول: لو سلمنا أن الحل والحرمة وصف للاعيان أيضا لم يتناقض، إذ يكون من الاوصاف الاضافية، ولا يتناقض أن يكون الشخص الواحد أبا وأبنا، لكن لشخصين، وأن يكون الشئ مجهولا ومعلوما لكن لاثنين، وتكون المرأة حلالا حراما لرجلين، كالمنكوحة حرام للاجنبي حلال للزوج والميتة حرام للمختار حلال للمضطر. الجواب الثالث: هو أن التناقض ما ركبه الخصم، فإنه اتفق كل محصل لم يهذ هذيان المريسي، أن كل مجتهد يجب عليه أن يعمل بما أدى إليه اجتهاده، ويعصي بتركه، فالمجتهدان في القبلة يجب على أحدهما استبقال جهة يحرم على الآخر استقبالها، فإن المصيب لا يتميز عن المخطئ، فيجب على كل واحد منهما العمل بنقيض ما يعمل به الآخر. الشبهة الثانية: قولهم إن سلمنا لكم أن هذه المذهب ليس بمحال في نفسه لو صرح الشرع به، فهو مؤد إلى المحال في بعض الامور، وما يؤدي إلى المحال فهو محال، فأداؤه إلى المحال فهو في حق المجتهد بأن يتقاوم عنده دليلان، فيتحير عندكم بين الشئ ونقيضه في حالة واحدة، وأما في حق صاحب الواقعة فإذا نكح مجتهد مجتهدة ثم قال لها: أنت بائن وراجعها والزوج شفعوي يرى الرجعة والزوجة حنفية ترى الكنايات قاطعة للعصمة والرجعة، فيسلط الزوج على مطالبتها بالوطئ، ويجب عليها مع تسلط الزوج عليها منعه، وكذلك إذا نكح بغير ولي أولا ثم نكح آخر بولي، فإن كان كل واحد من المذهبين حقا فالمرأة حلال للزوجين، وهذا محال، ويمكن أن يستعمل هذا في نصرة الشبهة الأولى، والاعتراض على ما ذكرنا من دفع التناقض ورده إلى شخصين، فقد تكلفوا تقريره في حق شخص واحد. والجواب من أوجه، وحاصله أنه لا إشكال في هذه المسائل ولا استحالة، وما فيه من الاشكال فينقلب عليهم ولا يختص إشكاله بهذا المذهب، أما المجتهد إذا تعارض عنده دليلان قلنا فيه رأيان: أحدهما وهو الذي ننصره في هذه المسألة أنه يتوقف ويطلب الدليل من موضع آخر، لانه مأمور باتباع غالب الظن ولم يغلب على ظنه شئ، فقولنا فيه قولكم، فإنه وإن كان أحدهما حقا عندكم فقد تعذر عليه الوصول إليه، وهذا يقطع مادة الاشكال، وعلى رأيي نقول: يتخير بأي دليل شاء، وسنفرد هذه المسألة بالذكر وننبه على غورها. أما الثانية: فقولنا فيها أيضا قولكم، فإن المصيب وإن كان واحدا عندهم فلا يتميز عن المخطئ، ويجب على المخطئ في الحال العمل بموجب اجتهاده لجهله بكونه مخطئا، إذا لا يتميز عن صاحبه، فقد أوجبوا عليها المنع، وأباحوا للزوج الطلب، فقد ركبوا المحال إن كان هذا محالا فسيقولون إنه ليس بمحال، وهو جوابنا الثاني ووجهه أن إيجاب المنع عليها لا يناقض إباحة الطلب للزوج ولا إيجابه، بل للسيد أن يقول لاحد عبديه، أوجبت عليك سلب فرس الآخر، ويقول للآخر أوجبت عليك منعه ودفعه ويقول لهذا: إن لم تسلب عاقبتك، ويقول للآخر: إن لم تحفظ عاقبتك، وكذلك يجب على ولي الطفل أن يطلب غرامة مال الطفل إذا أخبره عدلان بأنه أتلفه طفل آخر، ويجب على ولي الطفل المنسوب إلى الاتلاف إذا عاين صدور الاتلاف من غير الطفل أو علم كذب الشاهدين أن يمنع ويدفع، فيجب الطلب على أحدهما والدفع على الآخر مؤاخذة لكل واحد بموجب اعتقاده، نعم: هذا السؤال يحسن من منكري الاجتهاد من التعليمية وغيرهم إذ يقولون: أصل الاجتهاد باطل لادائه إلى هذا النوع من التناقض وجوابه ما ذكرناه، ونقابله على مذهبه أيضا بما لا يجد عنه محيصا فنقول: إن أنكرت الظنون لم تنكر القواطع، وسعي الانسان في هلاك نفسه أو إهلاك غيره حرام بالقواطع، فلو اضطر شخصان إلى قدر من الميتة لا يفي إلا بسد رمق أحدهما، ولو قسماه أو تركاه ماتا، ولو أخذه أحدهما هلك الآخر، ولو وكله إليه أهلك نفسه فماذا يجب عليه وكيفما قال فهو مناقض ولا مخلص، فإن أوجب على كل واحد أن يأخذ فقد أوجب الاخذ على هذا وأوجب الدفع عن ذاك، فإن أوجب عليهما الترك فقد أوجب إهلاكهما جميعا، وإن خص أحدهما بالاخذ فهو تحكم، وإن قال يتخير كل واحد منهما بين الاخذ والترك فقد سلط هذا على الاخذ وذاك على الدفع، فإن أحدهما لو اختار الاخذ واختار الآخر الدفع جاز، وهو أيضا متناقض بزعمهم فماذا يقولون: والمختار عندنا في هذه الصورة التخيير لكل واحد، فإنه إنما يجب الاخذ إذا لم يهلك غيره، وإنما يجب الترك والايثار إذا لم يهلك نفسه، فإذا تعارضا تخيرا ويحتمل أن يقرع بينهما كبينتين متعارضتين. وأما المسألة الثانية إذا نشب الخصام بين الزوج وزوجته احتمل وجهين: أحدهما: أن يقول: يلزمهما الرفع إلى حاكم البلد فإن قضى بثبوت الرجعة لزم تقديم اجتهاد الحاكم على اجتهاد أنفسهما وحل لهما مخالفة اجتهاد أنفسهما إذ اجتهاد الحاكم أولى من اجتهادهما لضرورة رفع الخصومات فإن عجزا عن حاكم فعليهما تحكيم عالم فيقضي بينهما، فإن لم يفعلا أثما وعصيا وكل ذلك احتمالات فقهية، ويحتمل أن يتركا متنازعين ولا يبالي بتمانعهما، فإنه تكليف بنقيضين في حق شخصين فلا يتناقض. وأما المسألة الثالثة وهي: أن تنكح بولي من نكحت بغير ولي فنقول: إن كان النكاح بلا ولي صدر من حنفي يعتقد ذلك فقد صح النكاح في حقه، والنكاح الثاني بعده باطل قطعا، لانها صارت زوجة للاول، وإن كان الحنفي عقده بإجتهاد نفسه واتصل به قضاء حنفي فذلك أوكد، فإن كان مقلدا فقد صح أيضا في حقه، وإن صدر العقد من شفعوي على خلاف معتقده احتمل أمرين: أحدهما: أن نقطع ببطلانه، فإنا إنما نجعله حقا إذا صدر من معتقده عن تقليد أو اجتهاد حيث لا يأثم ولا يعصي، وهذا قد عصى فهو مخطئ، ويحتمل أن يقال: ما لم يطلق أو لم يقض حاكم ببطلانه فلا تحل لغيره لانه نكاح بصدد أن يقضي به حنفي فينحسم سبيل نقضه، فلا يعقد نكاح آخر قبل نقضه، وقد اختلفوا في أن الحنفي لو قضى لشفعوي بشفعة الجار أو بصحة النكاح بلا ولي، فهل يؤثر قضاؤه في الاحلال باطنا، فغلا أبو حنيفة وجعل القضاء بشهادة الزور يغير الحكم باطنا فيما للقاضي فيه ولاية الفسخ والعقد، وغلا قوم فقالوا: لا يحل القضاء شيئا بل يبقى على ما كان عليه، وإن كان قضاؤه في محل الاجتهاد. وقال قوم: يؤثر في محل الاجتهاد ويغير الحكم باطنا ولا يؤثر حيث قاله أبو حنيفة، وهذه احتمالات فقهية لا يستحيل شئ منها، فنختار منها ما نشاء، فلا يتناقض ولا يلزمنا في الاصول تصحيح واحد من هذه الاختيارات الفقهية، فإنها ظنيات محتملة كل مجتهد أيضا فيها مصيب. الشبهة الثالثة: تمسكهم بطريق الدلالة بقولهم: لو صح ما ذكرتموه لجاز لكل واحد من المجتهدين في القبلة والاناءين إذا اختلف اجتهادهما أن يقتدي بالآخر، لان صلاة كل واحد صحيحة، فلم لا يقتدي بمن صحت صلاته، وكذلك ينبغي أن يصح اقتداء الشافعي بحنفي إذا ترك الفاتحة أيضا صحيحة، لانه بناها على الاجتهاد، فلما اتفقت الامة على فساد هذا الاقتداء دل على أن الحق واحد؟ والجواب: أن الاتفاق في هذا غير مسلم، فمن العلماء من جوز الاقتداء مع اختلاف المذاهب، وهو منقدح، لان كل مصل يصلي لنفسه، ولا يجب الاقتداء إلا بمن هو في صلاة، وصلاة الامام غير مقطوع ببطلانها، فكيف يمتنع الاقتداء، ولو بان كون الامام جنبا ربما لم يجب قضاء الصلاة، ولو سلمنا فنقول: إنما يجوز الاقتداء بمن صحت صلاته في حق المقتدي، وللمقتدي أن يقول صلاة الامام صحيحة في حقه، لانها على وفق اعتقاده فاسدة في حقي، لانها على خلاف اعتقادي فظهر أثر صحتها في كل ما يخص المجتهد، أما ما يتعلق بمخالفته فينزل منزلة الباطل، والاقتداء يتعلق بالمقتدي، فصلاته لا تصلح لقدوة من يعتقد فسادها في حق نفسه، وإن كان يعتقد صحتها في حق غيره، والدليل عليه أن الامام وإن صلى بغير فاتحة فيحتمل صلاته الصحة بالاتفاق، إذ الشافعي لا يقطع بخطئه، فلم فسد اقتداؤه بمن تجوز صحة صلاته ويجوز بطلانها، وكل إمام فيحتمل أن تكون صلاته باطلة بحدث أو نجاسة لا يعرفها المقتدي ولا تبطل صلاته بالاحتمال، فلا سبب لها إلا أنها باطلة في اعتقاده وبموجب اجتهاده ونحن نقول هي باطلة بموجب اعتقاده في حقه لا في حق إمامه، وبطلانها في حقه كاف لبطلان اقتدائه. الشبهة الرابعة: قولهم إن صح تصويب المجتهدين فينبغي أن نطوي بساط المناظرات في الفروع، لان مقصود المناظرة دعوة الخصم إلى الانتقال عن مذهبه، فلم يدع إلى الانتقال، بل ينبغي أن يقال: ما اعتقدته فهو حق فلازمه، فإنه لا فضل لمذهبي على مذهبك، فالمناظرة إما واجبة وإما ندب وإما مفيدة، ولا يبقى لشئ من ذلك وجه مع التصويب. والجواب: أنا لا ننكر أن جماعة من ضعفة الفقهاء يتناظرون لدعوة الخصم إلى الانتقال لظنهم أن المصيب واحد، بل لاعتقادهم في أنفسهم أنهم المصيبون، وأن خصمهم مخطئ على التعيين، أما المحصلون فلا يتناظرون في الفروع، لذلك لكن يعتقدون وجوب المناظرة لغرضين واستحبابها لستة أغراض، أما الوجوب ففي موضعين: أحدهما: أنه يجوز أن يكون في المسألة دليل قاطع من نص أو ما في معنى النص أو دليل عقلي قاطع فيما يتنازع فيه في تحقيق مناط الحكم، ولو عثر عليه لامتنع الظن والاجتهاد، فعليه المباحثة والمناظرة حتى ينكشف انتفاء القاطع الذي يأثم ويعصي بالغفلة عنه. الثاني: أن يتعارض عنده دليلان ويعسر عليه الترجيح، فيستعين بالمباحثة على طلب الترجيح، فإنا وإن قلنا على رأي أنه يتخير فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة. وأما الندب ففي مواضع: الأول: أن يعتقد فيه أنه معاند فيما يقوله غير معتقد له، وأنه إنما يخالف حسدا أو عنادا أو نكرا فيناظر ليزيل عنهم معصية سوء الظن ويبين أنه يقوله عن اعتقاد واجتهاد. الثاني: أن ينسب إلى الخطأ وأنه قد خالف دليلا قاطعا فيعلم جهلهم، فيناظر ليزيل عنهم الجهل كما أزال في الأول معصية التهمة. الثالث: أن ينبه الخصم على طريقه في الاجتهاد، حتى إذا فسد ما عنده لم يتوقف ولم يتخير، وكان طريقه عنده عتيدا يرجع إليه إذا فسد ما عنده وتغير فيه ظنه. الرابع: أن يعتقد أن مذهبه أثقل وأشد، وهو لذلك أفضل وأجزل ثوابا فيسعى في استجرار الخصم من الفاضل إلى الافضل، ومن الحق إلى الاحق. الخامس: أنه يفيد المستمعين معرفة طرق الاجتهاد ويذلل لهم مسلكه ويحرك دواعيهم إلى نيل رتبة الاجتهاد ويهديهم إلى طريقه، فيكون كالمعاونة على الطاعات والترغيب في القربات. السادس: وهو الاهم، وهو أن يستفيد هو وخصمه تذليل طرق النظر في الدليل حتى يترقى من الظنيات إلى ما الحق فيه واحد من الاصول فيحصل بالمناظرة نوع من الارتباض وتشحيذ الخاطر وتقوية المنة في طلب الحقائق ليترقى به إلى نظر هو فرض عينه إن لم يكن في البلد من يقوم به أو كان قد وقع الشك في أصل من الاصول، أو إلى ما هو فرض على الكفاية، إذ لا بد في كل بلد من عالم ملئ بكشف معضلات أصول الدين وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب متعين إن لم يكن إليه طريق سواه، وإن كان إليه طريق سواه فيكون هو إحدى خصال الواجب، فهذا في بعض الصور يلتحق بالمناظرة الواجبة، فهذه فوائد مناظرات المحصلين دون الضعفاء المغترين حين يطلبون من الخصم الانتقال، ويفتون بأنه يجب على خصمهم العمل بما غلب على ظنه، وأنه لو وافقه على خلاف اجتهاد نفسه عصى وأثم، وهل في عالم الله تناقض أظهر منه؟ فهذه شبههم العقلية. أما الشبه النقلية فخمس: الأولى: تمسكهم بقوله تعالى: {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين الانعام} (الانبياء: 87 - 79) وهذا يدل على اختصاص سليمان بمدرك الحق وأن الحق واحد. الجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أنه من أين صح أنهما بالاجتهاد حكما ومن العلماء من منع اجتهاد الانبياء عقلا، ومنهم من منعه سمعا، ومن أجاز أحال الخطأ عليهم، فكيف ينسب الخطأ إلى داود عليه السلام، ومن أين يعلم أنه قال ما قال عن اجتهاد؟ الثاني: أن الآية أدل على نقيض مذهبهم إذ قال: {وكلا آتينا حكما وعلما} والباطل والخطأ يكون ظلما وجهلا لا حكما وعلما، ومن قضى بخلاف حكم الله تعالى لا يوصف بأنه حكم الله، وأنه الحكم والعلم الذي آتاه الله، لا سيما في معرض المدح والثناء، فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} (الانبياء: 97) قلنا: لا يلزمنا ذكر ذلك بعد أن أبطلنا نسبة الخطأ إلى داود. الجواب الثالث: التأويل، وهو أنه يحتمل أنهما كانا مأذونين في الحكم باجتهادهما فحكما وهما محقان ثم نزل الوحي على وفق اجتهاد سليمان، فصار ذلك حقا متعينا بنزول الوحي على سليمان بخلافه، لكن لنزوله على سليمان أضيف إليه، ويتعين تنزيل ذلك على الوحي، إذ نقل المفسرون أن سليمان حكم بأنه يسلم الماشية إلى صاحب الزرع حتى ينتفع بدرها ونسلها وصوفها حولا كاملا، وهذا إنما يكون حقا وعدلا إذا علم أن الحاصل منه في جميع السنة يساوي ما فات على صاحب الزرع، وذلك يدركه علام الغيوب ولا يعرف بالاجتهاد. الشبهة الثانية: قوله تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: 38) وقوله: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} (آل عمران: 7) فدل على أن في مجال النظر حقا متعينا يدركه المستنبط، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه ربما أراد به الحق فيما الحق فيه واحد من العقليات والسمعيات القطعيات إذ منها ما يعلم بطريق قاطع نظري مستنبط. والثاني: أنه ليس فيه تخصيص بعض العلماء، فكل ما أفضى إليه نظر عالم فهو استنباطه وتأويله، وهو حق مستنبط وتأويل أذن للعلماء فيه دون العوام، وجعل الحق في حق العوام الحق الذي استنبطه العلماء بنظرهم وتأويلهم، فهذا لا يدل على تخطئة البعض. الشبهة الثالثة: قوله عليه السلام: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر فدل أن فيه خطأ وصوابا، وقد ادعيتم استحالة الخطأ في الاجتهاد، والجواب من وجهين: الأول: أن هذا هو القاطع على أن كل واحد مصيب إذ له أجر وإلا فالمخطئ الحاكم بغير حكم الله تعالى كيف يستحق الاجر؟ الثاني: هو أنا لا ننكر إطلاق اسم الخطأ على سبيل الاضافة إلى مطلوبه لا إلى ما وجب عليه، فإن الحاكم يطلب رد المال إلى مستحقه، وقد يخطئ ذلك فيكون مخطئا فيما طلبه مصيبا فيما هو حكم الله تعالى عليه، وهو اتباع ما غلب على ظنه من صدق الشهود، وكذلك كل من اجتهد في القبلة يقال أخطأ أي أخطأ ما طلبه، ولم يجب عليه الوصول إلى مطلوبه، بل الواجب استقبال جهة يظن أن مطلوبه فيها، فإن قبل: ولم كان للمصيب أجران وهما في التكليف وأداء ما كلفا سواء؟ قلنا: لقضاء الله تعالى وقدره وإرادته فإنه لو جعل للمخطئ أجرين لكان له ذلك، وله أن يضاعف الاجر على أخف العملين، لان ذلك منه تفضل، ثم السبب فيه أنه أدى ما كلف وحكم بالنص إذ بلغه، والآخر حرم الحكم بالنص إذ لم يبلغه ولم يكلف إصابته لعجزه ففاته فضل التكليف والامتثال، وهذا ينقدح في كل مسألة فيها نص، وفي كل اجتهاد يتعلق بتحقيق مناط الحكم، كأروش الجنايات، وقدر كفاية الاقارب فإن فيها حقيقة متعينة عند الله تعالى وإن لم يكلف المجتهد طلبها، وهو جار في المسائل التي لا نص فيها عند من قال: في كل مسألة حكم متعين، وأشبه عند الله تعالى، وسيأتي وجه فساده بعد هذا إن شاء الله تعالى. الشبهة الرابعة: تمسكهم بقوله تعالى: {ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم} (آل عمران: 301} (تنازعوا فتفشلوا} (الانفال: 64} (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} (آل عمران: 501} ((84) وكذلك} (هود: 811 - 911) والإجماع منعقد على الحث على الالفة والموافقة والنهي عن الفرقة، فدل أن الحق واحد ومذهبكم أن دين الله مختلف، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا والجواب من أوجه: الأول: أن اختلاف الحكم باختلاف الاحوال في العلم والجهل والظن كاختلافه باختلاف السفر والاقامة والحيض والطهر والحرية والرق والاضطرار والاختيار. الثاني: أن الامة مجمعة على أنه يجب على المختلفين في الاجتهاد أن يحكم كل واحد بموجب اجتهاده، وهو مخالف لغيره، والامر باتباع المختلف أمر بالاختلاف، فهذا ينقلب عليكم إشكاله وإنما يصح هذا السؤال من منكري أصل الاجتهاد. الثالث: وهو جواب منكري أصل الاجتهاد أيضا أنه لو كان المراد ما ذكروه لما جاز للمجتهدين في القبلة أن يصلوا إلى جهات مختلفة، مع أن القبلة عند الله تعالى واحدة ولما جاز في الكفارات المختلفة أن يعتق واحد ويصوم آخر، ولما جاز للمضطرين إلى ميتة لا تفي برمق جميعهم أن يتقارعوا، ولما جاز الاجتهاد في أروش الجنايات وتقدير النفقات وفي مصالح الحرب، وكل ما سميناه بتحقيق مناط الحكم وذلك كله ضروري في الدين، وليس مرادنا الاختلاف المنهي عنه، بل المنهي عنه الاختلاف في أصول الدين وعلى الولاة والائمة. الشبهة الخامسة: قولهم حسمتم إمكان الخطأ في الاجتهاد، والصحابة مجمعون على الحذر من الخطأ، حتى قال ابو بكر رضي الله عنه: أقول في الكلالة برأيي، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن الشيطان. وقال علي لعمر رضي الله عنهما: إن لم يجتهدوا فقد غشوا، وإن اجتهدوا فقد أخطأوا، أما الاثم فأرجو أن يكون عنك زائلا، وأما الدية فعليك. ولما كتب أبو موسى كتابا عن عمر كتب فيه: هذا ما أرى الله عمر، فقال: امحه واكتب، هذا ما رأى عمر، فإن يك خطأ فمن عمر. وقال في جواب المرأة التي ردت عليه في النهي عن لمبالغة في المهر حيث ذكرت القنطار في الكتاب: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وقال ابن مسعود في المفوضة، إن كانت خطأ فمني ومن الشيطان بعد أن اجتهد شهرا؟. الجواب: إنا نثبت الخطأ في أربعة أجناس: أن يصدر الاجتهاد من غير أهله، أو لا يستتم المجتهد نظره أو يضعه في غير محله بل في موضع فيه دليل قاطع أو يخالف في اجتهاده دليلا قاطعا كما ذكرناه في باب مثارات إفساد القياس، وإنا ذكرنا عشرة أوجه تبطل القياس قطعا لا ظنا: فجميع هذا محال الخطأ، وإنما ينتفي الخطأ متى صدر الاجتهاد من أهله وتم في نفسه ووضع في محله ولم يقع مخالفا لدليل قاطع، ثم مع ذلك كله يثبت اسم الخطأ بالاضافة إلى ما طلب لا إلى ما وجب، كما في القبلة وتحقيق مناط الاحكام، فمن ذكره من الصحابة فإما إن كان اعتقد أن الخطأ ممكن وذهب، مذهب من قال: المصيب واحد أو خاف على نفسه أن يكون قد خالف دليلا قاطعا غفل عنه أو لم يستتم نظره ولم يستفرغ تمام وسعه، أو يخاف أن لا يكون أهلا للنظر في تلك المسألة أو أمن ذلك كله، لكن قال ما قال إظهارا للتواضع والخوف من الله تعالى كما يقولون أنا مؤمن بالله إن شاء الله، مع أنهم لم يشكوا في إيمانهم، ثم جميع ما ذكروا أخبار آحاد لا يقوم بها حجة ويتطرق إليها الاحتمال المذكور فلا يندفع بها البراهين القاطعة التي ذكرناها. |
12-06-2012, 08:07 PM | #68 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (الخطأ والاصابة في الاجتهاد) القول في نفي حكم معين في المجتهدات، أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فقد وضع في كل مسألة حكما معينا هو قبلة الطالب ومقصد طلبه فيصيب أو يخطئ، أما المصوبة فقد اختلفوا فيه، فذهب بعضهم إلى إثباته، وإليه تشير نصوص الشافعي رحمه الله، لانه لا بد للطالب من مطلوب، وربما عبروا عنه بأن مطلوب المجتهد الاشبه عند الله تعالى، والاشبه معين عند الله، والبرهان الكاشف للغطاء عن هذا الكلام المبهم هو أنا نقول: المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نص وإلى ما لم يرد، أما ما ورد فيه نص فالنص كأنه مقطوع به من جهة الشرع، لكن لا يصير حكما في حق المجتهد إلا إذا بلغه وعثر عليه أو كان عليه دليل قاطع يتيسر معه العثور عليه إن لم يقصر في طلبه، فهذا مطلوب المجتهد وطلبه واجب وإذا لم يصب فهو مقصر آثم، أما إذا لم يكن إليه طريق متيسر قاطع كما في النهي عن المخابرة وتحويل القبلة قبل بلوغ الخبر، فقد بينا أن ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه، لكنه عرضة أن يصير حكما فيه حكم بالقوة لا بالفعل، وإنما يصير حكما بالبلوغ أو تيسر طريقه على وجه يأثم من لا يصيبه، فمن قال في هذه المسائل حكم معين لله تعالى وأراد به أنه حكم موضوع ليصير حكما في حق المكلف إذا بلغه وقبل البلوغ وتيسر الطريق ليس حكما في حقه بالفعل بل بالقوة، فهو صادق، وإن أراد به غيره فهو باطل، أما المسائل التي لا نص فيها فيعلم أنه لا حكم فيها، لان حكم الله تعالى خطابه، وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدل عليه دليل قاطع من فعل النبي عليه السلام أو سكوته، فإنه قد يعرفنا خطاب الله تعالى من غير استماع صيغة، فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم، فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراما، فمعنى تحريمه أنه قيل فيه لا تشربوه، وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطبا والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون، ولا بد أن يكون المخاطب به هم المكلفون من الآدميين، ومتى خوطبوا ولم ينزل فيه نص بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق، فإذا لا يعقل خطاب لا مخاطب به، كما لا يعقل علم لا معلوم له، وقتل لا مقتول له، ويستحيل أن يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل قاطع، فإن قيل: عليه أدلة ظنية؟ قلنا: قد بينا أن تسمية الامارات أدلة مجاز، فإن الامارات لا توجب الظن لذاتها، بل تختلف بالاضافة، فمما لا يفيد الظن لزيد فقد يفيد لعمرو، وما يفيد لزيد حكما فقد يفيد لعمرو ونقيضه، وقد يختلف تأثيره في حق زيد في حالتين، فلا يكون طريقا إلى المعرفة، ولو كان طريقا لعصى إذا لم يصبه، فسبب هذا الغلط إطلاق اسم الدليل على الامارات مجازا فظن أنه دليل محقق وإنما الظن عبارة عن ميل النفس إلى شئ، واستحسان المصالح كاستحسان الصور، فمن وافق طبعه صورة مال إليها وعبر عنها بالحسن، وذلك قد يخالف طبع غيره فيعبر عنه بالقبح حيث ينفر عنه، فالاسمر حسن عند قوم قبيج عند قوم، فهي أمور إضافية ليس لها حقيقة في نفسها، فلو قال قائل، الاسمر حسن عند الله أو قبيح قلنا: لا حقيقة لحسنه وقبحه عند الله إلا موافقت لبعض الطباع ومخالفته لبعضها، وهو عند الله كما هو عند الناس، فهو عند الله حسن عند زيد قبيح عند عمرو، إذ لا معنى لحسنه إلا موافقته طبع زيد، ولا معنى لقبحه إلا مخالفته لطبع عمرو، وكذلك تحريك الرغبة للفضائل، والتفاوت في العطاء هو حسن عند عمر رضي الله عنه موافق لرأيه، وهو بعينه ليس موافقا لابي بكر رضي الله عنه بل الحسن عنده أن يجعل الدنيا بلاغا ولا يلتفت إليها. فهذه الحقيقة في الظنون ينبغي أن تفهم حتى ينكشف الغطاء، وإنما غلط فيه الفقهاء من حيث ظنوا أن الحلال والحرام وصف للاعيان كما ظن قوم أن الحسن والقبح وصف للذوات، فإن قيل: نحن لا ننكر أن ما لم يرد فيه نطق ولا دليل قاطع فليس فيه حكم نازل موضوع، لكن نعني بالاشبه فيما هو قبلة للطالب الحكم الذي كان الله ينزله لو أنزله، وربما كان الشارع يقوله لو رجع في تلك المسألة، قلنا هذا هو الحكم بالقوة، وما كان ينزل لو نزل إنما يكون حكما لو نزل فقبل نزوله ليس حكما، فقد ظهر أنه لا حكم، ومن أخطأ لم يخطئ الحكم بل أخطأ ما كان لعله سيصير حكما لو جرى في تقدير الله انزله، ولم يجر في تقديره، فلا معنى له، ويلزم من هذا أن يجوز خطأ المجتهدين جميعا في تقديره وإصابة المجتهدين جميعا، فإنه ربما كان ينزل لو أنزل التخيير بين المذهبين، وتصويب كل من قال فيه قولا كيفما قال، أو ينزل تخطئة كل من قطع القول بإثبات أو نفي حيث لم يتخير بين الحكمين، فإن هذه التجويزات لا تنحصر، فربما يعلم الله صلاح العباد في أن لا يضع في الوقائع حكما، بل يجعل حكمها تابعا لظن المجتهدين، فتعبدهم بما يظنون ويبطل مذهب من يقول فيها بحكم معين، فيكون في هذا تخطئة كل من أثبت من المجتهدين حكما معينا نفيا أو إثباتا، احتجوا بأن قالوا: إنما اضطرنا إلى هذا ضرورة الطلب فإنه يستدعي مطلوبا، فمن علم أن الجماد ليس بعالم ولا جاهل لا يتصور أن يطلب الظن أو العلم بجهله وعلمه، ومن اعتقد أن العالم خال عن وصف القدم والحدوث هل يتصور أن يطلب ما يعتقد انتفاءه، فإذا اعتقد الطلب أن قليل النبيذ ليس عند الله حراما ولا حلالا فكيف يجتهد في طلب أحدهما؟ قلنا: فقد أخطأ إذ ظننتم أن المجتهد يطلب حكم الله مع علمه بأن حكم الله خطابه، فإن الواقعة لا نص فيها ولا خطاب، بل إنما يطلب غلبة الظن. وهو كمن كان على ساحل البحر، وقيل له: إن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب وإن غلب على ظنك الهلاك حرم عليك الركوب، وقبل حصول الظن لا حكم لله عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك ويتبع ظنك بعد حصوله، فهو يطلب الظن دون الاباحة والتحريم، فإن قيل: هذا في البحر معقول لانه ينظر في أمارات الهلاك والسلامة فذلك مطلوبة، والاباحة والتحريم أمر وراءه وفي مسألتنا لا مطلوب سوى الحكم، قلنا: من ههنا غلطتم فإنه لا فرق بين الصورتين، ونحن نكشف ذلك بالامثلة فنقول: لو قلنا للشارع: ما حكم الله تعالى في العطاء الواجب التسوية أو التفضيل. فقال: حكم الله على كل إمام ظن أن الصلاح في التسوية هو التسوية، وحكمه على كل من ظن أن المصلحة في التفضيل ولا حكم عليهم قبل تحصيل الظن، إنما يتجدد حكمه بالظن وبعده كما يتجدد الحكم على راكب البحر بعد الظن ويتجدد على قاضيين شهد عندهما في واقعتين شخصان وجوب القبول ووجوب الرد عند ظن الصدق وظن الكذب فيجب على أحد هما التصديق وعلى الآخر التكذيب، وكذلك إذا قلنا: ما حكمه في قليل النبيذ فقال: حكمه تحريم الشرب على من ظن أني حرمت قليل الخمر لانه يدعوه إلى كثيره، والتحليل لمن ظن أني حرمت الخمر لعينها إلا لهذه العلة ولا حكم لله تعالى قبل هذا الظن، وكذلك، إذا قلنا: ما حكم الله في قيمة العبد، أتضرب على العاقلة أم على الجاني؟ فقال: حكم الله تعالى على من ظن أنه بالحر أشبه الضرب على العاقلة، وعلى من ظن أنه بالبهيمة أشبه الضرب على الجاني، وكذلك نقول: ما حكم الله في المفاضلة في بيع الجص والبطيخ فقال: حكم الله على من ظن إني حرمت ربا الفضل في البر لانه مطعوم تحريم البطيخ دون الجص، وعلى من ظن أني حرمته للكيل تحريم الجص دون البطيخ، فإقيل: فما علة تحريم ربا البر عند الله، أهي الطعم أم الكيل أم القوت؟ فنقول: كل واحد من الطعم والكيل لا يصلح أن يكون علة لذاتها بل معنى كونها علة أ علامة، فمن ظن أن الكيل علامة فهو علامة في حقه دون من ظن أن علامته الطعم وليست العلة وصفا ذاتيا، كالقدم والحدوث للعالم حتى يجب أن يكون في علم الله على أحد الوصفين لا محالة، بل هو أمر وضعي، والوضع يختلف بالاضافة وقد وضعته كذلك، فهذا لو صرح الشارع به فهو معقول، وجانب الخصم لو صرح به كان محالا، وهو أن يكون لله حكم ليس بخطاب، ولا يتعلق بمخاطب ومكلف، فإن هذا يضاد حد الحكم وحقيقته أو يقول تعلق به، لكن لا طريق له إلى معرفته، فهو محال لما فيه من تكليف ما لا يطاق، أو يقول: له طريق إلى معرفته، وقد أمر به، لكنه لا يعصي بتركه، فهو أيضا يضاد حد الواجب ويضاد حد الإجماع المنعقد على أن المجتهد يجب عليه العمل بموجب اجتهاده، فكيف يجب عليه مع ذلك ضده، وكيف يكون مأمورا باستقبال القبلة من غلب على ظنه أن القبلة في جهة أخرى بل بالإجماع لو خالف اجتهاد نفسه واستقبل جهة أخرى فاتفق إن كان جهة القبلة عصى ولزمه القضاء، فاستبان أن ذلك الاجتهاد الشرعي على الممكن دون المحال هذا حكم التأثيم والتصويب، ونذكر بقية أحكام الاجتهاد في صور مسائل.
مسألة (تعارض الأدلة مع بعضها) إذا تعارض دليلان عند المجتهد وعجز عن الترجيح ولم يجد دليلا من موضع آخر وتحير، فالذين ذهبوا إلى أن المصيب واحد يقولون: هذا بعجز المجتهد، وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض من غير ترجيح، فيلزم التوقف أو الاخذ بالاحتياط أو تقليد مجتهد آخر عثر على الترجيح، وأما المصوبة فاختلفوا فمنهم من قال يتوقف لانه متعبد باتباع غالب الظن ولم يغلب عليه ظن شئ وهذا هو الاسلم الاسهل، وقال القاضي: يتخير، لانه تعارض عنده دليلان، وليس أحدهما أولى من الآخر فيعمل بأيهما شاء، وهذا ربما يستنكر ويستبعد ويقال: كيف يتخير في حال واحدة بين الشئ وضده، وليس هذا محالا، لان التخيير بين حكمين مما ورد الشرع به كالتخيير بين خصال الكفارة، ولو صرح الشرع بالتخيير كان له ذلك فقد اضطررنا إلى التخيير لان الحكم تارة يؤخذ من النص، وتارة من المصلحة، وتارة من الشبه، وتارة من الاستصحاب، فإن نظرنا إلى النص فيجوز أن يتعارض في حقنا نصان ولا يتبين تاريخ أو يتعارض عمومان، ولا يتبين ترجيح أو يتعارض استصحابان كما في مسائل تقابل الأصلين، أو يتعارض شبهان بأن تدور المسألة بين أصلين ويكون شبهه هذا كشبهه ذاك أو يتعارض مصلحتان بحيث لا ترجيح، فلو قلنا يتوقف، فإلى متى يتوقف؟ وربما لا يقبل الحكم التأخير ولا نجد مأخذا آخر للحكم، ولا نجد مفتيا آخر يترجح عنده أو وجد من ترجح عنده بخيال هو فاسد عنده يعلم أنه لا يصلح للترجيح، فكيف يرجح بما يعتقد أنه لا يصلح للترجيح، بل لا سبيل إلا التخيير، كما لو اجتمع على العامي مفتيان استوى حالهما عنده في العلم والورع ولم يجد ثالثا، فلا طريق إلا التخيير، وللفقهاء في تعارض البينتين مذاهب، فمنهم من قال: نقسم المال بينهما ومعناه، تصديق البينتين، وتقدير أنه قام لكل واحد سبب كمال الملك لكن ضاق المحل عن الوفاء بهما، ولا ترجيح فصار كما لو استحقاه بالشفعة إذ لكل واحد من الشفيعين سبب كامل في استحقاق جميع الشقص المبيع، لكن ضاق المحل فيوزع عليهما وعلى الجملة الاحتمالات أربعة: أما العمل بالدليلين جميعا، أو إسقاطهما جميعا، أو تعيين أحدهما بالتحكم، أو التخيير، ولا سبيل إلى الجمع عملا وإسقاطا لانه متناقض، ولا سبيل إلى التوقف إلى غير نهاية، فإن فيه تعطيلا، ولا سبيل إلى التحكم بتعيين أحدهما، فلا يبقى إلا الرابع وهو التخيير، كما في اجتماع المفتيين على العامي، فإن قيل: كما استحالت الاقسام الثلاثة فالتخيير أيضا جمع بين النقيضين فهو محال؟ قلنا: المحال ما لو صرح الشرع به لم يعقل، ولو قال الشارع: من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جدار أراد فيتخير بين أن يستقبل جدارا أو يستدبره كان معقولا، لانه كيفما فعل فهو مستقبل شيئا من الكعبة، وكيفما تقلب فإليها ينقلب، وكذلك إذا قال: تعبدتكم باتباع الاستصحاب ثم تعارض استصحابان، فكيفما تقلب فهو مستصحب، كما إذا أعتق عن كفارته عبدا غائبا انقطع خبره، فالأصل بقاء الحياة، والأصل بقاء اشتغال الذمة فقد تعارضا، وكذلك إذا علم المجتهد أن في التسوية في العطاء مصلحة وهي الاحتراز عن وحشة الصدور بمقدار التفاوت الذي لا يتقدر إلا بنوع من الاجتهاد، وفي التفاوت مصلحة تحريك رغبات الفضائل، وهما مصلحتان ربما تساوتا عند الله تعالى أيضا فكيفما فعل فقد مال إلى مصلحة، وكذلك قد تشبه المسألة أصلين شبها متساويا وقد أمرنا باتباع الشبه فكيفما فعل فهو ممتثل، و مثاله قوله تعالى عليه السلام في زكاة الابل: في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فمن له من الابل مائتان فإن أخرج الحقاق فقد عمل بقوله عليه السلام: في كل خمسين حقة وإن أخرج بنات لبون فقد عمل بقوله: في كل أربعين بنت لبون وليس أحد اللفظين بأولى من الآخر فيتخير، فكذلك عند تعارض الاستصحاب و المصلحة والشبه، فإن قيل التخيير بين التحريم ونقيضه يرفع التحريم، والتخيير بين الواجب وتكره يرفع الوجوب، والجمع بين أختين مملوكتين أما أن يحرم أو لا يحرم، فإن قلنا بهما جميعا فهو متناقض، قلنا: يحتمل أن يرجع عند تعارض الدليل الموجب والمسقط إلى الوجه الآخر، وهو القول بالتساقط، ويطلب الدليل من موضع آخر، ويخص وجه التخيير بما لو ورد الشرع فيه بالتخيير لم يتناقض مما يضاهي مسألة بنات اللبون والحقاق، وكالاختلاف في المحرم إذا جمع بين التحليلين الواجب عليه بدنة أو شاة إذ التخيير بينهما معقول، فيحصل في تعارض الدليلين ثلاثة أوجه: وجه في التساقط، ووجه في التخيير، ووجه في التفصيل، وفصل بين ما يمكن التخيير فيه من الواجبات، إذ يمكن التخيير فيها وبين ما يتعارض فيه الموجب والمبيح أو المحرم والمبيح، فلا يمكن التخيير فيه فيرجع إلى التساقط، وإن أردنا الاصرار على وجوب التخيير مطلقا فله وجه أيضا، وهو أنا نقول: إنما يناقض الوجوب جواز الترك مطلقا، أما جوازه بشرط فلا، بدليل أن الحج واجب على التراخي، وإذا أخر ثم مات قبل الاداء لم يلق الله عاصيا عندنا إذا أخر مع العزم على الامتثال، فجواز تركه بشرط العزم لا ينافي الوجوب، بل المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين فالركعتان واجبتان، ويجوز أن يتركهما، ولكن جاز تركهما بشرط أن يقصد الترخص ويقبل صدقة قد تصدق الله بها على عباده فهو كمن يستحق أربعة دراهم على غيره فقال له: تصدقت عليك بدرهمين، إن قبلت وإن لم تقبل، وأتيت بالاربعة قبلت الاربعة عن الدين الواجب، فإن شاء قبل الصدقة وأتى بدرهمين، وإن شاء اتى بالاربعة عن الواجب ولا يتناقض، فكذلك في مسألتنا إذا اقتضى استصحاب شغل الذمة إيجاب عتق آخر بعد أن أعتق عبدا غائبا، فلا يجوز له تركه إلا بشرط أن يقصد استصحاب الحياة ويعمل بموجبه، فمن لم يخطر له الدليل المعارض أو خطر له ولم يقصد العمل وترك الواجب لم يجز، وكذلك إذا سمع قوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الاختين} (النساء: 32) حرم عليه الجمع بين المملوكتين، وإنما يجوز له قصد العمل بموجب الدليل الثاني هو قوله تعالى: {(4) أو ما ملكت أيمانكم} (النساء: 3) كما قال عثمان أحلتهما آية وحرمتهما آية، وسئل ابن عمر عمن نذر صوم يوم من كل أسبوع فوافق يوم العيد فقال: أمر الله بوفاء النذر ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العيد ولم يزد على هذا، معناه أنه إذا لم يظهر ترجيح فيحرم صوم العيد بالنهي ويجوز أن يصوم بشرط أن يقصد العمل بموجب الدليل الثاني وهو الامر بالوفاء، وكان ذلك جوازا بشرط فلا يتناقض الواجب، وأما إذا تعارض الموجب والمحرم فيتولد منه التخيير المطلق، كالولي إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو قسم عليهما أو منعهما لماتا، ولو أطعم أحدهما مات الآخر فإذا أشرنا إلى رضيع معين كان إطعامه واجبا لان فيه إحياءه، وحراما لان فيه هلاك غيره، فنقول هو مخير بين أن يطعم هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا فلا سبيل إلا التخييرة فإذا مهما تعارض دليلان في واجبين كالشاة والبدنة في الجمع بين التحليلين تخيير بينهما، وأن تعارض دليل الوجوب ودليل الاباحة تخير بشرط قصد العمل بموجب الدليل المبيح، كما يتخير بين ترك الركعتين قصدا وبين إتمامهما لكن بشرط قصد الترخص، وإن تعارض الموجب والمحرم حصل التخيير المطلق أيضا، هذا طريق نصره اختيار القاضي في التخيير، فإن قيل: تعارض دليلين من غير ترجيح محال، وإنما يخفى الترجيح على المجتهد، قلنا وبم عرفتم استحالة ذلك؟ فكما تعارض موجب بنات اللبون والحقاق فلم يستحل أن يتعارض استصحابان وشبهان ومصلحتان وينتفى الترجيح في علم الله تعالى، فإن قيل: فما معنى قول الشافعي: المسألة على قولين؟ قلنا: هو التخيير في بعض المواضع والتردد في بعض المواضع، كتردده في أن البسملة هل هي آية في أول كل سورة؟ فإن ذلك لا يحتمل التخيير، لانه في نفسه أمر حقيقي ليس بإضافي فيكون الحق فيه واحدا، فإن قيل: فمذهب التخيير يفضي إلى محال، وهو أن يخير الحاكم المتخاصمين في شفعة الجوار أو استغراق الجد للميراث أو المقاسمة لان حكم الله الخيرة، وكذلك يخير المفتي العامي، وكذلك يحكم لزيد بشفعة الجوار ولعمرو بنقيضه، ويوم السبت باستغراق الجد للميراث، ويوم الاحد بالمقاسمة بل تثبت الشفعة يوم الاحد وتسترد يوم الاثنين بالرأي الآخر؟ قلنا: لا تخيير للمخاصمين بين النقيضين لان الحاكم منصوب لفصل الخصومة عند التنازع، فيلزمه أن يفصل الخصومة بأي رأي أراد، كما لو تنازع الساعي والمالك في بنات اللبون والحقاق، وفي الشاة والدراهم في الجبران فالحاكم يحكم بما أراد أما الرجوع فغير جائز لمصلحة الحكم أيضا، فإنه لو تغير اجتهاده عندكم تغير فتواه، ولا ينقض الحكم السابق للمصلحة، أما قضاؤه يوم الاحد بخلاف قضائه يوم السبت وفي حق زيد بخلاف ما في حق عمرو، فما قولكم فيه لو تغير اجتهاده أليس ذلك جائزا؟ فكذلك إذا اجتمع دليلان عليه عندنا، كما في الحقاق وبنات اللبون يجوز أن يشير بإشارات مختلفة فيأمر زيدا ببنات اللبون، وعمرا بالحقاق، وعلى الجملة يجوز أن يغاير أمر الحكم أمر الفتوى لمصلحة الحكم، كما لو تغير الاجتهاد، فإنه لا ينقض الحكم الماضي ويحكم في المستقبل بالاجتهاد الثاني، وكذلك المجتهد في القبلة إذا تعارض عنده دليلان في جهتين والصلاة لا تقبل التأخير، ولا مجتهد يقلد، فهل له سبيل إلا أن يتخير إحدى الجهتين فيصلي إلى أي الجهتين شاء، ولا يجوز له أن يعدل إلى الجهتين الباقيتين اللتين دل اجتهاده على أن القبلة ليست فيهما، فهذه أمور لو وقع التصريح بها من الشارع كان مقبولا ومعقولا وإليه الاشارة بقول علي وعثمان رضي الله عنهما في الجمع بين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية. |
12-06-2012, 08:08 PM | #69 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
مسألة (نقض الاجتهاد) في نقض الاجتهاد: المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده، ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد أن خالع الزوج ثلاثا ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين ولم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم فإنه، لو نقض الاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل فاضطربت الاحكام ولم يوثق بها، أما إذا نكح المقلد بفتوى مفت وأمسك زوجته بعد دور الطلاق وقد نجز الطلاق بعد الدور ثم تغير اجتهاد المفتي فهل على المقلد تسريح زوجته؟ هذا ربما يتردد فيه، والصحيح أنه يجب تسريحها، كما لو تغير اجتهاد مقلده عن القبلة في أثناء الصلاة، فإنه يتحول إلى الجهة الاخرى، كما لو تغير اجتهاده في نفسه، وإنما حكم الحاكم هو الذي لا ينقض، ولكن بشرط أن لا يخالف نصا ولا دليلا قاطعا فإن أخطأ النص نقصنا حكمه، وكذلك إذا تنبهنا لامر معقول في تحقيق مناط الحكم أو تنقيحه بحيث يعلم أنه لو تنبه له لعلم قطعا بطلان حكمه فينقض الحككم. فإن قيل: قد ذكرتم أن مخالف النص مصيب إذا لم يقصر، لان ذلك حكم الله تعالى عليه بحسب حاله فلم ينقض حكمه؟ قلنا نعم، هو مصيب بشرط دوام الجهل، كمن ظن أنه متطهر فحكم الله عليه وجوب الصلاة، ولو علم أنه محدث فحكم الله عليه تحريم الصلاة مع الحدث، لكن عند الجهل الصلاة واجبة عليه وجوبا حاصلا ناجزا، وهي حرام عليه بالقوة، أي هي بصدد أن تصير حراما ما لو علم محدث، فمهما علم لزمه تدارك ما مضى وكان ذلك صلاة بشرط دوام الجهل، وكذلك مهما بلغ المجتهد النص نقض حكمه الواقع فكذلك الحاكم الآخر العالم بالنص ينقض حكمه، وعند هذا ننبه على دقيقة وهي أنا ذكرنا أن اختلاف حال المكلف في الظن والعلم كاختلاف حاله في السفر والاقامة، والطهر والحيض، فيجوز أن يكون ذلك سببا لاختلاف الحكم، لكن بينهما فرق وهو: أن من سقط عنه وجوب لسفره أو عجزه فلا يجب إزالة سفره وعجزه ليتحقق الوجوب، ومن سقط عنه لجهله وجب إزالة جهله، فإن التعليم وتبليغ حكم الشرع وتعريف أسبابه واجب، وكذلك نقول: من صلى وعلى ثوبه نجاسة لا يعرفها تصح صلاته ولا يقضيها على قول، فمن رأى في ثوبه تلك النجاسة يلزمه تعريفه ولو تيمم ليصلي وقدر غيره على أن يزيل عجزه بحمل ماء إليه لم يلزمه، ففي هذه الدقيقة يختلف حكم العلم والجهل، وحكم سائر الاوصاف. فإن قيل: فلو خالف الحاكم قياسا جليا هل ينقض حكمه؟ قلنا: قال الفقهاء ينقض فإن أرادوا به ما هو في معنى الأصل مما يقطع به فهو صحيح وإن أرادوا به قياسا مظنونا مع كونه جليا فلا وجه له، إذ لا فرق بين ظن وظن، فإذا أنتقى القاطع فالظن يختلف بالاضافة، وما يختلف بالاضافة، فلا سبيل إلى تتبعه. فإن قيل: فمن حكم على خلاف خبر الواحب أو بمجرد صيغة لامر أو حكم في الفساد بمجرد النهي فهل ينقض حكمه وقد قطعتم بصحة خبر الواحد، وأن صيغة الامر لا تدل على الوجوب، والنهي لا يدل بمجرده على الفساد؟ قلنا: معما كانت المسألة ظنية فلا ينقض الحكم، لانا لا ندري أنه حكم لرده خبر الواحد، أو أنه حكم بمجرد صيغة الامر، بل لعله كان حكم لدليل آخر ظهر له، فإن علمنا أنه حكم لذلك لا لغيره وكانت المسألة مع ذلك ظنية اجتهادية فلا ينبغي أن ينقض لانه ليس لله في المسألة الظنية حكم معين، فقد حكم بما هو حكم الله تعالى على بعض المجتهدين، فإن أخطأ في الطريق فليس مخطئا في نفس الحكم، بل حكم في محل الاجتهاد، وعلى الجملة: الحكم في مسألة فيها خبر واحد على خلاف الخبر ليس حكما برد الخبر مطلقا، وإنما المقطوع به كون الخبر حجة على الجملة، أما آحاد المسائل فلا يقطع فيها بحكم فإن قيل: فإن حكم بخلاف اجتهاده لكن وافق مجتهدا آخر وقلده فهل ينقض حكمه؟ ولو حكم حاكم مقلد بخلاف مذهب إمامه فهل ينقض؟ قلنا: هذا في حق المجتهد لا يعرف يقينا، بل يحتمل تغير اجتهاده، وأما المقلد فلا يصح حكمه عند الشافعي، ونحن وإن حكمنا يتنفيذ حكم المقلدين في زماننا لضرورة الوقت، فإن قضينا بأنه لا يجوز للمقلد أن يتبع أي مفت شاء بل عليه اتباع إمامه الذي هو أحق بالصواب في ظنه، فينبغي أن ينقض حكمه، ولو جوزنا ذلك، فإذا وافق مذهب ذي مذهب فقد وقع الحكم في محل الاجتهاد فلا ينقض، وهذه مسائل فقهية أعني نقض الحكم في هذه الصور، وليست من الاصول في شئ والله أعلم.
