القبول يا رب - شباب الطريقة الختمية بدائرة ود ابراهيم بأم بدة
مجموعة مدائح ختمية.. شباب الطريقة الختمية بمسجد السيد علي الميرغني ببحري
|
مكتبة الميرغني الإليكترونية خاصة بجميع مؤلفات السادة المراغنة |
إهداءات ^^^ ترحيب ^^^ تهاني ^^^ تعازي ^^^ تعليقات ^^^ إعلانات | |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
12-02-2012, 03:33 PM | #41 | |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
.بَعْثُ الرَّجِيعِ: وقد قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر صفر، وهو آخر السنة الثالثة من الهجرة، نفر من عضل والقارة وهم بنو الهون بْن خزيمة بْن مدركة، فذكروا له أنهم قد أسلموا، ورغبوا أن يبعث معهم نفرا من المسلمين يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في الدين، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم ستة رجال: مرثد بْن أبي مرثد الغنوي، وخالد بْن البكير الليثي، وعاصم بْن ثابت بْن أبي الأقلح، وخبيب بْن عدي وهما من بني عمرو بْن عوف، وزيد بْن الدثنة، وعبد الله بْن طارق حليف بني ظفر، وَأَمَّرَ عليهم مرثد بْن أبي مرثد، فنهضوا مع القوم حتى إذا صاروا بالرجيع، وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز، استصرخوا عليهم هذيلا وغدروا بهم، فلم يَرُعِ القوم وهم في رحالهم إلا الرجال قد غشوهم وبأيديهم السيوف، فأخذ المسلمون سيوفهم ليقاتلوهم، فأمنوهم وأخبروهم أنهم لا أرب لهم في قتلهم، وإنما يريدون أن يصيبوا بهم فداء من أهل مكة، فأما مرثد بْن أبي مرثد، وعاصم بْن ثابت، وخالد بْن البكير فأبوا أن يقبلوا منهم قولهم ذلك، وقالوا: والله لا قبلنا لمشرك عهدا أبدا، وقاتلوا حتى قتلوا رحمة الله عليهم، وكان عاصم بْن ثابت قد قتل يوم أحد، فتيين من بني عَبْد الدار أخوين أمهما سلافة بنت سعد بْن شهيد، فنذرت إِنِ الله أمكنها من رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر، فرامت بنو هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة، فأرسل الله عز وجل دونه الدَّبْرَ فَحَمَتْهُ، فقالوا: إن الدَّبْرَ سيذهب في الليل، فإذا جاء الليل أخذناه، فلما جاء الليل أرسل الله عز وجل سيلا لم ير مثله فحمله ولم يصلوا إلى جثته ولا إلى رأسه، وكان قد نذر أن لا يمس مشركا أبدا، فأبر الله عز وجل قسمه، ولم يروه، ولا وصلوا إلى شيء منه، ولا عرفوا له مسقطا، وأما زيد بْن الدثنة، وخبيب بْن عدي، وعبد الله بْن طارق، فأعطوا بأيديهم فأسروهم، وخرجوا بهم إلى مكة، فلما صاروا بمر الظهران انتزع عَبْد اللهِ بْن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم ورموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بمر الظهران، وحملوا خبيب بْن عدي، وزيد بْن الدثنة فباعوهما بمكة، وقد ذكرنا خبر خبيب وما لقي بمكة عند ذكر اسمه في كتاب الصحابة، وصلب خبيب رحمه الله بالتنعيم، وهو القائل حين قدم ليصلب: ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع في أبيات قد ذكرتها عند ذكره في كتاب الصحابة، وهو أول من سن الركعتين عند القتل، وقال له أَبُو سفيان بْن حرب: أَيَسُرُّكَ يا خبيب أن محمدا عندنا بمكة تضرب عنقه، وأنك سالم في أهلك؟ فقال: والله ما يسرني أني سالم في أهلي، وأن يصيب محمدا شوكة تؤذيه، وابتاع زيد بْن الدثنة صفوان بْن أمية فقتله بأبيه. .بَعْثُ بئر معونة: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ بُجَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُنَيْدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ عنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ شَبَابٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ، يَنْتَحُونَ نَاحِيَةً مِنَ الْمَدِينَةِ، يَحْسَبُ أَهْلُوهُمْ أَنَّهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَحْسَبُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ أَنَّهُمْ فِي أَهْلِيهِمْ، فَيُصَلُّونَ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى إِذَا قَارَبَ الصُّبْحُ احْتَطَبُوا الْحَطَبَ، وَاسْتَعْذَبُوا الْمَاءَ فَوَضَعُوهُ عَلَى أَبْوَابِ حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَبَعَثَهُمْ جَمِيعًا إِلَى بِئْرِ مَعُونَةَ فَاسْتُشْهِدُوا، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلِهِمْ أَيَّامًا قَالَ سُنَيْدٌ: وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو الأَنْصَارِيَّ أَحَدَ بَنِي النَّجَّارِ، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فِي ثَلاثِينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَخَرَجُوا فَلَقَوْا عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلابٍ عَلَى بِئْرِ مَعُونَةَ، وَهِيَ مِنْ مِيَاهِ بَنِي عَامِرٍ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو وَأَصْحَابُهُ، إِلا ثَلاثَةَ نَفَرٍ كَانُوا فِي طَلَبِ ضَالَّةٍ لَهُمْ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا الطَّيْرُ تَحُومُ فِي السَّمَاءِ يَسْقُطُ مِنْ خَرَاطِيمِهَا عَلَقُ الدَّمِ، فَقَالَ أَحَدُ النَّفَرِ: قُتِلَ أَصْحَابُنَا وَالرَّحْمَنِ، وَذَكَرَ سُنَيْدٌ تَمَامَ الْخَبَرِ فِي ذَلِكَ، وَفِي بَنِي النَّضِيرِ، وسياق ابْنِ إسحاق لخبرهم أحسن وأبين، قَالَ ابن إسحاق: وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بقية شوال، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر في آخر تمام السنة الثالثة من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، وكان سبب ذلك، أن أبا براء الكلابي من بني كلاب بْن ربيعة بْن عامر بْن صعصعة، ويعرف بملاعب الأسنة، واسمه عامر بْن مالك بْن جعفر بْن كلاب، وفد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا مُحَمَّد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك، فقال عليه السلام: «إني أخشى عليهم أهل نجد» فقال أَبُو براء: أنا لهم جار، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنذر بْن عمرو الساعدي، وهو الذي يعرف بالمعنق ليموت لَقَبٌ غَلَبَ عليه، والأكثر يقولون: أعنق ليموت، في أربعين رجلا من المسلمين، وقد قيل: في سبعين رجلا من خيار المسلمين، منهم الحارث بْن الصمة، وحرام بْن ملحان، أخو أم سليم، وأم حرام، وعروة بْن أسماء بْن الصلت السلمي، ونافع بْن بديل بْن ورقاء الخزاعي، وعامر بْن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، وَأَمَّرَ على جميعهم المنذرَ بْنَ عمرو، فنهضوا حتى نزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، وهي إلى حرة بني سليم أقرب، ثم بعثوا منها حرام بْن ملحان بكتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عدو الله عامر بْن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ قبائل من بني سليم: عصية، ورعلا، وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كَعْبَ بْن زيد أخا بني دينار بْن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق، وارتث من بين القتلى، وعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا رحمه الله، وكان في سرح القوم عمرو بْن أمية الضمري، ورجل من الأنصار من بني عمرو بْن عوف، وهو المنذر بْن مُحَمَّد بْن عقبة بْن أحيحة بْن الجلاح، فنظرا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال المنذر بْن مُحَمَّد الأنصاري لعمرو بْن أمية الضمري: ما ترى؟ فقال: أرى أن نلحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: ما كنتُ لأرغب عن موطن قتل فيه المنذر بْن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بْن أمية أسيرا، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بْن الطفيل، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، وخرج عمرو بْن أمية، حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر، وقيل: من بني سليم حتى نزلا معه في ظل هو فيه، وكان معهما عقد من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يعلم به عمرو بْن أمية، وكان قد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ قالا: من بني عامر، فأمهلهما، حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أنه قد أصاب منهما ثأره من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما قدم عمرو بْن أمية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبره الخبر، قَالَ: «لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ كَانَ لَهُمَا مِنِّي جِوَارٌ، لأَدِيَنَّهُمَا»، هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا فبلغ أبا براء ما صنع عامر بْن الطفيل فشق عليه إخفاره إياه، وقال حسان بْن ثابت يحرض أبا براء على عامر بْن الطفيل: بني أم البنين ألم يرعكم وأنتم من ذوائب أهل نجد تَهَكُّمُ عامر بأبي براء ليخفره وما خطأ كعمد ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي فما أَحْدَثْتَ في الحدثان بعدي أبوك أَبُو الحروب أَبُو براء وخالك ماجد حكم بْن سعد أم البنين هي أم أبي براء من بني عامر بْن صعصعة، فحمل ربيعة بْن أبي براء على عامر بْن الطفيل فطعنه بالرمح فوقع في فخذه فأشواه، ووقع عن فرسه، فقال: هذا عمل أبي براء، إن أنا مت فدمي لعمي فلا يتبعن به، وإن أعش فسأرى رأيي. |
|
|
12-02-2012, 03:34 PM | #42 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
غزوة بني النضير: وكان سبب غزوة بني النضير، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قَالَ لعمرو بْن أمية: «لقد قتلت قتيلين، لأَدِيَنَّهُمَا» خرج إلى بني النضير مستعينا بهم في دية ذينك القتيلين، فلما كلمهم، قالوا: نعم يا أبا القاسم اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك، فنقوم ونتشاور ونصلح أمرنا فيما جئتنا له، فقعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبي بكر، وعمر، وعلي، ونفر من الأنصار إلى جدار من جدرهم، فاجتمع بنو النضير، وقالوا: مَنْ رَجُلٌ يَصْعَدُ عَلَى ظَهْرِ الْبَيْتِ فَيُلْقِي عَلَى مُحَمَّدٍ صَخْرَةً فيقتله فيريحنا منه؟ فإنا لن نجده أقرب منه الآن، فانتدب لذلك عمرو بْن جحاش بْن كعب، فأوحى الله عز وجل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما ائتمروا به من ذلك، فقام ولم يُشْعِرْ أحدا ممن معه، ونهض إلى المدينة، فلما استبطأه أصحابه وأرث عليهم خبره، أقبل رجل من المدينة فسألوه، فقال: لقيته وقد دخل أزقة المدينة، وقالت اليهود لأصحابه: لقد عجل أَبُو القاسم قبل أن نقيم له حاجته، فقام أصحابه ولحقوه بالمدينة، فأخبرهم بما أوحى الله عز وجل إليه مما أرادت اليهود فعله به، وأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بالتهيؤ لقتالهم وحربهم، وخرج إليهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وذلك في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة، فتحصنوا منه في الحصون، فحاصرهم ست ليال، وأمر بقطع النخل وإحراقها، وحينئذ نزل تحريم الخمر، ودس عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير: إنا معكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فاغتروا بذلك، فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم، فألقوا بأيديهم، وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكف عن دمائهم ويجليهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح، فاحتملوا كذلك إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم: حيي بْن أخطب، وسلام بْن أبي الحقيق، وكنانة بْن الربيع بْن أبي الحقيق، فدانت لهم خيبر، وقسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أموال بني النضير بين المهاجرين خاصة، إلا أنه أعطى منها أبا دجانة سماك بْن خرشة، وسهل بْن حنيف، وكانا فقيرين، وإنما قسمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين، لأنهم إذ قدموا المدينة شاطرتهم الأنصار ثمارهم، وعلى ذلك بايعوا ليلة العقبة على نصرته ومواساة أصحابه، فرد المهاجرون على الأنصار ثمارهم، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بْن عمير بْن كعب بْن عمرو بْن جحاش، وأبو سعد بْن وهب، أسلما فأحرزا أموالهما، وَذُكِرَ أن يامين بْن عمير جعل جعلا لمن قتل ابن عمه عمرو بْن جحاش لما هم به في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزلت سورة الحشر في بني النضير، قَالَ الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ إلى قوله: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ إلى قوله: وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} سورة الحشر آية-، فكان إجلاء بني النضير أول الحشر في الدنيا إلى الشام، ولذلك قيل: الشام أرض الحشر. .غزوة ذات الرقاع: ثم أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد إجلاء بني النضير بالمدينة شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى صدر السنة الرابعة بعد الهجرة، ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة بْن سعد بْن غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر، وقيل: بل استعمل يومئذ عليها عثمان بْن عفان، والأول أكثر، ونهض عليه السلام حتى نزل نخلا، وإنما سميت هذه الغزوة ذات الرقاع، لأن أقدامهم نقبت، فكانوا يلفون عليها الخرق، وقيل: بل قيل لها ذات الرقاع، لأنهم رقعوا راياتهم فيها، ويقال: ذات الرقاع شجرة بذلك الموضع تدعى ذات الرقاع، وقيل: بل الجبل الذي نزلوا عليه كانت أرضه ذات ألوان من حمرة، وصفرة، وسواد، فسموا غزوتهم تلك ذات الرقاع، والله أعلم، ولقي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنخل جمعان من غطفان فتواقفوا، إلا أَنَّهُ لم يكن بينهم قتال، وصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ صلاة الخوف، وقد أوضحنا اختلاف الروايات في التمهيد في هيئة صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، وفي انصرافهم من تلك الغزوة أبطأ جمل جابر بْن عَبْد اللهِ، فنخسه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانطلق متقدما بين يدي الركاب، ثم قَالَ له: «أَتَبِيعَنِيهِ؟» فابتاعه منه، وقال: لك ظهره إلى المدينة، فلما وصل إلى المدينة أعطاه الثمن ووهب له الجمل، لم يأخذه منه، وفي هذه الغزاة أتى رجل من بني محارب بْن خصفة ليفتك برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشرط ذلك لقومه، وأخذ سيف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْلَتَهُ بعد أن استأذنه في أن ينظر إلى السيف، فلما أَصْلَتَهُ هَمَّ به فصرفه الله عنه ولحقه بُهْتٌ، فَقَالَ: من يمنعك مني يا مُحَمَّد؟ قَالَ: «الله» فَرُدَّ السيف في غمده، فقيل: فيه نزلت: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ} الآية، وقيل: نزلت هذه الآية فيما أراد بنو النضير أن يفعلوا به من رمى الحجر عليه وهو جالس إلى حائط حصنهم. |
12-02-2012, 03:35 PM | #43 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
غزوة بدر الثالثة: وكان أَبُو سفيان يوم أحد قد نادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: موعدنا معكم بدر في العام المقبل، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض أصحابه أن يجيبه بنعم، وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ من ذات الرقاع بالمدينة بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبا، ثم خرج في شعبان من السنة الرابعة للميعاد المذكور، واستعمل على المدينة عَبْد اللهِ بْن عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول، ثم نهض حتى أتى بدرا فأقام هناك ثماني ليال، وخرج أَبُو سفيان بْن حرب في أهل مكة حتى بلغ عسفان، ثم انصرف واعتذر هو وأصحابه بأن العام عام جدب. .غزوة دومة الجندل: وانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة فأقام بها إلى أن انسلخ ذو الحجة من السنة الرابعة من الهجرة، ثم غزا عليه السلام دومة الجندل في ربيع الأول، وذلك أول السنة الخامسة من احتلاله المدينة، واستعمل على المدينة سباع بْن عرفطة، وانصرف عليه السلام من طريقه قبل أن يبلغ دومة الجندل، ولم يلق حربا. .غزوة الخندق: ثم كانت غزوة الخندق في شوال من السنة الخامسة، وكان سببها، أن نفرا من اليهود منهم كنانة بْن الربيع بْن أبي الحقيق، وسلام بْن مشكم، وحيي بْن أخطب النضريون، وهوذة بْن قيس، وأبو عمار من بني وائل، وهم كلهم يهود، وهم الذين حزبوا الأحزاب وألبوا وجمعوا، خرجوا في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل فأتوا مكة، فدعوا قريشا إلى حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك، فأجابهم أهل مكة إلى ذلك، ثم خرج اليهود المذكورون إلى غطفان فدعوهم إلى مثل ذلك، فأجابوهم، فخرجت قريش يقودهم أَبُو سفيان بْن حرب، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بْن حصن بْن حذيفة بْن بدر الفزاري على فزارة، والحارث بْن عوف المري على بني مرة، ومسعود بْن رخيلة على أشجع، فلما سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باجتماعهم وخروجهم إليه، شاور أصحابه، فأشار عليه سلمان بحفر الخندق، فرضي رأيه، وقال المهاجرون يومئذ: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ» وعمل المسلمون في الخندق مجتهدين، ونكص المنافقون وجعلوا يتسللون لواذا، فنزلت فيهم آيات من القرآن، ذكرها ابن إسحاق وغيره، وكان من فرغ من المسلمين من حصته عاد إلى غيره فأعانه حتى كمل الخندق، وكان فيه آيات بينات، وعلامات للنبوات مذكورات عند أهل السير والآثار، منها أن كدية اعتاصت على المسلمين فدعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليها، فضربها بالفأس ضربة طار منها الشرار، وقطع منها الثلث، وقال: «اللهُ أَكْبَرُ، فُتِحَ قَيْصَرُ، وَاللهِ إِنِّي لأَرَى الْقُصُورَ الْحُمْرَ» ثم ضرب الثانية فقطع منها الثلث الثاني، وقال: «اللهُ أَكْبَرُ، فُتِحَ كِسْرَى، وَاللهِ إِنِّي لأَرَى الْقُصُورَ الْبِيضَ» ثم ضرب الثالثة فقطع الثلث الباقي، وقال: «اللهُ أَكْبَرُ، فُتِحَ الْيَمَنُ، وَاللهِ إِنِّي لأَرَى بَابَ صَنْعَاءَ وقد نصر الله عبده، وصدق وعده، والحمد لله رب العالمين»، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع في ثلاثة آلاف وضربوا عسكرهم، والخندق بينهم وبين المشركين، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وفي قول ابن شهاب: وخرج عدو الله حيي بْن أخطب النضري حتى أتى كعب بْن أسد القرظي، وكان صاحب عقد بني قريظة ورئيسهم، وكان قد وادع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاقده وعاهده، فلما سمع كعب بْن أسد بحيي بْن أخطب، أغلق دونه باب حصنه وأبى أن يفتح له، فقال له: افتح لي يا كعب بْن أسد، فقال: لا أفتح لك، فإنك رجل مشئوم، تدعوني إلى خلاف مُحَمَّد، وأنا عاقدته وعاهدته ولم أر فيه إلا وفاء وصدقا، فلست بناقض ما بيني وبينه، فقال حيي: افتح لي حتى أكلمك فأنصرف عنك، قَالَ: لا أفعل، قَالَ: إنما تخاف أن آكل معك جشيشتك، فغضب كعب وفتح له، فقال: إنما جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش وسادتها، وغطفان وقادتها، قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه، فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام لا غيث فيه، ويحك يا حيي دعني، فلست بفاعل ما تدعوني إليه، فلم يزل حيي بكعب يعده ويغره حتى رجع إليه وعاهده على خذلان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وأن يصير معهم، وقال له حيي بْن أخطب: إن انصرفت قريش وغطفان، دخلت عندك بمن معي من يهود، فلما انتهى خبر كعب وحيي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين، بعث سعدَ بْن عبادة وهو سيد الخزرج، وسيد الأوس سعد بْن معاذ، وبعث معهما عَبْدَ اللهِ بْن رواحة، وخوات بْن جبير، وقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انطلقوا إلى بني قريظة، فإن كان ما قيل لنا حقا، فالحنوا لنا لحنا نعرفه، ولا تفتوا في أعضاد المسلمين، وإن كان كذبا، فاجهروا به للناس» فانطلقوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما قيل لهم عنهم، ونالوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: لا عهد له عندنا، فشاتمهم سعد بْن معاذ وشاتموه، وكانت فيه حدة، فقال له سعد بْن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فالذي بيننا وبينهم أكبر من المشاتمة، ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جماعة المسلمين، فقالا: عضل والقارة، يعرضان بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيبٍ وأصحابِهِ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أبشروا يا معشر المسلمين» وعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وأتى المسلمين عدُوُّهُمْ من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظنوا بالله الظنون، وأظهر المنافقون كثيرا مما كانوا يسرون، فمنهم من قَالَ: إن بيوتنا عورة فلننصرف إليها، فإنا نخاف عليها، ومن قَالَ ذلك: أوس بْن قيظي إلا أنه مع ذلك ولد ولدا سيدا فاضلا، وهو عرابة بْن أوس، الذي قَالَ فيه الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين وقد قيل: إن له صحبةً بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهم من قَالَ: يعدنا مُحَمَّد أن نفتح كنز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وممن قَالَ ذلك: معتب بْن قشير أحد بني عمرو بْن عوف، وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصا، فلما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه اشتد على المسلمين البلاء، بعث إلى عيينة بْن حصن الفزاري، وإلى الحارث بْن عوف بْن أبي حارثة المري وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان وأهل نجد ويرجعا بقومهما عنهم، وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا، فلما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهما قد أنابا ورضيا، أتى سعدَ بْن معاذ، وسعدَ بْن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما، فقالا: يا رسول الله هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا، قَالَ: «بل أمر أصنعه لكم، والله ما أصنعه إلا لأنني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة» فقال له سعد بْن معاذ: يا رسول الله، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد اللهَ ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا بشراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فسر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، وقال لهم: «أنتم وذاك» وقال لعيينة والحارث: «انصرفا، فليس لكم عندنا إلا السيف» وتناول الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها، فأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون على حالهم، والمشركون يحاصرونهم، ولا قتال منهم، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بْن عَبْد ود العامري من بني عامر بْن لؤي، وعكرمة بْن أبي جهل، وهبيرة بْن أبي وهب، وضرار بْن الخطاب الفهري، وكانوا فرسان قريش وشجعانهم، أقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، وصاروا بين الخندق وبين سلع، وخرج علي بْن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان عمرو بْن عَبْد ود قد أثبتته الجراح يوم بدر فلم يشهد أحدا، وأراد يوم الخندق أن يرى مكانه، فلما وقف هو وخيله نادى: هل من مبارز؟ فبرز له علي بْن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: يا عمرو إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلتين إلا أخذت إحداهما، قَالَ: نعم، وقال: إني أدعوك لله عز وجل والإسلام، قَالَ: لا حاجة لي بذلك، قَالَ: وأدعوك إلى البراز، قَالَ: يا بْن أخي، والله ما أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك، فقال له علي: أنا والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو بْن عَبْد ود العامري، ونزل عن فرسه، وسار نحو علي فتنازلا، وتجاولا، وثار النقع بينهما حتى حال دونهما، فما انجلى النقع حتى رئي علي على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علي، اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين، وقال علي رضي الله عنه في ذلك: نَصَرَ الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت دين مُحَمَّد بضراب لا تَحْسَبُنَّ الله خاذِلَ دينه ونبيه يا معشر الأحزاب نازلته وتركته متجدلا كالجذع بين دكادك وروابي، ورمي يومئذ سعد بْن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل، رماه حبان بْن قيس بْن العرقة أحد بني عامر بْن لؤي، فلما أصابه قَالَ له: خذها إليك وأنا ابن العرقة، فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار، وقيل: بل الذي رماه أَبُو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم، ولحسان بْن ثابت مع صفية بنت عَبْد المطلب خبر طريف يومئذ، وكان حسان قد تخلف عن الخروج مع الخوالف بالمدينة، ذكره ابن إسحاق وطائفة من أهل السير، وقد أنكره منهم آخرون، فقالوا: لو كان في حسان من الجبن ما وصفتم لهجاه بذلك من كان يهاجيه في الجاهلية والإسلام، ولهجي بذلك ابنه عَبْد الرحمن، فإنه كان كثيرا ما يهاجي الناس من شعراء العرب، مثل النجاشي وغيره، وأتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعيم بْن مسعود بْن عامر الأشجعي، فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما أنت رجل واحد من غطفان، فلو خرجت فخذلت عنا كان أحب إلينا من بقائك، فاخرج فإن الحرب خدعة» فخرج نعيم بْن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان ينادمهم في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: قل، فلست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، وفيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب مُحَمَّد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، فإن رأوا نهزة أصابوا، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا، ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال لهم: قد عرفتم ودي بكم معشر قريش، وفراقي محمدا، وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا علي، قالوا: نفعل، قَالَ: أتعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما كان من خلافهم محمدا، وأرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رهنا رجالا ونسلمهم إليكم لتضربوا أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم؟ ثم أتى غطفان، فقال مثل ذلك، فلما كانت ليلة السبت، وكان ذلك من صنع الله عز وجل لرسوله وللمؤمنين، أرسل أَبُو سفيان إلى بني قريظة عكرمةَ بْنَ أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نفاجئ محمدا، فأرسلوا إليهم إن اليوم السبت، وقد علمتم ما نال منا مَنْ تعدى في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم أحدا حتى تعطونا رهنا، فلما رجع الرسول بذاك، قالوا: صدقنا والله نعيم بْن مسعود، فردوا إليهم الرسل، وقالوا: والله لا نعطيكم رهنا أبدا، فاخرجوا معنا إن شئتم، وإلا فلا عهد بيننا وبينكم، فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم بْن مسعود، وَخَذَّلَ بينهم، واختلفت كلمتهم، وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد، فجعلت الريح تقلب أبنيتهم وتكفأ قدورهم، فلما اتصل برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختلاف أمرهم، بعث حذيفة بْن اليمان ليأتيه بخبرهم، فأتاهم واستتر في غمارهم، وسمع أبا سفيان، يقول: يا معشر قريش، ليتعرف كل امرئ منكم جليسه، قَالَ حذيفة: فأخذت بيد جليسي، وقلت: من أنت؟ فقال: أنا فلان، ثم قَالَ أَبُو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، ولقينا من هذه الريح ما ترون، ما يستمسك لنا بناء، ولا تثبت لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحل، ووثب على جمله، فما حل عقال يده إلا وهو قائم، قَالَ حذيفة: ولولا عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلي إذ بعثني، وقال لي: «مر إلى القوم فاعلم ما هم عليه، ولا تُحْدِثْ شيئا» لقتلته بسهم، ثم أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند رحيلهم، فوجدته قائما يصلي، فأخبرته، فحمد الله، ولما أصبح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد ذهب الأحزاب، رجع إلى المدينة، ووضع المسلمون سلاحهم، فأتاه جبريل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة ديباج، فقال له: يا مُحَمَّد، إن كنتم قد وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها، إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناديا ينادي في الناس: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة، وكان سعد بْن معاذ إذ أصابه السهم دعا ربه، فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. |
12-02-2012, 03:35 PM | #44 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
غزوة بني قريظة: فخرج المسلمون مبادرين إلى بني قريظة، فطائفة خافوا فوات الوقت فصلوا، وطائفة قالوا: والله لا صلينا العصر إلا في بني قريظة، فبذلك أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم علم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باجتهادهم فلم يعنف واحدا منهم، وأعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراية علي بْن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونهض علي وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم، وسمعوا سب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانصرف علي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وَعَرَّضَ له، فقال له: «أَظُنُّكَ سَمِعْتَ مِنْهُمْ شَتْمِي، لَوْ رَأَوْنِي لَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ» ونهض إليهم، فلما رأوه، أمسكوا، فقال لهم: «نقضتم العهد يا إخوة القرود، أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته»، فقالوا: ما كنت جاهلا يا مُحَمَّد فلا تجهل علينا، ونزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وعرض عليهم سيدهم كعب بْن أسد ثلاث خصال ليختاروا أيها شاءوا: إما أن يسلموا ويتبعوا محمدا على ما جاء به فيسلموا، قَالَ: وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم، فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه في كتابكم، وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا فيقاتلوا حتى يموتوا عن آخرهم، وإما أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا، فقالوا له: أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التوراة، وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم، ونحن لا نتعدى في السبت، ثم بعثوا إلى أبي لبابة، وكانوا حلفاء بني عمرو بْن عوف وسائر الأوس، فأتاهم، فجمعوا إليه أبناءهم ورجالهم ونساءهم، وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم مُحَمَّد؟ فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح إن فعلتم، ثم ندم أَبُو لبابة في الحين، وعلم أنه خان الله ورسوله، وأنه أمر لا يستره الله عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانطلق إلى المدينة ولم يرجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فربط نفسه في سارية وأقسم لا يبرح مكانه حتى يتوب الله عليه، فكانت امرأته تحله لوقت كل صلاة، قَالَ ابن عيينة وغيره: فيه نزلت: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} وأقسم أن لا يدخل أرض بني قريظة أبدا مكانا أصاب فيه الذم، فلما بلغ ذلك النبيَّ من فعل أبي لبابة، قَالَ: «أما إنه لو أتاني لاستغفرت له، وَأَمَّا إذ فعل فلست أُطْلِقُهُ حتى يطلقه الله» فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} الآية، فلما نزل فيه القرآن، أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإطلاقه، ونزل في تلك الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثعلبة وأسيد ابنا سعية وأسد بْن عبيد، وهم نفر من هدل بني عم قريظة والنضير، وليسوا من قريظة والنضير، نزلوا مسلمين فأحرزوا أموالهم وأنفسهم، وخرج في تلك الليلة عمرو بْن سعدي القرظي، ومر بحرس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه مُحَمَّد بْن مسلمة، وكان قد أبى أن يدخل فيما دخل فيه بنو قريظة، وقال: لا أغدر بمحمد أبدا، فقال له مُحَمَّد بْن مسلمة إذ عرفه: اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ذهب فلم يُرَ بعد ولم يعلم حيث سقط، وَذُكِرَ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره، فقال: «ذلك رجل نجاه الله بوفائه»، فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتواثب الأوس إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: يا رسول الله، قد علمت أنهم حلفاؤنا، وقد شَفَّعْتَ عَبْدَ اللهِ بْن أبي بْن سلول في بني قينقاع حلفاء الخزرج، فلا يكن حظنا أوكس وأنقص عندك من حظ غيرنا، فهم موالينا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا معشر الأوس، ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى، قَالَ: «فذلك إلى سعد بْن معاذ»، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق، فلما حَكَّمَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار، وقد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحاطوا به في طريقهم، يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإنما ولاك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك لتحسن إليهم، فقال لهم: قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من معه إلى ديار بني عَبْد الأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة، فلما أطل سعد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ للأنصار: قوموا إلى سيدكم، فقام المسلمون، فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم ما حكمت؟ قالوا: نعم، قَالَ: وعلى من هنا؟ من الناحية التي فيها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو معرض عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجلالا له، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم»، قَالَ سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبى الذراري والنساء، وتقسم الأموال، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة»، وأمر بهم رسول الله فأخرجوا إلى موضع سوق المدينة، فخندق بها خنادق، ثم أمر بهم النبي عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، وقتل يومئذ حيي بْن أخطب، وكعب بْن أسد، وكانوا من الست مائة إلى السبع مائة، وقتل من نسائهم امرأة وهي بنانة امرأة الحكم القرظي، التي طرحت الرحى على خلاد بْن سويد فقتلته، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل كل من أنبت منهم، وترك كل من لم ينبت، وكان عطية القرظي من جملة من لم ينبت، فاستحياه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مذكور في الصحابة، ووهب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لثابت بْن قيس بْن الشماس ولد الزبير بْن باطا فاستحياهم، منهم عَبْد الرحمن بْن الزبير، أسلم وله صحبة، ووهب أيضا عليه السلام رفاعة بْن سموءل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس، أخت سليط بْن قيس، من بني النجار، وكانت قد صلت القبلتين، فأسلم رفاعة، وله صحبة ورواية، وقسم عليه السلام أموال بني قريظة، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهما، وقد قيل للفارس سهمان، وللراجل سهم، وكانت الخيل للمسلمين يومئذ ستة وثلاثون فرسا، ووقع للنبي من سبيهم ريحانة بنت عمرو بْن خناقة إحدى بني عمرو بْن قريظة، فلم تزل عنده إلى أن مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: إن غنيمة قريظة هي أول غنيمة قسم فيها للفارس والراجل، وأول غنيمة جعل فيها الخمس لله ورسوله، وقد تقدم أن أول ذلك كان في بعث عَبْد اللهِ بْن جحش، والله أعلم، وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة بني قريظة أول غنيمة فيها الخمس بعد نزول قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}، وكان عَبْد اللهِ قد خمس قبل ذلك في بعثه، ثم نزل القرآن بمثل فعله، وذلك من فضائله رحمة الله عليه، وقد ذكرنا خبره في بابه من كتاب الصحابة، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة، فلما تم أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الصالح سعد بْن معاذ، فانفجر جرحه، وانفتح عرقه فجرى دمه، ومات رضي الله عنه، وهو الذي أتى الحديث فيه أنه اهتز لموته عرش الرحمن، يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه واهتزوا له. |
12-02-2012, 03:36 PM | #45 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
ذكر من استشهد من المسلمين يوم الخندق: سعد بْن معاذ أَبُو عمرو من بني عَبْد الأشهل، وأنس بْن أوس بْن عتيك، وعبد الله بْن سهل وكلاهما أيضا من بني عَبْد الأشهل، والطفيل بْن النعمان، وثعلبة بْن عنمة وكلاهما من بني سلمة، وكعب بْن زيد من بني دينار بْن النجار، أصابه سهم غرب فقتله. .ذكر من قتل من المشركين يوم الخندق: وأصيب من المشركين يوم الخندق منبه بْن عثمان بْن عبيد بْن السباق بْن عَبْد الدار، أصابه سهم مات منه بمكة، وقد قيل: إنما هو عثمان بْن أمية بْن منبه بْن عبيد بْن السباق، ونوفل بْن عَبْد اللهِ بْن المغيرة المخزومي، اقتحم الخندق فقتل فيه، وعمرو بْن عَبْد ود قتله عَلِيٌّ مبارزة. .شهداء يوم قريظة: واستشهد من المسلمين يوم قريظة خلاد بْن سويد بْن ثعلبة بْن عمرو، من بني الحارث بْن الخزرج، طرحت عليه امرأة من بني قريظة رحى فقتلته، ومات في الحصار أَبُو سنان بْن محصن، فدفنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقبرة بني قريظة التي يتدافن المسلمون السكان بها اليوم، ولم يصب غير هذين، ولم يغز كفار قريش المسلمين بعد الخندق. .بَعْثُ عَبْدِ اللهِ بْن عتيك إلى قتل أبي رافع سلام بْن أبي الحقيق اليهودي: وانقضى شأن الخندق وقريظة، وكان أَبُو رافع سلام بْن أبي الحقيق ممن حزب الأحزاب وألب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بْن الأشرف في عداوته رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الأوس والخزرج يتصاولان تصاول الفحول، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بذلك فضلا علينا، ولا ينتهون حتى يوقعوا مثله، وإذا فعلت الخزرج شيئا كفضل في الإسلام، أو بر عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت الأوس مثل ذلك، فتذاكرت الخزرج مَنْ في العدواة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كابن الأشرف، فذكروا ابن أبي الحقيق، واستأذنوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتله فأذن لهمْ، فخرج إليه خمسة نفر من الخزرج كلهم من بني سلمة وهم: عَبْد اللهِ بْن عتيك، وعبد الله بْن أنيس، وأبو قتادة بْن ربعي، ومسعود بْن سنان، وخزاعي بْن أسود حليف لهم من أسلم، وَأَمَّرَ عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ بْن عتيك، ونهاهم عن قتل النساء والصبيان، فنهضوا حتى أتوا خيبر ليلا، وكان سلام في حصنه ساكنا في دار مع جماعة وهو في علية منها، فاستأذنوا عليه، فقالت امرأته: من أنتم؟ فقالوا: أناس من العرب يطلبون الميرة، فقالت لهم: هذاكم صاحبكم فادخلوا، فلما دخلوا أغلقوا الباب على أنفسهم، فأيقنت بالشر وصاحت، فهموا بقتلها، ثم ذكروا نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والولدان فأمسكوا عنها، ثم تعاوروه بأسيافهم وهو راقد على فراشه أبيض في سواد الليل كأنه قبطية، ووضع عَبْد اللهِ بْن عتيك سيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قطني قطني، ثم نزلوا، وكان عَبْد اللهِ بْن عتيك سيئ البصر، فوقع فَوَثِئَتْ رِجْلُهُ وَثَأً شَدِيدًا، فحمله أصحابه حتى أتوا منهرا من مناهرهم فدخلوا فيه واستتروا، وخرج أهل الآطام لصياح امرأته وأوقدوا النيران في كل جهة، فلما يئسوا رجعوا، فقال أصحاب ابن عتيك: كيف لنا أن نعلم أن عدو الله قد مات ؟ فرجع أحدهم فدخل بين الناس، فسمع امرأة ابن أبي الحقيق تقول: والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت نفسي وقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد؟ قَالَ: ثم إنها نظرت في وجهه، فقالت: فاظ وإله يهود، قَالَ: فسررت، وانصرفت إلى أصحابي فأخبرتهم بذلك، فرجعوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه، وتداعوا في قتله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هاتوا أسيافكم» فأروه إياها، فقال عليه السلام عن سيف عَبْد اللهِ بْن أنيس: «هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام» وحديث البراء بْن عازب في قتل ابن أبي الحقيق بخلاف هذا المساق، والمعنى واحد. .غزوة بني لحيان: وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بعد فتح بني قريظة بقية ذي الحجة، والمحرم، وصفرا، وربيعا الأول، وربيعا الآخر، وخرج عليه السلام في جمادى الأولى في الشهر السادس من فتح بني قريظة، وهو الشهر الثالث من السنة السادسة من الهجرة، قاصدا إلى بني لحيان، مطالبا بثأر عاصم بْن ثابت، وخبيب بْن عدي، وأصحابهما المقتولين بالرجيع، فسلك عليه السلام على طريق الشام من المدينة على جبل يقال له غراب، ثم أخذ ذات الشمال، ثم سلك المحجة من طريق مكة، فأغذ السير حتى أتى وادي غران بين أمج وعسفان، وهي منازل بني لحيان، فوجدوهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فتمادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مائتي راكب حتى نزل عسفان، وبعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلين من أصحابه فارسين حتى بلغا كراع الغميم، ثم كرا ورجعا، ورجع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قافلا إلى المدينة، وفي غزوة بني لحيان قالت الأنصار: المدينة خالية منا، وقد بعدنا عنها، ولا نأمن عدوا يخالفنا إليها، فأخبرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن على أنقاب المدينة ملائكة، على كل نقب منها ملك يحميها بأمر الله عز وجل. .غزوة ذِي قَرَدَ: ولما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بني لحيان، لم يبق بالمدينة إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بْن حصن في بني عَبْد اللهِ بْن غطفان، فاكتسحوا لقاحا كانت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالغابة، وكان فيها رجل من بني غفار وامرأة له، فقتلوا الغفاري، وحملوا المرأة واللقاح، وكان أول من أنذرهم سلمة بْن عمرو بْن الأكوع الأسلمي، كان ناهضا إلى الغابة، فلما علا ثنية الوداع نظر إلى خيل الكفار وأنذر المسلمين، ثم نهض في آثارهم فأبلى بلاء عظيما حتى استنقذ أكثر ما في أيديهم، ووقعت الصيحة بالمدينة، فكان أول من جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حين الصيحة المقداد بْن الأسود، ثم عباد بْن بشر وسعد بْن زيد الأشهليان، وأسيد بْن ظهير الأنصاري، وعكاشة بْن محصن الأسدي، ومحرز بْن نضلة الأسدي الأخرم، وأبو قتادة الحارث بْن ربعي، وأبو عياش الزريقي، واسمه عبيد بْن زيد بْن صامت، فلما اجتمعوا أَمَّرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم سعد بْن زيد، وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى فرس أبي عياش الزريقي معاذ بْن ماعص أو عائذ بْن ماعص، وكان أحكم للفروسية من أبي عياش، فأول من لحق بهم محرز بْن نضلة الأخرم، فقتل رحمه الله، قتله عَبْد الرحمن بْن عيينة بْن حصن، وكان على فرس لمحمود بْن مسلمة أخي مُحَمَّد بْن مسلمة، أخذه وكان صاحبه غائبا، فلما قتل رجع الفرس إلى آريه في بني عَبْد الأشهل، وقيل: بل أخذ الفرس عَبْد الرحمن بْن عيينة إذ قَتَلَ مُحْرِزَ بْن نضلة عليه وركبه، ثم قتل سلمة بْن الأكوع عَبْد الرحمن بْن عيينة بالرمي في خرجته تلك، واسترجع الفرس، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على فرس لأبي طلحة، وقال: «إِنْ وَجَدْتُهُ لَبَحْرًا»، وانهزم المشركون، وبلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماء يقال له: ذو قَرَدَ، ونحر ناقة من لقاحه المسترجعة، وأقام على ذلك الماء يوما وليلة، وكان الفضل في هذه الغزاة، والفعل الكريم، والظهور، والبلاء الحسن لسلمة بْن الأكوع، وَكُلُّهُمْ ما قَصَّرَ رضي الله عنهم، وكان المشركون قد أخذوا ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضباء في غارتهم تلك على سرح المدينة نجوا بها وبتلك المرأة الغفارية الأسيرة، امرأة الغفاري المقتول، وقد قيل: إنها لم تكن امرأة الغفاري المقتول، وإنما كانت امرأة أبي ذر، والأول قول ابن إسحاق وأهل السير، قَالَ: فنام القوم ليلة، وقامت المرأة فجعلت لا تضع شيئا على بعير إلا رغا، حتى أتت العضباء، فإذا ناقة ذلول، فركبتها، ونذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة، عُرِفَتْ نَاقَةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُخْبِرَ بذلك، فأرسل إليها، فجيء بها وبالمرأة، فقالت: يا رسول الله، نذرتُ إن نجاني الله أن أنحرها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بئس ما جَزَيْتِهَا، لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم»، وأخذ ناقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. |
12-02-2012, 03:37 PM | #46 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
غزوة بني المصطلق من خزاعة: ثم أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة باقي جمادى الأولى ورجبا، ثم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، وقيل: بل نميلة بْن عَبْد اللهِ الليثي، وأغار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بني المصطلق وهم غارون، وهم على ماء يقال له: المريسيع من ناحية قديد مما يلي الساحل، فقتل من قتل منهم، وسبي النساء والذرية، وكان شعارهم يومئذ أَمِتْ، وقد قيل: إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما بلغه ذلك خرج إليهم، فلقيهم على ماء يقال له: المريسيع، فاقتتلوا، فهزمهم الله، والقول الأول أصح، أنه أغار عليهم وهم غارون، ومن ذلك السبي جويرية بنت الحارث بْن أبي ضرار سيد بني المصطلق، وقعت في سهم ثابت بْن قيس بْن شماس، فكابتها، فأدى عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقها وتزوجها، وشهدت عائشة رضي الله عنها تلك الغزاة، قالت: ما هو إلا أن وقفت جويرية بباب الخباء تستعين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابتها، فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا فرأيتُ على وجهها ملاحة وحسنا، فأيقنت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رآها أعجبته، فما هو إلا أن كلمته، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أو خير من ذلك أن أودي كتابتك وأتزوجك» قالت: وما رأيت أعظم بركة على قومها منها، فما هو إلا أن علم المسلمون أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه ِ وَسَلَّمَ تزوجها فأعتقوا كل ما بأيديهم من سبي بني المصطلق، وقالوا: أصهار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلم سائر بني المصطلق، وقد اختلف في وقت هذه الغزاة، قيل: كانت قبل الخندق وقريظة، وقيل: كانت بعد ذلك وهو الصواب إن شاء الله، وقتل في هذه الغزاة هشام بْن صبابة الليثي خطأ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة لم يعرفه وظنه من المشركين، وفي هذه الغزاة قَالَ عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وذلك لشر وقع بين جهجاه بْن مسعود الغفاري، وكان أجيرا لعمر بْن الخطاب رضي الله عنه، وبين سنان بْن وبر الجهني حليف بني عوف بْن الخزرج، فنادى جهجاه الغفاري: يا للمهاجرين، ونادى الجهني: يا للأنصار، وَبَلَّغَ زيدُ بْنُ أرقَمَ رسولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَةَ عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول، فأنكرها ابن أبي، فأنزل الله عز وجل فيه سورة المنافقين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزيد بْن أرقم: «وَفَتْ أُذُنُكَ يا غلام» وأخذ بأذنه، وتبرأ عَبْد اللهِ بْن عَبْد اللهِ بْن أبي من فعل أبيه، وأتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: يا رسول الله أنت والله العزيز وهو الذليل، أو قَالَ: أنت الأعز وهو الأذل، وإن شئت والله لنخرجنه من المدينة، وقال سعد بْن عبادة: يا رسول الله، إن هذا رجل يحمله حسده على النفاق، فدعه إلى عمله، وقد كان قومه على أن يتوجوه بالخرز قبل قدومك المدينة ويقدموه على أنفسهم، فهو يرى أنك نزعت ذلك منه، وقد خاب وخسر إن كان يضمر خلاف ما يظهر، وقد أظهر الإيمان، فَكِلْهُ إلى ربه، وقال عَبْد اللهِ بْن عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت تريد ذلك، فمرني بقتله، فوالله إن أمرتني بقتله لأقتلنه، وإني أخشى يا رسول الله إن قتله غيري أن لا أصبر عن طلب الثأر فأقتلَ مسلما فأدخلَ النار، وقد علمت الأنصار أني من أبر أبنائها بأبيه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرا، ودعا له، وقال له: بر أباك، ولا يرى منك إلا خيرا، فلما وصل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون إلى المدينة من تلك الغزاة، وقف عَبْد اللهِ بْن عَبْد اللهِ بْن أبي لأبيه بالطريق، وقال: والله لا تدخل المدينة حتى يأذن لك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدخول، فأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدخوله، وفي هذه الغزاة قَالَ أهل الإفك في عائشة رضي الله عنها ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، ونزل القرآن ببراءتها، ورواية من روى أن سعد بْن معاذ راجع في ذلك سعد بْن عبادة وهم وخطأ، وإنما تراجع في ذلك سعد بْن عبادة مع أسيد بْن حضير، كذلك ذكر ابن إسحاق، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن عبيد الله بْن عَبْد اللهِ وغيره، وهو الصحيح، لأن سعد بْن معاذ مات في منصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بني قريظة، لا يختلفون في ذلك، ولم يدرك غزوة المريسيع ولا حضرها، وقدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فقدم عليه مقيس بْن صبابة مظهرا للإسلام وطالبا لِدِيَةِ أخيه هشام بْن صبابة، فأمر له عليه السلام بالدية، فأخذها، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله وفر إلى مكة كافرا، وهو أحد الذين أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلهم في حين دخوله مكة، ثم بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بأكثر من عامين الوليد بْن عقبة بْن أبي معيط مصدقا لهم، فخرجوا ليتلقوه ففزع منهم، وظن أنهم يريدونه بسوء، فرجع عنهم وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم ارتدوا، ومنعوا الزكاة، وهموا بقتله، فتكلم المسلمون في غزوهم، فبينما هم كذلك إذ قدم وافدهم منكرا لرجوع مصدقهم عنهم دون أن يأخذ صدقاتهم، وأنهم إنما خرجوا إليه مكرمين له، فأكذبه الوليد بْن عقبة، فأنزل الله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} يعني الوليد بْن عقبة {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} الآية. .عمرة الحديبية: |
