القبول يا رب - شباب الطريقة الختمية بدائرة ود ابراهيم بأم بدة
مجموعة مدائح ختمية.. شباب الطريقة الختمية بمسجد السيد علي الميرغني ببحري
|
مكتبة الميرغني الإليكترونية خاصة بجميع مؤلفات السادة المراغنة |
إهداءات ^^^ ترحيب ^^^ تهاني ^^^ تعازي ^^^ تعليقات ^^^ إعلانات | |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
01-30-2013, 11:33 AM | #41 | |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*31 باب حُسْنُ إِسْلَامِ الْمَرْءِ
41- قَالَ مَالِكٌ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا." الشرح: قوله: (قال مالك) هكذا ذكره معلقا، ولم يوصله في موضع آخر من هذا الكتاب، وقد وصله أبو ذر الهروي في روايته للصحيح فقال عقبه: أخبرناه النضروي هو العباس بن الفضل قال: حدثنا الحسن بن إدريس قال: حدثنا هشام ابن خالد حدثنا الوليد بن مسلم عن مالك به، (1/ 99) وكذا وصله النسائي من رواية الوليد بن مسلم حدثنا مالك، فذكره أتم مما هنا كما سيأتي، وكذا وصله الحسن بن سفيان من طريق عبد الله بن نافع والبزار من طريق إسحاق الفروي والإسماعيلي من طريق عبد الله بن وهب والبيهقي في الشعب من طريق إسماعيل بن أبي أويس كلهم عن مالك، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى عن مالك، وذكر أن معن بن عيسى رواه عن مالك فقال: " عن أبي هريرة " بدل أبي سعيد، وروايته شاذة، ورواه سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلا. ورويناه في الخلعيات وقد حفظ مالك الوصل فيه وهو أتقن لحديث أهل المدينة من غيره. وقال الخطيب: هو حديث ثابت. وذكر البزار أن مالكا تفرد بوصله. قوله: (إذا أسلم العبد) هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء، وذكره بلفظ المذكر تغليبا. قوله: (فحسن إسلامه) أي: صار إسلامه حسنا باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه واطلاعه عليه، كما دل عليه تفسير الإحسان في حديث سؤال جبريل كما سيأتي. قوله: (يكفر الله) هو بضم الراء لأن " إذا " وإن كانت من أدوات الشرط لكنها لا تجزم، واستعمل الجواب مضارعا وإن كان الشرط بلفظ الماضي لكنه بمعنى المستقبل. وفي رواية البزار: " كفر الله " فواخى بينهما. قوله: (كان أزلفها) كذا لأبي ذر، ولغيره زلفها، وهي بتخفيف اللام كما ضبطه صاحب المشارق. وقال النووي بالتشديد، ورواه الدارقطني من طريق طلحة بن يحيى عن مالك بلفظ: " ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زلفها، ومحا عنه كل خطيئة زلفها " بالتخفيف فيهما. وللنسائي نحوه لكن قال: أزلفها. وزلف بالتشديد وأزلف بمعنى واحد أي: أسلف وقدم، قاله الخطابي. وقال في المحكم: أزلف الشيء: قربه وزلفه مخففا ومثقلا قدمه. وفي الجامع: الزلفة تكون في الخير والشر. وقال في المشارق: زلف بالتخفيف أي: جمع وكسب، وهذا يشمل الأمرين، وأما القربة فلا تكون إلا في الخير، فعلى هذا تترجح رواية غير أبي ذر، لكن منقول الخطابي يساعدها. وقد ثبت في جميع الروايات ما سقط من رواية البخاري وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام، وقوله: " كتب الله " أي: أمر أن بكتب، وللدار قطني من طريق زيد بن شعيب عن مالك بلفظ: " يقول الله لملائكته اكتبوا" فقيل: إن المصنف أسقط ما رواه غيره عمدا لأنه مشكل على القواعد. وقال المازري: الكافر لا يصح منه التقرب، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا لمن يتقرب إليه والكافر ليس كذلك. وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الإشكال، واستضعف ذلك النووي فقال: الصواب الذي عليه المحققون - بل نقل بعضهم فيه الإجماع - أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم، ثم أسلم ومات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له، وأما دعوى أنه مخالف للقواعد فغير مسلم لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا ككفارة الظهار، فإنه لا يلزمه إعادتها إذا أسلم وتجزئه. انتهى. والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلا من الله وإحسانا، أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولا، والحديث إنما تضمن كتابة الثواب ولم يتعرض للقبول، ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقا على إسلامه فيقبل ويثاب إن أسلم وإلا فلا، وهذا قوي، وقد جزم بما جزم به النووي إبراهيم الحربي وابن بطال وغيرهما من القدماء والقرطبي وابن المنير من المتأخرين، (1/ 100) قال ابن المنير: المخالف للقواعد دعوى أن يكتب له ذلك في حال كفره، وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرا، فلا مانع منه كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل، وكما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر، فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة، جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفي الشروط. وقال ابن بطال: لله أن يتفضل على عباده بما شاء ولا اعتراض لأحد عليه. واستدل غيره بأن من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين كما دل عليه القرآن والحديث الصحيح، وهو لو مات على إيمانه الأول لم ينفعه شيء من عمله الصالح، بل يكون هباء منثورا. فدل على أن ثواب عمله الأول يكتب له مضافا إلى عمله الثاني، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سألته عائشة عن ابن جدعان: وما كان يصنعه من الخير هل ينفعه؟ فقال: " إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر. قوله: (وكان بعد ذلك القصاص) أي: كتابة المجازاة في الدنيا، وهو مرفوع بأنه اسم كان، ويجوز أن تكون كان تامة، وعبر بالماضي لتحقق الوقوع فكأنه وقع، كقوله تعالى: (ونادى أصحاب الجنة. ( وقوله: الحسنة مبتدأ وبعشر الخبر والجملة استئنافية، وقوله: إلى سبعمائة متعلق بمقدر أي: منتهية، وحكى الماوردي أن بعض العلماء أخذ بظاهر هذه الغاية فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة، ورد عليه بقوله تعالى: (والله يضاعف لمن يشاء) والآية محتملة للأمرين، فيحتمل أن يكون المراد أنه يضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلها سبعمائة، ويحتمل أنه يضاعف السبعمائة بأن يزيد عليها، والمصرح بالرد عليه حديث ابن عباس المخرج عند المصنف في الرقاق ولفظه: " كتب الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة". قوله: (إلا أن يتجاوز الله عنها) زاد سمويه في فوائده: " إلا أن يغفر الله وهو الغفور " وفيه دليل على الخوارج وغيرهم من المكفرين بالذنوب والموجبين لخلود المذنبين في النار، فأول الحديث يرد على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان لأن الحسن تتفاوت درجاته، وآخره يرد على الخوارج والمعتزلة. الحديث: -42- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا" الشرح: قوله: (عن همام) هو ابن منبه، وهذا الحديث من نسخته المشهورة المروية بإسناد واحد عن عبد الرزاق عن معمر عنه. وقد اختلف العلماء في إفراد حديث من نسخة هل يساق بإسنادها ولو لم يكن مبتدأ به، أو لا؟ فالجمهور على الجواز ومنهم البخاري، وقيل: يمتنع، وقيل: يبدأ أبدا بأول حديث ويذكر بعده ما أراد. وتوسط مسلم فأتى بلفظ يشعر بأن المفرد من جملة النسخة فيقول في مثل هذا إذا انتهى الإسناد: فذكر أحاديث منها كذا، ثم يذكر أي حديث أراد منها. قوله: (إذا أحسن أحدكم إسلامه) كذا له ولمسلم وغيرهما، ولإسحاق بن راهويه في مسنده عن عبد الرزاق: " إذا حسن إسلام أحدكم " وكأنه رواه بالمعنى، لأنه من لازمه. ورواه الإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن معمر كالأول، والخطاب بأحدكم بحسب اللفظ للحاضرين، لكن الحكم عام لهم ولغيرهم باتفاق، وإن حصل التنازع في كيفية التناول أهي بالحقيقة اللغوية أو الشرعية أو بالمجاز. (1/ 101) قوله: (فكل حسنة) ينبئ أن اللام في قوله في الحديث الذي قبله: " الحسنة بعشر أمثالها " للاستغراق. قوله: (بمثلها) زاد مسلم وإسحاق والإسماعيلي في روايتهم: " حتى يلقى الله عز وجل". |
|
|
01-30-2013, 11:35 AM | #42 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*32 باب أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ
الشرح: قوله: (باب أحب الدين إلى الله أدومه) مراد المصنف الاستدلال على أن الإيمان يطلق على الأعمال. لأن المراد بالدين هنا العمل، والدين الحقيقي هو الإسلام، والإسلام الحقيقي مرادف للإيمان، فيصح بهذا مقصوده. ومناسبته لما قبله من قوله: " عليكم بما تطيقون " لأنه لما قدم أن الإسلام يحسن بالأعمال الصالحة أراد أن ينبه على أن جهاد النفس في ذلك إلى حد المغالبة غير مطلوب، وقد تقدم بعض هذا المعنى في " باب الدين يسر " وفي هذا ما ليس في ذاك على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى. الحديث: -43- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ. قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: فُلَانَةُ - تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا - قَالَ: " مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا" وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. الشرح: قوله: (حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان، " عن هشام " هو ابن عروة بن الزبير. قوله: (فقال من هذه) للأصيلي " قال من هذه " بغير فاء، ويوجه على أنه جواب سؤال مقدر، كأن قائلا قال: ماذا قال حين دخل؟ قالت: قال من هذه. قوله: (قلت فلانة) هذه اللفظة كناية عن كل علم مؤنث فلا ينصرف، زاد عبد الرزاق عن معمر عن هشام في هذا الحديث " حسنة الهيئة". قوله: (تذكر) بفتح التاء الفوقانية، والفاعل عائشة. وروي بضم الياء التحتانية على البناء لما لم يسم فاعله، أي: يذكرون أن صلاتها كثيرة. ولأحمد عن يحيى القطان: " لا تنام، تصلي " وللمصنف في كتاب صلاة الليل معلقا عن القعنبي عن مالك عن هشام، وهو موصول في الموطأ للقعنبي وحده في آخره: " لا تنام بالليل " وهذه المرأة وقع في رواية مالك المذكورة أنها من بني أسد، ولمسلم من رواية الزهري عن عروة في هذا الحديث أنها الحولاء - بالمهملة والمد - وهو اسمها بنت تويت بمثناتين مصغرا ابن حبيب - بفتح المهملة - ابن أسد بن عبد العزى من رهط خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها-، وفي روايته أيضا: " وزعموا أنها لا تنام الليل " وهذا يؤيد الرواية الثانية في أنها نقلت عن غيرها. فإن قيل: وقع في حديث الباب حديث هشام دخل عليها وهي عندها. وفي رواية الزهري أن الحولاء مرت بها فظاهره التغاير، فيحتمل أن تكون المارة امرأة غيرها من بني أسد أيضا أو أن قصتها تعددت. والجواب: أن القصة واحدة، ويبين ذلك رواية محمد بن إسحاق عن هشام في هذا الحديث ولفظه: " مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحولاء بنت تويت" أخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل له، فيحمل على أنها كانت أولا عند عائشة فلما دخل - صلى الله عليه وسلم - على عائشة قامت المرأة كما في رواية حماد بن سلمة الآتية، فلما قامت لتخرج مرت به في خلال ذهابها فسأل عنها، وبهذا تجتمع الروايات. (تنبيه) : قال ابن التين: لعلها أمنت عليها الفتنة فلذلك مدحتها في وجهها. قلت: لكن رواية حماد بن سلمة عن هشام في هذا الحديث تدل على أنها ما ذكرت ذلك إلا بعد أن خرجت المرأة، أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده من طريقه ولفظه: " كانت عندي امرأة، فلما قامت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: من هذه يا عائشة؟ قلت: يا رسول الله هذه فلانة، وهي أعبد أهل المدينة، فذكر الحديث.(1/ 102) قوله: (مه) قال الجوهري: هي كلمة مبنية على السكون، وهي اسم سمي به الفعل، والمعنى اكفف، يقال: مهمهته إذا زجرته، فإن وصلت نونت فقلت: مه. وقال الداودي: أصل هذه الكلمة " ما هذا " كالإنكار فطرحوا بعض اللفظة فقالوا: مه فصيروا الكلمتين كلمة، وهذا الزجر يحتمل أن يكون لعائشة، والمراد نهيها عن مدح المرأة بما ذكرت، ويحتمل أن يكون المراد النهي عن ذلك الفعل، وقد أخذ بذلك جماعة من الأئمة، فقالوا: يكره صلاة جميع الليل كما سيأتي في مكانه. قوله: (عليكم بما تطيقون) أي: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون هذا خاصا بصلاة الليل، ويحتمل أن يكون عاما في الأعمال الشرعية. قلت: سبب وروده خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبر. وقد عبر بقوله: " عليكم " مع أن المخاطب النساء طلبا لتعميم الحكم، فغلبت الذكور على الإناث. قوله: (فوالله) فيه جواز الحلف من غير استحلاف. وقد يستحب إذا كان في تفخيم أمر من أمور الدين أو حث عليه أو تنفير من محذور. قوله: (لا يمل الله حتى تملوا) هو بفتح الميم في الموضعين، والملال: استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو محال على الله تعالى باتفاق. قال الإسماعيلي وجماعة من المحققين: إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازا كما قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وأنظاره، قال القرطبي: وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالا، عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببه. وقال الهروي: معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله فتزهدوا في الرغبة إليه. وقال غيره: معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، وهذا كله بناء على أن " حتى " على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم. وجنح بعضهم إلى تأويلها فقيل: معناه لا يمل الله إذا مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب يقولون: لا أفعل كذا حتى يبيض القار أو حتى يشيب الغراب. ومنه قولهم في البليغ: لا ينقطع حتى ينقطع خصومه، لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية. وهذا المثال أشبه من الذي قبله لأن شيب الغراب ليس ممكنا عادة، بخلاف الملل من العابد. وقال المازري: قيل إن حتى هنا بمعنى الواو، فيكون التقدير: لا يمل وتملون، فنفى عنه الملل وأثبته لهم. قال: وقيل حتى بمعنى حين. والأول أليق وأجرى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية. ويؤيده ما وقع في بعض طرق حديث عائشة بلفظ: " اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل " لكن في سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف. وقال ابن حبان في صحيحه: هذا من ألفاظ التعارف التي لا يتهيأ للمخاطب أن يعرف القصد مما يخاطب به إلا بها، وهذا رأيه في جميع المتشابه. قوله: (أحب) قال القاضي أبو بكر بن العربي: معنى المحبة من الله تعلق الإرادة بالثواب أي: أكثر الأعمال ثوابا أدومها. قوله: (إليه) أي رواية المستملي وحده " إلى الله " وكذا في رواية عبدة عن هشام عند إسحاق بن راهويه في مسنده، وكذا للمصنف ومسلم من طريق أبي سلمة، ولمسلم عن القاسم كلاهما عن عائشة، وهذا موافق لترجمة الباب. وقال باقي الرواة عن هشام: " وكان أحب الدين إليه " أي: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصرح به المصنف في الرقاق في رواية مالك عن هشام، (1/ 103) وليس بين الروايتين تخالف، لأن ما كان أحب إلى الله كان أحب إلى رسوله. قال النووي: بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله، بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم، بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة. وقال ابن الجوزي: إنما أحب الدائم لمعنيين: أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه. ثانيهما: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتا ما كمن لازم يوما كاملا ثم انقطع. وزاد المصنف ومسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة: " وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل". *3*33 باب زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى -وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) وَقَالَ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ. الشرح: قوله: (باب زيادة الإيمان ونقصانه) تقدم له قبل بستة عشر بابا " باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال " وأورد فيه حديث أبي سعيد الخدري بمعنى حديث أنس الذي أورده هنا، فتعقب عليه بأنه تكرار، وأجيب عنه: بأن الحديث لما كانت الزيادة والنقصان فيه باعتبار الأعمال أو باعتبار التصديق، ترجم لكل من الاحتمالين، وخص حديث أبي سعيد بالأعمال، لأن سياقه ليس فيه تفاوت بين الموزونات، بخلاف حديث أنس ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب من وزن الشعيرة والبرة والذرة. قال ابن بطال: التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل، فمن قل علمه كان تصديقه مثلا بمقدار ذرة، والذي فوقه في العلم تصديقه بمقدار برة، أو شعيرة. إلا أن أصل التصديق الحاصل في قلب كل أحد منهم لا يجوز عليه النقصان، ويجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة. انتهى. وقد تقدم كلام النووي في أول الكتاب بما يشير إلى هذا المعنى، ووقع الاستدلال في هذه الآية بنظير ما أشار إليه البخاري لسفيان ابن عيينة، أخرجه أبو نعيم في ترجمته من الحلية من طريق عمرو بن عثمان الرقي قال: قيل لابن عيينة: إن قوما يقولون الإيمان كلام. فقال: كان هذا قبل أن تنزل الأحكام، فأمر الناس أن يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم، فلما علم الله صدقهم أمرهم بالصلاة ففعلوا، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار. فذكر الأركان إلى أن قال: فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قال: (اليوم أكملت لكم دينكم) الآية. فمن ترك شيئا من ذلك كسلا أو مجونا أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان، ومن تركها جاحدا كان كافرا. انتهى ملخصا. وتبعه أبو عبيد في كتاب الإيمان له فذكر نحوه وزاد: أن بعض المخالفين لما ألزم بذلك أجاب: بأن الإيمان ليس هو مجموع الدين، إنما الدين ثلاثة أجزاء: الإيمان جزء، والأعمال جزآن، لأنها فرائض ونوافل. وتعقبه أبو عبيد بأنه خلاف ظاهر القرآن، (1/ 104) وقد قال الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) ، والإسلام حيث أطلق مفردا دخل فيه الإيمان كما تقدم تقريره. فإن قيل: فلم أعاد في هذا الباب الآيتين المذكورتين فيه وقد تقدمتا في أول كتاب الإيمان؟ فالجواب: أنه أعادهما ليوطئ بهما معنى الكمال المذكور في الآية الثالثة. لأن الاستدلال بهما نص في الزيادة، وهو يستلزم النقص. وأما الكمال فليس نصا في الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله الزيادة، ومن ثم قال المصنف: " فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص" ولهذه النكتة عدل في التعبير للآية الثالثة عن أسلوب الآيتين حيث قال أولا: " وقول الله " وقال ثانيا: " وقال"، وهذا التقرير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأن آية (أكملت لكم) لا دليل فيها على مراده، لأن الإكمال إن كان بمعنى إظهار الحجة على المخالفين أو بمعنى إظهار أهل الدين على المشركين فلا حاجة للمصنف فيه، وإن كان بمعنى إكمال الفرائض لزم عليه أنه كان قبل ذلك ناقصا، وأن من مات من الصحابة قبل نزول الآية كان إيمانه ناقصا، وليس الأمر كذلك لأن الإيمان لم يزل تاما. ويوضح دفع هذا الاعتراض جواب القاضي أبي بكر بن العربي: بأن النقص أمر نسبي، لكن منه ما يترتب عليه الذم ومنه ما لا يترتب. فالأول: ما نقصه بالاختيار كمن علم وظائف الدين ثم تركها عمدا. والثاني: ما نقصه بغير اختيار كمن لم يعلم أو لم يكلف، فهذا لا يذم بل يحمد من جهة أنه كان قلبه مطمئنا، بأنه لو زيد لقبل ولو كلف لعمل، وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض. ومحصله أن النقص بالنسبة إليهم صوري نسبي، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى. وهذا نظير قول من يقول: إن شرع محمد أكمل من شرع موسى وعيسى، لاشتماله من الأحكام على ما لم يقع في الكتب التي قبله، ومع هذا فشرع موسى في زمانه كان كاملا، وتجدد في شرع عيسى بعده ما تجدد، فالأكملية أمر نسبي كما تقرر. والله أعلم. |
01-30-2013, 11:35 AM | #43 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
الحديث:
-44- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ." قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مِنْ إِيمَانٍ" مَكَانَ " مِنْ خَيْرٍ" الشرح: قوله: (هشام) هو ابن أبي عبد الله الدستوائي، يكنى أبا بكر، وفي طبقته هشام بن حسان لكنه لم يرو هذا الحديث. قوله: (يخرج) بفتح أوله وضم الراء، ويروى بالعكس، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى: " أخرجوا". قوله: (من قال لا إله إلا الله وفي قلبه) فيه دليل على اشتراط النطق بالتوحيد، أو المراد بالقول هنا القول النفسي، فالمعنى: من أقر بالتوحيد وصدق، فالإقرار لا بد منه، فلهذا أعاده في كل مرة. والتفاوت يحصل في التصديق على الوجه المتقدم. فإن قيل: فكيف لم يذكر الرسالة؟ فالجواب: أن المراد المجموع، وصار الجزء الأول علما عليه كما تقول: قرأت: (قل هو الله أحد) ، أي: السورة كلها. قوله: (برة) بضم الموحدة وتشديد الراء المفتوحة وهي القمحة، ومقتضاه أن وزن البرة دون وزن الشعيرة لأنه قدم الشعيرة وتلاها بالبرة ثم الذرة، وكذلك هو في بعض البلاد. فإن قيل: إن السياق بالواو وهي لا ترتب. فالجواب: أن رواية مسلم من هذا الوجه بلفظ: " ثم " وهي للترتيب. قوله: (ذرة) بفتح المعجمة وتشديد الراء المفتوحة، وصحفها شعبة - فيما رواه مسلم من طريق يزيد بن زريع عنه - فقال ذرة بالضم وتخفيف الراء، وكأن الحامل له على ذلك كونها من الحبوب فناسبت الشعيرة والبرة. قال مسلم في روايته: قال يزيد: صحف فيها أبو بسطام، يعني: شعبة. ومعنى الذرة قيل: هي أقل الأشياء الموزونة، وقيل: هي الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رءوس الإبر، وقيل: هي النملة الصغيرة، ويروى عن ابن عباس أنه قال: إذا وضعت كفك في التراب ثم نفضتها فالساقط هو الذر. ويقال: إن أربع ذرات وزن خردلة. وللمصنف في أواخر التوحيد من طريق حميد عن أنس مرفوعا: " أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، ثم من كان في قلبه أدنى شيء " وهذا معنى الذرة. قوله: (قال أبان) هو ابن يزيد العطار، وهذا التعليق وصله الحاكم في كتاب الأربعين له من طريق أبي سلمة. قال: حدثنا أبان بن يزيد.. فذكر الحديث.(1/ 105) وفائدة إيراد المصنف له من جهتين: إحداهما: تصريح قتادة فيه بالتحديث عن أنس. ثانيتهما: تعبيره في المتن بقوله: " من إيمان " بدل قوله: " من خير"، فبين أن المراد بالخير هنا الإيمان. فإن قيل على الأولى: لم لم يكتف بطريق أبان السالمة من التدليس ويسوقها موصولة؟ فالجواب: أن أبان وإن كان مقبولا لكن هشام أتقن منه وأضبط. فجمع المصنف بين المصلحتين. والله الموفق. وسيأتي الكلام على بقية هذا المتن في كتاب التوحيد، حيث ذكر المصنف حديث الشفاعة الطويل من هذا الوجه، ورجال هذا الحديث موصولا ومعلقا كلهم بصريون. الحديث: -45- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا) قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. الشرح: قوله: (حدثنا الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون) مراده " أنه سمع"، وجرت عادتهم بحذف " أنه " في مثل هذا خطا لا نطقا كقال. قوله: (أن رجلا من اليهود) هذا الرجل هو كعب الأحبار، بين ذلك مسدد في مسنده والطبري في تفسيره والطبراني في الأوسط، كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة عن عبادة بن نسي - بضم النون وفتح المهملة - عن إسحاق بن خرشة عن قبيصة بن ذؤيب عن كعب. وللمصنف في المغازي من طريق الثوري عن قيس بن مسلم، أن ناسا من اليهود. وله في التفسير من هذا الوجه بلفظ: قالت اليهود. فيحمل على أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة، وتكلم كعب على لسانهم. قوله: (لاتخذنا.الخ) أي: لعظمناه وجعلناه عيدا لنا في كل سنة، لعظم ما حصل فيه من إكمال الدين. والعيد فعل من العود، وإنما سمي به لأنه يعود في كل عام. قوله: (نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -) زاد مسلم عن عبد بن حميد عن جعفر بن عون في هذا الحديث ولفظه: " إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه"، وزاد عن جعفر بن عون " والساعة التي نزلت فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم -". فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال لأنه قال: لاتخذناه عيدا، وأجاب عمر - رضي الله عنه - بمعرفة الوقت والمكان، ولم يقل جعلناه عيدا؟ والجواب عن هذا: أنها نزلت في أخريات نهار عرفة، ويوم العيد إنما يتحقق بأوله، وقد قال الفقهاء: إن رؤية الهلال بعد الزوال للقابلة، قاله هكذا بعض من تقدم، وعندي أن هذه الرواية اكتفى فيها بالإشارة، وإلا فرواية إسحاق عن قبيصة التي قدمناها قد نصت على المراد ولفظه: " نزلت يوم جمعة يوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد" لفظ الطبري والطبراني: " وهما لنا عيدان " وكذا عند الترمذي من حديث ابن عباس: " أن يهوديا سأله عن ذلك فقال: نزلت في يوم عيدين، يوم جمعة ويوم عرفة " فظهر أن الجواب تضمن أنهم اتخذوا ذلك اليوم عيدا وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة عيدا لأنه ليلة العيد، وهكذا كما جاء في الحديث الآتي في الصيام: " شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة" فسمي رمضان عيد لأنه يعقبه العيد. فإن قيل: كيف دلت هذه القصة على ترجمة الباب؟ (1/ 106) أجيب: من جهة أنها بينت أن نزولها كان بعرفة، وكان ذلك في حجة الوداع التي هي آخر عهد البعثة، حين تمت الشريعة وأركانها. والله أعلم. وقد جزم السدي بأنه لم ينزل بعد هذه الآية شيء من الحلال والحرام. |
01-31-2013, 12:49 PM | #44 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*34 باب الزَّكَاةُ مِنْ الْإِسْلَامِ
وَقَوْلُهُ: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) الشرح: قوله: (باب الزكاة من الإسلام.وما أمروا) كذا لأبي ذر، ولغيره: " قول الله وما أمروا " ويأتي فيه ما مضى في " باب الصلاة من الإيمان"، والآية دالة على ما ترجم له، لأن المراد بقوله: (دين القيمة) دين الإسلام. والقيمة: المستقيمة، وقد جاء قام بمعنى استقام في قوله تعالى: (أمة قائمة) أي: مستقيمة. وإنما خص الزكاة بالترجمة لأن باقي ما ذكر في الآية والحديث قد أفرده بتراجم أخرى. الحديث: -46- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَصِيَامُ رَمَضَانَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزَّكَاةَ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ. قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ." الشرح: رجال إسناد هذا الحديث كلهم مدنيون، ومالك والد أبي سهيل هو ابن أبي عامر الأصبحي حليف طلحة بن عبيد الله، وإسماعيل هو ابن أبي أويس ابن أخت الإمام مالك، فهو من رواية إسماعيل عن خاله عن عمه عن أبيه عن حليفه، فهو مسلسل بالأقارب كما هو مسلسل بالبلد. قوله: (جاء رجل) زاد أبو ذر: " من أهل نجد " وكذا هو في الموطأ ومسلم. قوله: (ثائر الرأس) هو مرفوع على الصفة، ويجوز نصبه على الحال، والمراد أن شعره متفرق من ترك الرفاهية، ففيه إشارة إلى قرب عهده بالوفادة، وأوقع اسم الرأس على الشعر إما مبالغة أو لأن الشعر منه ينبت. قوله: (يسمع) بضم الياء على البناء للمفعول، أو بالنون المفتوحة للجمع، وكذا في " يفقه". قوله (دوي) بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء، كذا في روايتنا. وقال القاضي عياض: جاء عندنا في البخاري بضم الدال. قال: والصواب الفتح. وقال الخطابي: الدوي: صوت مرتفع متكرر ولا يفهم. وإنما كان كذلك لأنه نادى من بعد. وهذا الرجل جزم ابن بطال وآخرون بأنه ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد بن بكر. والحامل لهم على ذلك إيراد مسلم لقصته عقب حديث طلحة، ولأن في كل منهما أنه بدوي، وأن كلا منهما قال في آخر حديثه: " لا أزيد على هذا ولا أنقص". لكن تعقبه القرطبي بأن سياقهما مختلف، وأسئلتهما متباينة، قال: ودعوى أنهما قصة واحدة دعوى فرط، وتكلف شطط، من غير ضرورة. والله أعلم. وقواه بعضهم بأن ابن سعد وابن عبد البر وجماعة لم يذكروا لضمام إلا الأول، وهذا غير لازم.(1/ 107) قوله: (فإذا هو يسأل عن الإسلام) أي: عن شرائع الإسلام، ويحتمل أنه سأل عن حقيقة الإسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها، أو علم أنه إنما يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذكرها ولم ينقلها الراوي لشهرتها، وإنما لم يذكر الحج إما لأنه لم يكن فرض بعد أو الراوي اختصره، ويؤيد هذا الثاني ما أخرجه المصنف في الصيام من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل في هذا الحديث قال: فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بشرائع الإسلام، فدخل فيه باقي المفروضات بل والمندوبات. قوله: (خمس صلوات) في رواية إسماعيل بن جعفر المذكورة أنه قال في سؤاله: أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: الصلوات الخمس. فتبين بهذا مطابقة الجواب للسؤال. ويستفاد من سياق مالك: أنه لا يجب شيء من الصلوات في كل يوم وليلة غير الخمس، خلافا لمن أوجب الوتر أو ركعتي الفجر أو صلاة الضحى أو صلاة العيد أو الركعتين بعد المغرب. قوله: (هل على غيرها؟ قال لا إلا أن تطوع) تطوع بتشديد الطاء والواو، وأصله تتطوع بتاءين فأدغمت إحداهما، ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما. واستدل بهذا على أن الشروع في التطوع يوجب إتمامه تمسكا بأن الاستثناء فيه متصل، قال القرطبي: لأنه نفي وجوب شيء آخر إلا ما تطوع به، والاستثناء من النفي إثبات، ولا قائل بوجوب التطوع، فيتعين أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوع فيلزمك إتمامه. وتعقبه الطيبي بأن ما تمسك به مغالطة، لأن الاستثناء هنا من غير الجنس، لأن التطوع لا يقال فيه: " عليك " فكأنه قال: لا يجب عليك شيء، إلا إن أردت أن تطوع فذلك لك. وقد علم أن التطوع ليس بواجب. فلا يجب شيء آخر أصلا.كذا قال. وحرف المسألة دائر على الاستثناء، فمن قال: إنه متصل تمسك بالأصل، ومن قال: إنه منقطع احتاج إلى دليل، والدليل عليه ما روى النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحيانا ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام - إذا كانت نافلة - بهذا النص في الصوم والقياس في الباقي. فإن قيل: يرد الحج، قلنا: لا، لأنه امتاز عن غيره بلزوم المضي في فاسده فكيف في صحيحه. وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفرضه. والله أعلم. على أن في استدلال الحنفية نظرا لأنهم لا يقولون بفرضية الإتمام، بل بوجوبه. واستثناء الواجب من الفرض منقطع لتباينهما. وأيضا فإن الاستثناء من النفي عندهم ليس للإثبات بل مسكوت عنه. وقوله: " إلا أن تطوع " استثناء من قوله لا، أي: لا فرض عليك غيرها. قوله: (وذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة) في رواية إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة؟ قال: فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام، فتضمنت هذه الرواية أن في القصة أشياء أجملت، منها بيان نصب الزكاة فإنها لم تفسر في الروايتين، وكذا أسماء الصلوات، وكأن السبب فيه شهرة ذلك عندهم، أو القصد من القصة بيان أن المتمسك بالفرائض ناج وإن لم يفعل النوافل. قوله: (والله) في رواية إسماعيل بن جعفر فقال: " والذي أكرمك". وفيه جواز الحلف في الأمر المهم، وقد تقدم. قوله: (أفلح إن صدق) وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن جعفر المذكورة: " أفلح وأبيه إن صدق " أو " دخل الجنة وأبيه إن صدق". ولأبي داود مثله لكن بحذف " أو". فإن قيل: ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء؟ أجيب: بأن ذلك كان قبل النهي، أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف، كما جرى على لسانهم عقري، حلقي وما أشبه ذلك، أو فيه إضمار اسم الرب كأنه قال: ورب أبيه، وقيل: هو خاص ويحتاج إلى دليل، (1/ 108) وحكى السهيلي عن بعض مشايخه أنه قال: هو تصحيف، وإنما كان والله، فقصرت اللامان. واستنكر القرطبي هذا وقال: إنه يجزم الثقة بالروايات الصحيحة. وغفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ: وأبيه، لم تصح، لأنها ليست في الموطأ، وكأنه لم يرتض الجواب فعدل إلى رد الخبر، وهو صحيح لا مرية فيه. وأقوى الأجوبة الأولان. وقال ابن بطال: دل قوله: " أفلح إن صدق " على أنه إن لم يصدق فيما التزم لا يفلح، وهذا بخلاف قول المرجئة. فإن قيل: كيف أثبت له الفلاح بمجرد ما ذكر مع أنه لم يذكر المنهيات؟ أجاب: ابن بطال باحتمال أن يكون ذلك وقع قبل ورود فرائض النهي. وهو عجيب منه لأنه جزم بأن السائل ضمام، وأقدم ما قيل فيه إنه وفد سنة خمس، وقيل بعد ذلك، وقد كان أكثر المنهيات واقعا قبل ذلك. والصواب: أن ذلك داخل في عموم قوله: " فأخبره بشرائع الإسلام " كما أشرنا إليه. فإن قيل أما فلاحه بأنه لا ينقص فواضح، وأما بأن لا يزيد فكيف يصح؟ أجاب النووي: بأنه أثبت له الفلاح لأنه أتى بما عليه. وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحا، لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى. فإن قيل فكيف أقره على حلفه وقد ورد النكير على من حلف أن لا يفعل خيرا؟ أجيب: بأن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جار على الأصل بأنه لا إثم على غير تارك الفرائض، فهو مفلح وإن كان غيره أكثر فلاحا منه. وقال الطيبي: يحتمل أن يكون هذا الكلام صدر منه على طريق المبالغة في التصديق والقبول، أي قبلت كلامك قبولا لا مزيد عليه من جهة السؤال، ولا نقصان فيه من طريق القبول. وقال ابن المنير: يحتمل أن تكون الزيادة والنقص تتعلق بالإبلاغ، لأنه كان وافد قومه ليتعلم ويعلمهم. قلت: والاحتمالان مردودان برواية إسماعيل بن جعفر، فإن نصها: " لا أتطوع شيئا، ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا". وقيل: مراده بقوله: لا أزيد ولا أنقص أي: لا أغير صفة الفرض كمن ينقص الظهر مثلا ركعة أو يزيد المغرب، قلت: ويعكر عليه أيضا لفظ التطوع في رواية إسماعيل بن جعفر. والله أعلم. |
01-31-2013, 12:50 PM | #45 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*35 باب اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ مِنْ الْإِيمَانِ
الشرح: قوله: (باب اتباع الجنائز من الإيمان) ختم المصنف معظم التراجم التي وقعت له من شعب الإيمان بهذه الترجمة، لأن ذلك آخر أحوال الدنيا. وإنما أخر ترجمة أداء الخمس من الإيمان لمعنى سنذكره هناك. ووجه الدلالة من الحديث للترجمة قد نبهنا عليه في نظائره قبل. الحديث: -47- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَنْجُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّه يَرْجِعُ مِنْ الْأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ. وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ" تَابَعَهُ عُثْمَانُ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. نَحْوَهُ الشرح: قوله: (المنجوفي) هو بفتح الميم وسكون النون وضم الجيم وبعد الواو الساكنة فاء نسبة إلى جد جده منجوف السدوسي، وهو بصري، وكذا باقي رجال الإسناد غير الصحابي.(1/ 109) وروح بفتح الراء هو ابن عبادة القيسي، وعوف هو ابن أبي جميلة بفتح الجيم الأعرابي بفتح الهمزة، وإنما قيل له ذلك لفصاحته وكنيته أبو سهل، واسم أبيه بندويه - بموحدة مفتوحة ثم نون ساكنة ثم دال مهملة - بوزن راهويه، والحسن هو ابن أبي الحسن البصري، ومحمد هو ابن سيرين، وهو مجرور بالعطف على الحسن، فالحسن وابن سيرين حدثنا به عوفا عن أبي هريرة إما مجتمعين وإما متفرقين، فأما ابن سيرين فسماعه عن أبي هريرة صحيح، وأما الحسن فمختلف في سماعه منه، والأكثر على نفيه وتوهيم من أثبته، وهو مع ذلك كثير الإرسال فلا تحمل عنعنته على السماع، وإنما أورده المصنف كما سمع، وقد وقع له نظير هذا في قصة موسى، فإنه أخرج فيها حديثا من طريق روح بن عبادة بهذا الإسناد. وأخرج أيضا في بدء الخلق من طريق عوف عنهما عن أبي هريرة حديثا آخر، واعتماده في كل ذلك على محمد بن سيرين. والله أعلم. قوله: (من اتبع) هو بالتشديد، وللأصيلي " تبع " بحذف الألف وكسر الموحدة، وقد تمسك بهذا اللفظ من زعم أن المشي خلفها أفضل، ولا حجة فيه لأنه يقال تبعه إذا مشى خلفه أو إذا مر به فمشى معه، وكذلك اتبعه بالتشديد وهو افتعل منه، فإذا هو مقول بالاشتراك، وقد بين المراد الحديث الآخر المصحح عند ابن حبان وغيره من حديث ابن عمر في المشي أمامها، وأما أتبعه بالإسكان فهو بمعنى لحقه إذا كان سبقه، ولم تأت به الرواية هنا. قوله: (وكان معه) أي: مع المسلم، وللكشميهني " معها " أي: مع الجنازة. قوله: (حتى يصلي) بكسر اللام ويروى بفتحها، فعلى الأول لا يحصل الموعود به إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثاني قد يقال: يحصل له ذلك ولو لم يصل، أما إذا قصد الصلاة وحال دونه مانع فالظاهر حصول الثواب له مطلقا، والله أعلم. قوله: (ويفرغ) بضم أوله وفتح الراء، ويروى بالعكس، وقد أثبتت هذه الرواية أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والدفن، وأن الصلاة دون الدفن يحصل بها قيراط واحد، وهذا هو المعتمد خلافا لمن تمسك بظاهر بعض الروايات فزعم أنه يحصل بالمجموع ثلاثة قراريط، وسنذكر بقية مباحثه وفوائده في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. قوله: (تابعه) أي: روح بن عبادة، وعثمان هو ابن الهيثم وهو من شيوخ البخاري، فإن كان سمع هذا الحديث منه فهو له أعلى بدرجة، لكنه ذكر الموصول عن روح لكونه أشد إتقانا منه، ونبه برواية عثمان على أن الاعتماد في هذا السند على محمد بن سيرين فقط لأنه لم يذكر الحسن، فكأن عوفا كان ربما ذكره وربما حذفه، وقد حدث به المنجوفي شيخ البخاري مرة بإسقاط الحسن، أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريقه، ومتابعة عثمان هذه وصلها أبو نعيم في المستخرج قال: حدثنا أبو إسحاق بن حمزة حدثنا أبو طالب بن أبي عوانة حدثنا سليمان بن سيف حدثنا عثمان بن الهيثم.. فذكر الحديث، ولفظه موافق لرواية روح إلا في قوله: وكان معها فإنه قال بدلها: " فلزمها". وفي قوله ويفرغ من دفنها فإنه قال بدلها: " وتدفن". وقال في آخره: " فله قيراط " بدل قوله: فإنه يرجع بقيراط، والباقي سواء. ولهذا الاختلاف في اللفظ قال المصنف: " نحوه " وهو بفتح الواو، أي: بمعناه. |
01-31-2013, 12:51 PM | #46 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*36 باب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ، وَمَا يُحْذَرُ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (1/ 110) الشرح: قوله: (باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر) هذا الباب معقود للرد على المرجئة خاصة وإن كان أكثر ما مضى من الأبواب قد تضمن الرد عليهم، لكن قد يشركهم غيرهم من أهل البدع في شيء منها، بخلاف هذا. والمرجئة - بضم الميم وكسر الجيم بعدها ياء مهموزة ويجوز تشديدها بلا همز - نسبوا إلى الإرجاء وهو التأخير، لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان فقالوا: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط ولم يشترط جمهورهم النطق، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلا، ومقالاتهم مشهورة في كتب الأصول. ومناسبة إيراد هذه الترجمة عقب التي قبلها من جهة أن اتباع الجنازة مظنة لأن يقصد بها مراعاة أهلها أو مجموع الأمرين، وسياق الحديث يقتضي أن الأجر الموعود به إنما يحصل لمن صنع ذلك احتسابا أي: خالصا، فعقبه بما يشير إلى أنه قد يعرض للمرء ما يعكر على قصده الخالص فيحرم به الثواب الموعود وهو لا يشعر. فقوله: " أن يحبط عمله " أي يحرم ثواب عمله لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه. وبهذا التقرير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأنه يقوي مذهب الإحباطية الذين يقولون: إن السيئات يبطلن الحسنات. وقال القاضي أو بكر بن العربي في الرد عليهم: القول الفصل في هذا أن الإحباط إحباطان: أحدهما: إبطال الشيء للشيء، وإذهابه جملة كإحباط الإيمان للكفر والكفر للإيمان، وذلك في الجهتين إذهاب حقيقي. ثانيهما: إحباط الموازنة إذا جعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة، فمن رجحت حسناته نجا، ومن رجحت سيئاته وقف في المشيئة: إما أن يغفر له وإما أن يعذب. فالتوقيف إبطال ما، لأن توقيف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها، والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار، ففي كل منهما إبطال نسبي أطلق عليه اسم الإحباط مجازا، وليس هو إحباط حقيقة لأنه إذا أخرج من النار وأدخل الجنة عاد إليه ثواب عمله، وهذا بخلاف قول الإحباطية الذين سووا بين الإحباطيين وحكموا على العاصي بحكم الكافر، وهم معظم القدرية. والله الموفق. قوله: (وقال إبراهيم التيمي) هو من فقهاء التابعين وعبادهم، وقوله: " مكذبا " يروى بفتح الذال يعني: خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفا لقولي فيقول: لو كنت صادقا ما فعلت خلاف ما تقول، وإنما قال ذلك لأنه كان يعظ الناس. ويروى بكسر الذال وهي رواية الأكثر، ومعناه أنه مع وعظه الناس لم يبلغ غاية العمل. وقد ذم الله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصر في العمل فقال: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) فخشي أن يكون مكذبا أي: مشابها للمكذب، وهذا التعليق وصله المصنف في تاريخه عن أبي نعيم وأحمد بن حنبل في الزهد عن ابن مهدي كلاهما عن سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن إبراهيم المذكور. قوله: (وقال ابن أبي ملكية: الخ) هذا التعليق وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه، لكن أبهم العدد. وكذا أخرجه محمد بن نصر المروزي مطولا في كتاب الإيمان له، وعينه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه من وجه آخر مختصرا كما هنا، والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن مخرمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، (1/ 111) وقد أدرك بالسن جماعة أجل من هؤلاء كعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص. ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى - رضي الله عنهم-. وقال ابن بطال: إنما خافوا لأنهم طالت أعمارهم حتى رأوا من التغير ما لم يعهدوه ولم يقدروا على إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا بالسكوت. قوله: (ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل) أي: لا يجزم أحد منهم بعدم عروض النفاق لهم كما يجزم بذلك في إيمان جبر يل، وفي هذا إشارة إلى أن المذكورين كانوا قائلين بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان، خلافا للمرجئة القائلين: بأن إيمان الصديقين وغيرهم بمنزلة واحدة. وقد روي في معنى أثر ابن أبي مليكة حديث عن عائشة مرفوع رواه الطبراني في الأوسط لكن إسناده ضعيف. قوله: (ويذكر عن الحسن) هذا التعليق وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق متعددة بألفاظ مختلفة. وقد يستشكل ترك البخاري الجزم به مع صحته عنه، وذلك محمول على قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ - رحمه الله-، وهي: إن البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد، بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضا، لما علم من الخلاف في ذلك، فهنا كذلك. وقد أوقع اختصاره له لبعضهم الاضطراب في فهمه فقال النووي: " ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق". يعني: الله تعالى. قال الله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان. ( وقال: (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. ( وكذا شرحه ابن التين وجماعة من المتأخرين، وقرره الكرماني هكذا، فقال: ما خافه أي: ما خاف من الله، فحذف الجار وأوصل الفعل إليه. قلت: وهذا الكلام وإن كان صحيحا لكنه خلاف مراد المصنف ومن نقل عنه. والذي أوقعهم في هذا هو الاختصار. وإلا فسياق كلام الحسن البصري يبين أنه إنما أراد النفاق، فلنذكره. قال جعفر الفريابي: حدثنا قتيبة حدثنا جعفر بن سليمان عن المعلي بن زياد سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو، ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق. وقال أحمد ابن حنبل في كتاب الإيمان: حدثنا روح بن عبادة حدثنا هشام سمعت الحسن يقول: والله ما مضى مؤمن ولا بقي إلا وهو يخاف النفاق، وما أمنه إلا منافق. انتهى. وهذا موافق لأثر ابن أبي مليكة الذي قبله وهو قوله: " كلهم يخاف النفاق على نفسه". والخوف من الله وإن كان مطلوبا محمودا لكن سياق الباب في أمر آخر، والله أعلم. قوله: (وما يحذر) هو بضم أوله وتشديد الذال المعجمة ويروى بتخفيفها، وما مصدرية، والجملة في محل جر لأنها معطوفة على خوف، أي: باب ما يحذر. وفصل بين الترجمتين بالآثار التي ذكرها لتعلقها بالأولى فقط، وأما الحديثان فالأول منهما تعلق بالثانية، والثاني يتعلق بالأولى على ما سنوضحه، ففيه لف ونشر غير مرتب على حد قوله: (يوم تبيض وجوه) الآية، ومراده أيضا الرد على المرجئة حيث قالوا: لا حذر من المعاصي مع حصول الإيمان، ومفهوم الآية التي ذكرها ورد عليهم، لأنه تعالى مدح من استغفر لذنبه ولم يصر عليه، فمفهومه ذم من لم يفعل ذلك. ومما يدخل في معنى الترجمة قول الله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم. ( وقوله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) وقوله تعالى: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم) وهذه الآية أدل على المراد مما قبلها، فمن أصر على نفاق المعصية خشي عليه أن يفضي به إلى نفاق الكفر، (1/112) وكأن المصنف لمح بحديث عبد الله بن عمرو المخرج عند أحمد مرفوعا قال: " ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون " أي: يعلمون أن من تاب تاب الله عليه ثم لا يستغفرون، قاله مجاهد وغيره. وللترمذي عن أبي بكر الصديق مرفوعا: " ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " إسناد كل منهما حسن. قوله: (على التقاتل) كذا في أكثر الروايات وهو المناسب لحديث الباب، وفي بعضها (على النفاق) ومعناه صحيح وإن لم تثبت به الرواية. الحديث: -48- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ الْمُرْجِئَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" الشرح: قوله: (زبيد) تقدم أنه بالزاي والموحدة مصغرا، وهو ابن الحارث اليامي بياء تحتانية وميم خفيفة، يكنى أبا عبد الرحمن، وقد روى هذا الحديث شعبة أيضا عن منصور بن المعتمر وهو عند المصنف في الأدب، وعن الأعمش وهو عند مسلم، ورواه ابن حبان من طريق سليمان بن حرب عن شعبة عن الثلاثة جميعا عن أبي وائل. وقال ابن منده: لم يختلف في رفعه عن زبيد واختلف على الآخرين. ورواه عن زبيد غير شعبة أيضا عند مسلم وغيره. قوله: (سألت أبا وائل عن المرجئة) أي: عن مقالة المرجئة، ولأبي داود الطيالسي عن شعبة عن زبيد قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل فذكرت ذلك له. فظهر من هذا أن سؤاله كان عن معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبي وائل سنة تسع وتسعين وقيل سنة اثنتين وثمانين، ففي ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة، وقد تابع أبا وائل في رواية هذا الحديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، أخرجه الترمذي مصححا ولفظه: " قتال المسلم أخاه كفر، وسبابه فسوق"، ورواه جماعة عن عبد الله ابن مسعود موقوفا ومرفوعا، ورواه النسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أيضا مرفوعا، فانتفت بذلك دعوى من زعم أن أبا وائل تفرد به. قوله: (سباب) هو بكسر السين وتخفيف الموحدة، وهو مصدر يقال: سب يسب سبا وسبابا. وقال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب، وهو أن يقول الرجل ما فيه وما ليس فيه يريد بذلك عيبه. وقال غيره: السباب هنا مثل القتال فيقتضي المفاعلة، وقد تقدم بأوضح من هذا في باب المعاصي من أمر الجاهلية. قوله: (المسلم) كذا في معظم الروايات، ولأحمد عن غندر عن شعبة " المؤمن"، فكأنه رواه بالمعنى. قوله: (فسوق) الفسق في اللغة: الخروج. وفي الشرع: الخروج عن طاعة الله ورسوله، وهو في عرف الشرع أشد من العصيان، قال الله تعالى: (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) ، ففي الحديث تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بغير حق بالفسق، ومقتضاه الرد على المرجئة. وعرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم كأنه قال: كيف تكون مقالتهم حقا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا. قوله: (وقتاله كفر) إن قيل: هذا وإن تضمن الرد على المرجئة لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي. فالجواب: إن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك، ولا متمسك للخوارج فيه، لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشد من السباب - لأنه مفض إلى إزهاق الروح - عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر، ولم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، وقد أشرنا إلى ذلك في باب المعاصي من أمر الجاهلية. أو أطلق عليه الكفر لشبهه به، لأن قتال المؤمن من شأن الكافر. وقيل: المراد هنا الكفر اللغوي وهو التغطية، لأن حق المسلم على المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غطى على هذا الحق، والأولان أليق بمراد المصنف وأولى بالمقصود من التحذير من فعل ذلك والزجر عنه بخلاف الثالث.(1/ 113) وقيل: أراد بقوله كفر أي: قد يؤول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر، وهذا بعيد، وأبعد منه حمله على المستحل لذلك لأنه لا يطابق الترجمة، ولو كان مرادا لم يحصل التفريق بين السباب والقتال، فإن مستحل لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضا. ثم ذلك محمول على من فعله بغير تأويل. وقد بوب عليه المصنف في كتاب المحاربين كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومثل هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ففيه هذه الأجوبة، وسيأتي في كتاب الفتن، ونظيره قوله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) بعد قوله: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) الآية. فدل على أن بعض الأعمال يطلق عليه الكفر تغليظا. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: " لعن المسلم كقتله " فلا يخالف هذا الحديث، لأن المشبه به فوق المشبه، والقدر الذي اشتركا فيه بلوغ الغاية في التأثير: هذا في العرض، وهذا في النفس. والله أعلم. وقد ورد لهذا المتن سبب ذكرته في أول كتاب الفتن في أواخر الصحيح. الحديث: -49- أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عن أَنَسُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: " إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ" الشرح: قوله: (عن حميد) هو الطويل (عن أنس) ، وللأصيلي " حدثناه أنس بن مالك " فأمنا تدليس حميد. وهو من رواية صحابي عن صحابي، أنس عن عبادة بن الصامت. قوله: (خرج يخبر بليلة القدر) أي: بتعيين ليلة القدر. قوله: (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة مشتق من التلاحي بكسرها وهو التنازع والمخاصمة، والرجلان أفاد ابن دحية أنهما عبد الله بن أبي حدرد - بحاء مفتوحة ودال ساكنة مهملتين، ثم راء مفتوحة ودال مهملة أيضا - وكعب بن مالك. وقوله: " فرفعت " أي: فرفع تعيينها عن ذكرى، هذا هو المعتمد هنا. والسبب فيه ما أوضحه مسلم من حديث أبي سعيد في هذه القصة قال: " فجاء رجلان يحتقان " بتشديد القاف أي: يدعي كل منهما أنه المحق " معهما الشيطان، فنسيتها". قال القاضي عياض: فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان. وفيه أن المكان الذي يحضره الشيطان ترفع منه البركة والخير. فإن قيل: كيف تكون المخاصمة في طلب الحق مذمومة؟ قلت: إنما كانت كذلك لوقوعها في المسجد، وهو محل الذكر لا اللغو، ثم في الوقت المخصوص أيضا بالذكر لا اللغو وهو شهر رمضان، فالذم لما عرض فيها لا لذاتها، ثم إنها مستلزمة لرفع الصوت، ورفعه بحضرة رسول الله _صلى الله عليه وسلم - منهي عنه لقوله تعالى: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي - إلى قوله تعالى - أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) ومن هنا يتضح مناسبة هذا الحديث للترجمة ومطابقتها له، وقد خفيت على كثير من المتكلمين على هذا الكتاب. فإن قيل: قوله (وأنتم لا تشعرون) يقتضي المؤاخذة بالعمل الذي لا قصد فيه. فالجواب: أن المراد وأنتم لا تشعرون بالإحباط لاعتقادكم صغر الذنب، فقد يعلم المرء الذنب ولكن لا يعلم أنه كبيرة، كما قيل في قوله: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير " أي: عندهما، ثم قال: " وإنه لكبير " أي: في نفس الأمر.(1/ 114) وأجاب القاضي أبو بكر بن العربي: بأن المؤاخذة تحصل بما لم يقصد في الثاني إذا قصد في الأول، لأن مراعاة القصد إنما هو في الأول ثم يسترسل حكم النية الأولى على مؤتنف العمل وإن عزب القصد خيرا كان أو شرا. والله أعلم. قوله: (وعسى أن يكون خيرا) أي: وإن كان عدم الرفع أزيد خيرا وأولى منه، لأنه متحقق فيه، لكن في الرفع خير مرجو لاستلزامه مزيد الثواب، لكونه سببا لزيادة الاجتهاد في التماسها، وإنما حصل ذلك ببركة الرسول - صلى الله عليه وسلم-. قوله: (في السبع والتسع) كذا في معظم الروايات بتقديم السبع التي أولها السين على التسع، ففيه إشارة إلى أن رجاءها في السبع أقوى للاهتمام بتقديمه. ووقع عند أبي نعيم في المستخرج بتقديم التسع على ترتيب التدلي. واختلف في المراد بالتسع وغيرها فقيل: لتسع يمضين من العشر وقيل: لتسع يبقين من الشهر، وسنذكر بسط هذا في محله حيث ذكره المصنف في كتاب الاعتكاف إن شاء الله تعالى. |
01-31-2013, 12:51 PM | #47 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*37 باب سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ.
وَبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ. ثُمَّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَام - يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا. وَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ الْإِيمَانِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) الشرح: قوله: (باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام الخ) تقدم أن المصنف يرى أن الإيمان والإسلام عبارة عن معنى واحد، فلما كان ظاهر سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام وجوابه يقتضي تغايرهما، وأن الإيمان تصديق بأمور مخصوصة، والإسلام إظهار أعمال مخصوصة، أراد أن يرد ذلك بالتأويل إلى طريقته. قوله: (وبيان) أي: مع بيان أن الاعتقاد والعمل دين، وقوله: " وما بين " أي: مع ما بين للوفد أن الإيمان هو الإسلام حيث فسره في قصتهم بما فسر به الإسلام هنا، وقوله: " وقول الله " أي: مع ما دلت عليه الآية أن الإسلام هو الدين، ودل عليه خبر أبي سفيان أن الإيمان هو الدين، فاقتضى ذلك أن الإسلام والإيمان أمر واحد. (1/ 115) هذا محصل كلامه، وقد نقل أبو عوانة الأسفرايني في صحيحه عن المزني صاحب الشافعي الجزم بأنهما عبارة عن معنى واحد، وأنه سمع ذلك منه. وعن الإمام أحمد الجزم بتغايرهما، ولكل من القولين أدلة متعارضة. وقال الخطابي: صنف في المسألة إمامان كبيران، وأكثرا من الأدلة للقولين، وتباينا في ذلك. والحق أن بينهما عموما وخصوصا، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا. انتهى كلامه ملخصا. ومقتضاه أن الإسلام لا يطلق على الاعتقاد والعمل معا، بخلاف الإيمان فإنه يطلق عليهما معا. ويرد عليه قوله تعالى: (ورضيت لكم الإسلام دينا) فإن الإسلام هنا يتناول العمل والاعتقاد معا، لأن العامل غير المعتقد ليس بذي دين مرضي. وبهذا استدل المزني وأبو محمد البغوي فقال في الكلام على حديث جبريل هذا: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم- الإسلام هنا اسما لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذاك لأن الأعمال ليست من الإيمان، ولا لأن التصديق ليس من الإسلام، بل ذاك تفصيل لجملة كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " أتاكم يعلمكم دينكم " وقال سبحانه وتعالى: (ورضيت لكم الإسلام دينا) وقال: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) ولا يكون الدين في محل الرضا والقبول إلا بانضمام التصديق. انتهى كلامه. والذي يظهر من مجموع الأدلة أن لكل منهما حقيقة شرعية، كما أن لكل منهما حقيقة لغوية، لكن كل منهما مستلزم للآخر بمعنى التكميل له، فكما أن العامل لا يكون مسلما كاملا إلا إذا اعتقد، فكذلك المعتقد لا يكون مؤمنا كاملا إلا إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان في موضع الإسلام أو العكس، أو يطلق أحدهما على إرادتهما معا فهو على سبيل المجاز. ويتبين المراد بالسياق، فإن وردا معا في مقام السؤال حملا على الحقيقة، وإن لم يردا معا أو لم يكن في مقام سؤال، أمكن الحمل على الحقيقة أو المجاز بحسب ما يظهر من القرائن. وقد حكى ذلك الإسماعيلي عن أهل السنة والجماعة قالوا: إنهما تختلف دلالتهما بالاقتران، فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه. وعلى ذلك يحمل ما حكاه محمد بن نصر وتبعه ابن عبد البر عن الأكثر، أنهم سووا بينهما على ما في حديث عبد القيس، وما حكاه اللالكائي وابن السمعاني عن أهل السنة: أنهم فرقوا بينهما على ما في حديث جبريل، والله الموفق. قوله: (وعلم الساعة) تفسير منه للمراد بقول جبريل في السؤال متى الساعة؟ أي: متى علم الساعة؟ ولا بد من تقدير محذوف آخر، أي: متى علم وقت الساعة؟. قوله: (وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم -) هو مجرور لأنه معطوف على علم المعطوف على سؤال المجرور بالإضافة. فإن قيل: لم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت الساعة، فكيف قال: وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - له؟ فالجواب: أن المراد بالبيان بيان أكثر المسؤول عنه فأطلقه، لأن حكم معظم الشيء حكم كله. أو جعل الحكم في علم الساعة بأنه لا يعلمه إلا الله بيانا له. الحديث: -50- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ. قَالَ: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ. قَالَ: مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ. وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ رَبَّهَا؛ وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ، فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الْآيَةَ. ثُمَّ أَدْبَرَ. فَقَالَ: رُدُّوهُ. فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَقَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ. الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل بن إبراهيم) هو البصري المعروف بابن علية، قال: أخبرنا أبو حيان التميمي. وأورده المصنف في تفسير سورة لقمان من حديث جرير بن عبد الحميد عن أبي حيان المذكور. ورواه مسلم من وجه آخر عن جرير أيضا عن عمارة بن القعقاع. ورواه أبو داود والنسائي من حديث جرير أيضا عن أبي فروة ثلاثتهم عن أبي زرعة عن أبي هريرة. زاد أبو فروة: وعن أبي ذر أيضا، وساق حديثه عنهما جميعا. وفيه فوائد زوائد سنشير إليها إن شاء الله تعالى. ولم أر هذا الحديث من رواية أبي هريرة إلا عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير هذا عنه، ولم يخرجه البخاري إلا من طريق أبي حيان عنه، وقد أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب، وفي سياقه فوائد زوائد أيضا. وإنما لم يخرجه البخاري لاختلاف فيه على بعض رواته، فمشهوره رواية كهمس - بسين مهملة قبلها ميم مفتوحة - ابن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر - بفتح الميم أوله ياء تحتانية مفتوحة - عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب، رواه عن كهمس جماعة من الحفاظ، (1/ 116) وتابعه مطر الوراق عن عبد الله بن بريدة، وتابعه سليمان التيمي عن يحيى بن يعمر، وكذا رواه عثمان بن غياث عن عبد الله بن بريدة لكنه قال: عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن معا عن ابن عمر عن عمر، زاد فيه حميدا، وحميد له في الرواية المشهورة ذكر لا رواية. وأخرج مسلم هذه الطرق ولم يسق منها إلا متن الطريق الأولى وأحال الباقي عليها، وبينها اختلاف كثير سنشير إلى بعضه، فأما رواية مطر فأخرجها أبو عوانة في صحيحه وغيره، وأما رواية سليمان التيمي فأخرجها ابن خزيمة في صحيحه وغيره، وأما رواية عثمان بن غياث فأخرجها أحمد في مسنده. وقد خالفهم سليمان بن بريدة أخو عبد الله، فرواه عن يحيى بن يعمر عن عبد الله بن عمر قال: بينما نحن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعله من مسند بن عمر لا من روايته عن أبيه. أخرجه أحمد أيضا. وكذا رواه أبو نعيم في الحلية من طريق عطاء الخرساني عن يحيى بن يعمر، وكذا روى من طريق عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمر، أخرجه الطبراني. وفي الباب عن أنس أخرجه البزار والبخاري في خلق أفعال العباد، وإسناده حسن. وعن جرير البجلي، أخرجه أبو عوانة في صحيحه وفي إسناده خالد بن يزيد وهو العمري ولا يصلح للصحيح، وعن ابن عباس وأبي عامر الأشعري، أخرجهما أحمد وإسنادهما حسن. وفي كل من هذه الطرق فوائد سنذكرها إن شاء الله تعالى في أثناء الكلام على حديث الباب. وإنما جمعت طرقها هنا وعزوتها إلى مخرجيها لتسهيل الحوالة عليها، فرارا من التكرار المباين لطريق الاختصار. والله الموفق. قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بارزا يوما للناس) أي: ظاهرا لهم غير محتجب عنهم، ولا ملتبس بغيره، والبروز الظهور. وقد وقع في رواية أبي فروة التي أشرنا إليها بيان ذلك، فإن أوله: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجلس بين أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكانا من طين كان يجلس عليه. انتهى. واستنبط منه القرطبي استحباب جلوس العالم بمكان يختص به، ويكون مرتفعا إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه. قوله: (فأتاه رجل) أي: ملك في صورة رجل، وفي التفسير للمصنف: إذ أتاه رجل يمشي، ولأبي فروة: فإنا لجلوس عنده إذ أقبل رجل، أحسن الناس وجها وأطيب الناس ريحا، كأن ثيابه لم يمسها دنس. ولمسلم من طريق كهمس في حديث عمر: بينما نحن ذات يوم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ طلع علينا رجل، شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر. وفي رواية ابن حبان: سواد اللحية، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه. وفي رواية لسليمان التيمي: ليس عليه سحناء السفر، وليس من البلد، فتخطى حتى برك بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يجلس أحدنا في الصلاة، ثم وضع يده على ركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم-، وكذا في حديث ابن عباس وأبي عامر الأشعري: ثم وضع يده على ركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم-. فأفادت هذه الرواية أن الضمير في قوله: على فخذيه، يعود على النبي، وبه جزم البغوي وإسماعيل التيمي لهذه الرواية، ورجحه الطيبي بحثا لأنه نسق الكلام خلافا لما جزم به النووي، ووافقه التوربشتي لأنه حمله على أنه جلس كهيئة المتعلم بين يدي من يتعلم منه، وهذا وإن كان ظاهرا من السياق، لكن وضعه يديه على فخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - صنيع منبه للإصغاء إليه، وفيه إشارة لما ينبغي للمسؤول من التواضع والصفح عما يبدو من جفاء السائل. والظاهر أنه أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره ليقوي الظن بأنه من جفاة الأعراب، ولهذا تخطى الناس حتى انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم. ولهذا استغرب الصحابة صنيعه، ولأنه ليس من أهل البلد، وجاء ماشيا ليس عليه أثر سفر. فإن قيل: كيف عرف عمر أنه لم يعرفه أحد منهم؟ أجيب: بأنه يحتمل أن يكون استند في ذلك إلى ظنه، أو إلى صريح قول الحاضرين. (1/ 117) قلت: وهذا الثاني أولى، فقد جاء كذلك في رواية عثمان بن غياث فإن فيها: فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: ما نعرف هذا. وأفاد مسلم في رواية عمارة بن القعقاع سبب ورود هذا الحديث، فعنده في أوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: سلوني، فهابوا أن يسألوه، قال: فجاء رجل. ووقع في رواية ابن منده من طريق يزيد بن زريع عن كهمس: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ جاءه رجل - فكأن أمره لهم بسؤاله وقع في خطبته - وظاهره أن مجيء الرجل كان في حال الخطبة، فإما أن يكون وافق انقضاءها، أو كان ذكر ذلك القدر جالسا وعبر عنه الراوي بالخطبة. قوله: (فقال) زاد المصنف في التفسير: يا رسول الله ما الإيمان؟ فإن قيل: فكيف بدأ بالسؤال قبل السلام؟ أجيب: بأنه يحتمل أن يكون ذلك مبالغة في التعمية لأمره، أو ليبين أن ذلك غير واجب، أو سلم فلم ينقله الراوي. قلت: وهذا الثالث هو المعتمد، فقد ثبت في رواية أبي فروة، ففيها بعد قوله: كأن ثيابه لم يمسها دنس، حتى سلم من طرف البساط فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام. قال: أدنو يا محمد؟ قال: ادن. فما زال يقول: أدنو مرارا ويقول له: ادن. ونحوه في رواية عطاء عن ابن عمر، لكن قال: السلام عليك يا رسول الله. وفي رواية مطر الوراق فقال: يا رسول الله أدنو منك؟ قال: ادنو. ولم يذكر السلام. فاختلفت الروايات، هل قال له: يا محمد أو يا رسول الله؟ هل سلم أو لا؟ . فأما السلام فمن ذكره مقدم على من سكت عنه. وقال القرطبي بناء على أنه لم يسلم وقال يا محمد: إنه أراد بذلك التعمية، فصنع صنيع الأعراب. قلت: ويجمع بين الروايتين بأنه بدأ أولا بندائه باسمه لهذا المعنى، ثم خاطبه بقوله: يا رسول الله. ووقع عند القرطبي أنه قال: السلام عليكم يا محمد، فاستنبط منه أنه يستحب للداخل أن يعمم بالسلام ثم يخصص من يريد تخصيصه. انتهى. والذي وقفت عليه من الروايات إنما فيه الإفراد وهو قوله: السلام عليك يا محمد. قوله: (ما الإيمان) قيل: قدم السؤال عن الإيمان لأنه الأصل، وثنى بالإسلام لأنه يظهر مصداق الدعوى، وثلث بالإحسان لأنه متعلق بهما. وفي رواية عمارة بن القعقاع: بدأ بالإسلام لأنه بالأمر الظاهر، وثنى بالإيمان لأنه بالأمر الباطن. ورجح هذا الطيبي لما فيه من الترقي. ولا شك أن القصة واحدة اختلف الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق فإنه بدأ بالإسلام، وثنى بالإحسان، وثلث بالإيمان، فالحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة. والله أعلم. قوله: (قال: الإيمان أن تؤمن بالله الخ) دل الجواب أنه علم أنه سأله عن متعلقاته لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب: الإيمان التصديق. وقال الطيبي: هذا يوهم التكرار، وليس كذلك، فإن قوله: أن تؤمن بالله مضمن معنى أن تعترف به، ولهذا عداه بالباء، أي: أن تصدق معترفا بكذا. قلت: والتصديق أيضا يعدى بالباء، فلا يحتاج إلى دعوى التضمين. وقال الكرماني: ليس هو تعريفا للشيء بنفسه، بل المراد من المحدود الإيمان الشرعي، ومن الحد الإيمان اللغوي. قلت: والذي يظهر أنه إنما أعاد لفظ الإيمان، للاعتناء بشأنه تفخيما لأمره، ومنه قوله تعالى: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) في جواب: (من يحي العظام وهي رميم) ، يعني أن قوله: أن تؤمن، ينحل منه الإيمان فكأنه قال: الإيمان الشرعي تصديق مخصوص، وإلا لكان الجواب: الإيمان التصديق، والإيمان بالله هو التصديق بوجوده وأنه متصف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص. قوله: (وملائكته) الإيمان بالملائكة هو التصديق بوجودهم وأنهم كما وصفهم الله تعالى: (عباد مكرمون) وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظرا للترتيب الواقع، لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه متمسك لمن فضل الملك على الرسول. قوله: (وكتبه) هذه عند الأصيلي هنا، واتفق الرواة على ذكرها في التفسير، والإيمان بكتب الله التصديق بأنها كلام الله وأن ما تضمنته حق. (1/ 118) قوله: (وبلقائه) كذا وقعت هنا بين الكتب والرسل، وكذا لمسلم من الطريقين، ولم تقع في بقية الروايات، وقد قيل: إنها مكررة، لأنها داخلة في الإيمان بالبعث، والحق أنها غير مكررة، فقيل: المراد بالبعث القيام من القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك، وقيل: اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدنيا، والبعث بعد ذلك. ويدل على هذا رواية مطر الوراق فإن فيها: " وبالموت وبالبعث بعد الموت"، وكذا في حديث أنس وابن عباس، وقيل: المراد باللقاء رؤية الله، ذكره الخطابي. وتعقبه النووي بأن أحدا لا يقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنا، والمرء لا يدري بم يختم له، فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان؟ وأجيب: بأن المراد الإيمان بأن ذلك حق في نفس الأمر، وهذا من الأدلة القوية لأهل السنة في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة، إذ جعلت من قواعد الإيمان. قوله: (ورسله) وللأصيلي: " وبرسله"، ووقع في حديث أنس وابن عباس: " والملائكة والكتاب والنبيين"، وكل من السياقين في القرآن في البقرة، والتعبير بالنبيين يشمل الرسل من غير عكس، والإيمان بالرسل: التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله، ودل الإجمال في الملائكة والكتب والرسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل، إلا من ثبت تسميته فيجب الإيمان به على التعيين. وهذا الترتيب مطابق للآية: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) ومناسبة الترتيب المذكور وإن كانت الواو لا ترتب بل المراد من التقدم أن الخير والرحمة من الله، ومن أعظم رحمته أن أنزل كتبه إلى عباده، والمتلقي لذلك منهم الأنبياء، والواسطة بين الله وبينهم الملائكة. قوله: (وتؤمن بالبعث) زاد في التفسير: " الآخر " ولمسلم في حديث عمر: " واليوم الآخر" فأما البعث الآخر، فقيل: ذكر الآخر تأكيدا كقولهم: أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين: الأولى: الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمهات بعد النطفة، والعلقة إلى الحياة الدنيا. والثانية: البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار. وأما اليوم الآخر فقيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد بالإيمان به والتصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار. وقد وقع التصريح بذكر الأربعة بعد ذكر البعث في رواية سليمان التيمي وفي حديث ابن عباس أيضا. (فائدة) : زاد الإسماعيلي في مستخرجه هنا: " وتؤمن بالقدر"، وهي في رواية أبي فروة أيضا، وكذا لمسلم من رواية عمارة بن القعقاع، وأكده بقوله: " كله". وفي رواية كهمس وسليمان التيمي: " وتؤمن بالقدر خيره وشره " وكذا في حديث ابن عباس، وهو في رواية عطاء عن ابن عمر بزيادة: " وحلوه ومره من الله"، وكأن الحكمة في إعادة لفظ: " وتؤمن " عند ذكر البعث الإشارة إلى أنه نوع آخر مما يؤمن به، لأن البعث سيوجد بعد، وما ذكر قبله موجود الآن، وللتنويه بذكره لكثرة من كان ينكره من الكفار، ولهذا كثر تكراره في القرآن، وهكذا الحكمة في إعادة لفظ: " وتؤمن " عند ذكر القدر كأنها إشارة إلى ما يقع فيه من الاختلاف، فحصل الاهتمام بشأنه بإعادة تؤمن، ثم قرره بالإبدال بقوله: " خيره وشره وحلوه ومره " ثم زاده تأكيدا بقوله في الرواية الأخيرة: " من الله". والقدر مصدر، تقول: قدرت الشيء بتخفيف الدال وفتحها، أقدره بالكسر، والفتح قدرا وقدرا، إذا أحطت بمقداره. والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة، وقد روى مسلم القصة في ذلك من طريق كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني. (1/ 119) قال: فانطلقت أنا وحميد الحميري، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلك، فأخبره بأنه بريء ممن يقول ذلك، وأن الله لا يقبل ممن لم يؤمن بالقدر عملا. وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ عالما بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها. قال القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب، ولا نعرف أحدا ينسب إليه من المتأخرين. قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول. وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سلم القدري العلم خصم. يعني: يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم؟ فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل، تعالى الله عن ذلك. (تنبيه) : ظاهر السياق يقتضي أن الإيمان لا يطلق إلا على من صدق بجميع ما ذكر، وقد اكتفى الفقهاء بإطلاق الإيمان على من آمن بالله ورسوله، ولا اختلاف، لأن الإيمان برسول الله، المراد به الإيمان بوجوده وبما جاء به عن ربه، فيدخل جميع ما ذكر تحت ذلك. والله أعلم. قوله: (أن تعبد الله) قال النووي: يحتمل أن يكون المراد بالعبادة معرفة الله، فيكون عطف الصلاة وغيرها عليها لإدخالها في الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقا، فيدخل فيه جميع الوظائف، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من عطف الخاص على العام. قلت: أما الاحتمال الأول فبعيد، لأن المعرفة من متعلقات الإيمان، وأما الإسلام فهو أعمال قولية وبدنية، وقد عبر في حديث عمر هنا بقوله: " أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله " فدل على أن المراد بالعبادة في حديث الباب النطق بالشهادتين، وبهذا تبين دفع الاحتمال الثاني. ولما عبر الراوي بالعبادة احتاج أن يوضحها بقوله: " ولا تشرك به شيئا " ولم يحتج إليها في رواية عمر لاستلزامها ذلك. فإن قيل: السؤال عام لأنه سأل عن ماهية الإسلام، والجواب خاص لقوله: أن تعبد أو تشهد، وكذا قال في الإيمان: أن تؤمن، وفي الإحسان أن تعبد. والجواب: أن ذلك لنكتة الفرق بين المصدر وبين أن والفعل، لأن " أن تفعل " تدل على الاستقبال، والمصدر لا يدل على زمان. على أن بعض الرواة أورده هنا بصيغة المصدر، ففي رواية عثمان بن غياث قال: " شهادة أن لا إله إلا الله " وكذا في حديث أنس، وليس المراد بمخاطبته بالإفراد اختصاصه بذلك، بل المراد تعليم السامعين الحكم في حقهم وحق من أشبههم من المكلفين، وقد تبين ذلك بقوله في آخره: " يعلم الناس دينهم". فإن قيل: لم لم يذكر الحج؟ أجاب بعضهم: باحتمال أنه لم يكن فرض، وهو مردود بما رواه ابن مندة في كتاب الإيمان بإسناده الذي على شرط مسلم من طريق سليمان التيمي في حديث عمر أوله: " أن رجلا في آخر عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فذكر الحديث بطوله، وآخر عمره يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع فإنها آخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام لتقرير أمور الدين - التي بلغها متفرقة - في مجلس واحد، لتنضبط. ويستنبط منه جواز سؤال العالم ما لا يجهله السائل ليعلمه السامع، وأما الحج فقد ذكر، لكن بعض الرواة إما ذهل عنه وإما نسيه. والدليل على ذلك اختلافهم في ذكر بعض الأعمال دون بعض، ففي رواية كهمس: " وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " وكذا في حديث أنس. وفي رواية عطاء الخراساني لم يذكر الصوم، وفي حديث أبي عامر ذكر الصلاة والزكاة حسب، ولم يذكر في حديث ابن عباس مزيدا على الشهادتين. وذكر سليمان التيمي في روايته الجميع، وزاد بعد قوله وتحج: " وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتمم الوضوء".(1/ 120) وقال مطر الوراق في روايته " وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة " قال: فذكر عرى الإسلام، فتبين ما قلناه إن بعض الرواة ضبط ما لم يضبطه غيره. قوله: (وتقيم الصلاة) زاد مسلم: " المكتوبة " أي: المفروضة. وإنما عبر بالمكتوبة للتفنن في العبارة، فإنه عبر في الزكاة بالمفروضة، ولاتباع قوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا. ( قوله: (وتصوم رمضان) استدل به على قول رمضان من غير إضافة شهر إليه، وستأتي المسألة في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى. قوله: (الإحسان) هو مصدر، تقول: أحسن يحسن إحسانا. ويتعدى بنفسه وبغيره تقول: أحسنت كذا إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان، إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد لأن المقصود إتقان العبادة. وقد يلحظ الثاني بأن المخلص مثلا محسن بإخلاصه إلى نفسه، وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود، وأشار في الجواب إلى حالتين: أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه بعينه وهو قوله: " كأنك تراه " أي: وهو يراك، والثانية: أن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمل، وهو قوله: " فإنه يراك". وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته، وقد عبر في رواية عمارة بن القعقاع بقوله: " أن تخشى الله كأنك تراه " وكذا في حديث أنس. وقال النووي: معناه أنك إنما تراعى الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك، لكونه يراك لا لكونك تراه فهو دائما يراك، فأحسن عبادته وإن لم تره، فتقدير الحديث: فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه يراك. قال: وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين وبغية السالكين وكنز العارفين ودأب الصالحين، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم-، وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين، ليكون ذلك مانعا من التلبس بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله مطلعا عليه في سره وعلانيته؟ انتهى. وقد سبق إلى أصل هذا، القاضي عياض وغيره، وسيأتي مزيد لهذا في تفسير لقمان إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : دل سياق الحديث على أن رؤية الله في الدنيا بالأبصار غير واقعة، وأما رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم- فذاك لدليل آخر، وقد صرح مسلم في روايته من حديث أبي أمامة بقوله - صلى الله عليه وسلم-: " واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". وأقدم بعض غلاة الصوفية على تأويل الحديث بغير علم فقال: فيه إشارة إلى مقام المحو والفناء، وتقديره: فإن لم تكن - أي فإن لم تصر - شيئا وفنيت عن نفسك حتى كأنك ليس بموجود فإنك حينئذ تراه. وغفل قائل هذا - للجهل بالعربية - عن أنه لو كان المراد ما زعم لكان قوله: " تراه " محذوف الألف، لأنه يصير مجزوما، لكونه على زعمه جواب الشرط، ولم يرد في شيء من طرق هذا الحديث بحذف الألف، ومن ادعى أن إثباتها في الفعل المجزوم على خلاف القياس فلا يصار إليه إذ لا ضرورة هنا. وأيضا فلو كان ما ادعاه صحيحا لكان قوله: " فإنه يراك " ضائعا لأنه لا ارتباط له بما قبله. ومما يفسد تأويله رواية كهمس فإن لفظها: " فإنك إن لا تراه فإنه يراك " وكذلك في رواية سليمان التيمي، فسلط النفي على الرؤية لا على الكون الذي حمل على ارتكاب التأويل المذكور. وفي رواية أبي فروة: " فإن لم تره فإنه يراك " ونحوه في حديث أنس وابن عباس، وكل هذا يبطل التأويل المتقدم. والله أعلم. |
01-31-2013, 12:52 PM | #48 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
(فائدة) : زاد مسلم في رواية عمارة بن القعقاع قول السائل: " صدقت " عقب كل جواب من الأجوبة الثلاثة، وزاد أبو فروة في روايته: " فلما سمعنا قول الرجل صدقت أنكرناه " وفي رواية كهمس: " فعجبنا له يسأله ويصدقه". وفي رواية مطر: " انظروا إليه كيف يسأله، وانظروا إليه كيف يصدقه " وفي حديث أنس: " انظروا وهو يسأله وهو يصدقه كأنه أعلم منه".(1/ 121)
وفي رواية سليمان بن بريدة: " قال القوم: ما رأينا رجلا مثل هذا، كأنه يعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، يقول له: صدقت صدقت". قال القرطبي: إنما عجبوا من ذلك لأن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف إلا من جهته، وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بالسماع منه، ثم هو يسأل سؤال عارف بما يسأل عنه لأنه يخبره بأنه صادق فيه، فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لذلك. والله أعلم. قوله: (متى الساعة) أي: متى تقوم الساعة؟ وصرح به في رواية عمارة بن القعقاع، واللام للعهد، والمراد يوم القيمة. قوله: (ما المسؤول عنها) " ما " نافية. وزاد في رواية أبي فروة: " فنكس فلم يجبه، ثم أعاد فلم يجبه ثلاثا، ثم رفع رأسه فقال، ما المسؤول". قوله: (بأعلم) الباء زائدة لتأكيد النفي، وهذا وإن كان مشعرا بالتساوي في العلم، لكن المراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها لقوله بعد: " خمس لا يعلمها إلا الله " وسيأتي نظير هذا التركيب في أواخر الكلام على هذا الحديث في قوله: " ما كنت بأعلم به من رجل منكم " فإن المراد أيضا التساوي في عدم العلم به، وفي حديث ابن عباس هنا فقال: " سبحان الله، خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله " ثم تلا الآية. قال النووي: يستنبط منه أن العالم إذا سئل عما لا يعلم يصرح بأنه لا يعلمه، ولا يكون في ذلك نقص من مرتبته، بل يكون ذلك دليلا على مزيد ورعه. وقال القرطبي: مقصود هذا السؤال كف السامعين عن السؤال عن وقت الساعة، لأنهم قد أكثروا السؤال عنها كما ورد في كثير من الآيات والأحاديث، فلما حصل الجواب بما ذكر هنا حصل اليأس من معرفتها، بخلاف الأسئلة الماضية، فإن المراد بها استخراج الأجوبة ليتعلمها السامعون ويعملوا بها، ونبه بهذه الأسئلة على تفصيل ما يمكن معرفته مما لا يمكن. قوله: (من السائل) عدل عن قوله لست بأعلم بها منك إلى لفظ يشعر بالتعميم تعريضا للسامعين، أي: أن كل مسؤول وكل سائل فهو كذلك. (فائدة) : هذا السؤال والجواب وقع بين عيسى بن مريم وجبريل، لكن كان عيسى سائلا وجبريل مسؤولا. قال الحميدي في نوادره: حدثنا سفيان حدثنا مالك بن مغول عن إسماعيل بن رجاء عن الشعبي قال: سأل عيسى بن مريم جبريل عن الساعة، قال فانتفض بأجنحته وقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قوله: (وسأخبرك عن أشراطها) وفي التفسير: " ولكن سأحدثك". وفي رواية أبي فروة: " ولكن لها علامات تعرف بها". وفي رواية كهمس: " قال فأخبرني عن أمارتها فأخبره بها فترددنا " فحصل التردد، هل ابتدأه بذكر الأمارات أو السائل سأله عن الأمارات، ويجمع بينهما بأنه ابتدأ بقوله: وسأخبرك، فقال له السائل: فأخبرني. ويدل على ذلك رواية سليمان التيمي ولفظها: " ولكن إن شئت نبأتك عن أشراطها، قال: أجل " ونحوه في حديث ابن عباس وزاد: " فحدثني " وقد حصل تفصيل الأشراط من الرواية الأخرى وأنها العلامات، وهي بفتح الهمزة جمع شرط بفتحتين كقلم وأقلام، ويستفاد من اختلاف الروايات أن التحديث والإخبار والإنباء بمعنى واحد، وإنما غاير بينها أهل الحديث اصطلاحا. قال القرطبي: علامات الساعة على قسمين: ما يكون من نوع المعتاد، أو غيره. والمذكور هنا الأول. وأما الغير مثل طلوع الشمس من مغربها، فتلك مقاربة لها أو مضايقة، والمراد هنا العلامات السابقة على ذلك. والله أعلم. قوله: (إذا ولدت) التعبير بإذا للإشعار بتحقق الوقوع، ووقعت هذه الجملة بيانا للأشراط نظرا إلى المعنى، والتقدير ولادة الأمة وتطاول الرعاة. فإن قيل: الأشراط جمع وأقله ثلاثة على الأصح والمذكور هنا اثنان! أجاب الكرماني: بأنه قد تستقرض القلة للكثرة، وبالعكس.(1/ 122) أو لأن الفرق بالقلة والكثرة إنما هو في النكرات لا في المعارف، أو لفقد جمع الكثرة للفظ الشرط. وفي جميع هذه الأجوبة نظر، ولو أجيب: بأن هذا دليل القول الصائر إلى أن أقل الجمع اثنان لما بعد عن الصواب. والجواب المرضي: أن المذكور من الأشراط ثلاثة، وإنما بعض الرواة اقتصر على اثنين منها، لأنه هنا ذكر الولادة والتطاول، وفي التفسير ذكر الولادة وترؤس الحفاة. وفي رواية محمد بن بشر التي أخرج مسلم إسنادها وساق ابن خزيمة لفظها عن أبي حيان ذكر الثلاثة، وكذا في مستخرج الإسماعيلي من طريق ابن علية، وكذا ذكرها عمارة بن القعقاع، ووقع مثل ذلك في حديث عمر، ففي رواية كهمس ذكر الولادة والتطاول فقط ووافقه عثمان بن غياث. وفي رواية سليمان التيمي ذكر الثلاثة ووافقه عطاء الخراساني، وكذا ذكرت في حديث ابن عباس وأبي عامر. قوله: (إذا ولدت الأمة ربها) وفي التفسير: " ربتها " بتاء التأنيث، وكذا في حديث عمر، ولمحمد بن بشر مثله وزاد: " يعني السراري". وفي رواية عمارة بن القعقاع: " إذا رأيت المرأة تلد ربها " ونحوه لأبي فروة وفي رواية عثمان بن غياث: " الإماء أربابهن " بلفظ الجمع. والمراد بالرب المالك أو السيد. وقد اختلف العلماء قديما وحديثا في معنى ذلك: قال ابن التين: اختلف فيه على سبعة أوجه، فذكرها لكنها متداخلة، وقد لخصتها بلا تداخل فإذا هي أربعة أقوال: الأول: قال الخطابي: معناه اتساع الإسلام، واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها، كان الولد منها بمنزلة ربها لأنه ولد سيدها. قال النووي وغيره: إنه قول الأكثرين. قلت: لكن في كونه المراد نظر. لأن استيلاد الإماء كان موجودا حين المقالة، والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري، وقع أكثره في صدر الإسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة، وقد فسره وكيع في رواية ابن ماجه بأخص من الأول. قال: أن تلد العجم العرب، ووجهه بعضهم بأن الإماء يلدن الملوك، فتصير الأم من جملة الرعية والملك سيد رعيته، وهذا لإبراهيم الحربي، وقربه بأن الرؤساء في الصدر الأول كانوا يستنكفون غالبا من وطء الإماء ويتنافسون في الحرائر، ثم انعكس الأمر ولا سيما في أثناء دولة بني العباس، ولكن رواية ربتها بتاء التأنيث قد لا تساعد على ذلك. ووجهه بعضهم بأن إطلاق ربتها على ولدها مجاز، لأنه لما كان سببا في عتقها بموت أبيه أطلق عليه ذلك، وخصه بعضهم بأن السبي إذا كثر، فقد يسبى الولد أولا وهو صغير، ثم يعتق ويكبر ويصير رئيسا بل ملكا، ثم تسبى أمه فيما بعد فيشتريها عارفا بها، أو وهو لا يشعر أنها أمه، فيستخدمها أو يتخذها موطوءة أو يعتقها ويتزوجها. وقد جاء في بعض الروايات: " أن تلد الأمة بعلها " وهي عند مسلم فحمل على هذه الصورة، وقيل المراد: بالبعل المالك وهو أولى لتتفق الروايات. الثاني: أن تبيع السادة أمهات أولادهم، ويكثر ذلك فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها ولدها ولا يشعر بذلك، وعلى هذا فالذي يكون من الأشراط، غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد، أو الاستهانة بالأحكام الشرعية. فإن قيل: هذه المسألة مختلف فيها فلا يصلح الحمل عليها، لأنه لا جهل ولا استهانة عند القائل بالجواز، قلنا: يصلح أن يحمل على صورة اتفاقية كبيعها في حال حملها، فإنه حرام بالإجماع. الثالث: وهو من نمط الذي قبله، قال النووي: لا يختص شراء الولد أمه بأمهات الأولاد، بل يتصور في غيرهن بأن تلد الأمة حرا من غير سيدها بوطء شبهة، أو رقيقا بنكاح أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا صحيحا، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها أو ابنتها. ولا يعكر على هذا تفسير محمد بن بشر، بأن المراد السراري لأنه تخصيص بغير دليل. الرابع: أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام. (1/ 123) فأطلق عليه ربها مجازا لذلك. أو المراد بالرب المربي فيكون حقيقة، وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة. ومحصله الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربي مربيا والسافل عاليا، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى: أن تصير الحفاة ملوك الأرض. (تنبيهان) : أحدهما: قال النووي: ليس فيه دليل على تحريم بيع أمهات الأولاد ولا على جوازه، وقد غلط من استدل به لكل من الأمرين، لأن الشيء إذا جعل علامة على شيء آخر لا يدل على حظر ولا إباحة. الثاني: يجمع بين ما في هذا الحديث من إطلاق الرب على السيد المالك في قوله: " ربها " وبين ما في الحديث الآخر وهو في الصحيح: " لا يقل أحدكم أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل سيدي ومولاي " بأن اللفظ هنا خرج على سبيل المبالغة، أو المراد بالرب هنا المربي، وفي المنهي عنه السيد، أو أن النهي عنه متأخر، أو مختص بغير الرسول - صلى الله عليه وسلم-. قوله: (تطاول) أي: تفاخروا في تطويل البنيان، وتكاثروا به. قوله: (رعاة الإبل) هو بضم الراء جمع راع كقضاة وقاض. والبهم بضم الموحدة، ووقع في رواية الأصيلي بفتحها، ولا يتجه مع ذكر الإبل وإنما يتجه مع ذكر الشياه أو مع عدم الإضافة كما في رواية مسلم رعاء البهم، وميم البهم في رواية البخاري يجوز ضمها على أنها صفة الرعاة ويجوز الكسر على أنها صفة الإبل يعني: الإبل السود، وقيل: إنها شر الألوان عندهم، وخيرها الحمر التي ضرب بها المثل فقيل: " خير من حمر النعم " ووصف الرعاة بالبهم إما لأنهم مجهولو الأنساب، ومنه أبهم الأمر فهو مبهم، إذا لم تعرف حقيقته. وقال القرطبي: الأولى أن يحمل على أنهم سود الألوان، لأن الأدمة غالب ألوانهم، وقيل معناه: أنهم لا شيء لهم كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " يحشر الناس حفاة عراة بهما " قال: وفيه نظر، لأنه قد نسب لهم الإبل، فكيف يقال: لا شيء لهم. قلت: يحمل على أنها إضافة اختصاص لا ملك، وهذا هو الغالب أن الراعي يرعى لغيره بالأجرة، وأما المالك فقل أن يباشر الرعي بنفسه. قوله في التفسير: وإذا كان الحفاة العراة، زاد الإسماعيلي في روايته: الصم البكم. وقيل لهم ذلك مبالغة في وصفهم بالجهل، أي: لم يستعملوا أسماعهم ولا أبصارهم في الشيء من أمر دينهم، وإن كانت حواسهم سليمة. قوله رءوس الناس أي: ملوك الأرض، وصرح به الإسماعيلي. وفي رواية أبي فروة مثله، والمراد بهم أهل البادية، كما صرح به في رواية سليمان التيمي وغيره. قال: ما الحفاة العراة؟ قال: العريب. وهو بالعين المهملة على التصغير. وفي الطبراني من طريق أبي حمزة عن ابن عباس مرفوعا: " من انقلاب الدين تفصح النبط واتخاذهم القصور في الأمصار". قال القرطبي: المقصود الإخبار عن تبدل الحال، بأن يستولي أهل البادية على الأمر، ويتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم، وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به، وقد شاهدنا ذلك في هذه الأزمان. ومنه الحديث الآخر: " لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع " ومنه: " إذا وسد الأمر - أي أسند - إلى غير أهله فانتظروا الساعة " وكلاهما في الصحيح. قوله: (في خمس) أي: علم وقت الساعة داخل في جملة خمس. وحذف متعلق الجار سائغ كما في قوله تعالى: (في تسع آيات) أي: اذهب إلى فرعون بهذه الآية في جملة تسع آيات. وفي رواية عطاء الخراساني: " قال فمتى الساعة؟ قال: هي في خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله" قال القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمسة لهذا الحديث، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - قول الله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) بهذه الخمس وهو في الصحيح.(1/ 124) قال: فمن ادعى علم شيء منها غير مسندة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم كان كاذبا في دعواه. قال: وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره، إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم. وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على تحريم أخذ الأجرة والجعل وإعطائها في ذلك، وجاء عن ابن مسعود قال: أوتي نبيكم - صلى الله عليه وسلم - علم كل شيء سوى هذه الخمس. وعن ابن عمر مرفوعا نحوه أخرجهما أحمد. وأخرج حميد بن زنجويه عن بعض الصحابة أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره فأنكر عليه فقال: إنما الغيب خمس - وتلا هذه الآية - وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله قوم. (تنبيه) : تضمن الجواب زيادة على السؤال للاهتمام بذلك إرشادا للأمة لما يترتب على معرفة ذلك من المصلحة. فإن قيل: ليس في الآية أداة حصر كما في الحديث! أجاب الطيبي: بأن الفعل إذا كان عظيم الخطر وما ينبني عليه الفعل رفيع الشأن فهم منه الحصر على سبيل الكناية، ولا سيما إذا لوحظ ما ذكر في أسباب النزول من أن العرب كانوا يدعون علم نزول الغيث. فيشعر بأن المراد من الآية نفي علمهم بذلك واختصاصه بالله سبحانه وتعالى. (فائدة) : النكتة في العدول عن الإثبات إلى النفي في قوله تعالى: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) وكذا التعبير بالدراية دون العلم للمبالغة والتعميم، إذ الدراية اكتساب علم الشيء بحيلة، فإذا انتفى ذلك عن كل نفس مع كونه من مختصاتها ولم تقع منه على علم كان عدم اطلاعها على علم غير ذلك من باب أولى. ا ه ملخصا من كلام الطيبي. قوله: (الآية) أي تلا الآية إلى آخر السورة، وصرح بذلك الإسماعيلي، وكذا في رواية عمارة. ولمسلم إلى قوله: (خبير) وكذا في رواية أبي فروة. وأما ما وقع عند المؤلف في التفسير من قوله: إلى (الأرحام) فهو تقصير من بعض الرواة، والسياق يرشد إلى أنه تلا الآية كلها. قوله: (ثم أدبر فقال: ردوه) زاد في التفسير: " فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا". فيه أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - فيراه ويتكلم بحضرته وهو يسمع، وقد ثبت عن عمران ابن حصين أنه كان يسمع كلام الملائكة. والله أعلم. قوله: (جاء يعلم الناس) في التفسير: " ليعلم " وللإسماعيلي: " أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا " ومثله لعمارة. وفي رواية أبي فروة: " والذي بعث محمدا بالحق ما كنت بأعلم به من رجل منكم، وإنه لجبريل". وفي حديث أبي عامر: " ثم ولى فلما لم نر طريقه قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: سبحان الله، هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم، والذي نفس محمد بيده ما جاءني قط وإلا وأنا أعرفه، إلا أن تكون هذه المرة". وفي رواية التيمي " ثم نهض فولى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: علي بالرجل، فطلبناه كل مطلب فلم نقدر عليه. فقال: هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه، فوالذي نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى ولى". قال ابن حبان: تفرد سليمان التيمي بقوله " خذوا عنه". قلت: وهو من الثقات الأثبات. وفي قوله: " جاء ليعلم الناس دينهم " إشارة إلى الزيادة، فما تفرد إلا بالتصريح، وإسناد التعليم إلى جبريل مجازي، لأنه كان السبب في الجواب، فلذلك أمر بالأخذ عنه. واتفقت هذه الروايات على أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أخبر الصحابة بشأنه بعد أن التمسوه فلم يجدوه. وأما ما وقع عند مسلم وغيره من حديث عمر في رواية كهمس: " ثم انطلق، قال عمر: فلبثت مليا ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل" فقد جمع بين الروايتين بعض الشراح بأن قوله: " فلبثت مليا " أي: زمانا بعد انصرافه، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمهم بذلك بعد مضي وقت، ولكنه في ذلك المجلس. لكن يعكر على هذا الجمع قوله في رواية النسائي والترمذي " فلبثت ثلاثا " لكن ادعى بعضهم فيها التصحيف، وأن: " مليا " صغرت ميمها فأشبهت " ثلاثا " لأنها تكتب بلا ألف، وهذه الدعوى مردودة، فإن في رواية أبي عوانة " فلبثنا ليالي، فلقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بعد ثلاث " ولابن حبان " بعد ثالثة"، ولابن منده " بعد ثلاثة أيام".(1/ 125) وجمع النووي بين الحديثين بأن عمر لم يحضر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلس، بل كان ممن قام إما مع الذين توجهوا في طلب الرجل أو لشغل آخر ولم يرجع مع من رجع لعارض عرض له، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحاضرين في الحال، ولم يتفق الإخبار لعمر إلا بعد ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله: " فلقيني " وقوله: " فقال لي يا عمر " فوجه الخطاب له وحده، بخلاف إخباره الأول، وهو جمع حسن. (تنبيهات) : الأول: دلت الروايات التي ذكرناها على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عرف أنه جبريل إلا في آخر الحال، وأن جبريل أتاه في صورة رجل حسن الهيئة لكنه غير معروف لديهم، وأما ما وقع في رواية النسائي من طريق أبي فروة في آخر الحديث: " وإنه لجبريل نزل في صورة دحية الكلبي " فإن قوله: نزل في صورة دحية الكلبي وهم، لأن دحية معروف عندهم، وقد قال عمر: " ما يعرفه منا أحد"، وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب الإيمان له من الوجه الذي أخرجه منه النسائي فقال في آخره: " فإنه جبريل جاء ليعلمكم دينكم " حسب. وهذه الرواية هي المحفوظة لموافقتها باقي الروايات. الثاني: قال ابن المنير: في قوله: " يعلمكم دينكم " دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علما وتعليما، لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سماه معلما، وقد اشتهر قولهم: حسن السؤال نصف العلم، ويمكن أن يؤخذ من هذا الحديث لأن الفائدة فيه انبنت على السؤال والجواب معا. الثالث: قال القرطبي: هذا الحديث يصلح أن يقال له: أم السنة، لما تضمنه من جمل علم السنة. وقال الطيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي كتابيه " المصابيح " و " شرح السنة " اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة، لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالا. وقال القاضي عياض: اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان، ابتداء وحالا ومآلا ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه. قلت: ولهذا أشبعت القول في الكلام عليه، مع أن الذي ذكرته وإن كان كثيرا لكنه بالنسبة لما يتضمنه قليل، فلم أخالف طريق الاختصار. والله الموفق. قوله: (قال أبو عبد الله) يعني: المؤلف " جعل ذلك كله من الإيمان " أي: الإيمان الكامل المشتمل على هذه الأمور كلها. *3*38 باب الحديث -51- حدّثنا إبراهيمُ بنُ حَمزَةَ قال: حدّثَنَا إبراهيمُ بنُ سَعدٍ عن صالحٍ عن ابنِ شِهابٍ عن عُبيدِ اللهِ بن عبدِ اللهِ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عَباسٍ أخبَرَهُ قالَ: أخبَرَني أبو سُفيانَ أنَّ هِرَقلَ قالَ لهُ: سَألتُكَ هَل يَزيدُونَ أم يَنقُصونَ فَزَعَمتَ أنَّهم يَزِيدُونَ وكذلك الإِيمانُ حتَّى يَتَّم. وَسَألتُكَ: هَل يَرتَدُّ أَحَدٌ سَخطَةً لِدِينِهِ بَعدَ أن يَدخُلَ فيه؟ فَزَعَمتَ أن لا، وكَذّلك الإِيمانُ حينَ تُخَالِطُ بشَاشَتُهُ القُلوبَ لا يَسخَطُهُ أَحَدُ. قوله: (باب) كذا هو بلا ترجمة في رواية وأبي الوقت، وسقط من رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما، ورجح النووي الأول، قال: لأن الترجمة - يعني سؤال جبريل عن الإيمان - لا يتعلق بها هذا الحديث، فلا يصح إدخاله فيه. قلت: نفي التعلق لا يتم هنا على الحالتين، لأنه إن ثبت لفظ " باب" بلا ترجمة فهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله، فلابد له من تعلق به. وإن لم يثبت فتعلقه به متعين، لكنه يتعلق بقوله في الترجمة " جعل ذلك كله دينا". ووجه التعلق أنه سمى الدين إيماناً في حديث هرقل فيتم مراد المؤلف بكون الدين هو الإيمان. فإن قيل: لا حجة له فيه، لأنه منقول عن هرقل، (1/ 126)فالجواب: أنه ما قاله من قبل اجتهاده، وإنما أخبر به عن استقرائه من كتب الأنبياء كما قررناه فيما مضى. وأيضاً فهرقل قاله بلسانه الرومي، وأبو سفيان عبر عنه بلسانه العربي وألقاه إلى ابن عباس - وهو من علماء اللسان- فرواه عنه ولم ينكره، فدل على أنه صحيح لفظا ومعنى. وقد اقتصر المؤلف من حديث أبي سفيان الطويل الذي تكلمنا عليه في بدء الوحي على هذه القطعة لتعلقها بغرضه هنا، وساقه في كتاب الجهاد تاماً بهذا الإسناد الذي أورده هنا. والله أعلم. |
01-31-2013, 12:53 PM | #49 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*39 باب فَضْلِ مَنْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ
الشرح: قوله: (باب فضل من استبرأ لدينه) كأنه أراد أن يبين أن الورع من مكملات الإيمان، فلهذا أورد حديث الباب في أبواب الإيمان. الحديث: -52- حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ. أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ." الشرح: قوله: (حدثنا زكرياء) هو ابن أبي زائدة، واسم أبي زائدة خالد بن ميمون الوادعي. قوله: (عن عامر) هو الشعبي الفقيه المشهور. ورجال الإسناد كوفيون. وقد دخل النعمان الكوفة وولي إمرتها. ولأبي عوانة في صحيحه من طريق أبي حريز - وهو بفتح الحاء المهملة وآخره زاي - عن الشعبي أن النعمان بن بشير خطب به بالكوفة. وفي رواية لمسلم أنه خطب به بحمص. ويجمع بينهما بأنه سمع منه مرتين، فإنه ولي إمرة البلدين واحدة بعد أخرى، وزاد مسلم والإسماعيلي من طريق زكرياء فيه: " وأهوى النعمان بإصبعه إلى أذنيه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " وفي هذا رد لقول الواقدي ومن تبعه إن النعمان لا يصح سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وفيه دليل على صحة تحمل الصبي المميز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- مات وللنعمان ثمان سنين، وزكرياء موصوف بالتدليس، ولم أره في الصحيحين وغيرهما من روايته عن الشعبي إلا معنعنا ثم وجدته في فوائد ابن أبي الهيثم من طريق يزيد بن هارون عن زكرياء حدثنا الشعبي، فحصل الأمن من تدليسه. (فائدة) : ادعى أبو عمرو الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير النعمان بن بشير، فإن أراد من وجه صحيح فمسلم، وإلا فقد رويناه من حديث ابن عمر وعمار في الأوسط للطبراني، ومن حديث ابن عباس في الكبير له، ومن حديث واثلة في الترغيب للأصبهاني، وفي أسانيدها مقال. وادعى أيضا أنه لم يروه عن النعمان غير الشعبي، وليس كما قال، فقد رواه عن النعمان أيضا خيثمة بن عبد الرحمن عند أحمد وغيره، وعبد الملك بن عمير عند أبي عوانة وغيره، وسماك بن حرب عند الطبراني، لكنه مشهور عن الشعبي رواه عنه جمع جم من الكوفيين، (1/ 127) ورواه عنه من البصريين عبد الله بن عون، وقد ساق البخاري إسناده في البيوع ولم يسق لفظه، وساقه أبو داود، وسنشير إلى ما فيه من فائدة إن شاء الله تعالى. قوله: (الحلال بين والحرام بين) أي: في عينهما ووصفهما بأدلتهما الظاهرة. قوله: (وبينهما مشبهات) بوزن مفعلات بتشديد العين المفتوحة وهي رواية مسلم، أي: شبهت بغيرها مما لم يتبين به حكمها على التعيين. وفي رواية الأصيلي: " مشتبهات " بوزن مفتعلات بتاء مفتوحة وعين خفيفة مكسورة وهي رواية ابن ماجه، وهو لفظ ابن عون، والمعنى أنها موحدة اكتسبت الشبه من وجهين متعارضين، ورواه الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ: " وبينهما متشابهات". قوله: (لا يعلمها كثير من الناس) أي لا يعلم حكمها، وجاء واضحا في رواية الترمذي بلفظ: " لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام " ومفهوم قوله: " كثير " أن معرفة حكمها ممكن لكن للقليل من الناس وهم المجتهدون، فالشبهات على هذا في حق غيرهم، وقد تقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين. قوله: (فمن اتقى المشبهات) أي: حذر منها، والاختلاف في لفظها بين الرواة نظير التي قبلها لكن عند مسلم والإسماعيلي " الشبهات " بالضم جمع شبهة. قوله: (استبرأ) بالهمز بوزن استفعل من البراءة، أي: برأ دينه من النقص وعرضه من الطعن فيه، لأن من لم يعرف باجتناب الشبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه، وفيه دليل على أن من لم يتوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة. قوله (ومن وقع في الشبهات) فيها أيضا ما تقدم من اختلاف الرواة. واختلف في حكم الشبهات فقيل: التحريم، وهو مردود. وقيل: الكراهة، وقيل: الوقف. وهو كالخلاف فيما قبل الشرع. وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء: أحدها: تعارض الأدلة كما تقدم. ثانيها: اختلاف العلماء وهي منتزعة من الأولى. ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك. رابعها: أن المراد بها المباح. ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج. ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه. وهو منزع حسن. ويؤيده رواية ابن حبان من طريق ذكر مسلم إسنادها ولم يسق لفظها فيها من الزيادة: " اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه " والمعنى: أن الحلال حيث يخشى أن يؤول فعله مطلقا إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلا من الطيبات، فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق أو يفضي إلى بطر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية، وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان. والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول على ما سأذكره، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف الناس: فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال. ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه. أو يكون ذلك لشبهة فيه، وهو أن من تعاطى ما نهى عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه.(1/ 128) ووقع عند المصنف في البيوع من رواية أبي فروة عن الشعبي في هذا الحديث: " فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان له أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان " وهذا يرجح الوجه الأول كما أشرت إليه. (تنبيه) : استدل به ابن المنير على جواز بقاء المجمل بعد النبي - صلى الله عليه وسلم-، وفي الاستدلال بذلك نظر، إلا إن أراد به أنه مجمل في حق بعض دون بعض، أو أراد الرد على منكري القياس فيحتمل ما قال. والله أعلم. قوله: (كراع يرعى) هكذا في جميع نسخ البخاري محذوف جواب الشرط إن أعربت " من " شرطية وقد ثبت المحذوف في رواية الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال: " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى " ويمكن إعراب " من " في سياق البخاري موصولة فلا يكون فيه حذف، إذ التقدير: والذي وقع في الشبهات مثل راع يرعى، والأول أولى لثبوت المحذوف في صحيح مسلم وغيره من طريق زكريا التي أخرجه منها المؤلف، وعلى هذا فقوله: " كراع يرعى " جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل للتنبيه بالشاهد على الغائب. والحمى: المحمي، أطلق المصدر على اسم المفعول. وفي اختصاص التمثيل بذلك نكتة، وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة يتوعدون من يرعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثل لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبعده أسلم له ولو اشتد حذره. وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه، فلا يأمن أن تنفرد الفاذة فتقع فيه بغير اختياره، أو يمحل المكان الذي هو فيه ويقع: الخصب في الحمى فلا يملك نفسه أن يقع فيه. فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقا، وحماه محارمه. (تنبيه) : ادعى بعضهم أن التمثيل من كلام الشعبي، وأنه مدرج في الحديث، حكى ذلك أبو عمرو الداني، ولم أقف على دليله إلا ما وقع عند ابن الجارود والإسماعيلي من رواية ابن عون عن الشعبي، قال ابن عون في آخر الحديث: لا أدري المثل من قول النبي - صلى الله عليه وسلم أو من قول الشعبي. قلت: وتردد ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مدرجا، لأن الأثبات قد جزموا باتصاله ورفعه، فلا يقدح شك بعضهم فيه. وكذلك سقوط المثل من رواية بعض الرواة - كأبي فروة عن الشعبي - لا يقدح فيمن أثبته، لأنهم حفاظ. ولعل هذا هو السر في حذف البخاري قوله: " وقع في الحرام " ليصير ما قبل المثل مرتبطا به فيسلم من دعوى الإدراج. ومما يقوي عدم الإدراج رواية ابن حبان الماضية، وكذا ثبوت المثل مرفوعا في رواية ابن عباس وعمار بن ياسر أيضا. قوله: (ألا إن حمى الله في أرضه محارمه) سقط " في أرضه " من رواية المستملي، وثبتت الواو في قوله: " ألا وإن حمى الله " في رواية غير أبي ذر، والمراد بالمحارم فعل المنهي المحرم أو ترك المأمور الواجب، ولهذا وقع في رواية أبي فروة التعبير بالمعاصي بدل المحارم. وقوله: " ألا " للتنبيه على صحة ما بعدها، وفي إعادتها وتكريرها دليل على عظم شأن مدلولها. قوله: (مضغة) أي: قدر ما يمضغ، وعبر بها هنا عن مقدار القلب في الرؤية، وسمي القلب قلبا لتقلبه في الأمور، أو لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه، أو لأنه وضع في الجسد مقلوبا. وقوله: " إذا صلحت " و " إذا فسدت " هو بفتح عينهما وتضم في المضارع، وحكى الفراء الضم في ماضي صلح، وهو يضم وفاقا إذا صار له الصلاح هيئة لازمة لشرف ونحوه، والتعبير بإذا لتحقق الوقوع غالبا، وقد تأتي بمعنى إن كما هنا. وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد. وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرا فيه.(1/ 129) والمراد المتعلق به: من الفهم الذي ركبه الله فيه. ويستدل به على أن العقل في القلب، ومنه قوله تعالى: (فتكون لهم قلوب يعقلون بها. ( وقوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب. ( قال المفسرون: أي عقل. وعبر عنه بالقلب لأنه محل استقراره. (فائدة) : لم تقع هذه الزيادة التي أولها " ألا وإن في الجسد مضغة " إلا في رواية الشعبي، ولا هي في أكثر الروايات عن الشعبي، إنما تفرد بها في الصحيحين زكريا المذكور عنه، وتابعه مجاهد عند أحمد، ومغيرة وغيره عند الطبراني. وعبر في بعض رواياته عن الصلاح والفساد بالصحة والسقم، ومناسبتها لما قبلها بالنظر إلى أن الأصل في الاتقاء والوقوع هو ما كان بالقلب، لأنه عماد البدن. وقد عظم العلماء أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبى داود، وفيه البيتان المشهوران وهما: عمدة الدين عندنا كلمات * مسندات من قول خير البرية اترك المشبهات وازهد ودع ما * ليس يعنيك واعملن بنية والمعروف عن أبي داود عد " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه.. الحديث " بدل " ازهد فيما في أيدي الناس " وجعله بعضهم ثالث ثلاثة حذف الثاني، وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام، قال القرطبي: لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه. والله المستعان. |
01-31-2013, 12:54 PM | #50 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*40 باب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنْ الْإِيمَانِ