مسألة (في وجوب الاجتهاد على المجتهد وتحريم التقليد عليه) وقد اتفقوا على أنه إذا فرغ من الاجتهاد وغلب على ظنه حكم فلا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بنظر غيره ويترك نظر نفسه، أما إذا لم يجتهد بعد ولم ينظر فإن كان عاجزا عن الاجتهاد كالعامي فله التقليد، وهذا ليس مجتهدا، لكن ربما يكون متمكنا من الاجتهاد في بعض الامور وعاجزا عن البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء، كعلم النحو مثلا في مسألة نحوية، وعلم صفات الرجال وأحوالهم في مسألة نحوية خبرية، وقع النظر فيها في صحة الاسناد فهذا من حيث حصل بعض العلوم واستقل بها لا يشبه العامي، ومن حيث أنه لم يحصل هذا العلم فهو كالعامي، فيلحق بالعامي أو بالعالم فيه نظر والاشهر والاشبه أنه كالعامي، وإنما المجتهد هو الذي صارت العلوم عنده بالقوة القريبة، أما إذا احتاج إلى تعب كثير في التعلم بعد فهو في ذلك الفن عاجز، وكما يمكنه تحصيله فالعامي أيضا يمكنه التعلم ولا يلزمه، بل يجوز له ترك الاجتهاد، وعلى الجملة: بين درجة المبتدئ في العلم وبين رتبة الكمال منازل واقعة بين طرفين، وللنظر فيها مجال، وإنما كلامنا الآن في المجتهد لو بحث عن مسألة ونظر في الأدلة لاستقل بها، ولا يفتقر إلى تعلم علم من غيره، فهذا هو المجتهد، فهل يجب عليه الاجتهاد أم يجوز له أن يقلد غيره، هذا مما اختلفوا فيه، فذهب قوم إلى أن الإجماع قد حصل، على أن من وراء الصحابة لا يجوز تقليدهم، وقال قوم من وراء الصحابة والتابعين، وكيف يصح دعوى الإجماع، وممن قال بتقليد العالم أحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه، وسفيان الثوري وقال محمد بن الحسن: يقلد العالم الاعلم، ولا يقلد من هو دونه أو مثله، وذهب الاكثرون من أهل العراق إلى جواز تقليد العالم العالم فيما يفتي وفيما يخصه، وقال قوم: يجوز فيما يخصه دون ما يفتي، وخصص قوم من جملة ما يخصه ما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد، واختار القاضي منع تقليد العالم للصحابة ولمن بعدهم وهو الاظهر عندنا والمسألة ظنية اجتهادية، والذي يدل عليه أن قليد من لا تثبت عصمته ولا يعلم بالحقيقة إصابته، بل يجوز خطؤه وتلبيسه حكم شرعي لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص، ولا نص ولا منصوص إلا العامي، والمجتهد، إذ للمجتهد أن يأخذ بنظر نفسه وإن لم يتحقق وللعامي أن يأخذ بقوله، أما المجتهد إنما يجوز له الحكم بظنه لعجزه عن العلم، فالضرورة دعت إليه في كل مسألة ليس فيها دليل قاطع، أما العامي فإنما جوز له تقليد غيره للعجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه، والمجتهد غير عاجز فلا يكون في معنى العاجز، فينبغي أن يطلب الحق بنفسه، فإنه يجوز الخطأ على العالم بوضع الاجتهاد في غير محله، والمبادرة قبل استتمام الاجتهاد والغفلة عن دليل قاطع وهو قادر على معرفة جميع ذلك ليتوصل في بعضها إلى اليقين وفي بعضها إلى الظن، فكيف يبني الامر على عماية كالعميان وهو بصير بنفسه، فإن قيل: وهو ليس يقدر إلا على تحصيل ظن، وظن غيره كظنه، ولا سيما عندكم، وقد صوبتم كل مجتهد؟ قلنا: مع هذا إذا حصل ظنه لم يجز له اتباع ظن غيره، فكان ظنه أصلا، وظن غيره بدلا يدل عليه أنه لم يجز العدول إليه مع وجود المبدل؟ فلا يجوز مع القدرة على المبدل كما في سائر الابدال والمبدلات، إلا أن يرد نص بالتخيير فترتفع البدلية، أو يرد نص بأنه بدل عند الوجود لا عند العدم، كبنت مخاض وابن لبون في خمس وعشرين من الابل، فإن وجوب بنت مخاض يمنع من قبول ابن لبون، والقدرة على شرائه لا تمنع منه. فإن قيل: حصرتم طريق معرفة الحق في الالحاق، ثم قطعتم طريق الالحاق، ولا نسلم أن مأخذه الالحاق، بل عمومات تشمل العامي والعالم، كقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (الانبياء: 7) وما أراد من لا تعلم شيئا أصلا، فإن ذاك مجنون أو صبي، بل من لا يعلم تلك المسألة، وكذلك قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم} (النساء: 95) وهم العلماء قلنا أما قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر} فإنه لا حجة فيه من وجهين: أحدهما: أن المراد به أمر العوام بسؤال العلماء، إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول، فمن هو من أهل العلم مسؤول وليس بسائل ولا يخرج عن كونه من أهل العلم بأن لا تكون المسألة حاضرة في ذهنه إذ هو متمكن من معرفتها من غير أن يتعلم من غيره. الثاني: أن معناه سلوا لتعلموا، أي سلوا عن الدليل لتحصيل العلم، كما يقال: كل لتشبع، واشرب لتروي، وأما أولو الامر فإنما أراد بهم الولاة، إذأ وجب طاعتهم كطاعة الله ورسوله، ولا يجب على المجتهد اتباع المجتهد، فإن كالمراد بأولي الامر الولاة، فالطاعة على الرعية، وإن كان هم العلماء فالطاعة على العوام ولا نفهم غير ذلك، ثم نقول يعارض هذه العمومات عمومات أقوى منها يمكن التمسك بها ابتداء في المسألة، كقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الابصار} (الحشر: 2) وقوله تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: 38) وقوله: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (محمد: 42) وقوله: {وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله} (الشورى: 01) وقوله: {فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول} (النساء: 95) فهذا كله أمر بالتدبر والاستنباط والاعتبار، وليس خطابا مع العوام، فلم يبق مخاطب إلا العلماء، والمقلد تارك للتدبر والاعتبار والاستنباط، وكذلك قوله تعالى: {اتبعوا احسن ما انزل اليكم من ربكم} (الزمر: 55) و (لا تتبعوا من دونه اوليا وهذا بظاهره يوجب الرجوع إلى الكتاب فقط، لكن دل الكتاب على اتباع السنة، والسنة على الإجماع، والإجماع على القياس، وصار جميع ذلك منزلا فهو المتبع دون أقوال العباد، فهذه ظواهر قوية، والمسألة ظنية يقوي فيها التمسك بأمثالها، ويعتضد ذلك، بفعل الصحابة، فإنهم تشاوروا في ميراث الجد والعول، والمفوضة ومسائل كثيرة، وحكم كل واحد منهم بظن نفسه ولم يقلد غيره، فإن قيل: لم ينقل عن طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهم أهل الشورى نظر في الاحكام مع ظهور الخلاف، والاظهر أنهم أخذوا بقول غيرهم؟ قلنا: كانوا لا يفتون اكتفاء بمن عداهم في الفتوى، أما عملهم في حق أنفسهم لم يكن إلا بما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب وعرفوه فإن وقعت واقعة لم يعرفوا دليلها شاوروا غيرهم لتعرف الدليل لا للتقليد، فإن قيل: فما تقولون في تقليد الاعلم؟ قلنا: الواجب أن ينظر أولا، فإن غلب على ظنه ما وافق الاعلم فذاك، وإن غلب على ظنه خلافه فما ينفع كونه أعلم، وقد صار رأيه مزيفا عنده والخطأ جائز على الاعلم، وظنه أقوى في نفسه من ظن غيره وله أن يأخذ بظن نفسه وفاقا، ولم يلزمه تقليده لكونه أعلم، فينبغي أن لا يجوز تقليده، ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تسويغ الخلاف لابن عباس وابن عمر وابن الزبير وزيد بن ثابت وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم من أحداث الصحابة لاكابر الصحابة، ولابي بكر ولعمر رضي الله عن جميعهم، فإن قيل: فهل من فرق بين ما يخصه وبين ما يفتي به؟ قلنا: يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الشافعي وأبي حنيفة، لكن لا يفتي من يستفتيه بتقليد غيره: إذ لو جاز ذلك لجاز الفتوى للعوام، وأما ما يخصه إذا ضاق الوقت وكان في البحث تفويت فهذا هل يلحقه بالعاجز في جواز التقليد فيه نظر فقهي ذكرناه في مسألة العدول إلى التيمم عند ضيق الوقت وتناوب جماعة على بئر ماء، فهذه مسألة محتملة والله أعلم. |
12-06-2012, 08:08 PM | #70 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفن الثاني من هذا القطب في التقليد والاستفتاء وحكم العوام فيه وفيه أربع مسائل:
مسألة (تعريف التقليد) التقليد هو قبول قول بلا حجة، وليس ذلك طريقا إلى العلم لا في الاصول، ولا في الفروع، وذهب الحشوية والتعليمية إلى أن طريق معرفة الحق التقليد، وأن ذلك هو الواجب، وأن النظر والبحث حرام، ويدل على بطلان مذهبهم مسالك. الأول: هو أن صدق المقلد لا يعلم ضرورة، فلا بد من دليل، ودليل الصدق المعجزة، فيعلم صدق الرسول عليه السلام بمعجزته، وصدق كلام الله بأخبار الرسول عن صدقه، وصدق أهل الإجماع بأخبار الرسول عن عصمتهم، ويجب على القاضي الحكم بقول العدول لا بمعنى اعتقاد صدقهم، لكن من حيث دل السمع على تعبد القضاة باتباع غلبة الظن صدق الشاهد أم كذب، ويجب على العامي اتباع المفتي، إذ دل الإجماع على أن فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أم صدق أم أصاب فنقول: قول المفتي والشاهد لزم بحجة الإجماع، فهو قبول قول بحجة فلم يكن تقليدا، فإنا نعني بالتقليد قبول قول بلا حجة، فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بدليل فالاتباع فيه اعتماد على الجهل. المسلك الثاني: أن نقول: أتحيلون الخطأ على مقلدكم أم تجوزونه، فإن جوزتموه فإنكم شاكون في صحة مذهبكم وإن أحلتموه فبم عرفتم استحالته؟ بضرورة أم بنظر أو تقليد ولا ضرورة ولا دليل؟ فإن قلدتموه في قوله أن مذهبه حق، فبم عرفتم صدقه في تصديق نفسه؟ وإن قلدتم فيه غيره، فبم عرفتم صدق المقلد الآخر وإن عولتم على سكون النفس إلى قوله، فبم تفرقون بين سكون نفوسكم وسكون نفوس النصارى واليهود؟ وبم تفرقون بين قول مقلدكم إني صادق محق وبين قول مخالفكم؟ ويقال لهم أيضا في إيجاب التقليد هل تعلمون وجوب التقليد أم لا، فإن لم تعلموه فلم قلدتم؟ وإن علمتم فبضرورة أم بنظر أو تقليد، ويعود عليهم السؤال في التقليد، ولا سبيل لهم إلى النظر والدليل، فلا يبقى إلا إيجاب التقليد بالتحكم، فإن قيل: عرفنا صحته بأنه مذهب للاكثرين فهو أولى بالاتباع؟ قلنا: وبم أنكرتم على من يقول الحق دقيق غامض لا يدركه إلا الاقلون ويعجز عنه الاكثرون، لانه يحتاج إلى شروط كثيرة من الممارسة والتفرغ للنظر ونفاذ القريحة والخلو عن الشواغل، ويدل على أنه عليه السلام محقا في ابتداء أمره وهو في شرذمة يسيرة، على خلاف الاكثرين، وقد قال تعالى: (وان تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله) (الانعام: 611) كيف وعدد الكفار في زماننا أكثر، ثم يلزمكم أن تتوقفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدوا جميع المخالفين فإن ساووهم توقفوا وإن غلبوا رجحوا، كيف وهو على خلاف نص القرآن، قال الله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} (سبأ: 31} (ولكن أكثرهم لا يعلمون} (الانعام: 37 الاعراف 131، القصص 13 الدخان 39، الطور: 47} (وأكثرهم للحق كارهون} (المؤمنون: 70) فإن قيل: فقد قال عليه السلام: عليكم بالسواد الاعظم، ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، والشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد قلنا: أولا: بم عرفتم صحة هذه الاخبار وليست متواترة؟ فإن كان عن تقليد فبم تتميزون عن مقلد اعتقد فسادها؟ ثم لو صح فمتبع السواد الاعظم ليس بمقلد، بل علم بقول الرسول وجوب اتباعه، وذلك قبول، قول بحجة وليس بتقليد، ثم المراد بهذه الاخبار ذكرناه في كتاب الإجماع، وأنه الخروج عن موافقة الامام أو موافقة الإجماع، ولهم شبه الشبهة الأولى قولهم: إن الناظر متورط في شبهات، وقد كثر ضلال الناظرين فترك الخطر وطلب السلامة أولى؟ قلنا: وقد كثر ضلال المقلدين من اليهود والنصارى، فبم تفرقون بين تقليدكم وتقليد سائر الكفار حيث قالوا: انا وجدنا اباءنا على امه؟ ثم نقول: إذا وجبت المعرفة كان التقليد جهلا وضلالا، فكأنكم حملتم هذا خوفا من الوقوع في الشبهة كمن يقتل نفسه عطشا وجوعا خيفة من أن يغص بلقمة أو يشرق بشربة لو أكل وشرب، وكالمريض يترك العلاج رأسا خوفا من أن يخطئ في العلاج، وكمن يترك التجارة والحراثة خوفا من نزول صاعقة فيختار الفقر خوفا من الفقر. الشهبة الثانية: تمسكهم بقوله تعالى: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} (غافر: 4) وأنه نهى عن الجدال في القدر، والنظر يفتح باب الجدال؟ قلنا: نهى عن الجدال بالباطل كما قال تعالى: {وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق} (غافر: 5) بدليل قوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 521) فأما القدر فنهاهم عن الجدال فيه، إما لانه كان قد وقفهم على الحق بالنص فمنعهم عن الممارة في النص، أو كان في بدء الاسلام، فاحترز عن أن يسمعه المخالف فيقول: هؤلاء بعد لم تستقر قدمهم في الدين، أو لانهم كانوا مدفوعين إلى الجهاد الذي هو أهم عندهم، ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (الاسراء: 63} (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (البقرة: 961} (قل هاتوا برهانكم} (البقرة: 111) هذا كله نهي عن التقليد وأمر بالعلم، ولذلك عظم شأن العلماء، وقال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} (المجادلة: 11) وقال عليه السلام: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين ولا يحصل هذا بالتقليد بل بالعلم، وقالابن مسعود: لا تكونن إمعة، قيل: وما إمعة، قال: أن يقول الرجل أنا مع الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت ألا لا يوطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس. مسألة (تقليد العامي للعلماء) العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء، وقال قوم من القدرية: يلزمهم النظر في الدليل واتباع الامام المعصوم، وهذا باطل بمسلكين: أحدهما: إجماع الصحابة، فإنهم كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد، وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم، فإن قال قائل من الامامية: كان الواجب عليهم اتباع على لعصمته، وكان علي لا ينكر عليهم تقية وخوفا من الفتنة؟ قلن: هذا كلام جاهل سد على نفسه باب الاعتماد على قول علي وغيره من الائمة في حال ولايته إلى آخر عمره، لانه لم يزل في اضطراب من أمره، فلعل جميع ما قاله خالف فيه الحق خوفا وتقية. المسلك الثاني: إن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالاحكام، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال، لانه يؤدي إلى أن ينقطع الحرث والنسل، وتتعطل الحرف والصنائع، ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بحملتهم بطلب العلم، وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش، ويؤدي إلى اندراس العلم، بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم، وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء، فإن قيل: فقد أبطلتم التقليد، وهذا عين التقليد؟ قلنا: التقليد قبول قول بلا حجة، وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتي بدليل الإجماع، كما وجب على الحاكم قبول قول الشهود، ووجب علينا قبول خبر الواحد، وذلك عند ظن الصدق، والظن معلوم ووجوب الحكم عند الظن معلوم، بدليل سمعي قاطع، فهذا الحكم قاطع، والتقليد جهل، فإن قيل: فقد رفعتم التقليد من الدين، وقد قال الشافعي رحمه الله: ولا يحل تقليد أحد سوى النبي عليه السلام، فقد أثبت تقليدا؟ قلنا: قد صرح بإبطال التقليد رأسا إلا ما استثنى فظهر أنه لم يجعل الاستفتاء وقبول خبر الواحد وشهادة العدول تقليد، نعم: يجوز تسمية قبول قول الرسول تقليدا توسعا واستثناؤه من غير جنسه، ووجه التجوز أن قبول قوله وإن كان لحجة دلت على صدقه جملة فلا تطلب منه حجة على غير تلك المسألة، فكأنه تصديق بغير حجة خاصة، ويجوز أن يسمى ذلك تقليدا مجازا. مسألة (فتوى العامي للعلماء العدول) لا يستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة، أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقا وأن سأل من لا يعرف جهله فقد قال قوم: يجوز، وليس عليه البحث، وهذا فساد لان كل من وجب عليه قبول قول غيره فيلزمه معرفة حاله، فيجب على الامة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزته، فلا يؤمن بكل مجهول يدعي أنه رسول الله، ووجب على الحاكم معرفة حال الشاهد في العدالة، وعلى المفتي معرف حال الراوي، وعلى الرعية معرفة حال الامام والحاكم، وعلى الجملة: كيف يسأل من يتصور أن يكون أجهل من السائل؟ فإن قيل: إذا لم يعرف عدالة المفتي هل يلزمه البحث إن قلتم يلزمه البحث، فقد خالفتم العادة، لان من دخل بلدة فيسأل عالم البلدة ولا يطلب حجة على عدالته، وإن جوزتم مع الجهل فكذلك في العلم؟ قلنا: من عرفه بالفسق فلا يسأله، ومن عرفه بالعدالة فيسأله، ومن لم يعرف حاله فيحتمل أن يقال لا يهجم بل يسأل عن عدالته أولا فإنه لا يأمن كذبه وتلبيسه ويحتمل أن يقال: ظاهر حال العالم العدالة، لا سيما إذا اشتهر بالفتوى، ولا يمكن أن يقال: ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة الفتوى، والجهل أغلب على الخلق، فالناس كلهم عوام إلا الافراد بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد، فإن قيل: فإن وجب السؤال لمعرفة عدالته أو علمه فيفتقر إلى التواتر أم لا يفتقر إليه، قيل يحتمل أن يقال ذلك، فإن ذلك ممكن، ويحتمل أن يقال يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين، وقد جوز قوم العمل بإجماع نقله العدل الواحد، وهذا يقرب منه من وجه. مسألة (تعدد العلماء بالنسبة لسؤال العامي) إذا لم يكن في البلدة إلا مفت واحد، وجب على العامي مراجعته، وإن كانوا جماعة فله أن يسأل ممن شاء ولا يلزمه مراجعة الاعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول، ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء، وقال قوم: تجب مراجعة الافضل، فإن استووا تخير بينهم، وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى، بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة، وقد عرف كلهم بذلك، نعم إذا اختلف عليه مفتيان في حكم فإن تساويا راجعهما مرة أخرى، وقال: تناقض فتواكما وتساويتما عندي فما الذي يلزمني؟ فإن خيراه تخير، وإن اتفقا على الامر بالاحتياط أو الميل إلى جانب معين فعل، وإن أصرا على الخلاف لم يبق إلا التخيير، فإنه لا سبيل إلى تعطيل الحكم وليس أحدهما بأولى من الآخر، والائمة كالنجوم، فبأيهم اقتدى اهتدى، أما إذا كان أحدهما أفضل وأعلم في اعقتاده اختار القاضي أنه يتخير أيضا لان المفضول أيضا من أهل الاجتهاد لو انفرد، فكذلك إذا كان معه غيره، فزيادة الفضل لا تؤثر، والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الافضل، فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم، والصواب على مذهبه أغلب، فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي، وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيتوسع، بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي فإنه يتبع ظنه في الترجيح، فكذلك ههنا، وإن صوبنا كل مجتهد ولكن الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع، وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع والغلط على الاعلم أبعد لا محالة، وهذا التحقيق وهو أنا نعتقد أن لله تعالى سرا في رد العباد إلى ظنونهم حتى لا يكونوا مهملين متبعين للهوى مسترسلين استرسال البهائم من غير أن يزمهم لجام التكليف فيردهم من جانب إلى جانب، فيتذكرون العبودية ونفاذ حكم الله تعالى فيهم في كل حركة وسكون، يمنعهم من جانب إلى جانب، فما دمنا نقدر على ضبطهم بضابط فذلك أولى من تخييرهم وإهمالهم كالبهائهم والصبيان، أما إذا عجزنا عند تعارض مفتيين وتساويهما أو عند تعارض دليلين فذلك ضرورة، والدليل عليه أنه إذا كان يمكن أن يقال: كل مسألة ليس لله تعالى فيها حكم معين أو يصوب فيها كل مجتهد، فلا يجب على المجتهد فيها النظر، بل يتخير فيفعل ما شاء إذ ما من جانب إلا ويجوز أن يغلب على ظن مجتهد، والإجماع منعقد على أنه يلزمه، أولا تحصيل الظن، ثم يتبع ما ظنه، فكذلك ظن العامي ينبغي أن يؤثر، فإن قيل: المجتهد لا يجوز له أن يتبع ظنه قيل أن يتعلم طرق الاستدلال، والعامي يحكم بالوهم ويغتر بالظواهر، وربما يقدم المفضول على الفاضل، فإن جاز أن يحكم بغير بصيرة فلينظر في نفس المسألة وليحكم بما يظنه، فلمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها من شأن العوام، وهذا سؤال واقع، ولكنا نقول: من مرض له طفل وهو ليس بطبيب فسقاه دواء برأيه كان متعديا مقصرا ضامنا، ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا، فإن كان في البلد طبيبان فاختلفا في الدواء فخالف الافضل عد مقصرا، ويعلم فضل الطبيبين بتواتر الاخبار، وبإذعان المفضول له، وبتقديمه بأمارات تفيد غلبة الظن، فكذلك في حق العلماء يعلم الافضل بالتسامع وبالقرائن دون البحث عن نفس العلم، والعامي أهل له، فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي، فهذا هو الاصح عندنا والاليق بالمعنى الكلي في ضبط الخلق بلجام التقوى والتكليف والله أعلم. |
12-06-2012, 08:09 PM | #71 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الفن الثالث من القطب الرابع في الترجيح وكيفية تصرف المجتهد عند تعارض الأدلة
ويشتمل هذا الفن على مقدمات ثلاث وبابين: أما المقدمة الأولى ففي بيان ترتيب الأدلة. فنقول: يجب على المجتهد في كل مسألة أن يرد نظر إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع، ثم يبحث عن الأدلة السمعية المغيرة، فينظر أول شئ في الإجماع، فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة فإنهما يقبلان النسخ، والإجماع لا يقبله، فالإجماع على خلاف ما في الكتاب، والسنة دليل قاطع على النسخ، إذ لا تجتمع الامة على الخطأ، ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة على رتبة واحدة، لان كل واحد يفيد العلم القاطع، ولا يتصور التعارض في القطعيات السمعية إلا بأن يكون أحدهما ناسخا، فما وجد فيه نص كتاب أو سنة متواترة أخذ به، وينظر بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره، ثم ينظر في مخصصات العموم من أخبار الآحاد ومن الاقيسة، فإن عارض قياس عموما أو خبر واحد عموما فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها، فإن لم يجد لفظا نصا ولا ظاهرا نظر إلى قياس النصوص، فإن تعارض قياسات أو خبران أو عمومان طلب الترجيح كما سنذكره، فإن تساويا عنده توقف على رأي وتخير على رأي آخر كما سبق. المقدمة الثانية: في حقيقة التعارض ومحله اعلم أن الترجيح إنما يجري بين ظنين لان الظنون تتفاوت في القوة ولا يتصور ذلك في معلومين، إذ ليس بعض العلوم أقوى وأغلب من بعض، وإن كان بعضها أجلى وأقرب حصولا وأشد أستغناء عن التأمل، بل بعضها يستغني عن أصل التأمل وهو البديهي، وبعضها غير بديهي يحتاج إلى تأمل، لكنه بعد الحصول محقق يقيني لا يتفاوت في كونه محققا، فلا ترجيح لعلم على علم، ولذلك قلنا: إذا تعارض نصان قاطعان فلا سبيل إلى الترجيح، بل إن كانا متواترين حكم بأن المتأخر ناسخ، ولا بد أن يكون أحدهما ناسخا، وإن كانا من أخبار الآحاد وعرفنا التاريخ أيضا حكمنا بالمتأخر، وإن لم نعرف فصدق الراوي مظنون، فنقدم الاقوى في نفوسنا، وكما لا يجوز التعارض والترجيح بين نصين قاطعين فكذلك في علتين قاطعتين، فلا يجوز أن ينصب الله علة قاطعة للتحريم في موضع وعلة قاطعة للتحليل في موضع وتدور بينهما مسألة توجد فيها العلتان ونتعبد بالقياس لانه يؤدي إلى أن يجتمع قاطع على التحريم وقاطع على التحليل في فرع واحد في حق مجتهد واحد، وهو محال لا كالعلل المظنونة، لان الظنون تختلف بالاضافات فلا تجتمع في حق مجتهد واحد، فإن تقاوم ظنان أوجبنا التوقف على رأي، كما لو تعارض قاطعان، ومن أمر بالتخيير أجاب بأنه لا يجوز أن يرد نصان قاطعان بالتحريم والتحليل من غير تقدم وتأخر ويكون معناه التخيير لان اللفظ لا يحتمل التخيير فكذلك التعبد بالقياس مع التصريح بالتعليل تصريح بالنفي والاثبات لا يحتمل التخيير من حيث اللفظ فيكون متناقضا، أما الدليل الذي دل على تعبد المجتهد باتباع الظن فيصلح لان ينزل على اتباع أغلب الظنين وعند التعارض على التخيير بينهما، فإنه أمر بإتباع المصلحة وبالتشبية وبالاستصحاب، فإذا تعارضا فكيفما فعل فهو مستصحب ومشبه ومتبع للمصلحة، أما القواطع فمتضادة ومتناقضة لا بد من أن تكون ناسخا أو منسوخا فلا تقبل الجمع، نعم: لو أشكل التاريخ وعجزنا عن طلب دليل آخر فلا بد أن يتخير إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر مع تضادهما، فإن قيل فهل يجوز أن يجتمع علم وظن؟ قلنا: لا، فإن الظن لو خالف العلم فهو محال، لان ما علم كيف يظن خلافه، وظن خلافه شك فكيف يشك فيما يعلم؟ وإن وافقه فإن أثر الظن يمحي بالكلية بالعلم فلا يؤثر معه. المقدمة الثالثة: في دليل وجوب الترجيح فإن قال قائل: لم رجحتم أحد الظنين، وكل ظن لو انفرد بنفسه لوجب اتباعه، وهلا قضيتم بالتخيير أو التوقف؟ قلنا: كان يجوز أن يرد التعبد بالتسوية بين الظنين وإن تفاوتا، لكن الإجماع قد دل على خلافه على ما علم من السلف في تقديم بعض الاخبار على بعض لقوة الظن بسبب علم الرواة وكثرتهم وعدالتهم وعلو منصبهم، فلذلك قدموا خبر أزواجه عليه السلام على غيره من النساء، وقدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على خبر من روى: لاماء إلا من الماء وخبر من روت من أزواجه أنه كان يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة عن الفضل بن عباس أن من أصبح جنبا فلا صوم له، وكما قوي علي خبر أبي بكر فلم يحلفه وحلف غيره، وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة لما روى معه محمد بن مسلمة، وقوى عمر خبر أبي موسى الاشعري في الاستئذان بموافقة أبي سعيد الخدري في الرواية، إلى غير ذلك مما يكثر تتبعه، وكذلك إذا غلب على الظن كون الفرع أشبه بأحد الأصلين وجب اتابعه بالإجماع، فقد فهم من أهل الإجماع أنهم تعبدوا بما هو عادة للناس في ميراثهم وتجارتهم و سلوكهم الطرق المخوفة: فإنهم عند تعارض الاسباب المخوفة يرجحون ويميلون إلى الاقوى. فإن قيل: فلم لم ترجحوا في الشهادة بالكثرة وقوة غلبة الظن، بل يقضي بالتعارض عند تناقض البينتين، قلنا: لان أهل الإجماع لم يرجحوا في الشهادة، وقد رجحوا في الرواية، وسببه أن باب الشهادة مبني على التعبد، حتى لو أتى عشرة بلفظ الاخبار دون الشهادة لم تقبل ولا تقبل شهادة مائة امرأة ولا مائة عبد على باقة بقل، هذه هي المقدمات. |