12-02-2012, 03:37 PM | #47 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
غزوة بني المصطلق من خزاعة: ثم أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة باقي جمادى الأولى ورجبا، ثم غزا بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، وقيل: بل نميلة بْن عَبْد اللهِ الليثي، وأغار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بني المصطلق وهم غارون، وهم على ماء يقال له: المريسيع من ناحية قديد مما يلي الساحل، فقتل من قتل منهم، وسبي النساء والذرية، وكان شعارهم يومئذ أَمِتْ، وقد قيل: إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما بلغه ذلك خرج إليهم، فلقيهم على ماء يقال له: المريسيع، فاقتتلوا، فهزمهم الله، والقول الأول أصح، أنه أغار عليهم وهم غارون، ومن ذلك السبي جويرية بنت الحارث بْن أبي ضرار سيد بني المصطلق، وقعت في سهم ثابت بْن قيس بْن شماس، فكابتها، فأدى عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقها وتزوجها، وشهدت عائشة رضي الله عنها تلك الغزاة، قالت: ما هو إلا أن وقفت جويرية بباب الخباء تستعين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابتها، فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا فرأيتُ على وجهها ملاحة وحسنا، فأيقنت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رآها أعجبته، فما هو إلا أن كلمته، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أو خير من ذلك أن أودي كتابتك وأتزوجك» قالت: وما رأيت أعظم بركة على قومها منها، فما هو إلا أن علم المسلمون أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه ِ وَسَلَّمَ تزوجها فأعتقوا كل ما بأيديهم من سبي بني المصطلق، وقالوا: أصهار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلم سائر بني المصطلق، وقد اختلف في وقت هذه الغزاة، قيل: كانت قبل الخندق وقريظة، وقيل: كانت بعد ذلك وهو الصواب إن شاء الله، وقتل في هذه الغزاة هشام بْن صبابة الليثي خطأ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة لم يعرفه وظنه من المشركين، وفي هذه الغزاة قَالَ عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وذلك لشر وقع بين جهجاه بْن مسعود الغفاري، وكان أجيرا لعمر بْن الخطاب رضي الله عنه، وبين سنان بْن وبر الجهني حليف بني عوف بْن الخزرج، فنادى جهجاه الغفاري: يا للمهاجرين، ونادى الجهني: يا للأنصار، وَبَلَّغَ زيدُ بْنُ أرقَمَ رسولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَةَ عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول، فأنكرها ابن أبي، فأنزل الله عز وجل فيه سورة المنافقين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزيد بْن أرقم: «وَفَتْ أُذُنُكَ يا غلام» وأخذ بأذنه، وتبرأ عَبْد اللهِ بْن عَبْد اللهِ بْن أبي من فعل أبيه، وأتى رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: يا رسول الله أنت والله العزيز وهو الذليل، أو قَالَ: أنت الأعز وهو الأذل، وإن شئت والله لنخرجنه من المدينة، وقال سعد بْن عبادة: يا رسول الله، إن هذا رجل يحمله حسده على النفاق، فدعه إلى عمله، وقد كان قومه على أن يتوجوه بالخرز قبل قدومك المدينة ويقدموه على أنفسهم، فهو يرى أنك نزعت ذلك منه، وقد خاب وخسر إن كان يضمر خلاف ما يظهر، وقد أظهر الإيمان، فَكِلْهُ إلى ربه، وقال عَبْد اللهِ بْن عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت تريد ذلك، فمرني بقتله، فوالله إن أمرتني بقتله لأقتلنه، وإني أخشى يا رسول الله إن قتله غيري أن لا أصبر عن طلب الثأر فأقتلَ مسلما فأدخلَ النار، وقد علمت الأنصار أني من أبر أبنائها بأبيه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيرا، ودعا له، وقال له: بر أباك، ولا يرى منك إلا خيرا، فلما وصل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون إلى المدينة من تلك الغزاة، وقف عَبْد اللهِ بْن عَبْد اللهِ بْن أبي لأبيه بالطريق، وقال: والله لا تدخل المدينة حتى يأذن لك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدخول، فأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدخوله، وفي هذه الغزاة قَالَ أهل الإفك في عائشة رضي الله عنها ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا، ونزل القرآن ببراءتها، ورواية من روى أن سعد بْن معاذ راجع في ذلك سعد بْن عبادة وهم وخطأ، وإنما تراجع في ذلك سعد بْن عبادة مع أسيد بْن حضير، كذلك ذكر ابن إسحاق، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن عبيد الله بْن عَبْد اللهِ وغيره، وهو الصحيح، لأن سعد بْن معاذ مات في منصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بني قريظة، لا يختلفون في ذلك، ولم يدرك غزوة المريسيع ولا حضرها، وقدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فقدم عليه مقيس بْن صبابة مظهرا للإسلام وطالبا لِدِيَةِ أخيه هشام بْن صبابة، فأمر له عليه السلام بالدية، فأخذها، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله وفر إلى مكة كافرا، وهو أحد الذين أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتلهم في حين دخوله مكة، ثم بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بأكثر من عامين الوليد بْن عقبة بْن أبي معيط مصدقا لهم، فخرجوا ليتلقوه ففزع منهم، وظن أنهم يريدونه بسوء، فرجع عنهم وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم ارتدوا، ومنعوا الزكاة، وهموا بقتله، فتكلم المسلمون في غزوهم، فبينما هم كذلك إذ قدم وافدهم منكرا لرجوع مصدقهم عنهم دون أن يأخذ صدقاتهم، وأنهم إنما خرجوا إليه مكرمين له، فأكذبه الوليد بْن عقبة، فأنزل الله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} يعني الوليد بْن عقبة {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} الآية. |
12-02-2012, 03:38 PM | #48 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
عمرة الحديبية: فأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة منصرفه من غزوة بني المصطلق رمضان وشوالا، وخرج في ذي القعدة معتمرا، فاستنفر الأعراب الذين حول المدينة، فأبطأ عنه أكثرهم، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب، وجميعهم نحو ألف وأربع مائة، وقيل: ألف وخمس مائة، وساق معه الهدي، وأحرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعمرة، ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما بلغ خروجه قريشا، خرج جمعهم صَادِّينَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد الحرام ودخول مكة، وأنه إن قاتلهم قاتلوا دون ذلك، وقدموا خالد بْن الوليد في خيل إلى كراع الغميم، فورد الخبر بذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بعسفان، فسلك طريقا يخرج منه في ظهورهم، وخرج إلى الحديبية من أسفل مكة، وكان دليله فيه رجلا من أسلم، فلما بلغ ذلك خيل قريش التي مع خالد جرت إلى قريش تعلمهم بذلك، ولما وصل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الحديبية بركت ناقته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الناس: خَلأَتْ، خَلأَتْ، فقال النبي عليه السلام: «ما خلأت وما هو لها بِخُلُقٍ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها»، ثم نزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنالك، فقيل: يا رسول الله ليس بهذا الوادي ماء، فأخرج عليه السلام سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه في جوفه، فجاش الماء الرواء، حتى كفى جميع أهل الجيش، وقيل: إن الذي نزل بالسهم في القليب ناجية بْن جندب بْن عمير الأسلمي، وهو سائق بدن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ، وقيل: نزل بالسهم في القليب البراء بْن عازب، ثم جرت الرسل والسفراء بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين كفار قريش، وطال التراجع والتنازع إلى أن جاءه سهيل بْن عمرو العامري، فقاضاه على أن ينصرف عليه السلام عامه ذلك، فإذا كان من قابل أتى معتمرا، ودخل هو وأصحابه مكة بلا سلاح حاشا السيوف في قربها، فيقيم بها ثلاثا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام، يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا، على أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلما من رجل أو امرأة رد إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدا لم يردوه إلى المسلمين، فعظم ذلك على المسلمين حتى كان لبعضهم فيه كلام، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم بما علمه الله من أنه سيجعل للمسلمين فرجا، فقال لأصحابه: اصبروا، فإن الله يجعل هذا الصلح سببا إلى ظهور دينه، فأنس الناس إلى قوله بعد نفار منهم، وَأَبَى سهيل بْن عمرو أن يُكْتَبَ في صدر صحيفة الصلح: من مُحَمَّد رسول الله، وقال له: لو صدقناك بذلك ما دفعناك عما تريد، ولا بد أن يُكْتَبَ: باسمك اللهم، فقال لعلي، وكان كاتب صحيفة الصلح: «امح يا علي، واكتب باسمك اللهم» وأبى علي أن يمحو بيده: رسول الله، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعرضه علي» فأشار إليه، فمحاه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، وأمره أن يكتب: من مُحَمَّد بْن عَبْد اللهِ، وأتى أَبُو جندل بْن سهيل يومئذ بأثر كتاب الصلح وهو يرسف في قيوده، فرده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أبيه، فعظم ذلك على المسلمين، فأخبرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبر أبا جندل أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بعث عثمان بْن عفان إلى مكة رسولا، فجاء خبر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أهل مكة قتلوه، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينئذ المسلمين للمبايعة على الحرب والقتال لأهل مكة، وَرُوِيَ أنه بايعهم على أن لا يفروا، وهي بيعة الرضوان تحت الشجرة التي أخبر الله عز وجل أنه رضي عن المبايعين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحتها، وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهم لا يدخلون النار، وضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيمينه على شماله لعثمان، وقال: «هذه عن عثمان»، فهو كمن شهدها، ذكر وكيع، عن إسماعيل بْن أبي خالد، عن الشعبي، قَالَ: أول من بايع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية أَبُو سنان الأسدي، وذكر ابن هشام عن وكيع: كانت قريش قد جاء منهم نحو سبعين أو ثمانين رجلا للإيقاع بالمسلمين، وانتهاز الفرصة في أطرافهم، ففطن المسلمون لهم، فخرجوا فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، فأطلقهم رسول الله، فهم الذين يسمون العتقاء، وإليهم ينسب العتقيون فيم يزعمون، ومنهم معاوية وأبوه فيما ذكروا، فلما تم الصلح بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين أهل مكة الذي تولى عقده لهم سهيل بْن عمرو على ما ذكروا، أَمَرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين أن ينحروا ويحلوا، ففعلوا بعد توقف كان بينهم أغضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عليه السلام: «لو نحرت لنحروا» فنحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديه، فنحروا بنحره، وحلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه، ودعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين واحدة، قيل: إن الذي حلق رأسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ خراش بْن أمية بْن الفضل الخزاعي، ثم رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، فأتاه أَبُو بصير عتبة بْن أسيد بْن جارية الثقفي حليف لبني زهرة هاربا من مكة مسلما، وكان ممن حبس بمكة مع المسلمين، فبعث فيه الأزهر بْن عَبْد عوف عم عَبْد الرحمن بْن عوف، والأخنس بْن شريق الثقفي رجلا من بني عامر بْن لؤي، ومولى لهم، فأتيا النبي عليه السلام فأسلمه إليهما على ما عقد في الصلح، فاحتملاه، فلما صاروا بذي الحليفة، قَالَ أَبُو بصير لأحد الرجلين: أرى سيفك هذا سيفا جيدا فأرنيه، فلما أراه إياه ضرب به العامري فقتله، وفر المولى، فأتى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: هذا رجل مذعور، ولقد أصاب هذا ذعر، فلما وصل إليه أخبره بما وقع، وقال: غدر بنا، وبينما هو يكلمه إذ وصل أَبُو بصير، فقال: يا رسول الله، قد وفت ذمتك وأطلقني الله عز وجل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لو كان له رجال، أو قَالَ: أصحاب» فعلم أَبُو بصير أنه سيرده، فخرج حتى أتى سيف البحر، موضعا يقال له: العيص من ناحية ذي المروة على طريق قريش إلى الشام، فجعل يقطع على رفاقهم، واستضاف إليه قوما من المسلمين الفارين عن قريش منهم أَبُو جندل بْن سهيل، فجعلوا لا يتركون لقريش عيرا ولا ميرة ولا مارا إلا قطعوا بهم، فكتبت في ذلك قريش إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: نرى أن تضمهم إليك إلى المدينة فقد آذونا، وأنزل الله تعالى بعد ذلك القرآن بفسخ الشرط المذكور في رد النساء، فمنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ردهن، ثم نزلت سورة براءة فنسخ ذلك كله، ورد على كل ذي عهد عهده، وأن يمهلوا أربعة أشهر، ومن لم يستقم على عهده لا يستقام له، وهاجرت أم كلثوم بنت عقبة بْن أبي معيط، فأتى أخواها عمارة والوليد فيها ليؤدوها، فمنع الله عز وجل من رد النساء المؤمنات إلى الكفار إذا امتحن فوجدن مؤمنات، وأخبر أن ذلك لا يحل، وأمر المؤمنين أيضا أن لا يمسكوا بعصم الكوافر، ولا ينكحوا المشركات، يعني الوثنيات حتى يؤمن. |
12-02-2012, 03:39 PM | #49 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
.غزوة خيبر: وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد رجوعه من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، وخرج في بقية منه غازيا إلى خيبر، ولم يبق من السنة السادسة من الهجرة إلا شهر وأيام، واستخلف على المدينة نميلة بْن عَبْد اللهِ الليثي، وذكر موسى بْن عقبة، قَالَ: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة منصرفه من الحديبية، مكث عشرين يوما أو قريبا منها، ثم خرج غازيا إلى خيبر، وكان الله عز وجل وعده إياها وهو بالحديبية، قَالَ أَبُو عمر: قَالَ الله عز وجل في أهل الحديبية: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}، فلم يختلف العلماء في أنها البيعة بالحديبية، قَالَ ابن قتيبة، وقتادة، وعكرمة، وغيرهم: كانت الشجرة سمرة كانت بالحديبية {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الرضا بأمر البيعة على أن لا يفروا، واطمأنت بذلك نفوسهم، فأثابهم فتحا قريبا خيبر، ووعدهم المغانم فيها {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا}، وقد روي عن ابن عباس ومجاهد في قوله: {وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} أنها المغانم التي تكون إلى يوم القيامة، وقالوا في قوله: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا} فارس والروم، وما افتتحوا إلى اليوم، وقال عَبْد الرحمن بْن أبي ليلى، قَالَ: وقوله: {فَتْحًا قَرِيبًا} خيبر، رَجَعَ الخبر إلى ابن إسحاق، قَالَ: فلما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر، دفع رايته وكانت بيضاء إلى علي بْن أبي طالب رضي الله عنه، وأخذ طريق الصهباء إلى وادي الرجيع، فنزل بين خيبر وغطفان لئلا يمدوهم، لأنه بلغه أن غطفان تريد إمداد يهود خيبر، ولما خرجوا لإمدادهم اختلفت كلمتهم، وأسمعهم الله عز وجل حسا من ورائهم، وهذا راعهم وأفزعهم، فانصرفوا إلى ديارهم فأقاموا بها، وأقبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أشرف على خيبر مع الفجر وعمالهم غادون بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والجيش نادوا: مُحَمَّد والخميس معه، وأدبروا هربا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين»، وتحصنت يهود في حصونهم، وكانت حصونا كثيرة، فكان أول حصن افتتحوه حصنا يسمى ناعما، وعنده قتل محمود بْن مسلمة أخو مُحَمَّد بْن مسلمة، ألقيت عليه رحى فشدخته رحمه الله، ثم حصنا يدعى القموص، وهو حصن بني أبي الحقيق، ومن سبايا ذلك الحصن كانت صفية بنت حيي بْن أخطب، وكانت تحت كنانة بْن الربيع بْن أبي الحقيق، أصابها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبِنْتَيْ عم لها، فوهب صفية لدحية بْن خليفة الكلبي، ثم ابتاعها منه بسبعة أرؤس، ثم أردفها خلفه وألقى عليها رداءه، فعلم أصحابه أنه اصطفاها لنفسه، وجعلها عند أم سليم حتى اعتدت وأسلمت ثم أعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، وهذه مسألة اختلف الفقهاء فيها، فمنهم من جعل ذلك خصوصا له كما خص بالموهوبة، ومنهم من جعل ذلك سنة لمن شاء من أمته، ثم فتح حصن الصعب بْن معاذ، ولم يكن في حصون خيبر أكثر طعاما وودكا منه، ووقف إلى بعض حصونهم فامتنع عليهم فتحه، ولقوا فيه شدة، فأعطى رايته أبا بكر الصديق، فنهض بها وقاتل واجتهد، ولم يفتح عليه، ثم أعطى الراية عمر، فقاتل ثم رجع ولم يفتح له وقد جهد، فحينئذ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار، يفتح الله عز وجل على يديه»، فلما أصبح دعا عليا وهو أرمد، فتفل في عينيه، ثم قَالَ: «خذ الراية فامض بها حتى يفتح الله بها عليك»، ذكر هذا الخبر ابن إسحاق، قَالَ: حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، وَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَايَتِهِ إِلَى حِصْنٍ مِنْ حُصُونِ خَيْبَرَ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحِصْنِ، خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ وَقَاتَلَهُمْ، فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَأَلْقَى تُرْسَهُ مِنْ يَدِهِ، فَتَنَاوَلَ عَلِيٌّ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ فَتَرَّسَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي نَفَرٍ مَعِي سَبْعَةٌ وَأَنَا ثَامِنُهُمْ، نَجْتَهِدُ عَلَى أَنْ نَقْلِبَ ذَلِكَ الْبَابَ فَمَا نَقْلِبُهُ» وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بَكِيرٍ، وَزِيَادٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَالأُمَوِيِّ عَنْهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ جَابِرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ جَابِرٌ خَيْبَرَ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ هُوَ الَّذِي قَتَلَ مَرْحَبًا الْيَهُودِيَّ بِخَيْبَرَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ لِهَذَا» يَعْنِي مَرْحَبًا الْيَهُودِيَّ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ أَطْلُبُ الثَّأْرَ، قَتَلَ أَخِي بِالأَمْسِ، قَالَ: «فَقُمْ إِلَيْهِ»، فَنَهَضَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَتَقَاتَلا، وَكَانَا يَسْتَتِرَانِ بِشَجَرَةٍ، فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَلُوذُ بِهَا مِنْ صَاحِبِهِ، كُلَّمَا لاذَ بِهَا مِنْهُ اقْتَطَعَ بِسَيْفِهِ مَا دُونَهُ مِنْهَا حَتَّى ذَهَبَتْ أَغْصَانُهَا، وَبَرَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَحَمَلَ مَرْحَبٌ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَضَرَبَهُ، فَاتَّقَاهُ بِالدَّرَقَةِ، فَوَقَعَ سَيْفُهُ فِيهَا فَعَضَّتْ بِهِ وَأَمْسَكَتْهُ، وَضَرَبَهُ مُحَمَّدٌ فَقَتَلَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ، ثُمَّ بَرَزَ أَخُو مَرْحَبٍ وَاسْمُهُ يَاسِرٌ، فَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ، هذا ما ذكره ابن إسحاق في قتل مرحب اليهودي بخيبر، وخالفه غيره، فقال: بل قتله علي بْن أبي طالب وهو الصحيح عندنا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَمَّا نَزَلَ بِحِصْنِ خَيْبَرَ: «لأُعْطِيَنَّ اللِّوَاءَ غَدًا رَجُلا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ»، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ تَطَاوَلَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ وَأَعْطَاهُ اللِّوَاءَ، وَنَهَضَ مَعَهُ النَّاسُ فَلَقُوا أَهْلَ خَيْبَرَ، فَإِذَا مَرْحَبٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَرْتَجِزُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُة ** شَاكِي السَّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ إِذَا السُّيُوفُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ ** أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ فَاخْتَلَفَ هُوَ وَعَلِيٌّ ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى عَضَّ السَّيْفُ بِأَضْرَاسِهِ، وَسَمِعَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ صَوْتَ ضَرْبَتِهِ، قَالَ: فَمَا تَتَامَّ النَّاسُ حَتَّى فَتَحُوا لَهُمْ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ عَمِّي عَامِرُ بْنُ سِنَانٍ إِلَى خَيْبَرَ، بَارَزَ يَوْمًا مَرْحَبًا الْيَهُودِيَّ، فَقَالَ مَرْحَبٌ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ، وَقَالَ عَمِّي: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرُ شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُغَاوِرُ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي تُرْسِ عَامِرٍ، وَرَجَعَ سَيْفُ عَامِرٍ عَلَى نَفْسِهِ فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ، قَالَ سَلَمَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَنِي إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وقال: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ»، قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَخَرَجَ مَرْحَبٌ يَخْطُرُ بِسَيْفِهِ، وَقَالَ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ** شَاكِي السِّلاحَ بَطَلٌ مُجَرَّب إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ ** كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ فَفَلَقَ رَأْسَ مَرْحَبٍ بِالسَّيْفِ، وَكَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدِ عَلِيٍّ قَالَ ابن إسحاق: وآخر ما افتتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حصونهم الوطيح والسلالم، وقال موسى بْن عقبة: حاصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصون خيبر بضع عشرة ليلة، وكان بعضها صلحا وأكثرها عنوة، ذكر ذلك عن ابن شهاب، وقال ابن إسحاق: قسم رسول الله أرض خيبر كلها، لأنه غلب على جميعها عنوة، وحاصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل خيبر في حصنهم الوطيح، حتى إذا أيقنوا بالهلكة، سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم، ففعل |