الشرح: قوله: (باب أداء الخمس من الإيمان) هو بضم الخاء المعجمة، وهو المراد بقوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه) الآية. وقيل: إنه روي هنا بفتح الخاء، والمراد قواعد الإسلام الخمس المذكورة في حديث: " بني الإسلام على خمس " وفيه بعد، لأن الحج لم يذكر هنا ولأن غيره من القواعد قد تقدم، ولم يرد هنا إلا ذكر خمس الغنيمة فتعين أن يكون المراد إفراده بالذكر. وسنذكر وجه كونه من الإيمان قريبا. الحديث: -53- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي. فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ الْقَوْمُ - أَوْ مَنْ الْوَفْدُ؟ - قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ - أَوْ بِالْوَفْدِ - غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيكَ إِلَّا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنْ الْأَشْرِبَةِ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ. وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ الْحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ - وَرُبَّمَا قَالَ: الْمُقَيَّرِ - وَقَالَ: احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ. الشرح: (1/ 130) قوله: (عن أبي جمرة) هو بالجيم والراء كما تقدم، واسمه نصر بن عمران بن نوح بن مخلد الضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة، من بني ضبيعة، بضم أوله مصغرا، وهم بطن من عبد القيس كما جزم به الرشاطي، وفي بكر بن وائل بطن يقال لهم: بنو ضبيعة أيضا، وقد وهم. من نسب أبا جمرة إليهم من شراح البخاري، فقد روى الطبراني وابن مندة في ترجمة نوح ابن مخلد جد أبي جمرة أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: ممن أنت؟ قال: من ضبيعة ربيعة. فقال: خير ربيعة عبد القيس ثم الحي الذين أنت منهم. قوله: (كنت أقعد مع ابن عباس) بين المصنف في العلم من رواية غندر، عن شعبة السبب في إكرام ابن عباس له ولفظه: " كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس " قال ابن الصلاح: أصل الترجمة التعبير عن لغة بلغة، وهو عندي هنا أعم من ذلك، وأنه كان يبلغ كلام ابن عباس إلى من خفي عليه ويبلغه كلامهم، إما لزحام أو لقصور فهم. قلت: الثاني أظهر، لأنه كان جالسا معه على سريره، فلا فرق في الزحام بينهما إلا أن يحمل على أن ابن عباس كان في صدر السرير، وكان أبو جمرة في طرفه الذي يلي من يترجم عنهم، وقيل: إن أبا جمرة كان يعرف الفارسية فكان يترجم لابن عباس بها، قال القرطبي: فيه دليل على أن ابن عباس كان يكتفي في الترجمة بواحد. قلت: وقد بوب عليه البخاري في أواخر كتاب الأحكام كما سيأتي. واستنبط منه ابن التين جواز أخذ الأجرة على التعليم لقوله: " حتى أجعل لك سهما من مالي " وفيه نظر، لاحتمال أن يكون إعطاؤه ذلك كان بسبب الرؤيا التي رآها في العمرة قبل الحج كما سيأتي عند المصنف صريحا في الحج. وقال غيره: هو أصل في اتخاذ المحدث المستملي. قوله: (ثم قال: إن وفد عبد القيس) بين مسلم من طريق غندر عن شعبة السبب في تحديث ابن عباس لأبي جمرة بهذا الحديث، فقال بعد قوله " وبين الناس ": فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر، فنهى عنه، فقلت: يا ابن عباس إني أنتبذ في جرة خضراء نبيذا حلوا فأشرب منه فتقرقر بطني، قال: لا تشرب منه وإن كان أحلى من العسل. وللمصنف في أواخر المغازي من طريق قرة عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إن لي جرة أنتبذ فيها فأشربه حلوا، إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: " قدم وفد عبد القيس " فلما كان أبو جمرة من عبد القيس وكان حديثهم يشتمل على النهي عن الانتباذ في الجرار ناسب أن يذكره له. وفي هذا دليل على أن ابن عباس لم يبلغه نسخ تحريم الانتباذ في الجرار، وهو ثابت من حديث بريدة بن الحصيب عند مسلم وغيره. قال القرطبي: فيه دليل على أن للمفتي أن يذكر الدليل مستغنيا به عن التنصيص على جواب الفتيا إذا كان السائل بصيرا بموضع الحجة. قوله: (لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من القوم، أو من الوفد) الشك من أحد الرواة، إما أبو جمرة أو من دونه، وأظنه شعبة فإنه في رواية قرة وغيره بغير شك. وأغرب الكرماني فقال: الشك من ابن عباس. قال النووي: الوفد الجماعة المختارة للتقدم في لقي العظماء واحدهم وافد. قال: ووفد عبد القيس المذكورون كانوا أربعة عشر راكبا كبيرهم الأشج، ذكره صاحب التحرير في شرح مسلم وسمي منهم المنذر بن عائذ وهو الأشج المذكور ومنقذ بن حبان ومزيدة بن مالك وعمرو بن مرحوم والحارث ابن شعيب وعبيدة بن همام والحارث بن جندب وصحار بن العباس وهو بصاد مضمومة وحاء مهملتين، قال: ولم نعثر بعد طول التتبع على أسماء الباقين. قلت: قد ذكر ابن سعد منهم عقبة بن جروة، وفي سنن أبي داود قيس بن النعمان العبدي وذكره الخطيب أيضا في المبهمات، وفي مسند البزار وتاريخ ابن أبي خيثمة الجهم بن قثم، ووقع ذكره في صحيح مسلم أيضا لكن لم يسمه، (1/ 131) وفي مسندي أحمد وابن أبي شيبة الرستم العبدي، وفي المعرفة لأبي نعيم جويرية العبدي، وفي الأدب للبخاري الزارع بن عامر العبدي. فهؤلاء الستة الباقون من العدد. وما ذكر من أن الوفد كانوا أربعة عشر راكبا لم يذكر دليله، وفي المعرفة لابن منده من طريق هود العصري - وهو بعين وصاد مهملتين مفتوحتين - نسبة إلى عصر بطن من عبد القيس عن جده لأمه مزيدة قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه إذ قال لهم: " سيطلع لكم من هذا الوجه ركب هم خير أهل المشرق " فقام عمر فلقي ثلاثة عشر راكبا فرحب وقرب وقال: من القوم؟ قالوا: وفد عبد القيس، فيمكن أن يكون أحد المذكورين كان غير راكب أو مرتدفا. وأما ما رواه الدولابي وغيره من طريق أبي خيرة - بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتانية وبعد الراء هاء - الصباحي - وهو بضم الصاد المهملة بعدها موحدة خفيفة وبعد الألف حاء مهملة - نسبة إلى صباح بطن من عبد القيس قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وفد عبد القيس وكنا أربعين رجلا فنهانا عن الدباء والنقير.. الحديث، فيمكن أن يجمع بينه وبين الرواية الأخرى بأن الثلاثة عشر كانوا رؤوس الوفد، ولهذا كانوا ركبانا، وكان الباقون أتباعا. وقد وقع في جملة من الأخبار ذكر جماعة من عبد القيس زيادة على من سميته هنا، منهم أخو الزارع واسمه مطر وابن أخته ولم يسم وروى ذلك البغوي في معجمه، ومنهم مشمرج السعدي روى حديثه ابن السكن وأنه قدم مع وفد عبد القيس، ومنهم جابر بن الحارث وخزيمة بن عبد بن عمرو وهمام بن ربيعة وجارية - أوله جيم - ابن جابر ذكرهم ابن شاهين في معجمه، ومنهم نوح بن مخلد جد أبي جمرة وكذا أبو خيرة الصباحي كما تقدم. وإنما أطلت في هذا الفصل لقول صاحب التحرير إنه لم يظفر - بعد طول التتبع - إلا بما ذكرهم. قال ابن أبي جمرة: في قوله: " من القوم " دليل على استحباب سؤال القاصد عن نفسه ليعرف فينزل منزلته. قوله: (قالوا: ربيعة) فيه التعبير عن البعض بالكل لأنهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة، فإن عند المصنف في الصلاة من طريق عباد عن أبي جمرة: فقالوا إن هذا الحي من ربيعة. قال ابن الصلاح: الحي منصوب على الاختصاص، والمعنى إنا هذا الحي حي من ربيعة، قال: والحي هو اسم لمنزل القبيلة، ثم سميت القبيلة به، لأن بعضهم يحيا ببعض. قوله: (مرحبا) هو منصوب بفعل مضمر، أي: صادفت رحبا - بضم الراء - أي: سعة، والرحب - بالفتح - الشيء الواسع، وقد يزيدون معها أهلا، أي: وجدت أهلا فاستأنس، وأفاد العسكري أن أول من قال مرحبا سيف بن ذي يزن، وفيه دليل على استحباب تأنيس القادم، وقد تكرر ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم-، ففي حديث أم هانئ: " مرحبا بأم هانئ " وفي قصة عكرمة بن أبي جهل: " مرحبا بالراكب المهاجر " وفي قصة فاطمة: " مرحبا بابنتي " وكلها صحيحة. وأخرج النسائي من حديث عاصم بن بشير الحارثي عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له لما دخل فسلم عليه: " مرحبا وعليك السلام". قوله: (غير خزايا) بنصب " غير " على الحال، وروي بالكسر على الصفة، والمعروف الأول قاله النووي، ويؤيده رواية المصنف في الأدب من طريق أبي التياح عن أبي جمرة: " مرحبا بالوفد الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى" وخزايا جمع خزيان وهو الذي أصابه خزي، والمعنى أنهم أسلموا طوعا من غير حرب أو سبي يخزيهم ويفضحهم. قوله: (ولا ندامى) قال الخطابي: كان أصله نادمين جمع نادم لأن ندامى إنما هو جمع ندمان أي: المنادم في اللهو. وقال الشاعر: " فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني"، لكنه هنا خرج على الاتباع كما قالوا العشايا والغدايا، وغداة جمعها الغدوات لكنه أتبع. انتهى. وقد حكى القزاز والجوهري وغيرهما من أهل اللغة أنه يقال نادم وندمان في الندامة، بمعنى فعلي هذا، فهو على الأصل ولا إتباع فيه.(1/ 132) والله أعلم. ووقع في رواية النسائي من طريق قرة فقال " مرحبا بالوفد ليس الخزايا ولا النادمين " وهي للطبراني من طريق شعبة أيضا، قال ابن أبي جمرة: بشرهم بالخير عاجلا وآجلا، لأن الندامة إنما تكون في العاقبة، فإذا انتفت ثبت ضدها. وفيه دليل على جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الفتنة. قوله: (فقالوا: يا رسول الله) فيه دليل على أنهم كانوا حين المقابلة مسلمين، وكذا في قولهم " كفار مضر " وفي قولهم " الله ورسوله أعلم". قوله: (إلا في الشهر الحرام) ، وللأصيلي وكريمة " إلا في شهر الحرام " وهي رواية مسلم، وهي من إضافة الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع ونساء المؤمنات. والمراد بالشهر الحرام الجنس فيشمل الأربعة الحرم، ويؤيده رواية قرة عند المؤلف في المغازي بلفظ " إلا في أشهر الحرم " ورواية حماد بن زيد عنده في المناقب بلفظ " إلا في كل شهر حرام " وقيل اللام للعهد والمراد شهر رجب. وفي رواية للبيهقي التصريح به، وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة حيث قال " رجب مضر " كما سيأتي. والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى، إلا أنهم ربما أنسؤوها بخلافه، وفيه دليل على تقدم إسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق، ولهذا قالوا - كما في رواية شعبة عند المؤلف في العلم - وإنا نأتيك من شقة بعيدة. قال ابن قتيبة: الشقة السفر. وقال الزجاج: هي الغاية التي تقصد. ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضا ما رواه المصنف في الجمعة من طريق أبي جمرة أيضا عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت - بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين، وجواثي بضم الجيم وبعد الألف مثلثة مفتوحة، وهي قرية شهيرة لهم، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم فدل على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام. قوله: (بأمر فصل) بالتنوين فيهما لا بالإضافة، والأمر، واحد الأوامر، أي مرنا بعمل بواسطة افعلوا، ولهذا قال الراوي أمرهم. وفي رواية حماد بن زيد وغيره عند المؤلف قال النبي صلى الله عليه وسلم " آمركم"، وله عن أبي التياح بصيغة افعلوا. و " الفصل " بمعنى الفاصل كالعدل بمعنى العادل، أي يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المفصل أي المبين المكشوف حكاه الطيبي. وقال الخطابي: الفصل البين وقيل المحكم. قوله: (نخبر به) بالرفع على الصفة لأمر، وكذا قوله وندخل، ويروى بالجزم فيهما على أنه جواب الأمر. وسقطت الواو من وندخل في بعض الروايات فيرفع نخبر ويجزم ندخل، قال ابن أبي جمرة: فيه دليل على إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجبا أو مندوبا، وعلى أنه يبدأ بالسؤال عن الأهم، وعلى أن الأعمال الصالحة تدخل الجنة إذا قبلت، وقبولها يقع برحمة الله كما تقدم. قوله: (فأمرهم بأربع) أي خصال أو جمل، لقولهم " حدثنا بجمل من الأمر " وهي رواية قرة عند المؤلف في المغازي، قال القرطبي: قيل إن أول الأربع المأمور بها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركا بهما كما قيل في قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه) وإلى هذا نحا الطيبي فقال: عادة البلغاء أن الكلام إذا كان منصوبا لغرض جعلوا سياقه له وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين - لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة - ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإسلام، قال: فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر. قيل ولا يرد على هذا الإتيان بحرف العطف فيحتاج إلى تقدير. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لولا وجود حرف العطف لقلنا إن ذكر الشهادتين ورد على سبيل التصدير، لكن يمكن أن يقرأ قوله " وإقام الصلاة " بالخفض فيكون عطفا على قوله " أمرهم بالإيمان " والتقدير أمرهم بالإيمان مصدرا به وبشرطه من الشهادتين، وأمرهم بإقام الصلاة الخ، قال: ويؤيد هذا حذفهما في رواية المصنف في الأدب من طريق أبي التياح عن أبي جمرة ولفظه " أربع وأربع، أقيموا الصلاة الخ". فإن قيل ظاهر ما ترجم به المصنف من أن أداء الخمس من الإيمان يقتضي إدخاله مع باقي الخصال في تفسير الإيمان والتقدير المذكور يخالفه، أجاب ابن رشيد بأن المطابقة تحصل من جهة أخرى، وهي أنهم سألوا عن الأعمال التي يدخلون بها الجنة وأجيبوا بأشياء منها أداء الخمس، والأعمال التي تدخل الجنة هي أعمال الإيمان فيكون أداء الخمس من الإيمان بهذا التقرير. فإن قيل: فكيف قال في رواية حماد بن زيد عن أبي جمرة " آمركم بأربع: الإيمان بالله: شهادة أن لا إله إلا الله. وعقد واحدة " كذا للمؤلف في المغازي، وله في فرض الخمس " وعقد بيده " فدل على أن الشهادة إحدى الأربع. وأما ما وقع عنده في الزكاة من هذا الوجه من زيادة الواو في قوله " شهادة أن لا إله إلا الله " فهي زيادة شاذة لم يتابع عليها حجاج بن منهال أحد، والمراد بقوله شهادة أن لا إله إلا الله أي وأن محمدا رسول الله كما صرح به في رواية عباد بن عباد في أوائل المواقيت ولفظه " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله " ثم فسرها لهم " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " الحديث. والاقتصار على شهادة أن لا إله إلا الله على إرادة الشهادتين معا لكونها صارت علما على ذلك كما تقدم تقريره في باب زيادة الإيمان، وهذا أيضا يدل على أنه عد الشهادتين من الأربع لأنه أعاد الضمير في قوله ثم فسرها مؤنثا فيعود على الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرا، وعلى هذا فيقال: كيف قال أربع والمذكورات خمس؟ وقد أجاب عنه القاضي عياض - تبعا لابن بطال - بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قال: كأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد ذكرها بعينها لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين. قال: وكذلك لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض. وقال غيره: قوله " وأن تعطوا " معطوف على قوله " بأربع " أي آمركم بأربع وبأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع والإتيان بأن والفعل مع توجه الخطاب إليهم، قال ابن التين: لا يمتنع الزيادة إذا حصل الوفاء بوعد الأربع. قلت: ويدل على ذلك لفظ رواية مسلم من حديث أبي سعيد الخدري في هذه القصة " آمركم بأربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم". وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ويحتمل أن يقال إنه عد الصلاة والزكاة واحدة لأنها قرينتها في كتاب الله، وتكون الرابعة أداء الخمس، أو أنه لم يعد أداء الخمس لأنه داخل في عموم إيتاء الزكاة، والجامع بينهما أنهما إخراج مال معين في حال دون حال. وقال البيضاوي الظاهر أن الأمور الخمسة المذكورة هنا تفسير للإيمان وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الأخر حذفها الراوي اختصارا أو نسيانا. كذا قال، وما ذكر أنه الظاهر لعله يحسب ما ظهر له، وإلا فالظاهر من السياق أن الشهادة أحد الأربع لقوله " وعقد واحدة " وكان القاضي أراد أن يرفع الإشكال من كون الإيمان واحدا والموعود بذكره أربعا، وقد أجيب عن ذلك بأنه باعتبار أجزائه المفصلة أربع، وهو في حد ذاته واحد، والمعنى أنه اسم جامع للخصال الأربع التي ذكر أنه يأمرهم بها، ثم فسرها، فهو واحد بالنوع متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه - وهو الانتباذ فيما يسرع إليه الإسكار - واحد بالنوع متعدد بحسب أوعيته والحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير أن تتشوف النفس إلى التفصيل ثم تسكن إليه وأن يحصل حفظها للسامع فإذا نسى شيئا من تفاصيلها طالب نفسه بالعدد، فإذا لم يستوف العدد الذي في حفظه علم أنه قد فاته بعض ما سمع. وما ذكره القاضي عياض من أن السبب في كونه لم يذكر الحج في الحديث لأنه لم يكن فرض هو المعتمد، وقد قدمنا الدليل على قدم إسلامهم، لكن جزم القاضي بأن قدومهم كان في سنة ثمان قبل فتح مكة تبع فيه الواقدي، وليس بجيد، لأن فرض الحج كان سنة ست على الأصح كما سنذكره في موضعه إن شاء الله، ولكن القاضي يختار أن فرض الحج كان سنة تسع حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور ا ه. وقد احتج الشافعي لكونه على التراخي بأن فرض الحج كان بعد الهجرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرا على الحج في سنة ثمان وفي سنة تسع ولم يحج إلا في سنة عشر، وأما قول من قال إنه ترك ذكر الحج لكونه على التراخي فليس بجيد، لأن كونه على التراخي لا يمنع من الأمر به، وكذا قول من قال إنما تركه لشهرته عندهم ليس بقوي، لأنه عند غيرهم ممن ذكره لهم أشهر منه عندهم، وكذا قول من قال: إن ترك ذكره لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ليس بمستقيم، لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان كما في الآية، بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة لأن الحج يقع في الأشهر الحرم، وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها. لكن يمكن أن يقال إنه إنما أخبرهم ببعض الأوامر لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلا وتركا. ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها. وأما ما وقع في كتاب الصيام من السنن الكبرى للبيهقي من طريق أبي قلابة الرقاشي عن أبي زيد الهروي عن قرة في هذا الحديث من زيادة ذكر الحج ولفظه " وتحجوا البيت الحرام " ولم يتعرض لعدد فهي رواية شاذة، وقد أخرجه الشيخان ومن استخرج عليهما والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من طريق قرة لم يذكر أحد منهم الحج، وأبو قلابة تغير حفظه في آخر أمره فلعل هذا مما حدث به في التغير، وهذا بالنسبة لرواية أبي جمرة. وقد ورد ذكر الحج أيضا في مسند الإمام أحمد من رواية أبان العطار عن قتادة عن سعيد بن المسيب - وعن عكرمة - عن ابن عباس في قصة وفد عبد قيس. وعلى تقدير أن يكون ذكر الحج فيه محفوظا فيجمع في الجواب عنه بين الجوابين المتقدمين فيقال: المراد بالأربع ما عدا الشهادتين وأداء الخمس. والله أعلم. قوله: (ونهاهم عن أربع: عن الحنتم الخ) في جواب قوله " وسألوه عن الأشربة " هو من إطلاق المحل وإرادة الحال، أي ما في الحنتم ونحوه، وصرح بالمراد في رواية النسائي من طريق قره فقال " وأنهاكم عن أربع: ما ينتبذ في الحنتم " الحديث. والحنتم بفتح المهملة وسكون النون وفتح المثناة من فوق هي الجرة، كذا فسرها ابن عمر في صحيح مسلم، وله عن أبي هريرة: الحنتم الجرار الخضر، وروى الحربي في الغريب عن عطاء أنها جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم. والدباء بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد هو القرع، قال النووي: والمراد اليابس منه. وحكى القزاز فيه القصر. والنقير بفتح النون وكسر القاف: أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء. والمزفت بالزاي والفاء ما طلي بالزفت. والمقير بالقاف والياء الأخيرة ما طلي بالقار ويقال له القير، وهو نبت يحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت، قاله صاحب المحكم. وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال: أما الدباء فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القرع فيخرطون فيه العنب ثم يدفنونه حتى يهدر ثم يموت. وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت. وأما الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر. وأما المزفت فهذه الأوعية التي فيها الزفت. انتهى. وإسناده حسن. وتفسير الصحابي أولى أن يعتمد عليه من غيره لأنه أعلم بالمراد. ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع فيها الإسكار، فربما شرب منها من لا يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر كما سيأتي في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى. قوله: (وأخبروا بهن من وراءكم) بفتح من وهي موصولة، ووراءكم يشمل من جاءوا من عندهم وهذا باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين معا حقيقة ومجازا. واستنبط منه المصنف الاعتماد على أخبار الآحاد على ما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. |
01-31-2013, 12:55 PM | #51 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب مَا جَاءَ إِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى
فَدَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّوْمُ وَالْأَحْكَامُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ عَلَى نِيَّتِهِ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةٌ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ الشرح: قوله: (باب ما جاء) أي باب بيان ما ورد دالا على أن الأعمال الشرعية معتبرة بالنية والحسبة، والمراد بالحسبة طلب الثواب، ولم يأت بحديث لفظه الأعمال بالنية والحسبة، وإنما استدل بحديث عمر على أن الأعمال بالنية، وبحديث أبي مسعود على أن الأعمال بالحسبة، وقوله "ولكل امرئ ما نوى " هو بعض حديث الأعمال بالنية. وإنما أدخل قوله والحسبة بين الجملتين للإشارة إلى أن الثانية تفيد ما لا تفيد الأولى. قوله: (فدخل فيه) هو من مقول المصنف، وليس بقية مما ورد. وقد أفصح ابن عساكر في روايته بذلك فقال: قال أبو عبد الله - يعني المصنف - والضمير في فيه يعود على الكلام المتقدم. وتوجيه دخول النية في الإيمان على طريقة المصنف أن الإيمان عمل كما تقدم شرحه. وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب - من خشية الله وعظمته ومحبته والتقرب إليه - لأنها متميزة لله تعالى فلا تحتاج لنية تميزها، لأن النية إنما تميز العمل لله عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم عن الحمية. قوله: (والوضوء) أشار به إلى خلاف من لم يشترط فيه النية كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما وحجتهم أنه ليس عبادة مستقلة بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة، ونوقضوا بالتيمم فإنه وسيلة وقد اشترط الحنفية فيه النية، واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه، فلا بد من قصد يميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود، وأما الصلاة فلم يختلف في اشتراط النية فيها، وأما الزكاة فإنما تسقط بأخذ السلطان ولو لم ينو صاحب المال لأن السلطان قائم مقامه، وأما الحج فإنما ينصرف إلى فرض من حج عن غيره لدليل خاص وهو حديث ابن عباس في قصة شبرمة، وأما الصوم فأشار به إلى خلاف من زعم أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية لأنه متميز بنفسه كما نقل عن زفر. وقدم المصنف الحج على الصوم تمسكا بما ورد عنده في حديث " بني الإسلام " وقد تقدم. قوله: (والأحكام) أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها، وكل صورة لم يشترط فيها النية فذاك لدليل خاص، وقد ذكر ابن المنير ضابطا لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة وتعاطته الطبيعة قبل الشريعة لملائمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب. قال: وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة قال: وأما ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه، لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويا. ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلي، ولذلك لا تشترط النية للنية فرارا من التسلسل. وأما الأقوال فتحتاج إلى النية في ثلاثة مواطن: أحدها التقرب إلى الله فرارا من الرياء، والثاني التمييز بين الألفاظ المحتملة لغير المقصود، والثالث قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. قوله: (وقال الله) قال الكرماني: الظاهر أنها جملة حالية لا عطف، أي والحال أن الله قال. ويحتمل أن تكون للمصاحبة، أي مع أن الله قال. قوله: (على نيته) تفسير منه لقوله: (على شاكلته) بحذف أداة التفسير، وتفسير الشاكلة بالنية صح عن الحسن البصري ومعاوية بن قرة المزني وقتادة أخرجه عبد بن حميد والطبري عنهم، وعن مجاهد قال: الشاكلة الطريقة أو الناحية، وهذا قول الأكثر، وقيل الدين. وكلها متقاربة. قوله: (ولكن جهاد ونية) هو طرف من حديث لابن عباس أوله " لا هجرة بعد الفتح " وقد وصله المؤلف في الجهاد وغيره من طريق طاوس عنه، وسيأتي. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ الشرح: قوله: (حدثنا الحميدي) هو أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى، منسوب إلى حميد بن أسامة بطن من بني أسد بن عبد العزي بن قصي رهط خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، يجتمع معها في أسد ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي. وهو إمام كبير مصنف، رافق الشافعي في الطلب عن ابن عيينة وطبقته وأخذ عنه الفقه ورحل معه إلى مصر، ورجع بعد وفاته إلى مكة إلى أن مات بها سنة تسع عشرة ومائتين. فكأن البخاري امتثل قوله صلى الله عليه وسلم "قدموا قريشا " فافتتح كتابه بالرواية عن الحميدي لكونه أفقه قرشي أخذ عنه. وله مناسبة أخرى لأنه مكي كشيخه فناسب أن يذكر في أول ترجمة بدء الوحي لأن ابتداءه كان بمكة، ومن ثم ثنى بالرواية عن مالك لأنه شيخ أهل المدينة وهي تالية لمكة في نزول الوحي وفي جميع الفضل، ومالك وابن عيينة قرينان، قال الشافعي: لولاهما لذهب العلم من الحجاز. قوله: (حدثنا سفيان) هو ابن عيينة بن أبي عمران الهلالي أبو محمد المكي، أصله ومولده الكوفة، وقد شارك مالكا في كثير من شيوخه وعاش بعده عشرين سنة، وكان يذكر أنه سمع من سبعين من التابعين. قوله: (عن يحيى بن سعيد) في رواية غير أبي ذر: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري. اسم جده قيس بن عمرو وهو صحابي، ويحيى من صغار التابعين، وشيخه محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي من أوساط التابعين، وشيخ محمد علقمة بن وقاص الليثي من كبارهم، ففي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق. وفي المعرفة لابن منده ما ظاهره أن علقمة صحابي، فلو ثبت لكان فيه تابعيان وصحابيان، وعلى رواية أبي ذر يكون قد اجتمع في هذا الإسناد أكثر الصيغ التي يستعملها المحدثون، وهي التحديث والإخبار والسماع والعنعنة والله أعلم. وقد اعترض على المصنف في إدخاله حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي وأنه لا تعلق له به أصلا، بحيث أن الخطابي في شرحه والإسماعيلي في مستخرجه أخرجاه قبل الترجمة لاعتقادهما أنه إنما أورده للتبرك به فقط، واستصوب أبو القاسم بن منده صنيع الإسماعيلي في ذلك. وقال ابن رشيد: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف، وقد تكلفت مناسبته للترجمة، فقال: كل بحسب ما ظهر له. انتهى. وقد قيل: إنه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب، لأن في سياقه أن عمر قاله على المنبر بمحضر الصحابة، فإذا صلح أن يكون في خطبة المنبر صلح أن يكون في خطبة الكتب. وحكى المهلب أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به حين قدم المدينة مهاجرا، فناسب إيراده في بدء الوحي، لأن الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين، ويعقبه النصر والظفر والفتح انتهى. وهذا وجه حسن، إلا أنني لم أر ما ذكره - من كونه صلى الله عليه وسلم خطب به أول ما هاجر - منقولا. وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية " الحديث، ففي هذا إيماء إلى أنه كان في حال الخطبة، أما كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة فلم أر ما يدل عليه، ولعل قائله استند إلى ما روي في قصة مهاجر أم قيس، قال ابن دقيق العيد: نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به، انتهى. وهذا لو صح لم يستلزم البداءة بذكره أول الهجرة النبوية. وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد من منصور قال أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: من هاجر يبتغي شيئا فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له مهاجر أم قيس ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك. وأيضا فلو أراد البخاري إمامته مقام الخطبة فقط أو الابتداء به تيمنا وترغيبا في الإخلاص لكان سياقه قبل الترجمة كما قال الإسماعيلي وغيره ونقل ابن بطال عن أبي عبد الله بن النجار قال: التبويب يتعلق بالآية والحديث معا، لأن الله تعالى أوحى إلى الأنبياء ثم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات لقوله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}. وقال أبو العالية في قوله تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} قال وصاهم بالإخلاص في عبادته. وعن أبي عبد الملك البوني قال: مناسبة الحديث للترجمة أن بدء الوحي كان بالنية، لأن الله تعالى فطر محمدا على التوحيد وبغض إليه الأوثان ووهب له أول أسباب النبوة وهي الرؤيا الصالحة، فلما رأى ذلك أخلص إلى الله في ذلك فكان يتعبد بغار حراء فقبل الله عمله وأتم له النعمة. وقال المهلب ما محصله: قصد البخاري الإخبار عن حال النبي صلى الله عليه وسلم في حال منشئه وأن الله بغض إليه الأوثان وحبب إليه خلال الخير ولزوم الوحدة فرارا من قرناء السوء، فلما لزم ذلك أعطاه الله على قدر نيته ووهب له النبوة كما يقال الفواتح عنوان الخواتم. ولخصه بنحو من هذا القاضي أبو بكر بن العربي. وقال ابن المنير في أول التراجم: كان مقدمة النبوة في حق النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الله تعالى بالخلوة في غار حراء فناسب الافتتاح بحديث الهجرة. ومن المناسبات البديعة الوجيزة ما تقدمت الإشارة إليه أن الكتاب لما كان موضوعا لجمع وحي السنة صدره ببدء الوحي، ولما كان الوحي لبيان الأعمال الشرعية صدره بحديث الأعمال، ومع هذه المناسبات لا يليق الجزم بأنه لا تعلق له بالترجمة أصلا. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث: قال أبو عبد الله: ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث. واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أنه ثلث الإسلام، ومنهم من قال ربعه، واختلفوا في تعيين الباقي. وقال ابن مهدي أيضا: يدخل في ثلاثين بابا من العلم. وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابا، ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة. وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضا: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب. ووجه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد: نية المؤمن خير من عمله، فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين. وكلام الإمام أحمد يدل على أنه بكونه ثلث العلم أنه أراد أحد القواعد الثلاثة التي ترد إليها جميع الأحكام عنده، وهي هذا و " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " و " الحلال بين والحرام بين " الحديث. ثم إن هذا الحديث متفق على صحته أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ مغترا بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك. وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردودا لكونه فردا، لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد، وهو كما قال، فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد وتفرد به من فوقه وبذلك جزم الترمذي والنسائي والبزار وابن السكن وحمزة بن محمد الكناني، وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال لكن بقيدين: أحدهما: الصحة لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن منده وغيرهما. ثانيهما: السياق لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم " يبعثون على نياتهم"، وحديث ابن عباس " ولكن جهاد ونية"، وحديث أبس موسى " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " متفق عليهما، وحديث ابن مسعود " رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته " أخرجه أحمد، وحديث عبادة " من غزا وهو لا ينوي إلا عقالا فله ما نوى " أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره، وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر، إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل. نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد: فحكى محمد بن علي بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفسا، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلاثمائة، وروى أبو موسى المديني عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى. قلت: وأنا أستبعد صحة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المائة، وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم، كما سيأتي مثال لذلك في الكلام على حديث ابن عمر في غسل الجمعة إن شاء الله تعالى. قوله: (على المنبر) بكسر الميم، واللام للعهد، أي منبر المسجد النبوي، ووقع في رواية حماد بن زيد عن يحيى في ترك الحيل: سمعت عمر يخطب. قوله: (إنما الأعمال بالنيات) كذا أورد هنا، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، أي كل عمل بنيته. وقال ا الخوبي كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتقاء لوعيده. ووقع في معظم الروايات بإفراد النية، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها. بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة فناسب جمعها، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص وهو واحد للواحد الذي لا شريك له. ووقعت في صحيح ابن حبان بلفظ " الأعمال بالنيات " بحذف " إنما " وجمع الأعمال والنيات، وهي ما وقع في كتاب الشهاب للقضاعي ووصله في مسنده كذلك، وأنكره أبو موسى المديني كما نقله النووي وأقره، وهو متعقب برواية ابن حبان، بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ " الأعمال بالنية"، وكذا في العتق من رواية الثوري، وفي الهجرة من رواية حماد بن زيد، ووقع عنده في النكاح بلفظ " العمل بالنية " بإفراد كل منهما. والنية بكسر النون وتشديد التحتانية على المشهور، وفي بعض اللغات بتخفيفها. قال الكرماني قوله " إنما الأعمال بالنيات " هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين، واختلف في وجه إفادته فقيل لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية، وقيل لأن إنما للحصر، وهل إفادتها له بالمنطوق أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع أو العرف، أو تفيده بالحقيقة أو بالمجاز؟ ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا، بل نقله شيخنا شيخ الإسلام عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل العربية، واحتج بعضهم بأنها لو كانت للحصر لما حسن إنما قام زيد في جواب هل قام عمرو، أجيب بأنه يصح أنه يقع في مثل هذا الجواب ما قام إلا زيد وهي للحصر اتفاقا، وقيل: لو كانت للحصر لاستوى إنما قام زيد مع ما قام إلا زيد، ولا تردد في أن الثاني أقوى من الأول، وأجيب بأنه لا يلزم من هذه القوة نفي الحصر فقد يكون أحد الفظين أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع كسوف والسين، وقد وقع استعمال إنما موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى (إنما تجزون ما كنتم تعملون) وكقوله: (وما تجزون إلا ما كنتم تعملون) وقوله: (إنما على رسولنا البلاغ المبين) وقوله: (ما على الرسول إلا البلاغ) ومن شواهده قول الأعشى: ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر يعني ما ثبتت العزة إلا لمن كان أكثر حصى. واختلفوا: هل هي بسيطة أو مركبة، فرجحوا الأول، وقد يرجح الثاني، ويجاب عما أورد عليه من قولهم إن " إن " للإثبات و " ما " للنفي فيستلزم إجماع المتضادين على صدد واحد بأن يقال مثلا: أصلهما كان للإثبات والنفي، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما بل أفادا شيئا آخر، أشار إلى ذلك الكرماني قال: وأما قول من قال إفادة هذا السياق للحصر من جهة أن فيه تأكيدا بعد تأكيد وهو المستفاد من إنما ومن الجمع، فتعقب بأنه من باب إيهام العكس، لأن قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد ظن أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر. وقال ابن دقيق العيد: استدل على إفادة إنما للحصر بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث " إنما الربا في النسيئة"، وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم ولم يخالفوه في فهمه فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر. وتعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزلا. وأما من قال: يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله " لا ربا إلا في النسيئة " لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر، بل يقويه ويشعر بأن مفاد الصيغتين عندهم واحد، وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه. وأوضح من هذا حديث " إنما الماء من الماء " فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث " إذا التقى الختانان " وقال ابن عطية: إنما لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازا يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك وأن أصل ورودها للحصر، لكن قد يكون في شيء مخصوص كقوله تعالى (إنما الله إله واحد) فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية، وإلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم والقدرة، وكقوله تعالى (إنما أنت منذر) فإنه سيق باعتبار منكري الرسالة، وإلا فله صلى الله عليه وسلم صفات أخرى كالبشارة، إلى غير ذلك من الأمثلة. وهي - فيما يقال - السبب في قول من منع إفادتها للحصر مطلقا. (تكميل) : الأعمال تقتضي عاملين، والتقدير: الأعمال الصادرة من المكلفين، وعلى هذا هل تحرج أعمال الكفار؟ الظاهر الإخراج، لأن المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصح من الكافر وإن كان مخاطبا بها معاقبا على تركها ولا يرد العتق والصدقة لأنهما بدليل آخر. قوله: (بالنيات) الباء للمصاحبة، ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في إيجاده، وعلى الأول فهي من نفس العمل فيشترط أن لا تتخلف عن أوله. قال النووي: النية القصد، وهي عزيمة القلب. وتعقبه الكرماني بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد. واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط؟ والمرجح أن إيجادها ذكرا في أول العمل ركن، واستصحابها حكما بمعنى أن لا يأتي بمناف شرعا شرط. ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فقيل تعتبر وقيل تكمل وقيل تصح وقيل تحصل وقيل تستقر. قال الطيبي: كلام الشارع محمول على بيان الشرع، لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان، فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع، فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي. وقال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه. والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل، والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية، إذ التقدير: لا عمل إلا بالنية، فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة. وقال شيخنا شيخ الإسلام: الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية، لقوله في الحديث " فمن كانت هجرته " إلى آخره. وعلى هذا يقدر المحذوف كونا مطلقا من اسم فاعل أو فعل. ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان فتدخل الأقوال. قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها. وأما التروك فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق عليها لفظ العمل. وقد تعقب على من يسمى القول عملا لكونه عمل اللسان، بأن من حلف لا يعمل عملا فقال قولا لا يحنث. وأجيب بأن مرجع اليمين إلى العرف، والقول لا يسمى عملا في العرف ولهذا يعطف عليه. والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازا، وكذا الفعل، لقوله تعالى (ولو شاء ربك ما فعلوه) بعد قوله: (زخرف القول. ( وأما عمل القلب كالنية فلا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل، والمعرفة: وفي تناولها نظر، قال بعضهم: هو محال لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف فيلزم أن يكون عارفا قبل المعرفة. وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله: إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأن كل ذي عقل يشعر مثلا بأن له من يدبره، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالا. وقال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال، والذين لم يشتروطها قدروا كمال الأعمال، ورجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال فالحمل عليها أولى. وفي هذا الكلام إبهام أن بعض العلماء لا يرى باشتراط النية، وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء، وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا. نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل كما هو معروف في مبسوطات الفقه. (تكميل) : الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير، والتقدير الأعمال بنياتها، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلا صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضا أو نفلا، ظهرا مثلا أو عصرا، مقصورة أو غير مقصورة وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث. والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر مثلا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم. قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) قال القرطبي: فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنها مؤكدة. وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأولى، لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئا يحصل له - يعنى إذا عمله بشرائطه - أو حال دون عمله له ما يعذر شرعا بعدم عمله وكل ما لم ينوه لم يحصل له. ومراده بقوله ما لم ينوه أي لا خصوصا ولا عموما، أما إذا لم ينو شيئا مخصوصا لكن كانت هناك نية عامة تشمله فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء. ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى. وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلى الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها، لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح، لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيم فلا بد فيه من القصد إليه، بخلاف تحية المسجد والله أعلم. وقال النووي: أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهرا مثلا أو عصرا، ولا يخفى أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة. وقال ابن السمعاني في أماليه: أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القربة، كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة. وقال غيره: أفادت أن النيابة لا تدخل في النية، فإن ذلك هو الأصل، فلا يرد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره فإنها على خلاف الأصل. وقال ابن عبد السلام: الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها. وأفاد أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار والأدعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة. ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا، ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقا، أي المجرد عن التفكر. قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب انتهى. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم "في بضع أحدكم صدقة " ثم قال في الجواب عن قولهم " أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ ": " أرأيت لو وضعها في حرام". وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح لأنه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده. وخص من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه كتحية المسجد كما تقدم، وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة فإن عدتها تنقضي، لأن المقصود حصول براءة الرحم وقد وجدت، ومن ثم لم يحتج المتروك إلى نية. ونازع الكرماني في إطلاق الشيخ محيي الدين كون المتروك لا يحتاج إلى نية بأن الترك فعل وهو كف النفس، وبأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلا بد فيها من قصد الترك، وتعقب بأن قوله " الترك فعل " مختلف فيه، ومن حق المستدل على المانع أن يأتي بأمر متفق عليه. وأما استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها؟ والذي أورده استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها والذي أورده هل يحصل الثواب بدونها؟ والتفاوت بين المقامين ظاهر. والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلا ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفا من الله تعالى، فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه، لا الترك المجرد. والله أعلم. |
01-31-2013, 12:55 PM | #52 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
(تنبيه) : قال الكرماني: إذا قلنا إن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله " وإنما لكل امرئ ما نوى " نوعان من الحصر: قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لكل امرئ ما نواه، والتقديم المذكور. قوله: (فمن كانت هجرته إلى دنيا) كذا وقع في جميع الأصول التي اتصلت لنا عن البخاري بحذف أحد وجهي التقسيم وهو قوله " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله الخ " قال الخطابي: وقع هذا الحديث في روايتنا وجميع نسخ أصحابنا مخروما قد ذهب شطره، ولست أدري كيف وقع هذا الإغفال، ومن جهة من عرض من رواته؟ فقد ذكره البخاري من غير طريق الحميدي مستوفى، وقد رواه لنا الإثبات من طريق الحميدي تاما، ونقل ابن التين كلام الخطابي مختصرا وفهم من قوله مخروما أنه قد يربد أن في السند انقطاعا فقال من قبل نفسه لأن البخاري لم يلق الحميدي، وهو مما يتعجب من إطلاقه مع قول البخاري " حدثنا الحميدي " وتكرار ذلك منه في هذا الكتاب، وجزم كل من ترجمه بأن الحميدي من شيوخه في الفقه والحديث.
وقال ابن العربي في مشيخته: لا عذر للبخاري في إسقاطه لأن الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام. قال: وذكر قوم أنه لعله استملاه من حفظ الحميدي فحدثه هكذا فحدث عنه كما سمع أو حدثه به تاما فسقط من حفظ البخاري. قال: وهو أمر مستبعد جدا عند من اطلع على أحوال القوم. وقال الداودي الشارح: الإسقاط فيه من البخاري فوجوده في رواية شيخه وشيخ شيخه يدل على ذلك انتهى. وقد رويناه من طريق بشر بن موسى وأبي إسماعيل الترمذي وغير واحد عن الحميدي تاما، وهو في مصنف قاسم بن أصبغ ومستخرجي أبي نعيم وصحيح أبي عوانة من طريق الحميدي، فإن كان الإسقاط من غير البخاري فقد يقال: لم أختار الابتداء بهذا السياق الناقص؟ والجواب قد تقدمت الإشارة إليه، وأنه اختار الحميدي لكونه أجل مشايخه المكيين إلى آخر ما تقدم في ذلك من المناسبة، وإن كان الإسقاط منه فالجواب ما قاله أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الحافظ في أجوبة له على البخاري: إن أحسن ما يجاب به هنا أن يقال: لعل البخاري قصد أن يجعل لكتابه صدرا يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنه ابتدأ كتابه بنية رد علمها إلى الله، فإن علم منه أنه أراد الدنيا أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته. ونكب عن أحد وجهي التقسيم مجانية للتزكية التي لا يناسب ذكرها في ذلك المقام. انتهى ملخصا. وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصل القربة أو لا، فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة فرارا من التزكية، وبقي الجملة المترددة المحتملة تفويضا للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازي له بمقتضى نيته. ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم، وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى والتدقيق في الاستنباط وإيثار الأغمض على الأجلي وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره، استعمل جميع ذلك في هذا الموضع بعبارة هذا الحديث متنا وإسنادا. وقد وقع في رواية حماد بن زيد في باب الهجرة تأخر قوله " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله " عن قوله " فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها"، فيحتمل أن تكون رواية الحميدي وقعت عند البخاري كذلك فتكون الجملة المحذوفة هي الأخيرة كما جرت به عادة من يقتصر على بعض الحديث. وعلى تقدير أن لا يكون ذلك فهو مصير من البخاري إلى جواز الاختصار في الحديث ولو من أثنائه. وهذا هو الراجح، والله أعلم. وقال الكرماني في غير هذا الموضع: إن كان الحديث عند البخاري تاما لم خرمه في صدر الكتاب، مع أن الخرم مختلف في جوازه؟ قلت: لا جزم بالخرم، لأن المقامات مختلفة، فلعله - في مقام بيان أن الإيمان بالنية واعتقاد القلب - سمع الحديث تاما، وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية سمع ذلك القدر الذي روي. ثم الخرم يحتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه، ثم إن كان منه فخرمه ثم لأن المقصود يتم بذلك المقدار. فإن قلت: فكان المناسب أن يذكر عند الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده، وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله. قلت: لعله نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس. انتهى. وهو كلام من لم يطلع على شيء من أقوال من قدمت ذكره من الأئمة على هذا الحديث، ولا سيما كلام ابن العربي. وقال في موضع آخر: إن إيراد الحديث تاما تارة وغير تام تارة إنما هو اختلاف الرواة، فكل منهم قد روى ما سمعه فلا خرم من أحد، ولكن البخاري يذكرها في المواضع التي يناسب كلا منها بحسب الباب الذي يضعه ترجمة له، انتهى وكأنه لم يطلع حديث أخرجه البخاري بسند واحد من ابتدائه إلى انتهائه فساقه في موضع تاما وفي موضع مقتصرا على بعضه، وهو كثير جدا في الجامع الصحيح، فلا يرتاب من يكون الحديث صناعته أن ذلك من تصرفه، لأنه عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضع على وجهين، بل إن كان له أكثر من سند على شرطه ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني وهكذا ما بعده، وما لم يكن على شرطه يعلقه في الموضع الآخر تارة بالجزم إن كان صحيحا وتارة بغيره إن كان فيه شيء، وما ليس له إلا سند واحد يتصرف في متنه بالاقتصار على بعضه بحسب ما يتفق، ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سندا ومتنا في موضعين أو أكثر إلا بادرا، فقد عنى بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعا. قوله: (هجرته) الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء: الانتقال إليه عن غيره. وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه. وقد وقعت في الإسلام على وجهين: الأول الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة، الثاني الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين. وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع من الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا. فإن قيل: الأصل تغاير بشرط والجزاء فلا يقال مثلا: من أطاع أطاع وإنما يقال مثلا من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين، فالجواب أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق، ومن أمثلته قوله تعالى (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس، كقولهم أنت أنا أي الصديق الخالص، وقولهم هم هم أي الذين لا يقدر قدرهم، وقول الشاعر أنا أبو النجم وشعري شعري، أو هو مؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب. وقال ابن مالك: قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشهرة وعدم التغير فيتحد بالمبتدأ لفظا كقول الشاعر: خليلي خليلي دون ريب وربما ألان امرؤ قولا فظن خليلا وقد يفعل مثل هدا بجواب الشرط كقولك من قصدني فقد قصدني، أي فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده. وقال غيره: إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم وإما في التحقير. قوله: (إلى دنيا) بضم الدال، وحكى ابن قتيبة كسرها، وهي فعلى من الدنو أي القرب، سميت بذلك لسبقها للأخرى. وقيل سميت دنيا لدنوها إلى الزوال. واختلف في حقيقتها فقيل ما على الأرض من الهواء والجو، وقيل كل المخلوقات من الجواهر والأعراض، والأولى أولى. لكن يزاد فيه مما قبل قيام الساعة، ويطلق على كل جزء منها مجازا. ثم إن لفظها مقصور غير منون، وحكى تنويها، وعزاه ابن دحية إلى رواية أبي الهيثم الكشميهني وضعفها، وحكي عن ابن مغور أن أبا الهروي في آخر أمره كان يحذف كثيرا من رواية أبي الهيثم حيث ينفرد، لأنه لم يكن من أهل العلم. قلت: وهذا ليس على إطلاقه، فإن في رواية أبي الهيثم مواضع كثيرة أصوب من رواية غيره، كما سيأتي مبينا في مواضعه. وقال التيمي في شرحه: قوله دنيا هو تأنيث الأدنى ليس بمصروف، لاجتماع الوصفية ولزوم حرف التأنيث. وتعقب بأن لزوم التأنيث للألف المقصورة كاف في عدم الصرف، وأما الوصفية فقال ابن مالك: استعمال دنيا منكرا فيه إشكال لأنها فعل التفضيل، فكان من حقها أن تستعمل باللام كالكبرى والحسني، قال: إلا أنها خلعت عنها الوصفية أو أجريت مجرى ما لم يكن وصفا قط، ومثله قول الشاعر: وإن دعوت إلى جلي ومكرمة يوما سراة كرام الناس فادعينا وقال الكرماني: قوله إلى يتعلق بالهجرة إن كان لفظ كانت تامة، أو هو خبر لكانت إن كانت ناقصة. ثم أورد ما محصله: أن لفظ كان إن كان للأمر الماضي فلا يعلم ما الحكم بعد صدور هذا القول في ذلك. وأجاب بأنه يجوز أن يراد بلفظ كان الوجود من غير تقييد بزمان، أو يقاس المستقبل على الماضي، أو من جهة أن حكم المكلفين سواء. قوله: (يصيبها) أي يحصلها، لأن تحصيلها كإصابة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصود. قوله: (أو امرأة) قيل التنصيص عليها من الخاص بعد العام للاهتمام به. وتعقبه النووي بأن لفظ دنيا نكرة وهي لا تعم في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها. وتعقب بكونها في سياق الشرط فتعم، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير، لأن الافتتان بها أشد. وقد تقدم النقل عمن حكى أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس ولم نقف على تسميته. ونقل ابن دحية أن اسمها قيلة بقاف مفتوحة ثم تحتانية ساكنة، وحكى ابن بطال عن ابن سراج أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى العربية ويراعون الكفاءة في النسب، فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها من كان لا يصل إليها قبل ذلك انتهى. ويحتاج إلى نقل ثابت أن هذا المهاجر كان مولى وكانت المرأة عربية، وليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه بل قد زوج خلق كثير منهم جماعة من مواليهم وحلفائهم قبل الإسلام، وإطلاقه أن الإسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع. قوله: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يحتمل أن يكون ذكره بالضمير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها، وإنما أبرز الضمير في الجملة التي قبلها وهي المحذوفة لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما، بخلاف الدنيا والمرأة فإن السياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون قوله " إلى ما هاجر إليه " متعلقا بالهجرة، فيكون الخبر محذوفا والتقدير قبيحة أو غير صحيحة مثلا، ويحتمل أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت انتهى. وهذا الثاني هو الراجح لأن الأول يقتضي أن تلك الهجرة مذمومة مطلقا، وليس كذلك، إلا أن حمل على تقدير شيء يقتضي التردد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى بهجرته مفارقة دار الكفر وتزوج المرأة معا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يثاب على قصد الهجرة لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف. ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت تزوجتك. فأسلم فتزوجته. وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح فصار كمن نوى بصومه العباد والحمية، أو بطوافه العبادة وملازمة الغريم. واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر. وأما إذا نوى العبادة وخالطها بشيء مما يغاير الإخلاص فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء، فإن كان ابتداؤه لله خالصا لم يضمره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب أو غيره. والله أعلم. واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأن فيه العمل يكون منتفيا إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة الحكم، وعلى أن الغافل لا تكليف عليه، لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد، وعلى أن من صام تطوعا بنية قبل الزوال أن لا يحسب له إلا من وقت النية وهو مقتضى الحديث، لكن تمسك من قال بانعطافها بدليل آخر، ونظيره حديث " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها " أي أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى، وعلى أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة ثم ذكر عن ذلك المجلس شيئا لا يمكن غفلتهم عنه ولم يذكره غيره أن ذلك لا يقدح في صدقه، خلافا لمن أعل بذلك، لأن علقمة ذكر أن عمر خطب به على المنبر ثم لم يصح من جهة أحد عنه غير علقمة. واستدل بمفهومه على أن ما ليس بعمل لا تشترط النية فيه، ومن أمثلة ذلك جمع التقديم فإن الراجح من حيث النظر أنه لا يشترط له نية، بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام وقال: الجمع ليس بعمل، وإنما العمل الصلاة. ويقوي ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطا لأعلمهم به، واستدل به على أن العمل إذا كان مضافا إلى سبب ويجمع متعدده جنس أن نية الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره، لأن معنى الحديث أن الأعمال بنياتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب، وعلى هذا لو كانت عليه كفارة - وشك في سببها - أجزأه إخراجها بغير تعيين. وفيه زيادة النص على السبب، لأن الحديث سيق في قصة المهاجر لتزويج المرأة، فذكر الدنيا القصة زيادة في التحذير والتنفير. وقال شيخنا شيخ الإسلام: فيه إطلاق العام وإن كان سببه خاصا، فيستنبط منه الإشارة إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وسيأتي ذكر كثير من فوائد هذا الحديث في كتاب الإيمان حيث قال المصنف في الترجمة فدخل فيه العبادات والأحكام إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق. الحديث: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ الشرح: قوله: (عبد الله بن يزيد) هو الخطمي بفتح المعجمة وسكون الطاء المهملة، وهو صحابي أنصاري روى عن صحابي أنصاري، وسيأتي ذكر أبي مسعود المذكور في باب من شهد بدرا من المغازي، ويأتي الكلام على حديثه في كتاب النفقات إن شاء الله تعالى. والمقصود منه في هذا الباب قوله " يحتسبها " قال القرطبي: أفاد منطوقه أن الأجر في الإنفاق إنما يحصل بقصد القربة سواء كانت واجبة أو مباحة، وأفاد مفهومه أن من لم يقصد القربة لم يؤجر، لكن تبرأ ذمته من النفقة الواجبة لأنها معقولة المعنى، وأطلق الصدقة على النفقة مجازا والمراد بها الأجر، والقرينة الصارفة عن الحقيقة الإجماع على جواز النفقة على الزوجة الهاشمية التي حرمت عليها الصدقة. الحديث: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ الشرح: قوله: (إنك) الخطاب لسعد، والمراد هو ومن يصح منه الإنفاق. قوله: (وجه الله) أي ما عند الله من الثواب. قوله: (إلا أجرت) يحتاج إلى تقدير لأن الفعل لا يقع استثناء. قوله: (حتى) : هي عاطفة وما بعدها منصوب المحل، وما: موصولة والعائد محذوف. قوله: (في فم امرأتك) وللكشميهني " في في امرأتك " وهي رواية الأكثر، قال القاضي عياض: هي أصوب لأن الأصل حذف الميم بدليل جمعه على أفواه وتصغيره على فويه. قال: وإنما يحسن إثبات الميم عند الإفراد وأما عند الإضافة فلا إلا في لغة قليلة ا ه. وهذا طرف من حديث سعد بن أبي وقاص في مرضه بمكة وعيادة النبي صلى الله عليه وسلم له وقوله " أوصى بشطر مالي " الحديث. وسيأتي الكلام عليه في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى، والمراد منه هنا قوله " تبتغي - أي تطلب - بها وجه الله " واستنبط منه النووي أن الحظ إذا وافق الحق لا يقدح في ثوابه لأن وضع اللقمة في في الزوجة يقع غالبا في حالة المداعبة، ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر. ومع ذلك إذا وجه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثواب حصل له بفضل الله. قلت: وجاء ما هو أصرح في هذا المراد من وضع اللقمة، وهو ما أخرجه مسلم عن أبي ذر فذكر حديثا فيه " وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام؟ " الحديث. قال: وإذا كان هذا بهذا المحل - ما فيه من حظ النفس - فما الظن بغيره مما لا حظ للنفس فيه؟ قال: وتمثيله باللقمة مبالغة في تحقيق هذه القاعدة، لأنه إذا ثبت الأجر في لقمة واحدة لزوجة غير مضطرة فما الطن بمن أطعم لقما لمحتاج، أو عمل من الطاعات ما مشقته فوق مشقة ثمن اللقمة الذي هو من الحقارة بالمحل الأدنى ا ه. وتمام هذا أن يقال: وإذا كان هذا في حق الزوجة مع مشاركة الزوج لها في النفع بما يطعمها لأن ذلك يؤثر في حسن بدنها وهو ينتفع منها بذلك، وأيضا فالأغلب أن الإنفاق على الزوجة يقع بداعية النفس، بخلاف غيرها فإنه يحتاج إلى مجاهدتها. والله أعلم. |
01-31-2013, 12:56 PM | #53 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الشرح: قوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين: النصيحة) هذا الحديث أورده المصنف هنا ترجمة باب، ولم يخرجه مسندا في هذا الكتاب لكونه على غير شرطه، ونبه بإيراده على صلاحيته في الجملة، وما أورده من الآية وحديث جرير يشتمل على ما تضمنه، وقد أخرجه مسلم: حدثنا محمد بن عباد حدثنا سفيان قال قلت لسهيل بن أبي صالح: إن عمرا حدثنا عن القعقاع عن أبيك بحديث، ورجوت أن تسقط عني رجلا - أي فتحدثني به عن أبيك - قال فقال: سمعته من الذي سمعه منه أبي، كان صديقا له بالشام، وهو عطاء بن يزيد عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله عز وجل " الحديث رواه مسلم أيضا من طريق روح بن القاسم قال حدثنا سهيل عن عطاء بن يزيد أنه سمعه وهو يحدث أبا صالح فذكره، ورواه ابن خزيمة من حديث جرير عن سهيل أن أباه حدث عن أبي هريرة بحديث " إن الله يرضى لكم ثلاثا " الحديث. قال فقال عطاء بن يزيد: سمعت تميما الداري يقول. فذكر حديث النصيحة. وقد روى حديث النصيحة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، وهو وهم من سهيل أو ممن روى عنه لما بيناه، قال البخاري في تاريخه: لا يصح إلا عن تميم. ولهذا الاختلاف على سهيل لم يخرجه في صحيحه، بل لم يحتج فيه بسهيل أصلا. وللحديث طرق دون هذه في القوة، منها ما أخرجه أبو يعلى من حديث ابن عباس والبزار من حديث ابن عمر، وقد بينت جميع ذلك في " تعليق التعليق". قوله: (الدين: النصيحة) يحتمل أن يحمل على المبالغة، أي معظم الدين النصيحة، كما قيل في حديث " الحج عرفة"، ويحتمل أن يحمل على ظاهره لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص فليس من الدين. وقال المازري: النصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته، يقال: نصح الشيء إذا خلص، ونصح له القول إذا أخلصه له. أو مشتقة من النصح وهي الخياطة بالمنصحة وهي الإبرة، والمعنى أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم المنصحة، ومنه التوبة النصوح، كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه. قال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له، وهي من وجيز الكلام، بل ليس في الكلام كلمة مفردة تستوفي بها العبارة عن معنى هذه الكلمة. وهذا الحديث من الأحاديث التي قيل فيها إنها أحد أرباع الدين، وممن عده فيها الإمام محمد بن أسلم الطوسي. وقال النووي: بل هو وحده محصل لغرض الدين كله، لأنه منحصر في الأمور التي ذكرها: فالنصيحة لله وصفه بما هو له أهل، والخضوع له ظاهرا وباطنا، والرغبة في محابه بفعل طاعته، والرهبة من مساخطة بترك معصيته، والجهاد في رد العاصين إليه. وروى الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة صاحب على قال: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: يا روح الله من الناصح لله؟ قال: الذي يقدم حق الله على حق الناس. والنصيحة لكتاب الله تعلمه، وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة، وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذب تحريف المبطلين عنه. والنصيحة لرسوله تعظيمه، ونصره حيا وميتا، وإحياء سنته بتعلمها وتعليمها، والاقتداء به في أقواله وأفعاله، ومحبته ومحبة أتباعه. والنصيحة لأئمة المسلمين إعانتهم على ما حملوا القيام به، وتنبيههم عند الغفلة، وسد خلتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن. ومن جملة أئمة المسلمين أئمة الاجتهاد، وتقع النصيحة لهم ببث علومهم، ونشر مناقبهم، وتحسين الظن بهم. والنصيحة لعامة المسلمين الشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعه عليهم، وتعليمهم ما ينفعهم، وكف وجوه الأذى عنهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه. وفي الحديث فوائد أخرى: منها أن الدين يطلق على العمل لكونه سمي النصيحة دينا، وعلى هذا المعنى بنى المصنف أكثر كتاب الإيمان، ومنها جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب من قوله " قلنا لمن "؟ ومنها رغبة السلف في طلب علو الإسناد، وهو مستفاد من قصة سفيان مع سهيل. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ الشرح: قوله: (عن جرير بن عبد الله) هو البجلي بفتح الجيم، وقيس الراوي عنه وإسماعيل الراوي عن قيس بجليان أيضا، وكل منهم يكنى أبا عبد الله، وكلهم كوفيون. قوله: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال القاضي عياض: اقتصر على الصلاة والزكاة لشهرتهما، ولم يذكر الصوم وغيره لدخول ذلك في السمع والطاعة. قلت: زيادة السمع والطاعة وقعت عند المصنف في البيوع من طريق سفيان عن إسماعيل المذكور، وله في الأحكام، ولمسلم من طريق الشعبي عن جرير قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقنني " فيما استطعت، والنصح لكل مسلم " ورواه ابن حبان من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جده وزاد فيه: فكان جرير إذا اشترى شيئا أو باع يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناكه فاختر. وروى الطبراني في ترجمته أن غلامه اشترى به فرسا بثلاثمائة، فلما رآه جاء إلى صاحبه فقال: إن فرسك خير من ثلاثمائة، فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمانمائة. قال القرطبي: كانت مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بحسب ما يحتاج إليه من تجديد عهد أو توكيد أمر، فلذلك اختلفت ألفاظهم. وقوله: فيما استطعت رويناه بفتح التاء وضمها، وتوجيههما واضح، والمقصود بهذا التنبيه على أن اللازم من الأمور المبايع عليها هو ما يطاق، كما هو المشترط في أصل التكليف، ويشعر الأمر بقول ذلك اللفظ حال المبايعة بالعفو عن الهفوة وما يقع عن خطأ وسهو. والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمْ الْآنَ ثُمَّ قَالَ اسْتَعْفُوا لِأَمِيرِكُمْ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَشَرَطَ عَلَيَّ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ الشرح: قوله: (سمعت جرير بن عبد الله) المسموع من جرير حمدا لله والثناء عليه، فالتقدير: سمعت جريرا حمدا لله، والباقي شرح للكيفية. قوله: (يوم مات المغيرة بن شعبة) كان المغيرة واليا على الكوفة في خلافة معاوية، وكانت وفاته سنة خمسين من الهجرة، واستناب عند موته ابنه عروة، وقيل استناب جرير المذكور، ولهذا خطب الخطبة المذكورة، حكى ذلك العلاني في أخبار زياد. والوقار: بالفتح الرزانة، والسكينة: السكون. وإنما أمرهم بذلك مقدما لتقوى الله، لأن الغالب أن وفاة الأمراء تؤدي إلى الاضطراب والفتنة، ولا سيما ما كان عليه أهل الكوفة إذ ذاك من مخالفة ولاة الأمور. قوله: (حتى يأتيكم أمير) أي بدل الأمير الذي مات. ومفهوم الغاية هنا، وهو أن المأمور به ينتهي بمجيء الأمير ليس مرادا، بل يلزم ذلك بعد مجيء الأمير بطريق الأولى، وشرط اعتبار مفهوم المخالفة أن لا يعارضه مفهوم الموافقة. قوله: (الآن) أراد به تقريب المدة تسهيلا عليهم، وكان كذلك، لأن معاوية لما بلغه موت المغيرة كتب إلى نائبه على البصرة وهو زياد أن يسير إلى الكوفة أميرا عليها. قوله: (استعفوا لأميركم) أي اطلبوا له العفو من الله، كذا في معظم الروايات بالعين المهملة. وفي رواية ابن عساكر " استغفروا " بغين معجمة وزيادة راء وهي رواية الإسماعيلي في المستخرج. قوله: (فإنه كان يحب العفو) فيه إشارة إلى أن الجزاء يقع من جنس العمل. قوله: (قلت أبايعك) ترك أداة العطف إما لأنه بدل من أتيت أو استئناف. قوله: (والنصح) بالخفض عطفا على الإسلام، ويجوز نصبه عطفا على مقدر، أي شرط على الإسلام والنصيحة، وفيه دليل على كمال شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: (على هذا) أي على ما ذكر. قوله: (ورب هذا المسجد) مشعر بأن خطبته كانت في المسجد، ويجوز أن يكون أشار إلى جهة المسجد الحرام، ويدل عليه رواية الطبراني بلفظ " ورب الكعبة " وذكر ذلك للتنبيه على شرف المقسم به ليكون أدعى للقبول. قوله: (لناصح) إشارة إلى أنه وفي بما بايع عليه الرسول، وأن كلامه خالص عن الغرض. قوله: (ونزل) مشعر بأنه خطب على المنبر، أو المراد قعد لأنه في مقابلة قوله: قام فحمد الله تعالى. (فائدة) : التقييد بالمسلم للأغلب، وإلا فالنصح للكافر معتبر بأن يدعى إلى الإسلام ويشار عليه بالصواب إذا استشار. واختلف العلماء في البيع على بيعه ونحو ذلك فجزم أحمد أن ذلك يختص بالمسلمين واحتج بهذا الحديث. (فائدة أخرى) : ختم البخاري كتاب الإيمان بباب النصيحة مشيرا إلى أنه عمل بمقتضاه في الإرشاد إلى العمل بالحديث الصحيح دون السقيم، ثم ختمه بخطبة جرير المتضمنة لشرح حاله في تصنيفه فأومأ بقوله " فإنما يأتيكم الآن " إلى وجوب التمسك بالشرائع حتى يأتي من يقيمها، إذ لا تزال طائفة منصورة، وهم فقهاء أصحاب الحديث. وبقوله " استعفوا لأميركم " إلى طلب الدعاء له لعمله الفاضل. ثم ختم بقول " استغفر ونزل " فأشعر بختم الباب. ثم عقبه بكتاب العلم لما دل عليه حديث النصيحة أن معظمها يقع بالتعلم والتعليم. (خاتمة) : اشتمل كتاب الإيمان ومقدمته من بدء الوحي من الأحاديث المرفوعة على أحد وثمانين حديثا بالمكرر منها في بدء الوحي خمسة عشر، وفي الإيمان ستة وستون، المكرر منها ثلاثة وثلاثون، منها في المتابعات بصيغة المتابعة أو التعليق اثنان وعشرون، في بدء الوحي ثمانية، وفي الإيمان أربعة عشر، ومن الموصول المكرر ثمانية، ومن التعليق الذي لم يوصل في مكان آخر ثلاثة، وبقية ذلك وهي ثمانية وأربعون حديثا موصولة بغير تكرير. وقد وافقه مسلم على تخريجها إلا سبعة وهي: الشعبي عن عبد الله بن عمرو في: المسلم والمهاجر، والأعرج عن أبي هريرة في: حب الرسول صلى الله عليه وسلم، وابن أبي صعصعة عن أبي سعيد في: الفرار من الفتن، وأنس عن عبادة في ليلة القدر، وسعيد عن أبي هريرة في: الدين يسر، والأحنف عن أبي بكرة في القاتل والمقتول، وهشام عن أبيه عن عائشة في: أنا أعلمكم بالله. وجميع ما فيه من الموقوفات على الصحابة والتابعين ثلاثة عشر أثرا معلقة، غير أثر ابن الناطور فهو موصول. وكذا خطبة جرير التي ختم بها كتاب الإيمان. والله أعلم. |