12-06-2012, 08:09 PM | #72 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الباب الأول فيما ترجح به الاخبار اعلم أن التعارض هو التناقض، فإن كان في خبرين فأحدهما كذب، والكذب محال على الله ورسوله، وإن كان في حكمين من أمر ونهي وحظر وإباحة، فالجمع تكليف محال فأما أن يكون أحدهما كذبا أو يكون متأخرا ناسخا أو أمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالتين، كما إذا قال: الصلاة واجبة على أمتي، الصلاة غير واجبة على أمتي، فنقول: أراد بالأول المكلفين، وأراد بالثاني الصبيان والمجانين، أو في حالتي العجز والقدرة، أو في زمن دون زمن. وإن عجزنا عن الجمع وعن معرفة المتقدم والمتأخر رجحنا وأخذنا بالاقوى وتقوى الخبر في نفوسنا بصدق الراوي وصحته، وتضعيف الخبر في نفوسنا إما باضطراب في متنه أو بضعف في سنده أو بأمر خارج من السند والمتن، أما ما يتعلق بالسند والمتن فسبعة عشر: الأول: سلامة متن أحد الخبرين عن الاختلاف والاضطراب دون الآخر فسلامته مرجحة، فإن ما لا يضطرب فهو بقول الرسول أشبه، فإن انضاف إلى اضطراب اللفظ اضطراب المعنى كان أبعد عن أن يكون قول الرسول فيدل على الضعف وتساهل الراوي في الرواية. فإن قيل: فيجب أن تكون رواية الزيادة في متن الحديث اضطرابا يوجب إطراحه؟ قلنا: لا يجب، لانه في معنى خبرين منفصلين إلا أن يعرف محدث بكثرة الانفراد بالرواية عن الحفاظ، فيجوز أن يقدم خبر غيره على خبره. الثاني: اضطراب السند بأن يكون في أحدهما ذكر رجال تلتبس أسماؤهم ونعوتهم وصفاتهم بأسماء قوم ضعفاء وصفاتهم بحيث يعسر التمييز. الثالث: أن يروي أحدهما في تضاعيف قصة مشهورة متداولة بين أهل النقل ومعارضة قد انفرد به الراوي لا في جملة القصة، فما روي في الجماعة أقوى في النفوس وأقرب إلى السلامة من الغلط مما يرويه الواحد عاريا عن قصته المشهورة. الرابع: أن يكون راويه معروفا بزيادة التيقظ وقلة الغلط، فالثقة بروايته عند الناس أشد. الخامس: أن يقول أحدهما: سمعنا النبي عليه السلام، والآخر أن يقول: كتب إلي، بكذا، فإن التحريف والتصحيف في المكتوب أكثر منه في المسموع. السادس: أن يتطرق الخلاف إلى أحد الخبرين أنه موقوف على الراوي أو مرفوع، فالمتفق على كونه مرفوعا أولى. السابع: أن يكون منسوبا إليه نصا وقولا، والآخر ينسب إليه اجتهادا، بأن يروي أنه كان في زمانه أو في مجلسه ولم ينكره، فما نسب إليه قولا ونصا أقوى، لان النص غير محتمل، وما في زمانه ربما لم يبلغه وما في مجلسه ربما غفل عنه. الثامن: أن يروي أحد الخبرين عمن تعارضت الرواية عنه، فنقل عنه أيضا ضده، فيقدم عليه ما لم يتعارض، لان المتعارض متساقط، فيبقى الآخر سليما عن المعارضة. التاسع: أن يكون الراوي صاحب الواقعة، فهو أولى بالمعرفة من الاجنبي، فرواية ميمونة: تزوجني النبي عليه السلام ونحن حلالان بعدما رجع مقدمة على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام. العاشر: أن يكون أحد الراويين أعدل وأوثق وأضبط وأشد تيقظا وأكثر تحريا. الحادي عشر: أن يكون أحدهما على وفق عمل أهل المدينة، فهو أقوى، لان ما رآه مالك رحمه الله حجة وإجماعا، إن لم يصلح حجة فيصلح للترجيح، لان المدينة دار الهجرة، ومهبط الوحي الناسخ، فيبعد أن ينطوي عليهم. الثاني عشر: أن يوافق أحد الخبرين مرسل غيره فيرجح به من يرجح بكثرة الرواة، لان المرسل حجة عند قوم، فإن لم يكن حجة فلا أقل من أن يكون مرجحا. الثالث عشر: أن تعمل الامة بموجب أحد الخبرين، فإنه إذا احتمل أن يكون عملهم بدليل آخر فيحتمل أن يكون هذا الخبر فيكون صدقه أقوى في النفس. الرابع عشر: أن يشهد القرآن أو الإجماع أو النص المتواتر أو دليل العقل لوجوب العمل على وفق الخبر فيرجح به. فإن قيل: ذلك قاطع في تصديقه، قلنا: لا، بل يتصور أن يكذب على النبي عليه السلام فيما يوافق القرآن والإجماع فيقول: سمعت ما لم يسمعه، وإنما يجب صدقه إذا اجتمعت الامة على صدقه، لا إذا اجتمعت على عمل يوافق خبره، ولعله عن دليل آخر. الخامس عشر: أن يكون أحدهما أخص والآخر أعم فيقدم ما هو أخص بالمقصود، كتقديم قوله في الرقة ربع العشر في إيجابه على الطفل والبالغ على قوله: رفع القلم عن ثلاثة، لان هذا تعرض لنفي الخطاب العام وليس بتعرض للزكاة ولا لسقوط الزكاة عن الولي بإخراج زكاته، والحديث الأول متعرض لخصوص الزكاة ومتناول لعمومه مال الصبي، فهو أخص وأمس بالمقصود. السادس عشر: أن يكون أحدهما مستقلا بالافادة ومعارضه لا يفيد إلا بتقدير إضمار أو حذف، وذلك مما يتطرق إليه زيادة التباس لا يتطرق إلى المستقبل. السابع عشر: أن يكون رواة أحد الخبرين أكثر، فالكثرة تقوي الظن، ولكن رب عدل أقوى في النفس من عدلين لشدة تيقظه وضبطه والاعتماد في ذلك على ما غلب على ظن المجتهد. هذا ما يوجب الترجيح، لامر في سند الخبر أو في متنه، وقد يرجح لامور خارجة عنها وهي خمسة: الأول: كيفية استعمال الخير في محل الخبر، كقوله: لا نكاح إلا بولي مع قوله: الايم أحق بنفسها من وليها لانا نحمل ذلك على أنها أحق بنفسها في الاذن لا في العقد، واللفظ يعم الاذن والعقد، وهم يحملون خبرنا على الصغير أو الامة أو النكاح من غير كف ء، ولا خلاف واقع في الكبيرة، وهم صرفوا خبرنا عن محل الخلاف ونحن استعملنا الخبرين في الكبيرة، فتأويلنا أقرب، فإنه لا ينبو عنه اللفظ، بل كان اللفظ محتملا لهما، أما تنزيل خبرنا على الصغيرة والامة فبعيد. الثاني: أن يكون أحد الخبرين يوجب غضا من منصب الصحابة، فيكون أضعف، كما رووا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بإعادة الوضوء عند القهقهة، فخبرنا وهو قوله: كان يأمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة لا من بول أو غائط أو نوم وليس فيه القهقهة، فهو أولى من خبرهم. الثالث: أن يكون أحد الخبرين متنازعا في خصوصه والآخر متفق على تطرق الخصوص إليه، فقد قال قوم أنه يسقط الاحتجاج، به فإن لم يصح ذلك فيدل على ضعفه لا محالة. الرابع: أن يكون أحد الخبرين قد قصد به بيان الحكم المتنازع فيه دون الآخر، كقوله: أيما إهاب دبغ فقد طهر لم يفرق فيه بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل فدلالة عمومه على جلد ما لا يؤكل، أقوى من دلالة نهيه عن افتراش جلود السباع، لانه ما سيق لبيان النجاسة والطهارة، بل ربما نهى عن الافتراش للخيلاء أو لخاصية لا نعقلها. الخامس: يتضمن أحد الخبرين إثبات ما ظهر تأثيره في الحكم دون الآخر حتى تقدم رواية عائشة وابن عمر وابن عباس أن بريرة أعتقت تحت عبد على ما روي أنها أعتقت تحت حر، لان ضرر الرق في الخيار قد ظهر أثره ولا يجري ذلك في الحر. القول فيما يظن أنه ترجيح وليس بترجيح وله أمثلة ستة: الأول: أن يعمل أحد الراويين بالخبر دون الآخر، أو يعمل بعض الامة أو بعض الائمة بموجب أحد الخبرين، فلا يرجح به، إذ لا يجب تقليدهم فالمعمول به وغير المعمول به واحد. الثاني: أن يكون أحدهما غريبا لا يشبه الاصول كحديث القهقهة، وغرة الجنين، وضرب الدية على العاقلة، وخبر نبيذ التمر، ودفع القيمة في إحدى عيني الفرس، فهذه الاحاديث لو صحت لا تؤخر عن معارضها الموافق للاصول، لان للشارع أن يتعبد بالغريب والمألوف، نعم: لو ثبت التقاوم بين الخبرين تساقطا ورجعنا إلى القياس، وذلك ليس من الترجيح في شئ. الثالث: الخبر الذي يدرأ الحد لا يقدم على الموجب، وإن كان الحد يسقط بالشبهة، وقال قوم: الرافع أولى، وهو ضيعف، لان هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ الايجاب أو الاسقاط. الرابع: إذا روي خبران من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما مثبت والآخر ناف فلا يرجع أحدهما على الآخر، لاحتمال وقوعهما في حالين فلا يكون بينهما تعارض. وقد بينا في باب أفعال النبي عليه السلام محل امتناع التعارض بين الفعلين. الخامس: خبر يتضمن العتق، والآخر يتضمن نفيه، قال قوم من أهل العراق: المثبت للعتق أولى لغلبة العتق، ولانه لا يقبل الفسخ وهذا ضعيف، لان هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي وثبوت نقله. السادس: الخبر الحاظر لا يرجح على المبيح على ما ظنه قوم، لانهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة.
|
12-06-2012, 08:13 PM | #73 |
|
رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه
الباب الثاني في ترجيح العلل ومجامع مرجع إليه ترجيح العلل خمسة الأول: ما يرجع إلى قوة الأصل الذي منه الانتزاع فإن قوة الأصل تؤكد العلة. الثاني: ما يرجع إلى تقوية نفس العلة في ذاتها. الثالث: ما يرجع إلى قوة طريق إثبات العلة من نص أو إجماع أو أمارة. لرابع: ما يقوي حكم العلة الثابت بها. الخامس: أن تتقوى بشهادة الاصول وموافقتها لها.
القسم الأول: ما يرجع إلى قوة الأصل وهي عشرة: الأول: أن تكونا إحدى العلتين منتزعة من أصل معلوم استقراره في الشرع ضرورة، والاخرى من أصل معلوم، لكن بنظر ودليل فإنهما وإنا كانا معلومين فجاحد الضروري يكفر، وجاحد النظري لا يكفر، فذلك أقوى. فإن قيل: أليس قد قدمتم أنه لا يقدم معلوم على معلوم؟ قلنا: العلتان مظنونتان، وإنما المعلوم أصلاهما، والترجيح للعلة المظنونة. الثاني: أن يكون أحد الأصلين محتملا للنسخ أو ذهب بعض العلماء إلى نسخه، فما سلم عن الاختلاف والاحتمال أولى وأقوى. الثالث: أن يثبت أصل إحدى العلتين بخبر الواحد، والآخر بخبر متواتر وأمر مقطوع به، فإن العمل بخبر الواحد وإن كان واجبا قطعا فهو حق بالاضافة إلى من ظن صدق الراوي، والآخر حق في نفسه مطلقا لا بالاضافة. الرابع: أن يكون أحد الأصلين ثابتا بروايات كثيرة، والآخر برواية واحدة، فإنه يرجح الأول عند من يرجح بكثرة الرواة، ولا يرجح عند من لا يرى ذلك. الخامس: أن يكون أحد الأصلين ثابتا بعموم لم يدخله التخصيص فيقدم على ما ثبت بعموم دخله التخصيص لضعفه. السادس: أن يكون أحد الأصلين ثابتا بصريح النص، والآخر ثبت بتقدير إضمار أو حذف دقيق، فالنص الصريح أولى. السابع: أن يكون أحد الأصلين أصلا بنفسه، والآخر فرعا لاصل آخر، فالفرع ضعيف عند من جوز القياس عليه والاظهر، منع القياس عليه، وكذلك أصل ثبت بخبر الواحد أقوى من أصل ثبت بالقياس على خبر الواحد. الثامن: أن يكون أحد الأصلين مما اتفق القائسون على تعليله والآخر اختلفوا فيه، فالمتفق على تعليله من القائسين، وإن لم يكونوا كل الامة أقرب إلى كونه معلوما من المختلف فيه. التاسع: أن يكون دليل أحد الأصلين مكشوفا معينا، والآخر أجمعوا على أنه ثابت بدليل، فإن لم يكن معينا فيقدم المكشوف، لانه يمكن معرفة رتبته وتقديمه على غيره، والمجهول لا يدري ما رتبته وما وجه معارضته لغيره ومساواته له. العاشر: أن يكون أحد الأصلين مغيرا للنفي الأصلي والآخر مقررا، فالمغير أولى، لانه حكم شرعي وأصل سمعي، والآخر نفي للحكم على الحقيقة. القسم الثاني: ما لا يرجع إلى الأصل ونرجع إلى بقية الاقسام الاربعة نوردها من غير تفصيل لتعلق بعضها بالعض، ويرجع ذلك إلى قريب من عشرين وجها: الأول: أن تثبت إحدى العلتين بنص قاطع، وهذا قد أورد في الترجيح، وهو ضعيف، لان