12-02-2012, 03:40 PM | #50 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
.مقاسم خيبر وأموالها: وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حاز الأموال كلها الشق، ونطاة، والكتيبة، وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين، فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله يسألونه أن يسيرهم، وأن يحقن لهم دماءهم، ويحلوا له الأموال، ففعل، وكان فيمن مشى بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينهم في ذلك محيصة بْن مسعود، أخو بني حارثة، قَالَ: فلما نزل أهل خيبر على ذلك، سألوا رسول الله أن يعاملهم في الأموال على النصف، فعاملهم، وقال لهم: «على أَنَّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم»، فصالحه أهل فدك على مثل ذلك، وكانت خيبر فيئا بين المسلمين، وكانت فدك خاصة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، قَالَ أَبُو عمر: هذا هو الصحيح في أرض خيبر، أنها كانت عنوة كلها مغلوبا عليها، بخلاف فدك، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم جميع أرضها على الغانمين لها الموجفين بالخيل والركاب، وهم أهل الحديبية، ولم يختلف العلماء في أن أرض خيبر مقسومة، وإنما اختلفوا هل تقسم الأرض إذا غنمت البلاد أو توقف؟ فقال الكوفيون: الإمام مخير بين قسمتها كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأرض خيبر، وبين إيقافها كما فعل عمر بسواد العراق، وقال الشَّافِعِيُّ: تقسم الأرض كلها كما قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، لأن الأرض غنيمة كسائر أموال الكفار، وذهب مالك إلى إيقافها اتباعا لعمر، لأن الأرض مخصوصة من سائر الغنيمة بما فعل عمر في جماعة من الصحابة في إيقافها لمن يأتي بعده من المسلمين، وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْلا أَنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لا شَيْءَ لَهُمْ مَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ قَرْيَةً إِلا قَسَمْتُهَا سُهْمَانًا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ سُهْمَانًا، وهذا يدل على أن أرض خيبر قسمت كلها سهمانا كما قَالَ ابن إسحاق، وأما قول من قَالَ: إن خيبر كان بعضها صلحا وبعضها عنوة، فقد وهم وغلط، وإنما دخلت عليه الشبهة بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحقن دمائهم، فلما لم يكن أهل ذينك الحصنين من الرجال والنساء والذرية مغنومين، ظن أن ذلك صلح، ولعمري إنه في الرجال والنساء والذرية لضرب من الصلح، ولكنهم لم يتركوا أرضهم إلا بالحصار والقتال، فكان حكم أرض ذينك الحصنين كحكم سائر أرض خيبر كلها غنيمة مغلوبا عليها عنوة مقسومة بين أهلها، وربما شبه على من قَالَ: إن نصف خيبر صلح، ونصفها عنوة بِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ، نِصْفًا لَهُ، وَنِصْفًا لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ النِّصْفَ لَهُ مَعَ سَائِرِ مَنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ مَعَهُ، لأَنَّهَا قُسِمَتْ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ سَهْمًا، فَوَقَعَ سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْهَا، وَوقع سائر الناس في باقيها، وكلهم ممن شهد الحديبية، ثم شهد خيبر، وليست الحصون التي أسلمها أهلها بعد الحصار والقتال صلحا، ولو كانت صلحا لملكها أهلها، كما يملك أهل الصلح أراضيهم وسائر أموالهم، فالحق في هذا والصواب ما قاله ابن إسحاق دون ما قاله موسى وغيره عن ابن شهاب، والله أعلم، قَالَ أَبُو عمر: قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، وأخرج الخمس مما قسم، ولم يقدر أهلها على عمارتها وعملها، فأقر اليهود فيها على العمل في النخل والأرض، وقال لهم: «أقركم ما أقركم الله»، ثم أذن الله له في مرضه الذي مات فيه بإخراجهم، فقال: «لا يبقين دينان بأرض العرب»، وقال عليه السلام: «أخرجوا اليهود والنصارى من أرض الحجاز» ولم يكن بقي يومئذ بها مشرك وثنى، ولا بأرض اليمن أيضا إلا أسلم في سنة تسع وسنة عشر، فلما بلغ عمرَ بْنَ الخطاب رضي الله عنه في خلافته قوله عليه السلام: «أخرجوا اليهود والنصارى من أرض العرب» أجلاهم عنها، فأخذ المسلمون سهامهم في خيبر فتصرفوا فيها تصرف المالكين، قَالَ ابن إسحاق: وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بْن صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بْن ثابت من بني النجار كانا حاسبين قاسمين، وكانت قسمة خيبر لأهل الحديبية من حضر الوقيعة بخيبر ومن لم يحضرها، لأن الله أعطاهم ذلك في سفر الحديبية، ولذلك قَالَ موسى بْن عقبة: لم يقسم من خيبر شيء إلا لمن شهد الحديبية، وروى ذلك عن جماعة من السلف قَالَ ابن إسحاق: فوقع سهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعمر، وعلي، وطلحة، وعبد الرحمن بْن عوف، وعاصم بْن عدي، وسهام بني سلمة، وسهام بني حارثة، وبني ساعدة، وبني النجار، وغفار، وأسلم، وجهينة، واللفيف، كلها وقعت في الشق، ووقع سهم أبي بكر، والزبير، وسهام بني بياضة، وبني الحارث بْن الخزرج، ومزينة، بالنطاة، وَلِذِكْرِ سهامهم وأقسامهم موضع غير هذا، وكان عبيد بْن أوس من بني حارثة قد اشترى يومئذ من سهام الناس سهاما كثيرة، فسمى يومئذ عبيد السهام، واشترى عمر بْن الخطاب مائة سهم من سهام المسلمين، فهي صدقته الباقية إلى اليوم، وأما فدك فلم يُوجَفْ عليها بخيل ولا ركاب، فكانت كبني النضير خالصة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن العجب قول من قَالَ: إن الكتيبة لم تفتح عنوة، وإنها من صدقات النبي عليه السلام، إلا أن ينزل سهم النبي عليه السلام فيها مع المؤمنين، وإلا فلا وجه لقوله غير هذا، وبالله التوفيق، وفي غزوة خيبر حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحوم الحمر الأهلية، لم تختلف الآثار في ذلك، واختلف في حين تحريم المتعة بعد إباحتها، وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد، وفيها أهدت اليهودية زينب بنت الحارث امرأة سلام بْن مشكم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشاة المصلية، وسمت له منها الذراع، وكان أحبَّ اللحم إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما تناول الذراع ولاكها لفظها ورمى بها، وقال: «إِنَّ هَذَا الْعَظْمَ يُخْبِرُنِي أَنَّهُ مَسْمُومٌ، وَدَعَا بِالْيَهُودِيَّةِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكِ عَلَى هَذَا؟» فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا، وعلمت أن الله إن أراد بقاءك أعلمك، فلم يقتلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكل من الشاة معه بِشْرُ بْن البراء بْن معرور فمات من أكلته تلك، وكان المسلمون يوم خيبر ألفا وأربع مائة راجل ومائتي فارس. .تسمية من استشهد من المسلمين يوم خيبر: ربيعة بْن أكثم بْن سخبرة الأسدي من بني غنم بْن دودان بْن أسد بْن خزيمة، وثقف بْن عمرو، ورفاعة بْن مسروح، وكلهم من بني أسد حلفاء لبني عَبْد شمس، ومسعود بْن ربيعة القاري، من القارة، حليف لبني زهرة، وعبد الله بْن الهبيب، ويقال: ابن أهيب الليثي، حليف لبني أسد بْن عبد العزى بْن قصي وابن أختهم، وبشر بْن البراء بْن معرور من بني سلمة مات من أكله مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشاة المسمومة، وفضيل بْن النعمان من بني سلمة أيضا، ومسعود بْن سعد بْن قيس الأنصاري الزرقي، ومحمود بْن مسلمة بْن خالد أخو مُحَمَّد بْن مسلمة من الأوس، حليف لبني عَبْد الأشهل، وأبو ضياح ثابت بْن ثابت بْن النعمان من بني عمرو بْن عوف من أهل قباء، ومبشر بْن عَبْد المنذر بْن دينار من بني مالك بْن عمرو بْن عوف، والحارث بْن حاطب، وأوس بْن قتادة، وعروة بْن مرة بْن سراقة، وأوس بْن الفاكه، وأنيف بْن حبيب، وثابت بْن واثلة بْن طلحة، والأسود الراعي واسمه أسلم، وكل هؤلاء من بني عمرو بْن عوف، ومن بني غفار عمارة بْن عقبة بْن حارثة، أصابه سهم فقتله، وَمِنْ أَسْلَمَ عَامِرُ بْن الأكوع. |
12-02-2012, 03:41 PM | #51 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
قدوم بقية المهاجرين إلى الحبشة: وقدم جعفر بْن أبي طالب في جماعة من أرض الحبشة بإثر فتح خيبر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والله ما أدري أبقدوم جعفر أنا أُسَرُّ وأفرح؟ أم بفتح خيبر؟»، وقدم مع جعفر امرأته أسماء بنت عميس وابنها عَبْد اللهِ بْن جعفر، وخالد بْن سعد بْن العاصي بْن أمية معه امرأته أمينة بنت خلف وابناها سعيد وأمية، وعمرو بْن سعيد بْن العاصي بْن أمية، وكانت امرأته فاطمة بنت صفوان الكنانية قد ماتت بأرض الحبشة، ومعيقيب بْن أبي فاطمة حليف آل سعيد بْن العاصي، وأبو موسى الأشعري، قيل: إنه حليف عتبة بْن ربيعة، والأسود بْن نوفل بْن خويلد بْن أسد، وجهم بْن قيس بْن عَبْد شرحبيل العبدري، وابناه عمرو بْن جهم وخزيمة بْن جهم، وكانت امرأة جهم بْن قيس أم حرملة بنت عَبْد الأسود قد هلكت بأرض الحبشة، والحارث بْن خالد بْن صخر التيمي، وكانت امرأته ريطة بنت الحارث بْن جبيلة قد هلكت بأرض الحبشة، وعثمان بْن ربيعة بْن أهبان الجمحي، ومحمية بْن جزء الزبيدي حليف لبني سهم بْن هصيص، ولاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخمس، ومعمر بْن عَبْد اللهِ بْن نضلة العدوي، وأبو حاطب بْن عمرو بْن عَبْد شمس العامري، ومالك بْن زمعة بْن قيس العامري، ومعه امرأته عمرة بنت السعدي بْن وقدان، وطائفة معهم، وقد أتى من مهاجرة قبل ذلك بسنتين سائرهم، وكان هؤلاء آخر من بقي بها منهم. .فتح فدك: ولما اتصل بأهل فدك ما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأهل خيبر، بعثوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليؤمنهم، فأجابهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ذلك، وكانت فدك مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، مما أفاء الله عليه بما نصره به من الرعب، فلم يقسمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووضعها حيث أمره الله عز وجل، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفَايَا بَنِي النَّضِيرِ وَخَيْبَرَ وَفَدَكٍ». .فتح وادي القرى: وانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خيبر إلى وادي القرى فافتتحها عنوة، وقسمها، وأصيب بها غلام له أسود يسمى مدعما، أصابه سهم غُرْبٌ فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي عليه السلام: «والذي نفسي بيده إن الشَّمْلَةَ التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، وإنها لتشتعل عليه الآن نارا». .عمرة القضاء: فلما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة من خيبر، أقام بها شهري ربيع، وشهري جمادى، ورجبا، وشعبان، ورمضان، وشوالا، وبعث في خلال ذلك السرايا، ثم خرج عليه السلام في ذي القعدة من السنة السابعة من الهجرة قاصدا إلى مكة للعمرة على ما عاقد عليه قريشا في الحديبية، فلما اتصل ذلك بقريش، خرج أكابرهم عن مكة عداوةً لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يقدروا على الصبر في رؤيته يطوف بالبيت هو وأصحابه، فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، وأتم الله عمرته، وقعد بعض المشركين بِقُعَيْقِعَانَ ينظرون إلى المسلمين وهم يطوفون بالبيت، فأمرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرَّمَلِ، لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ أن بهم قوةً، وكان المشركون قالوا في المهاجرين: قد وهنتهم حمى يثرب، وتزوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوته تلك ميمونة بنت الحارث بْن حزن الهلالية، قيل: تزوجها قبل أن يحرم بعمرة القضاء، وقيل: بل تزوجها وهو محرم، وقد أوضحنا ذلك في كتاب التمهيد، وفي كتاب الصحابة أيضا عند ذكرها رضي الله عنها، فلما تمت الثلاثة أيام، أوجبت عليه قريش أن يخرج عن مكة، ولم يمهلوه أن يبني بها، وبنى بها بسرف إسلام عمرو بْن العاص، وخالد بْن الوليد، وعثمان بْن طلحة، وقيل: أسلم قبل عمرة القضاء، وقيل: بعدها، عمرو بْن العاص، وخالد بْن الوليد، وعثمان بْن طلحة. .غزوة مؤتة: فلما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمرة القضاء أقام بالمدينة ذا الحجة، والمحرم، وصفرا، وشهري ربيع، ثم بعث عليه السلام في جمادى الآخرة من السنة الثامنة من الهجرة بَعْثَ الأمراء إلى الشام، وَأَمَّرَ على الجيش زيد بْن حارثة مولاه، وقال: «إن قتل أو أصيب فعلى الناس جعفر بْن أبي طالب، فإن قتل فعبد الله بْن رواحة»، وشيعهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وودعهم، ثم انصرف، ونهضوا، فلما بلغوا معان من أرض الشام، أتاهم الخبر بأن هرقل ملك الروم في ناحية البلقاء، وهو في مائة ألف من الروم، ومائة ألف أخرى من نصارى العرب أهل البلقاء من لخم، وجذام، وقبائل قضاعة من بهراء، وبلي، وبلقين وعليهم رجل من بني إراشة من بلي، يقال له: مالك بْن رافلة، فأقام المسلمون في معان ليلتين، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونخبره بعدد عدونا فيأمرنا بأمره أو يمدنا، فقال لهم عَبْد اللهِ بْن رواحة: يا قوم، إن التي تطلبون قد أدركتموها، يعني الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانْطَلِقُوا فهي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة، فوافقه الجيش كله على هذا الرأي، ونهضوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقوا الجموع التي ذكرناها كلها مع هرقل إلى جنب قرية يقال لها: مشارف، وصار المسلمون في قرية يقال لها: مؤتة، فجعل المسلمون على ميمنتهم قطبة بْن قتادة العذري، وعلى الميسرة عباية بْن مالك الأنصاري، وقيل: عبادة بْن مالك، واقتتلوا، فقتل الأمير الأول زيد بْن حارثة ملاقيا بصدره الرماح، مقبلا غير مدبر والراية في يده، فأخذها جعفر بْن أبي طالب، ونزل عن فرس له يقال لها: شقراء، وقيل: إنه عرقيها وعقرها، وقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره، فقطعت، فاحتضن الراية، فقتل كذلك رضي الله عنه، وَسِنُّهُ ثلاث وثلاثون أو أربع وثلاثون سنة، فأخذ الرايةَ عَبْدُ اللهِ بْن رواحة، وتردد عن النزول بعض التردد، ثم صمم، فقاتل حتى قتل، فأخذ الراية ثابت بْن أقرم أخو بني العجلان، وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قَالَ: لا، فدفع الراية إلى خالد بْن الوليد، وقال: أنت أعلم بالقتال مني، فأخذها خالد بْن الوليد وانحاز بالمسلمين، وأنذر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بالمدينة، يخبرهم بقتل الأمراء المذكورين في يوم قتلهم قبل ورود الخبر بأيام. .تسمية من استشهد بمؤتة: زيد بْن حارثة، وجعفر بْن أبي طالب، وعبد الله بْن رواحة، ومسعود بْن الأسود بْن حارثة من بني عدي بْن كعب من الأنصار، ووهب بْن سعد بْن أبي سرح العامري، وعباد بْن قيس من بني الحارث بْن الخزرج بْن النعمان من بني مالك بْن النجار، وسراقة بْن عمرو بْن عطية من بني مازن بْن النجار، وأبو كليب، وقيل: أَبُو كلاب، وأخوه جابر ابنا عمرو بْن زيد من بني مازن من النجار، وعمرو وعامر ابنا سعد بْن الحارث من بني النجار، هؤلاء من ذكر منهم، وكان عدة المسلمين يوم مؤتة ثلاثة آلاف. |
12-02-2012, 03:42 PM | #52 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
غزوة فتح مكة: فأقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بعد بعث مؤتة جمادى، ورجبا، ثم حدث الأمر الذي أوجب نقض عقد قريش المعقود يوم الحديبية، وذلك أن خزاعة كانت في عقد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنها وكافرها، وكانت بنو بكر بْن عَبْد مناة بْن كنانة في عقد قريش، فعدت بنو بكر بْن عَبْد مناة على قوم من خزاعة على ماء لهم بأسفل مكة، وكان سبب ذلك أن رجلا يقال له: مالك بْن عباد الحضرمي، حليفا لآل الأسود بْن رزن، خرج تاجرا، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه، فقتلوه، وأخذوا ماله، وذلك قبل الإسلام بمدة، فعدت بنو بكر بْن عَبْد مناة رهط الأسود بْن رزن على رجل من خزاعة، فقتلوه بمالك بْن عباد، فعدت خزاعة على سلمى، وكلثوم، وذؤيب بني الأسود بْن رزن فقتلوهم، وهؤلاء الإخوة أشراف بني كنانة، كانوا يودون في الجاهلية ديتين ديتين، ويودي سائرهم دية دية، وذلك كله قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام حجز ما بَيْنَ مَنْ ذكرنا لشغل الناس به، فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية، أمن الناس بعضهم بعضا، فاغتنم بنو الديل من بني بكر بْن عَبْد مناة تلك الفرصة وغفلة خزاعة، وأردوا إدراك ثأر بني الأسود بْن رزن، فخرج نوفل بْن معاوية الديلي بمن أطاعه من بني بكر بْن عَبْد مناة حتى بيت خزاعة ونال منهم، فاقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم مستخفين، فانهزمت خزاعة إلى الحرم، فقال قوم نوفل بْن معاوية لنوفل: يا نوفل، اتق إلهك ولا تستحل الحرم، ودع خزاعة، فقال: لا إله لي اليوم، والله يا بني كنانة إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تدركون فيه ثأركم؟ فقتلوا رجلا من خزاعة يقال له: منبه، ودخلت خزاعة دور مكة في دار بديل بْن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم يسمى رافعا، وكان ذلك نقضا للصلح الواقع يوم الحديبية، فخرج عمرو بْن سالم الخزاعي، وبديل بْن ورقاء الخزاعي، وقوم من خزاعة، فقدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستغيثين به مما أصابهم به بنو بكر بْن عَبْد مناة وقريش، وأنشده عمرو بْن سالم الشعر الذي ذكرته في بابه من كتاب الصحابة، فأجابهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى نصرهم، وقال: «لا ينصرني الله إن لم أنصر بني كعب»، ثم نظر إلى سحابة، فقال: إنها لتستهل بنصرتي كعبا، يعني خزاعة، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبديل بْن ورقاء ومن معه: إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في مدة الصلح وسينصرف بغير حاجة، وندمت قريش على ما فعلت، فخرج أَبُو سفيان إلى المدينة ليشد العقد ويزيد في المدة، فلقي بديل بْن ورقاء بعسفان، فكتمه بديل مَسِيرَهُ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبره أنه إنما سار بخزاعة على الساحل، فنهض أَبُو سفيان حتى أتى المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها، فذهب ليقعد على فراش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطوته عنه، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس عليه، فقال لها: يا بنية، لقد أصابك بعدي شر، ثم أتى النبيَّ عليه السلام في المسجد فكلمه، فلم يجبه بكلمة، ثم ذهب أَبُو سفيان إلى أبي بكر فكلمه في أن يكلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أتى له، فأبى عليه أَبُو بكر من ذلك، فلقي عمر فكلمه في ذلك، فقال له عمر: أنا أفعل هذا؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، فدخل على علي بْن أبي طالب رضي الله عنه فوجده وفاطمةَ بنتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والحسن وهو صبي فكلمه فيما أتى له، فقال له علي: والله ما أستطيع أن أكلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر قد عزم عليه، فالتفت أَبُو سفيان إلى فاطمة، فقال: يا بنت مُحَمَّد، هل لك أن تأمري بُنَيَّكِ هذا فيجير على الناس؟ فقالت له: ما بلغ بنيي ذلك، وما يجير أحد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له علي: يا أبا سفيان، أنت سيد بني كنانة، فقم فأجر على الناس، والحق بأرضك، وهزئ به، فقال له: يا أبا الحسن، أترى ذلك نافعي ومغنيا عني شيئا؟ قَالَ: ما أظن ذلك، ولكن لا أجد لك سواه، فقام أَبُو سفيان في المسجد، فقال: يا أيها الناس، إني قد أجرت على الناس، ثم ركب وانطلق راجعا إلى مكة، فلما قدمها أخبر قريشا بما لقي وبما فعل، فقالوا له: ما جئت بشيء، وما زاد علي بْن أبي طالب على أن لعب بك، ثم أعلن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسير إلى مكة، وأمر الناس بالجهاز لذلك، ودعا الله تعالى في أن يأخذ عن قريش الأخبار ويستر عنهم خروجه، فكتب حاطب بْن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم بقصد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم، فنزل جبريل من عند الله تعالى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما صنع حاطب بْن أبي بلتعة، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بْن أبي طالب، والزبير بْن العوام، والمقداد بْن عمرو، فقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش، فانطلقوا، فلما أتوا روضة خاخ وجدوا المرأة، فأناخوا بها، وفتشوا رحلها كله فلم يجدوا شيئا، فقالوا: والله ما كذب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لها علي: والله لَتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لنلقين الثياب، فحلت قرون رأسها فأخرجت الكتاب منها، فأتوا به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا هو كتاب من حاطب بْن أبي بلتعة إلى أهل مكة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما هذا يا حاطب؟» فقال حاطب: والله يا رسول الله ما شككت في الإسلام، ولا رجعت عن ديني، ولكني كنت ملصقا في قريش، فأردت أن أتخذ عندهم بذلك يدا يحفظونني بها في شأفتي بمكة، لأن أهلي وولدي بها، فقال عمر بْن الخطاب: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم»، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عشرة آلاف، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بْن حصين الغفاري، وكان خروجه لعشر خلت من رمضان، فصام عليه السلام حتى بلغ الكديد بين عسفان وأمج، ثم أفطر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد صلاة العصر، وشرب على راحلته علانية ليراه الناس، وقال: «تَقَوَّوْا لعدوكم»، وأمر الناس بالفطر، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فلم يعب على الصائم ولا على المفطر، فلما نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر الظهران ومعه من بني سليم ألف رجل، ومن بني مزينة ألف رجل وثلاثة رجال، وقيل: من بني سليم سبع مائة، ومن بني غفار أربع مائة، ومن أسلم أربع مائة، وطوائف من قيس، وأسد، وتميم، وغيرهم من سائر العرب، وقد أخفى الله عز وجل خبره عن قريش، إلا أنهم عَلَى وَجَلٍ وارتقاب، خرج أَبُو سفيان، وبديل بْن ورقاء، وحكيم بْن حزام يتجسسون الأخبار، وقد كان العباس بْن عَبْد المطلب هاجر مسلما في تلك الأيام، فلقي رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذي الحليفة، فبعث ثقله إلى المدينة وانصرف مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غازيا، فالعباس من المهاجرين قبل الفتح، وقيل: بل لقيه بالجحفة مهاجرا، وذكر أيضا أن أبا سفيان بْن الحارث بْن عَبْد المطلب، وعبد الله بْن أبي أمية بْن المغيرة أخا أم سلمة خرجا أيضا مهاجرين، ولقيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض الطريق قرب مكة، فأعرض عنهما، فلما نزل استأذنا عليه فلم يأذن لهما، فكلمته أم سلمة فيهما، وقالت: لا يكون ابن عمك وأخي أشقى الناس بك، فقد جاءا مسلمين، فأذن لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلما وحسن إسلامهما، فلما نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجيوش مر الظهران، رَقَتْ نفس العباس لقريش، وَأَسِفَ على ذهابها، وخاف أن تغشاهم الجيوش قبل أن يستأمنوا، فركب بغلة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهض، فلما أتى الأراك وهو يطمع أن يلقى حطابا أو صاحب لبن يأتي مكة فينذرهم، فبينما هو يمشي إذ سمع صوت أبي سفيان صخر بْن حرب، وبديل بْن ورقاء وهما يتساءلان وقد رأيا نيران عسكر النبي عليه السلام، وبديل يريد أن يستر ذلك، فيقول: إنما هي نيران خزاعة، ويقول له أَبُو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون لها هذه النيران، فلما سمع العباس كلامه ناداه: يا أبا حنظلة، فميز أَبُو سفيان كلامه فناداه: يا أبا الفضل، فقال: نعم، فقال له: فداك أبي وأمي، فقال له العباس: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس وأصباح قريش، فقال أَبُو سفيان: فما الحيلة؟ فقال له العباس: هذه والله لئن ظفر بك ليقتلنك، فَارْتَدِفْ خلفي وانهض معي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأردفه العباس ولقي به العسكر، فلما رأى الناس العباس على بغلة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمسكوا، ومر على نار عمر، ونظر عمر إلى أبي سفيان فميزه، فقال: أَبُو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسابقه العباس فسبقه العباس على البغلة، وكان عمر بطيئا في الجري، فدخل العباس، ودخل عمر على أثره، فقال: يا رسول الله، هذا عدو الله أَبُو سفيان، قد أمكن الله منه بلا عقد ولا عهد، فأذن لي أضرب عنقه، فقال له العباس: مهلا يا عمر، فوالله لو كان من بني عدي بْن كعب ما قلت هذا، ولكنه من بني عَبْد مناف، فقال عمر: مهلا، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إسلام الخطاب لو أسلم، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العباس أن يحمله إلى رحله ويأتيه به صباحا، ففعل العباس ذلك، فلما أصبح أتى به النبي عليه السلام، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألم يأن لك بأن تعلم أن لا إله إلا الله؟»، فقال أَبُو سفيان: بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وما أكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لقد أغناني، قَالَ: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟»، قَالَ: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه فإن في النفس منها شيئا حتى الآن، فقال له العباس: أسلم قبل أن تضرب عنقك، فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان يحب الفخر، فاجعل له شيئا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمه: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، فكان هذا منه أمانا لكل من لم يقاتل من أهل مكة، ولهذا قَالَ جماعة من أهل العلم منهم الشافعي رحمه الله: إن مكة مُؤَمَّنَةٌ وليست عنوة، والأمان كالصلح، وروى أن أهلها مالكون رباعهم، ولذلك كان يجيز كراها لأربابها، وبيعها وشراءها، لأن من أمن فقد حرم ماله، ودمه، وذريته، وعياله، فمكة مؤمنة عند من قَالَ بهذا القول إلا الذين استثناهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر بقتلهم، وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، وأكثر أهل العلم يرون فتح مكة عنوة، لأنها أخذت غلبة بالخيل والركاب، إلا أنها مخصوصة بأن لم يجر فيها قسم غنيمة، ولا سُبِيَ من أهلها أحد، وخصت بذلك لما عظم الله من حرمتها، ألا ترى إلى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مكة حرام محرمة، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة»، والأصح والله أعلم أنها بلدة مؤمنة، أمن أهلها على أنفسهم، وأمنت أموالهم تبعا لهم، ولا خلاف في أنه لم يكن فيها غنيمة، ثم أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العباس أن يوقف أبا سفيان بخطم الوادي ليرى جيوش الله تعالى، ففعل ذلك العباس، وعرض عليه قبيلة، يقول: هؤلاء سليم، هؤلاء غفار، هؤلاء تميم، هؤلاء مزينة، إلى أن جاء موكب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار خاصة كلهم في الدروع والبيض، فقال أَبُو سفيان: من هؤلاء؟ فقال: هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار، فقال أَبُو سفيان: والله ما لأحد بهؤلاء قبل، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، فقال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قَالَ: فنعم إذن، ثم قَالَ له العباس: يا أبا سفيان، النجاء إلى قومك، فأسرع أَبُو سفيان، فلما أتى مكة عرفهم بما أحاط بهم، وأخبرهم بتأمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل من دخل داره، أو المسجد، أو دار أبي سفيان، وَتَأَبَّشَ قوم ليقاتلوا، فبلغ ذلك رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرتب الجيوش، وجعل الراية بيد سعد بْن عبادة، وكان من قول سعد بْن عبادة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، فقال العباس: يا رسول الله، هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم، إن سعد بْن عبادة قَالَ كذا وكذا، وإنه حنق على قريش، ولا بد أن يستأصلهم، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تنزع الراية من سعد بْن عبادة وتدفع إلى علي، وقيل: بل إلى الزبير، وقيل: بل دفعها إلى ابنه قيس بْن سعد لئلا يجد سعد في نفسه شيئا، وكان الزبير على الميمنة، وخالد بْن الوليد على الميسرة، وقد قيل: إن الزبير كان على الميسرة، وخالد بْن الوليد على الميمنة، وفيها أَسْلَمُ، وغفار، ومزينة، وجهينة، وكان أَبُو عبيدة بْن الجراح على مقدمة موكب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجيوش من ذي طوى، وأمر الزبير بالدخول من كداء في أعلى مكة، وأمر خالد بْن الوليد ليدخل من الليط أسفل مكة، وأمرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتال من قاتلهم، ولهذا كله يقول أكثر العلماء: إنها افتتحت عنوة، وإنها مخصوصة دون سائر البلدان بما خصت به دون غيرها، وكان عكرمة بْن أبي جهل، وصفوان بْن أمية، وسهيل بْن عمر قد جمعوا جمعا بالخندمة ليقاتلوا، فناوشهم أصحاب خالد القتال، فأصيب من المسلمين رجلان، وهما كرز بْن جابر من بني محارب بْن فهر بْن مالك، وخنيس بْن خالد بْن ربيعة بْن أصرم الخزاعي حليف بني منقذ، خرجا عن جيش خالد فقتلا رحمة الله عليهما، وقتل أيضا من المسلمين سلمة بْن الميلاء الجهني، وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلا، ثم انهزموا، وهذه سبيل العنوة في غير مكة، وكان شعار المهاجرين يوم الفتح، وحنين، والطائف: يا بني عَبْد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عَبْد اللهِ، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله، وكان الذين استثناهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أمن الناس: عبد العزى بْن خطل وهو من بني الأدرم بْن غالب، وعبد الله بْن سعد بْن أبي سرح، وعكرمة بْن أبي جهل، والحويرث بْن نقيذ بْن وهب بْن عَبْد بْن قصي، ومقيس بْن صبابة، وَقَيْنَتَيِ ابْن خطل: فرتنى وصاحبتها، كانتا تغنيان ابْن خطل بهجو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسارة مولاة لبعض ابْن عَبْد المطلب، أما ابن خطل فإنه كان أسلم، وبعثه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصدقا، وبعث معه رجلا من المسلمين فعدا عليه فقتله، وارتد، ولحق بالمشركين بمكة، فوجد يوم الفتح متعلقا بأستار الكعبة، فقتله سعيد بْن حريث المخزومي، وأبو برزة الأسلمي، وأما عَبْد اللهِ بْن سعد بْن أبي سرح فكان يكتب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم لحق بمكة مرتدا، فلما كان يوم الفتح اختفى، ثم أتى به عثمان بْن عفان النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أخاه من الرضاعة، فاستأمن له رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسكت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعة ثم أمنه وبايعه، فلما خرج قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: «هلا قام بعضكم فضرب عنقه؟»، فقال رجل من الأنصار: هلا أَوْمَأْتَ إِلَيَّ؟ فقال عليه السلام: «ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين»، ثم عاش عَبْد اللهِ بْن سعد حتى استعمله عمر، ثم ولاه عثمان مصر، وهو الذي غزا إفريقية وافتتحها أول مرة، وحسن إسلامه، ولم يظهر منه بعد في دينه شيء يكره، وأما عكرمة بْن أبي جهل ففر إلى اليمن، فاتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بْن هشام فردته، فأسلم وحسن إسلامه، وكان من فضلاء الصحابة، وأما الحويرث بْن نقيذ فكان يؤذي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، فقتله علي بْن أبي طالب يوم الفتح، وأما مقيس بْن صبابة فكان قد أتى النبي عليه السلام قبل ذلك مسلما، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله بعد أن أخذ الدية منه في قتيل له، ثم لحق بمكة مرتدا، فقتله يوم الفتح نميلة بْن عَبْد اللهِ الليثي، وهو ابن عمه، وفي سننه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «لا أعفى أحدا قَتَلَ بعد أخذ الدية»، هذا من المسلمين، وأما مقيس بْن صبابة فارتد، وقتل بعد أخذ الدية، وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، واستؤمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأخرى فأمنها، فعاشت مدة ثم ماتت في حياة النبي عليه السلام، وأما سارة فاستؤمن لها أيضا وأمنها عليه السلام، وعاشت إلى أن أَوْطَأَهَا رَجُلٌ فَرَسًا بالأبطح في زمان عمر فماتت، واستتر رجلان من بني مخزوم عند أم هانئ بنت أبي طالب فأجارتهما وأمنتهما، فأمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمانها، وقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، وأمنا من أمنت»، وكان علي أراد قتلهما، قيل: إنهما الحارث بْن هشام، وزهير بْن أبي أمية أخو أم سلمة، وأسلما وكانا من خيار المسلمين، وقيل: إن أحدهما جعدة بْن هبيرة، والأول أصح، وطاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالكعبة، ودعا عثمان بْن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة بعد أن مانعته أمه ذلك ثم أسلمته، فدخل النبي الكعبة ومعه أسامة بْن زيد، وبلال بْن رباح، وعثمان بْن طلحة، ولا أحد معه غيرهم، فأغلق الباب عليه وصلى داخلها ركعتين، ثم خرج وخرجوا، ورد المفتاح إلى عثمان بْن طلحة، وأبقى له حجابة البيت، وقال: «خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة»، فهي إلى الآن في ولد شيبة بْن عثمان بْن طلحة، وأمر عليه السلام بكسر الصور التي داخل الكعبة وحولها، وكسر الأصنام التي حول الكعبة وبمكة كلها، وكانت الأصنام التي في الكعبة مشدودة بالرصاص، وكان يشير إليها بقضيب في يده، فكلما أشار إلى واحد منها خر لوجهه، وكان يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، وأذن له بلال على ظهر الكعبة، وخطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثاني يوم الفتح خطبة مشهورة عند أهل الأثر والعلم بالخبر، فوضع مآثر الجاهلية حاشا سدانة البيت وسقاية الحاج، وأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن مكة لم يحل فيها القتال لأحد قبله، ولا يحل لأحد بعده، وإنما حل له القتال فيها ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها بالأمس، لا يسفك فيها دم، وَمِنْ أحسن ما رُوِيَ من خطبته مختصرا ما رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ وَغَيْرُه، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَمَرَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فَوَقَفَ تَحْتَ صَدْرِ رَاحِلَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَجُلا صَيِّتًا، فَقَالَ: «يَا رَبِيعَةُ قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ نَبِيَّ اللهِ يَقُولُ لَكُمْ: أَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ وَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ وَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ فَنَادَى بِذَلِكَ، فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، هَذَا الْبَلَدُ الْحَرَامُ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ كَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَكَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، ثم قَالَ: اللهُمَّ اشْهَدْ، أَيُّهَا النَّاسُ، {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ} أَلا وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، الثَّلاثَةُ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبٌ مُنْفَرِدٌ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ فَيَقُولُ النَّاسُ: نَعَمْ، قَالَ: اللهُمَّ اشْهَدْ» وتوقعت الأنصار أن يبقى النبي عليه السلام بمكة، فأخبرهم أن المحيا محياهم، وأن الممات مماتهم، ومر عليه السلام بفضالة بْن عمير بْن الملوح الليثي وهو عازم على الفتك برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: ما تحدث به نفسك؟ قَالَ: لا شيء، كنت أذكر الله عز وجل، فضحك النبي عليه السلام، وقال: أستغفر الله لك، ووضع يده عليه السلام على صدر فضالة، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما أجد على ظهر الأرض أحب إلي منه، وهرب صفوان بْن أمية إلى اليمن، فاتبعه عمير بْن وهب الجمحي بتأمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه، فرجع، فأكرمه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال له: انزل يا أبا وهب، فقال: إن هذا يخبرني عنك أنك تمهلني شهرين، قَالَ: بل لك أربعة أشهر، وهرب ابن الزبعري الشاعر إلى نجران، ثم رجع فأسلم، وهرب هبيرة بْن أبي وهب المخزومي زوج أم هاني بنت أبي طالب إلى اليمن فمات هناك كافرا، ثم بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السرايا حول مكة يدعو إلى الإسلام، ولم يأمرهم بقتال، وكان أحد أمراء تلك السرايا خالد بْن الوليد خرج إلى بني جذيمة بْن عامر بْن عَبْد مناة بْن كنانة، فقتل منهم وسبا، وقد كانوا أسلموا، ولم يقبل خالد قولهم وإقرارهم بالإسلام، فوادهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَ علي بْن أبي طالب رضي الله عنه بمال إليهم، فودى لهم جميع قتلاهم، ورد إليهم ما أخذ منهم، وقال لهم علي: انظروا إن فقدتم عقالا لأدينه، فبهذا أمرني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورفع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه، فقال: اللهم إني أبرأ إليك من صنع خالد، ثم بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بْن الوليد إلى العزى، وكان بيتا بنخلة تعظمه قريش وكنانة وجميع مضر، وكان سدنته بنو شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم، فهدمه، وكان فتح مكة لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة. |
12-02-2012, 03:43 PM | #53 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
.حنين والطائف: .غزوة حنين: فلما بلغ هوازنَ فَتْحُ مكة جَمَعَهُمْ مالك بْن عوف النصري من بني نصر بْن معاوية، فاجتمع إليه قومه بنو نصر، وبنو جشم، وبنو سعد بْن بكر، وثقيف، وطائفة من بني هلال بْن عامر، ولم يشهدها من قيس غير هؤلاء، وغابت عن ذلك عقيل وقشير ابنا كعب بْن ربيعة بْن عامر، وبنو كلاب بْن ربيعة بْن عامر، وسائر إخوتهم، فلم يحضرهم من كعب وقشير وكلاب أحد يذكر، وحملت بنو جشم مع أنفسهم شيخهم وكبيرهم دريد بْن الصمة، وهو يومئذ شيخ كبير لا ينتفع به في غير رأيه، حملوه في هودج لضعف جسمه، وكان في ثقيف سيدان لهم في الأحلاف، أحدهما قارب بْن الأسود بْن مسعود بْن معتب، والآخر ذو الخمار سبيع بْن الحارث بْن مالك، وكانت الرياسة في جميع العسكر إلى مالك بْن عوف النصري، فَحَشَدَ مَنْ ذَكَرْنَا وساق مع الكفار أموالهم، وماشيتهم، ونساءهم، وأولادهم، وزعم أن ذلك لتحمى به نفوسهم، وتشد في القتال عن ذلك شوكتهم، ونزلوا بأوطاس، فقال لهم دريد بْن الصمة: ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك مع الناس أموالهم وعيالهم، قَالَ: أين مالك؟ قيل هذا مالك، فسأله: لم فعلت ذلك؟ فقال مالك: ليقاتلوا عن أهليهم وأموالهم، فقال دريد: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ثم قَالَ: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قَالَ دريد: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كلاب وكعب، فمن شهدها من بني عامر؟ قالوا: عمرو بْن عامر، وعوف بْن عامر، قَالَ: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران، يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم الْقَ الصُّبَاةَ على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك، فأبى ذلك مالك، وخالفت هوازن دريدا واتبعوه، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يغب عني، يا ليتني فيها جَذَعْ أَخُبُّ فيها وَأَضَعْ، وبعث إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد اللهِ بْن أبي حدرد الأسلمي عشاء، فأتى بعد أن عرف مذاهبهم، وأخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما شاهده منهم، فعزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قصدهم، واستعار من صفوان بْن أمية بْن خلف الجمحي دروعا، قيل: مائة درع، وقيل: أربع مائة، وخرج النبي عليه السلام في اثنى عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح، إلى ما انضاف إليه من الأعراب من سليم، وبني كلاب، وعبس، وذبيان، واستعمل على مكة عتاب بْن أسيد بْن أبي العيص بْن أمية، ونهض صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقدمته مزينة، وفي الميمنة بنو أسد، وفي الميسرة بنو سليم وعبس وذبيان، وفي مخرجه هذا رأى جهال الأعراب شجرة خضراء، وكان لهم في الجاهلية شجرة معروفة تسمى ذات أنواط، يخرج إليها الكفار يوما معلوما في السنة يعظمونها، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال عليه السلام: «الله أكبر، والذي نفسي بيده كما قَالَ قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} قَالَ: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى إنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» ثم نهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أتى وادي حنين، وهو واد من أودية تهامة، وكانت هوازن قد كمنت في جنبي الوادي، وذلك في غبش الصبح، فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يلو أحد على أحد، وثبت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بكر، وعمر، ومن أهل بيته علي، والعباس، وأبو سفيان بْن الحارث بْن عَبْد المطلب، وابنه جعفر، وأسامة بْن زيد، وأيمن بْن عبيد، وهو أيمن بْن أم أيمن، قتل يومئذ بحنين، والفضل بْن العباس، وقيل في موضع جعفر بْن أبي سفيان قثم بْن العباس، ولم ينهزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلته الشهباء واسمها دُلْدُل، والعباس آخذ بحكمتها، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: «أيها الناس، إلى أين أيها الناس؟ أنا رسول الله، وأنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ»، وأمر العباس وكان جهير الصوت أن ينادي: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة، وبعضهم يرويه: يا أصحاب السَّمُرَةِ، وقد قيل: إنه نادى يومئذ: «يا معشر المهاجرين، كما نادى: يا معشر الأنصار»، فلما سمعوا الصوت أجابوا: لبيك، لبيك، وكانت الدعوة أولا: يا للأنصار، ثم خصصت بِأَخَرَةٍ: يا للخزرج، قَالَ ابن شهاب: وكانوا أصبر عند الحروب، فلما ذهبوا ليرجعوا، كان الرجل منهم لا يستطيع أن ينفذ ببعيره لكثرة الأعراب المنهزمين، فكان يأخذ درعه فيلبسها، ويأخذ سيفه ومجنه ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله ويكر راجعا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا اجتمع حواليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن بالضرب، واشتدت الحرب، وكثر الطعن والجلاد، فقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ركائبه، فنظر إلى مجتلد القوم، فقال: «الآن حمي الوطيس» وضرب عليُّ بْن أبي طالب عرقوب جمل صاحب الراية أو فرسه فصرعه، ولحق به رجل من الأنصار فاشتركا في قتله، وأخذ علي الراية، وقذف الله عز وجل في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة، ورمى في وجوههم بالحصا، فلم يملكوا أنفسهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} وروينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنينا، قَالَ وقد سئل عن يوم حنين: لقينا المسلمين، فما لبثنا أن هزمناهم وأتبعناهم حتى وصلنا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهزنا، وأخذ بكفه حصا أو ترابا فرمانا به، وقال: شاهت الوجوه، شاهت الوجوه، فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، فما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا، وما استوفى رجوع المسلمين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وأسرى هوازن بين يديه، وثبتت أم سليم في جملة من ثبت أول الأمر محتزمة ممسكة بعيرا لأبي طلحة، وفي يدها خنجر، وانهزمت هوازن، وملك العيال والأموال، واستحر القتل في بني مالك من ثقيف، فقتل منهم خاصة يومئذ سبعون رجلا، منهم رئيساهم ذو الخمار وأخوه عثمان ابنا عَبْد اللهِ بْن ربيعة، ولم يقتل من الأحلاف إلا رجلان، لأن قارب بْن الأسود وكان سيدهم يومئذ فر بهم حين اشتد أول القتال واستحر القتل في بني نصر بْن معاوية، وهرب مالك بْن عوف النصري في جماعة من قومه ودخل الطائف مع ثقيف، وانحازت طوائف من هوازن إلى أوطاس، وأدرك ربيعةُ بْنُ رفيع بْن أهبان السلمي من بني سليم دُرَيْدَ بْن الصمة فقتله، وقد قيل: إن قاتل دريد هو عَبْد اللهِ بْن قنيع بْن أهبان من بني سليم، وقد قيل: إن دريدا أسر يومئذ، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله لمشاهدته الحرب وموضع رأيه فيها، ولما انقضى الصدام نادى منادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قتل قتيلا عليه بينة فله سلبه، وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا عامر الأشعري، واسمه عبيد، وهو عم أبي موسى الأشعري، في طائفة من المسلمين منهم أَبُو موسى إلى من اجتمع من هوازن بأوطاس، فشد على أبي عامر أحد بني دريد بْن الصمة فقتله، قيل: رماه سلمة بْن دريد بْن الصمة بسهم فقتله، وأخذ أَبُو موسى الراية وشد على قاتل عمه فقتله، وقيل: بل رمى أبا عامر رجلان من بني جشم، وهما العلاء وأوفى ابنا الحارث، أصاب أحدهما قلبه والآخر ركبته، ثم قتلهما أَبُو موسى، وقيل: بل قتل أَبُو عامر تسعة إخوة من المشركين مبارزة، يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام ثم يحمل عليه فيقتله، ثم حمل عليه عاشرهم فقتله، ثم أسلم ذلك العاشر بعد ذلك. |
12-02-2012, 03:44 PM | #54 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