01-31-2013, 12:57 PM | #54 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*2*كتاب العلم
*3*باب فَضْلِ الْعِلْمِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا الشرح: قوله: (كتاب العلم. بسم الله الرحمن الرحيم. باب فضل العلم) هكذا في رواية الأصيلي وكريمة وغيرهما. وفي رواية أبي ذر تقديم البسملة، وقد قدمنا توجيه ذلك في كتاب الإيمان. وليس في رواية المستملي لفظ باب ولا في رواية رفيقه لفظ كتاب العلم. (فائدة) : قال القاضي أبو بكر بن العربي: بدأ المصنف بالنظر في فضل العلم قبل النظر في حقيقته، وذلك لاعتقاده أنه في نهاية الوضوح فلا يحتاج إلى تعريف، أو لأن النظر في حقائق الأشياء ليس من فن الكتاب، وكل من القدرين ظاهر، لأن البخاري لم يضع كتابة لحدود الحقائق وتصورها، بل هو جار على أساليب العرب القديمة، فإنهم يبدؤون بفضيلة المطلوب للتشويق إليه إذا كانت حقيقته مكشوفة معلومة. وقد أنكر ابن العربي في شرح الترمذي على من تصدى لتعريف العلم وقال: هو أبين من أن يبين. قلت: وهذه طريقة الغزالي وشيخه الإمام أن العلم لا يحد لوضوحه أو لعسره. قوله: (وقول الله عز وجل) ضبطناه في الأصول بالرفع عطفا على كتاب أو على الاستئناف. قوله: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) قيل في تفسيرها: يرفع الله المؤمن العالم على المؤمن غير العالم. ورفعة الدرجات تدل على الفضل، إذ المراد به كثرة الثواب، وبها ترتفع الدرجات، ورفعتها تشمل المعنوية في الدنيا بعلو المنزلة وحسن الصيت، والحسية في الآخرة بعلو المنزلة في الجنة. وفي صحيح مسلم عن نافع بن عبد الحارث الخزاعي - وكان عامل عمر على مكة - أنه لقيه بعسفان فقال له: من استخلفت؟ فقال: استخلفت ابن أبزى مولى لنا. فقال عمر: استخلفت مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض. فقال عمر: أما إن نبيكم قد قال " إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين". وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى (نرفع درجات من نشاء) قال بالعلم. قوله: (وقوله عز وجل: رب زدني علما) واضح الدلالة في فضل العلم، لأن الله تعالى لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم، والمراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر عباداته ومعاملاته، والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره، وتنزيهه عن النقائض، ومدار ذلك على التفسير والحديث والفقه، وقد ضرب هذا الجامع الصحيح في كل من الأنواع. الثلاثة بنصيب، فرضي الله عن مصنفه، وأعاننا على ما تصدينا له من توضيحه بمنه وكرمه. فإن قيل: لم لم يورد المصنف في هذا الباب شيئا من الحديث؟ فالجواب أنه إما أن يكون اكتفى بالآيتين الكريمتين، وإما بيض له ليلحق فيه ما يناسبه فلم يتيسر، وإما أورد فيه حديث ابن عمر الآتي بعد باب رفع العلم ويكون وضعه هناك من تصرف بعض الرواة، وفيه نظر على ما سنبينه هناك إن شاء الله تعالى. ونقل الكرماني عن بعض أهل الشام أن البخاري بوب الأبواب وترجم التراجم وكتب الأحاديث وربما بيض لبعضها ليلحقه. وعن بعض أهل العراق أنه تعمد بعد الترجمة عدم إيراد الحديث إشارة إلى أنه لم يثبت فيه شيء عنده على شرطه. قلت: والذي يظهر لي أن هذا محله حيث لا يورد فيه آية أو أثرا. أما إذا أورد آية أو أثرا فهو إشارة منه إلى ما ورد في تفسير تلك الآية، وأنه لم يثبت فيه شيء على شرطه، وما دلت عليه الآية كاف في الباب، وإلى أن الأثر الوارد في ذلك يقوي به طريق المرفوع وإن لم يصل في القوة إلى شرطه. والأحاديث في فضل العلم كثيرة، صحح مسلم منها حديث أبي هريرة رفعه " من التمس طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة". ولم يخرجه البخاري لأنه اختلف فيه على الأعمش، والراجح أنه بينه وبين أبي صالح فيه واسطة. والله أعلم. *3*باب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ الشرح: قوله: (باب من سئل علما وهو مشتغل) محصله التنبيه على أدب العالم والمتعلم، أما العالم فلما تضمنه من ترك زجر السائل، بل أدبه بالإعراض عنه أولا حتى استوفى ما كان فيه، ثم رجع إلى جوابه فرفق به لأنه من الأعراب وهم جفاة. وفي العناية جواب سؤال السائل ولو لم يكن السؤال متعينا ولا الجواب، وأما المتعلم فلما تضمنه من أدب السائل أن لا يسأل العالم وهو مشتغل بغيره لأن حق الأول مقدم. ويؤخذ منه أخذ الدروس على السبق، وكذلك الفتاوى والحكومات ونحوها. وفيه مراجعة العالم إذا لم يفهم ما يجيب به حتى يتضح، لقوله " كيف إضاعتها، وبوب عليه ابن حبان " إباحة إعفاء المسئول عن الإجابة على الفور " ولكن سياق القصة يدل على أن ذلك ليس على الإطلاق، وفيه إشارة إلى أن العلم سؤال وجواب، ومن ثم قيل حسن السؤال نصف العلم، وقد أخذ بظاهر هذه القصة مالك وأحمد وغيرهما في الخطبة فقالوا: لا نقطع الخطبة لسؤال سائل، بل إذا فرغ نجيبه. وفصل الجمهور بين أن يقع ذلك في أثناء واجباتها فيؤخر الجواب، أو في غير الواجبات فيجيب. والأولى حينئذ التفصيل، فإن كان مما يهتم به في أمر الدين، ولا سيما إن اختص بالسائل فيستحب إجابته ثم يتم الخطبة، وكذا بين الخطبة والصلاة، وإن كان بخلاف ذلك فيؤخر، وكذا قد يقع في أثناء الواجب ما يقتضي تقديم الجواب، لكن إذا أجاب استأنف على الأصح، ويؤخذ ذلك كله من اختلاف الأحاديث الواردة في ذلك، فإن كان السؤال من الأمور التي ليست معرفتها على الفور مهمة فيؤخر كما في هذا الحديث، ولا سيما إن كان ترك السؤال عن ذلك أولى. وقد وقع نظيره في الذي سأل عن الساعة وأقيمت الصلاة، فلما فرغ من الصلاة قال: أين السائل؟ فأجابه. أخرجاه. وإن كان السائل به ضرورة ناجزة فتقدم إجابته، كما في حديث أبي رفاعة عند مسلم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: رجل غريب لا يدري دينه جاء يسأل عن دينه، فترك خطبته وأتى بكرسي فقعد عليه فجعل يعلمه، ثم أتى خطبته فأتم آخرها. وكما في حديث سمرة عند أحمد أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب. وكما في الصحيحين في قصة سالم لما دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: أصليت ركعتين؟ الحديث، وسيأتي في الجمعة. وفي حديث أنس: كانت الصلاة تقام فيعرض الرجل فيحدث النبي صلى الله عليه وسلم حتى ربما نعس بعض القوم، ثم يدخل في الصلاة، وفي بعض طرقه وقوع ذلك بين الخطبة والصلاة. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ ح و حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ الشرح: قوله: (فليح) بصيغة التصغير هو ابن سليمان أبو يحيى المدني، من طبقة مالك وهو صدوق، تكلم بعض الأئمة في حفظه، ولم يخرج البخاري من حديثه في الأحكام إلا ما توبع عليه. وأخرج له في المواعظ والآداب وما شاكلها طائفة من أفراده وهذا منها. وإنما أورده عاليا عن فليح بواسطة محمد بن سنان فقط ثم أورده نازلا بواسطة محمد بن فليح وإبراهيم بن المنذر عن محمد لأنه أورده في كتاب الرقاق عن محمد بن سنان فقط، فأراد أن يعيد هنا طريقا أخرى، ولأجل نزولها قرنها بالرواية الأخرى. وهلال بن علي يقال له هلال بن أبي ميمونة وهلال بن أبي هلال، فقد يظن ثلاثة وهو واحد، وهو من صغار التابعين، وشيخه في هذا الحديث من أوساطهم. قوله: (يحدث) هو خبر المبتدأ وحذف مفعوله الثاني لدلالة السياق عليه. والقوم الرجال. وقد يدخل فيه النساء تبعا. قوله: (جاء أعرابي) لم أقف على تسميته. قوله: (فمضى) أي استمر يحدثه، كذا في رواية المستملي والحموي بزيادة هاء، وليست في رواية الباقين، وإن ثبتت فالمعنى يحدث القوم الحديث الذي كان فيه وليس الضمير عائدا على الأعرابي. قوله: (فقال بعض القوم سمع ما قال) إنما حصل لهم التردد في ذلك لما ظهر من عدم التفات النبي صلى الله عليه وسلم إلى سؤاله وإصغائه نحوه، ولكونه كان يكره السؤال عن هذه المسألة بخصوصها، وقد تبين عدم انحصار ترك الجواب في الأمرين المذكورين، بل احتمل كما تقدم أن يكون أخره ليكمل الحديث الذي هو فيه، أو أخر جوابه ليوحي إليه به. قوله: (قال أين أراه السائل) بالرفع على الحكاية، وأراه بالضم أي أظنه، والشك من محمد بن فليح. ورواه الحسن بن سفيان وغيره عن عثمان بن أبي شيبة عن يونس بن محمد عن فليح ولفظه " أين السائل " ولم يشك. قوله: (إذا وسد) أي أسند، وأصله من الوسادة، وكان من شأن الأمير عندهم إذا جلس أن تثنى تحته وسادة، فقوله وسد أي جعل له غير أهله وسادا، فتكون إلى بمعنى اللام وأتى بها ليدل على تضمين معنى أسند. ولفظ محمد بن سنان في الرقاق " إذا أسند " وكذا رواه يونس بن محمد وغيره عن فليح. ومناسبة هذا المتن لكتاب العلم أن إسناد الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل ورفع العلم، وذلك من جملة الأشراط ومقتضاه أن العلم ما دام قائما ففي الأمر فسحة. وكأن المصنف أشار إلى أن العلم إنما يؤخذ عن الأكابر، تلميحا لما روى عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر " وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في الرقاق إن شاء الله تعالى. |
01-31-2013, 12:57 PM | #55 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*بَاب مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ
الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا الشرح: قوله: (حدثنا أبو النعمان) زاد الكشميهني في رواية كريمة عنه: عارم بن الفضل، وعارم لقب، واسمه محمد كما تقدم في المقدمة. قوله: (ماهك) بفتح الهاء وحكى كسرها وهو غير منصرف عند الأكثرين للعلمية والعجمة، ورواه الأصيلي منصرفا فكأنه لحظ فيه الوصف. واستدل المصنف على جواز رفع الصوت بالعلم بقوله " فنادى بأعلى صوته " وإنما يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه لبعد أو كثرة جمع أو غير ذلك، ويلحق بذلك ما إذا كان في موعظة كما ثبت ذلك في حديث جابر " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته. الحديث " أخرجه مسلم. ولأحمد من حديث النعمان في معناه وزاد " حتى لو أن رجلا بالسوق لسمعه " واستدل به أيضا على مشروعية إعادة الحديث ليفهم، وسيأتي الكلام على مباحث المتن في كتاب الوضوء إن شاء الله تعالى. قال ابن رشيد: في هذا التبويب رمز من المصنف إلى أنه يربد أن يبلغ الغاية في تدوين هذا الكتاب بأن يستفرغ وسعه في حسن ترتيبه، وكذلك فعل رحمه الله تعالى. *3*باب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَقَالَ شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً وَقَالَ حُذَيْفَةُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ وَقَالَ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ الشرح: قوله: (باب قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا) قال ابن رشيد: أشار بهذه الترجمة إلى أنه بنى كتابه على المسندات المرويات عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: ومراده: هل هذه الألفاظ بمعنى واحد أم لا؟ وإيراده قول ابن عيينة دون غيره دال على أنه مختاره. قوله: (وقال الحميدي) في رواية كريمة والأصيلي " وقال لنا الحميدي " وكذا ذكره أبو نعيم في المستخرج، فهو متصل. وسقط من رواية كريمة قوله " وأنبأنا " ومن رواية الأصيلي قوله " أخبرنا " وثبت الجميع في رواية أبي ذر. قوله: (وقال ابن مسعود) هذا التعليق طرف من الحديث المشهور في خلق الجنين، وقد وصله المصنف في كتاب القدر، ويأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. قوله: (وقال شقيق) هو أبو وائل (عن عبد الله) هو ابن مسعود، سيأتي موصولا أيضا حيث ذكره المصنف في كتاب الجنائز، ويأتي أيضا حديث حذيفة في كتاب الرقاق. ومراده من هذه التعاليق أن الصحابي قال تارة " حدثنا " وتارة " سمعت " فدل على أنهم لم يفرقوا بين الصيغ. وأما أحاديث ابن عباس وأنس وأبي هريرة في رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه فقد وصلها في كتاب التوحيد، وأراد بذكرها هنا التنبيه على العنعنة، وأن حكمها الوصل عند ثبوت اللقي، وأشار على ما ذكره ابن رشيد إلى أن رواية النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي عن ربه سواء صرح الصحابي بذلك أم لا، ويدل له حديث ابن عباس المذكور فإنه لم يقل فيه في بعض المواضع " عن ربه " ولكنه اختصار فيحتاج إلى التقدير. قلت: ويستفاد من الحكم بصحة ما كان ذلك سبيله صحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة، لأن الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ربه فيما لم يكلمه به مثل ليلة الإسراء جبريل وهو مقبول قطعا، والواسطة بين الصحابي وبين النبي صلى الله عليه وسلم مقبول اتفاقا وهو صحابي آخر، وهذا في أحاديث الأحكام دون غيرها، فإن بعض الصحابة ربما حملها عن بعض التابعين مثل كعب الأحبار. (تنبيه) : أبو العالية المذكور هنا هو الرياحي بالياء الأخيرة، واسمه رفيع بضم الراء. من زعم أنه البراء بالراء الثقيلة فقد وهم، فإن الحديث المذكور معروف برواية الرياحي دونه. فإن قيل: فمن أين تظهر مناسبة حديث ابن عمر للترجمة، ومحصل الترجمة التسوية بين صيغ الأداء الصريحة، وليس ذلك بظاهر في الحديث المذكور؟ فالجواب أن ذلك يستفاد من اختلاف ألفاظ الحديث المذكور، ويظهر ذلك إذا اجتمعت طرقه، فإن لفظ رواية عبد الله بن دينار المذكور في الباب " فحدثوني ما هي " وفي رواية نافع عند المؤلف في التفسير " أخبروني " وفي رواية عند الإسماعيلي " أنبئوني " وفي رواية مالك عند المصنف في باب الحياء في العلم " حدثوني ما هي " وقال فيها " فقالوا أخبرنا بها " فدل ذلك على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى اللغة، ومن أصرح الأدلة فيه قوله تعالى (يومئذ تحدث أخبارها) وقوله تعالى (ولا ينبئك مثل خبير) . وأما بالنسبة إلى الاصطلاح ففيه الخلاف: فمنهم من استمر على أصل اللغة، وهذا رأي الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان وأكثر الحجازيين والكوفيين، وعليه استمر عمل المغاربة، ورجحه ابن الحاجب في مختصره، ونقل عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة. ومنهم من رأى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه وتقييده حيث يقرأ عليه، وهو مذهب إسحاق بن راهويه والنسائي وابن حبان وابن منده وغيرهم، ومنهم من رأى التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التحمل: فيخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ، والإخبار بما يقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جريج والأوزاعي والشافعي وابن وهب وجمهور أهل المشرق. ثم أحدث أتباعهم تفصيلا آخر: فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال " حدثني " ومن سمع مع غيره جمع، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد فقال " أخبرني"، ومن سمع بقراءة غيره جمع. وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه، كل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل. وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب: فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته. نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط، لأنه صار حقيقة عرفية عندهم، فمن تجوز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هِيَ النَّخْلَةُ الشرح: قوله: (إن من الشجر شجرة) زاد في رواية مجاهد عند المصنف في " باب الفهم في العلم " قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى بجمار وقال: إن من الشجر". وله عنه في البيوع " كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل جمارا. قوله: (لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم) كذا في رواية أبي ذر بكسر ميم مثل وإسكان المثلثة. وفي رواية الأصيلي وكريمة بفتحها وهما بمعنى، قال الجوهري: مثله ومثله كلمة تسوية كما يقال شبهه وشبهه بمعنى، قال: والمثل بالتحريك أيضا ما يضرب من الأمثال. انتهى. ووجه الشبه بين النخلة والمسلم من جهة عدم سقوط الورق ما رواه الحارث بن أبي أسامة في هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه " قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة، أتدرون ما هي؟ قالوا: لا. قال: هي النخلة، لا تسقط لها أنملة، ولا تسقط لمؤمن دعوة". ووقع عند المصنف في الأطعمة من طريق الأعمش قال: حدثني مجاهد عن ابن عمر قال " بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتى بجمار، فقال: إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم " وهذا أعم من الذي قبله، وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعا، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها، حتى النوى في علف الدواب والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى، وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال، ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته. ووقع عند المصنف في التفسير من طريق نافع عن ابن عمر قال " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا ولا ولا " كذا ذكر النفي ثلاث مرات على طريق الاكتفاء، فقيل في تفسيره: ولا ينقطع ثمرها ولا يعدم فيؤها ولا يبطل نفعها. ووقع في رواية مسلم ذكر النفي مرة واحدة فظن إبراهيم بن سفيان الراوي عنه أنه متعلق بما بعده وهو قوله " تؤتي أكلها " فاستشكله وقال: لعل " لا " زائدة ولعله " وتؤتي أكلها"، وليس كما ظن، بل معمول النفي محذوف على سبيل الاكتفاء كما بيناه. وقوله "تؤتي " ابتداء كلام على سبيل التفسير لما تقدم. ووقع عند الإسماعيلي بتقديم " تؤتي أكلها كل حين " على قوله " لا يتحات ورقها " فسلم من الإشكال. قوله: (فوقع الناس) أي ذهبت أفكارهم في أشجار البادية، فجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع وذهلوا عن النخلة، يقال وقع الطائر على الشجرة إذا نزل عليها. قوله: (قال عبد الله) هو ابن عمر الراوي. قوله: (ووقع في نفسي) بين أبو عوانة في صحيحه من طريق مجاهد عن ابن عمر وجه ذلك قال: فظننت أنها النخلة من أجل الجمار الذي أتى به، وفيه إشارة إلى أن الملغز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، وأن الملغز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للملغز بابا يدخل منه، بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه. قوله: (فاستحييت) زاد في رواية مجاهد في " باب الفهم في العلم"؛ فأردت أن أقول هي النخلة فإذا أنا أصغر القوم. وله في الأطعمة: فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم. وفي رواية نافع: ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه. وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار عند المؤلف في " باب الحياء في العلم " قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا وكذا. زاد ابن حبان في صحيحه: أحسبه قال: حمر النعم. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه. وأما ما رواه أبو داود من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأغلوطات - قال الأوزاعي أحد رواته: هي صعاب المسائل - فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه، أو ما خرج على سبيل تعنت المسئول أو تعجيزه، وفيه التحريض على الفهم في العلم، وقد بوب عليه المؤلف " باب الفهم في العلم". وفيه استحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت، وقد بوب عليه المؤلف في العلم وفي الأدب. وفيه دليل على بركة النخلة وما يثمره، وقد بوب عليه المصنف أيضا. وفيه دليل أن بيع الجمار جائز، لأن كل ما جاز أكله جاز بيعه، ولهذا بوب عليه المؤلف في البيوع. وتعقبه ابن بطال لكونه من المجمع عليه، وأجيب بأن ذلك لا يمنع من التنبيه عليه لأنه أورده عقب حديث النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، فكأنه يقول: لعل متخيلا يتخيل أن هذا من ذاك، وليس كذلك. وفيه دليل على جواز تجمير النخل، وقد بوب عليه في الأطعمة لئلا يظن أن ذلك من باب إضاعة المال. وأورده في تفسير قوله تعالى: (ضرب الله مثلا كلمة طيبة) إشارة منه إلى أن المراد بالشجرة النخلة. وقد ورد صريحا فيما رواه البزار من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذه الآية فقال: أتدرون ما هي؟ قال ابن عمر: لم يخف على أنها النخلة، فمنعني أن أتكلم مكان سني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هي النخلة". ويجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أتي بالجمار فشرع في أكله تاليا للآية قائلا: إن من الشجر شجرة إلى آخره. ووقع عند ابن حبان من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن، أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ فذكر الحديث. وهو يؤيد رواية البزار، قال القرطبي: فوقع التشبيه بينهما من جهة أن أصل دين المسلم ثابت، وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب، وأنه لا يزال مستورا بدينه، وأنه ينتفع بكل ما يصدر عنه حيا وميتا، انتهى. وقال غيره: والمراد بكون فرع المؤمن في السماء رفع عمله وقبوله، وروى البزار أيضا من طريق سفيان بن حسين عن أبي بشر عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمن مثل النخلة، ما أتاك منها نفعك " هكذا أورده مختصرا وإسناده صحيح، وقد أفصح بالمقصود بأوجز عبارة. وأما من زعم أن موقع التشبيه بين المسلم والنخلة من جهة كون النخلة إذا قطع رأسها ماتت، أو لأنها لا تحمل حتى تلقح، أو لأنها تموت إذا غرقت، أو لأن لطلعها رائحة مني الآدمي، أو لأنها تعشق، أو لأنها تشرب من أعلاها، فكلها أوجه ضعيفة، لأن جميع ذلك من المشابهات مشترك في الآدميين لا يختص بالمسلم، وأضعف من ذلك قول من زعم أن ذلك لكونها خلقت من فضلة طين آدم فإن الحديث في ذلك لم يثبت، والله أعلم. وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة. وفيه إشارة إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه، فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله. وفيه توقير الكبير، وتقديم الصغير أباه في القول، وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب. وفيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه، لأن العلم مواهب، والله يؤتي فضله من يشاء. واستدل به مالك على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها لله، وذلك مستفاد من تمني عمر المذكور، ووجه تمني عمر رضي الله عنه ما طبع الإنسان عليه من محبة الخير لنفسه ولولده، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره، وليزداد من النبي صلى الله عليه وسلم حظوة، ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم. وفيه الإشارة إلى حقارة الدنيا في عين عمر لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم مع عظم مقدارها وغلاء ثمنها. (فائدة) : قال البزار في مسنده: ولم يرو هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا السياق إلا ابن عمر وحده، ولما ذكره الترمذي قال: وفي الباب عن أبي هريرة وأشار بذلك إلى حديث مختصر لأبي هريرة أورده عبد بن حمد في تفسيره لفظه: " مثل المؤمن مثل النخلة"، وعند الترمذي أيضا والنسائي وابن حبان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: (ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة) قال: " هي النخلة " تفرد برفعه حماد بن سلمة، وقد تقدم أن في رواية مجاهد عن ابن عمر أنه كان عاشر عشرة، فاستفدنا من مجموع ما ذكرناه أن منهم أبا بكر وعمر وابن عمر، وأبا هريرة وأنس بن مالك إن كانا سمعا ما روياه من هذا الحديث في ذلك المجلس. والله أعلم. |
01-31-2013, 12:59 PM | #56 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب طَرْحِ الْإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ
الشرح: قوله: (باب طرح الإمام المسألة) أورد فيه حديث ابن عمر المذكور بلفظ قريب من لفظ الذي قبله، وإنما أورده بإسناد آخر إيثارا لابتداء فائدة تدفع اعتراض من يدعي عليه التكرار بلا فائدة. وأما دعوى الكرماني أنه لمراعاة صنيع مشايخه في تراجم مصنفاتهم، وأن رواية قتيبة هنا كانت في بيان معنى التحديث والإخبار، ورواية خالد كانت في بيان طرح الإمام المسألة، فذكر الحديث في كل موضع عن شيخه الذي روى له الحديث لذلك الأمر، فإنها غير مقبولة، ولم نجد عن أحد ممن عرف حال البخاري وسعة علمه وجودة تصرفه حكى أنه كان يقلد في التراجم، ولو كان كذلك لم يكن له مزية على غيره. وقد توارد النقل عن كثير من الأئمة أن من جملة ما امتاز به كتاب البخاري دقة نظره في تصرفه في تراجم أبوابه. والذي ادعاه الكرماني يقتضي أنه لا مزية له في ذلك لأنه مقلد فيه لمشايخه. ووراء ذلك أن كلا من قتيبة وخالد بن مخلد لم يذكر لأحد منهما ممن صنف في بيان حالهما أن له تصنيفا على الأبواب فضلا عن التدقيق في التراجم. وقد أعاد الكرماني هذا الكلام في شرحه مرارا، ولم أجد له سلفا في ذلك. والله المستعان. وراوية عن عبد الله بن دينار سليمان هو ابن بلال المدني الفقيه المشهور، ولما أجده من روايته إلا عند البخاري، ولم يقع لأحد ممن استخرج عليه، حتى أن أبا نعيم إنما أورده في المستخرج من طريق الفربري عن البخاري نفسه. وقد وجدته من رواية خالد بن مخلد الراوي عن سليمان المذكور أخرجه أبو عوانة في صحيحه، لكنه قال: " عن مالك " بدل سليمان بن بلال، فإن كان محفوظا فلخالد فيه شيخان. وقد وقع التصريح بسماع عبد الله بن دينار له من عبد الله بن عمر عند مسلم وغيره. *3*باب مَا جَاءَ فِي الْعِلْمِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُونَ أَشْهَدَنَا فُلَانٌ وَيُقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ فَيَقُولُ الْقَارِئُ أَقْرَأَنِي فُلَانٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ عَوْفٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ إِذَا قُرِئَ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي قَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ الشرح: قوله: (باب القراءة والعرض على المحدث) إنما غاير بينهما بالعطف لما بينهما من العموم والخصوص، لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره، ولا يقع العرض إلا بالقراءة لأن العرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه معه أو مع غيره بحضرته فهو أخص من القراءة. وتوسع فيه بعضهم فأطلقه على ما إذا أحضر الأصل لشيخه فنظر فيه وعرف صحته وأذن له أن يرويه عنه من غير أن يحدثه به أو يقرأه الطالب عليه. والحق أن هذا يسمى عرض المناولة بالتقييد لا الإطلاق. وقد كان بعض السلف لا يعتدون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ دون ما يقرأ عليهم، ولهذا بوب البخاري على جوازه وأورد فيه قول الحسن - وهو البصري - لا بأس بالقراءة على العالم. ثم أسنده إليه بعد أن علقه وكذا ذكر عن سفيان الثوري ومالك موصولا أنهما سويا بين السماع من العالم والقراءة عليه. وقوله: " جائزا " وقع في رواية أبي ذر " جائزة " أي القراءة، لأن السماع لا نزاع فيه. قوله: (واحتج بعضهم) المحتج بذلك هو الحميدي شيخ البخاري قاله في كتاب النوادر له، كذا قال بعض من أدركته وتبعته في المقدمة، ثم ظهر لي خلافه وأن قائل ذلك أبو سعيد الحداد، أخرجه البيهقي في المعرفة من طريق ابن خزيمة قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: قال أبو سعيد الحداد: عندي خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة على العالم. فقيل له، فقال: قصة ضمام بن ثعلبة قال: آلله أمرك بهذا؟ قال نعم. انتهى. وليس في المتن الذي ساقه البخاري بعد من حديث أنس في قصة ضمام أن ضماما أخبر قومه بذلك، وإنما وقع ذلك من طريق أخرى ذكرها أحمد وغيره من طريق ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب عن ابن عباس قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة، فذكر الحديث بطوله، وفي آخره أن ضماما قال لقومه عندما رجع إليهم: " إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه " قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. فمعنى قول البخاري " فأجازوه " أي قبلوه منه، ولم يقصد الإجازة المصطلحة بين أهل الحديث. قوله: (واحتج مالك بالصك) قال الجوهري: الصك - يعني بالفتح - الكتاب، فارسي معرب. والجمع صكاك وصكوك. والمراد هنا المكتوب الذي يكتب فيه إقرار المقر، لأنه إذا قرئ عليه فقال: " نعم " ساغت الشهادة عليه به وإن لم يتلفظ هو بما فيه، فكذلك إذا قرئ على العالم فأقر به صح أن يروى عنه. وأما قياس مالك قراءة الحديث على قراءة القرآن فرواه الخطيب في الكفاية من طريق ابن وهب قال: سمعت مالكا، وسئل عن الكتب التي تعرض عليه أيقول الرجل حدثني؟ قال: نعم، كذلك القرآن. أليس الرجل يقرأ على الرجل فيقول: أقرأني فلان؟ وروى الحاكم في علوم الحديث من طريق مطرف قال: صحبت مالكا سبع عشرة سنة، فما رأيته قرأ الموطأ على أحد، بل يقرءون عليه. قال: وسمعته يأبى أشد الإباء على من يقول: لا يجزيه إلا السماع من لفظ الشيخ، ويقول: كيف لا يجزيك هذا في الحديث، ويجزيك في القرآن، والقرآن أعظم؟ قلت: وقد انقرض الخلاف في كون القراءة على الشيخ لا تجزي، وإنما كان يقوله بعض المتشددين من أهل العراق، فروى الخطيب عن إبراهيم بن سعد قال: لا تدعون تنطعكم يا أهل العراق، العرض مثل السماع. وبالغ بعض المدنيين وغيرهم في مخالفتهم فقالوا: إن القراءة على الشيخ أرفع من السماع من لفظه، ونقله الدارقطني في غرائب مالك عنه، ونقله الخطيب بأسانيد صحيحة عن شعبة وابن أبي ذئب ويحيى القطان. واعتلوا بأن الشيخ لو سها لم يتهيأ للطالب الرد عليه. وعن أبي عبيد قال: القراءة علي أثبت وأفهم لي من أن أتولى القراءة أنا. والمعروف عن مالك كما نقله المصنف عنه وعن سفيان - وهو الثوري - أنهما سواء، والمشهور الذي عليه الجمهور أن السماع من لفظ الشيخ أرفع رتبة من القراءة عليه. ما لم يعرض عارض يصير القراءة عليه أولى، ومن ثم كان السماع من لفظه في الإملاء أرفع الدرجات لما يلزم منه من تحرز الشيخ والطالب. والله أعلم. قوله: (عن الحسن قال: لا بأس بالقراءة على العالم) هذا الأثر رواه الخطيب أتم سياقا مما هنا، فأخرج من طريق أحمد بن حنبل عن محمد بن الحسن الواسطي عن عوف الأعرابي أن رجلا سأل الحسن فقال: يا أبا سعيد منزلي بعيد، والاختلاف يشق علي، فإن لم تكن ترى بالقراءة بأسا قرأت عليك. قال: ما أبالي قرأت عليك أو قرأت علي. قال: فأقول حدثني الحسن؟ قال: نعم، قل حدثني الحسن. ورواه أبو الفضل السليماني في كتاب الحث على طلب الحديث من طريق سهل بن المتوكل قال: حدثنا محمد بن سلام، بلفظ: " قلنا للحسن: هذه الكتب التي تقرأ عليك أيش نقول فيها؟ قال: قولوا: حدثنا الحسن". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَقُلْنَا هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَبْتُكَ فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ فَقَالَ سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ فَقَالَ أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ أَاللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فَقَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ قَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ نَعَمْ فَقَالَ الرَّجُلُ آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ المُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الشرح: قوله: (الليث عن سعيد) في رواية الإسماعيلي من طريق يونس بن محمد عن الليث حدثني سعيد، وكذا لابن منده من طريق ابن وهب عن الليث، وفي هذا دليل على أن رواية النسائي من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن الليث قال: حدثني محمد بن عجلان وغيره عن سعيد موهومة معدودة من المزيد في متصل الأسانيد، أو يحمل على أن الليث سمعه عن سعيد بواسطة ثم لقيه فحدثه به. وفيه اختلاف آخر أخرجه النسائي والبغوي من طريق الحارث بن عمير عن عبيد الله بن عمر، وذكره ابن منده عن طريق الضحاك بن عثمان كلاهما عن سعيد عن أبي هريرة، ولم يقدح هذا الاختلاف فيه عند البخاري لأن الليث أثبتهم في سعيد المقبري مع احتمال أن يكون لسعيد فيه شيخان، لكن تترجح رواية الليث بأن المقبري عن أبي هريرة جادة مألوفة فلا يعدل عنها إلى غيرها إلا من كان ضابطا متثبتا، ومن ثم قال ابن أبي حاتم عن أبيه: رواية الضحاك وهم. وقال الدارقطني في العلل: رواه عبيد الله بن عمر وأخوه عبد الله والضحاك بن عثمان عن المقبري عن أبي هريرة ووهموا فيه والقول قول الليث. أما مسلم فلم يخرجه من هذا الوجه بل أخرجه من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس، وقد أشار إليها المصنف عقب هذه الطريق. وما فر منه مسلم وقع في نظيره، فإن حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت وقد روى هذا الحديث عن ثابت فأرسله، ورجح الدارقطني رواية حماد. قوله: (ابن أبي نمر) هو بفتح النون وكسر الميم، لا يعرف اسمه، ذكره ابن سعد في الصحابة. وأخرج له ابن السكن حديثا، وأغفله ابن الأثير تبعا لأصوله. قوله. : (في المسجد) أي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ) فيه جواز اتكاء الإمام بين أتباعه، وفيه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من ترك التكبر لقوله بين ظهرانيهم، وهي بفتح النون أي بينهم، وزيد لفظ الظهر ليدل على أن ظهرا منهم قدامه وظهرا وراءه، فهو محفوف بهم من جانبيه، والألف والنون فيه للتأكيد قاله صاحب الفائق. ووقع في رواية موسى بن إسماعيل الآتي ذكرها آخر هذا الحديث في أوله: " عن أنس قال: نهينا في القرآن أن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل " وكان أنسا أشار إلى آية المائدة، وسيأتي بسط القول فيها في التفسير إن شاء الله تعالى. قوله: (دخل) زاد الأصيلي قبلها " إذ". قوله: (ثم عقله) بتخفيف القاف أي شد على ساق الجمل - بعد أن ثنى ركبته - حبلا. قوله: (في المسجد) استنبط منه ابن بطال وغيره طهارة أبوال الإبل وأرواثها، إذ لا يؤمن ذلك منه مدة كونه في المسجد، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، ودلالته غير واضحة، وإنما فيه مجرد احتمال، ويدفعه رواية أبي نعيم: " أقبل على بعير له حتى أتى المسجد فأناخه ثم عقله فدخل المسجد " فهذا السياق يدل على أنه ما دخل به المسجد، وأصرح منه رواية ابن عباس عند أحمد والحاكم ولفظها: " فأناخ بعيره على باب المسجد فعقله ثم دخل"، فعلى هذا في رواية أنس مجاز الحذف، والتقدير: فأناخه في ساحة المسجد، أو نحو ذلك. قوله: (الأبيض) أي المشرب بحمرة كما في رواية الحارث بن عمير " الأمغر " أي بالغين المعجمة قال حمزة بن الحارث: هو الأبيض المشرب بحمرة. ويؤيده ما يأتي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن أبيض ولا آدم، أي لم يكن أبيض صرفا. قوله: (أجبتك) أي سمعتك، والمراد إنشاء الإجابة، أو نزل تقريره للصحابة في الإعلام عنه منزلة النطق، وهذا لائق بمراد المصنف. وقد قيل إنما لم يقل له نعم لأنه لم يخاطبه بما يليق بمنزلته من التعظيم، لا سيما مع قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) والعذر عنه - إن قلنا إنه قدم مسلما - أنه لم يبلغه النهي، وكانت فيه بقية من جفاء الأعراب، وقد ظهرت بعد ذلك في قوله: " فمشدد عليك في المسألة " وفي قوله في رواية ثابت: " وزعم رسولك أنك تزعم " ولهذا وقع في أول رواية ثابت عن أنس: " كنا نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع " زاد أبو عوانة في صحيحه: " وكانوا أجرأ على ذلك منا " يعني أن الصحابة واقفون عند النهي، وأولئك ينذرون بالجهل، وتمنوه عاقلا ليكون عارفا بما يسأل عنه. وظهر عقل ضمام في تقديمه الاعتذار بين يدي مسألته لظنه أنه لا يصل إلى مقصوده إلا بتلك المخاطبة. وفي رواية ثابت من الزيادة أنه سأله: " من رفع السماء وبسط الأرض " وغير ذلك من المصنوعات، ثم أقسم عليه به أن يصدقه عما يسأل عنه، وكرر القسم في كل مسألة تأكيدا وتقريرا للأمر، ثم صرح بالتصديق، فكل ذلك دليل على حسن تصرفه وتمكن عقله، ولهذا قال عمر في رواية أبي هريرة: " ما رأيت أحدا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام". قوله: (ابن عبد المطلب) بفتح النون على النداء. وفي رواية الكشميهني: " يا بن " بإثبات حرف النداء. قوله: (فلا تجد) أي لا تغضب. ومادة " وجد " متحدة الماضي والمضارع مختلفة المصادر، بحسب اختلاف المعاني يقال في الغضب موجدة وفي المطلوب وجودا وفي الضالة وجدانا وفي الحب وجدا بالفتح وفي المال وجدا بالضم وفي الغني جدة بكسر الجيم وتخفيف الدال المفتوحة على الأشهر في جميع ذلك. وقالوا أيضا في المكتوب وجادة وهي مولدة. قوله: (أنشدك) بفتح الهمزة وضم المعجمة وأصله من النشيد، وهو رفع الصوت، والمعنى سألتك رافعا نشيدتي قاله البغوي في شرح السنة. وقال الجوهري: نشدتك بالله أي سألتك بالله، كأنك ذكرته فنشد أي تذكر. قوله: (آلله) بالمد في المواضع كلها. قوله: (اللهم نعم) الجواب حصل بنعم، وإنما ذكر اللهم تبركا بها، وكأنه استشهد بالله في ذلك تأكيدا لصدقه. ووقع في رواية موسى: " فقال: صدقت. قال: فمن خلق السماء؟ قال الله. قال: فمن خلق الأرض والجبال؟ قال: الله. قال: فمن جعل فيها المنافع؟ قال: الله. قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب الجبال وجعل فيها المنافع، آلله أرسلك؟ قال: نعم " وكذا هو في رواية مسلم. قوله: (أن تصلي) بتاء المخاطب فيه وفيما بعده. ووقع عند الأصيلي بالنون فيها. قال القاضي عياض: هو أوجه. ويؤيده رواية ثابت بلفظ: " إن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا " وساق البقية كذلك. وتوجيه الأول أن كل ما وجب عليه وجب على أمته حتى يقوم دليل الاختصاص. ووقع في رواية الكشميهني والسرخسي " الصلاة الخمس " بالإفراد على إرادة الجنس. قوله: (أن تأخذ هذه الصدقة) قال ابن التين: فيه دليل على أن المرء لا يفرق صدقته بنفسه. قلت: وفيه نظر. وقوله: " على فقرائنا " خرج مخرج الأغلب لأنهم معظم أهل الصدقة. قوله: (آمنت بما جئت به) يحتمل أن يكون إخبارا وهو اختيار البخاري، ورجحه القاضي عياض، وأنه حضر بعد إسلامه مستثبتا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبره به رسوله إليهم، لأنه قال في حديث ثابت عن أنس عند مسلم وغيره: " فإن رسولك زعم " وقال في رواية كريب عن ابن عباس عند الطبراني " أتتنا كتبك وأتتنا رسلك " واستنبط منه الحاكم أصل طلب علو الإسناد لأنه سمع ذلك من الرسول وآمن وصدق، ولكنه أراد أن يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة، ويحتمل أن يكون قوله: " آمنت " إنشاء، ورجحه القرطبي لقوله: " زعم " قال: والزعم القول الذي لا يوثق به، قاله ابن السكيت وغيره. قلت: وفيه نظر، لأن الزعم يطلق على القول المحقق أيضا كما نقله أبو عمر الزاهد في شرح فصيح شيخه ثعلب، وأكثر سيبويه من قوله: " زعم الخليل " في مقام الاحتجاج، وقد أشرنا إلى ذلك في حديث أبي سفيان في بدء الوحي. وأما تبويب أبي داود عليه: " باب المشرك يدخل المسجد " فليس مصيرا منه إلى أن ضماما قدم مشركا بل وجهه أنهم تركوا شخصا قادما يدخل المسجد من غير استفصال. ومما يؤيد أن قوله " آمنت " إخبار أنه لم يسأل عن دليل التوحيد، بل عن عموم الرسالة وعن شرائع الإسلام، ولو كان إنشاء لكان طلب معجزة توجب له التصديق، قاله الكرماني. وعكسه القرطبي فاستدل به على صحة إيمان المقلد للرسول ولو لم تظهر له معجزة. وكذا أشار إليه ابن الصلاح. والله أعلم. (تنبيه) : لم يذكر الحج في رواية شريك هذه، وقد ذكره مسلم وغيره فقال موسى في روايته: " وإن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال: صدق " وأخرجه مسلم أيضا وهو في حديث أبي هريرة وابن عباس أيضا. وأغرب ابن التين فقال: إنما لم يذكره لأنه لم يكن فرض. وكأن الحامل له على ذلك ما جزم به الواقدي ومحمد بن حبيب أن قدوم ضمام كان سنة خمس فيكون قبل فرض الحج، لكنه غلط من أوجه: أحدها أن في رواية مسلم أن قدومه كان بعد نزول النهي في القرآن عن سؤال الرسول، وآية النهي في المائدة ونزولها متأخر جدا. ثانيها أن إرسال الرسل إلى الدعاء إلى الإسلام إنما كان ابتداؤه بعد الحديبية، ومعظمه بعد فتح مكة. ثالثها أن في القصة أن قومه أوفدوه، وإنما كان معظم الوفود بعد فتح مكة. رابعها في حديث ابن عباس أن قومه أطاعوه ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم يدخل بنو سعد - وهو ابن بكر بن هوازن - في الإسلام إلا بعد وقعة حنين وكانت في شوال سنة ثمان كما سيأتي مشروحا في مكانه إن شاء الله تعالى. فالصواب أن قدوم ضمام كان في ستة تسع وبه جزم ابن إسحاق وأبو عبيدة وغيرهما. وغفل البدر الزركشي فقال: إنما لم يذكر الحج لأنه كان معلوما عندهم في شريعة إبراهيم انتهى. وكأنه لم يراجع صحيح مسلم فضلا عن غيره. قوله: (وأنا رسول من ورائي) من موصولة ورسول مضاف إليها، ويجوز تنوينه وكسر من لكن لم تأت به الرواية. ووقع في رواية كريب عن ابن عباس عند الطبراني. " جاء رجل من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان مسترضعا فيهم - فقال: أنا وافد قومي ورسولهم " وعند أحمد والحاكم: " بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم علينا " فذكر الحديث. فقول ابن عباس: " فقدم علينا " يدل على تأخير وفادته أيضا، لأن ابن عباس إنما قدم المدينة بعد الفتح. وزاد مسلم في آخر الحديث قال: " والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهم ولا أنقص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة " وكذا هي في رواية موسى بن إسماعيل. ووقعت هذه الزيادة في حديث ابن عباس، وهي الحاملة لمن سمى المبهم في حديث طلحة ضمام بن ثعلبة كابن عبد البر وغيره، وقد قدمنا هناك أن القرطبي مال إلى أنه غيره. ووقع في رواية عبيد الله بن عمر عن المقبري عن أبي هريرة التي أشرت إليها قبل من الزيادة في هذه القصة أن ضماما قال بعد قوله وأنا ضمام بن ثعلبة: " فأما هذه الهناة فوالله إن كنا لنتنزه عنها في الجاهلية " يعني الفواحش. فلما أن ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم. " فقه الرجل". قال: وكان عمر بن الخطاب يقول: ما رأيت أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام. ووقع في آخر حديث ابن عباس عند أبي داود: " فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام " وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم العمل بخبر الواحد، ولا يقدح فيه مجيء ضمام مستثبتا لأنه قصد اللقاء والمشافهة كما تقدم عن الحاكم، وقد رجع ضمام إلى قومه وحده فصدقوه وآمنوا كما وقع في حديث ابن عباس. وفيه نسبة الشخص إلى جده إذا كان أشهر من أبيه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: " أنا ابن عبد المطلب". وفيه الاستحلاف على الأمر المحقق لزيادة التأكيد، وفيه رواية الأقران لأن سعيدا وشريكا تابعيان من درجة واحدة وهما مدنيان. قوله: (رواه موسى) هو ابن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي شيخ البخاري، وحديثه موصول عند أبي عوانة في صحيحه وعند ابن منده في الإيمان، وإنما علقه البخاري لأنه لم يحتج بشيخه سليمان بن المغيرة، وقد خولف في وصله فرواه حماد بن سلمة عن ثابت مرسلا، ورجحها الدارقطني، وزعم بعضهم أنها علة تمنع من تصحيح الحديث، وليس كذلك بل هي دالة على أن لحديث شريك أصلا. قوله: (وعلي بن عبد الحميد) هو المعني بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر النون بعدها ياء النسب، وحديثه موصول عند الترمذي أخرجه عن البخاري عنه، وكذا أخرجه الدارمي عن علي بن عبد الحميد، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق. قوله: (بهذا) أي هذا المعنى، وإلا فاللفظ كما بينا مختلف. وسقطت هذه اللفظة من رواية أبي الوقت وابن عساكر. والله سبحانه وتعالى أعلم. (تنبيه) : وقع في النسخة البغدادية - التي صححها العلامة أبو محمد بن الصغاني اللغوي بعد أن سمعها من أصحاب أبي الوقت وقابلها على عدة نسخ وجعل لها علامات - عقب قوله رواه موسى وعلي بن عبد الحميد عن سليمان بن المغيرة عن ثابت ما نصه: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا ثابت عن أنس، وساق الحديث بتمامه. وقال الصغاني في الهامش: هذا الحديث ساقط من النسخ كلها إلا في النسخة التي قرئت على الفربري صاحب البخاري وعليها خطه. قلت: وكذا سقطت في جميع النسخ التي وقفت عليها. والله تعالى أعلم بالصواب. |
01-31-2013, 01:00 PM | #57 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب مَا يُذْكَرُ فِي الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ نَسَخَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْمَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْآفَاقِ وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ذَلِكَ جَائِزًا وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب ما يذكر في المناولة) . لما فرغ من تقرير السماع والعرض أردفه ببقية وجوه التحمل المعتبرة عند الجمهور، فمنها المناولة، وصورتها أن يعطي الشيخ الطالب الكتاب فيقول له: هذا سماعي من فلان، أو هذا تصنيفي، فاروه عني. وقد قدمنا صورة عرض المناولة وهي إحضار الطالب الكتاب، وقد سوغ الجمهور الرواية بها، وردها من رد عرض القراءة من باب الأولى. قوله: (إلى البلدان) أي إلى أهل البلدان. وكتاب مصدر وهو متعلق إلى، وذكر البلدان على سبيل المثال، وإلا فالحكم عام في القرى وغيرها. والمكاتبة من أقسام التحمل، وهي أن يكتب الشيخ حديثه بخطه، أو يأذن لمن يثق به بكتبه، ويرسله بعد تحريره إلى الطالب، ويأذن له في روايته عنه. وقد سوى المصنف بينها وبين المناولة. ورجح قوم المناولة عليها لحصول المشافهة فيها بالإذن دون المكاتبة. وقد جوز جماعة من القدماء إطلاق الإخبار فيهما، والأولى ما عليه المحققون من اشتراط بيان ذلك. قوله: (نسخ عثمان المصاحف) هو طرف من حديث طويل يأتي الكلام عليه في فضائل القرآن إن شاء الله تعالى. ودلالته على تسويغ الرواية بالمكاتبة واضح، فإن عثمان أمرهم بالاعتماد على ما ما في تلك المصاحف ومخالفة ما عداها، والمستفاد من بعثه المصاحف إنما هو ثبوت إسناد صورة المكتوب فيها إلى عثمان، لا أصل ثبوت القرآن فإنه متواتر عندهم. قوله: (ورأى عبد الله بن عمر) كذا في جميع نسخ الجامع " عمر " بضم العين، وكنت أظنه العمري المدني، وخرجت الأثر عنه بذلك في " تعليق التعليق " وكذا جزم به الكرماني، ثم ظهر لي من قرينة تقديمه في الذكر على يحيى بن سعيد أنه غير العمري لأن يحيى أكبر منه سنا وقدرا، فتتبعت فلم أجده عن عبد الله بن عمر بن الخطاب صريحا، لكن وجدت في كتاب الوصية لأبي القاسم بن منده من طريق البخاري بسند له صحيح إلى أبي عبد الرحمن الحبلي - بضم المهملة والموحدة - أنه أتى عبد الله بكتاب فيه أحاديث فقال: انظر في هذا الكتاب، فما عرفت منه اتركه وما لم تعرفه امحه. . فذكر الخبر. وهو أصل في عرض المناولة. وعبد الله يحتمل أن يكون هو ابن عمر بن الخطاب، فإن الحبلي سمع منه. ويحتمل أن يكون ابن عمرو بن العاصي، فإن الحبلي مشهور بالرواية عنه. وأما الأثر بذلك عن يحيى بن سعيد ومالك فأخرجه الحاكم في علوم الحديث من طريق إسماعيل بن أبي أويس قال: سمعت خالي مالك بن أنس يقول: قال لي يحيى بن سعيد الأنصاري لما أراد الخروج إلى العراق: التقط لي مائة حديث من حديث ابن شهاب حتى أرويها عنك، قال مالك: فكتبتها ثم بعثتها إليه. وروى الرامهرمزي من طريق ابن أبي أويس أيضا عن مالك في وجوه التحمل قال: قراءتك على العالم، ثم قراءته وأنت تسمع، ثم أن يدفع إليك كتابه فيقول: ارو هذا عني. قوله: (واحتج بعض أهل الحجاز) هذا المحتج هو الحميدي، ذكر ذلك في كتاب النوادر له. قوله: (في المناولة) أي في صحة المناولة، والحديث الذي أشار إليه لم يورده موصولا في هذا الكتاب، وهو صحيح، وقد وجدته من طريقين: إحداهما مرسلة ذكرها ابن إسحاق في المغازي عن يزيد بن رومان، وأبو اليمان في نسخته عن شعيب عن الزهري كلاهما عن عروة بن الزبير. والأخرى موصولة أخرجها الطبراني من حديث جندب البجلي بإسناد حسن. ثم وجدت له شاهدا من حديث ابن عباس عند الطبري في التفسير. فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحا. وأمير السرية اسمه عبد الله بن جحش الأسدي أخو زينب أم المؤمنين، وكان تأميره في السنة الثانية قبل وقعة بدر، والسرية بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد الياء التحتانية القطعة من الجيش، وكانوا اثني عشر رجلا من المهاجرين. قوله: (حتى تبلغ مكان كذا وكذا) هكذا في حديث جندب على الإبهام. وفي رواية عروة أنه قال له: " إذا سرت يومين فافتح الكتاب". قالا " ففتحه هناك فإذا فيه أن امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش، ولا تستكرهن أحدا " قال في حديث جندب: فرجع رجلان ومضى الباقون فلقوا عمرو بن الحضرمي ومعه عير - أي تجارة لقريش - فقتلوه. فكان أول مقتول من الكفار في الإسلام، وذلك في أول يوم من رجب، وغنموا ما كان معهم فكانت أول غنيمة في الإسلام، فعاب عليهم المشركون ذلك، فأنزل الله تعالى: (ويسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) الآية. ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، فإنه ناوله الكتاب وأمره أن يقرأه على أصحابه ليعملوا بما فيه، ففيه المناولة ومعنى المكاتبة. وتعقبه بعضهم بأن الحجة إنما وجبت به لعدم توهم التبديل والتغيير فيه لعدالة الصحابة، بخلاف من بعدهم، حكاه البيهقي. وأقول: شرط قيام الحجة بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوما وحامله مؤتمنا والمكتوب إليه يعرف خط الشيخ، إلى غير ذلك من الشروط الدافعة لتوهم التغيير والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل بن عبد الله) هو ابن أبي أويس، وصالح هو ابن كيسان. قوله: (بعث بكتابه رجلا) هو عبد الله بن حذافة السهمي كما سماه المؤلف في هذا الحديث في المغازي. وكسرى هو أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، ووهم من قال هو أنوشروان. وعظيم البحرين هو المنذر بن ساوى بالمهملة وفتح الواو الممالة، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في المغازي. قوله: (فحسبت) القائل هو ابن شهاب راوي الحديث، فقصة الكتاب عنده موصولة وقصة الدعاء مرسلة. ووجه دلالته على المكاتبة ظاهر، ويمكن أن يستدل به على المناولة من حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم ناول الكتاب لرسوله، وأمره أن يخبر عظيم البحرين بأن هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن سمع ما فيه ولا قرأه. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ مَنْ قَالَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ أَنَسٌ الشرح: قوله: (عبد الله) هو ابن المبارك. قوله: (كتب أو أراد أن يكتب) شك من الراوي، ونسبة الكتابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجازية، أي كتب الكاتب بأمره. قوله: (لا يقرءون كتابا إلا مختوما) يعرف من هذا فائدة إيراده هذا الحديث في هذا الباب لينبه على أن شرط العمل بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوما ليحصل الأمن من توهم تغييره، لكن قد يستغنى عن ختمه إذا كان الحامل عدلا مؤتمنا. قوله: (فقلت) القائل هو شعبة، وسيأتي باقي الكلام على هذا الحديث في الجهاد وفي اللباس إن شاء الله تعالى. (فائدة) : لم يذكر المصنف من أقسام التحمل الإجازة المجردة عن المناولة أو المكاتبة، ولا الوجادة ولا الوصية ولا الإعلام المجردات عن الإجازة، وكأنه لا يرى بشيء منها. وقد ادعى ابن منده أن كل ما يقول البخاري فيه: " قال لي " فهي إجازة، وهي دعوى مردودة بدليل أني استقريت كثيرا من المواضع التي يقول فيها الجامع قال لي فوجدته في غير الجامع يقول فيها حدثنا، والبخاري لا يستجيز في الإجازة إطلاق التحديث، فدل على أنها عنده من المسموع، لكن سبب استعماله لهذه الصيغة ليفرق بين ما يبلغ شرطه وما لا يبلغ. والله أعلم. |
01-31-2013, 01:01 PM | #58 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا
الشرح: قوله: (باب من قعد حيث ينتهي به المجلس) مناسبة هذا لكتاب العلم من جهة أن المراد بالمجلس وبالحلقة حلقة العلم ومجلس العلم. فيدخل في أدب الطالب من عدة أوجه كما سنبينه. والتراجم الماضية كلها تتعلق بصفات العالم. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ قَالَ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ الشرح: قوله: (مولى عقيل) بفتح العين، وقيل لأبي مرة ذلك للزومه إياه، وإنما هو مولى أخته أم هانئ بنت أبي طالب. قوله: (عن أبي واقد) صرح بالتحديث في رواية النسائي من طريق يحيى بن أبي كثير عن إسحاق فقال: عن أبي مرة أن أبا واقد حدثه. وقد قدمنا أن اسم أبي واقد الحارث بن مالك، وقيل ابن عوف، وقيل عوف بن الحارث، وليس له في البخاري غير هذا الحديث، ورجال إسناده مدنيون، وهو في الموطأ، ولم يروه عن أبي واقد إلا أبو مرة. ولا عنه إلا إسحاق، وأبو مرة والراوي عنه تابعيان، وله شاهد من حديث أنس أخرجه البزار والحاكم. قوله: (ثلاثة نفر) النفر بالتحريك للرجال من ثلاثة إلى عشرة، والمعنى ثلاثة هم نفر، والنفر اسم جمع ولهذا وقع مميزا للجمع كقوله تعالى: (تسعة رهط) . قوله: (فأقبل اثنان) بعد قوله: " أقبل ثلاثة " هما إقبالان، كأنهم أقبلوا أولا من الطريق فدخلوا المسجد مارين كما في حديث أنس، فإذا ثلاثة نفر يمرون، فلما رأوا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إليه اثنان منهم واستمر الثالث ذاهبا. قوله: (فوقفا) زاد أكثر رواة الموطأ: " فلما وقفا سلما " وكذا عند الترمذي والنسائي. ولم يذكر المصنف هنا ولا في الصلاة السلام. وكذا لم يقع في رواية مسلم. ويستفاد منه أن الداخل يبدأ بالسلام، وأن القائم يسلم على القاعد، وإنما لم يذكر رد السلام عليهما اكتفاء بشهرته، أو يستفاد منه أن المستغرق في العبادة يسقط عنه الرد. وسيأتي البحث فيه في كتاب الاستئذان. ولم يذكر أنهما صليا تحية المسجد إما لكون ذلك كان قبل أن تشرع أو كانا على غير وضوء أو وقع فلم ينقل للاهتمام بغير ذلك من القصة أو كان في غير وقت تنفل، قاله القاضي عياض بناء على مذهبه في أنها لا تصلى في الأوقات المكروهة. قوله: (فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أو " على " بمعنى عند. قوله: (فرجة) بالضم والفتح معا هي الخلل بين الشيئين. والحلقة بإسكان اللام كل شيء مستدير خالي الوسط والجمع حلق بفتحتين، وحكي فتح اللام في الواحد وهو نادر. وفيه استحباب التحليق في مجالس الذكر والعلم، وفيه أن من سبق إلى موضع منها كان أحق به. قوله: (وأما الآخر) بفتح الخاء المعجمة، وفيه رد على من زعم أنه يختص بالأخير لإطلاقه هنا على الثاني. قوله: (فأوى إلى الله فآواه الله) قال القرطبي: الرواية الصحيحة بقصر الأول ومد الثاني وهو المشهور في اللغة، وفي القرآن (إذ أوى الفتية إلى الكهف) بالقصر، (وآويناهما إلى ربوة) بالمد، وحكي في اللغة القصر والمد معا فيهما. ومعنى أوى إلى الله لجأ إلى الله، أو على الحذف أي انضم إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى فآواه الله أي جازاه بنظير فعله بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه. وفيه استحباب الأدب في مجالس العلم وفضل سد خلل الحلقة، كما ورد الترغيب في سد خلل الصفوف في الصلاة، وجواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذ، فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي كما فعل الثاني. وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير. قوله: (فاستحيا) أي ترك المزاحمة كما فعل رفيقه حياء من النبي صلى الله عليه وسلم وممن حضر قاله القاضي عياض، وقد بين أنس في روايته سبب استحياء هذا الثاني فلفظه عند الحاكم: " ومضى الثاني قليلا ثم جاء فجلس " فالمعنى أنه استحيا من الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث. قوله: (فاستحيا الله منه) أي رحمه ولم يعاقبه. قوله: (فأعرض الله عنه) أي سخط عليه، وهو محمول على من ذهب معرضا لا لعذر، هذا إن كان مسلما، ويحتمل أن يكون منافقا، واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أمره، كما يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: " فأعرض الله عنه " إخبارا أو دعاء. ووقع في حديث أنس: " فاستغنى فاستغنى الله عنه " وهذا يرشح كونه خبرا، وإطلاق الإعراض وغيره في حق الله تعالى على سبيل المقابلة والمشاكلة، فيحمل كل لفظ منها على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى. وفائدة إطلاق ذلك بيان الشيء بطريق واضح، وفيه جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها وأن ذلك لا يعد من الغيبة، وفي الحديث فضل ملازمة حلق العلم والذكر وجلوس العالم والمذكر في المسجد، وفيه الثناء على المستحي. والجلوس حيث ينتهي به المجلس. ولم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية واحد من الثلاثة المذكورين. والله تعالى أعلم. *3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ الشرح: قوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم رب مبلغ أوعى من سامع) هذا الحديث المعلق، أورد المصنف في الباب معناه، وأما لفظه فهو موصول عنده في باب الخطبة بمنى من كتاب الحج، أورد فيه هذا الحديث من طريق قرة بن خالد عن محمد بن سيرين قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكرة ورجل أفضل في نفسي من عبد الرحمن - حميد بن عبد الرحمن - كلاهما عن أبي بكرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال: " أتدرون أي يوم هذا " وفي آخره هذا اللفظ. وغفل القطب الحلبي ومن تبعه من الشراح في عزوهم له إلى تخريج الترمذي من حديث ابن مسعود فأبعدوا النجعة، وأوهموا عدم تخريج المصنف له. والله المستعان. و " رب " للتقليل، وقد ترد للتكثير، و " مبلغ " بفتح اللام و " أوعى " نعت له، والذي يتعلق به رب محذوف وتقديره يوجد أو يكون، ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن تكون هي مبتدأ وأوعى الخبر فلا حذف ولا تقدير، والمراد: رب مبلغ عني أوعى - أي أفهم - لما أقول من سامع مني. وصرح بذلك أبو القاسم بن منده في روايته من طريق هوذة عن ابن عون ولفظه: " فإنه عسى أن يكون بعض من لم يشهد أوعى لما أقول من بعض من شهد". الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ أَوْ بِزِمَامِهِ قَالَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ الشرح: قوله: (بشر) هو ابن المفضل، ورجال الإسناد كلهم بصريون. قوله: (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم) نصب النبي على المفعولية، وفي ذكر ضمير يعود على الراوي، يعني أن أبا بكرة كان يحدثهم فذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قعد على بعيره. وفي رواية النسائي ما يشعر بذلك ولفظه عن أبي بكرة قال. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم. فالواو إما حالية وإما عاطفة والمعطوف عليه محذوف. وقد وقع في رواية ابن عساكر عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد ولا إشكال فيه. قوله: (وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه) الشك من الراوي، والزمام والخطام بمعنى، وهو الخيط الذي تشد فيه الحلقة التي تسمى بالبرة - بضم الموحدة وتخفيف الراء المفتوحة - في أنف البعير. وهذا الممسك سماه بعض الشراح بلالا، واستند إلى ما رواه النسائي من طريق أم الحصين قالت: حججت فرأيت بلالا يقود بخطام راحلة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. وقد وقع في السنن من حديث عمرو بن خارجة قال: كنت آخذا بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. فذكر بعض الخطبة، فهو أولى أن يفسر به المبهم من بلال، لكن الصواب أنه هنا أبو بكرة، فقد ثبت ذلك في رواية الإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن ابن عون ولفظه: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته يوم النحر، وأمسكت - إما قال بخطامها، وإما قال بزمامها - واستفدنا من هذا أن الشك ممن دون أبي بكرة لا منه. وفائدة إمساك الخطام صون البعير عن الاضطراب حتى لا يشوش على راكبه. قوله: (أي يوم هذا) سقط من رواية المستملي والحموي السؤال عن الشهر والجواب الذي قبله فصار هكذا: أي يوم هذا، فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه قال: أليس بذي الحجة؟ وكذا في رواية الأصيلي وتوجيهه ظاهر، وهو من إطلاق الكل على البعض، ولكن الثابت في الروايات عند مسلم وغيره ما ثبت عند الكشميهني وكريمة، وكذلك وقع في رواية مسلم وغيره السؤال عن البلد، وهذا كله في رواية ابن عون، وثبت السؤال عن الثلاثة عند المصنف في الأضاحي من رواية أيوب، وفي الحج من رواية قرة كلاهما عن ابن سيرين، قال القرطبي: سؤاله صلى الله عليه وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهو مهم وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذلك قال بعد هذا: فإن دمائكم الخ، مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء. انتهى. ومناط التشبيه في قوله: " كحرمة يومكم " وما بعده ظهوره عند السامعين، لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتا في نفوسهم - مقررا عندهم، بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون المشبه به أخفض رتبة من المشبه، لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع. ووقع في الروايات التي أشرنا إليها عند المصنف وغيره أنهم أجابوه عن كل سؤال بقولهم: الله ورسوله أعلم. وذلك من حسن أدبهم، لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، وأنه ليس مراده مطلق الإخبار بما يعرفونه، ولهذا قال في رواية الباب: حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه. ففيه إشارة إلى تفويض الأمور الكلية إلى الشارع، ويستفاد منه الحجة لمثبتي الحقائق الشرعية. قوله: (فإن دماءكم الخ) هو على حذف مضاف، أي سفك دمائكم وأخذ أموالكم وثلب أعراضكم. والعرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو سلفه. قوله: (ليبلغ الشاهد) أي الحاضر في المجلس (الغائب) أي الغائب عنه، والمراد إما تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام. وقوله: " منه " صلة لأفعل التفضيل، وجاز الفصل بينهما لأن في الظرف سعة، وليس الفاصل أيضا أجنبيا. (فائدة) : وقع في حديث الباب: " فسكتنا بعد السؤال". وعند المصنف في الحج من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. وظاهرهما التعارض، والجمع بينهما أن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس أجابوا، والطائفة الذين كان فيهم أبو بكرة لم يجيبوا بل قالوا: الله ورسوله أعلم كما أشرنا إليه. أو تكون رواية ابن عباس بالمعنى، لأن في حديث أبي بكرة عند المصنف في الحج وفي الفتن أنه لما قال: " أليس يوم النحر؟ قالوا بلى " بمعنى قولهم يوم حرام بالاستلزام، وغايته أن أبا بكرة نقل السياق بتمامه، واختصره ابن عباس. وكأن ذلك كان بسبب قرب أبي بكرة منه لكونه كان آخذا بخطام الناقة. وقال بعضهم: يحتمل تعدد الخطبة، فإن أراد أنه كررها في يوم النحر فيحتاج لدليل، فإن في حديث ابن عمر عند المصنف في الحج أن ذلك كان يوم النحر بين الجمرات في حجته. وفي هذا الحديث من الفوائد - غير ما تقدم - الحث على تبليغ العلم، وجواز التحمل قبل كمال الأهلية. وأن الفهم ليس شرطا في الأداء، وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدمه لكن بقلة، واستنبط ابن المنير من تعليل كون المتأخر أرجح نظرا من المتقدم أن تفسير الراوي أرجح من تفسير غيره. وفيه جواز القعود على ظهر الدواب وهي واقفة إذا احتيج إلى ذلك، وحمل النهي الوارد في ذلك على ما إذا كان لغير ضرورة. وفيه الخطبة على موضع عال ليكون أبلغ في إسماعه للناس ورؤيتهم إياه. |