الظن ينمحي في مقابلة القاطع، فلا يبقى معه حتى يحتاج إلى ترجيح، إذ لو بقي معه لتطرق شكنا إليه، ويخرج عن كونه معلوما، وقد بينا أنه لا ترجيح لمعلوم على معلوم ولا لمظنون على مظنون. الثاني: أن تعتضد إحدى العلتين بموافقة قول صحابي انتشر وسكت عنه الآخرون، وهذا يصح على مذهب من لا يرى ذلك إجماعا، أما من اعتقده إجماعا صار عنده قاطعا، ويسقط الظن في مقابلته. الثالث: أن تعتضد بقول صحابي وحده ولم ينتشر، فقد قال قوم: قوله حجة، فإن لم يكن حجة فلا يبعد أن يقوى القياس به في ظن مجتهد، إذ يقول إن كان ما قاله عن توقيف فهو أولى، وإن كان قال ما قاله عن ظن وقياس فهو أولى بفهم مقاصد الشرع منا ويجوز أن لا يترجح عند مجتهد. الرابع: أن يترجح بموافقته بخبر مرسل أو بخبر مردود عنده، لكن قال به بعض العلماء، فهذا مرجح بشرط أن لا يكون قاطعا ببطلان مذهب القائلين به، بل يرى ذلك في محل الاجتهاد. الخامس: أن تشهد الاصول بمثل حكم إحدى العلتين، أعني لجنسها لا لعينها، فإنه إن شهدت لعينها كان قاطعا رافعا للظنون إلى النيات، وشهادة الكفارات لاستواء البدل والمبدل في النية، فهذا أيضا يصلح للترجيح عند من غلب على ظنه ذلك. السادس: أن يكون نفس وجود العلة ضروريا في أحدهما نظريا في الآخر، فإن كانا معلومين أو كان أحدهما متيقنا والآخر مظنونا فإن من أوصاف العلة ما يتيقن، ككون البر قوتا وكون الخمر مسكرا ومنه ما يظن، ككون الكلب نجسا، إذا عللنا منع بيعه بنجاسته وككون التراب مبطلا رائحة النجاسة إذا ألقي في الماء الكثير المتغير لا ساترا، وكذلك علة مركبة من وصفين أحدهما ضروري، والآخر نظري، أو أحدهما معلوم والآخر مظنون، إذا عارضها ما هو ضروري الوصفين أو معلوم الوصفين، لان ما علم مجموع وصفيه أولى مما تطرق الشك أو الظن إلى أحد وصفيه، لان الحكم لا محالة يتبع وجود نفس العلة، فما قوى العلم أو الظن بوجود العلة قوى الظن بحكم العلة. السابع: الترجيح بما يعود، إلى التعلق بالعلم بالعلة، فإذا كان إحدى العلتين حكما ككنونه حراما أو نجسا والاخرى حسيا ككونه قوتا ومسكرا زعموا أن رد الحكم إلى الحكم أولى، حتى أن تعليل الحكم بالحرية والرق أولى من تعليله بالتمييز والعقل، وتعليله بالتكليف أولى من تعليله ب الانسانية، وهذا من الترجيحات الضعيفة. الثامن: أن تكون إحدى العلتين سببا أو سببا للسبب كما لو جعل الزنا والسرقة علة للحد والقطع كان أولى من جعل أخذ مال الغير على سبيل الخفية علة، ومن جعل إيلاج الفرج في الفرج علة حتى يتعدى إلى النباش واللائط، لان تلك العلة استندت إلى الاسم الذي ظهر الحكم به، هذا إذا تساوت العلتان من كل وجه، أما إذا دل الدليل على أن الحكم غير منوط بالسبب الظاهر بل بمعنى تضمنه فالدليل متبع فيه، كما أن القاضي لا يقضي في حالة الغضب لا للغضب، ولكن لكونه ممنوعا من استيفاء الفكر فيجري في الحاقن والجائع، وهو أولى من التعليل بالغضب الذي ينسب الحكم إليه. التاسع: الترجيح بشدة التأثير، ولا نعني بشدة التأثير قيام الدليل على كونه علة، لان الدليل يقوم على المعنى الكائن في نفسه دون الدليل فليكن لكون العلة مؤثرة معنى، ثم إذا تحقق ذلك في نفسه وفي علم الله تعالى ربما نصب الله عليه دليلا معرفا أو أمارة معلنة، وربما لم ينصب دليلا فإذا قوة الدليل المعرف بكونها علة ليس من شدة التأثير في شئ بل فسروا شدة التأثير بوجوه أولها انعكاس العلة مع اطرادها، فهي أولى من التي لا تنعكس عند قوم، إذ دوران الحكم مع عدمها ووجودها نفيا وإثباتا يدل على شدة تأثيرها، كشدة الخمر إذ يزول الحكم بزوالها. الثاني: أن تكون العلة مع كونها علة داعية إلى فعل ما هي علة تحريمه كالشدة فإنها محرمة، وهي داعية إلى الشرب المحرم لما فيها من الاطراب والسرور فهي مع تأثيرها في الحكم أثرت في تحصيل محل الحكم وهو الشرب. الثالث: أن تكون علة ذات وصف واحد، وعارضها علة ذات أوصاف، فقال قوم: الوصف الواحد أولى لان الحكم الثابت به المخالف للنفي الأصلي أكثر فكان تأثيره أكثر فروعا فهي أكثر تأثيرا، وقال قوم: ذات أوصاف أولى، لان الشريعة حنيفية، فالباقي على النفي الأصلي أكثر، ولا يبعد أن يغلب على ظن المجتهد شئ من ذلك. الرابع: أن تكون إحداهما أكثر وقوعا، فهي أكثر تأيرا، فتكون أولى، وهذا بعيد، لان تأثيرا العلة إنما يكون في محل وجودها أما حيث وجود لها كيف يطلب تأثيرها. الخامس: علة يشهد لها أصلان أولى مما يشهد لها أصل واحد عند قوم، وهذا يظهر إن كان طريق الاستنباط مختلفا، وإن كان متساويا فهو ضعيف ولا يبعد أن يقوي ظن مجتهد به، وتكون كثرة الاصول ككثرة الرواة للخبر، مثاله أنا إذا تنازعنا في أن يد السوم لم توجب الضمان، فقال الشافعي رحمه الله: علته أنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق، وعداه إلى المستعير، وقال الخصم: بل علته أنه أخذ ليتملك فيشهد للشافعي في علته رحمه الله يد الغاصب ويد المستعير من الغاصب، ولا يشهد لابي حنيفة رحمه الله إلا يد الرهن، فلا يبعد أن يغلب رجحان علة الشافعي عند مجتهد ويكون كل أصل كأنه شاهد آخر، وكذلك الربا إذا علل بالطعم بشهد له الملح أيضا، وإن علل بالقوت لم يشهد له، فلا يبعد أن يكون ذلك من الترجيحات. العاشر من الترجيحات العلة المثبتة للعموم الذي منه الاستنباط، فهي أولى من المخصصة، قال الله تعالى: {أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} (النساء: 34، المائدة: 6) فبرزت علة تقتضي إخراج المحرم والصغيرة من العموم، وبرزت علة أخرى توافق العموم، فالذي ينفي العموم لمجرده حجة فلا أقل من الترجيح به. وقال قوم: المخصصة أولى، لانها عرفت ما لم يعرف العموم فأفادت، والعلة المقررة للعموم لم تفد مزيدا فكانت أولى، كالمتعدية فإنها أولى من القاصرة عند قوم، وهذا ضعيف، لان المتعدية قررت الملفوظ وألحق به المسكوت وأفادت، والقاصرة لم تفد شيئا حتى قال قائلون: هي فاسدة فتخيل قوم لذلك ترجيح المتعدية، وليس ذلك بصحيح أيضا. وأما المخصصة فخالفت موجب العموم، فكانت أضعف من التي لم تخالف. الحادي عشر: ترجيح العلة بكثرة شبهها بأصلها على التي هي أقل شبها بأصلها، وهذا ضعيف عند من لا يرى مجرد الشبه في الوصف الذي لا يتعلق الحكم به موجبا للحكم، ومن رأى ذلك موجبا فغاينه أن تكون كعلة أخرى، ولا يجب ترجيح علتين على علة واحدة، لان الشئ يترجح بقوته لا بانضمام مثله إليه، كما لا يترجح الحكم الثابت بالكتاب والسنة والإجماع على الثابت بأحد هذه الاصول، ويقرب من هذا قولهم: رد الشئ إلى جنسه أولى من رده إلى غير جنسه، حتى يكون قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياسها على الصوم والحج، لانه أقرب شبها به. وهذا ليس ببعيد، لان اختلاف الاصول يناسب اختلاف الاحكام، فإذا كان جنس المظنون واحدا كان التفاوت أغلب على الظن، وعن هذا جعل مجرد الشبه حجة عند قوم. الثاني عشر: علة أوجبت حكما وزيادة مرجحة على ما لا يوجب الزيادة عند قوم، لان العلة تراد لحكمها، فما كانت فائدتها أكثر فهي أولى حتى قالوا: ما أوجب الجلد والتغريب أولى مما لا يوجب إلا الجلد، وعلى مسافة قالوا: علة تقتضي الوجوب أولى مما تقتضي الندب. وما تقتضي الندب أولى مما تقتضي الاباحة، لان في الواجب معنى الندب وزيادة. الثالث عشر: ترجيح المتعدية على القاصرة وهو ضعيف عند من لا يفسد القاصرة، لان كثرة الفروع بل وجود أصل الفروع لا تبين قوة في ذات العلة، بل ينقدح أن يقال: القاصرة أوفق للنص فهي أولى. الرابع عشر: ترجيح الناقلة عن حكم العقل على المقررة، لا الناقلة أثبتت حكما شرعيا، والمقررة ما أثبتت شيئا، وقال قوم: بل المقررة أولى، لانها معتضدة بحكم العقل الذي يستقل بالنفي لولا هذه العلة، ومثاله علة تقتضي الزكاة في الخضراوات، وأخرى تنفي الزكاة، وعلة توجب الربا في الارز، وأخرى تنفي فإن قيل: فلم صحت العلة المبقية على حكم الأصل ولم تفد شيئا، لانها لو لم تكن علة لكنا نبقي الحكم أيضا، قلنا: إن كان الامر كذلك فلا يصح، كمن علل ليدل على أن هبوب الرياح لا يوجب الصوم والوضوء، بل ينبغي أن يقتضي تفصيلا؟ لا يقتضيه العقل، أو تقتضي زيادة شرط أو إطلاقا لا يقتضيه العقل. كما لو نصب علة لجواز بيع غير القوت، فإن تخصيص غير القوت عن القوت مما لا يقتضيه العقل. الخامس عشر: تقديم العلة المثبتة على النافية، قال به قوم، وهو غير صحيح، لان النفي الذي لا يثبت إلا شرعا كالاثبات، وإن كان نفيا أصليا يرجع إلى ما قدمناه من الناقلة والمقررة، وقد قال الكرخي: العلة الدارئة للحد أولى من الموجبة، وهذا يصح بعد ثبوت قوله عليه السلام: ادرؤوا الحدود بالشبهات ولا يجري في العبادات والكفارات وما لا يسقط بالشبهات، بل إذا كان للوجوب وجه وللسقوط وجه وتعارض الوجهان كان المحل محل شبهة فيسقط لعموم الخبر لا لترجيح الدارئة على الموجبة. السادس عشر: ترجيح علة هي بطريق الأولى على ما هي مثل، كتعليل قبول شهادة التائب وقياسه على ما قبل إقامة حد القذف، وتعليل وجوب كفارة العمد وقياسه على الخطأ وتعليل صحة النكاح عند فساد التسمية قياسا على ترك التسمية، وإن كان ذلك بطريق الأولى فهو أقوى. السابع عشر: رجح قوم العلة الملازمة على التي تفارق في بعض الاحوال، وهو ضعيف إذ رب لازم لا يكون علة، كحمرة الخمر، بل كوجود الخمر والبر. الثامن عشر: رجح قوم علة انتزعت من أصل سلم من المعارضة على علة انتزعت من أصل لم يسلم من المعارضة بمثلها. التاسع عشر: رجح قوم علة توجب حكما أخف، لان الشريعة حنيفية سمحة، ورجح آخرون بالضد، لان التكليف شاق ثقيل، فهذه ترجيحات ضعيفة. العشرون: ترجيح علة توجب في الفرع مثل حكمها على علة توجب في الفرع خلاف حكمها، كتعليل الشافعي رحمه الله في مسألة جنين الامة يوجب حكما مساويا للاصل في التسوية بين الذكر والانثى، وتعليل أبي حنيفة رضي الله عنه يوجب الفرق بين الذكر والانثى في الفرع، إذ أوجب في الانثى من الامة عشر قيمتها، وفي الذكر نصف. عشر قيمته، والأصل هو جنين الحرة، وفي الذكر والانثى منه خمس من الابل، والعلة التي تقطع النظر عن الانوثة والذكورة أولى، لانها أوفق للاصل، فهذه وجوه الترجيحات، وبعضها ضعيف يفيد الظن لبعض المجتهدين دون بعض، ويمكن أن يكون وراء هذه الجملة ترجيحات من جنسها، وفيما ذكرناه تنبيه عليها إن شاء الله تعالى. والكفارات وما لا يسقط بالشبهات، بل إذا كان للوجوب وجه وللسقوط وجه وتعارض الوجهان كان المحل محل شبهة فيسقط لعموم الخبر لا لترجيح الدارئة على الموجبة. السادس عشر: ترجيح علة هي بطريق الأولى على ما هي مثل، كتعليل قبول شهادة التائب وقياسه على ما قبل إقامة حد القذف، وتعليل وجوب كفارة العمد وقياسه على الخطأ وتعليل صحة النكاح عند فساد التسمية قياسا على ترك التسمية، وإن كان ذلك بطريق الأولى فهو أقوى. السابع عشر: رجح قوم العلة الملازمة على التي تفارق في بعض الاحوال، وهو ضعيف إذ رب لازم لا يكون علة، كحمرة الخمر، بل كوجود الخمر والبر. الثامن عشر: رجح قوم علة انتزعت من أصل سلم من المعارضة على علة انتزعت من أصل لم يسلم من المعارضة بمثلها. التاسع عشر: رجح قوم علة توجب حكما أخف، لان الشريعة حنيفية سمحة، ورجح آخرون بالضد، لان التكليف شاق ثقيل، فهذه ترجيحات ضعيفة. العشرون: ترجيح علة توجب في الفرع مثل حكمها على علة توجب في الفرع خلاف حكمها، كتعليل الشافعي رحمه الله في مسألة جنين الامة يوجب حكما مساويا للاصل في التسوية بين الذكر والانثى، وتعليل أبي حنيفة رضي الله عنه يوجب الفرق بين الذكر والانثى في الفرع، إذ أوجب في الانثى من الامة عشر قيمتها، وفي الذكر نصف. عشر قيمته، والأصل هو جنين الحرة، وفي الذكر والانثى منه خمس من الابل، والعلة التي تقطع النظر عن الانوثة والذكورة أولى، لانها أوفق للاصل، فهذه وجوه الترجيحات، وبعضها ضعيف يفيد الظن لبعض المجتهدين دون بعض، ويمكن أن يكون وراء هذه الجملة ترجيحات من جنسها، وفيما ذكرناه تنبيه عليها إن شاء الله تعالى. هذا تمام القول في القطب الرابع وبه وقع الفراغ من الاقطاب الاربعة التي عليها مدار أصول الفقه، وبالله التوفيق. والحمد لله وحده، وصلى الله عليه محمد وعلى آله وسلم تسليما. تم بحمد الله تعالى وتوفيقه كتاب المستصفى من علم الاصول لحجة الاسلام الامام الغزالى رضى الله عنه اللهم امدنا بامداداته وانفعنا ببركاته فى كل وقت وحين |
مواقع النشر (المفضلة) |
كاتب الموضوع | حسن الخليفه احمد | مشاركات | 72 | المشاهدات | 28464 | | | | انشر الموضوع |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|