تسمية من استشهد من المسلمين يوم حنين: واستشهد من المسلمين يوم حنين أربعة رجال: أيمن بْن عبيد وهو أيمن بْن أم أيمن أخو أسامة بْن زيد لأمه، ويزيد بْن زمعة بْن الأسود بْن المطلب بْن أسد، جَمَحَ به فرسه فقتل، وسراقة بْن الحارث بْن عدي من بني العجلان من الأنصار، وأبو عامر الأشعري، وكانت وقعة هوازن وهي يوم حنين في أول شوال من السنة الثامنة من الهجرة، وترك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم الغنائم من الأموال والنساء والذراري فلم يقسمها حتى أتى الطائف. .غزوة الطائف: وكان منصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حنين إلى الطائف، لم يرجع إلى مكة، ولا عَرَّجَ على شيء إلا غزو الطائف قبل أن يقسم غنائم حنين وقبل كل شيء، فسلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الجعرانة في طريقه إلى الطائف، ثم أخذ على قرن، وابتنى في طريقه ذلك مسجدا وصلى فيه، وأقاد في ذلك المكان بدم، وهو أول دم أقيد به في الإسلام من رجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل فقتله به، ووجد في طريقه ذلك حصنا لمالك بْن عوف النضري فهدمه، ووجد هنالك أطما قد تَمَنَّعَ فيه رجل من ثقيف في ماله فأمر بهدمه، ولم يشهد غزوة حنين ولا الطائف عروة بْن مسعود، ولا غيلان بْن سلمة الثقفيان، كانا قد خرجا يتعلمان صناعة المنجنيق والدبابات، ثم نزل عليه السلام بقرب الطائف بواد يقال له العقيق، فتحصنت ثقيف وحاربهم المسلمون، وحصن ثقيف لا حصن مثله في حصون العرب، فأصيب من المسلمين رجال بالنبل، فزال النبي عليه السلام من ذلك المنزل إلى موضع المسجد المعروف اليوم، فحاصرهم عليه السلام بضعا وعشرين ليلة بل بضع عشرة ليلة، وقيل عشرين يوما، وكان معه عليه السلام امرأتان من نسائه، أم سلمة إحداهما، فموضع المسجد اليوم بين منزلهما يومئذ، وتولى بنيان ذلك المسجد عمرو بْن أمية بْن وهب بْن معتب الثقفي، وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقطع أعناب الطائف إلا قطعة عنب كانت للأسود بْن مسعود أو لابنه في ماله، وكانت تبعد عن الطائف، وسأله الكف عنها، فكف عنها، وكان يجير بْن زهير بْن أبي سلمى المزني الشاعر ابْن الشاعر، شهد حنينا والطائف، وكان حسن الإسلام. .تسمية من استشهد من المسلمين في حصار الطائف: واستشهد من المسلمين في حصار الطائف سعيد بْن سعيد بْن العاصي بْن أمية، وعرفطة بْن جناب الأزدي حليف لبني أمية، وعبد الله بْن أبي بكر الصديق، أصابه سهم فاستمر منه مريضا حتى مات منه في خلافة أبيه، وعبد الله بْن أبي أمية بْن المغيرة المخزومي أخو أم سلمة، وعبد الله الأكبر بْن عامر بْن ربيعة حليف بني عدي بْن كعب، والسائب بْن الحارث بْن قيس السهمي، وأخوه عَبْد اللهِ بْن الحارث بْن قيس السهمي، وجليحة بْن عَبْد اللهِ الليثي من بني سعد بْن ليث، وثابت بْن الجذع الأنصاري من بني سلمة، والحارث بْن سهل بْن أبي صعصعة الأنصاري من بني مازن بْن النجار، والمنذر بْن عَبْد اللهِ الأنصاري من بني ساعدة، ومن الأوس رقيم بْن ثابت بْن ثعلبة. .باب في قسمة غنائم حنين وما جرى فيها: ثم انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الجعرانة موضع قريب من حنين، وكان قد اسْتَأْنَى بقسمة الغنائم رجاء أن يسلموا ويرجعوا إليه، فلما قسمت الغنائم هنالك، أتاه وفد هوازن مسلمين راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، فقال لهم: قد كنت استأنيت بكم، وقد وقعت المقاسم وعندي ما ترون، فاختاروا إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم فاختاروا العيال والذرية، وقالوا: لا نعدل بالأنساب شيئا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا صليت الظهر فتكلموا واطلبوا حتى أكلم الناس في أمركم» فلما صلى الظهر تكلموا وقالوا: نستشفع برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المسلمين، فقال النبي عليه السلام: «أما ما كان لي ولبني عَبْد المطلب وبني هاشم فهو لكم» وقال المهاجرون والأنصار: أما ما كان لنا فهو لرسول الله عليه السلام، وامتنع الأقرع بْن حابس وعيينة بْن حصن في قومهما أن يردوا عليهم شيئا مما وقع لهم في سهامهم، وامتنع العباس بْن مرداس السلمي، وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الأقرع بْن حابس وعيينة قومهما، فأبت بنو سليم، وقالوا: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله عليه السلام: «من ضن منكم بما في يديه فإنا نعوضه منه» فرد عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءهم وأبناءهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضا رضوا بها، وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف إنسان فيهم الشيماء أخت النبي عليه السلام من الرضاعة، وهي بنت الحارث بْن عبد العزى من بني سعد بْن بكر بْن هوازن بنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعطاها ورجعت إلى بلادها مسرورة بدينها وبما أفاء الله عليها، وقسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأموال بين المسلمين، وأعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس أو من جملة الغنيمة على مذهب من رأى أن ذلك إلى اجتهاد الإمام، وأن له أن ينفل في البدأة والرجعة حسب ما رآه بظاهر قوله الله تعالى: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} يحكم فيها بما أراه الله، وليس ذلك لغيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بظاهر قوله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} وللقول في تلخيص ذلك مواضعُ غير هذا. |
12-02-2012, 03:46 PM | #55 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
.أُعْطِيَاتُ المؤلفة قلوبهم: ولم يختلف أهل السير وغيرهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى المؤلفة قلوبهم من قريش وغيرهم، ولا ذِكْرَ للمؤلفة قلوبهم في غير آية قسم الصدقات، قالوا: أعطى قريشا مائة بعير مائة بعير، وكذلك أعطى عيينة بْن حصن والأقرع بْن حابس، قَالَ ابن إسحاق: أعطاهم يتألفهم ويتألف بهم قومهم وكانوا أشرافا، فأعطى أبا سفيان بْن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير، وأعطى حكيم بْن حزام مائة بعير، وأعطى الحارث بْن هشام مائة بعير، وأعطى سهيل بْن عمرو مائة بعير، وأعطى حويطب بْن عبد العزى مائة بعير، وأعطى صفوان بْن أمية مائة بعير، وكذلك أعطى مالك بْن عوف والعلاء بْن جارية الثقفي حليف بني زهرة، قَالَ: فهؤلاء أصحاب المئين، وأعطى رجالا من قريش دون المائة، منهم مخرمة بْن نوفل الزهري، وعمير بْن وهب الجمحي، وهشام بْن عمرو العامري، لا أعرف ما أعطاهم، وأعطى سعيد بْن يربوع خمسين بعيرا، وأعطى عباس بْن مرداس السلمي أباعر قليلة فتسخطها، وقال في ذلك: وكانت نهابا تلافيتها بكرى على المهر في الأجرع وإيقاظي القوم أن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع فأصبح نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع وقد كنت في الحرب ذا تدرأ فلم أعط شيئا ولم أمنع إلا أفائل أعطيتها عديد قوائمها الأربع وما كان حصن ولا حابس يفوقان شيخي في المجمع وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبُوا فَاقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ» فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قَطْعَ لسانه، وقيل: إن عباس بْن مرداس أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت القائل: فأصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة فقال أَبُو بكر الصديق: بين عيينة والأقرع، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هما واحد» وقال أَبُو بكر: أشهد أنك كما قَالَ الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} قَالَ أَبُو عمر: لو كان ما أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين من خمس الخمس كما زعم من زعم ذلك، أو من الخمس الذي قَالَ فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مالي من غنائمكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» ما شق ذلك والله أعلم على الأنصار حتى قالوا ما هو محفوظ عنهم، وقد كتبت ذلك فيما بعد، ولكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم من إيمانهم وكرمهم أنهم سيرضون بفعله، لأن حرصهم على ظهور الدين من حرصه رضي الله عنهم. |
12-02-2012, 03:46 PM | #56 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
.تسمية المؤلفة قلوبهم: من بني أمية: أَبُو سفيان بْن حرب بْن أمية، وابنه معاوية، وطليق بْن سفيان بْن أمية، وخالد بْن أسيد بْن أبي العيص بْن أمية، ومن بني عَبْد الدار بْن قصي: شيبة بْن عثمان بْن أبي طلحة، وأبو السنابل بْن بعكك، وعكرمة بْن عامر بْن هاشم، ومن بني مخزوم: زهير بْن أبي أمية، والحارث بْن هشام، وأخوه خالد بْن هشام، وهشام بْن الوليد بْن المغيرة، وسفيان بْن عَبْد الأسد، والسائب بْن أبي السائب، ومن بني عدي بْن كعب: مطيع بْن الأسود، وأبو جهم بْن حذيفة، ومن بني جمح: صفوان بْن أمية بْن خلف، وأخوه أحيحة بْن أمية، وعمير بْن وهب بْن خلف، ومن بني سهم: عدي بْن قيس بْن حذافة، ومن بني عامر بْن لؤي: حويطب بْن عَبْد العزى، وهشام بْن عمرو بْن ربيعة، ومن سائر قبائل العرب من بني الديل بْن بكر بْن عَبْد مناة: نوفل بْن معاوية، ومن بني قيس، ثم من بني عامر بْن صعصعة، ثم من بني كلاب بْن ربيعة بْن عامر: علقمة بْن علاثة بْن عوف بْن الأحوص بْن جعفر بْن كلاب، ولبيد بْن ربيعة بْن مالك بْن جعفر بْن كلاب، ومن بني عامر بْن صعصعة: خالد بْن هوذة بْن ربيعة بْن عمرو بْن عامر، وأخوه حرملة بْن هوذة، ومن بني نصر بْن معاوية: مالك بْن عوف بْن سعيد بْن يربوع، ومن بني سليم بْن منصور: عباس بْن مرداس، ومن غطفان ثم من فزارة: عيينة بْن حصن، ومن بني تميم ثم من بني حنظلة: الأقرع بْن حابس، وقد ذكر في المؤلفة حكيم بْن حزام، والنضير بْن الحارث بْن علقمة بْن كلدة أخو النضر بْن الحارث المقتول ببدر صبرا، وذكر آخرون النضير بْن الحارث فيمن هاجر إلى أرض الحبشة، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة قلوبهم، ومن هاجر إلى أرض الحبشة فهو من المهاجرين الأولين ممن رسخ الإيمان في قلبه وقاتل دونه، ليس ممن يؤلف عليه، وعند إعطاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أعطى المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار ولا المهاجرين قَالَ ذو الخويصرة التميمي: قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم يا مُحَمَّد، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أجل، فكيف رأيت؟» قَالَ: لم أرك عدلت، فغضب النبي عليه السلام، وقال: «ويحك إن لم يكن العدل مني فعند من يكون؟» فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال: «لا، دعوه، سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية». |
12-02-2012, 03:47 PM | #57 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
موقف بعض الأنصار: قَالَ ابن إسحاق: وحدثني عاصم بْن عمر بْن قتادة قَالَ: لما أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة، فدخل عليه سعد بْن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم بما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قَسَمْتَ في قومك، وأعطيت قوما من العرب عطايا عظاما، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قَالَ: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قَالَ: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قَالَ: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة» قَالَ: فخرج سعد فجمع من الأنصار في تلك الحظيرة، وجاء رجل من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال: يا رسول الله، قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: «يا معشر الأنصار، ما قَالَةٌ بلغتني عنكم، ووجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟» قالوا: بلى، لله ورسوله المن والفضل، ثم قَالَ: «ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل، فقال: «أما والله لو شئتم لقلتم فَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار فِي أنفسكم فِي لُعَاعَةٍ من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إيمانكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ والذي نفس مُحَمَّد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار»، قَالَ: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسما وحظا، فانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفرقوا، وروي أن قائلا قَالَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، أعطيت عيينة بْن حصن والأقرع بْن حابس وتركت جعيل بْن سراقة الضمري، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفس مُحَمَّد بيده، لَجُعَيْلُ بْن سراقة خير من طلاع الأرض مثل الأقرع وعيينة، ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيلا إلى إسلامه»، وكان هذا القسم بالجعرانة، وروى أَبُو الزبير وغيره، عن جابر، قَالَ: بصرت عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجعرانة، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبض ويعطي الناس. .عمرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجعرانة: ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتمرا من الجعرانة إلى مكة، وأمر ببقايا الفيء، فخمس بناحية مر الظهران، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمرته انصرف إلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بْن أسيد بْن أبي العيص وهو ابن نيف وعشرين سنة، ودخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة لست بقين من ذي القعدة، وكانت وقعة الطائف في ذي القعدة المؤرخ من السنة الثامنة من الهجرة، وكانت غيبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ خرج من المدينة إلى مكة فافتتحها، وأوقع بهوازن، وحارب الطائف إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وستة عشر يوما، واستعمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالك بْن عوف بْن سعيد بْن يربوع النصري على من أسلم من قومه من قبائل قيس، وأمره بمغاورة ثقيف، ففعل وضيق عليهم، وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم حشا عيينة بْن حصن، فلم يزل مغموزا عليه، وسائر المؤلفة قلوبهم منهم الخير الفاضل المجمع على خيره كالحارث بْن هشام حكيم بْن حزام، وعكرمة بْن أبي جهل، وسهيل بْن عمرو، ومنهم دون هؤلاء، وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض، وهو أعلم بهم، ثم انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفرقوا، وأقام الحج للناس عتاب بْن أسيد في تلك السنة، وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام، وحج المشركون على مشاعرهم، وكان عتاب بْن أسيد خَيِّرًا فاضلا ورعا، وقدم كعب بْن زهير بْن أبي سلمى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسلما وامتدحه، وقام على رأسه بقصيدته التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول، وأنشدها إلى آخرها، وذكر فيها المهاجرين فأثنى عليهم، وكان قبل ذلك حُفِظَ له هجاءٌ في النبي عليه السلام، فعاب عليه الأنصار إذ لم يذكرهم، فغدا على النبي عليه السلام بقصيدة يمدح فيها الأنصار، وقبل النبي عليه السلام إسلامه، وسمع شعره وأثابه. |
12-02-2012, 03:48 PM | #58 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
.غزوة تبوك: ثم أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بعد انصرافه من حصار الطائف ذا الحجة، والمحرم، وصفرا، وربيعا الأول، وربيعا الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، وخرج في رجل من سنة تسع بالمسلمين إلى غزوة الروم، وهي آخر غزاة غزاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه، وكان خروجه إلى غزوته تلك في حر شديد، وحين طاب أول الثمر، وفي عام جدب، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكاد يخرج غازيا إلا وَرَّى بغيره، إلا غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد المسافة، ونفقة المال، والشُّقَّةِ، وقوة العدو المقصود إليه، فتأخر الجد بْن قيس من بني سلمة وكان متهما بالنفاق، فاستأذن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البقاء وهو غني قوي، فأذن له وأعرض عنه، فنزلت فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} وكان نفر من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي عند جاسوم يثبطون الناس عن الغزو، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلحة بْن عبيد الله في نفر وأمرهم أن يحرقوا عليهم البيت ففعل ذلك طلحة، فاقتحم الضحاك بْن خليفة وكان معهم في البيت جدار الدار، فوقع فانكسرت رجله، وفر ابن أبيرق وكان معهم، وأنفق ناس من المسلمين واحتسبوا، وأنفق عثمان بْن عفان رضي الله عنه نفقة عظيمة جهز بها جماعة من المعسرين في تلك الغزوة، وروي أنه حمل في تلك الغزاة على تسع مائة بعير ومائة فرس، وجهزهم حتى لم يفقدوا عقالا ولا شكالا، وروي أنه أنفق فيها ألف دينار، وفي هذه الغزوة أتى رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البكاءون وهم سبعة: سالم بْن عمير من بني عمرو بْن عوف، وعلبة بْن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عَبْد الرحمن بْن كعب من بني مازن بْن النجار، وعمرو بْن الحمام من بني سلمة، وعبد الله بْن المغفل المزني، وقيل: بل هو عَبْد اللهِ بْن عمرو المزني، وهرمي بْن عَبْد اللهِ أخو بني واقف، وعرباض بْن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يجدوا عنده ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون، فسموا البكائين، وذكروا أن ابن يامين بْن عمير النضري حمل أبا ليلى وعبد الله بْن مغفل على ناضح له يعتقبانه، وزودهما تمرا كثيرا، واعتذر المخلفون من الأعراب فعذرهم رسول الله عليه السلام، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضرب عسكره على باب المدينة، واستعمل عليها مُحَمَّد بْن مسلمة، وقيل: بل سباع بْن عرفطة، وقيل: بل خلف عليها علي بْن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الأثبت، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلف عليا في غزوة تبوك، فقال المنافقون: استثقله، فذكر ذلك علي رضوان الله عليه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خبر سعد، فقال: «كذبوا، إنما خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» والآثار بذلك متواترة صحاح قد ذكرت كثيرا منها في غير هذا الموضع، وخرج عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول بعسكره فضربه على باب المدينة أيضا، فكان عسكره فيما زعموا ليس بأقل العسكريين، وهو يظهر الغزاة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما نهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تخلف عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، خَلَّفَهُمْ سُوءُ نياتهم ونفاقهم، وتخلف في هذه الغزاة من صالحي المسلمين ثلاثة رجال وهم: كعب بْن مالك الشاعر من بني سلمة، ومرارة بْن ربيعة، ويقال: ابن الربيع من بني عمرو بْن عوف، وهلال بْن أمية الواقفي، فافتقدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد يوم أو يومين، فقيل له تخلفوا، فعجل من ذلك وعز عليه لأنه كان يعرف إيمانهم وفضلهم، ونهض فخطر على حجر ثمود، فأمر أصحابه أن لا يتوضئوا من بئر ثمود، ولا يعجنوا خبزا بمائها، ولا يستعملوا شيئا منه، فقيل: إن قوما عجنوا منه، فأمر بالعجين فطرح للإبل علفا، وأمرهم أن لا يستعملوا ماء بئر الناقة في كل ما يحتاجون إليه، وأمر أصحابه عليه السلام بأن لا يدخلوا بيوت ثمود، وقال: «لا تدخلوا بيوت هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم» ونهاهم أن يخرج أحدهم منفردا، فخرج رجلان من بني ساعدة كل واحد منهما منفرد عن صاحبه، أحدهما يريد الغائط، فَخُنِقَ، فَأُخْبِرَ النبي عليه السلام، فدعا له فشفي، والآخر خرج في طلب بعير له، فأخذته الريح ورمته في جبل طيء فردته بعد ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعطش الناس في تلك الغزاة عطشا شديدا، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه فأرسل عليهم سحابة ارتووا منها وَدَوَابُّهُمْ وَإِبِلُهُمْ، وأخذوا حاجتهم من الماء، وأضل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقته، وقال من في قلبه نفاق: مُحَمَّد يدعي أن خبر السماء يأتيه، ولا يدري أين ناقته، فنزل الوحي بما قَالَ هذا القائل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا أصحابه فأخبرهم بقول القائل، وأخبرهم أن الله عز وجل قد عرفه بموضع ناقته، وأنها في موضع كذا قد تعلق خطامها بشجرة، فابتدروا المكان الذي وصف عليه السلام فوجدوها هنالك، وقيل: إن قائل ذلك القول زيد بْن اللصيت القينقاعي وكان منافقا، وقيل: إنه تاب بعد ذلك، وقيل: لم يتب والله أعلم، وفي هذه الغزاة ذكروا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى أبا ذر يمشي في ناحية العسكر وحده فقال: «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» فكان كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مات بالربذة وحده، وأخرج بعد أن كفن إلى الطريق يلتمس من يصلي عليه، فصادف إقبال ابن مسعود من الكوفة فصلى عليه، وكان ممن سمع هذا الحديث، فحدث به يومئذ أيضا، ونزل القرآن من سورة براءة وسورة الأحزاب بفضيحة المنافقين الذين كانوا يخذلون المسلمين، وتاب من أولئك مخشن بْن حمير، ودعا الله أن يكفر عنه بشهادة يخفي بها مكانه، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر. |
12-02-2012, 03:49 PM | #59 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
.بعث خالد بْن الوليد إلى أكيدر دومة: وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بْن الوليد إلى أكيدر بْن عَبْد الملك صاحب دومة، وقال له: يا خالد، إنك ستجده يصيد البقر، فأتاه خالد ليلا وقرب من حصنه، وأرسل الله تعالى بقر الوحش، فأتت تحك حائط القصر بقرونها، فنشط أكيدر ليصيدها، وخرج في الليل فأخذه خالد، وبعث به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعفا عنه النبي عليه السلام ورده إلى حصنه بعد أن صالحه على الجزية، وصالح يحنة بْن رؤبة صاحب أيلة على الجزية. .العودة من تبوك: وأقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يتجاوزها، ثم انصرف، وكان في طريقه ماء قليل، فنهى أن يسبق أحد إلى الماء، فسبق إليه رجلان فاستنفدا ما فيه، فسبهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال ما شاء الله أن يقول، ثم وضع يده في الماء ودعا الله فيه بالبركة، فجاشت العين بماء عظيم كفى الجيش كله، وأخبر عليه السلام أن ذلك الموضع سَيُمْلأُ جِنَانًا، فكان كذلك، وبنى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين تبوك والمدينة مساجد كثيرة نحو ستة عشر مسجدا، أولها مسجد بناه بتبوك، وآخرها بذي خشب. .مسجد الضرار: وكان أهل مسجد الضرار قد أتوه وهو متجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدا لذي الْعَيْلَةِ والحاجة، والليلةِ المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه، فقال لهم: «أنا في شغل السفر، وإذا انصرفت فسيكون» فلما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر في منصرفه بهدم مسجد الضرار، أمر بذلك مالك بْن الدخشم، ومعن بْن عدي، وعاصم بْن عدي أخاه، وأمر بإحراقه، وقال لهم: «اخرجوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه»، فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بْن الدخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه خذام بْن خالد بْن عبيد بْن زيد أحد بني عمرو بْن عمرو بْن عوف، ومن داره أخرج مسجد الضرار، ومعتب بْن قشير من بني ضبيعة بْن زيد، وأبو حبيبة بْن الأزعر من بني ضبيعة بْن زيد، وعباد بْن حنيف أخو سهل بْن حنيف من بني عمرو بْن عوف، وجارية بْن عامر وابناه مجمع وزيد ابنا جارية، ونبتل بْن الحارث من بني ضبيعة، وبحزج وهو من بني ضبيعة، وبجاد بْن عثمان من بني ضبيعة، ووديعة بْن ثابت من بني أمية بْن زيد، وثعلبة بْن حاطب مذكور فيهم وفيه نظر، لأنه قد شهد بدرا، ومات عَبْد اللهِ ذو البجاد بْن المزني في غزوة تبوك، فتولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر غسله ودفنه، ونزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبره وقال: «اللهم إني راض عنه فارض عنه». |
12-02-2012, 03:49 PM | #60 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