01-31-2013, 01:01 PM | #59 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ وَقَالَ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ وَقَالَ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ وَيُقَالُ الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ الشرح: قوله: (باب العلم قبل القول والعمل) قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم: " إن العلم لا ينفع إلا بالعمل " تهوين أمر العلم والتساهل في طلبه. قوله: (فبدأ بالعلم) أي حيث قال: " فاعلم أنه لا إله إلا الله " ثم قال " واستغفر لذنبك". والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو متناول لأمته. واستدل سفيان بن عيينة بهذه الآية على فضل العلم كما أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمته من طريق الربيع بن نافع عنه أنه تلاها فقال: ألم تسمع أنه بدأ به فقال: " اعلم " ثم أمره بالعمل؟ وينتزع منها دليل ما يقوله المتكلمون من وجوب المعرفة، لكن النزاع كما قدمناه إنما هو في إيجاب تعلم الأدلة على القوانين المذكورة في كتب الكلام، وقد تقدم شيء من هذا في كتاب الإيمان. قوله: (وأن العلماء) بفتح أن، ويجوز كسرها، ومن هنا إلى قوله: " وافر " طرف من حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم مصححا من حديث أبي الدرداء وحسنه حمزة الكناني، وضعفه عندهم سنده، لكن له شواهد يتقوى بها، ولم يفصح المصنف بكونه حديثا فلهذا لا يعد في تعاليقه، لكن إيراده له في الترجمة يشعر بأن له أصلا، وشاهده في القرآن قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) ، ومناسبته للترجمة من جهة أن الوارث قائم مقام الموروث، فله حكمه فيما قام مقامه فيه. قوله: (ورثوا) بتشديد الراء المفتوحة، أي الأنبياء. ويروى بتخفيفها مع الكسر أي العلماء. ويؤيد الأول ما عند الترمذي وغيره فيه: وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم". قوله: (بحظ) أي نصيب (وافر) أي كامل. قوله: (ومن سلك طريقا) هو من جملة الحديث المذكور، وقد أخرج هذه الجملة أيضا مسلم من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في حديث غير هذا، وأخرجه الترمذي وقال: حسن. قال: ولم يقل له صحيح لأنه يقال إن الأعمش دلس فيه فقال حدثت عن أبي صالح. قلت: لكن في رواية مسلم عن أبي أسامة عن الأعمش: " حدثنا أبو صالح " فانتفت تهمة تدليسه. قوله: (طريقا) نكرها ونكر " علما " لتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية، وليندرج فيه القليل والكثير. قوله: (سهل الله له طريقا) أي في الآخرة، أو في الدنيا بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة. وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة. قوله: (وقال) أي الله عز وجل، وهو معطوف على قوله: لقول الله (إنما يخشى الله) أي يخاف من الله من علم قدرته وسلطانه وهم العلماء قاله ابن عباس. قوله: (وما يعقلها) أي الأمثال المضروبة. قوله: (لو كنا نسمع) أي سمع من يعي ويفهم (أو نعقل) عقل من يميز، وهذه أوصاف أهل العلم. فالمعنى لو كنا من أهل العلم لعلمنا ما يجب علينا فعملنا به فنجونا. قوله: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يفقهه) كذا في رواية الأكثر. وفي رواية المستملي: " يفهمه " بالهاء المشددة المكسورة بعدها ميم، وقد وصله المؤلف باللفظ الأول بعد هذا ببابين كما سيأتي. وأما اللفظ الثاني فأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب العلم من طريق ابن عمر عن عمر مرفوعا، وإسناده حسن. والفقه هو الفهم قال الله تعالى: (لا يكادون يفقهون حديثا) أي لا يفهمون، والمراد الفهم في الأحكام الشرعية. قوله: (وإنما العلم بالتعلم) هو حديث مرفوع أيضا، أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية أيضا بلفظ: " يا أيها الناس تعلموا، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " إسناده حسن، إلا أن فيه مبهما اعتضد بمجيئه من وجه آخر، وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفا، ورواه أبو نعيم الأصبهاني مرفوعا. وفي الباب عن أبي الدرداء وغيره. فلا يغتر بقوله من جعله من كلام البخاري، والمعنى ليس العلم المعتبر إلا المأخوذ من الأنبياء وورثتهم على سبيل التعلم. قوله: (وقال أبو ذر الخ) هذا التعليق رويناه موصولا في مسند الدارمي وغيره من طريق الأوزاعي: حدثني أبو كثير - يعني مالك بن مرثد - عن أبيه قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع عليه الناس يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال: ألم تنه عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت علي؟ لو وضعتم. . فذكر مثله. ورويناه في الحلية من هذا الوجه، وبين أن الذي خاطبه رجل من قريش، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان رضي الله عنه. وكان سبب ذلك أنه كان بالشام فاختلف مع معاوية في تأويل قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب خاصة. وقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا. فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل إلى أبي ذر، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذر عن المدينة فسكن الربذة - بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة - إلى أن مات رواه النسائي. وفيه دليل على أن أبا ذر كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه كما تقدم، ولعله أيضا سمع الوعيد في حق من كتم علما يعلمه، وسيأتي لعلي مع عثمان نحوه. والصمصامة بمهملتين الأولى مفتوحة هو السيف الصارم الذي لا ينثني، وقيل الذي له حد واحد. قوله: (هذه) إشارة إلى القفا، وهو يذكر ويؤنث، وأنفذ بضم الهمزة وكسر الفاء والذال المعجمة أي أمضى، وتجيزوا بضم المثناة وكسر الجيم وبعد الياء زاي، أي تكملوا قتلي، ونكر " كلمة " ليشمل القليل والكثير. والمراد به يبلغ ما تحمله في كل حال ولا ينتهي عن ذلك ولو أشرف على القتل. و " لو " في كلامه لمجرد الشرط من غير أن يلاحظ الامتناع، أو المراد أن الإنفاذ حاصل على تقدير وضع الصمصامة، وعلى تقدير عدم حصوله أولى، فهو مثل قوله: " لو لم يخف الله لم يعصه " وفيه الحث على تعليم العلم واحتمال المشقة فيه والصبر على الأذى طلبا للثواب. قوله: (وقال ابن عباس) كذا التعليق وصله ابن أبي عاصم أيضا بإسناد حسن، والخطيب بإسناد آخر حسن. وقد فسر ابن عباس: " الرباني " بأنه الحكيم الفقيه، ووافقه ابن مسعود فيما رواه إبراهيم الحربي في غريبه عنه بإسناد صحيح. وقال الأصمعي والإسماعيلي الرباني نسبه إلى الرب أي الذي يقصد ما أمره الرب بقصده من العلم والعمل. وقال ثعلب قيل للعلماء ربانيون لأنهم يربون العلم أي يقومون به، وزيدت الألف والنون للمبالغة. والحاصل أنه اختلف في هذه النسبة هل هي نسبة إلى الرب أو إلى التربية، والتربية على هذا للعلم، وعلى ما حكاه البخاري لتعلمه. والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها. وقيل يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل مقاصده. وقال ابن الأعرابي: لا يقال للعالم رباني حتى يكون عالما معلما عاملا. (فائدة) : اقتصر المصنف في هذا الباب على ما أورده من غير أن يورد حديثا موصولا على شرطه، فإما أن يكون بيض له ليورد فيه ما يثبت على شرطه، أو يكون تعمد ذلك اكتفاء بما ذكر. والله أعلم. *3*باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَيْ لَا يَنْفِرُوا الشرح: قوله: (باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم) هو بالخاء المعجمة، أي يتعهدهم، والموعظة النصح والتذكير، وعطف العلم عليها من باب عطف العام على الخاص لأن العلم يشمل الموعظة وغيرها، وإنما عطفه لأنها منصوصة في الحديث، وذكر العلم استنباطا. قوله: (لئلا ينفروا) استعمل في الترجمة معنى الحديثين اللذين ساقهما، وتضمن ذلك تفسير السآمة بالنفور وهما متقاربان، ومناسبته لما قبله ظاهرة من جهة ما حكاه أخيرا من تفسير الرباني، كمناسبة الذي قبله من تشديد أبي ذر في أمر التبليغ لما قبله من الأمر بالتبليغ. وغالب أبواب هذا الكتاب لمن أمعن النظر فيها والتأمل لا يخلو عن ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا الشرح: قوله: (سفيان) هو الثوري، وقد رواه أحمد في مسنده عن ابن عيينة، لكن محمد بن يوسف الفرياي وإن كان يروي عن السفيانين فإنه حين يطلق يريد به الثوري، كما أن البخاري حيث يطلق محمد بن يوسف لا يريد به إلا الفريابي وإن كان يروي عن محمد بن يوسف البيكندي أيضا. وقد وهم من زعم أنه هنا البيكندي. قوله: (عن أبي وائل) في رواية أحمد المذكورة: سمعت شقيقا وهو أبو وائل. وأفاد هذا التصريح رفع ما يتوهم في رواية مسلم التي أخرجها من طريق علي بن مسهر عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله فذكر الحديث قال علي بن مسهر قال الأعمش: وحدثني عمرو بن مرة عن شقيق عن عبد الله مثله، فقد يوهم هذا أن الأعمش دلسه أولا عن شقيق، ثم سمى الواسطة بينهما، وليس كذلك، بل سمعه من أبي وائل بلا واسطة وسمعه عنه بواسطة، وأراد بذكر الرواية الثانية وإن كانت نازلة تأكيده، أو لينبه على عنايته بالرواية من حيث إنه سمعه نازلا فلم يقنع بذلك حتى سمعه عاليا، وكذا صرح الأعمش بالتحديث عند المصنف في الدعوات من رواية حفص بن غياث عنه قال: حدثني شقيق. وزاد في أوله أنهم كانوا ينتظرون عبد الله بن مسعود ليخرج إليهم فيذكرهم، وأنه لما خرج قال: أما إني أخبر بمكانكم، ولكنه يمنعني من الخروج إليكم. . فذكر الحديث. قوله: (كان يتخولنا) بالخاء المعجمة وتشديد الواو، قال الخطابي: الخائل بالمعجمة هو القائم المتعهد للمال، يقال خال المال يخوله تخولا إذا تعهده وأصلحه. والمعنى كان يراعي الأوقات في تذكيرنا، ولا يفعل ذلك كل يوم لئلا نمل. والتخون بالنون أيضا يقال تخون الشيء إذا تعهده وحفظه، أي اجتنب الخيانة فيه، كما قيل في تحنث وتأثم ونظائرهما. وقد قيل إن أبا عمرو بن العلاء سمع الأعمش يحدث هذا الحديث فقال: " يتخولنا " باللام فرده عليه بالنون فلم يرجع لأجل الرواية، وكلا اللفظين جائز. وحكى أبو عبيد الهروي في الغريبين عن أبي عمرو الشيباني أنه كان يقول: الصواب " يتحولنا " بالحاء المهملة أي يتطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة. قلت: والصواب من حيث الرواية الأولى فقد رواه منصور عن أبي وائل كرواية الأعمش، وهو في الباب الآتي. وإذا ثبتت الرواية وصح المعنى بطل الاعتراض. قوله: (علينا) أي السآمة الطارئة علينا، أو ضمن السآمة معنى المشقة فعداها بعلى، والصلة محذوفة والتقدير من الموعظة. ويستفاد من الحديث استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية الملال، وإن كانت المواظبة مطلوبة لكنها على قسمين: إما كل يوم مع عدم التكلف. وإما يوما بعد يوم فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط، وإما يوما في الجمعة، ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والضابط الحاجة مع مراعاة وجود النشاط. واحتمل عمل ابن مسعود من استدلاله أن يكون اقتدى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في اليوم الذي عينه، واحتمل أن يكون اقتدى بمجرد التخلل بين العمل والترك الذي عبر عنه بالتخول، والثاني أظهر. وأخذ بعض العلماء من حديث الباب كراهية تشبيه غير الرواتب بالرواتب بالمواظبة عليها في وقت معين دائما، وجاء عن مالك ما يشبه ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا الشرح: قوله: (أبو التياح) تقدم أنه بفتح المثناة الفوقانية وتشديد التحتانية وآخره مهملة. قوله: (ولا تعسروا) الفائدة فيه التصريح باللازم تأكيدا. وقال النووي: لو اقتصر على يسروا لصدق على من يسر مرة وعسر كثيرا، فقال: " ولا تعسروا " لنفي التعسير في جميع الأحوال، وكذا القول في عطفه عليه: " ولا تنفروا". وأيضا فإن المقام مقام الإطناب لا الإيجاز. قوله: (وبشروا) بعد قوله: " يسروا " فيه الجناس الخطي. ووقع عند المصنف في الأدب عن آدم عن شعبة بدلها: " وسكنوا " وهي التي تقابل ولا تنفروا، لأن السكون ضد النفور، كما أن ضد البشارة النذارة، لكن لما كانت النذارة - وهي الإخبار بالشر - في ابتداء التعليم توجب النفرة قوبلت البشارة بالتنفير، والمراد تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليه في الابتداء. وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليقبل، وكذا تعلم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلا حبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبا الازدياد، بخلاف ضده. والله تعالى أعلم. *3*باب مَنْ جَعَلَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً الشرح: قوله: (باب من جعل لأهل العلم يوما معلوما) في رواية كريمة أياما معلومة، وللكشميهني معلومات، وكأنه أخذ هذا من صنيع ابن مسعود في تذكيره كل خميس، أو من استنباط عبد الله ذلك من الحديث الذي أورده. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ قَالَ أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا الشرح: قوله: (جرير) و ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: (كان عبد الله) هو ابن مسعود، وكنيته أبو عبد الرحمن. قوله: (فقال له رجل) هذا المبهم يشبه أن يكون هو يزيد بن معاوية النخعي، وفي سياق المصنف في أواخر الدعوات ما يرشد إليه. قوله: (لوددت) للام جواب قسم محذوف، أي والله لوددت، وفاعل " يمنعني " أني أكره بفتح همزة أني، وأملكم بضم الهمزة أي أضجركم، وإني الثانية بكسر الهمزة. وقد تقدم شرح المتن قريبا. والإسناد كله كوفيون، وحديث أنس الذي قبله بصريون. |
01-31-2013, 01:02 PM | #60 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
3*باب مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ الشرح:
قوله: (باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) ليس في أكثر الروايات في الترجمة قوله: " في الدين " وثبتت للكشميهني. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ الشرح: قوله: (حدثنا سعيد بن عفير) هو سعيد بن كثير بن عفير، نسب إلى جده، وهو بالمهملة مصغرا. قوله: (عن ابن شهاب) قال حميد في الاعتصام: للمؤلف من هذا الوجه: أخبرني حميد. ولمسلم: حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، زاد تسمية جده قوله: (سمعت معاوية) هو ابن أبي سفيان. قوله: (خطيبا) هو حال من المفعول. وفي رواية مسلم والاعتصام. " سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو يخطب". وهذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحكام: أحدها فضل النفقة في الدين. وثانيها أن المعطي في الحقيقة هو الله. وثالثها أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبدا. فالأول لائق بأبواب العلم. والثاني لائق بقسم الصدقات، ولهذا أورده مسلم في الزكاة، والمؤلف في الخمس. والثالث لائق بذكر أشراط الساعة، وقد أورده المؤلف في الاعتصام لالتفاته إلى مسألة عدم خلو الزمان عن مجتهد، وسيأتي بسط القول فيه هناك، وأن المراد بأمر الله هنا الريح التي تقبض روح كل من في قلبه شيء من الإيمان ويبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة. وقد تتعلق لأحاديث الثلاثة بأبواب العلم - بل بترجمة هذا الباب خاصة - من جهة إثبات الخير لمن تفقه في دين الله، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط، بل لمن يفتح الله عليه به، وأن من يفتح الله عليه بذلك لا يزال جنسه موجودا حتى يأتي أمر الله، وقد جزم البخاري بأن المراد بهم أهل العلم بالآثار. وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وقال القاضي عياض: أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث. وقال النووي: محتمل أن تكون هذه الطائفة فرقة من أنواع المؤمنين ممن يقيم أمر الله تعالى من مجاهد وفقيه ومحدث وزاهد وآمر بالمعروف وغير ذلك من أنواع الخير، ولا يلزم اجتماعهم في مكان واحد بل يجوز أن يكونوا متفرقين. قلت: وسيأتي بسط ذلك في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. قوله: (يفقهه) أي يفهمه كما تقدم، وهي ساكنة الهاء لأنها جواب الشرط، يقال فقه بالضم إذا صار الفقه له سجية، وفقه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم، وفقه بالكسر إذا فهم. ونكر " خيرا " ليشمل القليل والكثير، والتنكير للتعظيم لأن المقام يقتضيه. ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين - أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع - فقد حرم الخير. وقد أخرج أبو يعلى حديث معاوية من وجه آخر ضعيف وزاد في آخره: " ومن لم يتفقه في الدين لم يبال الله به " والمعنى صحيح، لأن من لم يعرف أمور دينه لا يكون فقيها ولا طالب فقه، فيصح أن يوصف بأنه ما أريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس، ولفضل التفقه في الدين على سائر العلوم. وسيأتي بقية الكلام على الحديثين الآخرين في موضعهما من الخمس والاعتصام إن شاء الله تعالى. وقوله: " لن تزال هذه الأمة " يعني بعض الأمة كما يجيء مصرحا به في الموضع الذي أشرت إليه إن شاء الله تعالى. *3*باب الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ الشرح: قوله: (باب الفهم) أي فضل الفهم (في العلم) أي في العلوم. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ فَقَالَ إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ النَّخْلَةُ الشرح: قوله: (حدثنا علي) في رواية أبي ذر: " ابن عبد الله " وهو المعروف بابن المديني. قوله: (حدثنا سفيان قال: قال لي ابن أبي نجيح) في مسنده الحميدي عن سفيان: حدثني ابن أبي نجيح. قوله: (صحبت ابن عمر إلى المدينة) فيه ما كان بعض الصحابة عليه من توقي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند الحاجة خشية الزيادة والنقصان، وهذه كانت طريقة ابن عمر ووالده عمر وجماعة، وإنما كثرت أحاديث ابن عمر مع ذلك لكثرة من كان يسأله ويستفتيه، وقد تقدم الكلام على متن حديث الباب في أوائل كتاب العلم. ومناسبته للترجمة أن ابن عمر لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المسألة عند إحضار الجمار إليه فهم أن المسؤول عنه النخلة، فالفهم فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من قول أو فعل، وقد أخرج أحمد في حديث أبي سعيد الآتي في الوفاة النبوية حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن عبدا خيره الله " فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا، فتعجب الناس. وكان أبو بكر فهم من المقام أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المخير، فمن ثم قال أبو سعيد: فكان أبو بكر أعلمنا به. والله الهادي إلى الصواب. *3*باب الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَقَالَ عُمَرُ تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ الشرح: قوله: (باب الاغتباط في العلم) و بالغين المعجمة. قوله: (في العلم والحكمة) فيه نظير ما ذكرنا في قوله بالموعظة والعلم، لكن هذا عكس ذاك، أو هو من العطف التفسيري إن قلنا إنهما مترادفان. قوله: (وقال عمر: تفقهوا قبل أن تسودوا) هو بضم المثناة وفتح المهملة وتشديد الواو أي تجعلوا سادة. زاد الكشميهني في روايته: " قال أبو عبد الله " أي البخاري: " وبعد أن تسودوا - إلى قوله - سنهم". أما أثر عمر فأخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طريق محمد بن سيرين عن الأحنف بن قيس قال: قال عمر. فذكره، وإسناده صحيح، وإنما عقبه البخاري بقوله: " وبعد أن تسودوا " ليبين أن لا مفهوم له خشية أن يفهم أحد من ذلك أن السيادة مانعة من التفقه، وإنما أراد عمر أنها قد تكون سببا للمنع، لأن الرئيس قد يمنعه الكبر والاحتشام يجلس مجلس المتعلمين، ولهذا قال مالك عن عيب القضاء: إن القاضي إذا عزل لا يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه. وقال الشافعي: إذا تصدر الحدث فاته علم كثير. وقد فسره أبو عبيد في كتابه: " غريب الحديث " فقال: معناه تفقهوا وأنتم صغار، قبل أن تصيروا سادة فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم فتبقوا جهالا. وفسره شمر اللغوي بالتزوج، فإنه إذا تزوج صار سيد أهله، ولا سيما إن ولد له. وقيل: أراد عمر الكف عن طلب الرياسة لأن الذي يتفقه يعرف ما فيها من الغوائل فيجتنبها. وهو حمل بعيد، إذا المراد بقوله: " تسودوا " السيادة، وهي أعم من التزويج، ولا وجه لمن خصصه بذلك، لأنها قد تكون به وبغيره من الأشياء الشاغلة لأصحابها عن الاشتغال بالعمل. وجوز الكرماني أن يكون من السواد في اللحية فيكون أمرا للشاب بالتفقه قبل أن تسود لحيته، أو أمرا للكهل قبل أن يتحول سواد اللحية إلى الشيب. ولا يخفى تكلفه. وقال ابن المنير: مطابقة قول عمر للترجمة أنه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة. وذلك يحقق استحقاق العلم بأن يغبط صاحبه، فإنه سبب لسيادته. كذا قال. والذي يظهر لي أن مراد البخاري: أن الرياسة وإن كانت مما يغبط بها صاحبها في العادة لكن الحديث دل على أن الغبطة لا تكون إلا بأحد أمرين: العلم، أو الجود، ولا يكون الجود محمودا إلا إذا كان بعلم. فكأنه يقول: تعلموا قبل حصول الرياسة لتغبطوا إذا غبطتم بحق. ويقول أيضا: إن تعجلتم الرياسة التي من عادتها أن تمنع صاحبها من طلب العلم فاتركوا تلك العادة وتعلموا العلم لتحصل لكم الغبطة الحقيقية. ومعنى الغبطة تمني المرء أن يكون له نظير ما للآخر من غير أن يزول عنه، وهو المراد بالحسد الذي أطلق في الخبر كما سنبينه. الحديث: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِيُّ قَالَ سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل بن أبي خالد على غير ما حدثناه الزهري) يعني أن الزهري حدث سفيان بهذا الحديث بلفظ غير اللفظ الذي حدثه به إسماعيل، ورواية سفيان عن الزهري أخرجها المصنف في التوحيد عن علي بن عبد الله عنه قال: قال الزهري عن سالم. ورواها مسلم عن زهير بن حرب، وغيره عن سفيان بن عيينة قال: حدثنا الزهري عن سالم عن أبيه. ساقه مسلم تاما، واختصره البخاري. وأخرجه البخاري أيضا تاما في فضائل القرآن من طريق شعيب عن الزهري حدثني سالم بن عبد الله بن عمر. فذكره وسنذكر ما تخالفت فيه الروايات بعد إن شاء الله تعالى. قوله. (قال سمعت) القائل هو إسماعيل على ما حررناه. قوله: (لا حسد) الحسد تمني زوال النعمة عن المنعم عليه، وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه، والحق أنه أعم، وسببه أن الطباع مجبولة على حب الترفع على الجنس، فإذا رأى لغيره ما ليس له أحب أن يزول ذلك عنه له ليرتفع عليه، أو مطلقا ليساويه. وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم أو قول أو فعل. وينبغي لمن خطر له ذلك أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات. واستثنوا من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر أو فاسق يستعين بها على معاصي الله تعالى. فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته، وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة، وأطلق الحسد عليها مجازا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، فإن كان في الطاعة فهو محمود، ومنه - (فليتنافس المتنافسون) . وإن كان في المعصية فهو مذموم، ومنه: " ولا تنافسوا". وإن كان في الجائزات فهو مباح، فكأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم - أو أفضل - من الغبطة في هذين الأمرين - ووجه الحصر أن الطاعات إما بدنية أو مالية أو كائنة عنهما، وقد أشار إلى البدنية بإتيان الحكمة والقضاء بها وتعليمها، ولفظ حديث ابن عمر: " رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار " والمراد بالقيام به العمل به مطلقا، أعم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها ومن تعليمه، والحكم والفتوى بمقتضاه، فلا تخالف بين لفظي الحديثين. ولأحمد من حديث يزيد بن الأخنس السلمي: " رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ويتبع ما فيه". ويجوز حمل الحسد في الحديث على حقيقته على أن الاستثناء منقطع، والتقدير نفي الحسد مطلقا، لكن هاتان الخصلتان محمودتان، ولا حسد فيهما فلا حسد أصلا. قوله: (إلا في اثنتين) كذا في معظم الروايات " اثنتين " بتاء التأنيث، أي لا حسد محمود في شيء إلا في خصلتين. وعلى هذا فقوله: " رجل " بالرفع، والتقدير خصلة رجل حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وللمصنف في الاعتصام: " إلا في اثنين. وعلى هذا فقوله: " رجل " بالخفض على البدلية أي خصلة رجلين، ويجوز النصب بإضمار أعني وهي رواية ابن ماجه. قوله: (مالا) نكره ليشمل القليل والكثير. قوله: (فسلط) كذا لأبي ذر، وللباقين فسلطه، وعبر بالتسليط لدلالته على قهر النفس المجبولة على الشح. قوله: (هلكته) بفتح اللام والكاف أي إهلاكه، وعبر بذلك ليدل على أنه لا يبقى منه شيئا. وكمله بقوله: " في الحق " أي في الطاعات ليزيل عنه إيهام الإسراف المذموم. قوله: (الحكمة) للام للعهد، لأن المراد بها القرآن على ما أشرنا إليه قبل، وقيل: المراد بالحكمة كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح. (فائدة) : زاد أبو هريرة في هذا الحديث ما يدل على أن المراد بالحسد المذكور هنا الغبطة كما ذكرناه، ولفظه: " فقال رجل ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل " أورده المصنف في فضائل القرآن. وعند الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري - بفتح الهمزة وإسكان النون - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. . فذكر حديثا طويلا فيه استواء العالم في المال بالحق والمتمني في الأجر، ولفظه: " وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت مثل ما يعمل فلان، فأجرهما سواء"، وذكر في ضدهما: " أنهما في الوزر سواء " وقال فيه: حديث حسن صحيح. وإطلاق كونهما سواء يرد على الخطابي في جزمه بأن الحديث يدل على أن الغني إذا قام بشروط المال كان أفضل من الفقير. نعم يكون أفضل بالنسبة إلى من أعرض ولم يتمن، لكن الأفضلية المستفادة منه هي بالنسبة إلى هذه الخصلة فقط لا مطلقا. وسيكون لنا عودة إلى البحث في هذه المسألة في حديث: " الطاعم الشاكر كالصائم الصابر " حيث ذكره المؤلف في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى. |
01-31-2013, 01:03 PM | #61 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا الشرح: قوله: (باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر) هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم، لأن ما يغتبط به تحتمل المشقة فيه، ولأن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمنعه بلوغه من السيادة المحل الأعلى من طلب العلم وركوب البر والبحر لأجله، فظهر بهذا مناسبة هذا الباب لما قبله. وظاهر التبويب أن موسى ركب البحر لما توجه في طلب الخضر. وفيه نظر لأن الذي ثبت عند المصنف وغيره أنه خرج في البر وسيأتي بلفظ " فخرجا يمشيان " وفي لفظ لأحمد " حتى أتيا الصخرة " وإنما ركب البحر في السفينة هو والخضر بعد أن التقيا، فيحمل قوله: " إلى الخضر " على أن فيه حذفا، أي إلى مقصد الخضر، لأن موسى لم يركب البحر لحاجة نفسه، وإنما ركبه تبعا للخضر، ويحتمل أن يكون التقدير ذهاب موسى في ساحل البحر، فيكون فيه حذف، ويمكن أن يقال: مقصود الذهاب إنما حصل بتمام القصة، ومن تمامها أنه ركب معه البحر، فأطلق على جميعها ذهابا مجازا، إما من إطلاق الكل على البعض أو من تسمية السبب باسم ما تسبب عنه. وحمله ابن المنير على أن " إلى " بمعنى مع. وقال ابن رشيد: يحتمل أن يكون ثبت عند البخاري أن موسى يوجه في البحر لما طلب الخضر قلت: لعله قوي عنده أحد الاحتمالين في قوله " فكان يتبع أثر الحوت في البحر " فالظرف يحتمل أن يكون لموسى، ويحتمل أن يكون للحوت، ويؤيد الأول ما جاء عن أبي العالية وغيره، فروى عبد بن حميد عن أبي العالية أن موسى التقى بالخضر في جزيرة من جزائر البحر. انتهى. والتوصل إلى جزيرة في البحر لا يقع إلا بسلوك البحر غالبا. وعنده أيضا من طريق الربيع بن أنس قال: إنجاب الماء عن مسلك الحوت فصار طاقة مفتوحة فدخلها موسى على أثر الحوت حتى انتهى إلى الخضر. فهذا يوضح أنه ركب البحر إليه. وهذان الأثران الموقوفان رجالهما ثقات. قوله: (الآية) هو بالنصب بتقدير فذكر. وقد ذكر الأصيلي في روايته باقي الآية وهي قوله: (مما علمت رشدا) . الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ قَالَ مُوسَى لَا فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا خَضِرًا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الشرح: قوله: (حدثنا) وللأصيلي: " حدثني " بالإفراد. قوله: (غرير) تقدم في المقدمة أنه بالغين المعجمة مصغرا، ومحمد وشيخه وأبوه إبراهيم بن سعد زهريون، وكذا ابن شهاب شيخ صالح وهو ابن كيسان. قوله: (حدثه) للكشميهني: " حدث " بغير هاء، وهو محمول على السماع لأن صالحا غير مدلس. قوله: (تمارى) أي تجادل. قوله: (والحر) هو بضم الحاء وتشديد الراء المهملتين، وهو صحابي مشهور ذكره ابن السكن وغيره، وله ذكر عند المصنف أيضا في قصة له مع عمر قال فيها: وكان الحر من النفر الذين يدنيهم عمر، يعني لفضلهم. قوله: (قال ابن عباس هو خضر) لم يذكر ما قال الحر بن قيس، ولا وقفت على ذلك في شيء من طرق هذا الحديث. وخضر بفتح أوله وكسر ثانيه أو بكسر أوله وإسكان ثانيه، ثبتت بهما الرواية، وبإثبات الألف واللام فيه، وبحذفهما. وهذا التماري الذي وقع بين ابن عباس والحر غير التماري الذي وقع بين سعيد بن جبير ونوف البكالي، فإن هذا في صاحب موسى هل هو الخضر أو غيره. وذاك في موسى هل هو موسى بن عمران الذي أنزلت عليه التوراة أو موسى بن ميشا بكسر الميم وسكون التحتانية بعدها معجمة. وسياق سعيد بن جبير للحديث عن ابن عباس أتم من سياق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لهذا بشيء كثير، وسيأتي ذكر ذلك مفصلا في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. ويقال إن اسم الخضر بليا بموحدة ولام ساكنة ثم تحتانية، وسيأتي في أحاديث الأنبياء النقل عن سبب تلقيبه بالخضر، وسيأتي نقل الخلاف في نسبه وهل هو رسول أو نبي فقط أو ملك بفتح اللام أو ولي فقط، وهل هو باق أو مات. قوله: (فدعاه) أي ناداه. وذكر ابن التين أن فيه حذفا والتقدير: فقام إليه فسأله، لأن المعروف عن ابن عباس التأدب مع من يأخذ عنه، وأخباره في ذلك شهيرة. قوله: (إذ جاء رجل) لم أقف على تسميته. قوله: (بلى عبدنا) أي هو أعلم، وللكشميهني: " بل " بإسكان اللام، والتقدير فأوحى الله إليه لا تطلق النفي بل قل خضر. وإنما قال عبدنا - وإن كان السياق يقتضي أن يقول عبد الله - لكونه أورده على طريق الحكاية عن الله سبحانه وتعالى، والإضافة فيه للتعظيم. قوله: (يتبع أثر الحوت في البحر) في هذا السياق اختصار يأتي بيانه عند شرحه إن شاء الله تعالى. قوله: (ما كنا نبغي) أي نطلب، لأن فقد الحوت جعل آية أي علامة على الموضع الذي فيه الخضر. وفي الحديث جواز التجادل في العلم إذا كان بغير تعنت، والرجوع إلى أهل العلم عند التنازع، والعمل بخبر الواحد الصدوق، وركوب البحر في طلب العلم بل في طلب الاستكثار منه، ومشروعية حمل الزاد في السفر، ولزوم التواضع في كل حال، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليهما السلام وطلب التعلم منه تعليما لقومه أن يتأدبوا بأدبه، وتنبيها لمن زكى نفسه أن يسلك مسلك التواضع. *3*ذباب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ الشرح: قوله: (باب قوله النبي صلى الله عليه وسلم اللهم علمه الكتاب) استعمل لفظ الحديث ترجمة تمسكا بأن ذلك لا يختص جوازه بابن عباس، والضمير على هذا لغير مذكور، ويحتمل أن يكون لابن عباس نفسه لتقدم ذكره في الحديث الذي قبله، إشارة إلى أن الذي وقع لابن عباس من غلبته للحر بن قيس إنما كان بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ الشرح: قوله: (حدثنا أبو معمر) هو عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المعروف بالمقعد البصري. قوله: (حدثنا خالد) هو ابن مهران الحذاء. قوله: (ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد المصنف في فضل ابن عباس عن مسدد عن عبد الوارث " إلى صدره " وكان ابن عباس إذ ذاك غلاما مميزا، فيستفاد منه جواز احتضان الصبي القريب على سبيل الشفقة. قوله: (علمه الكتاب) بين المصنف في كتاب الطهارة من طريق عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس سبب هذا الدعاء ولفظه: " دخل النبي صلى الله عليه وسلم الخلاء فوضعت له وضوءا " زاد مسلم. " فلما خرج قال: من وضع هذا؟ فأخبر " ولمسلم قالوا ابن عباس، ولأحمد وابن حبان من طريق سعيد بن جبير عنه أن ميمونة هي التي أخبرته بذلك، وأن ذلك كان في بيتها ليلا، ولعل ذلك كان في الليلة التي بات ابن عباس فيها عندها ليرى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد أخرج أحمد من طريق عمرو بن دينار عن كريب عن ابن عباس في قيامه خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل وفيه: " فقال لي ما بالك؟ أجعلك حذائي فتخلفني. فقلت: أوينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله؟ فدعا لي أن يزيدني الله فهما وعلما " والمراد بالكتاب القرآن لأن العرف الشرعي عليه، والمراد بالتعليم ما هو أعم من حفظه والتفهم فيه. ووقع في رواية مسدد " الحكمة " بدل الكتاب وذكر الإسماعيلي أن ذلك هو الثابت في الطرق كلها عن خالد الحذاء، كذا قال وفيه نظر، لأن المصنف أخرجه أيضا من حديث وهيب عن خالد بلفظ: " الكتاب " أيضا، فيحمل على أن المراد بالحكمة أيضا القرآن، فيكون بعضهم رواه بالمعنى. وللنسائي والترمذي من طريق عطاء عن ابن عباس قال: دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوتي الحكمة مرتين، فيحتمل تعدد الواقعة، فيكون المراد بالكتاب القرآن وبالحكمة السنة. ويؤيده أن في رواية عبيد الله بن أبي يزيد التي قدمناها عند الشيخين: " اللهم فقهه في الدين " لكن لم يقع عند مسلم " في الدين". وذكر الحميدي في الجمع أن أبا مسعود ذكره في أطراف الصحيحين بلفظ " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل " قال الحميدي: وهذه الزيادة ليست في الصحيحين. قلت: وهو كما قال. نعم هي في رواية سعيد بن جبير التي قدمناها عند أحمد وابن حبان والطبراني ورواها ابن سعد من وجه آخر عن عكرمة مرسلا. وأخرج البغوي في معجم الصحابة من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر: كان عمر يدعو ابن عباس ويقربه ويقول: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك يوما فمسح رأسك وقال: " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل". ووقع في بعض نسخ ابن ماجه من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء في حديث الباب بلفظ: " اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب " وهذه الزيادة مستغربة من هذا الوجه، فقد رواه الترمذي والإسماعيلي وغيرهما من طريق عبد الوهاب بدونها، وقد وجدتها عند ابن سعد من وجه آخر عن طاوس عن ابن عباس قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على ناصيتي وقال: " اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب". وقد رواه أحمد عن هشيم عن خالد في حديث الباب بلفظ: " مسح على رأسي " وهذه الدعوة مما تحقق إجابة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، لما علم من حال ابن عباس في معرفة التفسير والفقه في الدين رضي الله عنه. واختلف الشراح في المراد بالحكمة هنا فقيل: القرآن كما تقدم، وقيل العمل به، وقيل السنة، وقيل الإصابة في القول، وقيل الخشية، وقيل الفهم عن الله، وقيل العقل، وقيل ما يشهد العقل بصحته، وقيل نور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وقيل سرعة الجواب مع الإصابة. وبعض هذه الأقوال ذكرها بعض أهل التفسير في تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) . والأقرب أن المراد بها في حديث ابن عباس الفهم في القرآن، وسيأتي مزيد لذلك في المناقب إن شاء الله تعالى. *3*باب مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ الشرح: قوله: (باب متى يصح سماع الصغير) زاد الكشميهني: " الصبي الصغير". ومقصود الباب الاستدلال على أن البلوغ ليس شرطا في التحمل. وقال الكرماني: إن معنى الصحة هنا جواز قبول مسموعه. قلت: وهذا تفسير لثمرة الصحة لا لنفس الصحة. وأشار المصنف بهذا إلى اختلاف وقع بين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رواه الخطيب في الكفاية عن عبد الله بن أحمد وغيره أن يحيى قال: أقل سن التحمل خمس عشرة سنة لكون ابن عمر رد يوم أحد إذ لم يبلغها. فبلغ ذلك أحمد فقال: بل إذا عقل ما يسمع، وإنما قصة ابن عمر في القتال. ثم أورد الخطيب أشياء مما حفظها جمع من الصحابة ومن بعدهم في الصغر وحدثوا بها بعد ذلك وقبلت عنهم، وهذا هو المعتمد، وما قاله ابن معين إن أراد به تحديد ابتداء الطلب بنفسه فموجه، وإن أراد به رد حديث من سمع اتفاقا أو اعتنى به فسمع وهو صغير فلا، وقد نقل ابن عبد البر الاتفاق على قبول هذا، وفيه دليل على أن مراد ابن معين الأول، وأما احتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم رد البراء وغيره يوم بدر ممن كان لم يبلغ خمس عشرة فمردود بأن القتال يقصد فيه مزيد القوة والتبصر في الحرب، فكانت مظنته سن البلوغ، والسماع يقصد فيه الفهم فكانت مظنته التمييز. وقد احتج الأوزاعي لذلك بحديث: " مروهم بالصلاة لسبع". الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس، وقد ثبت ذلك في رواية كريمة. قوله: (على حمار) هو اسم جنس يشمل الذكر والأنثى كقولك بعير. وقد شذ حمارة في الأنثى حكاه في الصحاح. وأتان بفتح الهمزة وشذ كسرها كما حكاه الصغاني هي الأنثى من الحمير، وربما قالوا للأنثى أتانة حكاه يونس وأنكره غيره، فجاء في الرواية على اللغة الفصحى. وحمار أتان بالتنوين فيهما على النعت أو البدل، وروي بالإضافة. وذكر ابن الأثير أن فائدة التنصيص على كونها أنثى للاستدلال بطريق الأولى على أن الأنثى من بني آدم لا تقطع الصلاة لأنهن أشرف، وهو قياس صحيح من حيث النظر، إلا أن الخبر الصحيح لا يدفع بمثله كما سيأتي البحث فيه في الصلاة إن شاء الله تعالى. قوله: (ناهزت) أي قاربت، والمراد بالاحتلام البلوغ الشرعي. قوله: (إلى غير جدار) أي إلى غير سترة قاله الشافعي. وسياق الكلام يدل على ذلك، لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته. ويؤيده رواية البزار بلفظ: " والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة ليس لشيء يستره". قوله: (بين يدي بعض الصف) و مجاز عن الإمام بفتح الهمزة، لأن الصف ليس له يد. وبعض الصف يحتمل أن يراد به صف من الصفوف أو بعض من أحد الصفوف قاله الكرماني. قوله: (ترتع) بمثناتين مفتوحتين وضم العين أي تأكل ما تشاء، وقيل تسرع في المشي، وجاء أيضا بكسر العين بوزن يفتعل من الرعي، وأصله ترتعي لكن حذفت الياء تخفيفا، والأول أصوب، ويدل عليه رواية المصنف في الحج نزلت عنها فرتعت. قوله: (ودخلت) وللكشميهني: " فدخلت " بالفاء. قوله: (فلم ينكر ذلك علي أحد) قيل فيه جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، لأن المرور مفسدة خفيفة، والدخول في الصلاة مصلحة راجحة، واستدل ابن عباس على الجواز بعدم الإنكار لانتفاء الموانع إذ ذاك، ولا يقال منع من الإنكار اشتغالهم بالصلاة لأنه نفى الإنكار مطلقا فتناول ما بعد الصلاة. وأيضا فكان الإنكار يمكن بالإشارة. وفيه ما ترجم له أن التحمل لا يشترط فيه كمال الأهلية وإنما يشترط عند الأداء. ويلحق بالصبي في ذلك العبد والفاسق والكافر. وقامت حكاية ابن عباس لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره مقام حكاية قوله، إذ لا فرق بين الأمور الثلاثة في شرائط الأداء. فإن قيل: التقييد بالصبي والصغير في الترجمة لا يطابق حديث ابن عباس، أجاب الكرماني بأن المراد بالصغير غير البالغ، وذكر الصبي معه من باب التوضيح. ويحتمل أن يكون لفظ الصغير يتعلق بقصة محمود، ولفظ الصبي يتعلق بهما معا والله أعلم. وسيأتي باقي مباحث هذا الحديث في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ عَقَلْتُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن يوسف) هو البيكندي كما جزم به البيهقي وغيره، وأما الفريابي فليست له رواية عن أبي مسهر، وكان أبو مسهر شيخ الشاميين في زمانه وقد لقيه البخاري وسمع منه شيئا يسيرا، وحدث عنه هنا بواسطة، وذكر ابن المرابط فيما نقله ابن رشيد عنه أن أبا مسهر تفرد برواية هذا الحديث عن محمد بن حرب. وليس كما قال ابن المرابط فإن النسائي رواه في السنن الكبرى عن محمد بن المصفى عن محمد بن حرب. وأخرجه البيهقي في المدخل من رواية محمد بن جوصاء - وهو بفتح الجيم والصاد المهملة - عن سلمة بن الخليل وأبي التقي وهو بفتح المثناة وكسر القاف كلاهما عن محمد بن حرب. فهؤلاء ثلاثة غير أبي مسهر رووه عن محمد بن حرب فكأنه المتفرد به عن الزبيدي، وهذا الإسناد إلى الزهري شاميون. وقد دخلها هو وشيخه محمود بن الربيع بن سراقة بن عمرو الأنصاري الخزرجي وحديثه هذا طرف من حديثه عن عتبان بن مالك الآتي في الصلاة من رواية صالح بن كيسان وغيره عن الزهري. وفي الرقاق من طريق معمر عن الزهري أخبرني محمود. قوله: (عقلت) و بفتح القاف أي حفظت. قوله: (مجة) بفتح الميم وتشديد الجيم، والمج هو إرسال الماء من الفم، وقيل لا يسمى مجا إلا إن كان على بعد. وفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع محمود إما مداعبة منه، أو ليبارك عليه بها كما كان ذلك من شأنه مع أولاد الصحابة. قوله: (وأنا ابن خمس سنين) لم أر التقصد بالسن عند تحمله في شيء من طرقه لا في الصحيحين ولا في غيرهما من الجوامع والمسانيد إلا في طريق الزبيدي هذه، والزبيدي من كبار الحفاظ المتقنين عن الزهري حتى قال الوليد بن مسلم: كان الأوزاعي يفضله على جميع من سمع من الزهري. وقال أبو داود: ليس في حديثه خطأ. وقد تابعه عبد الرحمن بن نمر عن الزهري لكن لفظه عند الطبراني والخطيب في الكفاية من طريق عبد الرحمن بن نمر - وهو بفتح النون وكسر الميم - عن الزهري وغيره قال: حدثني محمود بن الربيع، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس سنين، فأفادت هذه الرواية أن الواقعة التي ضبطها كانت في آخر سنة من حياه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن حبان وغيره أنه مات سنة تسع وتسعين وهو ابن أربع وتسعين سنة وهو مطابق لهذه الرواية. وذكر القاضي عياض في الإلماع وغيره أن في بعض الروايات أنه كان ابن أربع، ولم أقف على هذا صريحا في شيء من الروايات بعد التتبع التام، إلا إن كان ذلك مأخوذا من قول صاحب الاستيعاب إنه عقل المجة وهو ابن أربع سنين أو خمس، وكان الحامل له على هذا التردد قول الواقدي إنه كان ابن ثلاث وتسعين لما مات، والأول أولى بالاعتماد لصحة إسناده، على أن قول الواقدي يمكن حمله إن صح على أنه ألغى الكسر وجبره غيره. والله أعلم. وإذا تحرر هذا فقد اعترض المهلب على البخاري لكونه لم يذكر هنا حديث ابن الزبير في رؤيته والده يوم بني قريظة ومراجعته له في ذلك، ففيه السماع منه وكان سنه إذ ذاك ثلاث سنين أو أربعا، فهو أصغر من محمود. وليس في قصة محمود ضبطه لسماع شيء فكان ذكر حديث ابن الزبير أولى لهذين المعنيين. وأجاب ابن المنير بأن البخاري إنما أراد نقل السنن النبوية لا الأحوال الوجودية، ومحمود نقل سنة مقصودة في كون النبي صلى الله عليه وسلم مج مجة في وجهه، بل في مجرد رؤيته إياه فائدة شرعية تثبت كونه صحابيا. وأما قصة ابن الزبير فليس فيها نقل سنة من السنن النبوية حتى تدخل في هذا الباب. ثم أنشد وصاحب البيت أدرى بالذي فيه انتهى. وهو جواب مسدد. وتكملته ما قدمناه قبل أن المقصود بلفظ السماع في الترجمة هو أو ما ينزل منزلته من نقل الفعل أو التقرير، وغفل البدر الزركشي فقال: يحتاج المهلب إلى ثبوت أن قصة ابن الزبير صحيحة على شرط البخاري. انتهى. والبخاري قد أخرج قصة ابن الزبير المذكورة في مناقب الزبير في الصحيح، فالإيراد موجه وقد حصل جوابه. والعجب من متكلم على كتاب يغفل عما وقع فيه في المواضع الواضحة ويعترضها بما يؤدي إلى نفي ورودها فيه. قوله: (من دلو) زاد النسائي: " معلق " ولابن حبان " معلقة " والدلو يذكر ويؤنث. وللمصنف في الرقاق من رواية معمر " من دلو كانت في دارهم " وله في الطهارة والصلاة وغيرهما: " من بئر " بدل دلو، ويجمع بينهما بأن الماء أخذ بالدلو من البئر وتناوله النبي صلى الله عليه وسلم من الدلو. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز إحضار الصبيان مجالس الحديث وزيارة الإمام أصحابه في دورهم ومداعبته صبيانهم، واستدل به بعضهم على تسميع من يكون ابن خمس، ومن كان دونها يكتب له حضور. وليس في الحديث ولا في تبويب البخاري ما يدل عليه بل الذي ينبغي في ذلك اعتبار الفهم، فمن فهم الخطاب سمع وإن كان دون ابن خمس وإلا فلا. وقال ابن رشيد: الظاهر أنهم أرادوا بتحديد الخمس أنها مظنة لذلك، لا أن بلوغها شرط لا بد من تحققه، والله أعلم. وقريب منه ضبط الفقهاء سن التمييز بست أو سبع، والمرجح أنها مظنة لا تحديد. ومن أقوى ما يتمسك به في أن المرد في ذلك إلى الفهم فيختلف باختلاف الأشخاص ما أورده الخطيب من طريق أبي عاصم قال: ذهبت بابني - وهو ابن ثلاث سنين - إلى ابن جريج فحدثه، قال أبو عاصم: ولا بأس بتعليم الصبي الحديث والقرآن وهو في هذا السن، يعني إذا كان فهما. وقصة أبي بكر بن المقري الحافظ في تسميعه لابن أربع بعد أن امتحنه بحفظ سور من القرآن مشهورة. |
01-31-2013, 01:05 PM | #62 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ
وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ الشرح: قوله: (باب الخروج) أي السفر (في طلب العلم) لم يذكر فيه شيئا مرفوعا صريحا، وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة رفعه: " من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة " ولم يخرجه المصنف لاختلاف فيه. قوله: (ورحل جابر بن عبد الله) هو الأنصاري الصحابي المشهور، وعبد الله بن أنيس بضم الهمزة مصغرا هو الجهني حليف الأنصار. قوله: (في حديث واحد) هو حديث أخرجه المصنف في الأدب المفرد وأحمد وأبو يعلى في مسنديهما من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني عن رجل حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيرا ثم شددت رحلي فسرت إليه شهرا حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب. فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم. فخرج فاعتنقني. فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن أموت قبل أن أسمعه. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يحشر الله الناس يوم القيامة عراة " فذكر الحديث. وله طريق أخرى أخرجها الطبراني في مسند الشاميين، وتمام في فوائده من طريق الحجاج بن دينار عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: كان يبلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في القصاص، وكان صاحب الحديث بمصر فاشتريت بعيرا فسرت حتى وردت مصر فقصدت إلى باب الرجل. . فذكر نحوه. وإسناده صالح. وله طريق ثالثة أخرجها الخطيب في الرحلة من طريق أبي الجارود العنسي - وهو بالنون الساكنة - عن جابر قال: بلغني حديث في القصاص. . فذكر الحديث نحوه. وفي إسناده ضعف " وادعى بعض المتأخرين أن هذا ينقض القاعدة المشهورة أن البخاري حيث يعلق بصيغة الجزم يكون صحيحا وحيث يعلق بصيغة التمريض يكون فيه علة، لأنه علقه بالجزم هنا، ثم أخرج طرفا من متنه في كتاب التوحيد بصيغة التمريض فقال: ويذكر عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يحشر الله العباد فيناديهم بصوت " الحديث. وهذه الدعوى مردودة، والقاعدة بحمد الله غير منتقضة، ونظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به لأن الإسناد حسن وقد اعتضد. وحيث ذكر طرفا من المتن لم يجزم به لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف فيها ولو اعتضدت. ومن هنا يظهر شفوف علمه ودقة نظره وحسن تصرفه رحمه الله تعالى. ووهم ابن بطال فزعم أن الحديث الذي رحل فيه جابر إلى عبد الله بن أنيس هو حديث الستر على المسلم، وهو انتقال من حديث إلى حديث، فإن الراحل في حديث الستر هو أبو أيوب الأنصاري رحل فيه إلى عقبة بن عامر الجهني، أخرجه أحمد بسند منقطع، وأخرجه الطبراني من حديث مسلمة بن مخلد قال: أتاني جابر فقال لي. حديث بلغني أنك ترويه في الستر. . فذكره. وقد وقع ذلك لغير من ذكره، فروى أبو داود من طريق عبد الله بن بريدة أن رجلا من الصحابة رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر في حديث. وروى الخطيب عن عبيد الله بن عدي قال: بلغني حديث عند علي فخفت إن مات أن لا أجده عند غيره فرحلت حتى قدمت عليه العراق. وتتبع ذلك يكثر، وسيأتي قول الشعبي في مسألة. إن كان الرجل ليرحل فيما دونها إلى المدينة. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد. وسيأتي نحو ذلك عن غيره. وفي حديث جابر دليل على طلب علو الإسناد، لأنه بلغه الحديث عن عبد الله بن أنيس فلم يقنعه حتى رحل فأخذه عنه بلا واسطة. وسيأتي عن ابن مسعود في كتاب فضائل القرآن قوله: لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني لرحلت إليه. وأخرج الخطيب عن أبي العالية قال: كنا نسمع عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرضى حتى خرجنا إليهم فسمعنا منهم. وقيل لأحمد: رجل يطلب العلم يلزم رجلا عنده علم كثير، أو يرحل؟ قال: يرحل، يكتب عن علماء الأمصار، فيشافه الناس ويتعلم منهم. وفيه ما كان عليه الصحابة من الحرص على تحصيل السنن النبوية. وفيه جواز اعتناق القادم حيث لا تحصل الريبة. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ قَاضِي حِمْصَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ فَقَالَ أُبَيٌّ نَعَمْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ يَقُولُ بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَتَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ قَالَ مُوسَى لَا فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَقِيلَ لَهُ إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ فَكَانَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا خَضِرًا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الشرح: قوله: (خالد بن خلي) هو بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام الخفيفة بعدها ياء تحتانية مشددة كما تقدم في المقدمة، وإنما أعدته لأنه وقع عند الزركشي مضبوطا بلام مشددة، وهو سبق قلم أو خطأ من الناسخ. قوله: (قال الأوزاعي) في رواية الأصيلي: حدثنا الأوزاعي. قوله: (أنه تمارى هو والحر) سقطت " هو " من رواية ابن عساكر فعطف على المرفوع المتصل بغير تأكيد ولا فصل، وهو جائز عند البعض. وقد تقدمت مباحث هذا الحديث قبل ببابين، وليس بين الروايتين اختلاف إلا فيما لا يغير المعنى وهو قليل. وفيه فضل الازدياد من العلم، ولو مع المشقة والنصب بالسفر، وخضوع الكبير لمن يتعلم منه. ووجه الدلالة منه قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) وموسى عليه السلام منهم، فتدخل أمة النبي صلى الله عليه وسلم تحت هذا الأمر إلا فيما ثبت نسخه. |
01-31-2013, 01:07 PM | #63 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ
الشرح: قوله: (باب فضل من علم وعلم) الأولى بكسر اللام الخفيفة أي صار عالما، والثانية بفتحها وتشديدها. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتْ الْمَاءَ قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنْ الْأَرْضِ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن العلاء) هو أبو كريب مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وكذا شيخه أبو أسامة، وبريد بضم الموحدة وأبو بردة حده وهو ابن أبي موسى الأشعري. وقال في السياق عن أبي موسى ولم يقل عن أبيه تفننا، والإسناد كله كوفيون. قوله: (مثل) بفتح المثلثة والمراد به الصفة العجيبة لا القول السائر. قوله: (الهدى) أي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، والعلم المراد به معرفة الأدلة الشرعية. قوله: (نقية) كذا عند البخاري في جميع الروايات التي رأيناها بالنون من النقاء وهي صفة لمحذوف، لكن وقع عند الخطابي والحميدي وفي حاشية أصل أبي ذر ثغبة بمثلثة مفتوحة وغين معجمة مكسورة بعدها موحدة خفيفة مفتوحة، قال الخطابي: هي مستنقع الماء في الجبال والصخور. قال القاضي عياض: هذا غلط في الرواية، وإحالة للمعنى. لأن هذا وصف الطائفة الأولى التي تنبت، وما ذكره يصلح وصفا للثانية التي تمسك الماء. قال: وما ضبطناه في البخاري من جميع الطرق إلا " نقية " بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء التحتانية، وهو مثل قوله في مسلم: " طائفة طيبة". قلت: وهو في جميع ما وقفت عليه من المسانيد والمستخرجات كما عند مسلم وفي كتاب الزركشي. وروي: " بقعة " قلت: هو بمعنى طائفة، لكن ليس ذلك في شيء من روايات الصحيحين. ثم قرأت في شرح ابن رجب أن في رواية بالموحدة بدل النون قال: والمراد بها القطعة الطيبة كما يقال فلان بقية الناس، ومنه: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية) . قوله: (قبلت) بفتح القاف وكسر الموحدة من القبول، كذا في معظم الروايات. ووقع عند الأصيلي: " قيلت " بالتحتانية المشددة، وهو تصحيف كما سنذكره بعد. قوله: (الكلأ) بالهمزة بلا مد. قوله: (والعشب) هو من ذكر الخاص بعد العام، لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معا، والعشب للرطب فقط. قوله: (إخاذات) كذا في رواية أبي ذر بكسر الهمزة والخاء والذال المعجمتين وآخره مثناة من فوق قبلها ألف جمع إخاذة وهي الأرض التي تمسك الماء. وفي رواية غير أبي ذر وكذا في مسلم وغيره: " أجادب " بالجيم والدال المهملة بعدها موحدة جمع جدب بفتح الدال المهملة على غير قياس وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء. وضبطه المازري بالذال المعجمة. ووهمه القاضي. ورواها الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي كريب: " أحارب " بحاء وراء مهملتين، قال الإسماعيلي: لم يضبطه أبو يعلى وقال الخطابي: ليست هذه الرواية بشيء. قال: وقال بعضهم: " أجارد " بجيم وراء ثم دال مهملة جمع جرداء وهي البارزة التي لا تنبت، قال الخطابي: هو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية. وأغرب صاحب المطالع فجعل الجميع روايات، وليس في الصحيحين سوى روايتين فقط، وكذا جزم القاضي. قوله: (فنفع الله بها) أي بالإخاذات. وللأصيلي به أي بالماء. قوله: (وزرعوا) كذا له بزيادة زاي من الزرع، ووافقه أبو يعلى ويعقوب بن الأخرم وغيرهما عن أبي كريب، ولمسلم والنسائي وغيرهما عن أبي كريب: " ورعوا " بغير زاي من الرعي، قال النووي. كلاهما صحيح. ورجح القاضي رواية مسلم بلا مرجح، لأن رواية زرعوا تدل على مباشرة الزرع لتطابق في التمثيل مباشرة طلب العلم، وإن كانت رواية رعوا مطابقة لقوله أنبتت، لكن المراد أنها قابلة للإنبات. وقيل إنه روي " ووعوا " بواوين، ولا أصل لذلك. وقال القاضي قوله: " ورعوا " راجع للأولى لأن الثانية لم يحصل منها نبات انتهى. ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضا بمعنى أن الماء الذي استقر بها سقيت منه أرض أخرى فأنبتت. قوله: (فأصاب) أي الماء. وللأصيلي وكريمة أصابت أي طائفة أخرى. ووقع كذلك صريحا عند النسائي. والمراد بالطائفة القطعة. قوله: (قيعان) بكسر القاف جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت. قوله: (فقه) بضم القاف أي صار فقيها. وقال ابن التين: رويناه بكسرها والضم أشبه. قال القرطبي وغيره: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي في حال حاجتهم إليه، وكذا كان الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت. ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم. فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها. ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: " نضر الله امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها". ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها. وإنما جمع المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. والله أعلم. ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: " من لم يرفع بذلك رأسا " أي أعرض عنه فلم ينتفع له ولا نفع. والثانية منه من لم يدخل في الدين أصلا، بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض السماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: " ولم يقبل هدى الله الذي جئت به". وقال الطيبي: بقي من أقسام الناس قسمان: أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه ولم يعلمه غيره، والثاني من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره. قلت: والأول داخل في الأول لأن النفع حصل في الجملة وإن تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تنبته الأرض، فمنه ما ينتفع الناس به ومنه ما يصير هشيما. وأما الثاني فإن كان عمل الفرائض وأهمل النوافل فقد دخل في الثاني كما قررناه، وإن ترك الفرائض أيضا فهو فاسق لا يجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم: " من لم يرفع بذلك رأسا " والله أعلم. قوله: (قال إسحاق: وكان منها طائفة قيلت) أي بتشديد الياء التحتانية. أي إن إسحاق وهو ابن راهويه حيث روى هذا الحديث عن أبي أسامة خالف في هذا الحرف. قال الأصيلي: هو تصحيف من إسحاق. وقال غيره: بل هو صواب ومعناه شربت، والقيل شرب نصف النهار، يقال قيلت الإبل أي شربت في القائلة. وتعقبه القرطبي بأن المقصود لا يختص بشرب القائلة. وأجيب بأن كون هذا أصله لا يمنع استعماله على الإطلاق تجوزا. وقال ابن دريد: قيل الماء في المكان المنخفض إذا اجتمع فيه، وتعقبه القرطبي أيضا بأنه يفسد التمثيل، لأن اجتماع الماء إنما هو مثال الطائفة الثانية، والكلام هنا إنما هو في الأولى التي شربت وأنبتت. قال: والأظهر أنه تصحيف. قوله: (قاع يعلوه الماء. والصفصف المستوي من الأرض) هذا ثابت عند المستملي، وأراد به أن قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع وأنها الأرض التي يعلوها الماء ولا يستقر فيها، وإنما ذكر الصفصف معه جريا على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن، وقد يستطرد. ووقع في بعض النسخ المصطف بدل الصفصف وهو تصحيف. (تنبيه) : وقع في رواية كريمة: وقال ابن إسحاق: وكان شيخنا العراقي يرجحها ولم أسمع ذلك منه، وقد وقع في نسخة الصغاني: وقال إسحاق عن أبي أسامة. وهذا يرجح الأول. *3*باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ وَقَالَ رَبِيعَةُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ الشرح: قوله: (باب رفع العلم) مقصود الباب الحث على تعلم العلم، فإنه لا يرفع إلا بقبض العلماء كما سيأتي صريحا. وما دام من يتعلم العلم موجودا لا يحصل الرفع. وقد تبين في حديث الباب أن رفعه من علامات الساعة. قوله: (وقال ربيعة) هو ابن أبي عبد الرحمن الفقيه المدني، المعروف بربيعة الرأي - بإسكان الهمزة - قيل له ذلك لكثرة اشتغاله بالاجتهاد. ومراد ربيعة أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال، لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم. أو مراده الحث على نشر العلم في أهله لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم. أو مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه. وقيل مراده تعظيم العلم وتوقيره، فلا يهين نفسه بأن يجعله عرضا للدنيا. وهذا معنى حسن، لكن اللائق بتبويب المصنف ما تقدم. وقد وصل أثر ربيعة المذكور الخطيب في الجامع والبيهقي في المدخل من طريق عبد العزيز الأويسي عن مالك عن ربيعة. الحديث: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا الشرح: قوله: (حدثنا عمران بن ميسرة) في بعضها عمران غير مذكور الأب، وقد عرف من الرواية الأخرى أنه ابن ميسرة. وقد خرجه النسائي عن عمران بن موسى القزاز، وليس هو شيخ البخاري فيه. قوله: (عبد الوارث) هو ابن سعيد (عن أبي التياح) بمثناة مفتوحة فوقانية بعدها تحتانية ثقيلة وآخره حاء مهملة كما تقدم. قوله: (عن أنس) زاد الأصيلي وأبو ذر: " ابن مالك " وللنسائي: " حدثنا أنس". ورجال هذا الإسناد كلهم بصريون، وكذا الذي بعده. قوله: (أشراط الساعة) أي علاماتها كما تقدم في الإيمان، وتقدم أن منها ما يكون من قبيل المعتاد، ومنها ما يكون خارقا للعادة. قوله: (أن يرفع العلم) هو في محل نصب لأنه اسم أن، وسقطت " أن " من رواية النسائي حيث أخرجه عن عمران شيخ البخاري فيه، فعلى روايته يكون مرفوع المحل. والمراد برفعه موت حملته كما تقدم. قوله: (ويثبت) هو بفتح أوله وسكون المثلثة وضم الموحدة وفتح المثناة. وفي رواية مسلم: " ويبث " بضم أوله وفتح الموحدة بعدها مثلثة أي ينتشر. وغفل الكرماني فعزاها للبخاري، وإنما حكاها النووي في الشرح لمسلم. قال الكرماني: وفي رواية " وينبت " بالنون بدل المثلثة من النبات، وحكى ابن رجب عن بعضهم: " وينث " بنون ومثلثة من النث وهو الإشاعة. قلت: وليست هذه في شيء من الصحيحين. قوله: (ويشرب الخمر) هو بضم المثناة أوله وفتح الموحدة على العطف، والمراد كثرة ذلك واشتهاره. وعند المصنف في النكاح من طريق هشام عن قتادة: " ويكثر شرب الخمر " فالعلامة مجموع ما ذكر. قوله: (ويظهر الزنا) أي يفشو كما في رواية مسلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ الشرح: قوله: (حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان. قوله: (عن أنس) زاد الأصيلي: " ابن مالك". قوله: (لأحدثنكم) فتح اللام وهو جواب قسم محذوف أي والله لأحدثنكم، وصرح به أبو عوانة من طريق هشام عن قتادة، ولمسلم من رواية غندر عن شعبة ألا أحدثكم فيحتمل أن يكون قال لهم أولا: ألا أحدثكم؟ فقال نعم، فقال: لأحدثنكم. قوله: (لا يحدثكم أحد بعدي) كذا له ولمسلم بحذف المفعول، ولابن ماجه من رواية غندر عن شعبة لا يحدثكم به أحد بعدي، وللمصنف من طريق هشام لا يحدثكم به غيري، ولأبي عوانة من هذا الوجه: " لا يحدثكم أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدي " وعرف أنس أنه لم يبق أحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، لأنه كان آخر من مات بالبصرة من الصحابة، فلعل الخطاب بذلك كان لأهل البصرة، أو كان عاما وكان تحديثه بذلك في آخر عمره، لأنه لم يبق بعده من الصحابة من ثبت سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النادر ممن لم يكن هذا المتن في مرويه. وقال ابن بطال: يحتمل أنه قال ذلك لما رأى من التغيير ونقص العلم، يعني فاقتضى ذلك عنده أنه لفساد الحال لا يحدثهم أحد بالحق. قلت: والأول أولى. قوله: (سمعت) هو بيان، أو بدل لقوله لأحدثنكم. قوله: (أن يقل العلم) هو بكسر القاف من القلة. وفي رواية مسلم عن غندر وغيره عن شعبة: " أن يرفع العلم " وكذا في رواية سعيد عند ابن أبي شيبة وهمام عند المصنف في الحدود وهشام عنده في النكاح كلهم عن قتادة، وهو موافق لرواية أبي التياح، وللمصنف أيضا في الأشربة من طريق هشام: " أن يقل " فيحتمل أن يكون المراد بقلته أول العلامة وبرفعه آخرها، أو أطلقت القلة وأريد بها العدم كما يطلق العدم ويراد به القلة، وهذا أليق لاتحاد المخرج. قوله: (وتكثر النساء) قيل سببه أن الفتن تكثر فيكثر القتل في الرجال لأنهم أهل الحرب دون النساء. وقال أبو عبد الملك: هو إشارة إلى كثرة الفتوح فتكثر السبايا فيتخذ الرجل الواحد عدة موطوءات. قلت: وفيه نظر، لأنه صرح بالقلة في حديث أبي موسى الآتي في الزكاة عند المصنف فقال: " من قلة الرجال وكثرة النساء " والظاهر أنها علامة محضة لا لسبب آخر، بل يقدر الله في آخر الزمان أن يقل من يولد من الذكور ويكثر من يولد من الإناث، وكون كثرة النساء من العلامات مناسبة لظهور الجهل ورفع العلم. وقوله: " لخمسين " يحتمل أن يراد به حقيقة هذا العدد، أو يكون مجازا عن الكثرة. ويؤيده أن في حديث أبي موسى: " وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة". قوله: (القيم) أي من يقوم بأمرهن، واللام للعهد إشعارا بما هو معهود من كون الرجال قوامين على النساء. وكأن هذه الأمور الخمسة خصت بالذكر لكونها مشعرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد، وهي الدين لأن رفع العلم يخل به، والنقل لأن شرب الخمر يخل به، والنسب لأن الزنا يخل به، والنفس والمال لأن كثرة الفتن تخل بهما. قال الكرماني: وإنما كان اختلال هذه الأمور مؤذنا بخراب العالم لأن الخلق لا يتركون هملا، ولا نبي بعد نبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين، فيتعين ذلك. وقال القرطبي في " المفهم ": في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، إذ أخبر عن أمور ستقع فوقعت، خصوصا في هذه الأزمان. وقال القرطبي في التذكرة: يحتمل أن يراد بالقيم من يقوم عليهن سواء كن موطوءات أم لا. ويحتمل أن يكون ذلك يقع في الزمان الذي لا يبقى فيه من يقول الله الله فيتزوج الواحد بغير عدد جهلا بالحكم الشرعي. قلت: وقد وجد ذلك من بعض أمراء التركمان وغيرهم من أهل هذا الزمان مع دعواه الإسلام. والله المستعان. |