حديث كعب بْن مالك وصاحبيه: وأما اختصار حديث كعب بْن مالك وصاحبيه الذين تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك لغير ريبة في الدين، ولا تهمة نفاق، إلا ما كان من علم الله في إظهار حالهم، والزيادة في فضلهم، رويناه من طرق صحيحة لا أحصيها كثرة عن ابن شهاب، وخرجه المصنفون وأصحاب المسانيد، ذكره ابن شهاب، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: وَفِيهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلا مِنْ تَبُوكَ، ثَابَ إِلَيَّ لُبِّي، وَعَلِمْتُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ مَا لَمْ يُرْضِ اللهَ وَرَسُولَهُ فِي تَخَلُّفِي عَنْهُ، فَقُلْتُ: أَكْذِبُهُ، وَتَذَكَّرْتُ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَذِبِ الَّذِي أَخْرُجُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَّجِهْ لِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَطَلَّ قَادِمًا، زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَلِمْتُ أَنِّي لا أَنْجُو مِنْهُ إِلا بِالصِّدْقِ، فَلَمَّا صَبَّحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ، فَجَاءَ الْمُتَخَلِّفُونَ فَجَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ، وَجِئْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، وَقَالَ لِي: «مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ أَكُنِ ابْتَعْتُ ظَهْرَكَ؟» فَقُلْتُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِكَ لَرَجَوْتُ أَنْ أُقِيمَ عِنْدَهُ عُذْرِي لأَنِّي أُعْطِيتُ جَدَلا، وَلَكِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنِّي إِنْ كَذَبْتُكَ الْيَوْمَ أَطْلَعَكَ اللهُ عَلَيْهِ غَدًا فَفَضَحْتُ نَفْسِي، فَوَاللهِ مَا كَانَ لِيَ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ، وَمَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَكُمْ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ» فَقُمْتُ وَمَعِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي بَنِي سَلَمَةَ، يقولون: مَا عَلِمْنَاكَ أَتَيْتَ قَطُّ غَيْرَ هَذَا الذَّنْبِ، أَفَلا اعْتَذَرْتَ إِلَيْهِ فَيَسَعَكَ مَا وَسِعَ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَكَانَ يَكْفِيكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ حَتَّى هَمَمْتُ أَنْ أَنْصَرِفَ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَأَكْذِبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ لَقِيَ مِثْلَ هَذَا أَحَدٌ غَيْرِي؟ قَالُوا، نَعَمْ، رَجُلانِ قَالا مِثْلَ مَقَالِكَ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ، قُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَمْرِيُّ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَصَمَتُّ حِينُ ذَكَرُوهُمَا لِي، وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ خَاصَّةً، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي نَفْسِي وَالأَرْضُ الَّتِي أَنَا فِيهَا، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ بِالأَسْوَاقِ لا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَلا أَسْمَعُهُ يَرُدُّ عَلَيَّ، فَأَقُولُ لَيْتَ شِعْرِي هَلَّ رَدَّ فِي نَفْسِهِ، وَكُنْتُ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، فَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللهِ مَا زَادَ عَلَى السَّلامِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، نَشَدْتُكَ اللهَ، هَلْ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ، فَنَاشَدْتُهُ ثَانِيَةً، فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، فَعُدْتُ فَوَثَبْتُ فَتَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ وَخَرَجْتُ، ثُمَّ غَدَوْتُ إِلَى السُّوقِ، فَإِذَا رَجُلٌ يَسْأَلُ عَنِّي مِنْ نِبْطِ الشَّامِ الْقَادِمِينَ بِالطَّعَامِ إِلَى الْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَجَعَلَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ، فَجَاءَنِي فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهُ: وَهَذَا مِنَ الْبَلاءِ أَيْضًا أَنْ يَطْمَعَ فِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَعَمَدْتُ إِلَى تَنُّورٍ فَسَجَرْتُ فِيهِ الْكِتَابَ، وَأَقَمْتُ حَالِي، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ أَتَانِي فَقَالَ لِي: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا؟ قَالَ: لا، بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلا تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي فِيهِمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِي هَذَا الأَمْرِ مَا هُوَ قَاضٍ، وَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَائِعٌ لا خَادِمَ لَهُ، أَفَتَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: «لا، وَلَكِنْ لا يَقْرَبَنَّكِ» قَالَتْ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إِلَيَّ، وَمَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِي هَذَا حَتَّى تَخَوَّفْتُ عَلَى بَصَرِهِ، وَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِدْمَةِ امْرَأَتِكَ، فَقَدْ أَذِنَ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لا أَفْعَلُ، إِنِّي لا أَدْرِي مَا يَقُولُ لِي وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ، قَالَ: فَلَبِثْنَا فِي ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْكَلامِ مَعَنَا، فَلَمَّا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةٍ وَأَنَا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، فَأَنَا كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ قَدْ وَافَى عَلَى ظَهْرِ سَلْعٍ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ، أَبْشِرْ، فَخَرَرْتُ لِلَّهِ سَاجِدًا، وَعَلِمْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ، وَآذَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ حَتَّى وَافَى عَلَى الْجَبَلِ، وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي، نَزَعْتُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ، وَاللهِ مَا أَمْلِكُ يَوْمَئِذٍ غَيْرَهُمَا، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَتَيَمَّمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَلَقَّانِيَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنِي بِالتَّوْبَةِ، وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ، حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فَحَيَّانِي وَهَنَّأَنِي، وَوَاللهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَالَ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِي وَوَجْهُهُ يَبْرُقُ مِنَ السُّرُورِ: أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ، قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ؟ قَالَ: لا، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا اسْتَبْشَرَ كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي إِلَى اللهِ أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»، قُلْتُ: إِنِّي مُمْسِكٌ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لا أُحَدِّثَ إِلا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، وَكَانَ مَا نَزَلَ فِي شَأْنِي مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} إِلَى قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. .إسلام ثقيف: ولما كان في رمضان سنة تسع من الهجرة منصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك، أتاه وفد ثقيف، وقد كان عروة بْن مسعود الثقفي لحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حين انصرافه من حصار الطائف، فأدركه قبل أن يدخل المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، وكان سيد قومه ثقيف، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ» وعرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتناعهم ونخوتهم، فقال: يا رسول الله، إني أَحَبُّ إليهم من أبكارهم، ووثق بمكانه منهم، فانصرف إليهم ودعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنه قد أسلم، فرموه بالنبل فأصابه سهم فقتله، فزعمت بنو مالك أنه قتله رجل منهم، فقيل له: ما ترى في دمك؟ فقال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها إلي فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يدخل إليكم، وأوصى أن يدفن معهم، فهو مدفون خارج الطائف مع الشهداء، وذكروا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَثَلُهُ في قومه مَثَلُ صاحب ياسين في قومه» ثم إن ثقيفا رأوا أن لا طاقة لهم بما هم فيه من خلاف جميع العرب ومغاورتهم لهم والتضييق عليهم، فاجتمعوا على أن يرسلوا من أنفسهم رسولا كما أرسلوا عروة، فكلموا عَبْد ياليل بْن عمرو بْن عمير وكان في سن عروة بْن مسعود في ذلك، فأبى أن يفعل، وخشي أن يُصْنَعَ به ما صنع بعروة بْن مسعود، وقال: لست فاعلا إلا أن ترسلوا معي رجالا، فأجمعوا على أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثة من بني مالك فيكونوا ستة، فبعثوا مع عَبْد ياليل: الحكم بْن عمرو بْن وهب بْن معتب، وشرحبيل بْن غيلان بْن سلمة من بني معتب، ومن بني مالك: عثمان بْن أبي العاصي بْن بشر بْن عَبْد دهمان، وأوس بْن عوف أخا بني سالم، وقد قيل: إنه قاتل عروة، ونمير بْن خرشة بْن ربيعة، فخرجوا حتى قدموا المدينة، فأول من رآهم بقناةَ المغيرةُ بْن شعبة وكان يرعى ركاب أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نوبته، وكانت رعيتها نوبا عليهم، فترك عندهم الركاب ونهض مسرعا ليبشر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدومهم، فلقي أبا بكر الصديق فاستخبره عن شأنه، فأخبره بقدوم وفد قومه ثقيف للإسلام، فأقسم عليه أَبُو بكر أن يؤثره بتبشير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فأجابه المغيرة إلى ذلك، فكان أَبُو بكر هو الذي بشر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، ثم رجع إليهم المغيرة ورجع معهم وأخبرهم كيف يحيون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يفعلوا، وحيوه بتحية الجاهلية، فضرب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبة في ناحية المسجد، وكان خالد بْن سعيد بْن العاص هو الذي يختلف بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي كتب الكتاب لهم، وكان الطعام يأتيهم من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يأكلون حتى يأكل منه خالد بْن سعيد، وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يكتب كتابهم أن يترك لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله إلا هدمها، وسألوه أن لا يهدموا أوثانهم ولا يكسروها بأيديهم، فأعفاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كسرها بأيديهم وأبي أن يدع لهم وثنا، وقالوا: إنما أردنا أن نسلم بتركها من سفهائنا ونسائنا، وخفنا أن نروع قومنا بهدمها حتى ندخلهم الإسلام، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، فقال لهم: «لا خير في دين لا صلاة فيه» فلما كتب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابهم، أمر عليهم عثمان بْن أبي العاصي وكان أحدثهم سنا، ورآه أحرصهم على تعلم القرآن وشرائع الإسلام، وأمر أن يصلي بهم وأن يقدرهم بأضعفهم ولا يطول عليهم، وأمره أن يتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا، وبعث معهم أبا سفيان بْن حرب، والمغيرة بْن شعبة لهدم الأوثان والطاغية وغيرها، فأقام أَبُو سفيان في ماله بذي الهزم، وقال للمغيرة: ادخل أنت على قومك، فدخل المغيرة وشرع في هدم الطاغية وهي اللات، وقام دونه قومه بنو معتب خشية أن يُرْمَى كما رُمِيَ عروة بْن مسعود، وخرج نساء ثقيف يبكين اللات حسرا ويَنُحْنَ عليها، فهدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها، وقد كان أَبُو مليح بْن عروة بْن مسعود وقارب بْن الأسود قدما على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وفد ثقيف حين قتل عروة بْن مسعود، يريدان فراق ثقيف، وأن لا يجامعاهم على شيء أبدا، فأسلما، وقال لهما: «توليا من شئتما» فقالا: نتولى الله ورسوله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وخالكما أبا سفيان بْن حرب» فقالا: وخالنا أبا سفيان بْن حرب، فلما أسلم أهل الطائف، ووجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا سفيان المغيرة إلى هدم الطاغية، سأل أَبُو مليح بْن عروة بْن مسعود رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقضي دين أبيه عروة من مال الطاغية، وسأل قارب بْن الأسود بْن مسعود مثل ذلك، والأسود وعروة أخوان لأب وأم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمغيرة وأبي سفيان: «اقْضِيَا دَيْنَ عُرْوَةَ مِنْ مَالِ الطَّاغِيَةِ» فقال قارب: يا رسول الله، وَدَيْنَ الأسود، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الأسود مات مشركا» فقال قارب: يا رسول الله، لكن تَصِلُ مسلما ذا قرابة، يعني نفسه، إنما الدَّيْنُ عَلَيَّ وأنا الذي أطلب به، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقضاء دين الأسود بْن مسعود من مال الطاغية، فقضى أَبُو سفيان والمغيرة دين الأسود وعروة ابني مسعود من مال الطاغية. |
12-02-2012, 03:51 PM | #61 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة تسع: وأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر بالخروج إلى الحج وإقامته للناس، فخرج أَبُو بكر لذلك، ونزل صدر سورة براءة بعده، فقيل له: يا رسول الله، لو بعثت بها إلى أبي بكر يقرؤها على الناس في الموسم، فقال: «إنه لا يؤديها عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا عليا، فقال له: اخرج بهذه الْقُصَّةِ من صدر براءة وَأَذِّنْ بها في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى» وأمره بما ينادي به في الموسم، فخرج على ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضباء حتى أدرك أبا بكر بالطريق، فقال له أَبُو بكر لما رآه: أميرا أو مأمورا، قَالَ: بل مأمورا، ثم نهضا، فأقام أَبُو بكر للناس الحج سنة تسع على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وقد قيل: إن حجة أبي بكر وقعت حينئذ في ذي القعدة على ما كانوا عليه من النسيء في الجاهلية، وروى معمر، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} قَالَ: كانوا يحجون في كل شهر عامين، حجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، حتى وافت حجة أبي بكر في الآخر من العامين، في ذي القعدة قبل حجة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم حج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قابل في ذي الحجة، فذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث يقول: «إِنَّ الزَّمَنَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» قَالَ معمر: قَالَ الزهري: عن سعيد بْن المسيب: لما قفل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حنين اعتمر من الجعرانة، وَأَمَّرَ أبا بكر على تلك الحجة وذكر ابن جريج عن مجاهد قَالَ: لما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك، أراد الحج، ثم قَالَ: «إِنَّهُ يَحْضُرُ الْبَيْتَ عُرَاةٌ مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَلا أُحِبُّ أَنْ أَحُجَّ حَتَّى لا يَكُونَ ذَلِكَ»، فَأَرْسَلَ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ أَرْدَفَهُ عَلِيًّا قَالَ أَبُو عمر: بعث عليا ينبذ إلى كل ذي عهد عهده، ويعهد إليهم أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، مع سائر ما أمره أن ينادي به في كل موطن من مواطن الحج، فأقام الحج ذلك العام سنة تسع أَبُو بكر، ثم حج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قابل حجته التي لم يحج من المدينة غيرها، فوقعت حجة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العام المقبل في ذي الحجة، فقال: «إن الزمان قد استدار» الحديث، وثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة، فلما كان يوم النحر في حجة أبي بكر، قام علي فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، رُوِيَ في حديثه هذا: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته، وَأَجَّلَ الناسَ أربعةَ أشهر من يوم أَذَّنَ فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك، ولا ذمة لأحد كانت له عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَجَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَجَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَجَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي حَجَّتِهِ، فَقَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ مُفْرَدٌ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». |
12-02-2012, 03:51 PM | #62 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
.باب وفود العرب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بلادها للدخول في الإسلام: وذلك في سنة تسع وسنة عشر، وحجته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنة عشر، لما فتح الله عز وجل على رسوله عليه السلام مكة، وأظهره يوم حنين، وانصرف من تبوك، وأسلمت ثقيف، أقبلت إليه وفود العرب من كل وجه يدخلون في دين الله أفواجا، وأكثرهم كان ينتظر ما يكون من قريش، لأنهم كانوا أئمة الناس من أجل البيت والحرم، وأنهم صريح ولد إسماعيل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما فتح الله مكة عليه، أَهَلَّ الناس إليه، وكل من قدم عليه قدم راغبا في الإسلام إلا عامرَ بْنَ الطفيل، وأربدَ بْنَ قيس في وفد بني عامر، وإلا مسيلمةَ في وفد بني حنيفة، فأما عامر بْن الطفيل بْن مالك بْن جعفر بْن كلاب، وأربد بْن قيس بْن جزء بْن خالد بْن جعفر بْن كلاب، فإنهما قدما عليه في وفد بني عامر بْن صعصعة، وقد أضمر عامر بْن الطفيل الفتك برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والغدر به، وأربد بْن قيس هو أخو لبيد لأمه، وكان عامر بْن الطفيل قد قَالَ له: إني شاغله عنك بالكلام، فإذا فعلت ذلك فَاعْلُهُ بالسيف، ثم جعل يسأله سؤال الأحمق، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لا أجيبك في شيء مما سألت عنه حتى تؤمن بالله ورسوله» وأنزل الله على أربد البهت والرعب فلم يرفع يدا، فلما يئس منه عامر، قَالَ: يا مُحَمَّد، والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا، فلما وليا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم اكفني عامر بْن الطفيل، وأربد بْن قيس» وقال عامر لأربد: ما منعك أن تفعل ما تعاقدنا عليه؟ والله لا أخافك بعدها، وما كنت أخاف غيرك، وخرجا جميعا في وفدهم راجعين إلى بلادهم، فلما كانا ببعض الطريق بعث الله على عامر بْن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: أَغُدَّةً كَغُدَّةِ الْبَكْرِ أَوْ غُدَّةِ الْبَعِيرِ، وموتا في بيت سلولية، ووصل أربد إلى بلده، فقال له قومه: ما وراءك؟ قَالَ: والله لقد دعاني إلى عبادة شيء لو أنه عندي اليوم لرميته بالنبل حتى أقتله، فلم يلبث بعد قوله هذا إلا يوما أو يومين وأنزل الله عليه صاعقة، وكان على جمل قد ركبه في حاجة فأحرقه الله عز وجل هو وجمله بالصاعقة، وقدم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بْن حبيب يكنى أبا هارون، وقيل: بل هو مسيلمة بْن ثمامة يكنى أبا ثمامة، واختلف في دخوله على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فروي أنه دخل مع قومه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يسترونه بالثياب، فكلمه وسأله، فأجابه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنك لو سألتني هذا العسيب، لِعَسِيبٍ كان معه من سعف النخل، ما أعطيتكه» وقد روي أن بني حنيفة لما نزلوا بالمدينة خلفوا مسيلمة في رحالهم، وأنهم أسلموا، وذكروا مكان مسيلمة، وقالوا: إنا قد خَلَّفْنَا صاحبا لنا في رحالنا يحفظها لنا، فأمر لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما سألوه، وأمر له بمثل ما أمر لقومه، وقال: «أما إنه ليس بشركم مكانا» أَيْ لِحِفْظِهِ ضَيْعَةَ أصحابه، ثم انصرفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انتهوا إلى اليمامة، ارتد عدو الله مسيلمة وادعى النبوة، وقال: قد أشركني الله في أمره، واتبعه أكثر قومه، وجعل لهم أسجاعا يضاهى بها القرآن، وأحل لهم الخمر والزنا، وأسقط عنهم الصلاة، فمن سجعه قوله: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى، ومثل هذا من سجعه لعنه الله، واتبعته بنو حنيفة إلا ثمامةَ بْنَ أثال الحنفي، بقي على الإيمان بالله ورسوله ولم يرتد مع قومه، وقدم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ بني تميم منهم عطارد بْن حاجب بْن زرارة بْن عدس الدارمي، وقيس بْن عاصم المنقري، وعمرو بْن الأهتم من بني منقر بْن عبيد أيضا، والزبرقان بْن بدر من بني بهدلة، ونعيم بْن يزيد، وقيس بْن الحارث، والحتات بْن يزيد المجاشعي، وهو الذي آخى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين معاوية، وقد ذكرنا خبره في بابه من كتاب الصحابة، وهؤلاء وجوه وفد تميم، وقدم معهم الأقرع بْن حابس الدارمي، وعيينة بْن حصن الفزاري، وقد كانا قدما على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلما، وشهدا معه فتح مكة، وحنينا، وحصار الطائف، ثم جاءا مع وفد تميم ونادوه من وراء الحجرات، وخبرهم في السير والتفسير، وأسلموا ولم يُظْهِرْ منهم بعد الإسلام إلا الخير والصلاح، إلا أن عيينة كان أعرابيا، جافيا، جلفا، مجنونا، أحمق، مطاعا في قومه، وقدم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضمام بْن ثعلبة وافد قومه بني سعد بْن بكر، وأسلم وحسن إسلامه، ورجع إلى قومه فأسلموا، وقدم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجارود بْن عمرو، وقيل: ابن بشر العبدي في طائفة من قومه عَبْد القيس، وكان الجارود نصرانيا فأسلم ومن معه، وسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحملهم، فقال: «والله ما عندي ما أحملكم عليه» فقالوا: إنا نمر فنجد من ضوال الإبل في طريقنا فنأخذها، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضالة المؤمن حَرْقُ النار» وحسن إسلام عَبْد القيس، وكان الجارود فاضلا صليبا في ذات الله، ولما ارتدت العرب، وارتد من ارتد من عَبْد قيس، قام في رهطه فأعلن بالإسلام ودعا إليه، وتبرأ ممن ارتد من قومه، وثبت هو ورهطه على الإسلام، وقد كان قدم الأشج العصري من عَبْد القيس في وفد منهم قبل فتح مكة فأسلموا، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث العلاء بْن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بْن ساوى العبدي، فأسلم وحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ردة أهل البحرين، والعلاء عنده أمير لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على البحرين، وقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد طيئ فيهم زيد الخيل وهو سيدهم، فعرض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم الإسلام فأسلموا، وَرُوِيَ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ما وصف لي رجل من العرب إلا وجدته دون ما وصف، إلا زيد الخيل فإن وصفه لم يبلغ ما وصف به» وسماه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد الخير، وقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدي بْن حاتم الطائي في قومه من طيئ، وكان نصرانيا، فمضى به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدخله إلى بيته، وتناول وسادة من أدم حشوها ليف فطرحها، وقال له: «اجلس عليها» فقال: بل أنت فاجلس عليها يا رسول الله، فجلس رسول الله في الأرض، وأجلسه على الوسادة، ثم لم يزل يكلمه ويعرض عليه ما في دِينِهِ النَّصْرَانِيَّةِ مما أحدثوه فيه من الشرك، ويعرض عليه الإسلام، ويخبره أنه دين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وأنه لا يبقى عربي إلا دخل في طوعا أو كرها، فقبل عدي الإسلام وأسلم وحسن إسلامه، وتبعه قومه فأسلموا وحسن إسلامهم، وقدم عليه فروة بْن مسيك الغطيفي وعداده في مراد مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلم وحسن إسلامه، وَأَمَّرَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قومه، ولم يرتد فروة حين ارتدت العرب، وقدم عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بْن معد يكربَ، وكان قد قَالَ لقيس بْن المكشوح: إنك سيد قومك، وإن محمدا قد خرج بالحجاز نبيا، فاقدم بنا عليه، فإنا إن قدمنا عليه لم يخف علينا أمره، فأبى قيس بْن المكشوح، فقدم عمرو هو وناس معه من زبيد، وهجره قيس بْن المكشوح، وهدد كل واحد منهما صاحبه، ثم أسلم قيس بْن المكشوح سنة عشر، وكتب إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى فيروز الديلمي في قتال الأسود العنسي المتنبئ، وقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأشعث بْن قيس في وفد كندة، قَالَ ابن شهاب: في ثمانين رجلا من كندة، فأسلم وأسلموا، وقالوا: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت من بني آكل المرار، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا، نحن من بني النضر بْن كنانة، لا نقفو أمنا، ولا ننتفي من أبينا»، وتبسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قولهم، وقال لهم: ائتوا العباس بْن عَبْد المطلب وربيعة بْن الحارث فناسبوهما بهذا النسب، وذلك أن العباس وربيعة كانا تاجرين يضربان في البلاد، فكانا إذا نزلا بقوم قالا: نحن بنو آكل الْمُرَارِ، يتعززان بذلك، فكان الأشعث يقول: والله لا أسمع أحدا يقول إن قريشا بنو آكل الْمُرَارِ إلا ضربته ثمانين، وآكل المرار هو الحارث بْن عمرو بْن حجر بْن عمرو بْن معاوية بْن الحارث بْن معاوية بْن كندي، ويقال: كندة، قَالَ ابن هشام: والأشعث بْن قيس من ولد آكل الْمُرَارِ من قبل النساء، وقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صرد بْن عَبْد اللهِ الأزدي فأسلم وحسن إسلامه في وفد من الأزد، وَأَمَّرَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، وقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاب ملوك حمير مَقْدِمَهُ من تبوك بدخلوهم في الإسلام، وإسلام همدان ومعافر وذي رعين، فكتب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابا محفوظا عند الرواة، وبعث إليه زرعة ذو يزن بْن مالك بْن مرة الرهاوي بإسلامه وإسلام قومه، ومفارقتهم الشرك، فكتب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا، وبعث فروة بْن عمرو بْن النافرة الجذامي ثم النفاثي إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب بأرض الشام، فلما بلغ الرومَ إسلامُهُ طلبوه حتى أخذوه فحبسوه فمات في حبسهم، وقد كان قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هدنة الحديبية قبل خيبر رفاعة بْن زيد الجذامي ثم الضبيبي من بني ضبيب، فأهدى له غلاما، وأسلم وحسن إسلامه، وقال أَبُو إسحاق السبيعي وغيره: كانت همدان قد قدم وفدهم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرَفَهُ من تبوك، فآمنوا وأسلموا، وكتب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر ابن هشام خبرهم ورجزهم وشعرهم، وما كتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم، وذكر أنهم قدموا في الحبرات والعمائم العدينة، وفرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدومهم وإسلامهم، وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بْن الوليد في ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بْن كعب بنجران يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا ودخلوا فيما دعاهم خالد إليه من الإسلام، فأقام عندهم خالد يعلمهم كتاب الله وشريعة الإسلام، وكتب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما فتح الله عليه من أهل نجران ومن انضاف إليهم، فأجابه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كتابه، وأمره بالقدوم عليه، فقدم ومعه وفد بني الحارث بْن كعب، فكتب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعث معهم عمرو بْن حزم يفقههم في الدين، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم، وكتب له بذلك كتابا فيه الصدقات والديات وكثير من سنن الإسلام، ورجع وفد بني الحارث بْن كعب إلى قومهم في بقية شوال أو صدر ذي القعدة، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. |