01-31-2013, 01:08 PM | #64 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب فَضْلِ الْعِلْمِ
الشرح: قوله: (باب فضل العلم) الفضل هنا بمعنى الزيادة أي ما فضل عنه، والفضل الذي تقدم في أول كتاب العلم بمعنى الفضيلة، فلا يظن أنه كرره. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْعِلْمَ الشرح: قوله: (حدثنا سعيد بن عفير) هو سعيد بن كثير بن عفير المصري، نسب إلى جده كما تقدم. وعفير بضم المهملة بعدها فاء كما تقدم أيضا. قوله: (حدثنا الليث) هو ابن سعد عن عقيل، وللأصيلي وكريمة: " حدثني الليث حدثني عقيل". قوله: (عن حمزة) وللمصنف في التعبير: " أخبرني حمزة". قوله: (بينا) صله بين فأشبعت الفتحة. قوله: (أتيت) بضم الهمزة. قوله: (فشربت) أي من ذلك اللبن. قوله: (لأرى) بفتح الهمزة من الرواية أو من العلم، واللام للتأكيد أو جواب قسم محذوف، والري بكسر الراء في الرواية وحكى الجوهري الفتح. وقال غيره: بالكسر الفعل، وبالفتح المصدر. قوله: (يخرج) أي الري، وأطلق رؤيته إياه على سبيل الاستعارة. قوله: (في أظفاري) في رواية ابن عساكر: " من أظفاري " وهو أبلغ، وفي التعبير: " من أطرافي " وهو بمعناه. قوله: (قال العلم) هو بالنصب وبالرفع معا في الرواية، وتوجيههما ظاهر. وتفسير اللبن بالعلم لاشتراكهما في كثرة النفع بهما. وسيأتي بقية الكلام عليه في مناقب عمر وفي كتاب التعبير إن شاء الله تعالى. قال ابن المنير: وجه الفضيلة للعلم في الحديث من جهة أنه عبر عن العلم بأنه فضلة النبي صلى الله عليه وسلم ونصيب مما آتاه الله، وناهيك بذلك، انتهى. وهذا قاله بناء على أن المراد بالفضل الفضيلة، وغفل عن النكتة المتقدمة. *3*باب الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا الشرح: قوله: (باب الفتيا) و بضم الفاء، وإن قلت الفتوى فتحتها، والمصادر الآتية بوزن فتيا قليلة مثل تقيا ورجعى. قوله: (وهو) أي المفتي، ومراده أن العالم يجيب سؤال الطالب ولو كان راكبا. قوله: (على الدابة) لمراد بها في اللغة كل ما مشى على الأرض، وفي العرف ما يركب. وهو المراد بالترجمة، وبعض أهل العرف خصها بالحمار، فإن قيل ليس في سياق الحديث ذكر الركوب فالجواب أنه أحال به على الطريق الأخرى التي أوردها في الحج فقال: " كان على ناقته " ترجم له: " باب الفتيا على الدابة عند الجمرة " فأورد الحديث من طريق مالك عن ابن شهاب فذكره كالذي هنا، ثم من طريق ابن جريج نحوه. ثم من طريق صالح بن كيسان عن ابن شهاب بلفظ " وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته " قال فذكر الحديث ولم يسق لفظه وقال بعده: تابعه معمر عن الزهري. انتهى. ورواية معمر وصلها أحمد ومسلم والنسائي وفيها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى على ناقته. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ فَقَالَ اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس. قوله: (حجة الوداع) هو بفتح الحاء ويجوز كسرها. قوله: (للناس يسألونه) هو إما حال من فاعل وقف أو من الناس، أو استئناف بيانا لسبب الوقوف. قوله: (فجاء رجل) لم أعرف اسم هذا السائل ولا الذي بعده في قوله: " فجاء آخر " والظاهر أن الصحابي لم يسم أحدا لكثرة من سأل إذ ذاك، وسيأتي بسط ذلك في الحج. قوله: (ولا حرج) أي لا شيء عليه مطلقا من الإثم، لا في الترتيب ولا في ترك الفدية. هذا ظاهره. وقال بعض الفقهاء: المراد نفي الإثم فقط، وفيه نظر لأن في بعض الروايات الصحيحة: " ولم يأمر بكفارة " وسيأتي مباحث ذلك في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. ورجال هذا الإسناد كلهم مدنيون. *3*باب مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ الشرح: قوله: (باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد أو الرأس) الإشارة باليد مستفادة من الحديثين المذكورين في الباب أولا، وهما مرفوعان. وبالرأس مستفادة من حديث أسماء فقط، وهو من فعل عائشة فيكون موقوفا لكن له حكم المرفوع، لأنها كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم وكان في الصلاة يرى من خلفه فيدخل في التقرير. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ وَلَا حَرَجَ قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلَا حَرَجَ الشرح: قوله: (وهيب) بالتصغير وهو ابن خالد، من حفاظ البصرة، مات سنة خمس وستين وقيل تسع وستين، وأرخه الدمياطي في حواشي نسخته سنة ست وخمسين وهو وهم. وأيوب هو السختياني، وعكرمة هو مولى ابن عباس، والإسناد كله بصريون. قوله: (سئل) هو بضم أوله (فقال) أي السائل: (ذبحت قبل أن أرمي) أي فهل علي شيء؟ قوله: (فأومأ بيده ففال: لا حرج) أي عليك. وقوله: " فقال " يحتمل أن يكون بيانا لقوله أومأ ويكون من إطلاق القول على الفعل كما في الحديث الذي بعده: " فقال هكذا بيده"، ويحتمل أن يكون حالا والتقدير فأومأ بيده قائلا لا حرج، فجمع بين الإشارة والنطق، والأول أليق بترجمة المصنف. قوله: (وقال حلقت) يحتمل أن السائل هو الأول، ويحتمل أن يكون غيره ويكون التقدير فقال سائل كذا. وقال آخر كذا، وهو الأظهر ليوافق الرواية التي قبله حيث قال: فجاء آخر. قوله: (فأومأ بيده ولا حرج) كذا ثبتت الواو في قوله ولا حرج، وليست عند أبي ذر في الجواب الأول. قال الكرماني: لأن الأول كان في ابتداء الحكم والثاني عطف على المذكور أولا انتهى. وقد ثبتت الواو في الأول أيضا في رواية الأصيلي وغيره. الحديث: حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ سَالِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ الشرح: قوله: (حدثنا المكي) هو اسم وليس بنسب، وهو من كبار شيوخ البخاري كما سنذكره في باب إثم من كذب. قوله: (أخبرنا حنظلة) هو ابن أبي سفيان بن عبد الرحمن الجمحي المدني. قوله: (عن سالم) هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وفي رواية الإسماعيلي من طريق إسحاق بن سليمان الراوي عن حنظلة قال: " سمعت سالما " وزاد فيه: " لا أدري كم رأيت أبا هريرة قائما في السوق يقول يقبض العلم " فذكره موقوفا، لكن ظهر في آخره أنه مرفوع. قوله: (يقبض العلم) يفسر المراد بقوله قبل هذا: " يرفع العلم " والقبض يفسره حديث عبد الله بن عمرو الآتي بعد أنه يقع بموت العلماء. قوله: (ويظهر الجهل) هو من لازم ذلك. قوله: (والفتن) في رواية الأصيلي وغيره: " وتظهر الفتن". قوله: (الهرج) هو بفتح الهاء وسكون الراء بعدها جيم. قوله: (فقال هكذا بيده) و من إطلاق القول على الفعل. قوله: (فحرفها) الفاء فيه تفسيرية كأن الراوي بين أن الإيماء كان محرفا. قوله: (كأنه يريد القتل) كأن ذلك فهم من تحريف اليد وحركتها كالضارب، لكن هذه الزيادة لم أرها في معظم الروايات وكأنها من تفسير الراوي عن حنظلة، فإن أبا عوانة رواه عن عباس الدوري عن أبي عاصم عن حنظلة وقال في آخره: " وأرانا أبو عاصم كأنه يضرب عنق الإنسان " وقال الكرماني: الهرج هو الفتنة، فإرادة القتل من لفظه على طريق التجوز إذ هو لازم معنى الهجر، قال إلا أن يثبت ورود الهرج بمعنى القتل لغة. قلت: وهي غفلة عما في البخاري في كتاب الفتن. والهجر القتل بلسان الحبشة. وسيأتي بقية مباحث هذا الحديث هناك إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ قُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ نَعَمْ فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلَّانِي الْغَشْيُ فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي الْمَاءَ فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ يُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُوقِنُ لَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلَاثًا فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ الشرح: قوله: (هشام) هو ابن عروة بن الزبير. عن (فاطمة) هي بنت المنذر بن الزبير وهي زوجة هشام وبنت عمه. قوله: (عن أسماء) أي بنت أبي بكر الصديق زوج الزبير بن العوام وهي جدة هشام وفاطمة جميعا. قوله: (فقلت ما شأن الناس) أي لما رأت من اضطرابهم. قوله: (فأشارت) أي عائشة إلى السماء أي انكسفت الشمس. قوله: (فإذا الناس قيام) كأنها التفتت من حجرة عائشة إلى من في المسجد فوجدتهم قياما في صلاة الكسوف، ففيه إطلاق الناس على البعض. قوله: (فقالت سبحان الله) أي أشارت قائلة سبحان الله. قوله: (قلت آية) هو بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هذه آية أي علامة، ويجوز حذف همزة الاستفهام وإثباتها. قوله: (فقمت) أي في الصلاة. قوله: (حتى علاني) كذا للأكثر بالعين المهملة وتخفيف اللام. وفي رواية كريمة تجلاني بمثناة وجيم ولام مشددة، وجلال الشيء ما غطي به. والغشي بفتح الغين وإسكان الشين المعجمتين وتخفيف الياء وبكسر الشين وتشديد الياء أيضا هو طرف من الإغماء، والمراد به هنا الحالة القريبة منه فأطلقته مجازا، ولهذا قالت: فجعلت أصب على رأسي الماء أي في تلك الحال ليذهب. ووهم من قال بأن صبها كان بعد الإفاقة، وسيأتي تقرير ذلك في كتاب الطهارة، ويأتي الكلام على هذا الحديث أيضا في صلاة الكسوف إن شاء الله تعالى. قوله: (أريته) هو بضم الهمزة. قوله: (حتى الجنة والنار) رويناه بالحركات الثلاث فيهما. قوله: (مثل أو قريبا) كذا هو بترك التنوين في الأول وإثباته في الثاني، قال ابن مالك، توجيهه أن أصله مثل فتنة الدجال أو قريبا من فتنة الدجال، فحذف ما أضيف إلى مثل وترك على هيئته قبل الحذف، وجاز الحذف لدلالة ما بعده عليه، وهذا كقول الشاعر: بين ذراعي وجبهة الأسد تقديره: بين ذراعي الأسد وجبهة الأسد وقال الآخر: أمام وخلف المرء من لطف ربه كواليء تزوي عنه ما هو يحذر وفي رواية بترك التنوين في الثاني أيضا، وتوجيهه أنه مضاف إلى فتنة أيضا، وإظهار حرف الجر بين المضاف والمضاف إليه جائز عند قوم. وقوله: " لا أدري أي ذلك قالت أسماء " جملة معترضة بين بها الراوي أن الشك منه هل قالت له أسماء مثل أو قالت قريبا، وستأتي مباحث هذا المتن في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : وقع في نسخة الصغاني هنا: قال ابن عباس مرقدنا مخرجنا. وفي ثبوت ذلك نظر لأنه لم يقع في الحديث لذلك ذكر وإن كان قد يظهر له مناسبة. وقد ذكر ذلك في موضعه من سورة يس. |
01-31-2013, 01:08 PM | #65 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الْإِيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ الشرح: قوله: (باب تحريض) هو بالضاد المعجمة ومن قالها بالمهملة هنا فقد صحف. قوله: (وقال مالك بن الحويرث) هو بصيغة تصغير الحارث. وهذا التعليق طرف من حديث له مشهور يأتي في الصلاة. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ فَقَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ الْوَفْدُ أَوْ مَنْ الْقَوْمُ قَالُوا رَبِيعَةُ فَقَالَ مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى قَالُوا إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَتُعْطُوا الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ قَالَ شُعْبَةُ رُبَّمَا قَالَ النَّقِيرِ وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ قَالَ احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ الشرح: قوله: (أبي جمرة) هو بالجيم والراء كما تقدم. قوله: (من شقة) بضم الشين المعجمة وتشديد القاف. قوله: (وتعطوا) كذا وقع، وهو منصوب بتقدير أن، وساغ التقدير لأن المعطوف عليه اسم قاله الكرماني. قلت: قد رواه أحمد عن غندر فقال: " وأن تعطوا " فكأن حذفها من شيخ البخاري. قوله: (قال شعبة: وربما قال النقير) أي بالنون المفتوحة وتخفيف القاف المكسورة (وربما قال المقير) أي بالميم المضمومة وفتح القاف وتشديد الياء المفتوحة، وليس المراد أنه كان يتردد في هاتين اللفظتين ليثبت إحداهما دون الأخرى لأنه يلزم من ذكر المقير التكرار لسبق ذكر المزفت لأنه بمعناه، بل المراد أنه كان جازما بذكر الثلاثة الأول شاكا في الرابع وهو النقير، فكان تارة يذكره وتارة لا يذكره. وكان أيضا شاكا في التلفظ بالثالث فكان تارة يقول المزفت وتارة يقول المقير. هذا توجيهه فلا يلتفت إلى ما عداه. وقد تقدمت مباحث هذا الحديث في أواخر كتاب الإيمان. وأخرجه المصنف هناك عاليا عن علي بن الجعد عن شعبة، ولم يتردد إلا في المزفت والمقير فقط، وجزم بالنقير، وهو يؤيد ما قلته. والله أعلم. قوله: (وأخبروه) هو بفتح الهمزة وكسر الباء. وللكشميهني: " وأخبروا " بحذف الضمير. *3*باب الرِّحْلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ وَتَعْلِيمِ أَهْلِهِ الشرح: قوله: (باب الرحلة) هو بكسر الراء بمعنى الارتحال، وفي روايتنا أيضا بفتح الراء أي الواحدة، وأما بضمها فالمراد به الجهة، وقد تطلق على من يرتحل إليه. وفي رواية كريمة: " وتعليم أهله " بعد قوله في المسألة النازلة، والصواب حذفها لأنها تأتي في باب آخر. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لِأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلَا أَخْبَرْتِنِي فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ الشرح: قوله: (أخبرنا عبد الله) هو ابن المبارك. قوله: (حدثني عبد الله بن أبي مليكة) هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة نسب إلى جده. قوله: (عن عقبة بن الحارث) سيأتي تصريحه بالسماع من عقبة في كتاب النكاح خلافا لمن أنكره، وسيأتي الخلاف في كنية عقبة في قصة خبيب بن عدي. قوله: (أنه تزوج ابنة) اسمها غنية بفتح المعجمة وكسر النون بعدها ياء تحتانية مشددة، وكنيتها أم يحيى كما يأتي في الشهادات. وهجم الكرماني فقال: لا يعرف اسمها، وأبو إهاب بكسر الهمزة لا أعرف اسمه، وهو مذكور في الصحابة، وعزيز بفتح العين المهملة وكسر الزاي وآخره زاي أيضا كما تقدم في المقدمة، ومن قاله بضم أوله فقد حرف. قوله: (فأتته امرأة) لم أقف على اسمها. قوله: (ولا أخبرتني) بكسر المثناة أي قبل ذلك كأنه اتهمها. قوله: (فركب) أي من مكة لأنها كانت دار إقامته. والفرق بين هذه الترجمة وترجمة: " باب الخروج في طلب العلم " أن هذا أخص وذاك أعم، وستأتي مباحث هذا الحديث في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى. قوله: (ونكحت زوجا غيره) اسم هذا الزوج ظريب بضم المعجمة المشالة وفتح الراء وآخره موحدة مصغرا. |
01-31-2013, 01:12 PM | #66 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب التَّنَاوُبِ فِي الْعِلْمِ
الشرح: قوله: (باب التناوب) هو بالنون وضم الواو من النوبة بفتح النون. قوله: (وقال ابن وهب) هذا التعليق وصله ابن حبان في صحيحه عن ابن قتيبة عن حرملة عنه بسنده، وليس في روايته قول عمر: " كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول " وهو مقصود هذا الباب، وإنما وقع ذلك في رواية شعيب وحده عن الزهري، نص على ذلك الذهلي والدارقطني والحاكم وغيرهم، وقد ساق المصنف الحديث في كتاب النكاح عن ابن اليمان وحده أتم مما هنا بكثير، وإنما ذكر هنا رواية يونس بن يزيد ليوضح أن الحديث كله ليس من أفراد شعيب. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَنَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا فَقَالَ أَثَمَّ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَا أَدْرِي ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ قَالَ لَا فَقُلْتُ اللَّهُ أَكْبَرُ الشرح: قوله: (عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور) و مكي نوفلي، وقد اشترك معه في اسمه واسم أبيه، وفي الرواية عن ابن عباس وفي رواية الزهري عنهما عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المدني الهذلي، لكن روايته عن ابن عباس كثيرة في الصحيحين، وليس لابن أبي ثور عن ابن عباس غير هذا الحديث الواحد. قوله: (وجار لي) هذا الجار هو عتبان بن مالك أفاده ابن القسطلاني، لكن لم يذكر دليله. قوله: (في بني أمية) أي ناحية بني أمية، سميت البقعة باسم من نزلها. قوله: (أثم) هو بفتح المثلثة. قوله: (دخلت على حفصة) ظاهر سياقه يوهم أنه من كلام الأنصاري، وإنما الداخل على حفصة عمر، وللكشميهني: " فدخلت على حفصة " أي قال عمر: فدخلت على حفصة، وإنما جاء هذا من الاختصار، وإلا ففي أصل الحديث بعد قوله أمر عظيم: " طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. قلت: قد كنت أظن أن هذا كائن، حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ثم نزلت، فدخلت على حفصة " يعني أم المؤمنين بنته. وفي هذا الحديث الاعتماد على خبر الواحد، والعمل بمراسيل الصحابة. وفي أن الطالب لا يغفل عن النظر في أمر معاشه ليستعين على طلب العلم وغيره، مع أخذه بالحزم في السؤال عما يفوته يوم غيبته، لما علم من حال عمر أنه كان يتعاطى التجارة إذ ذاك كما سيأتي في البيوع. وفيه أن شرط التواتر أن يكون مستند نقلته الأمر المحسوس، لا الإشاعة التي لا يدرى من بدأ بها. وسيأتي بقية الكلام عليه في النكاح إن شاء الله تعالى. *3*بَاب الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن كثير) هو العبدي ولم يخرج للصنعاني شيئا. قوله: (أخبرني سفيان) هو الثوري (عن ابن أبي خالد) هو إسماعيل. قوله: (قال رجل) قيل هو حزم بن أبي كعب. قوله: (لا أكاد أدرك الصلاة مما يطيل) قال القاضي عياض: ظاهره مشكل، لأن التطويل يقتضي الإدراك لا عدمه، قال فكأن الألف زيدت بعد لا وكأن أدرك كانت أترك. قلت: هو توجيه حسن لو ساعدته الرواية. وقال أبو الزناد بن سراج: معناه أنه كان به ضعف، فكان إذا طول به الإمام في القيام لا يبلغ الركوع إلا وقد ازداد ضعفه فلا يكاد يتم معه الصلاة. قلت: وهو معنى حسن، لكن رواه المصنف عن الفريابي عن سفيان بهذا الإسناد بلفظ: " إني لأتأخر عن الصلاة " فعلى هذا فمراده بقوله: " إني لا أكاد أدرك الصلاة " أي لا أقرب من الصلاة في الجماعة بل أتأخر عنها أحيانا من أجل التطويل، وسيأتي تحرير هذا في موضعه في الصلاة، ويأتي الخلاف في اسم الشاكي والمشكو. قوله: (أشد غضبا) قيل إنما غضب لتقدم نهيه عن ذلك. قوله: (وذا الحاجة) كذا للأكثر. وفي رواية القابسي: " وذو الحاجة " وتوجيهه أنه عطف على موضع اسم أن قبل دخولها، أو هو استئناف. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو الْعَقَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ الْمَدِينِيُّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ اعْرِفْ وِكَاءَهَا أَوْ قَالَ وِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ قَالَ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ قَالَ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ وَمَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ الشرح: قوله: (سأله رجل) هو عمير والد مالك، وقيل غيره كما سيأتي في اللقطة. قوله: (وكاءها) هو بكسر الواو ما يربط به، والعفاص بكسر العين المهملة هو الوعاء بكسر الواو. قوله: (فغضب) إما لأنه كان نهى قبل ذلك عن التقاطها، وإما لأن السائل قصر في فهمه فقاس ما يتعين التقاطه على ما لا يتعين. قوله: (سقاؤها) هو بكسر أوله والمراد بذلك أجوافها لأنها تشرب فتكتفي به أياما. قوله: (وحذاؤها) بكسر المهملة ثم ذال معجمة والمراد هنا خفها. وستأتي مباحث هذا الحديث في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِي قَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن العلاء) تقدم هذا الإسناد في: " باب فضل من علم وعلم". قوله: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء) كان منها السؤال عن الساعة وما أشبه ذلك من المسائل كما سيأتي في حديث ابن عباس في تفسير المائدة. قوله: (قال رجل) هو عبد الله بن حذافة بضم أوله وبالذال المعجمة والفاء القرشي السهمي كما سماه في حديث أنس الآتي. قوله: (فقام آخر) هو سعد بن سالم مولى شيبة بن ربيعة، سماه ابن عبد البر في التمهيد في ترجمة سهيل بن أبي صالح منه، وأغفله في الاستيعاب، ولم يظفر به أحد من الشارحين ولا من صنف في المبهمات ولا في أسماء الصحابة، وهو صحابي بلا مرية لقوله: " فقال من أبي يا رسول الله " ووقع في تفسير مقاتل في نحو هذه القصة أن رجلا من بني عبد الدار قال: من أبي؟ قال: سعد، نسبه إلى غير أبيه بخلاف ابن حذافة، وسيأتي مزيد لهذا في تفسير سورة المائدة. قوله: (فلما رأى عمر) هو ابن الخطاب (ما في وجهه) أي من الغضب (قال: يا رسول الله إنا نتوب إلى الله) أي مما يوجب غضبك. وفي حديث أنس الآتي بعد أن عمر برك على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا. والجمع بينهما ظاهر بأنه قال جميع ذلك، فنقل كل من الصحابيين ما حفظ، ودل على اتحاد المجلس اشتراكهما في نقل قصة عبد الله بن حذافة. (تنبيه) : قصر المصنف الغضب على الموعظة والتعليم دون الحكم لأن الحاكم مأمور أن لا يقضي وهو غضبان، والفرق أن الواعظ من شأنه أن يكون في صورة الغضبان لأن مقامه يقتضي تكلف الانزعاج لأنه في صورة المنذر، وكذا المعلم إذا أنكر على من يتعلم منه سوء فهم ونحوه لأنه قد يكون ادعى للقبول منه، وليس ذلك لازما في حق كل أحد بل يختلف باختلاف أحوال المتعلمين، وأما الحاكم فهو بخلاف ذلك كما يأتي في بابه. فإن قيل: فقد قضى عليه الصلاة والسلام في حال غضبه حيث قال: أبوك فلان. فالجواب أن يقال: أولا ليس هذا من باب الحكم، وعلى تقديره فيقال: هذا من خصوصياته لمحل العصمة، فاستوى غضبه ورضاه. ومجرد غضبه من الشيء دال على تحريمه أو كراهته، بخلاف غيره صلى الله عليه وسلم. |
01-31-2013, 01:12 PM | #67 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَوْ الْمُحَدِّثِ
الشرح: قوله: (باب من برك) هو بفتح الموحدة والراء المخففة، يقال برك البعير إذا استناخ، واستعمل في الآدمي مجازا. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِي فَقَالَ أَبُوكَ حُذَافَةُ ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا فَسَكَتَ الشرح: قوله: (خرج فقام عبد الله بن حذافة) فيه حذف يظهر من الرواية الأخرى، والتقدير خرج فسئل فأكثروا عليه فغضب فقال: سلوني، فقام عبد الله. قوله: (فقال رضينا بالله ربا) قال ابن بطال: فهم عمر منه أن تلك الأسئلة قد تكون على سبيل التعنت أو الشك، فخشي أن تنزل العقوبة بسبب ذلك فقال: رضينا بالله ربا الخ، فرضي النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فسكت. *3*باب مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلَاثًا لِيُفْهَمَ عَنْهُ فَقَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا الشرح: قوله: (باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم) هو بضم الياء وفتح الهاء، وفي روايتنا بكسر الهاء، لكن في رواية الأصيلي وكريمة: " ليفهم عنه " وهو بفتح الهاء لا غير. قوله: (فقال ألا وقول الزور) كذا في رواية أبي ذر وفي رواية غيره: " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " وهو طرف معلق من حديث أبي بكرة المذكور في الشهادات وفي الديات الذي أوله: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر " ثلاثا فذكر الحديث، ففيه معنى الترجمة لكونه قال لهم ذلك ثلاثا. قوله: (فما زال يكررها) أي في مجلسه ذلك. والضمير يعود على الكلمة الأخيرة وهي قول الزور، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في مكانه. قوله: (وقال ابن عمر) هو طرف أيضا من حديث مذكور عند المصنف في كتاب الحدود أوله " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: أي شهر هذا " فذكر الحديث وفيه هذا القدر المعلق، وقوله: " ثلاثا " متعلق بقال لا بقوله بلغت. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا الشرح: قوله: (حدثنا عبدة) هو ابن عبد الله الصفار، ولم يخرج البخاري عن عبدة بن عبد الرحيم المروزي وهو من طبقة عبدة الصفار. وفي رواية الأصيلي حدثنا عبدة الصفار. قوله: (حدثنا عبد الصمد) هو ابن عبد الوارث بن سعيد، يكنى أبا سهل، والمثنى والد عبد الله هو بضم الميم وفتح المثلثة وتشديد النون المفتوحة وهو ابن عبد الله بن أنس بن مالك، وثمامة عمه. ورجال هذا الإسناد كلهم بصريون. قوله: (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان) أي من عادة النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أن أنسا مخبر عما عرفه من شأن النبي صلى الله عليه وسلم وشاهده، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك. ويؤيد ذلك أن المصنف أخرجه في كتاب الاستئذان عن إسحاق - وهو ابن منصور- عن عبد الصمد بهذا الإسناد إلى أنس فقال " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَارُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا الشرح: قوله: (إذا تكلم) قال الكرماني: مثل هذا التركيب يشعر بالاستمرار عند الأصوليين. قوله: (بكلمة) أي بجملة مفيدة. قوله: (أعادها ثلاثا) د بين المراد بذلك في نفس الحديث بقوله: " حتى تفهم عنه " وللترمذي والحاكم في المستدرك " حتى تعقل عنه". ووهم الحاكم في استدراكه وفي دعواه أن البخاري لم يخرجه. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، إنما نعرفه من حديث عبد الله بن المثنى. انتهى. وعبد الله بن المثنى ممن تفرد البخاري بإخراج حديثه دون مسلم وقد وثقه العجلي والترمذي. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: صالح. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بالقوي. قلت: لعله أراد في بعض حديثه، وقد تقرر أن البخاري حيث يخرج لبعض من فيه مقال لا يخرج شيئا مما أنكر عليه. وقول ابن معين ليس بشيء أراد به في حديث بعينه سئل عنه، وقد قواه في رواية إسحاق بن منصور عنه. وفي الجملة فالرجل إذا ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا إذا كان مفسرا بأمر قادح، وذلك غير موجود في عبد الله بن المثنى هذا. وقد قال ابن حبان لما ذكره في الثقات: ربما أخطأ. والذي أنكر عليه إنما هو من روايته عن غير عمه ثمامة، والبخاري إنما أخرج له عن عمه هذا الحديث وغيره، ولا شك أن الرجل أضبط لحديث آل بيته من غيره. وقال ابن المنير: نبه البخاري بهذه الترجمة على الرد على من كره إعادة الحديث، وأنكر على الطالب الاستعادة وعده من البلادة، قال: والحق أن هذا يختلف باختلاف القرائح، فلا عيب على المستفيد الذي لا يحفظ من مرة إذا استعاد، ولا عذر للمفيد إذا لم يعد بل الإعادة عليه آكد من الابتداء، لأن الشروع ملزم. وقال ابن التين، فيه أن الثلاث غاية ما يقع به الاعتذار والبيان قوله: (وإذا أتى على قوم) أي وكان إذا أتى. قوله: (فسلم عليهم) هو من تتمة الشرط، وقوله سلم عليهم هو الجواب، قال الإسماعيلي: يشبه أن يكون ذلك كان إذا سلم سلام الاستئذان على ما رواه أبو موسى وغيره، وأما أن يمر المار مسلما فالمعروف عدم التكرار. قلت: وقد فهم المصنف هذا بعينه فأورد هذا الحديث مقرونا بحديث أبي موسى في قصته مع عمر كما سيأتي في الاستئذان، لكن يحتمل أن يكون ذلك كان يقع أيضا منه إذا خشي أنه لا يسمع سلامه. وما ادعاه الكرماني من أن الصيغة المذكورة تفيد الاستمرار مما ينازع فيه. والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلَاةَ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا الشرح: قوله في حديث عبد الله بن عمرو (فأدركنا) هو بفتح الكاف. وقوله: " أرهقنا " بسكون القاف، وللأصيلي " أرهقتنا " وقوله: " صلاة العصر " هو بدل من الصلاة إن رفعا فرفع وإن نصبا فنصب. قوله: (مرتين أو ثلاثا) و شك من الراوي، وهو يدل على أن الثلاث ليست شرطا، بل المراد التفهيم، فإذا حصل بدونها أجزأ. وسيأتي الكلام على المتن في الطهارة إن شاء الله تعالى. *3*باب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ الشرح: قوله: (باب تعليم الرجل أمته وأهله) مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص وفي الأهل بالقياس، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء. الحديث: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن سلام) كذا في روايتنا من طريق أبي ذر. وفي رواية كريمة حدثنا محمد هو ابن سلام، وللأصيلي حدثنا محمد حسب، واعتمده المزي في الأطراف فقال: رواه البخاري عن محمد قيل هو ابن سلام. قوله: (أخبرنا) في رواية كريمة حدثنا المحاربي وهو عبد الرحمن بن محمد بن زياد، وليس له عند البخاري سوى هذا الحديث وحديث آخر في العيدين، وذكر أبو علي الجياني أن بعض أهل بلدهم صحف " المحاربي " فقال البخاري، فأخطأ خطأ فاحشا. قوله: (حدثنا صالح بن حيان) هو صالح بن صالح بن مسلم بن حيان نسب إلى جد أبيه، وهو بفتح المهملة وتشديد الياء التحتانية، ولقبه حي وهو أشهر به من اسمه، وكذا من ينسب إليه يقال للواحد منهم غالبا فلان ابن حي كصالح بن حي هذا. وهو ثقة مشهور، وفي طبقته راو آخر كوفي أيضا يقال له صالح بن حيان القرشي لكنه ضعيف، وقد وهم من زعم أن البخاري أخرج له فإنه إنما أخرج لصالح بن حي، وهذا الحديث معروف بروايته عن الشعبي دون القرشي، وقد أخرجه البخاري من حديثه من طرق: منها في الجهاد من طريق ابن عيينة قال: حدثنا صالح بن حي أبو حيان قال: سمعت الشعبي، وأصرح من ذلك أنه أخرج الحديث المذكور في كتاب الأدب المفرد بالإسناد الذي أخرجه هنا فقال صالح بن حي. قوله: (قال عامر) أي قال صالح قال عامر، وعادتهم حذف قال إذا تكررت خطأ لا نطقا. قوله: (عن أبيه) هو أبو موسى الأشعري كما صرح به في العتق وغيره. قوله: (ثلاثة لهم أجران) ثلاثة مبتدأ، والتقدير ثلاثة رجال أو رجال ثلاثة، ولهم أجران خبره. قوله: (رجل) هو بدل تفصيل، أو بدل كل بالنظر إلى المجموع. قوله: (من أهل الكتاب) لفظ الكتاب عام ومعناه خاص، أي المنزل من عند الله، والمراد به التوراة والإنجيل كما تظاهرت به نصوص الكتاب والسنة حيث يطلق أهل الكتاب، وقيل المراد به هنا الإنجيل خاصة إن قلنا إن النصرانية ناسخة لليهودية، كذا قرره جماعة، ولا يحتاج إلى اشتراط النسخ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام كان قد أرسل إلى بني إسرائيل بلا خلاف، فمن أجابه منهم نسب إليه، ومن كذبه منهم واستمر على يهوديته لم يكن مؤمنا فلا يتناوله الخبر، لأن شرطه أن يكون مؤمنا بنبيه. نعم من دخل في اليهودية من غير بني إسرائيل، أو لم يكن بحضرة عيسى عليه السلام فلم تبلغه دعوته. يصدق عليه أنه يهودي مؤمن، إذ هو مؤمن بنبيه موسى عليه السلام ولم يكذب نبيا آخر، فمن أدرك بعثه محمد صلى الله عليه وسلم ممن كان بهذه المناسبة وآمن به لا يشكل أنه يدخل في الخبر المذكور، ومن هذا القبيل العرب الذين كانوا باليمن وغيرها ممن دخل منهم في اليهودية ولم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام لكونه أرسل إلى بني إسرائيل خاصة. نعم الإشكال في اليهود الذين كانوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت أن الآية الموافقة لهذا الحديث وهي قوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) نزلت في طائفة آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وغيره، ففي الطبراني من حديث رفاعة القرظي قالت: نزلت هذه الآيات في وفيمن آمن معي. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن علي بن رفاعة القرظي قال: خرج عشرة من أهل الكتاب - منهم أبي رفاعة - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به فأوذوا، فنزلت (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون) الآيات، فهؤلاء من بني إسرائيل ولم يؤمنوا بعيسى بل استمروا على اليهودية إلى أن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنهم يؤتون أجرهم مرتين، قال الطيبي: فيحتمل إجراء الحديث على عمومه، إذ لا يبعد أن يكون طريان الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم سببا لقبول تلك الأديان وإن كانت منسوخة. انتهى. وسأذكر ما يؤيده بعد. ويمكن أن يقال في حق هؤلاء الذين كانوا بالمدينة: إنه لم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام لأنها لم تنتشر في أكثر البلاد، فاستمروا على يهوديتهم مؤمنين بنبيهم موسى عليه السلام، إلى أن جاء الإسلام فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فبهذا يرتفع الإشكال إن شاء الله تعالى. (فوائد) : الأولى: وقع في شرح ابن التين وغيره أن الآية المذكورة نزلت في كعب الأحبار وعبد الله بن سلام، وهو صواب في عبد الله خطأ في كعب، لأن كعبا ليست له صحبة، ولم يسلم إلا في عهد عمر بن الخطاب، والذي في تفسير الطبري وغيره عن قتادة أنها نزلت في عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي، وهذا مستقيم، لأن عبد الله كان يهوديا فأسلم كما سيأتي في الهجرة، وسلمان كان نصرانيا فأسلم كما سيأتي في البيوع. وهما صحابيان مشهوران. الثانية: قال القرطبي الكتابي الذي يضاعف أجره مرتين هو الذي كان على الحق في شرعه عقدا وفعلا إلى أن آمن بنبينا صلى الله عليه وسلم، فيؤجر على اتباع الحق الأول والثاني. انتهى. ويشكل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل: " أسلم يؤتك الله أجرك مرتين"، وهرقل كان ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قدمت بحث شيخ الإسلام في هذا في حديث أبي سفيان في بدء الوحي. الثالثة: قال أبو عبد الملك البوني وغيره: إن الحديث لا يتناول اليهود البتة، وليس بمستقيم كما قررناه. وقال الداودي ومن تبعه: إنه يحتمل أن يتناول جميع الأمم فيما فعلوه من خير كما في حديث حكيم بن حزام الآتي: " أسلمت على ما أسلفت من خير " وهو متعقب، لأن الحديث مقيد بأهل الكتاب فلا يتناول غيرهم إلا بقياس الخير على الإيمان. وأيضا فالنكتة في قوله: " آمن بنبيه " الإشعار بعلية الأجر، أي أن سبب الأجرين الإيمان بالنبيين، والكفار ليسوا كذلك. ويمكن أن يقال الفرق بين أهل الكتاب وغيرهم من الكفار أن أهل الكتاب يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) فمن آمن به واتبعه منهم كان له فضل على غيره، وكذا من كذبه منهم كان وزره أشد من وزر غيره، وقد ورد مثل ذلك في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكون الوحي كان ينزل في بيوتهن. فإن قيل: فلم لم يذكرن في هذا الحديث فيكون العدد أربعة؟ أجاب شيخنا شيخ الإسلام بأن قضيتهن خاصة بهن مقصورة عليهن، والثلاثة المذكورة في الحديث مستمرة إلى يوم القيامة. وهذا مصير شيخنا إلى أن قضية مؤمن أهل الكتاب مستمرة، وقد ادعى الكرماني اختصاص ذلك بمن آمن في عهد البعثة، وعلل ذلك بأن نبيهم بعد البعثة إنما هو محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار عموم بعثته. انتهى. وقضيته أن ذلك أيضا لا يتم لمن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن خصه بمن لم تبلغه الدعوة فلا فرق في ذلك بين عهده وبعده، فما قاله شيخنا أظهر. والمراد بنسبتهم إلى غير نبينا صلى الله عليه وسلم إنما هو باعتبار ما كانوا عليه قبل ذلك، وأما ما قوى به الكرماني دعواه بكون السياق مختلفا حيث قيل في مؤمن أهل الكتاب: " رجل " بالتنكير وفي " العبد " بالتعريف، وحيث زيدت فيه: " إذا " الدالة على معنى الاستقبال فأشعر ذلك بأن الأجرين لمؤمن أهل الكتاب لا يقع في الاستقبال، بخلاف العبد. انتهى. وهو غير مستقيم، لأنه مشى فيه مع ظاهر اللفظ، وليس متفقا عليه بين الرواة، بل هو عند المصنف وغيره مختلف، فقد عبر في ترجمة عيسى بإذا في الثلاثة، وعبر في النكاح بقوله: " أيما رجل " في المواضع الثلاثة وهي صريحة في التعميم، وأما الاختلاف بالتعريف والتنكير فلا أثر له هنا لأن المعرف بلام الجنس مؤداه مؤدى النكرة والله أعلم. الرابعة: حكم المرأة الكتابية حكم الرجل كما هو مطرد في جل الأحكام حيث يدخلن مع الرجال بالتبعية إلا ما خصه الدليل، وستأتي مباحث العبد في العتق ومباحث الأمة في النكاح. قوله: (فله أجران) هو تكرير لطول الكلام للاهتمام به. قوله: (ثم قال عامر) - أي الشعبي - أعطيناكها، ظاهره أنه خاطب بذلك صالحا الراوي عنه، ولهذا جزم الكرماني بقوله: " الخطاب لصالح " وليس كذلك، بل إنما خاطب بذلك رجلا من أهل خراسان سأله عمن يعتق أمته ثم يتزوجها، كما سنذكر ذلك في ترجمة عيسى عليه السلام من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. قوله: (بغير شيء) أي من الأمور الدنيوية، وإلا فالأجر الأخروي حاصل له. قوله: (يركب فيما دونها) أي يرحل لأجل ما هو أهون منها كما عنده في الجهاد، والضمير عائد على المسألة. قوله: (إلى المدينة) أي النبوية، وكان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ثم تفرق الصحابة في البلاد بعد فتوح الأمصار وسكنوها، فاكتفى أهل كل بلد بعلمائه إلا من طلب التوسع في العلم فرحل، وقد تقدم حديث جابر في ذلك، ولهذا عبر الشعبي - مع كونه من كبار التابعين - بقوله " كان"، واستدلال ابن بطال وغيره من المالكية على تخصيص العلم بالمدينة فيه نظر لما قررناه. إنما قال الشعبي ذلك تحريضا للسامع ليكون ذلك أدعى لحفظه وأجلب لحرصه والله المستعان. وقد روى الدارمي بسند صحيح عن بسر بن عبيد الله - وهو بضم الموحدة وسكون المهملة - قاله: إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد. وعن أبي العالية قال: كنا نسمع الحديث عن الصحابة، فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم. |
01-31-2013, 01:13 PM | #68 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب عِظَةِ الْإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ
الشرح: قوله: (باب عظة الإمام النساء) نبه بهذه الترجمة على أن ما سبق من الندب إلى تعليم الأهل ليس مختصا بأهلهن، بل ذلك مندوب للإمام الأعظم ومن ينوب عنه. واستفيد الوعظ بالتصريح من قوله في الحديث: " فوعظهن " وكانت الموعظة بقوله: " إني رأيتكن أكثر أهل النار " لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير". واستفيد التعليم من قوله: " وأمرهن بالصدقة " كأنه أعلمهن أن في الصدقة تكفيرا لخطاياهن. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ عَطَاءٌ أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعْ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُرْطَ وَالْخَاتَمَ وَبِلَالٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (عن أيوب) هو السختياني، وعطاء هو ابن أبي رباح. قوله: (أو قاله عطاء أشهد) معناه أن الراوي تردد هل لفظ أشهد من قول ابن عباس أو من قول عطاء؛ وقد رواه أيضا حماد بن زيد عن أيوب أخرجه أبو نعيم في المستخرج، وأخرجه أحمد بن حنبل عن غندر عن شعبة جازما بلفظ " أشهد " عن كل منهما، وإنما عبر بلفظ الشهادة تأكيدا لتحققه ووثوقا بوقوعه. قوله: (ومعه بلال) كذا للكشميهني وسقطت الواو للباقين. قوله: (القرط) هو بضم القاف وإسكان الراء بعدها طاء مهملة، أي الحلقة التي تكون في شحمة الأذن، وسيأتي مزيد في هذا المتن في العيدين إن شاء الله تعالى. قوله: (وقال إسماعيل) هو المعروف بابن علية، وأراد بهذا التعليق أنه جزم عن أيوب بأن لفظ " أشهد " من كلام ابن عباس فقط، وكذا جزم به أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة، وكذا قال وهيب عن أيوب ذكره الإسماعيلي، وأغرب الكرماني فقال: يحتمل أن يكون قوله وقال إسماعيل عطفا على حدثنا شعبة، فيكون المراد به حدثنا سليمان بن حرب عن إسماعيل فلا يكون تعليقا انتهى. وهو مردود بأن سليمان بن حرب لا رواية له عن إسماعيل أصلا لا لهذا الحديث ولا لغيره، وقد أخرجه المصنف في كتاب الزكاة موصولا عن مؤمل بن هشام عن إسماعيل كما سيأتي، وقد قلنا غير مرة: إن الاحتمالات العقلية لا مدخل لها في الأمور النقلية. ولو استرسل فيها مسترسل لقال: يحتمل أن يكون إسماعيل هنا آخر غير ابن علية، وأن أيوب آخر غير السختياني، وهكذا في أكثر الرواة، فيخرج بذلك إلى ما ليس بمرضي. وفي هذا الحديث جواز المعاطاة في الصدقة، وصدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها، وأن الصدقة تمحو كثيرا من الذنوب التي تدخل النار. *3*باب الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ الشرح: قوله: (باب الحرص على الحديث) لمراد بالحديث في عرف الشرع ما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه أريد به مقابلة القرآن لأنه قديم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ الشرح: قوله: (حدثنا عبد العزيز) هو أبو القاسم الأويسي، وسليمان هو ابن بلال، وعمرو بن أبي عمرو هو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، واسم أبي عمرو ميسرة. والإسناد كله مدنيون. قوله: (أنه قال: قيل يا رسول الله) كذا لأبي ذر وكريمة. وسقطت " قيل " للباقين وهو الصواب، ولعلها كانت قلت فتصحفت، فقد أخرجه المصنف في الرقاق كذلك، وللإسماعيلي أنه سأل، ولأبي نعيم أن أبا هريرة قال يا رسول الله. قوله: (أول منك) قع في روايتنا برفع اللام ونصبها، فالرفع على الصفة لأحد أو البدل منه والنصب على أنه مفعول ثان لظننت قاله القاضي عياض. وقال أبو البقاء: على الحال، ولا يضر كونه نكرة لأنها في سياق النفي كقولهم ما كان أحد مثلك. و " ما " في قوله لما موصولة و " من " بيانية أو تبعيضية، وفيه فضل أبي هريرة وفضل الحرص على تحصيل العلم. قوله: (من قال لا إله إلا الله) احتراز من المشرك، والمراد مع قوله محمد رسول الله، لكن قد يكتفى بالجزء الأول من كلمتي الشهادة لأنه صار شعارا لمجموعهما كما تقدم في الإيمان. قوله: (خالصا) احتراز من المنافق، ومعنى أفعل في قوله " أسعد " الفعل لا أنها أفعل التفضيل أي سعيد الناس، كقوله تعالى: (وأحسن مقيلا) ويحتمل أن يكون أفعل التفضيل على بابها، وأن كل أحد يحصل له سعد بشفاعته، لكن المؤمن المخلص أكثر سعادة بها، فإنه صلى الله عليه وسلم يشفع في الخلق لإراحتهم من هول الموقف، ويشفع في بعض الكفار، بتخفيف العذاب كما صح في حق أبي طالب، ويشفع في بعض المؤمنين بالخروج من النار بعد أن دخلوها، وفي بعضهم بعدم دخولها بعد أن استوجبوا دخولها، وفي بعضهم بدخول الجنة بغير حساب، وفي بعضهم برفع الدرجات فيها. فظهر الاشتراك في السعادة بالشفاعة وأن أسعدهم بها المؤمن المخلص. والله أعلم. قوله: (من قلبه، أو نفسه) شك من الراوي، وللمصنف في الرقاق " خالصا من قبل نفسه " وذكر ذلك على سبيل التأكيد كما في قوله تعالى: (فإنه آثم قلبه) وفي الحديث دليل على اشتراط النطق بكلمتي الشهادة لتعبيره بالقول في قوله: " من قال". *3*باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْهُ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ بِذَلِكَ يَعْنِي حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى قَوْلِهِ ذَهَابَ الْعُلَمَاءِ الشرح: قوله: (باب كيف يقبض العلم) أي كيفية قبض العلم. قوله: (إلى أبي بكر بن حزم) هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري نسب إلى جد أبيه ولجده عمرو صحبة، ولأبيه محمد رؤية، وأبو بكر تابعي فقيه استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة وقضائها ولهذا كتب إليه. ولا يعرف له اسم سوى أبي بكر وقيل كنيته أبو عبد الملك واسمه أبو بكر وقيل اسمه كنيته. قوله: (انظر ما كان) أي اجمع الذي تجد. ووقع هنا للكشميهني عندك أي في بلدك. قوله: (فاكتبه) يستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي. وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ فلما خاف عمر بن عبد العزيز وكان على رأس المائة الأولى من ذهاب العلم بموت العلماء رأى أن في تدوينه ضبطا له وإبقاء. وقد روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان هذه القصة بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه. قوله: (ولا يقبل) هو بضم الياء التحتانية وسكون اللام وبسكونها وكسرها معا في وليفشوا وليجلسوا. قوله: (حتى يعلم) هو بضم أوله وتشديد اللام، وللكشميهني يعلم بفتح أوله وتخفيف اللام. قوله: (يهلك) بفتح أوله وكسر اللام. قوله: (حدثنا العلاء) لم يقع وصل هذا التعليق عند الكشميهني ولا كريمة ولا ابن عساكر إلى قوله ذهاب العلماء، وهو محتمل لأن يكون ما بعده ليس من كلام عمر أو من كلامه ولم يدخل في هذه الرواية، والأول أظهر، وبه صرح أبو نعيم في المستخرج ولم أجده في مواضع كثيرة إلا كذلك، وعلى هذا فبقيته من كلام المصنف أورده تلو كلام عمر، ثم بين أن ذلك غاية ما انتهى إليه كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا قَالَ الْفِرَبْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ قَالَ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ الشرح: قوله: (حدثني مالك) قال الدارقطني: لم يروه في الموطأ إلا معن بن عيسى، ورواه أصحاب مالك كابن وهب وغيره عن مالك خارج الموطأ، وأفاد ابن عبد البر أن سليمان بن يزيد رواه أيضا في الموطأ والله أعلم. وقد اشتهر هذا الحديث من رواية هشام بن عروة فوقع لنا من رواية أكثر من سبعين نفسا عنه من أهل الحرمين والعراقين والشام وخراسان ومصر وغيرها، ووافقه على روايته عن أبيه عروة أبو الأسود المدني وحديثه في الصحيحين، والزهري وحديثه في النسائي، ويحيي بن أبي كثير وحديثه في صحيح أبي عوانة، ووافق أباه على روايته عن عبد الله بن عمرو بن الحكم بن ثوبان وحديثه في مسلم. قوله: (لا يقبض العلم انتزاعا) أي محوا من الصدور، وكان تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع كما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي أمامه قال: لما كان في حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع " فقال أعرابي: كيف يرفع؟ فقال: ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته. ثلاث مرات. قال ابن المنير: محو العلم من الصدور جائز في القدرة، إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه. قوله: (حتى إذا لم يبق عالم) هو بفتح الياء والقاف، وللأصيلي بضم أوله وكسر القاف، وعالما منصوب أي لم يبق الله عالما. وفي رواية مسلم: " حتى إذا لم يترك عالما"، قوله: (رءوسا) قال النووي: ضبطناه بضم الهمزة والتنوين جمع رأس. قلت: وفي رواية أبي ذر أيضا بفتح الهمزة، وفي آخره همزة أخرى مفتوحة جمع رئيس. قوله: (بغير علم) وفي رواية أبي الأسود في الاعتصام عند المصنف: " فيفتون برأيهم " ورواها مسلم كالأولى. قوله: (قال الفربري) هذا من زيادات الراوي عن البخاري في بعض الأسانيد، وهي قليلة. قوله: (نحوه) أي بمعنى حديث مالك. ولفظ رواية قتيبة هذه أخرجها مسلم عنه، وفي هذا الحديث الحث على حفظ العلم، والتحذير من ترئيس الجهلة، وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية وذم من يقدم عليها بغير علم. واستدل به الجمهور على القول بخلو الزمان عن مجتهد، ولله الأمر يفعل ما يشاء. وسيكون لنا في المسألة عود في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. |
01-31-2013, 01:14 PM | #69 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب هَلْ يُجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ فِي الْعِلْمِ
الشرح: قوله: (باب هل يجعل) أي الإمام، وللأصيلي وكريمة: " يجعل " بضم أوله، وعندهما يوم بالرفع لأجل ذلك. قوله: (على حدة) بكسر المهملة وفتح الدال المهملة المخففة أي ناحية وحدهن، والهاء عوض عن الواو المحذوفة كما قالوا في عدة من الوعد. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَتْ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ وَاثْنَتَيْنِ فَقَالَ وَاثْنَتَيْنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ الشرح: قوله: (حدثنا آدم) هو ابن أبي إياس. قوله: (قال النساء) كذا لأبي ذر، وللباقين " قالت النساء " وكلاهما جائز. و " غلبنا " بفتح الموحدة و " الرجال " بالضم لأنه فاعله. قوله: (فاجعل لنا) أي عين لنا. وعبر عنه بالجعل لأنه لازمه. ومن ابتدائية متعلقة باجعل، والمراد رد ذلك إلى اختياره. قوله: (فوعظهن) التقدير فوفى بوعده فلقيهن فوعظهن. ووقع في رواية سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بنحو هذه القصة فقال: " موعدكن بيت فلانة " فأتاهن فحدثهن. قوله: (وأمرهن) أي بالصدقة، أو حذف المأمور به لإرادة التعميم. قوله: (ما منكن امرأة) ، وللأصيلي ما من امرأة و " من " زائدة لفظا. وقوله تقدم صفة لامرأة. قوله: (إلا كان لها) أي التقديم (حجابا) . وللأصيلي " حجاب " بالرفع وتعرب كان تامة أي حصل لها حجاب. وللمصنف في الجنائز إلا كن لها أي الأنفس التي تقدم. وله في الاعتصام إلا كانوا أي الأولاد. قوله: (فقالت امرأة) هي أم سليم، وقيل غيرها كما سنوضحه في الجنائز. قوله: (واثنين) ولكريمة " واثنتين " بزيادة تاء التأنيث، وهو منصوب بالعطف على ثلاثة ويسمى العطف التلقيني، وكأنها فهمت الحصر وطمعت في الفضل فسألت عن حكم الاثنين هل يلتحق بالثلاثة أو لا، وسيأتي في الجنائز الكلام في تقديم الواحد. قوله: (حدثني محمد بن بشار) أفاد بهذا الإسناد فائدتين: إحداهما تسمية ابن الأصبهاني المبهم في الرواية الأولى، والثانية زيادة طريق أبي هريرة التي زاد فيها التقييد بعدم بلوغ الحنث، أي الإثم. والمعنى أنهم ماتوا قبل أن يبلغوا، لأن الإثم إنما يكتب بعد البلوغ، وكأن السر فيه أنه لا ينسب إليهم إذ ذاك عقوق فيكون الحزن عليهم أشد. وفي الحديث ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعليم أمور الدين، وفيه جواز الوعد، وأن أطفال المسلمين في الجنة، وأن من مات له ولدان حجباه من النار، ولا اختصاص لذلك بالنساء كما سيأتي التنصيص عليه في الجنائز. (تنبيه) حديث أبي هريرة مرفوع. والواو في قوله: " وقال " للعطف على محذوف تقديره مثله أي مثل حديث أبي سعيد، والواو في قوله " وعن عبد الرحمن " للعطف على قوله أولا: " عن عبد الرحمن". والحاصل أن شعبة يرويه عن عبد الرحمن بإسنادين، فهو موصول، ووهم من زعم أنه معلق. |
01-31-2013, 01:15 PM | #70 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
3*باب مَنْ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَفْهَمْهُ فَرَاجَعَ فِيهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ الشرح:
قوله: (باب من سمع شيئا) زاد أبو ذر فلم يفهمه. قوله: (فراجعه) أي راجع الذي سمعه منه. وللأصيلي فراجع فيه. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا قَالَتْ فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ الشرح: قوله: (أن عائشة) ظاهر أوله الإرسال، لأن ابن أبي مليكة تابعي لم يدرك مراجعة عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن تبين وصله بعد في قوله: " قالت عائشة فقلت". قوله: (كانت لا تسمع) أتى بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لقوة تحققها. قوله: (إنما ذلك) بكسر الكاف (العرض) أي عرض الناس على الميزان. قوله: (نوقش) بالقاف والمعجمة من المناقشة وأصلها الاستخراج، ومنه نقش الشوكة إذا استخرجها، والمراد هنا المبالغة في الاستيفاء، والمعنى أن تحرير الحساب يفضي إلى استحقاق العذاب، لأن حسنات العبد موقوقة على القبول، وإن لم تقع الرحمة المقتضية للقبول لا يحصل النجاء. قوله في آخره (يهلك) بكسر اللام وإسكان الكاف. وفي الحديث ما كان عند عائشة من الحرص على تقهم معاني الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتضجر من المراجعة في العلم. وفيه جواز المناظرة، ومقابلة السنة بالكتاب، وتفاوت الناس في الحساب. وفيه أن السؤال عن مثل هذا لم يدخل فيما نهي الصحابة عنه في قوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء) وفي حديث أنس: " كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء " وقد وقع نحو ذلك لغير عائشة، ففي حديث حفصة أنها لما سمعت: " لا يدخل النار أحد ممن شهد بدرا والحديبية " قالت. أليس الله يقول: (وإن منكم إلا واردها) فأجيبت بقوله: (ثم ننجي الذين اتقوا) الآية، وسأل الصحابة لما نزلت: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) : أينا لم يظلم نفسه؟ فأجيبوا بأن المراد بالظلم الشرك. والجامع بين هذه المسائل الثلاث ظهور العموم في الحساب والورود والظلم. فأوضح لهم أن المراد في كل منها أمر خاص. ولم يقع مثل هذا من الصحابة إلا قليلا مع توجه السؤال وظهوره، وذلك لكمال فهمهم ومعرفتهم باللسان العربي، فيحمل ما ورد من ذم من سأل عن المشكلات على من سأل تعنتا كما قال تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) وفي حديث عائشة: " فإذا رأيتم الذين يسألون عن ذلك فهم الذين سمى الله فاحذروهم " ومن ثم أنكر عمر على صبيغ لما رآه أكثر من السؤال عن مثل ذلك وعاقبه، وسيأتي إيضاح هذا كله في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. وسيأتي باقيه في كتاب الرقاق، وكذا الكلام على انتقاد الدارقطني لإسناده إن شاء الله تعالى. *3*باب لِيُبَلِّغْ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب ليبلغ العلم) النصب والشاهد بالرفع والغائب منصوب أيضا. والمراد بالشاهد هنا الحاضر، أي ليبلغ من حضر من غاب، لأنه المفعول الأول والعلم المفعول الثاني وإن قدم في الذكر. قوله: (قاله ابن عباس) أي رواه، وليس هو في شيء من طرق حديث ابن عباس بهذه الصورة، وإنما هو في روايته ورواية غيره بحذف العلم، وكأنه أراد بالمعنى لأن المأمور بتبليغه هو العلم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقُولُوا إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ مَا قَالَ عَمْرٌو قَالَ أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ الشرح: قوله: (عن أبي شريح) هو الخزاعي الصحابي المشهور، وعمرو بن سعيد هو ابن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي يعرف بالأشدق، وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان. قوله: (وهو يبعث البعوث) أي يرسل الجيوش إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير لكونه امتنع من مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم بالحرم، وكان عمرو والي يزيد على المدينة، والقصة مشهورة، وملخصها أن معاوية عهد بالخلافة بعده ليزيد بن معاوية، فبايعه الناس إلا الحسين بن علي وابن الزبير، فأما ابن أبي بكر فمات قبل موت معاوية، وأما ابن عمر فبايع ليزيد عقب موت أبيه، وأما الحسين بن علي فسار إلى الكوفة لاستدعائهم إياه ليبايعوه فكان ذلك سبب قتله، وأما ابن الزبير فاعتصم ويسمى عائذ البيت وغلب على أمر مكة، فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهزوا إليه الجيوش، فكان آخر ذلك أن أهل المدينة اجتمعوا على خلع يزيد من الخلافة. قوله: (ائذن لي) فيه حسن التلطف في الإنكار على أمراء الجور ليكون أدعى لقبولهم. قوله: (أحدثك) بالجزم لأنه جواب الأمر. قوله: (قام) صفة للقول، والمقول هو حمد الله الخ. قوله: (الغد) النصب أي أنه خطب في اليوم الثاني من فتح مكة. قوله: (سمعته أذناني الخ) أراد أنه بالغ في حفظه والتثبت فيه وأنه لم يأخذه بواسطة. وأتى بالتثنية تأكيدا، والضمير في قوله: " تكلم به " عائد على قوله قولا. قوله: (ولم يحرمها الناس) بالضم أي أن تحريمها كان بوحي من الله لا من اصطلاح الناس، قوله: (يسفك) كسر الفاء وحكي ضمها، وهو صب الدم، والمراد به القتل. قوله: (ولا يعضد) بكسر الضاد المعجمة وفتح الدال أي يقطع بالمعضد وهو آلة كالفأس. قوله: (وإنما أذن لي) أي الله، روي بضم الهمزة. وفي قوله " لي " التفات لأن نسق الكلام وإنما أذن له أي لرسوله. قوله: (ساعة) أي مقدارا من الزمان، والمراد به يوم الفتح. وفي مسند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ذلك كان من طلوع الشمس إلى العصر، والمأذون له فيه القتال لا قطع الشجر. قوله: (ما قال عمرو) أي في جوابك. قوله: (لا تعيذ) بضم المثناة أوله وآخره ذال معجمة أي مكة لا تعصم العاصي عن إقامة الحد عليه قوله: (ولا فارا) بالفاء والراء المشددة أي هاربا عليه دم يعتصم بمكة كيلا يقتص منه. قوله: (بخربة) فتح المعجمة وإسكان الراء ثم موحدة يعني السرقة كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي، قال ابن بطال: الخربة بالضم الفساد، وبالفتح السرقة. وقد تشدق عمرو في الجواب وأتى بكلام ظاهره حق لكن أراد به الباطل، فإن الصحابي أنكر عليه نصب الحرب على مكة فأجابه بأنها لا تمنع من إقامة القصاص، وهو صحيح إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمرا يجب عليه فيه شيء من ذلك، وسنذكر مباحث هذا الحديث في كتاب الحج، وما للعلماء فيه من الاختلاف في القتال في الحرم إن شاء الله تعالى. وفي الحديث شرف مكة، وتقديم الحمد والثناء على القول المقصود، وإثبات خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم واستواء المسلمين معه في الحكم إلا ما ثبت تخصيصه به، ووقوع النسخ، وفضل أبي شريح لاتباعه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه وغير ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ذُكِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا أَلَا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ الشرح: قوله: (حدثنا حماد) هو ابن زيد. قوله: (عن محمد) هو ابن سيرين (عن ابن أبي بكرة) كذا للمستملي والكشميهني، وسقط عن ابن أبي بكرة للباقين فصار منقطعا لأن محمدا لم يسمع من أبي بكرة. وفي رواية " عن محمد بن أبي بكرة " وهي خطأ وكأن " عن " سقطت منها، وقد تقدم هذا الحديث في أوائل كتاب العلم من طريق أخرى: " عن محمد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه " وهو الصواب، وسيأتي بهذا السند في تفسير سورة براءة بإسقاطه عن بعضهم وسأنبه عليه هناك إن شاء الله تعالى وفيه: " عن ابن أبي بكرة " عند الجميع، ويأتي في بدء الخلق. قوله: (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم) فيه اختصار وقد قدمنا توجيهه هناك، وكأنه حدث بحديث ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من كلامه ومن جملته قوله: " فإن دماءكم " الخ. قوله: (قال محمد) هو ابن سيرين. قوله: (أحسبه) أنه شك في قوله: " وأعراضكم " أقالها ابن أبي بكر أم لا، وقد تقدم في أوائل العلم الجزم بها وهي منصوبة بالعطف. قوله: (ألا هل بلغت) هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تكملة الحديث، واعترض قوله: " وكان محمد " إلى قوله: " ذلك " في أثناء الحديث، هذا هو المعتمد فلا يلتفت إلى ما عداه. والعلم عند الله تعالى. *3*باب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم) يس في الأحاديث التي في الباب تصريح بالإثم، وإنما هو مستفاد من الوعيد بالنار على ذلك لأنه لازمه. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ قَالَ سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ الشرح: قوله: (منصور) هو ابن المعتمر الكوفي، وهو تابعي صغير، وربعي بكسر أوله وإسكان الموحدة، وأبوه حراش بكسر المهملة أوله وهو من كبار التابعين. قوله: (سمعت عليا) هو ابن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: (لا تكذبوا علي) و عام في كل كاذب، مطلق في كل نوع من الكذب، ومعناه لا تنسبوا الكذب إلي. ولا مفهوم لقوله: " علي " لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب. وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دروا أن تقويله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى، لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه. ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامية حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتجوا بأنه كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت وهي ما أخرجه البزار من حديث ابن مسعود بلفظ: " من كذب علي ليضل به الناس " الحديث، وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، وأخرجه الدارمي من حديث يعلى بن مرة بسند ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة كما فسر قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس) والمعنى أن مآل أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر فلا مفهوم له كقوله تعالى: (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة - ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) فإن قتل الأولاد ومضاعفة الربا والإضلال في هذه الآيات إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا لاختصاص الحكم. قوله: (فليلج النار) جعل الأمر بالولوج مسببا عن الكذب، لأن لازم الأمر الإلزام والإلزام بولوج النار سببه الكذب عليه أو هو بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة بلفظ " من يكذب علي يلج النار " ولابن ماجه من طريق شريك عن منصور قال: " الكذب علي يولج - أي يدخل - النار". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ قَالَ أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ الشرح: قوله: (حدثنا أبو الوليد) هو الطيالسي و (جامع بن شداد) كوفي تابعي صغير. وفي الإسناد لطيفتان إحداهما أنه من رواية تابعي عن تابعي يرويه صحابي عن صحابي. ثانيهما أنه من رواية الأبناء عن الآباء بخصوص رواية الأب عن الجد وقد أفردت بالتصنيف. قوله: (قلت للزبير) أي ابن العوام. قوله: (تحدث) حذف مفعولها ليشمل قوله: (كما يحدث فلان وفلان) سمي منهما في رواية ابن ماجه عبد الله بن مسعود. قوله: (أما) بالميم المخففة وهي من حروف التنبيه و (إني) بكسر الهمزة (لم أفارقه) أي لم أفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد الإسماعيلي: " منذ أسلمت " والمراد في الأغلب وإلا فقد هاجر الزبير إلى الحبشة، وكذا لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حال هجرته إلى المدينة. وإنما أورد هذا الكلام على سبيل التوجيه للسؤال، لأن لازم الملازمة السماع، ولازمه عادة التحديث، لكن منعه من ذلك ما خشيه من معنى الحديث الذي ذكره، ولهذا أتى بقوله: " لكن " وقد أخرجه الزبير بن بكار في كتاب النسب من وجه آخر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: " عناني ذلك " يعني قلة رواية الزبير: " فسألته " أي عن ذلك " فقال: يا بني، كان بيني وبينه من القرابة والرحم ما علمت، وعمته أمي، وزوجته خديجة عمتي، وأمه آمنة بنت وهب وجدتي هالة بنت وهيب ابني عبد مناف بن زهرة، وعندي أمك، وأختها عائشة عنده، ولكني سمعته يقول". قوله: (من كذب علي) كذا رواه البخاري ليس فيه " متعمدا " وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة، وكذا في رواية الزبير بن بكار المذكورة، وأخرجه ابن ماجه من طريقه وزاد فيه " متعمدا " وكذا للإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة، والاختلاف فيه على شعبة. وقد أخرجه الدارمي من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: " من حدث عني كذبا " ولم يذكر العمد. وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ، والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر، لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مظنة الخطأ، والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سببا للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار، فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت، أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان. رضي الله عنهم. قوله: (فليتبوأ) أي فليتخذ لنفسه منزلا، يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكنا، وهو أمر بمعنى الخبر أيضا، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء على فاعل ذلك أي بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوء ويلزم عليه كذا، قال: وأولها أولاها، فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ " بني له بيت في النار " قال الطيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد بجزائه التبوء. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ الشرح: قوله: (حدثنا أبو معمر) و البصري المقعد، وعبد الوارث هو ابن سعيد، وعبد العزيز هو ابن صهيب. والإسناد كله بصريون. قوله: (حديثا) المراد به جنس الحديث، ولهذا وصفه بالكثرة. قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم) هو وما بعده في محل الرفع لأنه فاعل يمنعني، وإنما خشي أنس مما خشي منه الزبير، ولهذا صرح بلفظ الإكثار لأنه مظنة، ومن حام حول الحمى لا يأمن وقوعه فيه، فكان التقليل منهم للاحتراز، ومع ذلك فأنس من المكثرين لأنه تأخرت وفاته فاحتيج إليه كما قدمناه ولم يمكنه الكتمان. ويجمع بأنه لو حدث بجميع ما عنده لكان أضعاف ما حدث به. ووقع في رواية عتاب - بمهملة ومثناة فوقانية - مولى هرمز، سمعت أنسا يقول: " لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتك بأشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحديث أخرجه أحمد بإسناد، فأشار إلى أنه لا يحدث إلا ما تحققه ويترك ما يشك فيه. وحمله بعضهم على أنه كان يحافظ على الرواية باللفظ فأشار إلى ذلك بقوله: " لولا أن أخطئ". وفيه نظر، والمعروف عن أنس جواز الرواية بالمعنى كما أخرجه الخطيب عنه صريحا، وقد وجد في رواياته ذلك كالحديث في البسملة، وفي قصة تكثير الماء عند الوضوء، وفي قصة تكثير الطعام. قوله: (كذبا) هو نكرة في سياق الشرط فيعم جميع أنواع الكذب. الحديث: حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ الشرح: قوله: (حدثنا المكي) هو اسم وليس بنسب كما تقدم: وهو من كبار شيوخ البخاري، سمع من سبعة عشر نفسا من التابعين منهم يزيد بن أبي عبيد المذكور هنا، وهو مولى سلمة بن الأكوع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث أول ثلاثي وقع في البخاري، وليس فيه أعلى من الثلاثيات، وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثا. قوله: (من يقل) أصله يقول وإنما جزم بالشرط. قوله: (ما لم أقل) أي شيئا لم أقله فحذف العائد وهو جائز وذكر القول لأنه الأكثر وحكم الفعل كذلك لاشتراكهما في علة الامتناع وقد دخل الفعل في عموم حديث الزبير وأنس السابقين لتعبيرهما بلفظ الكذب عليه ومثلهما حديث أبي هريرة الذي ذكره بعد حديث سلمة فلا فرق في ذلك بين أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وفعل كذا إذا لم يكن قاله أو فعله، وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى. وأجاب المجيزون عنه بأن المراد النهي عن الإتيان بلفظ يوجب تغير الحكم مع أن الإتيان باللفظ لا شك في أولويته. والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ الشرح: قوله: (حدثنا موسى) هو ابن إسماعيل التبوذكي. قوله: (عن أبي حصين) هو بمهملتين مفتوح الأول، وأبو صالح هو ذكوان السمان. وقد ذكر المؤلف هذا الحديث بتمامه في كتاب الأدب من هذا الوجه، ويأتي الكلام عليه فيه إن شاء الله تعالى. وقد اقتصر مسلم في روايته له على الجملة الأخيرة وهي مقصود الباب، وإنما ساقه المؤلف بتمامه ولم يختصره كعادته لينبه على أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يستوي فيه اليقظة والمنام. والله سبحانه وتعالى أعلم. فإن قيل: الكذب معصية إلا ما استثني في الإصلاح وغيره، والمعاصي قد توعد عليها بالنار، فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد على من كذب على غيره؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما أن الكذب عليه يكفر متعمده عند بعض أهل العلم، وهو الشيخ أبو محمد الجويني، لكن ضعفه ابنه إمام الحرمين ومن بعده، ومال ابن المنير إلى اختياره، ووجهه بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر. وفيما قاله نظر لا يخفى، والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك. الجواب الثاني أن الكذب عليه كبيرة والكذب على غيره صغيرة فافترقا، ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحدا أو طول إقامتهما سواء، فقد دل قوله صلى الله عليه وسلم: " فليتبوأ " على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه لم يجعل له منزلا غيره، إلا أن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكذب عليه وبين الكذب على غيره كما سيأتي في الجنائز في حديث المغيرة حيث يقول " إن كذبا علي ليس ككذب على أحد " وسنذكر مباحثه هناك إن شاء الله تعالى، ونذكر فيه الاختلاف في توبة من تعمد الكذب عليه هل تقبل أو لا. (تنبيه) : رتب المصنف أحاديث الباب ترتيبا حسنا لأنه بدأ بحديث علي وفيه مقصود الباب، وثنى بحديث الزبير الدال على توقي الصحابة وتحرزهم من الكذب عليه، وثلث بحديث أنس الدال على أن امتناعهم إنما كان من الإكثار المفضي إلى الخطأ لا عن أصل التحديث، لأنهم مأمورون بالتبليغ، وختم بحديث أبي هريرة الذي فيه الإشارة إلى استواء تحريم الكذب عليه سواء كانت دعوى السماع منه في اليقظة أو في المنام. وقد أخرج البخاري حديث: " من كذب علي " أيضا من حديث المغيرة وهو في الجنائز، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وهو في أخبار بني إسرائيل، ومن حديث واثلة بن الأسقع وهو في مناقب قريش، لكن ليس هو بلفظ الوعيد بالنار صريحا. واتفق مسلم معه على تخريج حديث علي وأنس وأبي هريرة والمغيرة، وأخرجه مسلم من حديث أبي سعيد أيضا، وصح أيضا في غير الصحيحين من حديث عثمان بن عفان وابن مسعود وابن عمر وأبي قتادة وجابر وزيد بن أرقم، وورد بأسانيد حسان من حديث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر وعمران بن حصين وابن عباس وسلمان الفارسي ومعاوية بن أبي سفيان ورافع بن خديج وطارق الأشجعي والسائب بن يزيد وخالد بن عرفطة وأبي أمامة وأبي قرضافة وأبي موسى الغافقي وعائشة، فهؤلاء [ثلاثة و] ثلاثون نفسا من الصحابة، وورد أيضا عن نحو خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو من عشرين آخرين بأسانيد ساقطة. وقد اعتنى جماعة من الحفاظ بجمع طرقه، فأول من وقفت على كلامه في ذلك علي بن المديني، وتبعه يعقوب بن شيبة فقال: روي هذا الحديث من عشرين وجها عن الصحابة من الحجازيين وغيرهم، ثم إبراهيم الحربي وأبو بكر البزار فقال كل منهما: إنه ورد من حديث أربعين من الصحابة، وجمع طرقه في ذلك العصر أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد فزاد قليلا. وقال أبو بكر الصحابي شارح رسالة الشافعي: رواه ستون نفسا من الصحابة، وجمع طرقه الطبراني فزاد قليلا. وقال أبو القاسم بن منده رواه أكثر من ثمانين نفسا، وقد خرجها بعض النيسابوريين فزادت قليلا، وقد جمع طرقه ابن الجوزي في مقدمة كتاب " الموضوعات " فجاوز التسعين، وبذلك جزم ابن دحية. وقال أبو موسى المديني: يرويه نحو مائة من الصحابة، وقد جمعها بعده الحافظان يوسف بن خليل وأبو علي البكري وهما متعاصران فوقع لكل منهما ما ليس عند الأخر، وتحصل من مجموع ذلك كله رواية مائة من الصحابة على ما فصلته من صحيح وحسن وضعيف وساقط، مع أن فيها ما هو في مطلق ذم الكذب عليه من غير تقييد بهذا الوعيد الخاص. ونقل النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة، ولأجل كثرة طرقه أطلق عليه جماعة أنه متواتر، ونازع بعض مشايخنا في ذلك قال: لأن شرط التواتر استواء طرفيه وما بينهما في الكثرة، وليست موجودة في كل طريق منها بمفردها. وأجيب بأن المراد بإطلاق كونه متواترا رواية المجموع عن المجموع من ابتدائه إلى انتهائه في كل عصر، وهذا كاف في إفادة العلم. وأيضا فطريق أنس وحدها قد رواها عنه العدد الكثير وتواترت عنهم. نعم وحديث علي رواه عنه ستة من مشاهير التابعين وثقاتهم، وكذا حديث ابن مسعود وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو، فلو قيل في كل منها إنه متواتر عن صحابيه لكان صحيحا، فإن العدد المعين لا يشترط في المتواتر، بل ما أفاد العلم كفى، والصفات العلية في الرواة تقوم مقام العدد أو تزيد عليه كما قررته في نكت علوم الحديث وفي شرح نخبة الفكر، وبينت هناك الرد على من ادعى أن مثال المتواتر لا يوجد إلا في هذا الحديث، وبينت أن أمثلته كثيرة: منها حديث من بنى لله مسجدا، والمسح على الخفين، ورفع اليدين، والشفاعة والحوض ورؤية الله في الآخرة، والأئمة من قريش وغير ذلك. والله المستعان. وأما ما نقله البيهقي عن الحاكم ووافقه أنه جاء من رواية العشرة المشهورة، قال: وليس في الدنيا حديث أجمع العشرة على روايته غيره، فقد تعقبه غير واحد، لكن الطرق عنهم موجودة فيما جمعه ابن الجوزي ومن بعده، والثابت منها ما قدمت ذكره. فمن الصحاح علي والزبير، ومن الحسان طلحة وسعد وسعيد وأبو عبيدة، ومن الضعيف المتماسك طريق عثمان، وبقيتها ضعيف وساقط. |
01-31-2013, 01:16 PM | #71 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ
الشرح: قوله: (باب كتابة العلم) طريقة البخاري في الأحكام التي يقع فيها الاختلاف أن لا يجزم فيها بشيء يل يوردها على الاحتمال. وهذه الترجمة من ذلك، لأن السلف اختلفوا في ذلك عملا وتركا، وإن كان الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ قَالَ لَا إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ قُلْتُ فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ الشرح: قوله: (حدثنا ابن سلام) كذا للأصيلي، واسمه محمد، وقد صرح به أبو داود وغيره. قوله: (عن سفيان) و الثوري، لأن وكيعا مشهور بالرواية عنه. وقال أبو مسعود الدمشقي في الأطراف. يقال إنه ابن عيينة. قلت: لو كان ابن عيينة لنسبه لأن القاعدة في كل من روى عن متفقي الاسم أن يحمل من أهمل نسبته على من يكون له به خصوصية من إكثار ونحوه كما قدمناه قبل هذا، وهكذا نقول هنا لأن وكيعا قليل الرواية عن ابن عيينة بخلاف الثوري. قوله: (عن مطرف) هو بفتح الطاء المهملة وكسر الراء ابن طريف بطاء مهملة أيضا. قوله: (عن الشعبي) وللمصنف في الديات سمعت الشعبي. قوله: (عن أبي جحيفة) هو وهب السوائي، وقد صرح بذلك الإسماعيلي في روايته، وللمصنف في الديات: سمعت أبا جحيفة. والإسناد كله كوفيون إلا شيخ البخاري وقد دخل الكوفة، وهو من رواية صحابي عن صحابي. قوله: (قلت لعلي) هو ابن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: (هل عندكم) الخطاب لعلي، والجمع إما لإرادته مع بقية أهل البيت أو للتعظيم. قوله: (كتاب) أي مكتوب أخذتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أوحي إليه، ويدل على ذلك رواية المصنف في الجهاد: " هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله " وله في الديات " هل عندكم شيء مما ليس في القرآن " وفي مسند إسحاق بن راهويه عن جرير عن مطرف: " هل علمت شيئا من الوحي " وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت - لا سيما عليا - أشياء من الوحي خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها. وقد سأل عليا عن هذه المسألة أيضا قيس بن عباد - وهو بضم المهملة وتخفيف الموحدة - والأشتر النخعي وحديثهما في مسند النسائي. قوله: (قال لا) زاد المصنف في الجهاد " لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة". قوله: (إلا كتاب الله) هو بالرفع. وقال ابن المنير: فيه دليل على أنه كان عنده أشياء مكتوبة من الفقه المستنبط من كتاب الله، وهي المراد بقوله: أو فهم أعطيه رجل " لأنه ذكر بالرفع، فلو كان الاستثناء من غير الجنس لكان منصوبا. كذا قال، والظاهر أن الاستثناء فيه منقطع، والمراد بذكر الفهم إثبات إمكان الزيادة على ما في الكتاب. وقد رواه المصنف في الديات بلفظ: " ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطى رجل من الكتاب " فالاستثناء الأول مفرغ والثاني منقطع، معناه لكن إن أعطى الله رجلا فهما في كتابه فهو يقدر على الاستنباط فتحصل عنده الزيادة بذلك الاعتبار. وقد روى أحمد بإسناد حسن من طريق طارق بن شهاب قال: شهدت عليا على المنبر وهو يقول: " والله ما عندنا كتاب نقرأه عليكم إلا كتاب الله وهذه الصحيفة " وهو يؤيد ما قلناه أنه لم يرد بالفهم شيئا مكتوبا. قوله: (الصحيفة) أي الورقة المكتوبة. وللنسائي من طريق الأشتر " فأخرج كتابا من قراب سيفه". قوله: (العقل) أي الدية، وإنما سميت به لأنهم كانوا يعطون فيها الإبل ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال وهو الحبل. ووقع في رواية ابن ماجه بدل العقل " الديات " والمراد أحكامها ومقاديرها وأصنافها. قوله: (وفكاك) بكسر الفاء وفتحها. وقال الفراء الفتح أفصح، والمعنى أن فيها حكم تخليص الأسير من يد العدو والترغيب في ذلك. قوله: (ولا يقتل) بضم اللام، وللكشميهني: " وأن لا يقتل " بفتح اللام، وعطفت الجملة على المفرد لأن التقدير فيها أي الصحيفة حكم العقل وحكم تحريم قتل المسلم بالكافر، وسيأتي الكلام على مسألة قتل المسلم بالكافر في كتاب القصاص والديات إن شاء الله تعالى. ووقع للمصنف ومسلم من طريق يزيد التيمي عن علي قال: " ما عندنا شيء نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة. فإذا فيها: المدينة حرم. " الحديث. ولمسلم عن أبي الطفيل عن علي: " ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما في قراب سيفي هذا. وأخرج صحيفة مكتوبة فيها: لعن الله من ذبح لغير الله. " الحديث. وللنسائي من طريق الأشتر وغيره عن علي: " فإذا فيها: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم. . " الحديث. ولأحمد من طريق طارق بن شهاب: " فيها فرائض الصدقة " والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة وكان جميع ذلك مكتوبا فيها، فنقل كل واحد من الرواية عنه ما حفظه والله أعلم. وقد بين ذلك قتادة في روايته لهذا الحديث عن أبي حسان عن علي، وبين أيضا السبب في سؤالهم لعلي رضي الله عنه عن ذلك أخرجه أحمد والبيهقي في الدلائل من طريق أبي حسان أن عليا كان يأمر بالأمر فيقال: قد فعلناه. فيقول: صدق الله ورسوله. فقال له الأشتر: هذا الذي تقول أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون الناس؟ فذكره بطوله. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْقَتْلَ أَوْ الْفِيلَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَذَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ وَاجْعَلُوهُ عَلَى الشَّكِّ الْفِيلَ أَوْ الْقَتْلَ وَغَيْرُهُ يَقُولُ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدِي أَلَا وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ اكْتُبُوا لِأَبِي فُلَانٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْإِذْخِرَ إِلَّا الْإِذْخِرَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يُقَالُ يُقَادُ بِالْقَافِ فَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ كَتَبَ لَهُ قَالَ كَتَبَ لَهُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ الشرح: قوله: (حدثنا شيبان) هو ابن عبد الرحمن يكنى أبا معاوية، وهو بفتح الشين المعجمة بعدها تحتانية ثم موحدة، وليس في البخاري بهذه الصورة غيره. قوله: (عن يحيى) هو ابن أبي كثير. قوله: (عن أبي سلمة) في رواية المصنف في الديات: " حدثنا أبو سلمة حدثنا أبو هريرة". قوله: (أن خزاعة) أي القبيلة المشهورة، والمراد واحد منهم فأطلق عليه اسم القبيلة مجازا، واسم هذا القاتل خراش بن أمية الخزاعي، والمقتول في الجاهلية منهم اسمه أحمر، والمقتول في الإسلام من بني ليث لم يسم. قوله: (حبس) أي منع عن مكة. (القتل) أي بالقاف والمثناة من فوق (أو الفيل) أي بالفاء المكسورة بعدها ياء تحتانية. قوله: (كذا قال أبو نعيم) أراد البخاري أن الشك فيه من شيخه. قوله: (وغيره يقول: الفيل) أي بالفاء ولا يشك، والمراد بالغير من رواه عن شيبان رفيقا لأبي نعيم وهو عبيد الله بن موسى، ومن رواه عن يحيى رفيقا لشيبان وهو حرب بن شداد كما سيأتي بيانه عند المصنف في الديات، والمراد بحبس الفيل أهل الفيل وأشار بذلك إلى القصة المشهورة للحبشة في غزوهم مكة ومعهم الفيل فمنعها الله منهم وسلط عليهم الطير الأبابيل مع كون أهل مكة إذ ذاك كانوا كفارا، فحرمة أهلها بعد الإسلام آكد، لكن غزو النبي صلى الله عليه وسلم إياها مخصوص به على ظاهر هذا الحديث وغيره، وسيأتي الكلام على المسألة في كتاب الحج مفصلا إن شاء تعالى. قوله: (وسلط عليهم) هو بضم أوله، ورسول مرفوع والمؤمنون معطوف عليه. قوله: (ولا تحل) للكشميهني: " ولم تحل " وللمصنف في اللقطة من طريق الأوزاعي عن يحيى: " ولن " وهي أليق بالمستقبل. قوله: (لا يختلى) بالخاء المعجمة أي لا يحصد يقال اختليته إذا قطعته وذكر الشوك دال على منع قطع غيره من باب أولى، وسيأتي ذكر الخلاف فيه في الحج إن شاء الله تعالى. قوله: (إلا لمنشد) أي معرف، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في كتاب اللقطة إن شاء الله تعالى. قوله: (فمن قتل فهو بخير النظرين) كذا وقع هنا، وفيه حذف وقع بيانه في رواية المصنف في الديات عن أبي نعيم بهذا الإسناد: " فمن قتل له قتيل". قوله: (وإما أن يقاد) هو بالقاف أي يقتص، ووقع في رواية لمسلم " إما أن يفادى " بالفاء وزيادة ياء بعد الدال، والصواب أن الرواية على وجهين: من قالها بالقاف قال فيما قبلها: " إما أن يعقل " من العقل وهو الدية، ومن قالها بالفاء قال فيما قبلها: " إما أن يقتل " بالقاف والمثناة. والحاصل تفسير " النظرين " بالقصاص أو الدية. وفي المسألة بحث يأتي في الديات إن شاء الله تعالى. قوله: (فجاء رجل من أهل اليمن) هو أبو شاه بهاء منونة، وسيأتي في اللقطة مسمى، والإشارة إلى من حرفه، وهناك من الزيادة عن الوليد بن مسلم: " قلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم " قلت: وبهذا تظهر مطابقة هذا الحديث للترجمة. قوله: (فقال رجل من قريش) هو العباس بن عبد المطلب كما يأتي في اللقطة، ووقع في رواية لابن أبي شيبة: " فقال رجل من قريش يقال له شاه " وهو غلط. قوله: (إلا الإذخر) كذا هو في روايتنا بالنصب، ويجوز رفعه على البدل مما قبله. قوله: (إلا الإذخر إلا الإذخر) كذا هو في روايتنا، والثانية على سبيل التأكيد. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الشرح: قوله: (حدثنا عمرو) هو ابن دينار المكي. قوله: (عن أخيه) هو همام بن منبه بتشديد الموحدة المكسورة وكان أكبر منه سنا لكن تأخرت وفاته عن وهب، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين من طبقة متقاربة أولهم عمرو. قوله: (فإنه كان يكتب ولا أكتب) هذا استدلال من أبي هريرة على ما ذكره من أكثرية ما عند عبد الله بن عمرو أي ابن العاص على ما عنده، ويستفاد من ذلك أن أبا هريرة كان جازما بأنه ليس في الصحابة أكثر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم منه إلا عبد الله، مع أن الموجود المروي عن عبد الله بن عمرو أقل من الموجود المروي عن أبي هريرة بأضعاف مضاعفة، فإن قلنا الاستثناء منقطع فلا إشكال، إذ التقدير: لكن الذي كان من عبد الله وهو الكتابة لم يكن مني، سواء لزم منه كونه أكثر حديثا لما تقتضيه العادة أم لا. وإن قلنا الاستثناء متصل فالسبب فيه من جهات: أحدها أن عبد الله كان مشتغلا بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم فقلت الرواية عنه. ثانيها أنه كان أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف ولم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم كالرحلة إلى المدينة، وكان أبو هريرة متصديا فيها للفتوى والتحديث إلى أن مات، ويظهر هذا من كثرة من حمل عن أبي هريرة، فقد ذكر البخاري أنه روى عنه ثمانمائة نفس من التابعين، ولم يقع هذا لغيره. ثالثها ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له بأن لا ينسى ما يحدثه به كما سنذكره قريبا. رابعها أن عبد الله كان قد ظفر في الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب فكان ينظر فيها ويحدث منها فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين. والله أعلم. (تنبيه) : قوله: (ولا أكتب) قد يعارضه ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال: تحدث عند أبي هريرة بحديث، فأخذ بيدي إلى بيته فأرانا كتبا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا هو مكتوب عندي. قال ابن عبد البر: حديث همام أصح، ويمكن الجمع بأنه لم يكن يكتب في العهد النبوي ثم كتب بعده. قلت: وأقوى من ذلك أنه لا يلزم من وجود الحديث مكتوبا عنه أن يكون بخطه، وقد ثبت أنه لم يكن يكتب، فتعين أن المكتوب عنده بغير خطه. قوله: (تابعه معمر) أي ابن راشد يعني تابع وهب بن منبه في روايته لهذا الحديث عن همام، والمتابعة المذكورة أخرجها عبد الرزاق عن معمر، وأخرجها أبو بكر بن علي المروزي في كتاب العلم له عن حجاج بن الشاعر عنه، وروى أحمد والبيهقي في المدخل من طريق عمرو بن شعيب عن مجاهد والمغيرة بن حكيم قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: " ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي ولا أكتب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب عنه فأذن له " إسناده حسن. وله طريق أخرى أخرجها العقيلي في ترجمة عبد الرحمن بن سلمان عن عقيل عن المغيرة بن حكيم سمع أبا هريرة قال: " ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له " الحديث. وعند أحمد وأبي داود من طريق يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو: " كنت أكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهتني قريش " الحديث. وفيه: " اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق " ولهذا طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضا. ولا يلزم منه أن يكونا في الوعي سواء لما قدمناه من اختصاص أبي هريرة بالدعاء بعدم النسيان، ويحتمل أن يقال تحمل أكثرية عبد الله بن عمرو على ما فاز به عبد الله من الكتابة قبل الدعاء لأبي هريرة لأنه قال في حديثه: " فما نسيت شيئا بعد " فجاز أن يدخل عليه النسيان فيما سمعه قبل الدعاء، بخلاف عبد الله فإن الذي سمعه مضبوط بالكتابة، والذي انتشر عن أبي هريرة مع ذلك أضعاف ما انتشر عن عبد الله بن عمرو لتصدي أبي هريرة لذلك ومقامه بالمدينة النبوية، بخلاف عبد الله بن عمرو في الأمرين. ويستفاد منه ومن حديث علي المتقدم ومن قصة أبي شاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة الحديث عنه، وهو يعارض حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن " رواه مسلم. والجمع بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك. أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد والإذن في تفريقهما، أو النهي متقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس وهو أقربها مع أنه لا ينافيها. وقيل النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك، ومنهم من أعل حديث أبي سعيد وقال: الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره. قال العلماء. كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا كما أخذوا حفظا، لكن لما قصرت الهمم وخشي الأئمة ضياع العلم دونوه. وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير. فلله الحمد. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قَالَ ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ قَالَ عُمَرُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ قَالَ قُومُوا عَنِّي وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كِتَابِهِ الشرح: قوله: (أخبرني يونس) هو ابن يزيد. قوله: (عن عبيد الله بن عبد الله) أي ابن عتبة بن مسعود. قوله: (لما اشتد) أي قوي. قوله: (وجعه) أي في مرض موته كما سيأتي. وللمصنف في المغازي وللإسماعيلي: " لما حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة " وللمصنف من حديث سعيد بن جبير أن ذلك كان يوم الخميس وهو قبل موته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام. قوله: (بكتاب) أي بأدوات الكتاب، ففيه مجاز الحذف. وقد صرح بذلك في رواية لمسلم قال: " ائتوني بالكتف والدواة " والمراد بالكتف عظم الكتف لأنهما كانوا يكتبون فيها. قوله: (أكتب) هو بإسكان الباء جواب الأمر، ويجوز الرفع على الاستئناف، وفيه مجاز أيضا أي آمر بالكتابة. ويحتمل أن يكون على ظاهره كما سيأتي البحث في المسألة في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى. وفي مسند أحمد من حديث علي أنه المأمور بذلك ولفظه " أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن آتيه بطبق - أي كتف - يكتب ما لا تضل أمته من بعده". قوله: (كتابا) بعد قوله: " بكتاب " فيه الجناس التام بين الكلمتين، وإن كانت إحداهما بالحقيقة والأخرى بالمجاز. قوله: (لا تضلوا) هو نفي وحذفت النون في الروايات التي اتصلت لنا لأنه بدل من جواب الأمر، وتعدد جواب الأمر من غير حرف العطف جائز. قوله: (غلبه الوجع) أي فيشق عليه إملاء الكتاب أو مباشرة الكتابة، وكأن عمر رضي الله عنه فهم من ذلك أنه يقتضي التطويل، قال القرطبي وغيره: ائتوني أمر، وكان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر رضي الله عنه مع طائفة أنه ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقوله تعالى: (تبيانا لكل شيء) ، ولهذا قال عمر: حسبنا كتاب الله. وظهر لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب لما فيه من امتثال أمره وما يتضمنه من زيادة الإيضاح، ودل أمره لهما بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار، ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياما ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجبا لم يتركه لاختلافهم لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجز بالأمر، فإذا عزم امتثلوا. وسيأتي بسط ذلك في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. وقد عد هذا من موافقة عمر رضي الله عنه. واختلف في المراد بالكتاب، فقيل: كأن أراد أن يكتب كتابا ينص فيه على الأحكام ليرتفع الاختلاف، وقيل: بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع بينهم الاختلاف، قاله سفيان بن عيينة. ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة: " ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " أخرجه مسلم. وللمصنف معناه، ومع ذلك فلم يكتب، والأول أظهر لقول عمر: كتاب الله حسبنا. أي كافينا. مع أنه يشمل الوجه الثاني لأنه بعض أفراده. والله أعلم. (فائدة) : قال الخطابي: إنما ذهب عمر إلى أنه لو نص بما يزيل الخلاف لبطلت فضيلة العلماء وعدم الاجتهاد. وتعقبه ابن الجوزي بأنه لو نص على شيء أو أشياء لم يبطل الاجتهاد لأن الحوادث لا يمكن حصرها. قال: وإنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه في حالة غلبة المرض فيجد بذلك المنافقون سبيلا إلى الطعن في ذلك المكتوب، وسيأتي ما يؤيده في أواخر المغازي. قوله: (ولا ينبغي عندي التنازع) فيه إشعار بأن الأولى كان المبادرة إلى امتثال الأمر، وإن كان ما اختاره عمر صوابا إذ لم يتدارك ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد كما قدمناه. قال القرطبي: واختلافهم في ذلك كاختلافهم في قوله لهم: " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا، وتمسك آخرون بظاهر الأمر فلم يصلوا، فما عنف أحدا منهم من أجل الاجتهاد المسوغ والمقصد الصالح. والله أعلم. قوله: (فخرج ابن عباس يقول) ظاهره أن ابن عباس كان معهم، وأنه في تلك الحالة خرج قائلا هذه المقالة. وليس الأمر في الواقع على ما يقتضيه هذا الظاهر، بل قول ابن عباس المذكور إنما كان يقوله عندما يحدث بهذا الحديث، ففي رواية معمر عند المصنف في الاعتصام وغيره: قال عبيد الله فكان ابن عباس يقول. وكذا لأحمد من طريق جرير بن حازم عن يونس بن يزيد. وجزم ابن تيمية في الرد على الرافضي بما قلته، وكل من الأحاديث يأتي بسط القول فيه في مكانه اللائق به، إلا حديث عبد الله بن عمر فهو عمدة الباب. ووجه رواية حديث الباب أن ابن عباس لما حدث عبيد الله بهذا الحديث خرج من المكان الذي كان به وهو يقول ذلك. ويدل عليه رواية أبي نعيم في المستخرج قال عبيد الله: فسمعت ابن عباس يقول الخ. وإنما تعين حمله على غير ظاهره لأن عبيد الله تابعي من الطبقة الثانية لم يدرك القصة في وقتها لأنه ولد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة، ثم سمعها من ابن عباس بعد ذلك بمدة أخرى. والله أعلم. قوله: (الرزيئة) هي بفتح الراء وكسر الزاي بعدها ياء ثم همزة، وقد تسهل الهمزة وتشدد الياء، ومعناها المصيبة، وزاد في رواية معمر " لاختلافهم ولغطهم " أي أن الاختلاف كان سببا لترك كتابة الكتاب. وفي الحديث دليل على جواز كتابة العلم، وعلى أن الاختلاف قد يكون سببا في حرمان الخير كما وقع في قصة الرجلين اللذين تخاصما فرفع تعيين ليلة القدر بسبب ذلك. وفيه وقوع الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه فيه، وسنذكر بقية ما يتعلق به في أواخر السيرة النبوية من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : قدم حديث علي أنه كتب عن النبي صلى الله عليه وسلم ويطرقه احتمال أن يكون إنما كتب ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه النهي، وثنى بحديث أبي هريرة وفيه الأمر بالكتابة وهو بعد النهي فيكون ناسخا، وثلث بحديث عبد الله بن عمرو وقد بينت أن في بعض طرقه إذن النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك، فهو أقوى في الاستدلال للجواز من الأمر أن يكتبوا لأبي شاه لاحتمال اختصاص ذلك بمن يكون أميا أو أعمى، وختم بحديث ابن عباس الدال على أنه صلى الله عليه وسلم هم أن يكتب لأمته كتابا يحصل معه الأمن من الاختلاف وهو لا يهم إلا بحق. *3*باب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ الشرح: قوله: (باب العلم) أي تعليم العلم بالليل، والعظة تقدم أنها الوعظ، وأراد المصنف التنبيه على أن النهي عن الحديث بعد العشاء مخصوص بما لا يكون في الخير. الحديث: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَمْرٍو وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتَنِ وَمَاذَا فُتِحَ مِنْ الْخَزَائِنِ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَةِ الشرح: قوله: (صدقة) هو ابن الفضل المروزي. قوله: (عن هند) هي بنت الحارث الفراسية بكسر الفاء والسين المهملة. وفي رواية الكشميهني بدلها عن امرأة. قوله: (وعمرو) كذا في روايتنا بالرفع، ويجوز الكسر، والمعنى أن ابن عيينة حدثهم عن معمر ثم قال: وعمرو هو ابن دينار، فعلى رواية الكسر يكون معطوفا على معمر، وعلى رواية الرفع يكون استئنافا كأن ابن عيينة حدث بحذف صيغة الأداء وقد جرت عادته بذلك. وقد روى الحميدي هذا الحديث في مسنده عن ابن عيينة قال: حدثنا معمر عن الزهري، قال: وحدثنا عمرو ويحيى بن سعيد عن الزهري، فصرح بالتحديث عن الثلاثة. قوله: (ويحيى بن سعيد) هو الأنصاري، وأخطأ من قال إنه هو القطان لأنه لم يسمع من الزهري ولا لقيه. ووقع في غير رواية عن أبي ذر " عن امرأة " بدل قوله عن هند في الإسناد الثاني. والحاصل أن الزهري كان ربما أبهمها وربما سماها. وقد رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن الزهري ولم يذكر هندا ولا أم سلمة. قوله: (سبحان الله ماذا) ما استفهامية متضمنة لمعنى التعجب والتعظيم، وعبر عن الرحمة بالخزائن كقوله تعالى: (خزائن رحمة ربك) وعن العذاب بالفتن لأنها أسبابه. قال الكرماني: ويحتمل أن تكون ما نكرة موصوفة. قوله: (أنزل) بضم الهمزة، وللكشميهني " أنزل الله " بإظهار الفاعل، والمراد بالإنزال إعلام الملائكة بالأمر المقدور، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه في نومه ذاك بما سيقع بعده من الفتن فعبر عنه بالإنزال. قوله: (وماذا فتح من الخزائن) قال الداودي: الثاني هو الأول، والشيء قد يعطف على نفسه تأكيدا، لأن ما يفتح من الخزائن يكون سببا للفتنة، وكأنه فهم أن المراد بالخزائن خزائن فارس والروم وغيرهما مما فتح على الصحابة، لكن المغايرة بين الخزائن والفتن أوضح لأنهما غير متلازمين، وكم من نائل من تلك الخزائن سالم من الفتن. قوله: (صواحب الحجر) بضم الحاء وفتح الجيم جمع حجرة وهي منازل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما خصهن بالإيقاظ لأنهن الحاضرات حينئذ، أو من باب " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". قوله: (فرب كاسية) استدل به ابن مالك على أن رب في الغالب للتكثير، لأن هذا الوصف للنساء وهن أكثر أهل النار انتهى. وهذا يدل لورودها في التكثير لا لأكثريتها فيه. قوله: (عارية) بتخفيف الياء وهي مجرورة في أكثر الروايات على النعت، قال السهيلي: إنه الأحسن عند سيبويه، لأن رب عنده حرف جر يلزم صدر الكلام، قال: ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ والجملة في موضع النعت، أي هي عارية والفعل الذي تتعلق به رب محذوف. انتهى. وأشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى موجب إيقاظ أزواجه، أي ينبغي لهن أن لا يتغافلن عن العبادة ويعتمدن على كونهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث جواز قول: " سبحان الله " عند التعجب، وندبية ذكر الله بعد الاستيقاظ، وإيقاظ الرجل أهله بالليل للعبادة لا سيما عند آية تحدث. وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. وفي هذا الإسناد رواية الأقران في موضعين: أحدهما ابن عيينة عن معمر، والثاني عمرو ويحيى عن الزهري وفيه رواية ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض في نسق. وهند قد قيل إنها صحابية فإن صح فهو من رواية تابعي عن مثله عن صحابية عن مثلها، وأم سلمة هي أم المؤمنين، وكانت تلك الليلة ليلتها. وفي الحديث استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر كما قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة) وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وأمر من رأى في منامه ما يكره أن يصلي، وسيأتي ذلك في مواضعه. وفيه التسبيح عند رؤية الأشياء المهولة، وفيه تحذير العالم من يأخذ عنه من كل شيء يتوقع حصوله، والإرشاد إلى ما يدفع ذلك المحذور. والله أعلم. |
01-31-2013, 01:18 PM | #72 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب السَّمَرِ فِي الْعِلْمِ
الشرح: قوله: (باب السمر) و بفتح المهملة والميم، وقيل الصواب إسكان الميم لأنه اسم للفعل، ومعناه الحديث بالليل قبل النوم. وبهذا يظهر الفرق بين هذه الترجمة والتي قبلها. قوله: (في العلم) كذا في رواية أبي ذر بإضافة الباب إلى السمر. وفي رواية غيره باب السمر في العلم بتنوين باب. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ الشرح: قوله: (حدثني الليث قال: حدثني عبد الرحمن) أي أنه حدثه عبد الرحمن. وفي رواية غير أبي ذر حدثني عبد الرحمن، والليث وعبد الرحمن قرينان. قوله: (عن سالم) أي ابن عبد الله بن عمر. قوله: (أبي حثمة) بفتح المهملة وسكون المثلثة، واسم أبي حثمة عبد الله بن حذيفة العدوي، وأما أبو بكر الرازي فتابعي مشهور لم يسم، وقد قيل إن اسمه كنيته. قوله: (صلى لنا) أي إماما. وفي رواية " بنا " بموحدة. قوله: (العشاء) أي صلاة العشاء. قوله: (في آخر حياته) جاء مقيدا في رواية جابر أن ذلك كان قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهر. قوله: (أرأيتكم) هو بفتح المثناة لأنها ضمير المخاطب والكاف ضمير ثان لا محل لها من الإعراب والهمزة الأولى للاستفهام، والرؤية بمعنى العلم أو البصر، والمعنى أعلمتم أو أبصرتم ليلتكم، وهي منصوبة على المفعولية، والجواب محذوف تقديره قالوا نعم، قال فاضبطوها. وترد أرأيتكم للاستخبار كما في قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله) الآية، قال الزمخشري: المعنى أخبروني. ومتعلق الاستخبار محذوف تقديره من تدعون. ثم بكتهم فقال: (أغير الله تدعون) . انتهى. وإنما أوردت هذا لأن بعض الناس نقل كلام الزمخشري في الآية إلى هذا الحديث، وفيه نظر لأنه جعل التقدير أخبروني ليلتكم هذه فاحفظوها، وليس ذلك مطابقا لسياق الآية. قوله: (فإن رأس) وللأصيلي " فإن على رأس " أي عند انتهاء مائه سنة. قوله: (منها) فيه دليل على أن " من " تكون لابتداء الغاية في الزمان كقول الكوفيين، وقد رد ذلك نحاة البصرة. وأولوا ما ورد من شواهده كقوله تعالى: (من أول يوم أحق أن تقوم فيه) وقول أنس ما زلت أحب الدباء من يومئذ، وقوله: مطرنا من يوم الجمعة إلى الجمعة. قوله: (لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض) أي الآن موجودا أحد إذ داك، وقد ثبت هذا التقدير عند المصنف من رواية شعيب عن الزهري كما سيأتي في الصلاة مع بقية الكلام عليه، قال ابن بطال: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه المدة تخترم الجيل الذي هم فيه، فوعظهم بقصر أعمارهم، وأعلمهم أن أعمارهم ليست كأعمار من تقدم من الأمم ليجتهدوا في العبادة. وقال النووي: المراد أن كل من كان تلك الليلة على الأرض لا يعيش بعد هذه الليلة أكثر من مائة سنة سواء قل عمره قبل ذلك أم لا، وليس فيه نفي حياة أحد يولد بعد تلك الليلة مائة سنة. والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ ثُمَّ قَالَ نَامَ الْغُلَيِّمُ أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أَوْ خَطِيطَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ الشرح: قوله: (حدثنا الحكم) بفتحتين هو ابن عتيبة بالمثناة تصغير عتبة، وهو تابعي صغير، وكان أحد الفقهاء. قوله: (ثم جاء) أي من المسجد. قوله: (نام الغليم) بضم المعجمية وهو من تصغير الشفقة، والمراد به ابن عباس، ويحتمل أن يكون ذلك إخبارا منه صلى الله عليه وسلم بنومه أو استفهاما بحذف الهمزة وهو الواقع. ووقع في بعض النسخ: " يا أم الغليم " بالنداء وهو تصحيف لم تثبت به رواية. قوله: (أو كلمة) بالشك من الراوي، والمراد بالكلمة الجملة أو المفردة، ففي رواية أخرى " نام الغلام". قوله: (غطيطه) بفتح الغين المعجمة وهو صوت نفس النائم، والنخير أقوى منه. قوله: (أو خطيطه) بالخاء المعجمة، والشك فيه من الراوي، وهو بمعنى الأول قاله الداودي. وقال ابن بطال: لم أجده بالخاء المعجمة عند أهل اللغة. وتبعه القاضي عياض فقال: هو هنا وهم. انتهى. وقد نقل ابن الأثير عن أهل الغريب أنه دون الغطيط. قوله: (ثم صلى ركعتين) أي ركعتي الفجر. وأغرب الكرماني فقال: إنما فصل بينهما وبين الخمس ولم يقل سبع ركعات لأن الخمس اقتدى ابن عباس به فيها بخلاف الركعتين، أو لأن الخمس بسلام والركعتين بسلام آخر انتهى. وكأنه ظن أن الركعتين من جملة صلاة الليل وهو محتمل لكن حملهما على سنة الفجر أولى ليحصل الختم بالوتر، وسيأتي تفصيل هذه المسألة في كتاب الصلاة في باب الوتر إن شاء الله تعالى. ومناسبة حديث ابن عمر للترجمة ظاهرة لقوله فيه: " قام فقال " بعد قوله: " صلى العشاء " وأما حديث ابن عباس فقال ابن المنير ومن تبعه: يحتمل أن يريد أن أصل السمر يثبت بهذه الكلمة وهي قوله: " نام الغليم"، ويحتمل أن يريد ارتقاب ابن عباس لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين التعليم من القول والتعليم من الفعل، فقد سمر ابن عباس ليلته في طلب العلم، زاد الكرماني أو ما يفهم من جعله إياه على يمينه كأنه قال له قف عن يميني فقال وقفت ا ه. وكل ما ذكره معترض، لأن من يتكلم بكلمة واحدة لا يسمى سامرا، وصنيع ابن عباس يسمى سهرا لا سمرا إذ السمر لا يكون إلا عن تحدث قاله الإسماعيلي، وأبعدها الأخير لأن ما يقع بعد الانتباه من النوم لا يسمى سمرا. وقال الكرماني تبعا لغيره أيضا: يحتمل أن يكون مراد البخاري أن الأقارب إذا اجتمعوا لا بد أن يجري بينهم حديث للمؤانسة وحديثه صلى الله عليه وسلم كله علم وفوائد. قلت: والأولى من هذا كله أن مناسبة الترجمة مستفادة من لفظ آخر في هذا الحديث بعينه من طريق أخرى، وهذا يصنعه المصنف كثيرا يريد به تنبيه الناظر في كتابه على الاعتناء بتتبع طرق الحديث، والنظر في مواقع ألفاظ الرواة، لأن تفسير الحديث بالحديث أولى من الخوض فيه بالظن. وإنما أراد البخاري هنا ما وقع في بعض طرق هذا الحديث مما يدل صريحا على حقيقة السمر بعد العشاء، وهو ما أخرجه في التفسير وغيره من طريق كريب عن ابن عباس قال: بت في بيت ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد. . الحديث. فصحت الترجمة بحمد الله تعالى من غير حاجة إلى تعسف ولا رجم بالظن. فإن قيل: هذا إنما يدل على السمر مع الأهل لا في العلم، فالجواب أنه يلحق به، والجامع تحصيل الفائدة، أو هو بدليل الفحوى، لأنه إذا شرع في المباح ففي المستحب من طريق الأولى. وسنذكر باقي مباحث هذا الحديث حيث ذكره المصنف مطولا في كتاب الوتر من كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. ويدخل في هذا الباب حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم بعد العشاء، وقد ذكره المصنف في كتاب الصلاة. ولأنس حديث آخر في قصة أسيد بن حضير وقد ذكره المصنف في المناقب، وحديث عمر " كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين " أخرجه الترمذي والنسائي ورجاله ثقات، وهو صريح في المقصود، إلا أن في إسناده اختلافا على علقمة، فلذلك لم يصح على شرطه. وحديث عبد الله بن عمرو: " كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح لا يقوم إلا إلى عظيم صلاة " رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة، وهو من رواية أبي حسان عن عبد الله بن عمرو وليس على شرط البخاري، وأما حديث " لا سمر إلا لمصل أو مسافر " فهو عند أحمد بسند فيه راو مجهول، وعلى تقدير ثبوته فالسمر في العلم يلحق بالسمر في الصلاة نافلة، وقد سمر عمر مع أبي موسى في مذاكرة الفقه فقال أبو موسى: " الصلاة " فقال عمر: إنا في صلاة. والله أعلم. |
01-31-2013, 01:20 PM | #73 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب حِفْظِ الْعِلْمِ
الشرح: قوله: (باب حفظ العلم) لم يذكر في الباب شيئا عن غير أبي هريرة، وذلك لأنه كان أحفظ الصحابة للحديث، قال الشافعي رضي الله عنه: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره. وقد كان ابن عمر يترحم عليه في جنازته ويقول: كان يحفظ على المسلمين حديث النبي صلى الله عليه وسلم، رواه ابن سعد. وقد دل الحديث الثالث من الباب على أنه لم يحدث بجميع محفوظه، ومع ذلك فالموجود من حديثه أكثر من الموجود من حديث غيره من المكثرين، ولا يعارض هذا ما تقدم من تقديمه عبد الله بن عمرو على نفسه في كثرة الحديث لأنا قدمنا الجواب عن ذلك، ولأن الحديث الثاني من الباب دل على أنه لم ينس شيئا سمعه، ولم يثبت مثل ذلك لغيره. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا ثُمَّ يَتْلُو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى إِلَى قَوْلِهِ الرَّحِيمُ إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ الشرح: قوله: (حدثنا عبد العزيز) هو الأويسي المدني، والإسناد كله مدنيون. قوله: (أكثر أبو هريرة) أي من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح به المصنف في البيوع من طريق شعيب عن الزهري، وله فيه وفي المزارعة من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري هنا زيادة وهي: " ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه " وبها تبين الحكمة في ذكره المهاجرين والأنصار ووضعه المظهر موضع المضمر على طريق الحكاية حيث قال: " أكثر أبو هريرة " ولم يقل أكثرت. قوله: (ولولا آيتان) مقول قال لا مقول يقولون، وقوله: ثم يتلو مقول الأعرج، وذكره بلفظ المضارع استحضارا لصورة التلاوة، ومعناه: لولا أن الله ذم الكاتمين للعلم ما حدث أصلا، لكن لما كان الكتمان حراما وجب الإظهار، فلهذا حصلت الكثرة لكثرة ما عنده. ثم ذكر سبب الكثرة بقوله: " إن إخواننا " وأراد بصيغة الجمع نفسه وأمثاله، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام. قوله: (يشغلهم) فتح أوله من الثلاثي، وحكى ضمه وهو شاذ. قوله: (الصفق) إسكان الفاء، هو ضرب اليد على اليد، وجرت به عادتهم عند عقد البيع. قوله: (في أموالهم) أي القيام على مصالح زرعهم، ولمسلم " كان يشغلهم عمل أرضيهم " ولابن سعد " كان يشغلهم القيام على أرضيهم". قوله: (وإن أبا هريرة) فيه التفات إذ كان نسق الكلام أن يقول: وإني. قوله: (لشبع) بلام التعليل للأكثر وهو الثابت في غير البخاري أيضا، وللأصيلي " بشبع " بموحدة أوله، وزاد المصنف في البيوع " وكنت امرءا مسكينا من مساكين الصفة". قوله: (ويحضر) أي من الأحوال (ويحفظ) أي من الأقوال، وهما معطوفان على قوله: " يلزم". وقد روى البخاري في التاريخ والحاكم في المستدرك من حديث طلحة بن عبيد الله شاهدا لحديث أبي هريرة هذا ولفظه " لا أشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا نسمع، وذلك إنه كان مسكينا لا شيء له ضيفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج البخاري في التاريخ والبيهقي في المدخل من حديث محمد بن عمارة بن حزم أنه قعد في مجلس فيه مشيخة من الصحابة بضعة عشر رجلا فجعل أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث فلا يعرفه بعضهم، فيراجعون فيه حتى يعرفوه، ثم يحدثهم بالحديث كذلك حتى فعل مرارا، فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس. وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفنا بحديثه. قال الترمذي حسن. واختلف في إسناد هذا الحديث على الزهري فرواه مالك عنه هكذا، ووافقه إبراهيم بن سعد وسفيان بن عيينة، ورواه شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي هريرة، وتابعه يونس بن يزيد. والإسنادان جميعا محفوظان صححهما الشيخان، وزادوا في روايتهم عن الزهري شيئا سنذكره في هذا الحديث الثاني: الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ قَالَ ابْسُطْ رِدَاءَكَ فَبَسَطْتُهُ قَالَ فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا أَوْ قَالَ غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ الشرح: قوله. (حدثنا أحمد بن أبي بكر) هو الزهري المدني صاحب مالك، وسقط قوله أبو مصعب من رواية الأصيلي وأبي ذر، وهو بكنيته أشهر. والإسناد كله مدنيون أيضا وكذا الذي بعده. قوله: (كثيرا) هو صفة لقوله حديثا لأنه اسم جنس. قوله: (فغرف) لم يذكر المغروف منه وكأنها كانت إشارة محضة. قوله: (ضم) وللكشميهني والباقين " ضمه " وهو بفتح الميم ويجوز ضمها، وقيل يتعين لأجل ضمة الهاء، ويجوز كسرها لكن مع إسكان الهاء وكسرها. قوله: (فما نسيت شيئا بعد) هو مقطوع الإضافة مبني على الضم، وتنكير شيئا بعد النفي ظاهر العموم في عدم النسيان منه لكل شيء من الحديث وغيره. ووقع في رواية ابن عيينة وغيره عن الزهري في الحديث الماضي " فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه". وفي رواية يونس عند مسلم: " فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به " وهذا يقتضي تخصيص عدم النسيان بالحديث. ووقع في رواية شعيب: " فما نسيت من مقالته تلك من شيء " وهذا يقتضي عدم النسيان بتلك المقالة فقط، لكن سياق الكلام يقتضي ترجيح رواية يونس ومن وافقه لأن أبا هريرة نبه به على كثرة محفوظه من الحديث فلا يصح حمله على تلك المقالة وحدها، ويحتمل أن تكون وقعت له قضيتان: فالتي رواها الزهري مختصة بتلك المقالة، والقضية التي رواها سعيد المقبري عامة. وأما ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال: تحدثت عند أبي هريرة بحديث فأنكره، فقلت إني سمعت منك، فقال: إن كنت سمعته مني فهو مكتوب عندي. فقد يتمسك به في تخصيص عدم النسيان بتلك المقالة لكن سند هذا ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فهو نادر. ويلتحق به حديث أبي سلمة عنه " لا عدوى " فإنه قال فيه: إن أبا هريرة أنكره. قال: فما رأيته نسي شيئا غيره. (فائدة) : المقالة المشار إليها في حديث الزهري أبهمت في جميع طرقه، وقد وجدتها مصرحا بها في جامع الترمذي وفي الحلية لأبي نعيم من طريق أخرى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من رجل يسمع كلمة أو كلمتين أو ثلاثا أو أربعا أو خمسا مما فرض الله فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة " فذكر الحديث. وفي هذين الحديثين فضيلة ظاهرة لأبي هريرة ومعجزة واضحة من علامات النبوة، لأن النسيان من لوازم الإنسان، وقد اعترف أبو هريرة بأنه كان يكثر منه ثم تخلف عنه ببركة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي المستدرك للحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: " كنت أنا وأبو هريرة وآخر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادعوا. فدعوت أنا وصاحبي وأمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي، وأسألك علما لا ينسى. فأمن النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: ونحن كذلك يا رسول الله، فقال: سبقكما الغلام الدوسي " وفيه الحث على حفظ العلم، وفيه أن التقلل من الدنيا أمكن لحفظه. وفيه فضيلة التكسب لمن له عيال، وفيه جواز إخبار المرء بما فيه من فضيلة إذ اضطر إلى ذلك وأمن من الإعجاب. قوله: (ابن أبي فديك بهذا) أشكل قوله بهذا على بعض الشارحين لأن ابن أبي فديك لم يتقدم له ذكر، وقد ظن بعضهم أنه محمد بن إبراهيم بن دينار المذكور قبل، فيكون مراده أن السياقين متحدان إلا في اللفظة المبينة فيه، وليس كما ظن، لأن ابن أبي فديك اسمه محمد بن إسماعيل بن مسلم وهو ليثي يكنى أبا إسماعيل، وابن دينار جهني يكنى أبا عبد الله، لكن اشتركا في الرواية عن ابن أبي ذئب لهذا الحديث ولغيره، وفي كونهما مدنيين، وجوز بعضهم أن يكون الحديث عند المصنف بإسناد آخر عن ابن أبي ذئب، وكل ذلك غفلة عما عند المصنف في علامات النبوة فقد ساقه بالإسناد المذكور، والمتن من غير تغيير إلا في قوله: " بيديه " فإنه ذكرها بالإفراد. وقال فيها أيضا: " فغرف " وهي رواية الأكثرين في حديث الباب، ووقع في رواية المستملي وحده " فحذف " بدل فغرف، وهو تصحيف لما وضح في سياقه في علامات النبوة. وقد رواه ابن سعد في الطبقات عن ابن أبي فديك فقال: فغرف. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس (حدثني أخي) هو أبو بكر عبد الحميد. قوله: (حفظت عن) وفي رواية الكشميهني " من " بدل عن، وهي أصرح في تلقيه من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة. قوله: (وعاءين) أي ظرفين، أطلق المحل وأراد به الحال، أي نوعين من العلم، وبهذا التقرير يندفع إيراد من زعم أن هذا يعارض قوله في الحديث الماضي " كنت لا أكتب " وإنما مراده أن محفوظه من الحديث لو كتب لملأ وعاءين، ويحتمل أن يكون أبو هريرة أملى حديثه على من يثق به فكتبه له وتركه عنده، والأول أولى. ووقع في المسند عنه " حفظت ثلاثة أجربة، بثثت منها جرابين " وليس هذا مخالفا لحديث الباب لأنه يحمل على أن أحد الوعاءين كان أكبر من الآخر بحيث يجيء ما في الكبير في جرابين وما في الصغير في واحد. ووقع في المحدث الفاضل للرامهرمزي من طريق منقطعة عن أبي هريرة " خمسة أجربة " وهو إن ثبت محمول على نحو ما تقدم. وعرف من هذا أن ما نشره من الحديث أكثر مما لم ينشره. قوله: (بثثته) بفتح الموحدة والمثلثة وبعدها مثلثة ساكنة تدغم في المثناة التي بعدها أي أذعته ونشرته، زاد الإسماعيلي: في الناس. قوله: (قطع هذا البلعوم) زاد في رواية المستملي: قال أبو عبد الله - يعني المصنف - البلعوم مجرى الطعام، وهو بضم الموحدة، وكنى بذلك عن القتل. وفي رواية الإسماعيلي " لقطع هذا " يعني رأسه. وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة. واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك أيضا في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. قال ابن المنير: جعل الباطنية هذا الحديث ذريعة إلى تصحيح باطلهم حيث اعتقدوا أن للشريعة ظاهرا وباطنا، وذلك الباطن إنما حاصله الانحلال من الدين. قال: وإنما أراد أبو هريرة بقوله: " قطع " أي قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه لفعلهم وتضليله لسعيهم، ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتوبة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم. وقال غيره يحتمل أن يكون أراد مع الصنف المذكور ما يتعلق بأشراط الساعة وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان، فينكر ذلك من لم يألفه، ويعترض عليه من لا شعور له به. |
01-31-2013, 01:22 PM | #74 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب الْإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ
الشرح: قوله: (باب الإنصات للعلماء) أي السكوت والاستماع لما يقولونه. الحديث: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ اسْتَنْصِتْ النَّاسَ فَقَالَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ الشرح: قوله: (حدثنا حجاج) هو ابن منهال. قوله: (عن جرير) هو ابن عبد الله البجلي، وهو جد أبي زرعة الراوي عنه هنا. قوله: (قال له في حجة الوداع) ادعى بعضهم أن لفظ " له " زيادة، لأن جريرا إنما أسلم بعد حجة الوداع بنحو من شهرين، فقد جزم ابن عبد البر بأنه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما، وما جزم به يعارضه قول البغوي وابن حبان إنه أسلم في رمضان سنة عشر. ووقع في رواية المصنف لهذا الحديث في باب حجة الوداع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجرير، وهذا لا يحتمل التأويل فيقوي ما قال البغوي. والله أعلم. قوله: (يضرب) هو بضم الباء في الروايات، والمعنى لا تفعلوا فعل الكفار فتشبهوهم في حالة قتل بعضهم بعضا. وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: فيه أن الإنصات للعلماء لازم للمتعلمين، لأن العلماء ورثة الأنبياء. كأنه أراد بهذا مناسبة الترجمة للحديث، وذلك أن الخطبة المذكورة كانت في حجة الوداع والجمع كثير جدا، وكان اجتماعهم لرمي الجمار وغير ذلك من أمور الحج، وقد قال لهم: " خذوا عني مناسككم " كما ثبت في صحيح مسلم، فلما خطبهم ليعلمهم ناسب أن يأمرهم بالإنصات. وقد وقع التفريق بين الإنصات والاستماع في قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) ومعناهما مختلف، فالإنصات هو السكوت وهو يحصل ممن يستمع وممن لا يستمع كأن يكون مفكرا في أمر آخر، وكذلك الاستماع قد يكون مع السكوت وقد يكون مع النطق بكلام آخر لا يشتغل الناطق به عن فهم ما يقول الذي يستمع منه، وقد قال سفيان الثوري وغيره: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر. وعن الأصمعي تقديم الإنصات على الاستماع. وقد ذكر علي بن المديني أنه قال لابن عيينة: أخبرني معتمر بن سليمان عن كهمس عن مطرف قال: الإنصات من العينين. فقال له ابن عيينة: وما ندري كيف ذلك؟ قال: إذا حدثت رجلا فلم ينظر إليك لم يكن منصتا انتهى. وهذا محمول على الغالب. والله أعلم. *3*باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ الشرح: قوله: (باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم) أي من غيره، والفاء في قوله: " فيكل " تفسيرية بناء على أن فعل المضارع بتقدير المصدر، أي ما يستحب عند السؤال هو الوكول. وفي رواية " أن يكل " وهو أوضح. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا الْبَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ وَحَمَلَا حُوتًا فِي مِكْتَلٍ حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنْ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنْ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ أَوْ قَالَ تَسَجَّى بِثَوْبِهِ فَسَلَّمَ مُوسَى فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ فَقَالَ أَنَا مُوسَى فَقَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ قَالَ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا فَعُرِفَ الْخَضِرُ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ الْخَضِرُ يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا فَكَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا فَانْطَلَقَا فَإِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلَاهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَهَذَا أَوْكَدُ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن محمد) هو الجعفي المسندي، وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار، ونوف بفتح النون وبالفاء، والبكالي بفتح الموحدة وكسرها وتخفيف الكاف - ووهم من شددها - منسوب إلى بكال بطن من حمير، ووهم من قال إنه منسوب إلى بكيل بكسر الكاف بطن من همدان لأنهما متغايران، ونوف المذكور تابعي من أهل دمشق فاضل عالم لا سيما بالإسرائيليات، وكان ابن امرأة كعب الأحبار وقيل غير ذلك. قوله: (إن موسى) أي صاحب الخضر، وصرح به المصنف في التفسير. قوله: (إنما هو موسى آخر) كذا في روايتنا بغير تنوين فيهما، وهو علم على شخص معين قالوا إنه موسى بن ميشا بكسر الميم وبالشين المعجمة، وجزم بعضهم أنه منون مصروف لأنه نكرة، ونقل عن ابن مالك أنه جعله مثالا للعلم إذا نكر تخفيفا، قال: وفيه بحث. قوله: (كذب عدو الله) قال ابن التين: لم يرد ابن عباس إخراج نوف عن ولاية الله، ولكن قلوب العلماء تنفر إذا سمعت غير الحق، فيطلقون أمثال هذا الكلام لقصد الزجر والتحذير منه وحقيقته غير مرادة. قلت: ويجوز أن يكون ابن عباس اتهم نوفا في صحة إسلامه، فلهذا لم يقل في حق الحر بن قيس هذه المقالة مع تواردهما عليها. وأما تكذيبه فيستفاد منه أن للعالم إذا كان عنده علم بشيء فسمع غيره يذكر فيه شيئا بغير علم أن يكذبه، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: " كذب أبو السنابل " أي أخبر بما هو باطل في نفس الأمر. قوله: (حدثني أبي بن كعب) في استدلاله بذلك دليل على قوة خير الواحد المتقن عنده حيث يطلق مثل هذا الكلام في حق من خالفه، وفي الإسناد رواية تابعي عن تابعي وهما عمرو وسعيد، وصحابي عن صحابي وهما ابن عباس وأبي. قوله: (فقال أنا أعلم) في جواب أي الناس أعلم، قيل: إنه مخالف لقوله في الرواية السابقة في باب الخروج في طلب العلم قال: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ وعندي لا مخالفة بينهما، لأن قوله هنا " أنا أعلم " أي فيما أعلم، فيطابق قوله " لا " في جواب من قال له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ في إسناد ذلك إلى علمه لا إلى ما في نفس الأمر. وعند النسائي من طريق عبد الله بن عبيد عن سعيد بن جبير بهذا السند " قام موسى خطيبا فعرض في نفسه أن أحدا لم يؤت من العلم ما أوتي، وعلم الله بما حدث به نفسه فقال: يا موسى، إن من عبادي من آتيته من العلم ما لم أوتك " وعند عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير " فقال: ما أجد أحدا أعلم بالله وأمره مني". وهو عند مسلم من وجه آخر عن أبي إسحاق بلفظ " ما أعلم في الأرض رجلا خيرا أو أعلم مني " قال ابن المنير: ظن ابن بطال أن ترك موسى الجواب عن هذه المسألة كان أولى. قال: وعندي أنه ليس كذلك، بل رد العلم إلى الله تعالى متعين أجاب أو لم يجب، فلو قال موسى عليه السلام: " أنا والله أعلم " لم تحصل المعاتبة، وإنما عوتب على اقتصاره على ذلك، أي لأن الجزم يوهم أنه كذلك في نفس الأمر، وإنما مراده الإخبار بما في علمه كما قدمناه، والعتب من الله تعالى محمول على ما يليق به لا على معناه العرفي في الآدميين كنظائره. قوله: (هو أعلم منك) ظاهر في أن الخضر نبي، بل نبي مرسل، إذ لو لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى وهو باطل من القول، ولهذا أورد الزمخشري سؤالا وهو: دلت حاجة موسى إلى التعليم من غيره أنه موسى بن ميشا كما قيل، إذ النبي يجب أن يكون أعلم أهل زمانه، وأجاب عنه بأنه لا نقص بالنبي في أخذ العلم من نبي مثله، قلت: وفي الجواب نظر، لأنه يستلزم نفي ما أوجب، والحق أن المراد بهذا الإطلاق تقييد الأعلمية بأمر مخصوص، لقوله بعد ذلك " إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه " والمراد بكون النبي أعلم أهل زمانه أي ممن أرسل إليه، ولم يكن موسى مرسلا إلى الخضر، وإذا فلا نقص به إذا كان الخضر أعلم منه إن قلنا إنه نبي مرسل، أو أعلم منه في أمر مخصوص إن قلنا إنه نبي أو ولي، وينحل بهذا التقرير إشكالات كثيرة. ومن أوضح ما يستدل به على نبوة الخضر قوله: (وما فعلته عن أمري) وينبغي اعتقاد كونه نبيا لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي، حاشا وكلا. وتعقب ابن المنير على ابن بطال إيراده في هذا الموضع كثيرا من أقوال السلف في التحذير من الدعوى في العلم، والحث على قول العالم لا أدري، بأن سياق مثل ذلك في هذا الموضع غير لائق، وهو كما قال رحمه الله. قال: وليس قول موسى عليه السلام أنا أعلم كقول آحاد الناس مثل ذلك، ولا نتيجة قوله كنتيجة قولهم فإن نتيجة قولهم العجب والكبر ونتيجة قوله المزيد من العلم والحث على التواضع والحرص على طلب العلم. واستدلاله به أيضا على أنه لا يجوز الاعتراض بالعقل على الشرع خطأ، لأن موسى إنما اعترض بظاهر الشرع لا بالعقل المجرد، ففيه حجة على صحة الاعتراض بالشرع على ما لا يسوغ فيه ولو كان مستقيما في باطن الأمر. قوله: (في مكتل) كسر الميم وفتح المثناة من فوق. قوله: (فانطلقا بقية ليلتهما) بالجر على الإضافة ويومهما بالنصب على إرادة سير جميعه، ونبه بعض الحذاق على أنه مقلوب. وأن الصواب بقية يومهما وليلتهما لقوله بعده " فلما أصبح " لأنه لا يصبح إلا عن ليل انتهى. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: " فلما أصبح " أي من الليلة التي تلي اليوم الذي سارا جميعه. والله أعلم. قوله: (أنى) أي كيف " بأرضك السلام". ويؤيده ما في التفسير " هل بأرضي من سلام " أو من أين كما في قوله تعالى: (أنى لك هذا) والمعنى من أين السلام في هذه الأرض التي لا يعرف فيها؟ وكأنها كانت بلاد كفر، أو كانت تحيتهم بغير السلام، وفيه دليل على أن الأنبياء ومن دونهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله، إذ لو كان الخضر يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله. قوله: (فانطلقا يمشيان) أي موسى والخضر، ولم يذكر فتى موسى - وهو يوشع - لأنه تابع غير مقصود بالأصالة. قوله: (فكلموهم) ضم يوشع معهما في الكلام لأهل السفينة لأن المقام يقتضي كلام التابع. قوله: (فحملوهما) يقال فيه ما قيل في يمشيان، ويحتمل أن يكون يوشع لم يركب معهما لأنه لم يقع له ذكر بعد ذلك. قوله: (فجاء عصفور) بضم أوله، قيل هو الصرد بضم المهملة وفتح الراء، وفي الرحلة للخطيب أنه الخطاف. قوله: (ما نقص علمي وعلمك من علم الله) لفظ النقص ليس على ظاهره، لأن علم الله لا يدخله النقص، فقيل معناه لم يأخذ، وهذا توجيه حسن. ويكون التشبيه واقعا على الأخذ لا على المأخوذ منه، وأحسن منه أن المراد بالعلم المراد بدليل دخول حرف التبعيض، لأن العلم القائم بذات الله تعالى صفة قديمة لا تتبعض والمعلوم هو الذي يتبعض. وقال الإسماعيلي: المراد أن نقص العصفور لا ينقص البحر بهذا المعنى، وهو كما قيل: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب أي ليس فيهم عيب، وحاصله أن نفي النقص أطلق على سبيل المبالغة. وقيل " إلا " بمعنى ولا أي ولا كنقرة هذا العصفور. وقال القرطبي: من أطلق اللفظ هنا تجوز لقصده التمسك والتعظيم، إذ لا نقص في علم الله ولا نهاية لمعلوماته. وقد وقع في رواية ابن جريج بلفظ أحسن سياقا من هذا وأبعد إشكالا فقال: " ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من البحر " وهو تفسير للفظ الذي وقع هنا، قال: وفي قصة موسى والخضر من الفوائد أن الله يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء مما ينفع أو يضر، فلا مدخل للعقل في أفعاله ولا معارضة لأحكامه، بل يجب على الخلق الرضا والتسليم، فإن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر فلا يتوجه على حكمه لم ولا كيف، كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث وإن العقل لا يحسن ولا يقبح وإن ذلك راجع إلى الشرع: فما حسنه بالثناء عليه فهو حسن، وما قبحه بالذم فهو قبيح. وإن لله تعالى فيما يقضيه حكما وأسرارا في مصالح خفية اعتبرها كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه ولا حكم عقل يتوجه إليه، بل بحسب ما سبق في علمه ونافذ حكمه، فما أطلع الخلق عليه من تلك الأسرار عرف، وإلا فالعقل عنده واقف. فليحذر المرء من الاعتراض فإن مآل ذلك إلى الخيبة. قال: ولننبه هنا على مغلطتين الأولى وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكا بهذه القصة وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة ولم ينظر فيما خص الله به موسى عليه السلام من الرسالة وسماع كلام الله وإعطائه التوراة فيها علم كل شيء، وإن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته ويخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى، وأدلة ذلك في القرآن كثيرة، ويكفي من ذلك قوله تعالى: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) وسيأتي في أحاديث الأنبياء من فضائل موسى ما فيه كفاية. قال: والخضر وإن كان نبيا فليس برسول باتفاق، والرسول أفضل من نبي ليس برسول، ولو تنزلنا على أنه رسول فرسالة موسى أعظم وأمته أكثر فهو أفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل وموسى أفضلهم. وإن قلنا إن الخضر ليس بنبي بل ولي فالنبي أفضل من الولي، وهو أمر مقطوع به عقلا ونقلا، والصائر إلى خلافه كافر لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة. قال: وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحانا لموسى ليعتبر. الثانية ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم، لصفاء قلوبهم عن الأكدار وخلوها عن الأغيار. فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى، ويؤيده الحديث المشهور: " استفت قلبك وإن أفتوك " قال القرطبي: وهذا القول زندقة وكفر، لأنه إنكار لما علم من الشرائع، فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه المبينين لشرائعه وأحكامه، كما قال الله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) وقال: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به، وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به فإن فيه الهدي. وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادعى أن هناك طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الطرق التي جاءت بها الرسل يستغني بها عن الرسول فهو كافر يقتل ولا يستتاب. قال: وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة بعد نبينا، لأن من قال إنه يأخذ عن قلبه لأن الذي يقع فيه هو حكم الله وأنه يعمل بمقتضاه من غير حاجة منه إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي". قال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى، وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت. وكذا قال آخر: أنا آخذ عن قلبي عن ربي. وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع، ونسأل الله الهداية والتوفيق. وقال غيره: من استدل بقصة الخضر على أن الولي يجوز أن يطلع من خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة ويجوز له فعله فقد ضل، وليس ما تمسك به صحيحا، فإن الذي فعله الخضر ليس في شيء منه ما يناقض الشرع، فإن نقض لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعا وعقلا، ولكن مبادرة موسى بالإنكار بحسب الظاهر. وقد وقع ذلك واضحا في رواية أبي إسحاق التي أخرجها مسلم ولفظه: فإذا جاء الذي يسخرها فوجدها منخرقة تجاوزها فأصلحها. فيستفاد منه وجوب التأني عن الإنكار في المحتملات. وأما قتله الغلام فلعله كان في تلك الشريعة. وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان. والله أعلم. قوله: (فعمد) بفتح المهملة والميم، وكذا قوله عمدت. ونول بفتح النون أي أجرة. قوله: (فانطلقا) أي فخرجا من السفينة فانطلقا كما صرح به أيضا في التفسير. قوله: (قال الخضر بيده) هو من إطلاق القول على الفعل، وسنذكر باقي مباحث هذا الحديث في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. *3*باب مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ عَالِمًا جَالِسًا الشرح: قوله: (باب من سأل وهو قائم) جملة حالية عن الفاعل. وقوله: عالما مفعول وجالسا صفة له، والمراد أن العالم الجالس إذا سأله شخص قائم لا يعد من باب من أحب أن يتمثل له الرجال قياما. بل هذا جائز، بشرط الأمن من الإعجاب. قاله ابن المنير. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الشرح: قوله: (حدثنا عثمان) و ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وأبو وائل هو شقيق، وأبو موسى هو الأشعري، وكلهم كوفيون. قوله: (قال وما رفع إليه رأسه) ظاهره أن القائل هو أبو موسى، ويحتمل أن يكون من دونه فيكون مدرجا في أثناء الخبر. قوله: (من قاتل الخ) هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم لأنه أجاب بلفظ جامع لمعنى السؤال مع الزيادة عليه، وفي الحديث شاهد لحديث " الأعمال بالنيات"، وأنه لا بأس بقيام طالب الحاجة عند أمن الكبر، وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين مختص بمن قاتل لإعلاء دين الله. وفيه استحباب إقبال المسئول على السائل. وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. *3*باب السُّؤَالِ وَالْفُتْيَا عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ الشرح: قوله: (باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار) مراده أن اشتغال العالم بالطاعة لا يمنع من سؤاله عن العلم ما لم يكن مستغرقا فيها، " إن الكلام في الرمي وغيره من المناسك جائز. وقد تقدم هذا الحديث في باب الفتيا على الدابة، وأخر الكلام على المتن إلى الحج. وعبد العزيز بن أبي سلمة هو ابن عبد الله نسب إلى جده أبي سلمة الماجشون بكسر الجيم وبشين معجمة. وقد اعترض بعضهم على الترجمة بأنه ليس في الخبر أن المسألة وقعت في حال الرمي بل فيه أنه كان واقفا عندها فقط، وأجيب بأن المصنف كثيرا ما يتمسك بالعموم، فوقوع السؤال عند الجمرة أعم من أن يكون في حال اشتغاله بالرمي أو بعد الفراغ منه واستدل الإسماعيلي بالخبر على أن الترتيب قائم مقام اللفظ، أي بأي صيغة ورد ما لم يقم دليل على عدم إرادته والله أعلم. وحاصله أنه لو لم يفهموا أن ذلك هو الأصل لما احتاجوا إلى السؤال عن حكم تقديم الأول على الثاني، إذا ورد الأمر لشيئين معطوفا بالواو، فيقال: الأصل العمل بتقديم ما قدم وتأخير ما أخر حتى يقوم الدليل على التسوية، ولمن يقول بعدم الترتيب أصلا أن يتمسك بهذا الخبر يقول حتى يقوم دليل على وجوب الترتيب. واعترض الإسماعيلي أيضا على الترجمة فقال: لا فائدة في ذكر المكان الذي وقع السؤال فيه حتى يفرد بباب، وعلى تقدير اعتبار مثل ذلك فليترجم بباب السؤال والمسئول على الراحلة وبباب السؤال يوم النحر. قلت: أما نفي الفائدة فتقدم الجواب عنه، ويراد أن سؤال من لا يعرف الحكم عنه في موضع فعله حسن بل واجب عليه، لأن صحة العمل متوقفة على العلم بكيفيته، وأن سؤال العالم على قارعة الطريق عما يحتاج إليه السائل لا نقص فيه على العالم إذا أجاب ولا لوم على السائل. ويستفاد منه أيضا دفع توهم من يظن أن في الاشتغال بالسؤال والجواب عند الجمرة تضييقا على الرامين. وهذا وإن كان كذلك لكن يستثنى من المنع ما إذا كان فيما يتعلق بحكم تلك العبادة. وأما إلزام الإسماعيلي. فجوابه أنه ترجم للأول فيما مضى " باب الفتيا وهو واقف على الدابة"، وأما الثاني فكأنه أراد أن يقابل المكان بالزمان، وهو متجه، وإن كان معلوما أن السؤال عن العلم لا يتقيد بيوم دون يوم، لكن قد يتخيل متخيل من كون يوم العيد يوم لهو امتناع السؤال عن العلم فيه. والله أعلم. |