12-02-2012, 03:52 PM | #63 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
.حجة الوداع: قَالَ ابن إسحاق: فلما دخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذو القعدة من سنة عشر تجهز للحج، وأمر النَّاسَ الْجِهَازَ له، وخرج لخمس ليال بقين من ذي القعدة فيما حَدَّثَنِي عَبْد الرحمن بْن القاسم، عن أبيه القاسم بْن مُحَمَّد، عن عائشة، قَالَ ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدي، وقيل: سباع بْن عرفطة الغفاري قَالَ أَبُو عمر: ما كان في كتابنا هذا عن ابن إسحاق فروايتنا فيه عن عَبْد الوارث بْن سفيان، عن قاسم بْن أصبغ، عن مُحَمَّد بْن عَبْد السلام الخشني، عن مُحَمَّد بْن البرقي، عن ابن هشام، عن زياد البكائي، عن مُحَمَّد بْن إسحاق، وقراءة مني أيضا على عَبْد اللهِ بْن مُحَمَّد بْن يوسف، عن ابن مفرج، عن ابن الأعرابي، عن العطاردي، عن يونس بْن بكير، عن ابن إسحاق، وقراءة مني أيضا على عَبْد الوارث بْن سفيان، عن قاسم بْن أصبغ، عن عبيد بْن عَبْد الواحد البزار، عن أحمد بْن مُحَمَّد بْن أيوب، عن إِبْرَاهِيم بْن سعد، عن ابن إسحاق، وما كان فيه عن موسى بْن عقبة فقرأته على عَبْد الوارث بْن سفيان، وأحمد بْن مُحَمَّد بْن أحمد، عن قاسم، عن مطرف بْن عَبْد الرحمن بْن قيس، عن يعقوب، عن ابن فليح، عن موسى بْن عقبة، ولي في ذلك روايات وأسانيدُ مذكورة في صدر كتاب الصحابة، وفي الفهرسة روايتنا لكتاب الواقدي وغيره، تركنا ذلك هاهنا خشية الإطالة بذكره، وفي كتاب أبي بكر بْن أبي خيثمة روايتي له عن عَبْد الوارث، عن قاسم، عنه من ذلك أطراف، والله المحمود على عونه وفضله كثيرا كما هو أهله، قَالَ الفقيه أَبُو عمر رضي الله عنه: قَالَ جماعة من أهل العلم بالسير والأثر: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحج في الإسلام إلا ثلاث حجات، اثنتين بمكة، وواحدة بعد فرض الحج عليه من المدينة. |
12-02-2012, 03:53 PM | #64 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
حديث جابر في حجة الوداع: وأحسن حديث في الحج وأتمه حديث جابر حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بِشْرِ، وَأَحْمَدُ بْنُ قَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي دُلَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ وَهُوَ فِي بَنِي سَلَمَةَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَدَّثَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعَ سِنِينَ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجٌّ الْعَامَ، فَنَزَلَ بِالْمَدِينَةِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ وَيَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَنَفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، ثُمَّ أَهِلِّي»، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: «لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ» قَالَ: وَلَبَّى النَّاسُ، وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ: ذَا الْمَعَارِجِ وَنَحْوَهُ مِنَ الْكَلامِ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ وَلا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا، فَنَظَرْتُ مَدَّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَعَنْ شِمَالِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ جَابِرٌ: وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا، فَخَرَجْنَا لا نَنْوِي إِلا الْحَجَّ، حَتَّى أَتَيْنَا الْكَعْبَةَ، فَاسْتَلَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ، ثُمَّ رَمَلَ ثَلاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ عَمَدَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ، وَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قَالَ جَعْفَرٌ: قَالَ أَبِي: فَقَرَأَ فِيهِمَا بِالتَّوْحِيدِ: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ وقُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ثُمَّ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا، فَقَالَ: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ، وَقَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} وَرَقَى عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ كَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَصَدَقَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ أَوْ قَالَ: هَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى هَذَا الْكَلامِ، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى هَذَا الْكَلامِ، ثُمَّ نَزَلَ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي الْوَادِي سَعَى حَتَّى صَعِدَ مَشْيًا، حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَرَقَى عَلَيْهَا، حَتَّى إِذَا نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ قَالَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ عَلَى الصَّفَا، فَلَمَّا كَانَ السَّابِعُ بِالْمَرْوَةِ، قَالَ: يَأَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَقَالَ سَارِقَةُ بْنُ جُعْثُمٍ وَهُوَ فِي أَسْفَلِ الْمَرْوَةِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِلأَبَدِ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ قَالَ: لِلأَبَدِ، بَلْ لأَبَدِ الأَبَدِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدِمَ مَعَهُ بِهَدْيٍ، وَسَاقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ هَدْيًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَإِذَا فَاطِمَةُ قَدْ حَلَّتْ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَابِغَةً وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، قَالَتْ: أَمَرَنِي أَبِي، قَالَ عَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ: لَمْ يَذْكُرْهُ جَابِرٌ، فَانْطَلَقْتُ مُحَرِّشًا أَسْتَفْتِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي ذَكَرَتْ فَاطِمَةُ، قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ فَاطِمَةَ لَبِسَتْ ثِيَابًا صَابِغَةً وَاكْتَحَلَتْ، وَقَالَتْ: أَمَرَنِي أَبِي، قَالَ: صَدَقَتْ، أَنَا أَمَرْتُهَا، قَالَ جَابِرٌ: فَقَالَ لِعَلِيٍّ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ فَلا تَحِلَّ بِحَالٍ، وَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ عَلِيٌّ مِائَةً، فَنَحَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثَلاثًا وَسِتِّينَ، وَأَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَأَكَلا مِنْ لَحْمِهَا، وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ نَحَرْتُ هاهنا، وَمِنًي كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ، وَقَالَ: وَقَفْتُ هاهنا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، ثُمَّ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَقَالَ: وَقَفْتُ هاهنا، وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الأَشْعَثِ أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَرُبَّمَا زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْكَلِمَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الأَصْفَهَانِيُّ وَهَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ قَالا: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ الْكَلِمَةَ وَالْكَلِمَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلامٌ شَابٌّ، فَرَحَّبَ وَسَهَّلَ وَدَعَا لِي، فَقَالُوا: جِئْنَا نَسْأَلُكَ، فَقَالَ لِي: سَلْ عَمَّا شِئْتَ يَا ابْنَ أَخِي، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَقَدَ تِسْعًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجٌّ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُم ْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْمَلَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي، وَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ، فَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ، فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ: لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلْبِيَتَهُ، قَالَ جَابِرٌ: لَسْنَا نَنْوِي إِلا الْحَجَّ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ، حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، قَالَ جَعْفَرٌ: فَكَانَ أَبِي يَقُولُ وَلا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ وقُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَوَحَّدَ اللهَ، وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ وَقَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ رَمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ، قَالَ: لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْثُمٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلأَبَدِ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، ثُمَّ قَالَ: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ، لا، بَلْ لأَبَدِ الأَبَدِ، قَالَ: وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا، فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: صَدَقَتْ صَدَقَتْ، ثُمَّ قَالَ: مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ، قَالَ: فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ، فَلا تَحِلَّ، قَالَ: فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ مِائَةً، قَالَ: فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَالصُّبْحَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ، أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُهُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، وَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللهِ، وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيُشِيرُ إِلَى النَّاسِ: اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ»، ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلا حِينَ غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ وَقَدْ شَنَقَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، كُلَّمَا أَتَى حَبْلا مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلا حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا اللهَ، وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ، وَوَحَّدَهُ، وَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلا أَبْيَضَ حَسَنَ الشَّعْرِ وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ الظُّعُنُ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ حَتَّى أَتَى مُحَسِّرًا فَحَرَّكَ قَلِيلا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ إِلَى مَا يَلِي الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، حَصًا مِثْلُ حَصَا الْحَذْفِ رَمَاهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ، فَأَكَلا مِنْ لَحْمِهَا، وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْبَيْتِ فَأَفَاضَ، وَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، وَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُمْ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ، فَقَالَ: انْزِعُوا يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ، وَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. |
12-02-2012, 03:58 PM | #65 |
|
رد: كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير للامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه
باب ذكر وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَوَى وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَزِينٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللِّهِ وَالْفَتْحُ السُّورَةُ كُلُّهَا، عَلِمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَسَأَلَ عُمَرُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَالَ: يَقُولُ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّكَ سَتَمُوتُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: لِلَّهِ دَرُّكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِعْجَابًا بِقَوْلِهِ، وَقَدْ كَانَ سَأَلَ عَنْهَا غَيْرَهُ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا دَنَتْ وَفَاتُهُ أَخَذَهُ وَجَعُهُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَخَرَجَ إِلَى أَهْلِ أُحُدٍ فَصَلَّى عَلَيْهِمْ صَلاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا يَشْكُو فِي عِلَّتِهِ الصُّدَاعُ، فَيَقُولُ: «وَارَأْسَاهُ»، ثُمَّ لَمَّا اشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَأَذِنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَمُرِّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ: «مَا زِلْتُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُهُ بِخَيْبَرَ، مَا زَالَتْ تِلْكَ الأَكْلَةُ تُعَاوِدُنِي، فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي»، وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَظَنُّوا أَنَّ بِهِ ذَاتَ الْجَنْبِ فَلَدُّوهُ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ الَّذِي أَشَارَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَفَاقَ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِالْقَصَاصِ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَاسْتَثْنَى الْعَبَّاسَ بِرَأْيِهِ، فَلُدَّ كُلُّ مَنْ حَضَرَ فِي الْبَيْتِ إِلا الْعَبَّاسَ، وَأَوْصَاهُمْ فِي مَرَضِهِ بِثَلاثٍ: أَنْ يُجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوٍ مِمَّا كَانَ يُجِيزُهُمْ بِهِ، وَأَنْ لا يَتْرُكُوا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَيْنِ، قَالَ: أَخْرِجُوا مِنْهَا الْمُشْرِكِينَ، وَاللهَ اللهَ فِي الصَّلاةِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، وَقَالَ لَهُمْ: هَلُمُّوا أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا، فَاخْتَلَفُوا، وَتَنَازَعُوا، وَاخْتَصَمُوا، فَقَالَ: قُومُوا عَنِّي، فَإِنَّهُ لا يَنْبَغِي عِنْدِي تَنَازُعٌ» وَكَانَ عُمَرُ الْقَائِلَ حِينَئِذٍ: قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ وَجَعُهُ وَرُبَّمَا صَحَّ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ الْكِتَابَ لاخْتِلافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ، وَسَارَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهَا: «إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَعْرِضُ عَلَيَّ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَرَضَهُ عَلَيَّ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَمَا أَظُنُّ إِلا أَنِّي مَيِّتٌ مِنْ مَرَضِي هَذَا» فَبَكَتْ، فَقَالَ لَهَا: «مَا يَسُرُّكِ أَنَّكِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَا عَدَا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ؟» فَضَحِكَتْ، وَكَانَ يَقُولُ فِي صِحَّتِهِ: «مَا يَمُوتُ نَبِيٌّ حَتَّى يُخَيَّرَ، وَيُرَى مَقْعَدَهُ»، رَوَتْهُ عَائِشَةُ، قَالَتْ: فَلَمَّا اشْتَدَّ مَرَضُهُ جَعَلَ يَقُولُ: «مَعَ الرَّفِيقِ الأَعْلَى، مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا»، وَقَالَ حِينَ عَجَزَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» وَخَرَجَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ مَرَضِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ تَخُطُّ رِجْلاهُ فِي الأَرْضِ، يَحْمِلُهُ رَجُلانِ: أَحَدُهُمَا عَلِيٌّ، وَالآخَرُ الْعَبَّاسُ، وَقِيلَ: الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ فِي مَرَضِهِ: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ»، فَأُجْلِسُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ بِيَدِهِ أَنْ حَسْبُكُمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى بِهِمْ، وقد أوضحنا معاني صلاته في مرضه بالناس مع أبي بكر، ومكان المقدم منهما، وما يصح في ذلك عندنا في كتاب التمهيد، وبالله توفيقنا، وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمًا يَسْأَلُونَ عَلِيًّا وَالْعَبَّاسَ عَنْ حَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدِ اشْتَدَّتْ بِهِ الْحَالُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَصْبَحَ بِخَيْرٍ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: مَا الَّذِي تَقُولُ؟ وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ فِي وَجْهِهِ مِنَ الْمَوْتِ مَا لَمْ أَزَلْ أَعْرِفُهُ فِي وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا عَلِيُّ اذْهَبْ بِنَا نَسْأَلْهُ فِيمَنْ يَكُونُ هَذَا الأَمْرُ بَعْدَهُ، فَكَرِهَ عَلِيٌّ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْأَلاهُ، وَاشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ فَجَعَلَ يَقُولُ: «لا إِلَهَ إِلا اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ، الرَّفِيقَ الأَعْلَى»، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى مَاتَ، وَمَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ بِلا اخْتِلافٍ، قِيلَ فِي وَقْتِ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ فِي هِجْرَتِهِ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى فِي صَدْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشَرَةَ، لِتَمَامِ عَشْرِ سِنِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَقِيلَ: بَلْ دُفِنَ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ، وَلَمْ يَحْضُرْ غُسْلَهُ وَلا تَكْفِينَهُ إِلا أَهْلُ بَيْتِهِ، غَسَّلَهُ عَلِيٌّ، وَكَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَالْعَبَّاسُ يُعِينُهُمْ، وَحَضَرَهُمْ شَقْرَانُ مَوْلاهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ كِتَابِ الصَّحَابَةِ سُؤَالَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمْ يُصَدِّقْ عُمَرُ بِمَوْتِهِ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ مَاتَ، وَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَخَطَبَ وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ، وَاللهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى رَبِّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَدْ غَابَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ، وَاللهِ لَيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللهِ كَمَا رَجَعَ مُوسَى، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، زَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ مَاتَ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بَيْتَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُشِفَ لَهُ عَنْ وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ وَأَيْقَنَ بِمَوْتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَوَجَدَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَأَبَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَأَبَى، فَتَنَحَّى عَنْهُ وَقَامَ خَطِيبًا، فَانْصَرَفَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، ثُمَّ تَلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} الآيَةَ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ عَرَفْتُ مَا وَقَعْتُ فِيهِ، وَكَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْهَا قَبْلُ، ثُمَّ اجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَبَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ بَايَعُوهُ بَيْعَةً أُخْرَى مِنَ الْغَدِ عَلَى مَلإٍ مِنْهُمْ وَرِضًا، فَكَشَفَ اللهُ بِهِ الْكُرْبَةَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَقَامَ بِهِ الدِّينُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. تم بحمد الله تعالى تعالى وتوفيقه كتاب الدرر فى اختصار المغازى والسير لسيدى الامام الحافظ ابن عبد البر رضى الله عنه اللهم بصر به بصيرتنا واهدنا به الى الحق والى الصراط المستقيم اللهم اغفر لمؤلفه وناشره وكاتبه ومن نظر اليه وانفعنا ببركاته وامدنا بامداداته فى كل وقت وحين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم |
مواقع النشر (المفضلة) |
كاتب الموضوع | حسن الخليفه احمد | مشاركات | 64 | المشاهدات | 15917 | | | | انشر الموضوع |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|