02-01-2013, 07:07 PM | #75 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب السَّمَرِ فِي الْعِلْمِ
الشرح: قوله: (باب السمر) و بفتح المهملة والميم، وقيل الصواب إسكان الميم لأنه اسم للفعل، ومعناه الحديث بالليل قبل النوم. وبهذا يظهر الفرق بين هذه الترجمة والتي قبلها. قوله: (في العلم) كذا في رواية أبي ذر بإضافة الباب إلى السمر. وفي رواية غيره باب السمر في العلم بتنوين باب. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ الشرح: قوله: (حدثني الليث قال: حدثني عبد الرحمن) أي أنه حدثه عبد الرحمن. وفي رواية غير أبي ذر حدثني عبد الرحمن، والليث وعبد الرحمن قرينان. قوله: (عن سالم) أي ابن عبد الله بن عمر. قوله: (أبي حثمة) بفتح المهملة وسكون المثلثة، واسم أبي حثمة عبد الله بن حذيفة العدوي، وأما أبو بكر الرازي فتابعي مشهور لم يسم، وقد قيل إن اسمه كنيته. قوله: (صلى لنا) أي إماما. وفي رواية " بنا " بموحدة. قوله: (العشاء) أي صلاة العشاء. قوله: (في آخر حياته) جاء مقيدا في رواية جابر أن ذلك كان قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهر. قوله: (أرأيتكم) هو بفتح المثناة لأنها ضمير المخاطب والكاف ضمير ثان لا محل لها من الإعراب والهمزة الأولى للاستفهام، والرؤية بمعنى العلم أو البصر، والمعنى أعلمتم أو أبصرتم ليلتكم، وهي منصوبة على المفعولية، والجواب محذوف تقديره قالوا نعم، قال فاضبطوها. وترد أرأيتكم للاستخبار كما في قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله) الآية، قال الزمخشري: المعنى أخبروني. ومتعلق الاستخبار محذوف تقديره من تدعون. ثم بكتهم فقال: (أغير الله تدعون) . انتهى. وإنما أوردت هذا لأن بعض الناس نقل كلام الزمخشري في الآية إلى هذا الحديث، وفيه نظر لأنه جعل التقدير أخبروني ليلتكم هذه فاحفظوها، وليس ذلك مطابقا لسياق الآية. قوله: (فإن رأس) وللأصيلي " فإن على رأس " أي عند انتهاء مائه سنة. قوله: (منها) فيه دليل على أن " من " تكون لابتداء الغاية في الزمان كقول الكوفيين، وقد رد ذلك نحاة البصرة. وأولوا ما ورد من شواهده كقوله تعالى: (من أول يوم أحق أن تقوم فيه) وقول أنس ما زلت أحب الدباء من يومئذ، وقوله: مطرنا من يوم الجمعة إلى الجمعة. قوله: (لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض) أي الآن موجودا أحد إذ داك، وقد ثبت هذا التقدير عند المصنف من رواية شعيب عن الزهري كما سيأتي في الصلاة مع بقية الكلام عليه، قال ابن بطال: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه المدة تخترم الجيل الذي هم فيه، فوعظهم بقصر أعمارهم، وأعلمهم أن أعمارهم ليست كأعمار من تقدم من الأمم ليجتهدوا في العبادة. وقال النووي: المراد أن كل من كان تلك الليلة على الأرض لا يعيش بعد هذه الليلة أكثر من مائة سنة سواء قل عمره قبل ذلك أم لا، وليس فيه نفي حياة أحد يولد بعد تلك الليلة مائة سنة. والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ ثُمَّ قَالَ نَامَ الْغُلَيِّمُ أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أَوْ خَطِيطَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ الشرح: قوله: (حدثنا الحكم) بفتحتين هو ابن عتيبة بالمثناة تصغير عتبة، وهو تابعي صغير، وكان أحد الفقهاء. قوله: (ثم جاء) أي من المسجد. قوله: (نام الغليم) بضم المعجمية وهو من تصغير الشفقة، والمراد به ابن عباس، ويحتمل أن يكون ذلك إخبارا منه صلى الله عليه وسلم بنومه أو استفهاما بحذف الهمزة وهو الواقع. ووقع في بعض النسخ: " يا أم الغليم " بالنداء وهو تصحيف لم تثبت به رواية. قوله: (أو كلمة) بالشك من الراوي، والمراد بالكلمة الجملة أو المفردة، ففي رواية أخرى " نام الغلام". قوله: (غطيطه) بفتح الغين المعجمة وهو صوت نفس النائم، والنخير أقوى منه. قوله: (أو خطيطه) بالخاء المعجمة، والشك فيه من الراوي، وهو بمعنى الأول قاله الداودي. وقال ابن بطال: لم أجده بالخاء المعجمة عند أهل اللغة. وتبعه القاضي عياض فقال: هو هنا وهم. انتهى. وقد نقل ابن الأثير عن أهل الغريب أنه دون الغطيط. قوله: (ثم صلى ركعتين) أي ركعتي الفجر. وأغرب الكرماني فقال: إنما فصل بينهما وبين الخمس ولم يقل سبع ركعات لأن الخمس اقتدى ابن عباس به فيها بخلاف الركعتين، أو لأن الخمس بسلام والركعتين بسلام آخر انتهى. وكأنه ظن أن الركعتين من جملة صلاة الليل وهو محتمل لكن حملهما على سنة الفجر أولى ليحصل الختم بالوتر، وسيأتي تفصيل هذه المسألة في كتاب الصلاة في باب الوتر إن شاء الله تعالى. ومناسبة حديث ابن عمر للترجمة ظاهرة لقوله فيه: " قام فقال " بعد قوله: " صلى العشاء " وأما حديث ابن عباس فقال ابن المنير ومن تبعه: يحتمل أن يريد أن أصل السمر يثبت بهذه الكلمة وهي قوله: " نام الغليم"، ويحتمل أن يريد ارتقاب ابن عباس لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين التعليم من القول والتعليم من الفعل، فقد سمر ابن عباس ليلته في طلب العلم، زاد الكرماني أو ما يفهم من جعله إياه على يمينه كأنه قال له قف عن يميني فقال وقفت ا ه. وكل ما ذكره معترض، لأن من يتكلم بكلمة واحدة لا يسمى سامرا، وصنيع ابن عباس يسمى سهرا لا سمرا إذ السمر لا يكون إلا عن تحدث قاله الإسماعيلي، وأبعدها الأخير لأن ما يقع بعد الانتباه من النوم لا يسمى سمرا. وقال الكرماني تبعا لغيره أيضا: يحتمل أن يكون مراد البخاري أن الأقارب إذا اجتمعوا لا بد أن يجري بينهم حديث للمؤانسة وحديثه صلى الله عليه وسلم كله علم وفوائد. قلت: والأولى من هذا كله أن مناسبة الترجمة مستفادة من لفظ آخر في هذا الحديث بعينه من طريق أخرى، وهذا يصنعه المصنف كثيرا يريد به تنبيه الناظر في كتابه على الاعتناء بتتبع طرق الحديث، والنظر في مواقع ألفاظ الرواة، لأن تفسير الحديث بالحديث أولى من الخوض فيه بالظن. وإنما أراد البخاري هنا ما وقع في بعض طرق هذا الحديث مما يدل صريحا على حقيقة السمر بعد العشاء، وهو ما أخرجه في التفسير وغيره من طريق كريب عن ابن عباس قال: بت في بيت ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد. . الحديث. فصحت الترجمة بحمد الله تعالى من غير حاجة إلى تعسف ولا رجم بالظن. فإن قيل: هذا إنما يدل على السمر مع الأهل لا في العلم، فالجواب أنه يلحق به، والجامع تحصيل الفائدة، أو هو بدليل الفحوى، لأنه إذا شرع في المباح ففي المستحب من طريق الأولى. وسنذكر باقي مباحث هذا الحديث حيث ذكره المصنف مطولا في كتاب الوتر من كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى. ويدخل في هذا الباب حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم بعد العشاء، وقد ذكره المصنف في كتاب الصلاة. ولأنس حديث آخر في قصة أسيد بن حضير وقد ذكره المصنف في المناقب، وحديث عمر " كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين " أخرجه الترمذي والنسائي ورجاله ثقات، وهو صريح في المقصود، إلا أن في إسناده اختلافا على علقمة، فلذلك لم يصح على شرطه. وحديث عبد الله بن عمرو: " كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح لا يقوم إلا إلى عظيم صلاة " رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة، وهو من رواية أبي حسان عن عبد الله بن عمرو وليس على شرط البخاري، وأما حديث " لا سمر إلا لمصل أو مسافر " فهو عند أحمد بسند فيه راو مجهول، وعلى تقدير ثبوته فالسمر في العلم يلحق بالسمر في الصلاة نافلة، وقد سمر عمر مع أبي موسى في مذاكرة الفقه فقال أبو موسى: " الصلاة " فقال عمر: إنا في صلاة. والله أعلم. |
02-01-2013, 07:10 PM | #76 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب حِفْظِ الْعِلْمِ
الشرح: قوله: (باب حفظ العلم) لم يذكر في الباب شيئا عن غير أبي هريرة، وذلك لأنه كان أحفظ الصحابة للحديث، قال الشافعي رضي الله عنه: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره. وقد كان ابن عمر يترحم عليه في جنازته ويقول: كان يحفظ على المسلمين حديث النبي صلى الله عليه وسلم، رواه ابن سعد. وقد دل الحديث الثالث من الباب على أنه لم يحدث بجميع محفوظه، ومع ذلك فالموجود من حديثه أكثر من الموجود من حديث غيره من المكثرين، ولا يعارض هذا ما تقدم من تقديمه عبد الله بن عمرو على نفسه في كثرة الحديث لأنا قدمنا الجواب عن ذلك، ولأن الحديث الثاني من الباب دل على أنه لم ينس شيئا سمعه، ولم يثبت مثل ذلك لغيره. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا ثُمَّ يَتْلُو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى إِلَى قَوْلِهِ الرَّحِيمُ إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ الشرح: قوله: (حدثنا عبد العزيز) هو الأويسي المدني، والإسناد كله مدنيون. قوله: (أكثر أبو هريرة) أي من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح به المصنف في البيوع من طريق شعيب عن الزهري، وله فيه وفي المزارعة من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري هنا زيادة وهي: " ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه " وبها تبين الحكمة في ذكره المهاجرين والأنصار ووضعه المظهر موضع المضمر على طريق الحكاية حيث قال: " أكثر أبو هريرة " ولم يقل أكثرت. قوله: (ولولا آيتان) مقول قال لا مقول يقولون، وقوله: ثم يتلو مقول الأعرج، وذكره بلفظ المضارع استحضارا لصورة التلاوة، ومعناه: لولا أن الله ذم الكاتمين للعلم ما حدث أصلا، لكن لما كان الكتمان حراما وجب الإظهار، فلهذا حصلت الكثرة لكثرة ما عنده. ثم ذكر سبب الكثرة بقوله: " إن إخواننا " وأراد بصيغة الجمع نفسه وأمثاله، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام. قوله: (يشغلهم) فتح أوله من الثلاثي، وحكى ضمه وهو شاذ. قوله: (الصفق) إسكان الفاء، هو ضرب اليد على اليد، وجرت به عادتهم عند عقد البيع. قوله: (في أموالهم) أي القيام على مصالح زرعهم، ولمسلم " كان يشغلهم عمل أرضيهم " ولابن سعد " كان يشغلهم القيام على أرضيهم". قوله: (وإن أبا هريرة) فيه التفات إذ كان نسق الكلام أن يقول: وإني. قوله: (لشبع) بلام التعليل للأكثر وهو الثابت في غير البخاري أيضا، وللأصيلي " بشبع " بموحدة أوله، وزاد المصنف في البيوع " وكنت امرءا مسكينا من مساكين الصفة". قوله: (ويحضر) أي من الأحوال (ويحفظ) أي من الأقوال، وهما معطوفان على قوله: " يلزم". وقد روى البخاري في التاريخ والحاكم في المستدرك من حديث طلحة بن عبيد الله شاهدا لحديث أبي هريرة هذا ولفظه " لا أشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا نسمع، وذلك إنه كان مسكينا لا شيء له ضيفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج البخاري في التاريخ والبيهقي في المدخل من حديث محمد بن عمارة بن حزم أنه قعد في مجلس فيه مشيخة من الصحابة بضعة عشر رجلا فجعل أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث فلا يعرفه بعضهم، فيراجعون فيه حتى يعرفوه، ثم يحدثهم بالحديث كذلك حتى فعل مرارا، فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس. وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفنا بحديثه. قال الترمذي حسن. واختلف في إسناد هذا الحديث على الزهري فرواه مالك عنه هكذا، ووافقه إبراهيم بن سعد وسفيان بن عيينة، ورواه شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي هريرة، وتابعه يونس بن يزيد. والإسنادان جميعا محفوظان صححهما الشيخان، وزادوا في روايتهم عن الزهري شيئا سنذكره في هذا الحديث الثاني: الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ قَالَ ابْسُطْ رِدَاءَكَ فَبَسَطْتُهُ قَالَ فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا أَوْ قَالَ غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ الشرح: قوله. (حدثنا أحمد بن أبي بكر) هو الزهري المدني صاحب مالك، وسقط قوله أبو مصعب من رواية الأصيلي وأبي ذر، وهو بكنيته أشهر. والإسناد كله مدنيون أيضا وكذا الذي بعده. قوله: (كثيرا) هو صفة لقوله حديثا لأنه اسم جنس. قوله: (فغرف) لم يذكر المغروف منه وكأنها كانت إشارة محضة. قوله: (ضم) وللكشميهني والباقين " ضمه " وهو بفتح الميم ويجوز ضمها، وقيل يتعين لأجل ضمة الهاء، ويجوز كسرها لكن مع إسكان الهاء وكسرها. قوله: (فما نسيت شيئا بعد) هو مقطوع الإضافة مبني على الضم، وتنكير شيئا بعد النفي ظاهر العموم في عدم النسيان منه لكل شيء من الحديث وغيره. ووقع في رواية ابن عيينة وغيره عن الزهري في الحديث الماضي " فوالذي بعثه بالحق ما نسيت شيئا سمعته منه". وفي رواية يونس عند مسلم: " فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به " وهذا يقتضي تخصيص عدم النسيان بالحديث. ووقع في رواية شعيب: " فما نسيت من مقالته تلك من شيء " وهذا يقتضي عدم النسيان بتلك المقالة فقط، لكن سياق الكلام يقتضي ترجيح رواية يونس ومن وافقه لأن أبا هريرة نبه به على كثرة محفوظه من الحديث فلا يصح حمله على تلك المقالة وحدها، ويحتمل أن تكون وقعت له قضيتان: فالتي رواها الزهري مختصة بتلك المقالة، والقضية التي رواها سعيد المقبري عامة. وأما ما أخرجه ابن وهب من طريق الحسن بن عمرو بن أمية قال: تحدثت عند أبي هريرة بحديث فأنكره، فقلت إني سمعت منك، فقال: إن كنت سمعته مني فهو مكتوب عندي. فقد يتمسك به في تخصيص عدم النسيان بتلك المقالة لكن سند هذا ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فهو نادر. ويلتحق به حديث أبي سلمة عنه " لا عدوى " فإنه قال فيه: إن أبا هريرة أنكره. قال: فما رأيته نسي شيئا غيره. (فائدة) : المقالة المشار إليها في حديث الزهري أبهمت في جميع طرقه، وقد وجدتها مصرحا بها في جامع الترمذي وفي الحلية لأبي نعيم من طريق أخرى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من رجل يسمع كلمة أو كلمتين أو ثلاثا أو أربعا أو خمسا مما فرض الله فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة " فذكر الحديث. وفي هذين الحديثين فضيلة ظاهرة لأبي هريرة ومعجزة واضحة من علامات النبوة، لأن النسيان من لوازم الإنسان، وقد اعترف أبو هريرة بأنه كان يكثر منه ثم تخلف عنه ببركة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي المستدرك للحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: " كنت أنا وأبو هريرة وآخر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادعوا. فدعوت أنا وصاحبي وأمن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي، وأسألك علما لا ينسى. فأمن النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: ونحن كذلك يا رسول الله، فقال: سبقكما الغلام الدوسي " وفيه الحث على حفظ العلم، وفيه أن التقلل من الدنيا أمكن لحفظه. وفيه فضيلة التكسب لمن له عيال، وفيه جواز إخبار المرء بما فيه من فضيلة إذ اضطر إلى ذلك وأمن من الإعجاب. قوله: (ابن أبي فديك بهذا) أشكل قوله بهذا على بعض الشارحين لأن ابن أبي فديك لم يتقدم له ذكر، وقد ظن بعضهم أنه محمد بن إبراهيم بن دينار المذكور قبل، فيكون مراده أن السياقين متحدان إلا في اللفظة المبينة فيه، وليس كما ظن، لأن ابن أبي فديك اسمه محمد بن إسماعيل بن مسلم وهو ليثي يكنى أبا إسماعيل، وابن دينار جهني يكنى أبا عبد الله، لكن اشتركا في الرواية عن ابن أبي ذئب لهذا الحديث ولغيره، وفي كونهما مدنيين، وجوز بعضهم أن يكون الحديث عند المصنف بإسناد آخر عن ابن أبي ذئب، وكل ذلك غفلة عما عند المصنف في علامات النبوة فقد ساقه بالإسناد المذكور، والمتن من غير تغيير إلا في قوله: " بيديه " فإنه ذكرها بالإفراد. وقال فيها أيضا: " فغرف " وهي رواية الأكثرين في حديث الباب، ووقع في رواية المستملي وحده " فحذف " بدل فغرف، وهو تصحيف لما وضح في سياقه في علامات النبوة. وقد رواه ابن سعد في الطبقات عن ابن أبي فديك فقال: فغرف. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس (حدثني أخي) هو أبو بكر عبد الحميد. قوله: (حفظت عن) وفي رواية الكشميهني " من " بدل عن، وهي أصرح في تلقيه من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة. قوله: (وعاءين) أي ظرفين، أطلق المحل وأراد به الحال، أي نوعين من العلم، وبهذا التقرير يندفع إيراد من زعم أن هذا يعارض قوله في الحديث الماضي " كنت لا أكتب " وإنما مراده أن محفوظه من الحديث لو كتب لملأ وعاءين، ويحتمل أن يكون أبو هريرة أملى حديثه على من يثق به فكتبه له وتركه عنده، والأول أولى. ووقع في المسند عنه " حفظت ثلاثة أجربة، بثثت منها جرابين " وليس هذا مخالفا لحديث الباب لأنه يحمل على أن أحد الوعاءين كان أكبر من الآخر بحيث يجيء ما في الكبير في جرابين وما في الصغير في واحد. ووقع في المحدث الفاضل للرامهرمزي من طريق منقطعة عن أبي هريرة " خمسة أجربة " وهو إن ثبت محمول على نحو ما تقدم. وعرف من هذا أن ما نشره من الحديث أكثر مما لم ينشره. قوله: (بثثته) بفتح الموحدة والمثلثة وبعدها مثلثة ساكنة تدغم في المثناة التي بعدها أي أذعته ونشرته، زاد الإسماعيلي: في الناس. قوله: (قطع هذا البلعوم) زاد في رواية المستملي: قال أبو عبد الله - يعني المصنف - البلعوم مجرى الطعام، وهو بضم الموحدة، وكنى بذلك عن القتل. وفي رواية الإسماعيلي " لقطع هذا " يعني رأسه. وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية لأنها كانت سنة ستين من الهجرة. واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك أيضا في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. قال ابن المنير: جعل الباطنية هذا الحديث ذريعة إلى تصحيح باطلهم حيث اعتقدوا أن للشريعة ظاهرا وباطنا، وذلك الباطن إنما حاصله الانحلال من الدين. قال: وإنما أراد أبو هريرة بقوله: " قطع " أي قطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه لفعلهم وتضليله لسعيهم، ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتوبة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم. وقال غيره يحتمل أن يكون أراد مع الصنف المذكور ما يتعلق بأشراط الساعة وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان، فينكر ذلك من لم يألفه، ويعترض عليه من لا شعور له به.* |
02-01-2013, 07:10 PM | #77 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب الْإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ
الشرح: قوله: (باب الإنصات للعلماء) أي السكوت والاستماع لما يقولونه. الحديث: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ اسْتَنْصِتْ النَّاسَ فَقَالَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ الشرح: قوله: (حدثنا حجاج) هو ابن منهال. قوله: (عن جرير) هو ابن عبد الله البجلي، وهو جد أبي زرعة الراوي عنه هنا. قوله: (قال له في حجة الوداع) ادعى بعضهم أن لفظ " له " زيادة، لأن جريرا إنما أسلم بعد حجة الوداع بنحو من شهرين، فقد جزم ابن عبد البر بأنه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما، وما جزم به يعارضه قول البغوي وابن حبان إنه أسلم في رمضان سنة عشر. ووقع في رواية المصنف لهذا الحديث في باب حجة الوداع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجرير، وهذا لا يحتمل التأويل فيقوي ما قال البغوي. والله أعلم. قوله: (يضرب) هو بضم الباء في الروايات، والمعنى لا تفعلوا فعل الكفار فتشبهوهم في حالة قتل بعضهم بعضا. وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: فيه أن الإنصات للعلماء لازم للمتعلمين، لأن العلماء ورثة الأنبياء. كأنه أراد بهذا مناسبة الترجمة للحديث، وذلك أن الخطبة المذكورة كانت في حجة الوداع والجمع كثير جدا، وكان اجتماعهم لرمي الجمار وغير ذلك من أمور الحج، وقد قال لهم: " خذوا عني مناسككم " كما ثبت في صحيح مسلم، فلما خطبهم ليعلمهم ناسب أن يأمرهم بالإنصات. وقد وقع التفريق بين الإنصات والاستماع في قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) ومعناهما مختلف، فالإنصات هو السكوت وهو يحصل ممن يستمع وممن لا يستمع كأن يكون مفكرا في أمر آخر، وكذلك الاستماع قد يكون مع السكوت وقد يكون مع النطق بكلام آخر لا يشتغل الناطق به عن فهم ما يقول الذي يستمع منه، وقد قال سفيان الثوري وغيره: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر. وعن الأصمعي تقديم الإنصات على الاستماع. وقد ذكر علي بن المديني أنه قال لابن عيينة: أخبرني معتمر بن سليمان عن كهمس عن مطرف قال: الإنصات من العينين. فقال له ابن عيينة: وما ندري كيف ذلك؟ قال: إذا حدثت رجلا فلم ينظر إليك لم يكن منصتا انتهى. وهذا محمول على الغالب. والله أعلم. *3*باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ الشرح: قوله: (باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم) أي من غيره، والفاء في قوله: " فيكل " تفسيرية بناء على أن فعل المضارع بتقدير المصدر، أي ما يستحب عند السؤال هو الوكول. وفي رواية " أن يكل " وهو أوضح. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا الْبَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ وَحَمَلَا حُوتًا فِي مِكْتَلٍ حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنْ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنْ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ أَوْ قَالَ تَسَجَّى بِثَوْبِهِ فَسَلَّمَ مُوسَى فَقَالَ الْخَضِرُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ فَقَالَ أَنَا مُوسَى فَقَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ قَالَ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا فَعُرِفَ الْخَضِرُ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ الْخَضِرُ يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا فَكَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا فَانْطَلَقَا فَإِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلَاهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَهَذَا أَوْكَدُ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن محمد) هو الجعفي المسندي، وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار، ونوف بفتح النون وبالفاء، والبكالي بفتح الموحدة وكسرها وتخفيف الكاف - ووهم من شددها - منسوب إلى بكال بطن من حمير، ووهم من قال إنه منسوب إلى بكيل بكسر الكاف بطن من همدان لأنهما متغايران، ونوف المذكور تابعي من أهل دمشق فاضل عالم لا سيما بالإسرائيليات، وكان ابن امرأة كعب الأحبار وقيل غير ذلك. قوله: (إن موسى) أي صاحب الخضر، وصرح به المصنف في التفسير. قوله: (إنما هو موسى آخر) كذا في روايتنا بغير تنوين فيهما، وهو علم على شخص معين قالوا إنه موسى بن ميشا بكسر الميم وبالشين المعجمة، وجزم بعضهم أنه منون مصروف لأنه نكرة، ونقل عن ابن مالك أنه جعله مثالا للعلم إذا نكر تخفيفا، قال: وفيه بحث. قوله: (كذب عدو الله) قال ابن التين: لم يرد ابن عباس إخراج نوف عن ولاية الله، ولكن قلوب العلماء تنفر إذا سمعت غير الحق، فيطلقون أمثال هذا الكلام لقصد الزجر والتحذير منه وحقيقته غير مرادة. قلت: ويجوز أن يكون ابن عباس اتهم نوفا في صحة إسلامه، فلهذا لم يقل في حق الحر بن قيس هذه المقالة مع تواردهما عليها. وأما تكذيبه فيستفاد منه أن للعالم إذا كان عنده علم بشيء فسمع غيره يذكر فيه شيئا بغير علم أن يكذبه، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: " كذب أبو السنابل " أي أخبر بما هو باطل في نفس الأمر. قوله: (حدثني أبي بن كعب) في استدلاله بذلك دليل على قوة خير الواحد المتقن عنده حيث يطلق مثل هذا الكلام في حق من خالفه، وفي الإسناد رواية تابعي عن تابعي وهما عمرو وسعيد، وصحابي عن صحابي وهما ابن عباس وأبي. قوله: (فقال أنا أعلم) في جواب أي الناس أعلم، قيل: إنه مخالف لقوله في الرواية السابقة في باب الخروج في طلب العلم قال: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ وعندي لا مخالفة بينهما، لأن قوله هنا " أنا أعلم " أي فيما أعلم، فيطابق قوله " لا " في جواب من قال له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ في إسناد ذلك إلى علمه لا إلى ما في نفس الأمر. وعند النسائي من طريق عبد الله بن عبيد عن سعيد بن جبير بهذا السند " قام موسى خطيبا فعرض في نفسه أن أحدا لم يؤت من العلم ما أوتي، وعلم الله بما حدث به نفسه فقال: يا موسى، إن من عبادي من آتيته من العلم ما لم أوتك " وعند عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير " فقال: ما أجد أحدا أعلم بالله وأمره مني". وهو عند مسلم من وجه آخر عن أبي إسحاق بلفظ " ما أعلم في الأرض رجلا خيرا أو أعلم مني " قال ابن المنير: ظن ابن بطال أن ترك موسى الجواب عن هذه المسألة كان أولى. قال: وعندي أنه ليس كذلك، بل رد العلم إلى الله تعالى متعين أجاب أو لم يجب، فلو قال موسى عليه السلام: " أنا والله أعلم " لم تحصل المعاتبة، وإنما عوتب على اقتصاره على ذلك، أي لأن الجزم يوهم أنه كذلك في نفس الأمر، وإنما مراده الإخبار بما في علمه كما قدمناه، والعتب من الله تعالى محمول على ما يليق به لا على معناه العرفي في الآدميين كنظائره. قوله: (هو أعلم منك) ظاهر في أن الخضر نبي، بل نبي مرسل، إذ لو لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى وهو باطل من القول، ولهذا أورد الزمخشري سؤالا وهو: دلت حاجة موسى إلى التعليم من غيره أنه موسى بن ميشا كما قيل، إذ النبي يجب أن يكون أعلم أهل زمانه، وأجاب عنه بأنه لا نقص بالنبي في أخذ العلم من نبي مثله، قلت: وفي الجواب نظر، لأنه يستلزم نفي ما أوجب، والحق أن المراد بهذا الإطلاق تقييد الأعلمية بأمر مخصوص، لقوله بعد ذلك " إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه " والمراد بكون النبي أعلم أهل زمانه أي ممن أرسل إليه، ولم يكن موسى مرسلا إلى الخضر، وإذا فلا نقص به إذا كان الخضر أعلم منه إن قلنا إنه نبي مرسل، أو أعلم منه في أمر مخصوص إن قلنا إنه نبي أو ولي، وينحل بهذا التقرير إشكالات كثيرة. ومن أوضح ما يستدل به على نبوة الخضر قوله: (وما فعلته عن أمري) وينبغي اعتقاد كونه نبيا لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي، حاشا وكلا. وتعقب ابن المنير على ابن بطال إيراده في هذا الموضع كثيرا من أقوال السلف في التحذير من الدعوى في العلم، والحث على قول العالم لا أدري، بأن سياق مثل ذلك في هذا الموضع غير لائق، وهو كما قال رحمه الله. قال: وليس قول موسى عليه السلام أنا أعلم كقول آحاد الناس مثل ذلك، ولا نتيجة قوله كنتيجة قولهم فإن نتيجة قولهم العجب والكبر ونتيجة قوله المزيد من العلم والحث على التواضع والحرص على طلب العلم. واستدلاله به أيضا على أنه لا يجوز الاعتراض بالعقل على الشرع خطأ، لأن موسى إنما اعترض بظاهر الشرع لا بالعقل المجرد، ففيه حجة على صحة الاعتراض بالشرع على ما لا يسوغ فيه ولو كان مستقيما في باطن الأمر. قوله: (في مكتل) كسر الميم وفتح المثناة من فوق. قوله: (فانطلقا بقية ليلتهما) بالجر على الإضافة ويومهما بالنصب على إرادة سير جميعه، ونبه بعض الحذاق على أنه مقلوب. وأن الصواب بقية يومهما وليلتهما لقوله بعده " فلما أصبح " لأنه لا يصبح إلا عن ليل انتهى. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: " فلما أصبح " أي من الليلة التي تلي اليوم الذي سارا جميعه. والله أعلم. قوله: (أنى) أي كيف " بأرضك السلام". ويؤيده ما في التفسير " هل بأرضي من سلام " أو من أين كما في قوله تعالى: (أنى لك هذا) والمعنى من أين السلام في هذه الأرض التي لا يعرف فيها؟ وكأنها كانت بلاد كفر، أو كانت تحيتهم بغير السلام، وفيه دليل على أن الأنبياء ومن دونهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله، إذ لو كان الخضر يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله. قوله: (فانطلقا يمشيان) أي موسى والخضر، ولم يذكر فتى موسى - وهو يوشع - لأنه تابع غير مقصود بالأصالة. قوله: (فكلموهم) ضم يوشع معهما في الكلام لأهل السفينة لأن المقام يقتضي كلام التابع. قوله: (فحملوهما) يقال فيه ما قيل في يمشيان، ويحتمل أن يكون يوشع لم يركب معهما لأنه لم يقع له ذكر بعد ذلك. قوله: (فجاء عصفور) بضم أوله، قيل هو الصرد بضم المهملة وفتح الراء، وفي الرحلة للخطيب أنه الخطاف. قوله: (ما نقص علمي وعلمك من علم الله) لفظ النقص ليس على ظاهره، لأن علم الله لا يدخله النقص، فقيل معناه لم يأخذ، وهذا توجيه حسن. ويكون التشبيه واقعا على الأخذ لا على المأخوذ منه، وأحسن منه أن المراد بالعلم المراد بدليل دخول حرف التبعيض، لأن العلم القائم بذات الله تعالى صفة قديمة لا تتبعض والمعلوم هو الذي يتبعض. وقال الإسماعيلي: المراد أن نقص العصفور لا ينقص البحر بهذا المعنى، وهو كما قيل: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب أي ليس فيهم عيب، وحاصله أن نفي النقص أطلق على سبيل المبالغة. وقيل " إلا " بمعنى ولا أي ولا كنقرة هذا العصفور. وقال القرطبي: من أطلق اللفظ هنا تجوز لقصده التمسك والتعظيم، إذ لا نقص في علم الله ولا نهاية لمعلوماته. وقد وقع في رواية ابن جريج بلفظ أحسن سياقا من هذا وأبعد إشكالا فقال: " ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من البحر " وهو تفسير للفظ الذي وقع هنا، قال: وفي قصة موسى والخضر من الفوائد أن الله يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء مما ينفع أو يضر، فلا مدخل للعقل في أفعاله ولا معارضة لأحكامه، بل يجب على الخلق الرضا والتسليم، فإن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر فلا يتوجه على حكمه لم ولا كيف، كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث وإن العقل لا يحسن ولا يقبح وإن ذلك راجع إلى الشرع: فما حسنه بالثناء عليه فهو حسن، وما قبحه بالذم فهو قبيح. وإن لله تعالى فيما يقضيه حكما وأسرارا في مصالح خفية اعتبرها كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه ولا حكم عقل يتوجه إليه، بل بحسب ما سبق في علمه ونافذ حكمه، فما أطلع الخلق عليه من تلك الأسرار عرف، وإلا فالعقل عنده واقف. فليحذر المرء من الاعتراض فإن مآل ذلك إلى الخيبة. قال: ولننبه هنا على مغلطتين الأولى وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكا بهذه القصة وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة ولم ينظر فيما خص الله به موسى عليه السلام من الرسالة وسماع كلام الله وإعطائه التوراة فيها علم كل شيء، وإن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته ويخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى، وأدلة ذلك في القرآن كثيرة، ويكفي من ذلك قوله تعالى: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) وسيأتي في أحاديث الأنبياء من فضائل موسى ما فيه كفاية. قال: والخضر وإن كان نبيا فليس برسول باتفاق، والرسول أفضل من نبي ليس برسول، ولو تنزلنا على أنه رسول فرسالة موسى أعظم وأمته أكثر فهو أفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل وموسى أفضلهم. وإن قلنا إن الخضر ليس بنبي بل ولي فالنبي أفضل من الولي، وهو أمر مقطوع به عقلا ونقلا، والصائر إلى خلافه كافر لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة. قال: وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحانا لموسى ليعتبر. الثانية ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم، لصفاء قلوبهم عن الأكدار وخلوها عن الأغيار. فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى، ويؤيده الحديث المشهور: " استفت قلبك وإن أفتوك " قال القرطبي: وهذا القول زندقة وكفر، لأنه إنكار لما علم من الشرائع، فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه المبينين لشرائعه وأحكامه، كما قال الله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) وقال: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به، وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به فإن فيه الهدي. وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادعى أن هناك طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الطرق التي جاءت بها الرسل يستغني بها عن الرسول فهو كافر يقتل ولا يستتاب. قال: وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة بعد نبينا، لأن من قال إنه يأخذ عن قلبه لأن الذي يقع فيه هو حكم الله وأنه يعمل بمقتضاه من غير حاجة منه إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي". قال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى، وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت. وكذا قال آخر: أنا آخذ عن قلبي عن ربي. وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع، ونسأل الله الهداية والتوفيق. وقال غيره: من استدل بقصة الخضر على أن الولي يجوز أن يطلع من خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة ويجوز له فعله فقد ضل، وليس ما تمسك به صحيحا، فإن الذي فعله الخضر ليس في شيء منه ما يناقض الشرع، فإن نقض لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعا وعقلا، ولكن مبادرة موسى بالإنكار بحسب الظاهر. وقد وقع ذلك واضحا في رواية أبي إسحاق التي أخرجها مسلم ولفظه: فإذا جاء الذي يسخرها فوجدها منخرقة تجاوزها فأصلحها. فيستفاد منه وجوب التأني عن الإنكار في المحتملات. وأما قتله الغلام فلعله كان في تلك الشريعة. وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان. والله أعلم. قوله: (فعمد) بفتح المهملة والميم، وكذا قوله عمدت. ونول بفتح النون أي أجرة. قوله: (فانطلقا) أي فخرجا من السفينة فانطلقا كما صرح به أيضا في التفسير. قوله: (قال الخضر بيده) هو من إطلاق القول على الفعل، وسنذكر باقي مباحث هذا الحديث في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى. *3*باب مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ عَالِمًا جَالِسًا الشرح: قوله: (باب من سأل وهو قائم) جملة حالية عن الفاعل. وقوله: عالما مفعول وجالسا صفة له، والمراد أن العالم الجالس إذا سأله شخص قائم لا يعد من باب من أحب أن يتمثل له الرجال قياما. بل هذا جائز، بشرط الأمن من الإعجاب. قاله ابن المنير. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الشرح: قوله: (حدثنا عثمان) و ابن أبي شيبة، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وأبو وائل هو شقيق، وأبو موسى هو الأشعري، وكلهم كوفيون. قوله: (قال وما رفع إليه رأسه) ظاهره أن القائل هو أبو موسى، ويحتمل أن يكون من دونه فيكون مدرجا في أثناء الخبر. قوله: (من قاتل الخ) هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم لأنه أجاب بلفظ جامع لمعنى السؤال مع الزيادة عليه، وفي الحديث شاهد لحديث " الأعمال بالنيات"، وأنه لا بأس بقيام طالب الحاجة عند أمن الكبر، وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين مختص بمن قاتل لإعلاء دين الله. وفيه استحباب إقبال المسئول على السائل. وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. *3*باب السُّؤَالِ وَالْفُتْيَا عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ الشرح: قوله: (باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار) مراده أن اشتغال العالم بالطاعة لا يمنع من سؤاله عن العلم ما لم يكن مستغرقا فيها، " إن الكلام في الرمي وغيره من المناسك جائز. وقد تقدم هذا الحديث في باب الفتيا على الدابة، وأخر الكلام على المتن إلى الحج. وعبد العزيز بن أبي سلمة هو ابن عبد الله نسب إلى جده أبي سلمة الماجشون بكسر الجيم وبشين معجمة. وقد اعترض بعضهم على الترجمة بأنه ليس في الخبر أن المسألة وقعت في حال الرمي بل فيه أنه كان واقفا عندها فقط، وأجيب بأن المصنف كثيرا ما يتمسك بالعموم، فوقوع السؤال عند الجمرة أعم من أن يكون في حال اشتغاله بالرمي أو بعد الفراغ منه واستدل الإسماعيلي بالخبر على أن الترتيب قائم مقام اللفظ، أي بأي صيغة ورد ما لم يقم دليل على عدم إرادته والله أعلم. وحاصله أنه لو لم يفهموا أن ذلك هو الأصل لما احتاجوا إلى السؤال عن حكم تقديم الأول على الثاني، إذا ورد الأمر لشيئين معطوفا بالواو، فيقال: الأصل العمل بتقديم ما قدم وتأخير ما أخر حتى يقوم الدليل على التسوية، ولمن يقول بعدم الترتيب أصلا أن يتمسك بهذا الخبر يقول حتى يقوم دليل على وجوب الترتيب. واعترض الإسماعيلي أيضا على الترجمة فقال: لا فائدة في ذكر المكان الذي وقع السؤال فيه حتى يفرد بباب، وعلى تقدير اعتبار مثل ذلك فليترجم بباب السؤال والمسئول على الراحلة وبباب السؤال يوم النحر. قلت: أما نفي الفائدة فتقدم الجواب عنه، ويراد أن سؤال من لا يعرف الحكم عنه في موضع فعله حسن بل واجب عليه، لأن صحة العمل متوقفة على العلم بكيفيته، وأن سؤال العالم على قارعة الطريق عما يحتاج إليه السائل لا نقص فيه على العالم إذا أجاب ولا لوم على السائل. ويستفاد منه أيضا دفع توهم من يظن أن في الاشتغال بالسؤال والجواب عند الجمرة تضييقا على الرامين. وهذا وإن كان كذلك لكن يستثنى من المنع ما إذا كان فيما يتعلق بحكم تلك العبادة. وأما إلزام الإسماعيلي. فجوابه أنه ترجم للأول فيما مضى " باب الفتيا وهو واقف على الدابة"، وأما الثاني فكأنه أراد أن يقابل المكان بالزمان، وهو متجه، وإن كان معلوما أن السؤال عن العلم لا يتقيد بيوم دون يوم، لكن قد يتخيل متخيل من كون يوم العيد يوم لهو امتناع السؤال عن العلم فيه. والله أعلم. |
02-06-2013, 10:38 AM | #78 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
الحديث: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَسْأَلُوهُ لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنَسْأَلَنَّهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا الرُّوحُ فَسَكَتَ فَقُلْتُ إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ قَالَ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ الْأَعْمَشُ هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا الشرح: قوله: (عبد الواحد) هو ابن زياد البصري، وإسناد الأعمش إلى منتهاه مما قيل إنه أصح الأسانيد. قوله: (خرب) بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء جمع خربة، ويقال بالعكس. والخرب ضد العامر. ووقع في موضع آخر بفتح المهملة وإسكان الراء بعدها مثلثة. قوله: (عسيب) أي عصا من جريد النخل. قوله: (بنفر من اليهود) لم أقف على أسمائهم. قوله: (لا تسألوه لا يجيء) في روايتنا بالجزم على جواب النهي، ويجوز النصب. والمعنى لا تسألوه خشية أن يجيء فيه بشيء، ويجوز الرفع على الاستئناف. قوله: (لنسألنه) جواب القسم المحذوف. قوله: (فقمت) أي حتى لا أكون مشوشا عليه، أو فقمت قائما حائلا بينه وبينهم. قوله: (فلما انجلى) أي الكرب الذي كان يغشاه حال الوحي. قوله: (الروح) الأكثر على أنهم سألوه عن حقيقة الروح الذي في الحيوان، وقيل عن جبريل، وقيل عن عيسى، وقيل عن القرآن، وقيل عن خلق عظيم روحاني، وقبل غير ذلك. وسيأتي بسط ذلك في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى، ونشير هنا إلى ما قيل في الروح الحيواني وأن الأصح أن حقيقته مما استأثر الله بعلمه. قوله: (هي كذا) وللكشميهني " هكذا في قراءتنا " أي قراءة الأعمش، وليست هذه القراءة في السبعة بل ولا في المشهور من غيرها، وقد أغفلها أبو عبيد في كتاب القراءات له من قراءة الأعمش. والله أعلم. *3*باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الِاخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْهُ الشرح: قوله: (باب من ترك بعض الاختيار) أي فعل الشيء المختار والإعلام به. الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ الزُّبَيْرِ كَانَتْ عَائِشَةُ تُسِرُّ إِلَيْكَ كَثِيرًا فَمَا حَدَّثَتْكَ فِي الْكَعْبَةِ قُلْتُ قَالَتْ لِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَائِشَةُ لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ وَبَابٌ يَخْرُجُونَ فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ الشرح: قوله: (عن إسرائيل) هو ابن يونس (عن أبي إسحاق) هو السبيعي بفتح المهملة وهو جد إسرائيل الراوي عنه، و (الأسود) هو ابن يزيد النخعي والإسناد إليه كلهم كوفيون. قوله: (قال لي ابن الزبير) يعني عبد الله الصحابي المشهور. قوله: (كانت عائشة) أي أم المؤمنين. قوله: (في الكعبة) عني في شأن الكعبة. قوله: (قلت قالت لي) زاد فيه ابن أبي شيبة في مسنده عن عبيد الله بن موسى بهذا الإسناد: قلت لقد حدثتني حديثا كثيرا نسيت بعضه وأنا أذكر بعضه، قال - أي ابن الزبير- ما نسيت أذكرتك، قلت قالت. قوله: (حديث عهدهم) بتنوين حديث، ورفع " عهدهم " على إعمال الصفة المشبهة. قوله: (قال) للأصيلي " فقال ابن الزبير: بكفر " أي أذكره ابن الزبير بقولها بكفر كان الأسود نسيها، وأما ما بعدها وهو قوله: " لنقضت الخ " فيحتمل أن يكون مما نسي أيضا أو مما ذكر. وقد رواه الترمذي من طريق شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود بتمامه، إلا قوله: " بكفر " فقال بدلها بجاهلية، وكذا للمصنف في الحج في طريق أخرى عن الأسود، ورواه الإسماعيلي من طريق زهير بن معاوية عن أبي إسحاق ولفظه " قلت حدثتني حديثا حفظت أوله ونسيت آخره " ورجحها الإسماعيلي على رواية إسرائيل، وفيما قال نظر لما قدمناه. وعلى قوله يكون في رواية شعبة إدراج. والله أعلم. قوله: (بابا) بالنصب على البدل، كذا لأبي ذر في الموضعين ولغيره بالرفع على الاستئناف. قوله: (ففعله) يعني بنى الكعبة على ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي ذلك مبسوطا في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. وفي الحديث معنى ما ترجم له لأن قريشا كانت تعظم أمر الكعبة جدا، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك، ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولا ما لم يكن محرما. |
02-06-2013, 10:40 AM | #79 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا
الشرح: قوله: (باب من خص بالعلم قوما دون قوم) أي سوى قوم لا بمعنى الأدون. و " كراهية " بالإضافة بغير تنوين. وهذه الترجمة قريبة من الترجمة التي قبلها، ولكن هذه في الأقوال وتلك في الأفعال أو فيهما. الحديث: وَقَالَ عَلِيٌّ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ بِذَلِكَ الشرح: قوله: (حدثنا عبيد الله) و ابن موسى كما ثبت للباقين. قوله: (عن معروف) هو ابن خربوذ كما في رواية كريمة. وهو تابعي صغير مكي وليس له في البخاري غير هذا الموضع، وأبوه بفتح المعجمة وتشديد الراء المفتوحة وضم الموحدة وآخره معجمة. وهذا الإسناد من عوالي البخاري لأنه يلتحق بالثلاثيات، من حيث أن الراوي الثالث منه صحابي وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي آخر الصحابة موتا، وليس له في البخاري غير هذا الموضع. قوله: (حدثوا الناس بما يعرفون) كذا وقع في رواية أبي ذر، وسقط كله من روايته عن الكشميهني، ولغيره بتقديم المتن ابتدأ به معلقا فقال: وقال علي الخ ثم عقبه بالإسناد. والمراد بقوله: " بما يعرفون " أي يفهمون. وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له عن عبد الله بن داود عن معروف في آخره " ودعوا ما ينكرون " أي يشتبه عليهم فهمه. وكذا رواه أبو نعيم في المستخرج. وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة. ومثله قول ابن مسعود: " ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " رواه مسلم. وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب. والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ يَا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ يَا مُعَاذُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلَاثًا قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ إِذًا يَتَّكِلُوا وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا الشرح: قوله: (حدثني أبي) هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي. قوله: (رديفه) أي راكب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجملة حالية والرحل بإسكان الحاء المهملة وأكثر ما يستعمل للبعير، لكن معاذ كان في تلك الحالة رديفه صلى الله عليه وسلم على حمار كما يأتي في الجهاد. قوله: (قال: يا معاذ بن جبل) هو خبر " أن " المتقدمة، وابن جبل بفتح النون، وأما معاذ فبالضم لأنه منادى مفرد علم، وهذا اختيار ابن مالك لعدم احتياجه إلى تقدير، واختار ابن الحاجب النصب على أنه مع ما بعده كاسم واحد مركب كأنه أضيف، والمنادى المضاف منصوب. وقال ابن التين: يجوز النصب على أن قوله معاذ زائد، فالتقدير يا ابن جبل، وهو يرجع إلى كلام ابن الحاجب بتأويل. قوله. (قال: لبيك يا رسول الله وسعديك) اللب بفتح اللام معناه هنا الإجابة، والسعد المساعدة، كأنه قال لبا لك وإسعادا لك، ولكنهما ثنيا على معنى التأكيد والتكثير، أي إجابة بعد إجابة وإسعادا بعد إسعاد. وقيل في أصل لبيك واشتقاقها غير ذلك، وسنوضحه في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. قوله: (ثلاثا) أي النداء والإجابة قيلا ثلاثا، وصرح بذلك في رواية مسلم، ويؤيده الحديث المتقدم في باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه. قوله: (صدقا) فيه احتراز عن شهادة المنافق. وقوله: " من قلبه " يمكن أن يتعلق بصدقا أي يشهد بلفظه ويصدق بقلبه، ويمكن أن يتعلق بيشهد أي يشهد بقلبه، والأول أولى. وقال الطيبي: قوله " صدقا " أقيم هنا مقام الاستقامة لأن الصدق يعبر به قولا عن مطابقة القول المخبر عنه، ويعبر به فعلا عن تحري الأخلاق المرضية كقوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به) أي حقق ما أورده قولا بما تحراه فعلا. انتهى. وأراد بهذا التقرير رفع الإشكال عن ظاهر الخبر، لأنه يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار لما فيه من التعميم والتأكيد، لكن دلت الأدلة القطعية عند أهل السنة على أن طائفة من عصاة المؤمنين يعذبون ثم يخرجون من النار بالشفاعة، فعلم أن ظاهره غير مراد، فكأنه قال: إن ذلك مقيد بمن عمل الأعمال الصالحة. قال: ولأجل خفاء ذلك لم يؤذن لمعاذ في التبشير به. وقد أجاب العلماء عن الإشكال أيضا بأجوبة أخرى: منها أن مطلقه مقيد بمن قالها تائبا ثم مات على ذلك. ومنها أن ذلك كان قبل نزول الفرائض، وفيه نظر لأن مثل هذا الحديث وقع لأبي هريرة كما رواه مسلم، وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض، وكذا ورد نحوه من حديث أبي موسى رواه أحمد بإسناد حسن، وكان قدومه في السنة التي قدم فيها أبو هريرة. ومنها أنه خرج مخرج الغالب، إذ الغالب أن الموحد يعمل الطاعة ويجتنب المعصية. ومنها أن المراد بتحريمه على النار تحريم خلوده فيها لا أصل دخولها. ومنها أن المراد النار التي أعدت للكافرين لا الطبقة التي أفردت لعصاة الموحدين. ومنها أن المراد بتحريمه على النار حرمة جملته لأن النار لا تأكل مواضع السجود من المسلم كما ثبت في حديث الشفاعة أن ذلك محرم عليها، وكذا لسانه الناطق بالتوحيد. والعلم عند الله تعالى. قوله: (فيستبشرون) كذا لأبي ذر أي فهم يستبشرون، وللباقين بحذف النون، وهو أوجه لوقوع الفاء بعد النفي أو الاستفهام أو العرض وهي تنصب في كل ذلك. قوله: (إذا يتكلوا) تشديد المثناة المفتوحة وكسر الكاف، وهو جواب وجزاء؛ أي إن أخبرتهم يتكلوا. وللأصيلي والكشميهني ينكلوا بإسكان النون وضم الكاف أن يمتنعوا من العمل اعتمادا على ما يتبادر من ظاهره، وروى البزار بإسناد حسن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لمعاذ في التبشير، فلقيه عمر فقال: لا تعجل. ثم دخل فقال: يا نبي الله أنت أفضل رأيا، إن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها، قال فرده. وهذا معدود من موافقات عمر، وفيه جواز الاجتهاد بحضرته صلى الله عليه وسلم. واستدل بعض متكلمي الأشاعرة من قوله: " يتكلوا " على أن للعبد اختيارا كما سبق في علم الله. قوله: (عند موته) أي موت معاذ. وأغرب الكرماني فقال: يحتمل أن يرجع الضمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: ويرده ما رواه أحمد بسند صحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أخبرني من شهد معاذا حين حضرته الوفاة يقول: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم يمنعني أن أحدثكموه إلا مخافة أن تتكلوا. . فذكره. قوله: (تأثما) هو بفتح الهمزة وتشديد المثلثة المضمومة، أي خشية الوقوع في الإثم، وقد تقدم توجيهه في حديث بدء الوحي في قوله: " يتحنث". والمراد بالإثم الحاصل من كتمان العلم، ودل صنيع معاذ على أنه عرف أن النهي عن التبشير كان على التنزيه لا على التحريم، وإلا لما كان يخبر به أصلا. أو عرف أن النهي مقيد بالاتكال فأخبره به من لا يخشى عليه ذلك، وإذا زال القيد زال المقيد، والأول أوجه لكونه أخر ذلك إلى وقت موته. وقال القاضي عياض: لعل معاذا لم يفهم النهي، لكن كسر عزمه عما عرض له من تبشيرهم. قلت: والرواية الآتية صريحة في النهي، فالأولى ما تقدم. وفي الحديث جواز الإرداف، وبيان تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، ومنزلة معاذ بن جبل من العلم لأنه خصه بما ذكر. وفيه جواز استفسار الطالب عما يتردد فيه، واستئذانه في إشاعة ما يعلم به وحده. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قَالَ أَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ لَا إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا الشرح: قوله: (حدثنا مسدد حدثنا معتمر) كذا للجميع، وذكر الجياني أن عبدوسا والقابسي روياه عن أبي زيد المروزي بإسقاط مسدد من السند، قال: وهو وهم ولا يتصل السند إلا بذكره. انتهى. ومعتمر هو ابن سليمان التيمي. والإسناد كله بصريون إلا معاذا، وكذا الذي قبله إلا إسحاق فهو مروزي، وهو الإمام المعروف بابن راهويه. قوله: (ذكر لي) هو بالضم على البناء لما لم يسم فاعله، ولم يسم أنس من ذكر له ذلك في جميع ما وقفت عليه من الطرق، وكذلك جابر بن عبد الله كما قدمناه من عند أحمد، لأن معاذا إنما حدث به عند موته بالشام، وجابر وأنس إذ ذاك بالمدينة فلم يشهداه وقد حضر ذلك من معاذ عمرو بن ميمون الأودي أحد المخضرمين كما سيأتي عند المصنف في الجهاد، ويأتي الكلام على ما في سياقه من الزيادة ثم. ورواه النسائي من طريق عبد الرحمن بن سمرة الصحابي المشهور أنه سمع ذلك من معاذ أيضا، فيحتمل أن يفسر المبهم بأحدهما. والله أعلم. (تنبيه) : أورد المزي في الأطراف هذا الحديث في مسند أنس، وهو من مراسيل أنس، وكان حقه أن يذكره في المبهمات. والله الموفق. قوله: (من لقي الله) أي من لقي الأجل الذي قدره الله يعني الموت. كذا قاله جماعة، ويحتمل أن يكون المراد البعث أو رؤية الله تعالى في الآخرة. قوله: (لا يشرك به) اقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله ومن كذب الله فهو مشرك، أو هو مثل قول القائل: من توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشرائط. فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به. وليس في قوله: " دخل الجنة " من الإشكال ما تقدم في السياق الماضي، لأنه أعم من أن يكون قبل التعذيب أو بعده. فأخبر بها معاذ عند موته تأثما معنى التأثم التحرج من الوقوع في الإثم وهو كالتحنث، وإنما خشي معاذ من الإثم المرتب على كتمان العلم، وكأنه فهم من منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر بها إخبارا عاما لقوله: " أفلا أبشر الناس " فأخذ هو أولا بعموم المنع فلم يخبر بها أحدا، ثم ظهر له أن المنع إنما هو من الإخبار عموما، فبادر قبل موته فأخبر بها خاصا من الناس فجمع بين الحكمين. ويقوي ذلك أن المنع لو كان على عمومه في الأشخاص لما أخبر هو بذلك، وأخذ منه أن من كان في مثل مقامه في الفهم أنه لم يمنع من إخباره. وقد تعقب هذا الجواب بما أخرجه أحمد من وجه آخر فيه انقطاع عن معاذ أنه لما حضرته الوفاة قال: أدخلوا على الناس. فأدخلوا عليه. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من مات لا يشرك بالله شيئا جعله الله في الجنة " وما كنت أحدثكموه إلا عند الموت، وشاهدي على ذلك أبو الدرداء. فقال: صدق أخي، وما كان يحدثكم به إلا عند موته. وقد وقع لأبي أيوب مثل ذلك، ففي المسند من طريق أبي ظبيان أن أبا أيوب غزا الروم فمرض، فلما حضر قال: سأحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا حالي هذه ما حدثتكموه، سمعته يقول: " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة". وإذا عورض هذا الجواب فأجيب عن أصل الإشكال بأن معاذا اطلع على أنه لم يكن المقصود من المنع التحريم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا هريرة أن يبشر بذلك الناس، فلقيه عمر فدفعه وقال: ارجع يا أبا هريرة، ودخل على أثره فقال: يا رسول الله لا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس، فخلهم يعملون. فقال: فخلهم. أخرجه مسلم. فكأن قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " أخاف أن يتكلوا " كان بعد قصة أبي هريرة، فكان النهي للمصلحة لا للتحريم، فلذلك أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ. والله أعلم. قوله: (لا) هي للنهي ليست داخلة على " أخاف"، بل المعنى لا تبشر. ثم استأنف فقال: " أخاف". وفي رواية كريمة " إني أخاف " بإثبات التعليل، وللحسن بن سفيان في مسنده عن عبيد الله بن معاذ عن معتمر " قال: لا، دعهم فليتنافسوا في الأعمال، فإني أخاف أن يتكلوا". |
02-06-2013, 10:40 AM | #80 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
*3*باب الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلَا مُسْتَكْبِرٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ الشرح: قوله: (باب الحياء) أي حكم الحياء، وقد تقدم أن الحياء من الإيمان، وهو الشرعي الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر، وهو محمود. وأما ما يقع سببا لترك أمر شرعي فهو مذموم، وليس هو بحياء شرعي، وإنما هو ضعف ومهانة، وهو المراد بقول مجاهد: لا يتعلم العلم مستحي. وهو بإسكان الحاء. و " لا " في كلامه نافية لا ناهية، ولهذا كانت ميم يتعلم مضمومة، وكأنه أراد تحريض المتعلمين على ترك العجز والتكبر لما يؤثر كل منهما من النقص في التعليم. وقول مجاهد هذا وصله أبو نعيم في الحلية من طريق علي بن المديني عن ابن عيينة عن منصور عنه، وهو إسناد صحيح على شرط المصنف. قوله: (وقالت عائشة) هذا التعليق وصله مسلم من طريق إبراهيم بن مهاجر عن صفية بنت شيبة عن عائشة في حديث أوله أن أسماء بنت يزيد الأنصاري سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَعْنِي وَجْهَهَا وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ قَالَ نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا الشرح: قوله: (هشام) هو ابن عروة بن الزبير. وفي الإسناد من اللطائف رواية تابعي عن مثله عن صحابية عن مثلها، وفيه رواية الابن عن أبيه والبنت عن أمها. وزينب هي بنت أبي سلمة بن عبد الأسد ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم نسبت إلى أمها تشريفا لكونها زوج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (جاءت أم سليم) هي بنت ملحان والدة أنس بن مالك. قوله: (إن الله لا يستحيي من الحق) أي لا يأمر بالحياء في الحق. وقدمت أم سليم هذا الكلام بسطا لعذرها في ذكر ما تستحيي النساء من ذكره بحضرة الرجال، ولهذا قالت لها عائشة كما ثبت في صحيح مسلم: فضحت النساء. قوله: (إذا هي احتلمت) أي رأت في منامها أنها تجامع. قوله: (إذا رأت الماء) يدل على تحقق وقوع ذلك، وجعل رؤية الماء شرطا للغسل يدل على أنها إذا لم تر الماء لا غسل عليها. قوله: (فغطت أم سلمة) في مسلم من حديث أنس أن ذلك وقع لعائشة أيضا، ويمكن الجمع بأنهما كانتا حاضرتين. قوله: (تعني وجهها) هو بالمثناة من فوق، والقائل عروة، وفاعل تعني زينب، والضمير يعود على أم سلمة. قوله: (وتحتلم) بحذف همزة الاستفهام، وللكشميهني " أو تحتلم " بإثباتها، قيل: فيه دليل على أن الاحتلام يكون في بعض النساء دون بعض ولذلك أنكرت أم سلمة ذلك، لكن الجواب يدل على أنها إنما أنكرت وجود المني من أصله ولهذا أنكر عليها. قوله: (تربت يمينك) أي افتقرت وصارت على التراب، وهي من الألفاظ التي تطلق عند الزجر ولا يراد بها ظاهرها. قوله: (فبم) بموحدة مكسورة. وسيأتي الكلام على مباحثه في كتاب الطهارة إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِي مَا هِيَ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَاسْتَحْيَيْتُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ النَّخْلَةُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي فَقَالَ لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس، وقد تقدم الكلام على حديث ابن عمر هذا في أوائل كتاب العلم، وأورده هنا لقول ابن عمر: " فاستحييت " ولتأسف عمر على كونه لم يقل ذلك لتظهر فضيلته، فاستلزم حياء ابن عمر تفويت ذلك، وكان يمكنه إذا استحيي إجلالا لمن هو أكبر منه أن يذكر ذلك لغيره سرا ليخبر به عنه، فجمع بين المصلحتين، ولهذا عقبه المصنف بباب من استحيي فأمر غيره بالسؤال. |
مواقع النشر (المفضلة) |
كاتب الموضوع | حسن الخليفه احمد | مشاركات | 538 | المشاهدات | 90028 | | | | انشر الموضوع |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|