القبول يا رب - شباب الطريقة الختمية بدائرة ود ابراهيم بأم بدة
مجموعة مدائح ختمية.. شباب الطريقة الختمية بمسجد السيد علي الميرغني ببحري
|
مكتبة الميرغني الإليكترونية خاصة بجميع مؤلفات السادة المراغنة |
إهداءات ^^^ ترحيب ^^^ تهاني ^^^ تعازي ^^^ تعليقات ^^^ إعلانات | |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
08-21-2013, 04:06 PM | #521 | |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ بِمَكَّةَ وَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْفِكُ بِهَا دَمًا
الشرح: قوله (باب لا يحل القتال بمكة) هكذا ترجم بلفظ القتال، وهو الواقع في حديث الباب، ووقع عند مسلم في رواية كذلك، وفي أخرى بلفظ " القتل " بدل القتال، وللعلماء في كل منهما اختلاف سنذكره. قوله (وقال أبو شريح الخ) تقدم موصولا قبل باب، ووجه الاستدلال به لتحريم القتال من جهة أن القتال يفضي إلى القتل، فقد ورد تحريم سفك الدم بها بلفظ النكرة في سياق النفي فيعم. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا فَإِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا قَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ قَالَ قَالَ إِلَّا الْإِذْخِرَ الشرح: قوله (عن مجاهد عن طاوس) كذا رواه منصور موصولا، وخالفه الأعمش فرواه عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا أخرجه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عنه، وأخرجه أيضا عن سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد مرسلا، ومنصور ثقة حافظ فالحكم لوصله. قوله (يوم افتتح مكة) هو ظرف للقول المذكور. قوله (لا هجرة) أي بعد الفتح، وأفصح بذلك في رواية علي بن المديني عن جرير في كتاب الجهاد قوله (ولكن جهاد ونية) المعنى أن وجوب الهجرة من مكة انقطع بفتحها إذ صارت دار إسلام، ولكن بقي وجوب الجهاد على حاله عند الاحتياج إليه، وفسره بقوله: (فإذا استنفرتم فانفروا) أي إذا دعيتم إلى الغزو فأجيبوا. قال الطيبي: قوله " ولكن جهاد " عطف على مدخول " لا هجرة " أي الهجرة إما فرارا من الكفار وإما إلى الجهاد وإما إلى نحو طلب العلم، وقد انقطعت الأولى فاغتنموا الأخيرتين، وتضمن الحديث بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم بأن مكة تستمر دار إسلام، وسيأتي البحث في ذلك مستوفي في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. قوله: (فإن هذا بلد حرم) الفاء جواب بشرط محذوف تقديره إذا علمتم ذلك فاعلموا أن هذا بلد حرام، وكأن وجه المناسبة أنه لما كان نصب القتال عليه حراما كان التنفير يقع منه لا إليه، ولما روى مسلم هذا الحديث عن إسحاق عن جرير فصل الكلام الأول من الثاني بقوله " وقال يوم الفتح إن الله حرم الخ " فجعله حديثا آخر مستقلا، وهو مقتضى صنيع من اقتصر على الكلام الأول كعلي بن المديني عن جرير كما سيأتي في الجهاد. قوله (حرمه الله) سبق مشروحا في حديث أبي شريح، ووقع في رواية غير الكشميهني " حرم الله " بحذف الهاء. قوله (وهو حرام بحرمة الله) أي بتحريمه، وقيل الحرمة الحق أى حرام بالحق المانع من تحليله، واستدل به على تحريم القتل والقتال بالحرم، فأما القتل فنقل بعضهم الاتفاق على جواز إقامة حد القتل فيها على من أوقعه فيها، وخص الخلاف بمن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم، وممن نقل الإجماع على ذلك ابن الجوزي، واحتج بعضهم بقتل ابن خطل بها، ولا حجة فيه لأن ذلك كان في الوقت الذي أحلت فيه للنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وزعم ابن حزم أن مقتضى قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما أنه لا يجوز القتل فيها مطلقا، ونقل التفصيل عن مجاهد وعطاء. وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الحرم حتى يخرج إلى الحل باختياره، لكن لا يجالس ولا يكلم، ويوعظ ويذكر حتى يخرج. وقال أبو يوسف: يخرج مضطرا إلى الحل، وفعله ابن الزبير، وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس " من أصاب حدا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع " وعن مالك والشافعي: يجوز إقامة الحد مطلقا فيها، لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن، وأما القتال فقال الماوردي: من خصائص مكة أن لا يحارب أهلها، فلو بغوا على أهل العدل فإن أمكن ردهم بغير قتال لم يجز، وإن لم يمكن إلا بالقتال فقال الجمهور يقاتلون لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى فلا يجوز إضاعتها. وقال آخرون: لا يجوز قتالهم بل يضيق عليهم إلى أن يرجعوا إلى الطاعة. قال النووي: والأول نص عليه الشافعي، وأجاب أصحابه عن الحديث بحمله على تحريم نصب القتال بما يعم أذاه كالمنجنيق، بخلاف ما لو تحصن الكفار في بلد فإنه يجوز قتالهم على كل وجه. وعن الشافعي قول آخر بالتحريم اختاره القفال وجزم به في " شرح التلخيص " وقال به جماعة من علماء الشافعية والمالكية. قال الطبري: من أتي حدا في الحل واستجار بالحرم فللإمام إلجاؤه إلى الخروج منه، وليس للإمام أن ينصب عليه الحرب بل يحاصره ويضيق عليه حتى يذعن للطاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم "وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس " فعلم أنها لا تحل لأحد بعده بالمعنى الذي حلت له به وهو محاربة أهلها والقتل فيها. ومال ابن العربي إلى هذا. وقال ابن المنير: قد أكد النبي التحريم بقوله " حرمه الله " ثم قال " فهو حرام بحرمة الله " ثم قال " ولم تحل لي إلا ساعة من نهار " وكان إذا أراد التأكيد ذكر الشيء ثلاثا. قال فهذا نص لا يحتمل التأويل. وقال القرطبي: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالقتال لاعتذاره عما أبيح له من ذلك مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقين للقتال والقتل لصدهم عن المسجد الحرام وإخراجهم أهله منه وكفرهم، وهذا الذي فهمه أبو شريح كما تقدم. وقال به غير واحد من أهل العلم. وقال ابن دقيق العيد: يتأكد القول بالتحريم بأن الحديث دال على أن المأذون للنبي صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن لغيره فيه، والذي وقع له إنما هو مطلق القتال لا القتال الخاص بما يعم كالمنجنيق فكيف يسوغ التأويل المذكور؟ وأيضا فسياق الحديث يدل على أن التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم سفك الدماء فيها، وذلك لا يختص بما يستأصل، واستدل به على اشتراط الإحرام على من دخل الحرم. قال القرطبي: معنى قوله حرمه الله أي يحرم على غير المحرم دخوله حتى يحرم، ويجرى هذا مجرى قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم) أي وطؤهن، و (حرمت عليكم الميتة) أي أكلها، فعرف الاستعمال يدل على تعيين المحذوف. قال: وقد دل على صحة هذا المعنى اعتذاره عن دخوله مكة غير محرم مقاتلا بقوله " لم تحل لي إلا ساعة من نهار " الحديث. قال: وبهذا أخذ مالك والشافعي في أحد قوليهما ومن تبعهما في ذلك فقالوا: لا يجوز لأحد أن يدخل مكة إلا محرما، إلا إذا كان ممن يكتر التكرار. قلت: وسيأتي بسط القول في ذلك بعد سبعة أبواب. قوله: (وأنه لا يحل القتال) الهاء في " أنه " ضمير الشأن، ووقع في رواية الكشميهني " لم يحل " بلفظ " لم " بدل " لا " وهي أشبه لقوله قبلي. قوله: (لا يعضد شوكه) تقدم البحث فيه في حديث أبي شريح. قوله (ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها) سيأتي البحث فيه في كتاب اللقطة إن شاء الله تعالى. قوله (ولا يختلي خلاها) بالخاء المعجمة، والخلا مقصور، وذكر ابن التين أنه وقع في رواية القابسي بالمد وهو الرطب من النبات واختلاؤه قطعه واحتشاشه، واستدل به على تحريم رعيه لكونه أشد من الاحتشاش، وبه قال مالك والكوفيون واختاره الطبري. وقال الشافعي: لا بأس بالرعي لمصلحة البهائم وهو عمل الناس، بخلاف الاحتشاش فإنه المنهي عنه فلا يتعدى ذلك إلى غيره. وفي تخصيص التحريم بالرطب إشارة إلى جواز رعي اليابس واختلائه، وهو أصح الوجهين للشافعية لأن النبت اليابس كالصيد الميت. قال ابن قدامة: لكن في استثناء الإذخر إشارة إلى تحريم اليابس من الحشيش، ويدل عليه أن في بعض طرق حديث أبى هريرة " ولا يحتش حشيشها " قال وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبته الناس في الحرم من بقل وزرع ومشموم فلا بأس برعيه واختلائه. قوله: (فقال العباس) أي ابن عبد المطلب كما وقع مبينا في المغازي من وجه آخر. قوله: (إلا الإذخر) يجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع فعلى البدل مما قبله، وأما النصب فلكونه استثناء واقعا بعد النفي. وقال ابن مالك: المختار النصب لكون الاستثئناء وقع متراخيا عن المستثني منه فبعدت المشاكلة بالبدلية، ولكون الاستثناء أيضا عرض في آخر الكلام ولم يكن مقصودا. والإذخر: نبت معروف عند أهل مكة طيب الريح له أصل مندفن وقضبان دقاق ينبت في السهل والحزن، وبالمغرب صنف منه فيما قاله ابن البيطار، قال: والذي بمكة أجوده، وأهل مكة يسقفون به البيوت بين الخشب ويسدون به الخلل بين اللبنات في القبور ويستعملونه بدلا من الحلفاء في الوقود، ولهذا قال العباس " فإنه لقينهم " وهو بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون أي الحداد. وقال الطبري: القين عند العرب كل ذي صناعة يعالجها بنفسه، ووقع في رواية المغازي " فإنه لا بد منه للقين والبيوت " وفي الرواية التي في الباب قبله " فإنه لصاغتنا وقبورنا " ووقع في مرسل مجاهد عند عمر بن شبة الجمع بين الثلاثة، ووقع عنده أيضا " فقال العباس: يا رسول الله، إن أهل مكة لا صبر لهم عن الإذخر لقينهم وبيوتهم " وهذا يدل على أن الاستثناء في حديث الباب لم يرد به أن يستثني هو وإنما أراد به أن يلقن النبي صلى الله عليه وسلم الاستثناء، وقوله صلى الله عليه وسلم في جوابه " إلا الإذخر " هو استثناء بعض من كل لدخول الإذخر في عموم ما يختلي. واستدل به على جواز النسخ قبل الفعل وليس بواضح، وعلى جواز الفصل بين المستثني والمستثنى منه، ومذهب الجمهور اشتراط الاتصال إما لفظا إما حكما لجواز الفصل بالتنفس مثلا، وقد اشتهر عن ابن عباس الجواز مطلقا، ويمكن أن يحتج له بظاهر هذه القصة. وأجابوا عن ذلك بأن هذا الاستثناء في حكم المتصل لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول إلا الإذخر فشغله العباس بكلامه فوصل كلامه بكلام نفسه فقال: إلا الإذخر، وقد قال ابن مالك: يجوز الفصل مع إضمار الاستثناء متصلا بالمستثني منه، واختلفوا هل كان قوله صلى الله عليه وسلم "إلا الإذخر " باجتهاد أو وحي؟ وقيل كان الله فوض له الحكم في هذه المسألة مطلقا، وقيل أوحى إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء من ذلك فأجب سؤاله. وقال الطبري: ساغ للعباس أن يستثنى الإذخر لأنه احتمل عنده أن يكون المراد بتحريم مكة تحريم القتال دون ما ذكر من تحريم الاختلاء فإنه من تحريم الرسول باجتهاده فساغ له أن يسأله استثناء الإذخر، وهذا مبني على أن الرسول كان له أن يجتهد في الأحكام، وليس ما قاله بلازم بل في تقريره صلى الله عليه وسلم للعباس على ذلك دليل على جواز تخصيص العام، وحكى ابن بطال عن المهلب أن الاستثناء هنا للضرورة كتحليل أكل الميتة عند الضرورة، وقد بين العباس ذلك بأن الإذخر لا غنى لأهل مكة عنه. وتعقبه ابن المنير بأن الذي يباح للضرورة يشترط حصولها فيه، فلو كان الإذخر مثل الميتة لامتنع استعماله إلا فيمن تحققت ضرورته إليه، والإجماع على أنه مباح مطلقا بغير قيد الضرورة. انتهى. ويحتمل أن يكون مراد المهلب بأن أصل إباحته كانت للضرورة وسببها، لا أنه يريد أنه مقيد بها. قال ابن المنير: والحق أن سؤال العباس كان على معنى الضراعة، وترخيص النبي صلى الله عليه وسلم كان تبليغا عن الله إما بطريق الإلهام أو بطريق الوحي، ومن ادعى أن نزول الوحي يحتاج إلى أمد متسع فقد وهم. وفي الحديث بيان خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر في الحديث، وجواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية، والمبادرة إلى ذلك في المجامع والمشاهد، وعظيم منزلة العباس عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعنايته بأمر مكة لكونه كان بها أصله ومنشؤه، وفيه رفع وجوب الهجرة عن مكة إلى المدينة، وإبقاء حكمها من بلاد الكفر إلى يوم القيامة، وأن الجهاد يشترط أن يقصد به الإخلاص ووجوب النفير مع الأئمة. *3*باب الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ وَكَوَى ابْنُ عُمَرَ ابْنَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَيَتَدَاوَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ الشرح: قوله: (باب الحجامة للمحرم) أي هل يمنع منها أو تباح له مطلقا أو للضرورة؟ والمراد في ذلك كله المحجوم لا الحاجم. قوله: (وكوى ابن عمر ابنه وهو محرم) هذا الابن اسمه واقد، وصل ذلك سعيد بن منصور من طريق مجاهد قال " أصاب واقد بن عبد الله بن عمر برسام في الطريق وهو متوجه إلى مكة فكواه ابن عمر " فأبان أن ذلك كان للضرورة. قوله: (ويتداوى ما لم يكن فيه طيب) هذا من تتمة الترجمة، وليس في أثر ابن عمر كما ترى. وأما قول الكرماني: فاعل " يتداوى " إما المحرم وإما ابن عمر فكلام من لم يقف على أثر ابن عمر، وقد سبق في أوائل الحج في " باب الطيب عند الإحرام " قول ابن عباس " ويتداوى بما يأكل " وهو موافق لهذا، والجامع بين هذا وبين الحجامة عموم التداوي. وروى الطبري من طريق الحسن قال " إن أصاب المحرم شجة فلا بأس بأن يأخذ ما حولها من الشعر ثم يداويها بما ليس فيه طيب". الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ لَنَا عَمْرٌو أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ حَدَّثَنِي طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُمَا الشرح: قوله: (قال لنا عمرو أول شيء) أي أول مرة، في رواية الحميدي عن سفيان " حدثنا عمرو وهو ابن دينار " أخرجه أبو نعيم وأبو عوانة من طريقه. قوله: (ثم سمعته) هو مقول سفيان والضمير لعمرو، وكذا قوله " فقلت لعله سمعه " وقد بين ذلك الحميدي عن سفيان فقال: حدثنا بهذا الحديث عمرو مرتين فذكره، لكن قال: فلا أدري أسمعه منهما أو كانت إحدى الروايتين وهما، زاد أبو عوانة: قال سفيان: ذكر لي أنه سمعه منهما جميعا. وأخرجه ابن خزيمة عن عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة نحو رواية علي بن عبد الله وقال في آخره: فظننت أنه رواه عنهما جميعا. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق سليمان بن أيوب عن سفيان قال عن عمرو عن عطاء فذكره. قال: ثم حدثنا عمرو عن طاوس به، فقلت لعمرو: إنما كنت حدثتنا عن عطاء، قال: اسكت يا صبي، لم أغلط، كلاهما حدثني. قلت: فإن كان هذا محفوظا فلعل سفيان تردد في كون عمرو سمعه منهما لما خشي من كون ذلك صدر منه حالة الغضب، على أنه قد حدث به فجمعهما. قال أحمد في مسنده: حدثنا سفيان قال: قال عمرو أولا فحفظناه: قال طاوس عن ابن عباس فذكره. فقال أحمد: وقد حدثنا به سفيان فقال: قال عمرو عن عطاء وطاوس عن ابن عباس. قلت: وكذا جمعهما عن سفيان مسدد عند المصنف في الطب، وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو خيثمة وإسحاق بن راهويه عند مسلم، وقتيبة عند الترمذي والنسائي. وتابع سفيان على روايته له عن عمرو لكن عن طاوس وحده زكريا بن إسحاق، أخرجه أحمد وأبو عوانة وابن خزيمة والحاكم، وله أصل عن عطاء أيضا، أخرجه أحمد والنسائي من طريق الليث عن أبي الزبير، ومن طريق ابن جريج كلاهما عنه. (تنبيه) : زعم الكرماني أن مراد البخاري بالسياق المذكور أن عمرا حدث به سفيان أولا عن عطاء عن ابن عباس بغير واسطة، ثم حدثه به ثانيا عن عطاء بواسطة طاوس. قلت: وهو كلام من لم يقف على طريق مسدد التي في الكتاب الذي شرح فيه فضلا عن بقية الطرق التي ذكرناها، ولا تعرف مع ذلك لعطاء عن طاوس رواية أصلا، والله المستعان. قوله: (وهو محرم) زاد ابن جريج عن عطاء " صائم " (بلحي جمل) وزاد زكريا " على رأسه " وستأتي رواية عكرمة في الصوم، وهذه الزيادات موافقة لحديث ابن بحينة ثاني حديثي الباب دون ذكر الصيام. الحديث: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ الشرح: قوله: (عن علقمة بن أبي علقمة) في رواية النسائي من طريق محمد بن خالد عن سليمان " أخبرني علقمة " واسم أبي علقمة بلال، وهو مدني تابعي صغير سمع أنسا، وهو علقمة بن أم علقمة واسمها مرجانة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث. قوله: (عن عبد الرحمن الأعرج عن ابن بحينة) في رواية المصنف في الطب عن إسماعيل - وهو ابن أبي أويس - عن سليمان عن علقمة أنه سمع عبد الرحمن الأعرج أنه سمع عبد الله بن بحينة. قوله: (بلحي جمل) بفتح اللام وحكى كسرها وسكون المهملة وبفتح الجيم والميم: موضع بطريق مكة. وقد وقع مبينا في رواية إسماعيل المذكورة " بلحي حمل من طريق مكة " ذكر البكري في معجمه في رسم العقيق قال: هي بئر جمل التي ورد ذكرها في حديث أبي جهم، يعني الماضي في التيمم. وقال غيره: هي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا. ووقع في رواية أبي ذر " بلحي جمل " بصيغة التثنية، ولغيره بالإفراد. ووهم من ظنه فكي الجمل الحيوان المعروف وأنه كان آلة الحجم، وجزم الحازمي وغيره بأن ذلك كان في حجة الوداع، وسيأتي البحث في أنه هل كان صائما في كتاب الصيام. قوله: (في وسط) بفتح المهملة أي متوسطه، وهو ما فوق اليافوخ فيما بين أعلى القرنين. قال الليث: كانت هذه الحجامة في فأس الرأس، وأما التي في أعلاه فلا لأنها ربما أعمت، وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب الطب إن شاء الله تعالى. قال النووي: إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام لقطع الشعر، وإن لم تتضمنه جازت عند الجمهور، وكرهها مالك. وعن الحسن فيها الفدية وإن لم يقطع شعرا. وإن كان لضرورة جاز قطع الشعر وتجب الفدية. وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس. قال الداودي: إذا أمكن مسك المحاجم بغير حلق لم يجز الحلق. واستدل بهذا الحديث على جواز الفصد وبط الجرح والدمل وقطع العرق وقلع الضرس وغير ذلك من وجوه التداوي إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهى عنه المحرم من تناول الطيب وقطع الشعر، ولا فدية عليه في شيء من ذلك، والله أعلم. *3*باب تَزْوِيجِ الْمُحْرِمِ الشرح: قوله: (باب تزويج المحرم) أورد فيه حديث ابن عباس في تزويج ميمونة، وظاهر صنيعه أنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك، ولا أن ذلك من الخصائص، وقد ترجم في النكاح " باب نكاح المحرم " ولم يزد على إيراد هذا الحديث، ومراده بالنكاح التزويج للإجماع على إفساد الحج والعمرة بالجماع. وقد اختلف في تزويج ميمونة، فالمشهور عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم، وصح نحوه عن عائشة وأبي هريرة، وجاء عن ميمونة نفسها أنه كان حلالا، وعن أبي رافع مثله وأنه كان الرسول إليها، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفي في " باب عمرة القضاء " من كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. اختلف العلماء في هذه المسألة، فالجمهور على المنع لحديث عثمان " لا ينكح المحرم ولا ينكح " أخرجه مسلم، وأجابوا عن حديث ميمونة بأنه اختلف في الواقعة كيف كانت ولا تقوم بها الحجة، ولأنها تحتمل الخصوصية، فكان الحديث في النهي عن ذلك أولى بأن يؤخذ به. وقال عطاء وعكرمة وأهل الكوفة: يجوز للمحرم أن يتزوج كما يجوز له أن يشتري الجارية للوطء، وتعقب بأنه قياس في معارضة السنة فلا يعتبر به. وأما تأويلهم حديث عثمان بأن المراد به الوطء فمتعقب بالتصريح فيه بقوله " ولا ينكح " بضم أوله، وبقوله فيه " ولا يخطب". *3*باب مَا يُنْهَى مِنْ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَا تَلْبَسْ الْمُحْرِمَةُ ثَوْبًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ الشرح: قوله: (باب ما ينهى) أي عنه (من الطيب للمحرم والمحرمة) أي أنهما في ذلك سواء، ولم يختلف العلماء في ذلك، وإنما اختلفوا في أشياء هل تعد طيبا أو لا؟ والحكمة في منع المحرم من الطيب أنه من دواعي الجماع ومقدماته التي تفسد الإحرام، وبأنه ينافي حال المحرم فإن المحرم أشعث أغبر. قوله: (وقالت عائشة: لا تلبس المحرمة ثوبا بورس أو زعفران) وصله البيهقي من طريق معاذ عن عائشة قالت " المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوبا مسه ورس أو زعفران، ولا تبرقع ولا تلثم، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت " وقد تقدم في أوائل الباب أن المرأة كالرجل في منع الطيب إجماعا. وروى أحمد وأبو داود والحاكم أصل حديث الباب من طريق ابن إسحاق حدثني نافع عن ابن عمر بلفظ " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب " ثم أورد المصنف حديث ابن عمر " قام رجل فقال: يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس؟ " الحديث. وقد تقدم في أوائل الحج مع سائر مباحثه في " باب ما يلبس المحرم من الثياب " وزاد فيه هنا " ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين " وذكر الاختلاف في رفع هذه الزيادة ووقفها، وسأبين ما في ذلك إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنْ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا الْبَرَانِسَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا الْوَرْسُ وَلَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ وَجُوَيْرِيَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَلَا وَرْسٌ وَكَانَ يَقُولُ لَا تَتَنَقَّبْ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَا تَتَنَقَّبْ الْمُحْرِمَةُ وَتَابَعَهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ الشرح: قوله: (تابعه موسى بن عقبة) وصله النسائي من طريق عبد الله بن المبارك عنه عن نافع في آخر الزيادة المذكورة قبل. قوله (وإسماعيل بن إبراهيم) أي ابن عقبة، وهو ابن أخي موسى المذكور قبله، وقد رويناه من طريقه موصولا في " فوائد علي بن محمد المصري " من رواية السلفي عن الثقفي عن ابن بشران عنه عن يوسف بن يزيد عن يعقوب بن أبي عباد عن إسماعيل عن نافع به. قوله: (وجويرية) أى ابن أسماء، وصله أبو يعلى عن عبد الله بن محمد بن أسماء عنه عن نافع وفيه الزيادة. قوله: (وابن إسحاق) وصله أحمد وغيره كما تقدم في أول الباب. قوله: (في النقاب والقفازين) أي في ذكرهما في الحديث المرفوع. والقفاز بضم القاف وتشديد الفاء وبعد الألف زاي: ما تلبسه المرأة في يدها فيغطي أصابعها وكفيها عند معاناة الشيء كغزل ونحوه، وهو لليد كالخف للرجل. والنقاب الخمار الذي يشد على الأنف أو تحت المحاجر، وظاهره اختصاص ذلك بالمرأة، ولكن الرجل في القفاز مثلها لكونه في معنى الخف فإن كلا منهما محيط بجزء من البدن، وأما النقاب فلا يحرم على الرجل من جهة الإحرام لأنه لا يحرم عليه تغطية وجهه على الراجح كما سيأتي الكلام عليه في حديث ابن عباس في هذا الباب. قوله: (وقال عبيد الله) يعني ابن عمر العمري (ولا ورس) وكان يقول " لا تتنقب المحرمة ولا تلبس القفازين " يعني أن عبيد الله المذكور خالف المذكورين قبل في رواية هذا الحديث عن نافع فوافقهم على رفعه إلى قوله " زعفران ولا ورس " وفصل بقية الحديث فجعله من قول ابن عمر. وهذا التعليق عن عبيد الله وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عن محمد بن بشر وحماد بن مسعدة وابن خزيمة من طريق بشر ابن المفضل ثلاثتهم عن عبيد الله بن عمر عن نافع فساق الحديث إلى قوله " ولا ورس " قالا: وكان عبد الله - يعني ابن عمر - يقول " ولا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين " ورواه يحيى القطان عند النسائي وحفص ابن غياث عند الدار قطني كلاهما عن عبيد الله فاقتصر على المتفق على رفعه. قوله: (وقال مالك الخ) هو في " الموطأ " كما قال، والغرض أن مالكا اقتصر على الموقوف فقط، وفي ذلك تقوية لرواية عبيد الله وظهر الإدراج في رواية غيره. وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم بالإدراج في هذا الحديث لورود النهي عن النقاب والقفاز مفردا مرفوعا وللابتداء بالنهي عنهما في رواية ابن إسحاق المرفوعة المقدم ذكرها وقال في " الاقتراح ": دعوى الإدراج في أول المتن ضعيفة. وأجيب بأن الثقات إذا اختلفوا وكان مع أحدهم زيادة قدمت ولا سيما إن كان حافظا ولا سيما إن كان أحفظ، والأمر هنا كذلك فإن عبيد الله بن عمر في نافع أحفظ من جميع من خالفه وفد فصل المرفوع من الموقوف، وأما الذي اقتصر على الموقوف فرفعه فقد شذ بذلك وهو ضعيف، وأما الذي ابتدأ في المرفوع بالموقوف فإنه من التصرف في الرواية بالمعنى، وكأنه رأى أشياء متعاطفة فقدم وأخر لجواز ذلك عنده، ومع الذي فصل زيادة علم فهو أولى، أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي". وقال الكرماني: فإن قلت فلم قال بلفظ " قال " وثانيا بلفظ. " كان يقول "؟ قلت لعله قال ذلك مرة وهذا كان بقوله دائما مكررا، والفرق بين المرويين إما من جهة حذف المرأة وإما من جهة أن الأول بلفظ " لا تتنقب " من التفعل والثاني من الافتعال، وإما من جهة أن الثاني بضم الباء على سبيل النفي لا غير والأول بالضم والكسر نفيا ونهيا. انتهى كلامه ولا يخفى تكلفه. قوله (وتابعه ليث بن أبي سليم) أي تابع مالكا في وقفه، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من طريق فضيل بن غزوان عن نافع موقوفا علي ابن عمر. ومعنى قوله " ولا تنتقب " أي لا تستر وجهها كما تقدم. واختلف العلماء في ذلك فمنعه الجمهور وأجازه الحنفية وهو رواية عند الشافعية والمالكية، ولم يختلفوا في منعها من ستر وجهها وكفيها بما سوى النقاب والقفازين. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ وَقَصَتْ بِرَجُلٍ مُحْرِمٍ نَاقَتُهُ فَقَتَلَتْهُ فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اغْسِلُوهُ وَكَفِّنُوهُ وَلَا تُغَطُّوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُهِلُّ الشرح: قوله: (عن منصور) هو ابن المعتمر، والحكم هو ابن عتيبة. قوله (وقصت) بفتح القاف والصاد المهملة تقدم تفسيره في " باب كفن المحرم " ويأتي في " باب المحرم يموت بعرفة " بيان اختلاف في هذه اللفظة، والمراد هنا قوله " ولا تقربوه طينا " وهي بتشديد الراء، وسيأتي قريبا بلفظ " ولا تحنطوه " وهو من الحنوط بالمهملة والنون وهو الطيب الذي يصنع للميت. وقوله (يبعث ملبيا) أي على هيئته التي مات عليها. واستدل بذلك على بقاء إحرامه خلافا للمالكية والحنفية، وقد تمسكوا من هذا الحديث بلفظة اختلف في ثبوتها وهي قوله " ولا تخمروا وجهه " فقالوا: لا يجوز للمحرم تغطية وجهه، مع أنهم لا يقولون بظاهر هذا الحديث فيمن مات محرما، وأما الجمهور فأخذوا بظاهر الحديث وقالوا: إن في ثبوت ذكر الوجه مقالا، وتردد ابن المنذر في صحة. وقال البيهقي: ذكر الوجه غريب وهو وهم من بعض رواته، وفي كل ذلك نظر فإن الحديث ظاهره الصحة ولفظه عند مسلم من طريق إسرائيل عن منصور وأبي الزبير كلاهما سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر الحديث. قال منصور " ولا تغطوا وجهه " وقال أبو الزبير " ولا تكشفوا وجهه " وأخرجه النسائي من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير بلفظ " ولا تخمروا وجهه ولا رأسه " وأخرجه مسلم أيضا من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بلفظ " ولا يمس طيبا خارج رأسه " قال شعبة: ثم حدثني به بعد ذلك فقال " خارج رأسه ووجهه " انتهى. وهذه الرواية تتعلق بالتطيب لا بالكشف والتغطية، وشعبة احفظ من كل من روى هذا الحديث، فلعل بعض رواته انتقل ذهنه من التطيب إلى التغطية. وقال أهل الظاهر: يجوز للمحرم الحي تغطية وجهه ولا يجوز للمحرم الذي يموت عملا بالظاهر في الموضعين. وقال آخرون: هي واقعة عين لا عموم فيها لأنه علل ذلك بقوله " لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا " وهذا الأمر لا يتحقق وجوده في غيره فيكون خاصا بدلك الرجل؛ ولو استمر بقاؤه على إحرامه لأمر بقضاء مناسكه، وسيأتي ترجمة المصنف بنفي. وقال أبو الحسن بن القصار: لو أريد تعميم الحكم في كل محرم لقال " فإن المحرم " كما جاء " أن الشهيد يبعث وجرحه يثعب دما"، وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة في الأمر المذكور كونه كان في النسك وهي عامة في كل محرم، والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت لغيره حتى يتضح التخصيص. واختلف في الصائم بموت هل يبطل صومه بالموت حتى يجب قضاء صوم ذلك اليوم عنه أو لا يبطل؟ وقال النووي: يتأول هذا الحديث على أن النهي عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز تغطية وجهه بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطي رأسه ا ه. وروى سعيد بن منصور من طريق عطاء قال: يغطي المحرم من وجهه ما دون الحاجبين أي من أعلى. وفي رواية: ما دون عينيه. وكأنه أراد مزيد الاحتياط لكشف الرأس، والله أعلم. (تكملة) : كان وقوع المحرم المذكور عند الصخرات من عرفة. وفي الحديث إطلاق الواقف على الراكب، واستحباب دوام التلبية في الإحرام، وأنها لا تنقطع بالتوجه لعرفة، وجواز غسل المحرم بالسدر ونحوه مما لا يعد طيبا. وحكى المزني عن الشافعي أنه استدل على جواز قطع سدر الحرم بهذا الحديث لقوله فيه " واغسلوه بماء وسدر " والله أعلم. (تنبيه) : لم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية المحرم المذكور، وقد وهم بعض المتأخرين فزعم أن اسمه واقد بن عبد الله وعزاه لابن قتيبة في ترجمة عمر من كتاب المغازي، وسبب الوهم أن ابن قتيبة لما ذكر ترجمة عمر ذكر أولاده ومنهم عبد الله بن عمر، ثم ذكر أولاد عبد الله بن عمر فذكر فيهم واقد بن عبد الله بن عمر فقال: وقع عن بعيره وهو محرم فهلك، فظن هذا المتأخر أن لواقد بن عبد الله ابن عمر صحبة وأنه صاحب القصة التي وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كما ظن فإن واقدا المذكور لا صحبة له فإن أمه صفية بنت أبي عبيد إنما تزوجها أبوه في خلافة أبيه عمر واختلف في صحبتها، وذكرها العجلي وغيره في التابعين، ووجدت في الصحابة واقد بن عبد الله آخر لكن لم أر في شيء من الأخبار أنه وقع عن بعيره فهلك، بل ذكر غير واحد منهم ابن سعد أنه مات في خلافة عمر، فبطل تفسير المبهم بأنه واقد بن عبد الله من كل وجه. *3*باب الِاغْتِسَالِ لِلْمُحْرِمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَدْخُلُ الْمُحْرِمُ الْحَمَّامَ وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ بِالْحَكِّ بَأْسًا الشرح: قوله: (باب الاغتسال للمحرم) أي ترفها وتنظفا وتطهرا من الجنابة، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة، واختلفوا فيما عدا ذلك. وكأن المصنف أشار إلى ما روى عن مالك أنه كره للمحرم أن يغطي رأسه في الماء، وروى في " الموطأ " عن نافع أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام. قوله: (وقال ابن عباس يدخل المحرم الحمام) وصله الدار قطني والبيهقي من طريق أيوب عن عكرمة عنه قال: المحرم يدخل الحمام، وينزع ضرسه، وإذا انكسر ظفره طرحه ويقول: أميطوا عنكم الأذى فإن الله لا يصنع بأذاكم شيئا. وروى البيهقي من وجه آخر عن ابن عباس أنه دخل حماما بالجحفة وهو محرم وقال: إن الله لا يعبأ بأوساخكم شيئا. وروى ابن أبي شيبة كراهة ذلك عن الحسن وعطاء. قوله: (ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا) أما أثر ابن عمر فوصله البيهقي من طريق أبي مجلز قال " رأيت ابن عمر يحك رأسه وهو محرم، ففطنت له فإذا هو يحك بأطراف أنامله". وأما أثر عائشة فوصله مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه واسمها مرجانه " سمعت عائشة تسأل عن المحرم أيحك جسده؟ قال نعم وليشدد. وقالت عائشة: لو ربطت يداي ولم أجد إلا أن أحك برجلي لحككت " ا ه. ومناسبة أثر ابن عمر وعائشة للترجمة بجامع ما بين الغسل والحك من إزالة الأذى. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ اخْتَلَفَا بِالْأَبْوَاءِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ وَقَالَ الْمِسْوَرُ لَا يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ فَأَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ يُسْتَرُ بِثَوْبٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ هَذَا فَقُلْتُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ لِإِنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ اصْبُبْ فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ الشرح: قوله: (عن زيد بن أسلم عن إبراهيم) كذا في جميع الموطآت، وأغرب يحيى بن يحيى الأندلسي فأدخل بين زيد وإبراهيم نافعا. قال ابن عبد البر وذلك معدود من خطئه. قوله: (عن إبراهيم) في رواية ابن عيينة عن زيد " أخبرني إبراهيم " أخرجه أحمد وإسحاق والحميدي في مسانيدهم عنه. وفي رواية ابن جريج عند أحمد عن زيد بن أسلم " أن إبراهيم بن عبد الله بن حنين مولى ابن عباس أخبره " كذا قال " مولى ابن عباس " وقد اختلف في ذلك والمشهور أن حنينا كان مولى للعباس وهبه له النبي صلى الله عليه وسلم فأولاده موال له. قوله: (أن ابن عباس) في رواية ابن جريج عند أبي عوانة كنت مع ابن عباس والمسور. قوله: (بالأبواء) أي وهما نازلان بها. وفي رواية ابن عيينة " بالعرج " وهو بفتح أوله وإسكان ثانيه: قرية جامعة قريبة من الأبواء. قوله: (إلى أبي أيوب) زاد ابن جريج فقال " قل له يقرأ عليك السلام ابن أخيك عبد الله بن عباس ويسألك". قوله: (بين القرنين) أي قوني البئر، وكذا هو لبعض رواة الموطأ، وكذا في رواية ابن عيينة، وهما العودان - أي العمودان - المنتصبان لأجل عود البكرة. قوله: (أرسلني إليك عبد الله بن عباس يسألك كيف كان الخ) قال ابن عبد البر: الظاهر أن ابن عباس كان عنده في ذلك نص عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذه عن أبي أيوب أو غيره، ولهذا قال عبد الله بن حنين لأبي أيوب: يسألك كيف كان يغسل رأسه؟ ولم يقل هل كان يغسل رأسه أو لا على حسب ما وقع فيه اختلاف بين المسور وابن عباس. قلت: ويحتمل أن يكون عبد الله بن حنين تصرف في السؤال لفطنته، كأنه لما قال له سله هل يغتسل المحرم أو لا؟ فجاء فوجده يغتسل، فهم من ذلك أنه يغتسل، فأحب أن لا يرجع إلا بفائدة فسأله عن كيفية الغسل، وكأنه خص الرأس بالسؤال لأنها موضع الإشكال في هذه المسألة لأنها محل الشعر الذي يخشى انتتافه بخلاف بقية البدن غالبا. قوله: (فطأطاه) أي أزاله عن رأسه. وفي رواية ابن عيينة " جمع ثيابه إلى صدره حتى نظرت إليه " وفي رواية ابن جريج " حتى رأيت رأسه ووجهه". قوله: (لإنسان) لم أقف على اسمه، ثم قال أي أبو أيوب " هكذا رأيته - أي النبي صلى الله عليه وسلم - يفعل " زاد ابن عيينة " فرجعت إليهما فأخبرتهما، فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدا " أي لا أجادلك. وأصل المراء استخراج ما عند الإنسان، يقال أمرى فلان فلانا إذا استخرج ما عنده. قاله ابن الأنباري، وأطلق ذلك في المجادلة لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند الآخر من الحجة. وفي هذا الحديث من الفوائد مناظرة الصحابة في الأحكام، ورجوعهم إلى النصوص، وقبولهم لخبر الواحد ولو كان تابعيا، وأن قول بعضهم ليس بحجة على بعض. قال ابن عبد البر: لو كان معنى الاقتداء في قوله صلى الله عليه وسلم "أصحابي كالنجوم " يراد به الفتوى لما احتاج ابن عباس إلى إقامة البينة على دعواه بل كان يقول للمسور أنا نجم وأنت تجم فبأينا اقتدي من بعدنا كفاه، ولكن معناه كما قال المزني وغيره من أهل النظر أنه في النقل، لأن جميعهم عدول. وفيه اعتراف للفاضل بفضله، وإنصاف الصحابة بعضهم بعضا، وفيه استتار الغاسل عند الغسل، والاستعانة في الطهارة، وجواز الكلام والسلام حالة الطهارة، وجواز غسل المحرم وتشريبه شعره بالماء ودلكه بيده إذا أمن تناثره، واستدل به القرطبي على وجوب الدلك في الغسل قال: لأن الغسل لو كان يتم بدونه لكان المحرم أحق بأن يجوز له تركه، ولا يخفى ما فيه. واستدل به على أن تخليل شعر الحية في الوضوء باق على استحبابه، خلافا لمن قال يكره كالمتولي من الشافعية خشية انتتاف الشعر، لأن في الحديث " ثم حرك رأسه بيده " ولا فرق بين شعر الرأس واللحية إلا أن يقال إن شعر الرأس أصلب، والتحقيق أنه خلاف الأولى في حق بعض دون بعض، قاله السبكي الكبير، والله أعلم. |
|
|
08-21-2013, 04:09 PM | #522 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب لُبْسِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ الشرح:
قوله: (باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين) أي هل يشترط قطعهما أو لا؟ وأورد فيه حديث ابن عمر في ذلك وحديث ابن عباس، وقد تقدم الكلام عليه في " باب ما لا يلبس المحرم من الثياب " ووقع في رواية أبي زيد المروزي " عن سالم بن عبد الله بن عمر سئل رسول صلى الله عليه وسلم " قال الجباني: الصواب ما رواه ابن السكن وغيره فقالوا " عن سالم عن ابن عمر " قلت: تصحفت " عن " فصارت ابن. وقوله في حديث ابن عباس " ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل للمحرم " أي هذا الحكم للمحرم لا الحلال، فلا يتوقف جواز لبسه السراويل على فقد الإزار. قال القرطبي: أخذ بظاهر هذا الحديث أحمد فأجاز لبس الخف والسراويل للمحرم الذي لا يجد النعلين والإزار على حالهما. واشترط الجمهور قطع الخف وفتق السراويل، فلو لبس شيئا منهما على حاله لزمته الفدية، والدليل ثم قوله في حديث ابن عمر " وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين " فيحمل المطلق على المقيد ويلحق النظير بالنظير لاستوائهما في الحكم. وقال ابن قدامة: الأولى قطعهما عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الخلاف. انتهى. والأصح عند الشافعية والأكثر جواز لبس السراويل بغير فتق كقول أحمد، واشترط الفتق محمد ابن الحسن وإمام الحرمين وطائفة، وعن أبي حنيفة منع السراويل للمحرم مطلقا، ومثله عن مالك وكأن حديث ابن عباس لم يبلغه، ففي الموطأ أنه سئل عنه فقال: لم أسمع بهذا الحديث. وقال الرازي من الحنفية: يجوز لبسه وعليه الفدية كما قاله أصحابهم في الخفين، ومن أجاز لبس السراويل على حاله قيده بأن لا يكون في حالة لو فتقه لكان إزارا لأنه في تلك الحالة يكون واجد الإزار. *3*باب إِذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ الشرح: قوله: (باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل) أورد فيه حديث ابن عباس وقد تقدم البحث فيه في الباب الذي قبله، وجزم المصنف بالحكم في هذه المسألة دون التي قبلها لقوة دليلها وتصريح المخالف بأن الحديث لم يبلغه فيتعين على من بلغه العمل به. *3*باب لُبْسِ السِّلَاحِ لِلْمُحْرِمِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ إِذَا خَشِيَ الْعَدُوَّ لَبِسَ السِّلَاحَ وَافْتَدَى وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ فِي الْفِدْيَةِ الشرح: قوله: (باب لبس السلاح للمحرم) أي إذا احتاج إلى ذلك. قوله: (وقال عكرمة إذا خشي العدو لبس السلاح وافتدى) أي وجبت عليه الفدية، ولم أقف على أثر عكرمة هذا موصولا. وقوله "ولم يتابع عليه في الفدية " يقتضي أنه توبع على جواز لبس السلاح الخشية وخولف في وجوب الفدية، وقد نقل ابن المنذر عن الحسن أنه كره أن يتقلد المحرم السيف، وقد تقدم في العيدين قول ابن عمر للحجاج " أنت أمرت بحمل السلاح في الحرم " وقوله له " وأدخلت السلاح في الحرم ولم يكن السلاح يدخل فيه " وفي رواية " أمرت بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله " وتقدم الكلام على ذلك مستوفى في " باب من كره حمل السلاح في العيد " وذكر من روى ذلك مرفوعا. ثم أورد المصنف في الباب حديث البراء في عمرة القضاء مختصرا، وسيأتي بتمامه في كتاب الصلح عن عبيد الله ابن موسى بإسناده هذا، ووهم المزي في " الأطراف " فزعم أن البخاري أخرجه في الحج بطوله وليس كذلك. *3*باب دُخُولِ الْحَرَمِ وَمَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِهْلَالِ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لِلْحَطَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ الشرح: قوله (باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام) هو من عطف الخاص على العام، لأن المراد بمكة هنا البلد فيكون الحرم أعم. قوله (ودخل ابن عمر) وصله مالك في " الموطأ " عن نافع قال " أقبل عبد الله بن عمر من مكة حتى إذا كان بقديد - يعني بضم القاف - جاءه خبر عن الفتنة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام. قوله: (وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة ولم يذكر الحطابين وغيرهم) هو من كلام المصنف، وحاصله أنه خص الإحرام بمن أراد الحج والعمرة، واستدل بمفهوم قوله في حديث ابن عباس " ممن أراد الحج والعمرة " فمفهومه أن المتردد إلى مكة - لغير قصد الحج والعمرة - لا يلزمه الإحرام، وقد اختلف العلماء في هذا فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا، وفي قول يجب مطلقا، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب وأولى بعدم الوجوب، والمشهور عن الأئمة الثلاثة الوجوب. وفي رواية عن كل منهم لا يجب، وهو قول ابن عمر والزهري والحسن وأهل الظاهر، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات، وزعم ابن عبد البر أن أكثر الصحابة والتابعين على القول بالوجوب. ثم أورد المصنف في الباب حديثين، أحدهما: حديث ابن عباس وقد تقدم الكلام عليه في المواقيت. الثاني: حديث أنس في المغفر وقد اشتهر عن الزهري عنه، ووقع لي من رواية يزيد الرقاشي عن أنس في " فوائد أبي الحسن الفراء الموصلي". وفي الإسناد إلى يزيد مع ضعفه ضعف، وقيل إن مالكا تفرد به عن الزهري، وممن جزم بذلك ابن الصلاح في " علوم الحديث " له في الكلام على الشاذ، وتعقبه شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقي بأنه ورد من طريق ابن أخي الزهري وأبي أويس ومعمر والأوزاعي وقال: إن رواية ابن أخي الزهري عند البزار ورواية أبي أويس عند ابن سعد وابن عدي وأن رواية معمر ذكرها ابن عدي وأن رواية الأوزاعي ذكرها المزني ولم يذكر شيخنا من أخرج روايتهما، وقد وجدت رواية معمر في " فوائد ابن المقري " ورواية الأوزاعي في " فوائد تمام". ثم نقل شيخنا عن ابن مسدي أن ابن العربي قال حين قبل له لم يروه إلا مالك: قد رويته من ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك، وأنه وعد بإخراج ذلك ولم يخرج شيئا، وأطال ابن مسدي في هذه القصة وأنشد فيها شعرا، وحاصلها أنهم اتهموا ابن العربي في ذلك ونسبوه إلى المجازفة. ثم شرع ابن مسدي يقدح في أصل القصة ولم يصب في ذلك، فراوي القصة عدل متقن، والذين اتهموا ابن العربي في ذلك هم الذين أخطئوا لقلة اطلاعهم، وكأنه بخل عليهم بإخراج ذلك لما ظهر له من إنكارهم وتعنتهم، وقد تتبعت طرقه حتى وقفت على أكثر من العدد الذي ذكره ابن العربي ولله الحمد فوجدته من رواية اثني عشر نفسا غير الأربعة التي ذكرها شيخنا وهم: عقيل في " معجم ابن جميع"، ويونس بن يزيد في " الإرشاد " للخليلي وابن أبي حفص في " الرواة عن مالك للخطيب"، وابن عيينة في " مسند أبي يعلى " وأسامة بن زيد في " تاريخ نيسابور"، وابن أبي ذئب في " الحلية"، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي الموالي في " أفراد الدار قطني " وعبد الرحمن ومحمد ابنا عبد العزيز الأنصاريان في " فوائد عبد الله بن إسحاق الخراساني"، وابن إسحاق في " مسند مالك لابن عدي"، وبحر السقاء ذكره جعفر الأندلسي في تخريجه للجيزي بالجيم والزاي، وصالح بن أبي الأخضر ذكره أبو ذر الهروي عقب حديث يحيى بن قزعة عن مالك والمخرج عند البخاري في المغازي، فتبين بذلك أن إطلاق ابن الصلاح متعقب، وأن قول ابن العربي صحيح، وأن كلام من اتهمه مردود، ولكن ليس في طرقه شيء على شرط الصحيح إلا طريق مالك، وأقرنها رواية ابن أخي الزهري فقد أخرجها النسائي في " مسند مالك " وأبو عوانة في صحيحه، وتليها رواية أبي أويس أخرجها أبو عوانة أيضا وقالوا إنه كان رقيق مالك في السماع عن الزهري، فيحمل قول من قال انفرد به مالك - أي بشرط الصحة - وقول من قال توبع أي في الجملة. وعبارة الترمذي سالمة من الاعتراض فإنه قال بعد تخريجه: حسن صحيح غريب لا يعرف كثير أحد رواه غير مالك عن الزهري فقوله " كثير " يشير إلي أنه توبع في الجملة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ اقْتُلُوهُ الشرح: قوله: (عن أنس) في رواية أبي أويس عند ابن سعد " أن أنس بن مالك حدثه". قوله: (عام الفتح وعلى رأسه المغفر) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وقيل هو رفرف البيضة قاله في " المحكم". وفي " المشارق " هو ما يجعل من فضل دروع الحديد على الرأس مثل القلنسوة. وفي رواية زيد بن الحباب عن مالك " يوم الفتح وعليه مغفر من حديد " أخرجه الدار قطني في " الغرائب " والحاكم في " الإكليل " وكذا هو في رواية أبي أويس. قوله: (فلما نزعه جاءه رجل) لم أقف على اسمه، إلا أنه يحتمل أن يكون هو الذي باشر قتله، وقد جزم الفاكهي في " شرح العمدة " بأن الذي جاء بذلك هو أبو برزة الأسلمي، وكأنه لما رجح عنده أنه هو الذي قتله رأي أنه هو الذي جاء مخبرا بقصته، ويوشحه قوله في رواية يحيى بن قزعة في المغازي " فقال اقتله " بصيغة الإفراد. على أنه اختلف في اسم قاتله، ففي حديث سعيد بن يربوع عند الدار قطني والحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال " أربعة لا أؤمنهم لا في حل ولا حرم: الحويرث بن نقيد بالنون والقاف مصغر، وهلال بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن أبي سرح قال فأما هلال بن خطل فقتله الزبير " الحديث. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار والحاكم والبيهقي في " الدلائل " نحوه لكن قال " أربعة نفر وامرأتين فقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة " فذكرهم لكن قال عبد الله ابن خطل بدل هلال. وقال عكرمة بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين وقال " فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله " الحديث. وفي زيادات يونس بن بكير في المغازي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جلد نحوه. وروى ابن أبي شيبة والبيهقي في الدلائل من طريق الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس " أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم فتح مكة إلا أربعة من الناس: عبد العزى بن خطل، ومقيس ابن صبابة الكناني، وعبد الله بن أبي سرح، وأم سارة. فأما عبد العزى بن خطل فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة " وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي " أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة " وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند ابن المبارك في " البر والصلة " من حديث أبي برزة نفسه، ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله وبه جزم البلاذري وغيره من أهل العلم بالأخبار، وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في السيرة بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، ومنهم من سمى قاتله سعيد بن ذؤيب، وحكى المحب الطبري أن الزبير بن العوام هو الذي قتل ابن خطل. وروى الحاكم من طريق أبي معشر عن يوسف بن يعقوب عن السائب بن يزيد قال " فأخذ عبد الله بن خطل من تحت أستار الكعبة بقتل بن المقام وزمزم". وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس: ستة رجال وأربع نسوة. والسبب في قتل ابن خطل وعدم دخوله في قوله " من دخل المسجد فهو آمن " ما روى ابن إسحاق في المغازي " حدثني عبد الله بن أبي بكر وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة قال: لا يقتل أحد من قاتل، إلا نفرا سماهم فقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد، وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى يخدمه وكان مسلما، فنزل منزلا، فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الفاكهي من طريق ابن جريج قال: قال مولى ابن عباس: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار ورجلا من مزينة وابن خطل وقال: أطيعا الأنصاري حتى ترجعا، فقتل ابن خطل الأنصاري وهرب المزني. وكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح. ومن النفر الذين كان أهدر دمهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح غير من تقدم ذكره هبار بن الأسود وعكرمة ابن أبي جهل كعب بن زهير ووحشي بن حرب وأسيد بن إياس بن أبي زنيم وقينتا ابن خطل وهند بنت عتبة. والجمع بين ما اختلف فيه من اسمه أنه كان يسمى عبد العزى فلما أسلم سمى عبد الله، وأما من قال هلال فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال، بين ذلك الكلبي في النسب، وقيل هو عبد الله بن هلال بن خطل، وقيل غالب بن عبد الله بن خطل، واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب. وهذا الحديث ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح لم يكن محرما، وقد صرح بذلك مالك راوي الحديث كما ذكره المصنف في المغازي عن يحيى بن قزعة عن مالك عقب هذا الحديث. قال مالك: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فما نرى - والله أعلم - يومئذ محرما ا ه. وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك جازما به، أخرجه الدار قطني في " الغرائب". ووقع في " الموطأ " من رواية أبي مصعب وغيره قال مالك " قال ابن شهاب ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما " وهذا مرسل، ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ " دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام " وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طاوس قال " لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرما إلا يوم فتح مكة " وزعم الحاكم في " الإكليل " أن بين حديث أنس في المغفر وبين حديث جابر في العمامة السوداء معارضة، وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه، ويؤيده أن في حديث عمرو بن حديث عمرو بن حريث " أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء " أخرجه مسلم أيضا، وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول، وهذا الجمع لعياض. وقال غيره: يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدأ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيئا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم، وبهذا يندفع إشكال من قال: لا دلالة في الحديث على جواز دخول مكة بغير إحرام لاحتمال أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان محرما ولكنه غطى رأسه لعذر، فقد اندفع ذلك بتصريح جابر بأنه لم يكن محرما، لكن فيه إشكال من وجه آخر لأنه صلى الله عليه وسلم كان متأهبا للقتال ومن كان كذلك جاز له الدخول بغير إحرام عند الشافعية وإن كان عياض نقل الاتفاق على مقابله، وأما من قال من الشافعية كابن القاص: دخول مكة بغير إحرام من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ففيه نظر، لأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، لكن زعم الطحاوي أن دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي شريح وغيره إنها لم تحل له إلا ساعة من نهار، وأن المراد بذلك جواز دخولهما له بغير إحرام لا تحريم القتل والقتال فيها لأنهم أجمعوا على أن المشركين لو غلبوا والعياذ بالله تعالى على مكة حل للمسلمين قتالهم قتلهم فيها وقد عكس استدلاله النووي فقال: في الحديث دلالة على أن مكة تبقى دار إسلام إلى يوم القيامة، فبطل ما صوره الطحاوي. وفي دعواه الإجماع نظر فإن الخلاف ثابت كما تقدم، وقد حكاه القفال والماوردي وغيرهما، واستدل بحديث الباب على أنه صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة، وأجاب النووي بأنه صلى الله عليه وسلم كان صالحهم، لكن لما لم يأمن غدرهم دخل متأهبا، وهذا جواب قوي إلا أن الشأن في ثبوت كونه صالحهم فإنه لا يعرف في شيء من الأخبار صريحا كما سيأتي إيضاحه في الكلام على فتح مكة من المغازي إن شاء الله تعالى. واستدل بقصة ابن خطل على جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة، قال ابن عبد البر: كان تل ابن خطل قودا من قتله المسلم. وقال السهيلي: فيه أن الكعبة لا تعيذ عاصيا ولا تمنع من إقامة حد واجب. وقال النووي: تأول من قال لا يقتل فيها على أنه صلى الله عليه وسلم قتله في الساعة التي أبيحت له، وأجاب عنه أصحابنا بأنها إنما أبيحت له ساعة الدخول حتى استولى عليها وأذعن أهلها، وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك. انتهى. وتعقب بما تقدم في الكلام على حديث أبي شريح أن المرد بالساعة التي أحلت له ما بين أول النهار ودخول وقت العصر، وقتل ابن خطل كان قبل ذلك قطعا لأنه قيد في الحديث بأنه كان عند نزعه المغفر وذلك عند استقراره بمكة، وقد قال ابن خزيمة: المراد بقوله في حديث ابن عباس " ما أحل الله لأحد فيه القتل غيري " أي قتل النفر الذين قتلوا يومئذ ابن خطل ومن ذكر معه. قال: وكان الله قد أباح له القتال والقتل معا في تلك الساعة، وقتل ابن خطل وغيره بعد تقضي القتال. واستدل به على جواز قتل الذي إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر كما قاله ابن عبد البر لأن ابن خطل كان حربيا ولم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمانة لأهل مكة، بل استثناه مع من استثني وخرج أمره بقتله مع أمانة لغيره مخرجا واحدا، فلا دلالة فيه لما ذكره. انتهى ويمكن أن يتمسك به في جواز قتل من فعل ذلك بغير استتابة من غير تقييد بكونه ذميا، لكن ابن خطل عمل بموجبات القتل فلم يتحتم أن سبب قتله السب، واستدل به على جواز قتل الأسير صبرا لأن القدرة على ابن خطل صيرته كالأسير في يد الإمام وهو مخير فيه بين القتل وغيره لكن قال الخطابي إنه صلى الله عليه وسلم قتله بما جناه في الإسلام. وقال ابن عبد البر: قتله قودا من دم المسلم الذي غدر به وقتله ثم ارتد كما تقدم. واستدل به على جواز قتل الأسير من غير أن يعرض عليه الإسلام، ترجم بذلك أبو داود. وفيه مشروعية لبس المغفر وغيره من آلات السلاح حال الخوف من العدو وأنه لا ينافي التوكل، وقد تقدم في " باب متى يحل للمعتمر " من أبواب العمرة من حديث عبد الله بن أبي أوفى " اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل مكة طاف وطفنا معه ومعه من يستره من أهل مكة أن يرميه أحد " الحديث، وإنما احتاج إلى ذلك لأنه كان حينئذ محرما فخشي الصحابة أن يرميه بعض سفهاء المشركين بشيء يؤذيه فكانوا حوله يسترون رأسه ويحفظونه من ذلك. وفيه جواز رفع أخبار أهل الفساد إلى ولاة الأمر، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة ولا النميمة. |
08-21-2013, 04:11 PM | #523 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب إِذَا أَحْرَمَ جَاهِلًا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ وَقَالَ عَطَاءٌ إِذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ
الشرح: قوله: (باب إذا أحرم جاهلا وعليه قميص) أي هل يلزمه فدية أو لا؟ وإنما لم يجزم بالحكم لأن حديث الباب لا تصريح فيه بإسقاط الفدية، ومن ثم استظهر المصنف للراجح بقول عطاء راوي الحديث كأنه يشير إلى أنه أو كانت الفدية واجبة لما خفيت عن عطاء وهو راوي الحديث. قال ابن بطال وغيره: وجه الدلالة منه أنه لو لزمته الفدية لبينها صلى الله عليه وسلم لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وفرق مالك - فيمن تطيب أو لبس ناسيا - بين من بادر فنزع وغسل وبين من تمادى، والشافعي أشد موافقة للحديث لأن السائل في حديث الباب كان غير عارف بالحكم وقد تمادى ومع ذلك لم يؤمر بالفدية، وقول مالك فيه احتياط، وأما قول الكوفيين والمزني مخالف هذا الحديث. وأجاب ابن المنير في الحاشية بأن الوقت الذي أحرم فيه الرجل في الجبة كان قبل نزول الحكم ولهذا انتظر النبي صلى الله عليه وسلم الوحي. قال: ولا خلاف أن التكليف لا يتوجه على المكلف قبل نزول الحكم فلهذا لم يؤمر الرجل بفدية عما مضى، بخلاف من لبس الآن جاهلا فإنه جهل حكما استقر وقصر في علم ما كان عليه أن يتعلمه لكونه مكلفا به وقد تمكن من تعلمه. قوله: (وقال عطاء الخ) ذكره ابن المنذر في الأوسط ووصله الطبراني في الكبير، وأما حديث يعلى فقد تقدم الكلام عليه مستوفى في " باب غسل الخلوق " في أوائل الحج. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ قَالَ حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ عَلَيْهِ جُبَّةٌ فِيهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ أَوْ نَحْوُهُ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِي تُحِبُّ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَنْ تَرَاهُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ وَعَضَّ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ يَعْنِي فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ فَأَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله في الإسناد (صفوان بن يعلى بن أمية قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم) هذا وقع في رواية أبي ذر وهو تصحيف، والصواب ما ثبت في رواية غيره " صفوان بن يعلى أبيه " فتصحفت " عن " فصارت ابن و " أبيه " فصارت أمية، أو سقط من السند عن أبيه، وليست لصفوان صحة ولا رواية. قوله: (وعض رجل يد رجل) هذا حديث آخر وسيأتي مبسوطا مع الكلام عليه في أبواب الدية إن شاء الله تعالى. *3*باب الْمُحْرِمِ يَمُوتُ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ بَقِيَّةُ الْحَجِّ الشرح: قوله: (باب المحرم يموت بعرفة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه بقية الحج) يعني لم ينقل ذلك. وذكر فيه حديث ابن عباس في الرجل المحرم الذي وقع عن بعيره بعرفة فمات، وقد تقدم التنبيه عليه في " باب ما ينهى عن الطيب محرم " وأورده المصنف من حديث حماد بن زيد عن عمرو ابن دينار وعن أيوب فرقهما كلاهما عن سعيد بن جبير، ووقع في رواية عمرو " فوقصته أو قال فأقعصته " وفي رواية أيوب " فوقصته أو قال فأوقصته " وكلها بمعنى، وزاد في رواية أيوب " ولا تمسوه طيبا " والباقي سواء. وقد وقع عند مسلم من رواية إسماعيل بن علية في هذا الحديث عن أيوب قال " نبئت عن سعيد بن حبير " فالله أعلم. *3*باب سُنَّةِ الْمُحْرِمِ إِذَا مَاتَ الشرح: قوله: (باب سنة المحرم إذا مات) ذكر فيه حديث ابن عباس المذكور من وجه آخر " عن سعيد ابن جبير " وقد سبق. *3*باب الْحَجِّ وَالنُّذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنْ الْمَرْأَةِ الشرح: قوله (باب الحج والنذور عن الميت) كذا ثبت للأكثر بلفظ الجمع. وفي رواية النسفي " النذر " بالإفراد. قوله: (والرجل يحج عن المرأة) يعني أن حديث الباب يستدل به على الحكمين، وفيه على الحكم الثاني نظر، لأن لفظ الحديث " أن امرأة سألت عن نذر كان على أبيها " فكان حق الترجمة أن يقول والمرأة تحج عن الرجل، وأجاب ابن بطال بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب المرأة بخطاب دخل فيه الرجال والنساء وهو قوله " اقضوا الله " قال: ولا خلاف في جواز حج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل، ولم يخالف في جواز حج الرجل عن المرأة والمرأة عن الرجل إلا الحسن بن صالح. انتهى. والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالترجمة إلى رواية شعبة عن أبي بشر في هذا الحديث فإنه قال فيها " أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت أن تحج " الحديث وفيه " فاقض الله فهو أحق بالقضاء". أخرجه المصنف في كتاب النذور، وكذا أخرجه أحمد والنسائي من طريق شعبة. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ الشرح: قوله: (إن امرأة من جهينة) لم أقف على اسمها ولا على اسم أبيها، لكن روى ابن وهب عن عثمان ابن عطاء الخراساني عن أبيه " أن غاثية أو غاثية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها نذر أن تمشي إلى الكعبة، فقال اقض عنها". أخرجه ابن مندة في حرف الغين المعجمة من الصحابيات، وتردد هل هي بتقديم المثناة التحتانية على المثلثة أو بالعكس، وجزم ابن طاهر في المبهمات بأنه اسم الجهينية المذكورة في حديث الباب. وقد روى النسائي وابن خزيمة وأحمد من طريق موسى بن سلمة الهذلي عن ابن عباس قال " أمرت امرأة سنان بن عبد الله الجهني أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمها توفيت ولم تحج " الحديث لفظ أحمد، ووقع عند النسائي " سنان بن سلمة " والأول أصح، وهذا لا يفسر به المبهم في حديث الباب أن المرأة سألت بنفسها وفي هذا أن زوجها سأل لها، ويمكن الجمع بأن يكون نسبة السؤال إليها مجازية وإنما الذي تولى لها السؤال زوجها، وغايته أنه في هذه الرواية لم يصرح بأن الحجة المسئول عنها كانت نذرا، وأما ما روى ابن ماجة من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني أن عمته حدثته أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي توفيت وعليها مشي إلى الكعبة نذرا، الحديث. فإن كان محفوظا حمل على واقعتين بأن تكون امرأته سألت على لسانه عن حجة أمها المفروضة، وبأن تكون عمته سألت بنفسها عن حجة أمها المنذورة، ويفسر من في حديث الباب بأنها عمة سنان واسمها غايثة كما تقدم، ولم تسم المرأة ولا العمة ولا أم واحدة منهما. قوله: (إن أمي نذرت أن تحج) كذا رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس من رواية أبي عوانة عنه، وسيأتي في النذور من طريق شعبة عن أبي بشر بلفظ " أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت " فإن كان محفوظا احتمل أن يكون كل من الأخ سأل عن أخته والبنت سألت عن أمها، وسيأتي في الصيام من طريق أخرى عن سعيد بن جبير بلفظ " قالت امرأة إن أمي ماتت وعليها صوم شهر " وسيأتي بسط القول فيه هناك. وزعم بعض المخالفين أنه اضطراب يعل به الحديث، وليس كما قال، فإنه محمول على أن المرأة سألت عن كل من الصوم والحج، ويدل عليه ما رواه مسلم عن بريدة " أن امرأة قالت: يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية وأنها ماتت، قال: وجب أجرك وردها عليك الميراث. قالت: إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها. قالت إنها لم تحج أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها". وللسؤال عن قصة الحج من حديث ابن عباس أصل آخر أخرجه النسائي من طريق سليمان بن يسار عنه، وله شاهد من حديث أنس عند البزار والطبراني والدار قطني واستدل به على صحة نذر الحج ممن لم يحج فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام عند الجمهور وعليه الحج عن النذر، وقيل يجزئ عن النذر ثم يحج حجة الإسلام، وقيل يجزئ عنهما. قوله: (قال نعم حجي عنها) في رواية موسى بن سلمة " أفيجزئ عنها أن أحج عنها؟ قال نعم". قوله: (أرأيت الخ) فيه مشروعية القياس وضرب المثل ليكون أوضح وأوقع في نفس السامع وأقرب إلى سرعة فهمه، وفيه تشبيه ما اختلف فيه وأشكل بما اتفق عليه. وفيه أنه يستحب للمفتي التنبيه على وجه الدليل إذا ترتبت على ذلك مصلحة وهو أطيب لنفس المستفتي وأدعى لإذعانه. وفيه أن وفاء الدين المالي عن الميت كان معلوما عندهم مقررا ولهذا حسن الإلحاق به. وفيه إجزاء الحج عن الميت، وفيه اختلاف: فروى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عمر بإسناد صحيح لا يحج أحد عن أحد، ونحوه عن مالك والليث، وعن مالك أيضا إن أوصى بذلك فليحج عنه وإلا فلا، وسيأتي البحث في ذلك في الباب الذي يليه. قوله: (أكنت قاضيته) كذا للأكثر بضمير يعود على الدين، وللكشميهني قاضية بوزن فاعلة على حذف المفعول. وفيه أن من مات وعليه حج وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من رأس ماله كما أن عليه قضاء ديونه، فقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس المال فكذلك ما شبه به في القضاء، ويلتحق بالحج كل حق ثبت في ذمته من كفارة أو نذر أو زكاة أو غير ذلك. وفي قوله " فالله أحق بالوفاء " دليل على أنه مقدم على دين الآدمي، وهو أحد أقوال الشافعي، وقيل بالعكس، وقيل هما سواء. قال الطيبي: في الحديث إشعار بأن المسئول عنه خلف مالا فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن حق الله مقدم على حق العباد وأوجب عليه الحج عنه والجامع علة المالية. قلت: ولم يتحتم في الجواب المذكور أن يكون خلف مالا كما زعم، لأن قوله " أكنت قاضيته " أعم من أن يكون المراد مما خلفه أو تبرعا. *3*باب الْحَجِّ عَمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ الثُّبُوتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ الشرح: قوله: (باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة) أى من الأحياء، خلافا لمالك في ذلك ولمن قال لا يحج أحد عن أحد مطلقا كابن عمر. ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي، وعن أحمد روايتان. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ امْرَأَةً ح حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ الشرح: قوله: (عن ابن شهاب عن سليمان) في رواية الترمذي من طريق روح عن ابن جريج " أخبرني ابن شهاب حدثني سليمان بن يسار". قوله: (عن ابن عباس) في رواية شعيب الآتية في الاستئذان عن ابن شهاب " أخبرني سليمان أخبرني عبد الله بن عباس". قوله: (عن الفضل بن عباس) كذا قال ابن جريج وتابعه معمر، وخالفهما مالك وأكثر الرواة عن الزهري فلم يقولوا فيه عن الفضل، وروى ابن ماجة من طريق محمد بن كريب عن أبيه " عن ابن عباس أخبرني حصين بن عوف الخثعمي قال: قلت يا رسول الله إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج " الحديث. قال الترمذي: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا فقال: أصح شيء فيه ما روى ابن عباس عن الفضل قال: فيحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل ومن غيره ثم رواه بغير واسطة، ا ه. وإنما رجح البخاري الرواية عن الفضل لأنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وكان ابن عباس قد تقدم من مزدلفة إلى منى مع الضعفة كما سيأتي بعد باب، وقد سبق في " باب التلبية والتكبير " من طريق عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل فأخبر الفضل أعمه لم يزل يلبي حتى رمي الجمرة، فكأن الفضل حدث أخاه بما شاهده في تلك الحالة. ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة فحضره ابن عباس فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة وتارة عما شاهده، ويؤيد ذلك ما وقع عند الترمذي وأحمد وابنه عبد الله والطبري من حديث على مما يدل على أن السؤال المذكور وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي وأن العباس كان شاهدا، ولفظ أحمد عندهم من طريق عبيد الله ابن أبي رافع عن على قال " وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: هذه عرفة وهو الموقف " فذكر الحديث وفيه " ثم أتى الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر فقال: هذا المنحر وكل متى منحر، واستفتته " وفي رواية عبد الله " ثم جاءته جارية شابة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير قد أدركته فريضة الله في الحج، أفيجزئ أن أحج عنه؟ قال: حجي عن أبيك. قال ولوى عنق الفضل فقال العباس: يا رسول الله لويت عنق ابن عمك. قال: رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان " وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه. (تنبيه) : لم يسق المصنف لفظ رواية ابن جريج، بل تحول إلى إسناد عبد العزيز بن أبي سلمة وساق الحديث على لفظه كعادته، وبقية حديث ابن جريح " أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي أدركه الحج وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يركب البعير، أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه " أخرجه أبو مسلم الكجي عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه، والطبراني عن أبي مسلم كذلك، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن جريج فقال " إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج " الحديث. قوله: (عام حجة الوداع) في رواية شعيب الآتية في الاستئذان " يوم النحر " وللنسائي من طريق ابن عيينة عن ابن شهاب " غداة جمع " وسيأتي بقية الكلام عليه في الباب الذي بعده. *3*باب حَجِّ الْمَرْأَةِ عَنْ الرَّجُلِ الشرح: قوله: (باب حج المرأة عن الرجل) تقدم نقل الخلاف فيه قبل باب. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ فَقَالَتْ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الشرح: قوله: (كان الفضل) يعني ابن عباس، وهو أخو عبد الله وكان أكبر ولد العباس وبه كان يكني. قوله: (رديف) زاد شعيب " على عجز راحلته". قوله: (فجاءته امرأة من خثعم) بفتح المعجمة وسكون المثلثة قبيلة مشهورة. قوله: (فجعل الفضل ينظر إليها) في رواية شعيب " وكان الفضل رجلا وضيئا - أي جميلا - وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها". قوله: (يصرف وجه الفضل) في رواية شعيب " فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فدفع وجهه عن النظر إليها " وهذا هو المراد بقوله في حديث على " فلوى عنق الفضل " ووقع في رواية الطبري في حديث على " وكان الفضل غلاما جميلا، فإذا جاءت الجارية من هذا الشق صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الفضل إلى الشق الآخر، فإذا جاءت إلى الشق الآخر صرف وجهه عنها - وقال في آخره - رأيت غلاما حدثا وجارية حدثه فخشيت أن يدخل بنيهما الشيطان". قوله: (إن فريضة الله أدراكت أبي شيخا كبيرا) في رواية عبد العزيز وشعيب " أن فريضة الله على عباده في الحج " وفي رواية النسائي من طريق يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان بن يسار " أن أبي أدركه الحج"، واتفقت الروايات كلها عن ابن شهاب على أن السائلة كانت امرأة وأنها سألت عن أبيها، وخالفه يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان فاتفق الرواة عنه على أن السائل رجل، ثم اختلفوا عليه في إسناده ومتنه، أما إسناده فقال هشيم عنه " عن سليمان عن عبد الله بن عباس " وقال محمد بن سيرين عنه " عن سليمان عن الفضل " أخرجهما النسائي. وقال ابن علية عنه " عن سليمان حدثني أحد ابني العباس إما الفضل وإما عبد الله " أخرجه أحمد. وأما المتن فقال هشيم " أن رجلا سأل فقال: إن أبي مات " وقال ابن سيرين " فجاء رجل فقال: إن أمي عجوز كبيرة " وقال ابن علية " فجاء رجل فقال: إن أبي أو أمي " وخالف الجميع معمر عن يحيى بن أبي إسحاق فقال في روايته " إن امرأة سألت عن أمها " وهذا الاختلاف كله عن سليمان بن يسار، فأحببنا أن ننظر في سياق غيره فإذا كريب قد رواه عن ابن عباس عن حصين بن عوف الخثعمي قال " قلت يا رسول الله إن أبي أدركه الحج " وإذا عطاء الخراساني قد روى " عن أبي الغوث بن حصين الخثعمي أنه استفتى النبي صلى الله عليه وسلم عن حجة كانت على أبيه " أخرجهما ابن ماجة. والرواية الأولى أقوى إسنادا، وهذا يوافق رواية هشيم في أن السائل عن ذلك رجل سأل عن أبيه، ويوافقه ما روي الطبراني من طريق عبد الله بن شداد عن الفضل بن عباس " أن رجلا قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير " ويوافقهما مرسل الحسن عند ابن خزيمة فإنه أخرجه من طريق عوف عن الحسن قال " بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال إن أبي شيخ كبير أدرك الإسلام لم يحج " الحديث، ثم ساقه من طريق عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال مثله إلا أنه قال إن السائل سأل عن أمه. قلت: وهذا يوافق رواية ابن سيرين أيضا عن يحيى بن أبي إسحاق كما تقدم. والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق أن السائل رجل وكانت ابنته معه فسألت أيضا والمسئول عنه أبو الرجل وأمه جميعا. ويقرب ذلك ما رواه أبو يعلي بإسناد قوي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال " كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم وأعرابي معه بنت له حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها، وجعلت التفت إليها، ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسي فيلويه، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة " فعلى هذا فقول الشابة أن أبي لعلها أرادت به جدها لأن أباها كان معها وكأنه أمرها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامها ويراها رجاء أن يتزوجها، فلما لم يرضها سأل أبوها عن أبيه، ولا مانع أن يسأل أيضا عن أمه. وتحصل من هذه الروايات أن اسم الرجل حصين بن عوف الخثعمي. وأما ما وقع في الرواية الأخرى أنه أبو الغوث بن حصين فإن إسنادها ضعيف ولعله كان فيه عن أبي الغوث حصين فزيد في الرواية ابن أو أن أبا الغوث أيضا كان مع أبيه حصين فسأل كما سأل أبوه وأخته. والله أعلم. ووقع السؤال عن هذه المسألة من شخص آخر وهو أبو رزين - بفتح الراء كسر الزاي - العقيلي بالتصغير واسمه لقيط بن عامر، ففي السنن وصحيح ابن خزيمة وغيرهما من حديثه أنه قال " يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، قال: حج عن أبيك واعتمر " وهذه قصة أخرى، ومن وجد بينها وبين حديث الخثعمي فقد أبعد وتكلف. قوله: (شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة) قال الطيبي: " شيخا " حال ولا يثبت صفة له، ويحتمل أن يكون حالا أيضا ويكون من الأحوال المتداخلة، والمعنى أنه وجب عليه الحج بأن أسلم وهو بهذه الصفة. وقوله "لا يثبت " وقع في رواية عبد العزيز وشعيب " لا يستطيع أن يستوي " وفي رواية ابن عيينة " لا يستمسك على الرحل". في رواية يحيى بن أبي إسحاق من الزيادة " وإن شددته خشيت أن يموت " وكذا في مرسل الحسن، وحديث أبي هريرة عند ابن خزيمة بلفظ " وإن شددته بالحبل على الراحلة خشيت أن أقتله " وهذا يفهم منه أن من قدر على غير هذين الأمرين من الثبوت على الراحلة أو الأمن عليه من الأذى لو ربط لم يرخص له في الحج عنه كمن يقدر على محمل موطأ كالمحفة. قوله: (أفأحج عنه) أي أيجوز لي أن أنوب عنه فأحج عنه، لأن ما بعد الفاء الداخلة عليها الهمزة معطوف على مقدر. وفي رواية عبد العزيز وشعيب " فهل يقضي عنه " وفي حديث علي " هل يجزئ عنه". قوله: (قال نعم) في حديث أبي هريرة فقال " احجج عن أبيك". وفي هذا الحديث من الفوائد جواز الحج عن الغير، واستدل الكوفيون بعمومه على جواز صحة من لم يحج نيابة عن غيره، وخالفهم الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه، واستدلوا بما في السنن وصحيح ابن خزيمة وغيره من حديث ابن عباس أيضا " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلا يلبي من شبرمة فقال: أحججت عن نفسك؟ فقال: لا. قال: هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة". واستدل به على أن الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس، وعكس بعض المالكية فقال: من لم يستطع بنفسه لم يلاقه الوجوب، وأجابوا عن حديث الباب بأن ذلك وقع من السائل على جهة التبرع وليس في شيء من طرقه تصريح بالوجوب، وبأنها عبادة بدنية فلا تصح النيابة فيها كالصلاة، وقد نقل الطبري وغيره الإجماع على أن النيابة لا تدخل في الصلاة، قالوا ولأن العبادات فرضت على جهة الابتلاء، وهو لا يوجد في العبادات البدنية إلا بإتعاب البدن فبه يظهر الانقياد أو النفور، بخلاف الزكاة فإن الابتلاء فيها بنقص المال، وهو حاصل بالنفس وبالغير. وأجيب بأن قياس الحج على الصلاة لا يصح، لأن عبادة الحج مالية بدنية معا فلا يترجح إلحاقها بالصلاة على إلحاقها بالزكاة، ولهذا قال المازري: من غلب حكم البدن في الحج ألحقه بالصلاة، ومن غلب حكم المال ألحقه بالصدقة. وقد أجاز المالكية الحج عن الغير إذا أوصى به ولم يجيزوا ذلك في الصلاة، وبأن حصر الابتلاء في المباشرة ممنوع لأنه يوجد في الآمر من بذله المال في الأجرة. وقال عياض: لا حجة للمخالف في حديث الباب لأن قوله " إن فريضة الله على عباده الخ " معناه أن إلزام الله عباده بالحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبي بصفة من لا يستطيع فهل أحج عنه؟ أي هل يجوز لي ذلك، أو هل فيه أجر ومنفعة؟ فقال: نعم. وتعقب بأن في بعض طرقه التصريح بالسؤال عن الإجزاء فيتم الاستدلال، وتقدم في بعض طرق مسلم " أن أبي عليه فريضة الله في الحج " ولأحمد في رواية " والحج مكتوب عليه " وادعى بعضهم أن هذه القصة مختصة بالخثعمية كما اختص سالم مولى أبي حذيفة بجواز إرضاع الكبير، حكاه ابن عبد البر، وتعقب بأن الأصل عدم الخصوصية، واحتج بعضهم لذلك بما رواه عبد الملك بن حبيب صاحب " الواضحة " بإسنادين مرسلين فزاد في الحديث " حج عنه، وليس لأحد بعده " ولا حجة فيه لضعف الإسنادين مع إرسالهما. وقد عارضه قوله في حديث الجهنية الماضي في الباب " اقضوا الله فالله أحق بالوفاء " وادعى آخرون منهم أن ذلك خاص بالابن يحج عن أبيه، ولا يخفى أنه جمود. وقال القرطبي: رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن فرجح ظاهر القرآن، ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره ومن جهة أن القول المذكور قول امرأة ظنت ظنا، قال: ولا يقال قد أجابها النبي صلى الله عليه وسلم على سؤالها، ولو كان ظنها غلطا لبينه لها، لأنا نقول إنما أجابها عن قولها " أفأحج عنه؟ قال حجي عنه " لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها، ا ه. وتعقب بأن في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لها على ذلك حجة ظاهرة، وأما ما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد في الحديث " حج عن أبيك فإن لم يزده خبرا لم يزده شرا " فقد جزم الحفاظ بأنها رواية شاذة، وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها للمخالف. ومن فروع المسألة أن لا فوق بين من استقر الوجوب في ذمته قبل العضب أو طرأ عليه خلافا للحنفية، وللجمهور ظاهر قصة الخثعمية وأن من حج عن غيره وقع الحج عن المستنيب، خلافا لمحمد بن الحسن فقال: يقع عن المباشر وللمحجوج عنه أجر النفقة. واختلفوا فيما أذاعوا في المعضوب فقال الجمهور: لا يجزئه لأنه تبين أنه لم يكن ميئوسا منه. وقال أحمد وإسحاق: لا تلزمه الإعادة لئلا يفضي إلى إيجاب حجتين. واتفق من أجاز النيابة في الحج على أنها لا تجزئ في الفرض إلا عن موت أو عضب، فلا يدخل المريض لأنه يرجى برؤه ولا المجنون لأنه ترجى إفاقته ولا المحبوس لأنه يرجى خلاصه ولا الفقير لأنه يمكن استغناؤه، والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد أيضا جواز الارتداف وسيأتي مبسوطا قبيل كتاب الأدب، وارتداف المرأة مع الرجل، وتواضع النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلة الفضل بن عباس منه، وبيان ما ركب في الآدمي من الشهوة وجبلت طباعه عليه من النظر إلى الصور الحسنة. وفيه منع النظر إلي الأجنبيات وغض البصر، قال عياض: وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة. قال: وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول. ثم قال: لعل الفضل لم ينظر نظرا ينكر بل خشي عليه أن يئول إلى ذلك أو كان قبل نزول الأمر بإدناء الجلابيب. ويؤخذ منه التفريق بين الرجال والنساء خشية الفتنة، وجواز كلام المرأة وسماع صوتها للأجانب عند الضرورة كالاستفتاء عن العلم والترافع في الحكم والمعاملة. وفيه أن إحرام المرأة في وجهها فيجوز لها كشفه في الإحرام، وروى أحمد وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للفضل حين غطى وجهه يوم عرفة " هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له". وفي هذا الحديث أيضا النيابة في السؤال عن العلم حتى من المرأة عن الرجل وأن المرأة تحج بغير محرم، وأن المحرم ليس من السبيل المشترط في الحج، لكن الذي تقدم من أنها كانت مع أبيها قد يرد على ذلك. وفيه بر الوالدين والاعتناء بأمرهما والقيام بمصالحهما من قضاء دين وخدمة ونفقه وغير ذلك من أمور الدين والدنيا. واستدل به على أن العمرة غير واجبة لكون الخثعمية لم تذكرها، ولا حجة فيه لأن مجرد ترك السؤال لا يدل على عدم الوجود لاستفادة ذلك من حكم الحج، ولاحتمال أن يكون أبوها قد اعتمر قبل الحج، على أن السؤال عن الحج والعمرة قد وقع في حديث أبي رزين كما تقدم. وقال ابن العربي: حديث الخثعمية أصل متفق على صحته في الحج خارج عن القاعدة المستقرة في الشريعة من أن ليس عموم للإنسان إلا ما سعى رفقا من الله في استدراك ما فرط فيه المرء بولده وماله، وتعقب بأنه يمكن أن يدخل في عموم السعي، وبأن عموم السعي في الآية مخصوص اتفاقا. *3*باب حَجِّ الصِّبْيَانِ الشرح: قوله: (باب حج الصبيان) أي مشروعيته، وكأن الحديث الصريح فيه ليس على شرط المصنف، وهو ما رواه مسلم من طريق كريب عن ابن عباس قال " رفعت امرأة صبيا فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم. ولك أجر " قال ابن بطال: أجمع أئمة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي حتى يبلغ، إلا أنه إذا حج به كان له تطوعا عند الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يصح إحرامه ولا يلزمه شيء بفعل شيء من محظورات الإحرام، وإنما يحج به على جهة التدريب، وشذ بعضهم فقال: إذا حج الصبي أجزأه ذلك عن حجة الإسلام، لظاهر قوله " نعم " في جواب " ألهذا حج". وقال الطحاوي: لا حجة فيه لذلك، بل فيه حجة على من زعم أنه لا حج له، لأن ابن عباس راوي الحديث قال: أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى، ثم ساقه بإسناد صحيح. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ بَعَثَنِي أَوْ قَدَّمَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الثَّقَلِ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ الشرح: حديث بن عباس قال " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في الثقل " وقد تقدم الكلام عليه في " باب من قدم ضعفة أهله". ووجه الدلالة منه هنا أن ابن عباس كان دون البلوغ، ولهذه النكتة أردفه المصنف بحديثه الآخر المصرح فيه بأنه كمان حينئذ قد قارب الاحتلام. ثم بين بالطريق المعلقة أن ذلك وقع في حجة الوداع، وقد تقدم الكلام عليه في " باب متى يصح سماع الصغير " من كتاب العلم، وفي " باب سترة المصلي " من كتاب الصلاة الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَقْبَلْتُ وَقَدْ نَاهَزْتُ الْحُلُمَ أَسِيرُ عَلَى أَتَانٍ لِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِمِنًى حَتَّى سِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ نَزَلْتُ عَنْهَا فَرَتَعَتْ فَصَفَفْتُ مَعَ النَّاسِ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الشرح: حدثنا إسحاق نسبه الأصيلي وابن السكن " ابن منصور " " وقد أخرجه " إسحاق بن راهويه " في مسنده عن يعقوب أيضا ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج، لكن يرجح كونه " ابن منصور " أن ابن راهويه لا يعبر عن مشايخه إلا بصيغة " أخبرنا". ورواية يونس المعلقة وصلها مسلم من طريق ابن وهب عنه ولفظه " أنه أقبل يسير على حمار ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بمنى في حجة الوداع" الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ حُجَّ بِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ الشرح: قوله: (عن محمد بن يوسف) في رواية الإسماعيلي " حدثنا محمد بن يوسف وهو الكندي " حفيد شيخه السائب وقيل سبط وقيل ابن أخيه عبد الله بن يزيد، والسائب بن يزيد أي ابن سعيد ابن ثمامة بن الأسود الكندي حليف بني عبد شمس ويعرف بابن أخت النمر والنمر رجل حضرمي. قوله: (حج بي) كذا للأكثر بضم أوله على البناء لما لم يسم فاعله. وقال ابن سعد عن الواقدي عن حاتم " حجت بي أمي " وللفاكهي من وجه آخر عن محمد بن يوسف عن السائب " حج بي أبي " ويجمع بينهما بأنه كان مع أبويه، زاد الترمذي عن قتيبة عن حاتم " في حجة الوداع". الحديث: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ لِلسَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ وَكَانَ قَدْ حُجَّ بِهِ فِي ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (عن الجعيد) بالجيم مصغرا، والقاسم بن مالك هو المزني. قوله: (سمعت بن عبد العزيز يقول للسائب بن يزيد وكان السائب قد حج به في ثقل النبي صلى الله عليه وسلم) لم يذكر مقول عمر ولا جواب السائب، وكأنه كان قد سأله عن قدر المد، فسيأتي في الكفارات عن عثمان بن أبي شيبة عن القاسم بن مالك بهذا الإسناد " كان الصاع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدا وثلثا، فزيد فيه في زمن عمر بن عبد العزيز " زاد الإسماعيلي من هذا الوجه " قال السائب وقد حج بي في ثقل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام " وقال الكرماني: اللام في قوله للسائب للتعليل أي سمعت عمر يقول لأجل السائب، والمقول " وكان السائب الخ " كذا قال ولا يخفى بعده، وسيأتي للسائب ترجمة في الكلام على خاتم النبوة إن شاء الله تعالى. *3*باب حَجِّ النِّسَاءِ الشرح: قوله: (باب حج النساء) أي هل يشترط فيه قدر زائد على حج الرجال أو لا؟ ثم أورد المصنف فيه عدة أحاديث. الحديث: و قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الْأَزْرَقِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَذِنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ الشرح: قوله: (وقال لي أحمد بن محمد حدثنا إبراهيم عن أبيه عن جده قال أذن عمر) أي ابن الخطاب (لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن) كذا أورده مختصرا، ولم يستخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم، ونفل الحميدي عن البرقاني أن إبراهيم هو ابن عبد الرحمن بن عوف. قال الحميدي: وفيه نظر، ولم يذكره أبو مسعود. انتهى. والحديث معروف، وقد ساقه ابن سعد والبيهقي مطولا، وجعل مغلطاي تنظير الحميدي راجعا إلى نسبة إبراهيم فقال: مراد البرقاني بإبراهيم جد إبراهيم المبهم في رواية البخاري، فظن الحميدي أنه عين إبراهيم الأول، وليس كذلك بل هو جده لأنه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وقوله "وقال لي أحمد بن محمد " أي ابن الوليد الأزرقي، وقوله "أذن عمر " ظاهره أنه من رواية إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف عن عمر ومن ذكر معه، وإدراكه لذلك ممكن لأن عمره إذ ذاك كان أكثر من عشر سنين، وقد أثبت سماعه من عمر يعقوب بن أبي شيبة وغيره، لكن روى ابن سعد هذا الحديث عن الواقدي عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده عن عبد الرحمن بن عوف قال " أرسلني عمر " لكن الواقدي لا يحتج به فقد رواه البيهقي من طريق عبدان وابن سعد أيضا عن الوليد بن عطاء بن الأغر المكي كلاهما عن إبراهيم ابن سعد مثل ما قال الأزرقي، ويحتمل أن يكون إبراهيم حفظ أصل القصة وحمل تفاصيلها عن أبيه فلا تتخالف الروايتان، ولعل هذا هو النكتة في اقتصار البخاري على أصل القصة دون بقيتها. قوله: (وعبد الرحمن) زاد عبدان " عبد الرحمن بن عوف " وكان عثمان ينادي: ألا لا يدنو أحد منهن ولا ينظر إليهن، وهن في الهوادج على الإبل، فإذا نزلن أنزلهن بصدر الشعب فلم يصعد إليهن أحد، ونزل عبد الرحمن وعثمان بذنب الشعب". وفي رواية لابن سعد " فكان عثمان يسير أمامهن وعبد الرحمن خلفهن". وفي رواية له " وعلى هوادجهن الطيالسة الخضر " في إسناده الواقدي، وروى ابن سعد أيضا بإسناد صحيح من طريق أبي إسحاق السبيعي قال " رأيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم حججن في هوادج عليها الطيالسة زمن المغيرة " أي ابن شعبة، والظاهر أنه أراد بذلك زمن ولاية المغيرة على الكوفة لمعاوية، وكان ذلك سنة خمسين أو قبلها. ولابن سعد أيضا من حديث أم معبد الخزاعية قالت " رأيت عثمان وعبد الرحمن في خلافة عمر حجا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم فنزلن بقديد، فدخلت عليهن وهن ثمان " وله من حديث عائشة " أنهن استأذن عثمان في الحج فقال: أنا أحج بكن، فحج بنا جميعا إلا زينب كانت ماتت، وإلا سودة فإنها لم تخرج من بيتها بعد النبي صلى الله عليه وسلم " وروى أبو داود وأحمد من طريق واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجة الوداع: هذه ثم ظهور الحصر " زاد ابن سعد من حديث أبي هريرة " فكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحججن، إلا سودة وزينب فقالا: لا تحركنا دابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإسناد حديث أبي واقد صحيح. وأغرب المهلب فزعم أنه من وضع لقصد ذم أم المؤمنين عائشة في خروجها إلى العراق للإصلاح بين الناس في قصة وقعة الجمل، وهو إقدام منه على رد الأحاديث الصحيحة بغير دليل، والعذر عن عائشة أنها تأولت الحديث المذكور كما تأوله غيرها من صواحباتها على أن المراد بذلك أنه لا يجب عليهن غير تلك الحجة، وتأيد ذلك عندها بقوله صلى الله عليه وسلم "لكن أفضل الجهاد الحج والعمرة " ومن ثم عقبه المصنف بهذا الحديث في هذا الباب، وكأن عمر رضي الله عنه كان متوقفا في ذلك ثم ظهر له الجواز فأذن لهن، وتبعه على ذلك من ذكر من الصحابة ومن في عصره من غير نكير. وروى ابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر قال " منع عمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة " ومن طريق أم درة عن عائشة قالت " منعنا عمر الحج والعمرة، حتى إذا كان آخر عام فأذن لنا " وهو موافق لحديث الباب، وفيه زيادة على ما في مرسل أبي جعفر، وهو محمول على ما ذكرناه. واستدل به على جواز حج المرأة بغير محرم، وسيأتي البحث فيه في الكلام على الحديث الثالث. (تكملة) : روى عمر بن شبة هذا الحديث عن سليمان بن داود الهاشمي عن إبراهيم بن سعد بإسناد آخر فقال " عن الزهري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة عن أم كلثوم بنت أبي بكر عن عائشة أن عمر أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فحججن في آخر حجة حجها عمر، فلما ارتحل عمر من الحصبة من آخر الليل أقبل رجل فسلم وقال: أين كان أمير المؤمنين ينزل؟ فقال له قائل وأنا أسمع: هذا كان منزله. فأناخ في منزل عمر، ثم رفع عقيرته يتغنى: عليك سلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق الأبيات. قالت عائشة: فقلت لهم اعلموا لي علم هذا الرجل، فذهبوا فلم يروا أحدا، فكانت عائشة تقول: " إني لأحسبه من الجن". الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ قَالَ حَدَّثَتْنَا عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ فَقَالَ لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الْحَجُّ حَجٌّ مَبْرُورٌ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَلَا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد. قوله: (عن عائشة) في رواية زائدة عن حبيب عند الإسماعيلي " حدثتني عائشة". قوله: (ألا نغزو أو نجاهد) هذا شك من الراوي، وهو مسدد شيخ البخاري، وقد رواه أبو كامل عن أبي عوانة شيخ مسدد بلفظ " ألا تغزو معكم " أخرجه الإسماعيلي، وأغرب الكرماني فقال: ليس الغزو والجهاد بمعنى واحد، فإن الغزو القصد إلى القتال، والجهاد بذل النفس في القتال. قال: أو ذكر الثاني تأكيدا للأول ا ه. وكأنه ظن أن الألف تتعلق بنغزو فشرح على أن الجهاد معطوف على الغزو بالواو، أو جعل " أو " بمعنى الواو. وقد أخرجه النسائي من طريق جرير عن حبيب بلفظ " ألا نخرج فنجاهد معك " ولابن خزيمة من طريق زائدة عن حبيب مثله وزاد " فإنا نجد الجهاد أفضل الأعمال " وللإسماعيلي من طريق أبي بكر بن عياش عن حبيب " لو جاهدنا معك، قال: لا جهاد، ولكن حج مبرور " وقد تقدم في أوائل الحج من طريق خالد عن حبيب بلفظ " نرى الجهاد أفضل العمل " فظهر أن التغاير بين اللفظين من الرواة فيقوى أن " أو " للشك. قوله: (لكن أحسن الجهاد) تقدم نقل الخلاف في توجيهه في أوائل الحج وهل هو بلفظ الاستثناء أو بلفظ خطاب النسوة. قوله: (الحج حج مبرور) في رواية جرير " حج البيت حج مبرور " وسيأتي في الجهاد من وجه آخر عن عائشة بنت طلحة بلفظ " استأذنه نساؤه في الجهاد فقال: يكفيكن الحج " ولابن ماجة من طريق محمد بن فضيل عن حبيب " قلت يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة". قال ابن بطال: زعم بعض من ينقص عائشة في قصة الجمل أن قوله تعالى (وقرن في بيوتكن) يقتضى تحريم السفر عليهن. قال: وهذا الحديث يرد عليهم، لأنه قال " لكن أفضل الجهاد " فدل على أن لهن جهادا غير الحج والحج أفضل منه ا ه. ويحتمل أن يكون المراد بقوله " لا " في جواب قولهن " ألا نخرج فنجاهد معك " أي ليس ذلك واجبا عليكن كما وجب على الرجال، ولم يرد بذلك تحريمه عليهن، فقد ثبت في حديث أم عطية أنهن كن يخرجن فيداوين الجرحى، وفهمت عائشة ومن وافقها من هذا الترغيب في الحج إباحة تكريره لهن كما أبيح للرجال تكرير الجهاد، وخص به عموم قوله " هذه ثم ظهور الحصر " وقوله تعالى (وقرن في بيوتكن) وكأن عمر كان متوقفا في ذلك ثم ظهر له قوة دليلها فأذن لهن في آخر خلافته، ثم كان عثمان بعده يحج بهن في خلافته أيضا. وقد وقف بعضهن عند ظاهر النهي كما تقدم. وقال البيهقي: في حديث عائشة هذا دليل على أن المراد بحديث أبي واقد وجوب الحج مرة واحدة كالرجال، لا المنع من الزيادة. وفيه دليل على أن الأمر بالقرار في البيوت ليس على سبيل الوجوب. واستدل بحديث عائشة هذا على جواز حج المرأة مع من تثق به ولو لم يكن زوجا ولا محرما كما سيأتي البحث فيه في الذي يليه. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ فَقَالَ اخْرُجْ مَعَهَا الشرح: قوله: (عن عمرو) هو ابن دينار. قوله: (عن أبي معبد) كذا رواه عبد الرزاق عن ابن جريج وابن عيينة كلاهما عمرو عن أبي معبد به، ولعمرو بهذا الإسناد حديث آخر أخرجه عبد الرزاق وغيره عن ابن عيينة عنه عن عكرمة قال " جاء رجل إلى المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين نزلت؟ قال: على فلانة. قال: أغلقت عليها بابك؟ مرتين. لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم. ورواه عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج عن عمرو " أخبرني عكرمة أو أبو معبد عن ابن عباس " قلت: والمحفوظ في هذا مرسل عكرمة. وفي الآخر رواية أبي معبد عن ابن عباس. قوله: (لا تسافر المرأة) كذا أطلق السفر وقيده في حديث أبي سعيد الآتي في الباب فقال " مسيرة يومين"، ومضى في الصلاة حديث أبي هريرة مقيدا بمسيرة يوم وليلة، وعنه روايات أخرى، وحديث ابن عمر فيه مقيدا بثلاثة أيام، وعنه روايات أخرى أيضا، وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات. وقال النووي: ليس المراد من التحديد ظاهره، بل كل ما يسمى سفر فالمرأة منهية عنه إلا بالمحرم، وإنما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يعمل بمفهومه. وقال ابن المنير: وقع الاختلاف في مواطن بحسب السائلين. وقال المنذري: يحتمل أن يقال إن اليوم المفرد والليلة المفردة بمعنى اليوم والليلة، يعني فمن أطلق يوما أراد بليلته أو ليلة أراد بيومها وأن يكون عند جمعهما أشار إلى مدة الذهاب والرجوع، وعند إفرادهما أشار إلى قدر ما تقضي فيه الحاجة. قال: ويحتمل أن يكون هذا كله تمثيلا لأوائل الأعداد، فاليوم أول العدد والاثنان أول التكثير والثلاث أول الجمع، وكأنه أشار إلى أن مثل هذا في قلة الزمن لا يحل فيه السفر فكيف بما زاد. ويحتمل أن يكون ذكر الثلاث قبل ذكر ما دونها فيؤخذ بأقل ما ورد في ذلك وأقله الرواية التي فيها ذكر البريد، فعلى هذا يتناول السفر طويل السير وقصيره، ولا يتوقف امتناع سير المرأة على مسافة القصر خلافا للحنفية، وحجتهم أن المنع المقيد بالثلاث متحقق وما عداه مشكوك فيه فيؤخذ بالمتيقن، ونوقض بأن الرواية المطلقة شاملة لكل سفر فينبغي الأخذ بها وطرح ما عداها فإنه مشكوك فيه، ومن قواعد الحنفية تقديم الخبر العام على الخاص، وترك حمل المطلق على المقيد، وقد خالفوا ذلك هنا، والاختلاف إنما وقع في الأحاديث التي وقع فيها التقييد، بخلاف حديث الباب فإنه لم يختلف على ابن عباس فيه. وفرق سفيان الثوري بين المسافة البعيدة فمنعها دون القريبة، وتمسك أحمد بعموم الحديث فقال: إذا لم تجد زوجا أو محرما لا يجب عليها الحج، هذا هو المشهور عنه. وعنه رواية أخرى كقول مالك وهو تخصيص الحديث بغير سفر الفريضة، قالوا: وهو مخصوص بالإجماع. قال البغوي لم يختلفوا في أنه ليس للمرأة السفر في غير الفرض إلا مع زوج أو محرم إلا كافرة أسلمت في دار الحرب أو أسيرة تخلصت. وزاد غيره أو امرأة انقطعت من الرفقة فوجدها رجل مأمون فإنه يجوز له أن يصحبها حتى يبلغها الرفقة. قالوا: وإذا كان عمومه مخصوصا بالاتفاق فليخص منه حجة الفريضة. وأجاب صاحب " المغني " بأنه سفر الضرورة فلا يقاس عليه حالة الاختيار، ولأنها تدفع ضررا متيقنا بتحمل ضرر متوهم ولا كذلك السفر للحج. وقد روى الدار قطني وصححه أبو عوانة حديث الباب من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار بلفظ " لا تحجن امرأة إلا ومعها ذو محرم " فنص في نفس الحديث على منع الحج فكيف يخص من بقية الأسفار؟ والمشهور عند الشافعية اشتراط الزوج أو المحرم أو النسوة الثقات، وفي قول تكفي امرأة واحدة ثقة. وفي قول نقله الكرابيسي وصححه في المهذب تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنا، وهذا كله في الواجب من حج أو عمرة. وأغرب القفال فطرده في الأسفار كلها، واستحسنه الروياني قال: إلا أنه خلاف النص. قلت: وهو يعكر على نفي الاختلاف الذي نقله البغوي آنفا. واختلفوا هل المحرم وما ذكر معه شرط في وجوب الحج عليها أو شرط في التمكن فلا يمنع الوجوب والاستقرار في الذمة؟ وعبارة أبي الطيب الطبري منهم: الشرائط التي يجب بها الحج على الرجل يجب بها على المرأة، فإذا أرادت أن تؤديه فلا يجوز لهم إلا مع محرم أو زوج أو نسوة ثقات. ومن الأدلة على جواز سفر المرأة مع النسوة الثقات إذا أمن الطريق أول أحاديث الباب، لاتفاق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وعدم نكير غيرهم من الصحابة عليهن في ذلك، ومن أبى ذلك من أمهات المؤمنين فإنما أباه من جهة خاصة كما تقدم لا من جهة توقف السفر على المحرم، ولعل هذا هو النكتة في إيراد البخاري الحديثين أحدهما عقب الآخر، ولم يختلفوا أن النساء كلهن في ذلك سواء إلا ما نقل عن أبي الوليد الباجي أنه خصه بغير العجوز التي لا تشتهى، وكأنه نقله من الخلاف المشهور في شهود المرأة صلاة الجماعة. قال ابن دقيق العيد: الذي قاله الباجي تخصيص للعموم بالنظر إلى المعنى، يعني مع مراعاة الأمر الأغلب. وتعقبوه بأن لكل ساقطة لاقطة، والمتعقب راعي الأمر النادر وهو الاحتياط. قال: والمتعقب على الباجي يرى جواز سفر المرأة في الأمن وحدها فقد نظر أيضا إلى المعنى، يعني فليس له أن ينكر على الباجي، وأشار بذلك إلى الوجه المتقدم والأصح خلافه، وقد احتج له بحديث عدي بن حاتم مرفوعا " يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا زوج معها " الحديث. وهو في البخاري. وتعقب بأنه يدل على وجود ذلك لا على جوازه، وأجيب بأنه خبر في سياق المدح ورفع منار الإسلام فيحمل على الجواز. ومن المستظرف أن المشهور من مذهب من لم يشترط المحرم أن الحج على التراخي، ومن مذهب من يشترطه أنه حج على الفور، وكان المناسب لهذا قول هذا وبالعكس. وأما ما قال النووي في شرح حديث جبريل في بيان الإيمان والإسلام عند قوله " أن تلد الأمة ربتها ": فليس فيه دلالة على إباحة بيع أمهات الأولاد ولا منع بيعهن، خلافا لمن استدل به في كل منهما، لأنه ليس في كل شيء أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع يكون محرما ولا جائزا. انتهى. وهو كما قال، لكن القرينة المذكورة تقوي الاستدلال به على الجواز. قال ابن دقيق العيد: هذه المسألة تتعلق بالعامين إذا تعارضا، فإن قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) عام في الرجال والنساء، فمقتضاه أن الاستطاعة على السفر إذا وجدت وجب الحج على الجميع، وقوله صلى الله عليه وسلم "لا تسافر المرأة إلا مع محرم " عام في كل سفر فيدخل فيه الحج، فمن أخرجه عنه خص الحديث بعموم الآية، ومن أدخله فيه خص الآية بعموم الحديث فيحتاج إلى الترجيح من خارج، وقد رجح المذهب الثاني بعموم قوله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " وليس ذلك بجيد لكونه عاما في المساجد فيخرج عنه المسجد الذي يحتاج إلى السفر بحديث النهي. قوله: (إلا مع ذي محرم) أي فيحل، ولم يصرح بذكر الزوج، وسيأتي في حديث أبي سعيد في هذا الباب بلفظ " ليس معها زوجها أو ذو محرم منها " وضابط المحرم عند العلماء من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فخرج بالتأبيد أخت الزوجة وعمتها وبالمباح أم الموطوءة بشبهة وبنتها وبحرمتها الملاعنة، واستثنى أحمد من حرمت على التأبيد مسلمة لها أب كتابي فقال: لا يكون محرما لها لأنه لا يؤمن أن يفتنها عن دينها إذا خلا بها. ومن قال إن عبد المرأة محرم لها يحتاج أن يزيد في هذا الضابط ما يدخله، وقد روى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر مرفوعا " سفر المرأة مع عبدها ضيعة " لكن في إسناده ضعف، وقد احتج به أحمد وغيره، وينبغي لمن أجاز ذلك أن يقيده بما إذا كانا في قافلة بخلاف ما إذا كانا وحدهما فلا لهذا الحديث. وفي آخر حديث ابن عباس هذا ما يشعر بأن الزوج يدخل في مسمى المحرم، فإنه لما استثنى المحرم فقال القائل إن امرأتي حاجة فكأنه فهم حال الزوج في المحرم، ولم يرد عليه ما فهمه بل قيل له " اخرج معها". واستثنى بعض العلماء ابن الزوج فكره السفر معه لغلبة الفساد في الناس. قال ابن دقيق العيد: هذه الكراهية عن مالك، فإن كانت للتحريم ففيه بعد لمخالفة الحديث، وإن كانت للتنزيه فيتوقف على أن لفظ " لا يحل " هل يتناول المكروه الكراهة التنزيهية؟ قوله: (ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم) فيه منع الخلوة بالأجنبية وهو إجماع، لكن اختلفوا هل يقوم غير المحرم مقامه في هذا كالنسوة الثقات؟ والصحيح الجواز لضعف التهمة به. وقال القفال: لا بد من المحرم، وكذا في النسوة الثقات في سفر الحج لا بد من أن يكون مع إحداهن محرم. ويؤيده نص الشافعي أنه لا يجوز للرجل أن يصلي بنساء مفردات إلا أن تكون إحداهن محرما له. قوله: (فقال رجل يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا) لم أقف على اسم الرجل ولا امرأته ولا على تعيين الغزوة المذكورة، وسيأتي في الجهاد بلفظ " إني اكتتبت في غزوة كذا " أي كتبت نفسي في أسماء من عين لتلك الغزاة. قال ابن المنير: الظاهر أن ذلك كان في حجة الوداع فيؤخذ منه أن الحج على التراخي إذ لو كان على الفور لما تأخر الرجل مع رفقته الذين عينوا في تلك الغزاة. كذا قال، وليس ما ذكره بلازم لاحتمال أن يكونوا قد حجوا قبل ذلك مع من حج في سنة تسع مع أبي بكر الصديق، أو أن الجهاد قد تعين على المذكورين بتعيين الإمام، كما لو نزل عدو بقوم فإنه يتعين عليهم الجهاد ويتأخر الحج اتفاقا. قوله: (اخرج معها) أخذ بظاهره بعض أهل العلم فأوجب على الزوج السفر مع امرأته إذا لم يكن لها غيره، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية، والمشهور أنه لا يلزمه كالولي في الحج عن المريض فلو امتنع إلا بأجرة لزمها لأنه من سبيلها فصار في حقها كالمؤنة، واستدل به على أنه ليس للزوج منع امرأته من حج الفرض، وبه قال أحمد وهو وجه للشافعية، والأصح عندهم أن له منعها لكون الحج على التراخي. وأما ما رواه الدار قطني من طريق إبراهيم الصائغ عن نافع عن ابن عمر مرفوعا في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج فليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها؟ فأجيب عنه بأنه محمول على حج التطوع عملا بالحديثين، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن للرجل منع زوجته من الخروج في الأسفار كلها، وإنما اختلفوا فيما كان واجبا، واستنبط منه ابن حزم جواز سفر المرأة بغير زوج ولا محرم لكونه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بردها ولا عاب سفرها، وتعقب بأنه لو لم يكن ذلك شرطا لما أمر زوجها بالسفر معها وتركه الغزو الذي كتب فيه، ولا سيما وقد رواه سعيد بن منصور عن حماد بن زيد بلفظ " فقال رجل: يا رسول الله إني نذرت أن أخرج في جيش كذا وكذا " فلو لم يكن شرطا ما رخص له في ترك النذر، قال النووي: وفي الحديث تقديم الأهم فالأهم من الأمور المتعارضة، فإنه لما عرض له الغزو والحج رجح الحج لأن امرأته لا يقوم غيره مقامه في السفر معها بخلاف الغزو، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَخْبَرَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّتِهِ قَالَ لِأُمِّ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيَّةِ مَا مَنَعَكِ مِنْ الْحَجِّ قَالَتْ أَبُو فُلَانٍ تَعْنِي زَوْجَهَا كَانَ لَهُ نَاضِحَانِ حَجَّ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ يَسْقِي أَرْضًا لَنَا قَالَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: الحديث له طريقان موصول ومعلق وآخر معلق. قوله: (حدثنا حبيب المعلم) هو ابن أبي قريبة بقاف وموحدة، واسم أبي قريبة زيد وقيل زائدة، وهو غير حبيب بن أبي عمرة المذكور في ثاني أحاديث الباب. قوله: (قالت أبو فلان تعني زوجها) وقد تقدم أنه أبو سنان، وتقدم الحديث مشروحا في " باب عمرة في رمضان". قوله: (رواه ابن جريج عن عطاء الخ) أراد تقوية طريق حبيب بمتابعة ابن جريج له عن عطاء، واستفيد منه تصريح عطاء بسماعه له من ابن عباس، وقد تقدمت طريق ابن جريج موصولة في الباب المشار إليه. قوله: (وقال عبيد الله) بالتصغير وهو ابن عمرو الرقي (عن عبد الكريم) وهو ابن مالك الجزري (عن عطاء عن جابر) ، وأراد البخاري بهذا بيان الاختلاف فيه على عطاء، وقد تقدم في " باب عمرة في رمضان " أن ابن أبي ليلى ويعقوب بن عطاء وافقا حبيبا وابن جريج، فتبين شذوذ رواية عبد الكريم، وشذ معقل الجزري أيضا فقال " عن عطاء عن أم سليم " وصنيع البخاري يقتضي ترجيح رواية ابن جريج ويومئ إلى أن رواية عبد الكريم ليست مطرحة لاحتمال أن يكون لعطاء فيه شيخان، ويؤيد ذلك أن رواية عبد الكريم خالية عن القصة مقتصرة على المتن وهو قوله " عمرة في رمضان تعدل حجة " كذلك وصله أحمد وابن ماجة من طريق عبيد الله بن عمرو، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ وَقَدْ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً قَالَ أَرْبَعٌ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ يُحَدِّثُهُنَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْجَبْنَنِي وَآنَقْنَنِي أَنْ لَا تُسَافِرَ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ لَيْسَ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ وَلَا صَوْمَ يَوْمَيْنِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى الشرح: حديث أبي سعيد، تقدم الكلام عليه في " باب الصلاة في مسجد مكة والمدينة " وأنه مشتمل على أربعة أحكام أحدها: سفر المرأة، وقد تقدم البحث فيه في هذا الباب، ثانيها: منع صوم الفطر والأضحى وسيأتي في الصيام، ثالثها: منع الصلاة بعد الصبح والعصر وقد تقدم في أواخر الصلاة، رابعها: منع شد الرحل إلى غير المساجد الثلاثة وقد تقدم في أواخر الصلاة أيضا. قوله: (أو قال يحدثهن) وقع عند الكشميهني بلفظ " أو قال أخذتهن " بالخاء والذال المعجمتين أي حملتهن عنه. قوله: (وآنقنني) بفتح النونين وسكون القاف بوزن أعجبنني، ومعناه أي الكلمات، يقال آنقني الشيء بالمد، أي أعجبني. وذكر الإعجاب بعده من التأكيد. قوله: (أو ذو محرم) كذا للأكثر، وفي بعض النسخ عن أبي ذر " أو ذو محرم، محرم " الأول بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه والثاني بوزن محمد أي عليها. *3*باب مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الْكَعْبَةِ الشرح: قوله: (باب من نذر المشي إلى الكعبة) أي وغيرها من الأماكن المعظمة هل يجب عليه الوفاء بذلك أو لا؟ وإذا وجب فتركه قادرا أو عاجزا ماذا يلزمه؟ وفي كل ذلك اختلاف بين أهل العلم سيأتي إيضاحه في كتاب النذر إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالَ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ قَالَ مَا بَالُ هَذَا قَالُوا نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ الشرح: قوله: (أخبرنا الفزاري) هو مروان بن معاوية كما جزم به أصحاب الأطراف والمستخرجات، وقد أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن مروان هذا بهذا الإسناد. وقال ابن حزم: هو أبو إسحاق الفزاري أو مروان. قوله: (حدثني ثابت) هكذا قال أكثر الرواة عن حميد، وهذا الحديث مما صرح حميد فيه بالواسطة بينه وبين أنس، وقد حذفه في وقت آخر فأخرجه النسائي من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري والترمذي من طريق ابن أبي عدي كلاهما عن حميد عن أنس، وكذا أخرجه أحمد عن ابن أبي عدي ويزيد بن هارون جميعا عن حميد بلا واسطة، ويقال إن غالب رواية حميد عن أنس بواسطة، لكن قد أخرج البخاري من حديث حميد عن أنس أشياء كثيرة بغير واسطة مع الاعتناء ببيان سماعه لها من أنس، وقد وافق عمران القطان عن حميد الجماعة على إدخال ثابت بينه وبين أنس، لكن خالفهم في المتن، أخرجه الترمذي من طريقه بلفظ " نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله، فسئل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إن الله لغني عن مشيها، مروها فلتركب". قوله: (رأى شيخا يهادي) بضم أوله من المهاداة، وهو أن يمشي معتمدا على غيره. وللترمذي من طريق خالد بن الحارث عن حميد " يتهادى " بفتح أوله ثم مثناة. قوله: (بين ابنيه) لم أقف على اسم هذا الشيخ ولا على اسم ابنيه، وقرأت بخط مغلطاي " الرجل الذي يهادى " قال الخطيب: هو أبو إسرائيل، كذا قال وتبعه ابن الملقن، وليس ذلك في كتاب الخطيب وإنما أورده من حديث مالك " عن حميد بن قيس وثور أنهما أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ويصوم " الحديث. قال الخطيب: هذا الرجل هو أبو إسرائيل، ثم ساق حديث عكرمة عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة فرأى رجلا يقال له أبو إسرائيل فقال: ما باله؟ قالوا: نذر أن يصوم ويقوم في الشمس ولا يتكلم " الحديث. وهذا الحديث سيأتي في الأيمان والنذور من حديث ابن عباس، والمغايرة بينه وبين حديث أنس ظاهرة من عدة أوجه، فيحتاج من وحد بين القصتين إلى مستند، والله المستعان. قوله: (قال ما بال هذا؟ قالوا نذر أن يمشي) في حديث أبي هريرة عند مسلم أن الذي أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤاله ولدا الرجل ولفظه " فقال ما شأن هذا الرجل؟ قال ابناه: يا رسول الله كان عليه نذر". قوله: (أمره) في رواية الكشميهني " وأمره " بزيادة واو. قوله: (أن يركب) زاد أحمد عن الأنصاري عن حميد فركب، وإنما لم يأمره بالوفاء بالنذر إما لأن الحج راكبا أفضل من الحج ماشيا فنذر المشي يقتضي التزام ترك الأفضل فلا يجب الوفاء به، أو لكونه عجز عن الوفاء بنذره وهذا هو الأظهر. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ قَالَ وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لَا يُفَارِقُ عُقْبَةَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ الشرح: قوله: (عن عقبة بن عامر) هو الجهني كذا وقع عند أحمد ومسلم وغيرهما في هذا الحديث من هذا الوجه. قوله: (نذرت أختي) قال المنذري وابن القسطلاني والقطب الحلبي ومن تبعهم: هي أم حبان بنت عامر، وهي بكسر المهملة وتشديد الموحدة، ونسبوا ذلك لابن ماكولا فوهموا فإن ابن ماكولا إنما نقله عن ابن سعد، وابن سعد إنما ذكر في طبقات النساء أم حبان بنت عامر بن نابي بنون وموحدة ابن زيد بن حرام بمهملتين الأنصارية قال: وهي أخت عقبة بن عامر بن نابي، شهد بدرا، وهي زوج حرام بن محيصة، وكان ذكر قبل عقبة بن عامر بن نابي الأنصاري وأنه شهد بدرا ولا رواية له، وهذا كله مغاير للجهني فإن له رواية كثيرة ولم يشهد بدرا وليس أنصاريا، فعلى هذا لم يعرف اسم أخت عقبة ابن عامر الجهني، وقد كنت تبعت في المقدمة من ذكرت ثم رجعت الآن عن ذلك وبالله التوفيق. قوله: (أن تمشي إلى بيت الله) زاد مسلم من طريق عبد الله بن عياش بالياء التحتانية والمعجمة عن يزيد " حافية"، ولأحمد وأصحاب السنن من طريق عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر الجهني " أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة"، وزاد الطبري من طريق إسحاق بن سالم عن عقبة بن عامر " وهي امرأة ثقيلة والمشي يشق عليها"، ولأبي داود من طريق قتادة عن عكرمة عن ابن عباس " أن عقبة بن عامر سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت، وشكا إليه ضعفها". قوله: (فقال صلى الله عليه وسلم: لتمشي ولتركب) في رواية عبد الله بن مالك " مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام". وروى مسلم عقب هذا الحديث حديث عبد الرحمن بن شماسة وهو بكسر المعجمة وتخفيف الميم بعدها مهملة عن أبي الخير عن عقبة بن عامر رفعه " كفارة النذر كفارة اليمين " ولعله مختصر من هذا الحديث، فإن الأمر بصيام ثلاثة أيام هو أحد أوجه كفارة اليمين، لكن وقع في رواية عكرمة المذكورة " قال فلتركب ولتهد بدنة " وسيأتي البحث في ذلك في كتاب النذر إن شاء الله تعالى. قوله: (قال وكان أبو الخير لا يفارق عقبة) هو يقول يزيد بن أبي حبيب الراوي عن أبي الخير، والمراد بذلك بيان سماع أبي الخير له من عقبة. قوله: (قال أبو عبد الله) هو المصنف. قوله: (عن ابن جريج عن يحيى بن أيوب) كذا رواه أبو عاصم، ووافقه روح بن عبادة عند مسلم والإسماعيلي جعلا شيخ ابن جريج في هذا الحديث هو يحيى بن أيوب، وخالفهما هشام بن يوسف فجعل شيخ ابن جريج فيه سعيد بن أبي أيوب، ورجح الأول الإسماعيلي لاتفاق أبي عاصم وروح على خلاف ما قال هشام، لكن يعكر عليه أن عبد الرزاق وافق هشاما وهو عند أحمد ومسلم، ووافقهما محمد بن بكر عن ابن جريج وحجاج بن محمد عند النسائي، فهؤلاء أربعة حفاظ رووه عن ابن جريج عن سعيد ابن أبي أيوب، فإن كان الترجيح هنا بالأكثرية فروايتهم أولى. والذي ظهر لي من صنيع صاحبي الصحيح أن لابن جريج فيه شيخين، وقد عبر مغلطاي وتبعه الشيخ سراج الدين عن كلام الإسماعيلي ما لا يفهم منه المراد، والله أعلم. (خاتمة) : اشتملت أبواب المحصر وجزاء الصيد وما مع ذلك إلى هنا على أحد وستين حديثا، المعلق منها ثلاثة عشر حديثا والبقية موصولة، المكرر منها فيه وفيما مضى ثمانية وثلاثون حديثا والخالص ثلاثة وعشرون، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر في النقاب والقفاز موقوفا ومرفوعا، وحديث ابن عباس " احتجم وهو محرم"، وحديثه في التي نذرت أن تحج عن أمها، وحديث السائب ابن يزيد أنه حج به، وحديث جابر " عمرة في رمضان". وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين اثنا عشر أثرا، والله المستعان. |
08-21-2013, 04:14 PM | #524 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب حَرَمِ الْمَدِينَةِ الشرح:
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم - فضائل المدينة. باب حرم المدينة) كذا لأبي ذر عن الحموي، وسقط للباقين سوى قوله " باب حرم المدينة " وفي رواية أبي علي الشبوي " باب ما جاء في حرم المدينة". والمدينة علم على البلدة المعروفة التي هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم ودفن بها. قال الله تعالى (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة) فإذا أطلقت تبادر إلى الفهم أنها المراد، وإذا أريد غيرها بلفظة المدينة فلا بد من قيد، فهي كالنجم للثريا، وكان اسمها قبل ذلك يثرب، قال الله تعالى (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب " ويثرب اسم لموضع منها سميت كلها به، قيل سميت بيثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح لأنه أول من نزلها، حكاه أبو عبيد البكري وقيل غير ذلك، ثم سماها النبي صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة كما سيأتي في باب مفرد، وكان سكانها العماليق، ثم نزلها طائفة من بني إسرائيل قيل أرسلهم موسى عليه السلام كما أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة بسند ضعيف، ثم نزلها الأوس والخزرج لما تفرق أهل سبأ بسبب سيل العرم، وسيأتي إيضاح ذلك في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى. ثم ذكر المصنف هنا أربعة أحاديث. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا وَلَا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ الشرح: قوله: (عن أنس) في رواية عبد الواحد عن عاصم " قلت لأنس " وسيأتي في الاعتصام، وليزيد ابن هارون عن عاصم " سألت أنسا " أخرجه مسلم. قوله: (المدينة حرم من كذا إلى كذا) هكذا جاء مبهما، وسيأتي في حديث على رابع أحاديث الباب " ما بين عائر إلى كذا " فعين الأول وهو بمهملة وزن فاعل، وذكره في الجزية وغيرها بلفظ " عير " بسكون التحتانية، وهو جبل بالمدينة كما سنوضحه. واتفقت روايات البخاري كلها على إبهام الثاني. ووقع عند مسلم " إلى ثور " فقيل إن البخاري أبهمه عمدا لما وقع عنده أنه وهم. وقال صاحب " المشارق " و " المطالع ": أكثر رواة البخاري ذكروا عيرا، وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا ومنهم من ترك مكانه بياضا، والأصل في هذا التوقف قول مصعب الزبيري: ليس بالمدينة عير ولا ثور. وأثبت غيره عيرا ووافقه على إنكار ثور، قال أبو عبيد: قوله " ما بين عير إلى ثور " هذه رواية أهل العراق، وأما أهل المدينة فلا يعرفون جبلا عندهم يقال له ثور وإنما ثور بمكة، ونرى أن أصل الحديث " ما بين عير إلى أحد". قلت: وقد وقع ذلك في حديث عبد الله بن سلام عند أحمد والطبراني. وقال عياض: لا معنى لإنكار عير بالمدينة فإنه معروف، وقد جاء ذكره في أشعارهم، وأنشد أبو عبيد البكري في ذلك عدة شواهد، منها قول الأحوص المدني الشاعر المشهور: فقلت لعمرو تلك يا عمرو ناره تشب قفا عير فهل أنت ناظر وقال ابن السيد في " المثلث ": عير اسم جبل بقرب المدينة معروف. وروى الزبير في " أخبار المدينة " عن عيسى بن موسى قال: قال سعيد بن عمرو لبشر بن السائب أتدري لم سكنا العقبة؟ قال: لا. قال: لأنا قتلنا منكم قتيلا في الجاهلية فأخرجنا إليها. فقال: وددت لو أنكم قتلتم منا آخر وسكنتم وراء عير، يعني جبلا. كذا في نفس الخبر. وقد سلك العلماء في إنكار مصعب الزبيري لعير وثور مسالك: ما منها تقدم، ومنها قول ابن قدامة يحتمل أن يكون المراد مقدار ما بين عير وثور لا أنهما بعينهما في المدينة، أو سمى النبي صلى الله عليه وسلم الجبلين اللذين بطرفي المدينة عيرا وثورا ارتجالا. وحكى ابن الأثير كلام أبي عبيد مختصرا ثم قال: وقيل إن عيرا جبل بمكة، فيكون المراد أحرم من المدينة مقدار ما بين عير وثور بمكة على حذف المضاف ووصف المصدر المحذوف. وقال النووي: يحتمل أن يكون ثور كان اسم جبل هناك إما أحد وإما غيره. وقال المحب الطبري في " الأحكام " بعد حكاية كلام أبي عبيد ومن تبعه: قد أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عن يساره جانحا إلى ورائه جبل صغير يقال له ثور، وأخبر أنه تكرر سؤاله عنه لطوائف من العرب - أي العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال - فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور، وتواردوا على ذلك. قال فعلمنا أن ذكر ثور في الحديث صحيح، وأن عدم علم أكابر العلماء به لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه. قال وهذه فائدة جليلة. انتهي. وقرأت بخط شيخ شيوخنا القطب الحلبي في شرحه: حكى لنا شيخنا الإمام أبو محمد عبد السلام بن مزروع البصري أنه خرج رسولا إلى العراق فلما رجع إلى المدينة كان معه دليل وكان يذكر له الأماكن والجبال، قال: فلما وصلنا إلى أحد إذا بقربه جبل صغير، فسألته عنه فقال: هذا يسمى ثورا. قال فعلمت صحة الرواية. قلت: وكأن هذا كان مبدأ سؤاله عن ذلك. وذكر شيخنا أبو بكر بن حسين المراغي نزيل المدينة في مختصره لأخبار المدينة أن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم أن خلف أحد من جهة الشمال جبلا صغيرا إلى الحمرة بتدوير يسمى ثورا، قال وقد تحققته بالمشاهدة. وأما قول ابن التين أن البخاري أبهم اسم الجبل عمدا لأنه غلط فهو غلط منه، بل إبهامه من بعض رواته، فقد أخرجه في الجزية فسماه، والله أعلم. ومما يدل على أن المراد بقوله في حديث أنس من " كذا إلى كذا جبلان " ما وقع عند مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس مرفوعا " اللهم إني أحرم ما بين جبليها " لكن عند المصنف في الجهاد وغيره من طريق محمد بن جعفر ويعقوب بن عبد الرحمن ومالك كلهم عن عمرو بلفظ " ما بين لابتيها " وكذا في حديث أبي هريرة ثالث أحاديث الباب، وسيأتي بعد أبواب من وجه آخر، وكذا في حديث رافع بن خديج وأبي سعيد وسعد وجابر وكلها عند مسلم، وكذا رواه أحمد من حديث عبادة الزرقي والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن عوف والطبراني من حديث أبي اليسر وأبي حسين وكعب ابن مالك كلهم بلفظ " ما بين لابتيها " واللابتان جمع لابة بتخفيف الموحدة وهي الحرة وهي الحجارة السود، وقد تكرر ذكرها في الحديث. ووقع في حديث جابر عند أحمد " وأنا أحرم المدينة ما بين حرتيها " فادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب لأنه وقع في رواية ما بين جبليها وفي رواية ما بين لابتيها وفي رواية مأزميها، وتعقب بأن الجمع بينهما واضح وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة، فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح، ولا شك أن رواية " ما بين لابتيها " أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية جبليها لا تنافيها فيكون عند كل لابة جبل، أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة الشرق والغرب، وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر، وأما رواية " مأزميها " فهي في بعض طرق حديث أبي سعيد، والمأزم بكسر الزاي المضيق بين الجبلين وقد يطلق على الجبل نفسه. واحتج الطحاوي بحديث أنس في قصة أبي عمير ما فعل النغير قال: لو كان صيدها حراما ما جاز حبس الطير، وأجيب باحتمال أن يكون من صيد الحل. قال أحمد: من صاد من الحل ثم أدخله المدينة لم يلزمه إرساله لحديث أبي عمير، وهذا قول الجمهور. لكن لا يرد ذلك على الحنفية، لأن صيد الحل عندهم إذا دخل الحرم كان له حكم الحرم، ويحتمل أن تكون قصة أبي عمير كانت قبل التحريم، واحتج بعضهم بحديث أنس في قصة قطع النخل لبناء المسجد، ولو كان قطع شجرها حراما ما فعله صلى الله عليه وسلم. وتعقب بأن ذلك كان في أول الهجرة كما سيأتي واضحا في أول المغازي، وحديث تحريم المدينة كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من خيبر كما سيأتي في حديث عمرو بن أبي عمرو عن أنس في الجهاد وفي غزوة أحد من المغازي واضحا. وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ويدعو إلى ألفتها كما روى ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هدم آطام المدينة " فإنها من زينة المدينة فلما انقطعت الهجرة زال ذلك، وما قاله ليس بواضح لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل، وقد ثبت على الفتوى بتحريمها سعد وزيد بن ثابت وأبو سعيد وغيرهم كما أخرجه مسلم. وقال ابن قدامة: يحرم صيد المدينة وقطع شجرها وبه قال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة لا يحرم، ثم من فعل مما حرم عليه فيه شيئا أثم ولا جزاء عليه في رواية لأحمد، وهو قول مالك والشافعي في الجديد وأكثر أهل العلم. وفي رواية لأحمد وهو قول الشافعي في القديم وابن أبي ذئب واختاره ابن المنذر وابن نافع من أصحاب مالك. وقال القاضي عبد الوهاب أنه الأقيس واختاره جماعة بعدهم فيه الجزاء وهو كما في حرم مكة، وقيل الجزاء في حرم المدينة أخذ السلب لحديث صححه مسلم عن سعد بن أبي وقاص. وفي رواية لأبي داود " من وجد أحدا يصيد في حرم المدينة فليسلبه". قال القاضي عياض: لم يقل بهذا بعد الصحابة إلا الشافعي في القديم. قلت: واختاره جماعة معه وبعده لصحة الخبر فيه، ولمن قال به اختلاف في كيفيته ومصرفه، والذي دل عليه صنيع سعد عند مسلم وغيره أنه كسلب القتيل وأنه للسالب لكنه لا يخمس، وأغرب بعض الحنفية فادعى الإجماع على ترك الأخذ بحديث السلب، ثم استدل بذلك على نسخ أحاديث تحريم المدينة، ودعوى الإجماع مردودة فبطل ما ترتب عليها. قال ابن عبد البر: لو صح حديث سعد لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط الأحاديث الصحيحة. ويجوز أخذ العلف لحديث أبي سعيد في مسلم " ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف " ولأبي داود من طريق أبي حسان عن علي نحوه. وقال المهلب: في حديث أنس دلالة على أن المنهي عنه في الحديث الماضي مقصور على القطع الذي يحصل به الإفساد، فأما من يقصد الإصلاح كمن يغرس بستانا مثلا فلا يمتنع عليه قطع ما كان بتلك الأرض من شجر يضر بقاؤه. قال: وقيل بل فيه دلالة على أن النهي إنما يتوجه إلى ما أنبته الله من الشجر مما لا صنع للآدمي فيه، كما حمل عليه النهي عن قطع شجر مكة. وعلى هذا يحمل قطع صلى الله عليه وسلم النخل وجعله قبلة المسجد ولا يلزم منه النسخ المذكور. قوله: (لا يقطع شجرها) في رواية يزيد بن هارون " لا يختلي خلاها " وفي حديث جابر عند مسلم " لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها " ونحوه عنده عن سعد. قوله: (من أحدث فيها حدثا) زاد شعبة وحماد بن سلمة عن عاصم عند أبي عوانة " أو آوى محدثا " وهذه الزيادة صحيحة إلا أن عاصما لم يسمعها من أنس كما سيأتي بيان ذلك في كتاب الاعتصام قوله: (فعليه لعنة الله) فيه جواز لعن أهل المعاصي والفساد، لكن لا دلالة فيه على لعن الفاسق المعين. وفيه أن المحدث والمؤوى للمحدث في الإثم سواء. والمراد بالحدث والمحدث الظلم والظالم على ما قيل، أو ما هو أعم من ذلك. قال عياض: واستدل بهذا على أن الحدث في المدينة من الكبائر، والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد عن رحمة الله. قال: والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر، وليس هو كلعن الكافر. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي فَقَالُوا لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ فَأَمَرَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ الشرح: حديث أنس في بناء المسجد، أورد منه طرفا، وقد مضى في الصلاة، وسيأتي بتمامه في أول المغازي إن شاء الله تعالى، وقد بينت المراد بإيراده هنا في الكلام على الحديث الأول وهو أن ذلك كان قبل التحريم، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حُرِّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي قَالَ وَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي حَارِثَةَ فَقَالَ أَرَاكُمْ يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ بَلْ أَنْتُمْ فِيهِ الشرح: قوله: (حدثنا إسماعيل بن عبد الله) هو ابن أبي أويس، وأخوه اسمه عبد الحميد، وسليمان هو ابن بلال، وقد سمع إسماعيل منه وروى كثيرا عن أخيه عنه، والإسناد كله مدنيون. قوله: (عن سعيد المقبري عن أبي هريرة) قال الإسماعيلي: رواه جماعة عن عبيد الله هكذا. وقال عبدة بن سليمان: عن عبيد الله عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة زاد فيه " عن أبيه". قوله: (حرم ما بين لابتي المدينة) كذا للأكثر بضم أول حرم على البناء لما لم يسم فاعله. وفي رواية المستملي " حرم " بفتحتين على أنه خبر مقدم وما بين لابتي المدينة المبتدأ، ويؤيد الأول ما رواه أحمد عن محمد ابن عبيد عن عبيد الله بن عمر في هذا الحديث بلفظ " إن الله عز وجل حرم على لساني ما بين لابتي المدينة " ونحوه للإسماعيلي من طريق أنس بن عياض عن عبيد الله، وقد تقدم القول في اللابتين في الحديث الأول، وزاد مسلم في بعض طرقه " وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى " وروى أبو داود من حديث عدي ابن زيد قال " حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ناحية من المدينة بريدا بريدا، لا يخبط شجره ولا يعضد إلا ما يساق به الجمل". قوله: (وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بنى حارثة) في رواية الإسماعيلي " ثم جاء بني حارثة وهم في سند الحرة " أي في الجانب المرتفع منها، وبنو حارثة بمهملة ومثلثة بطن مشهور من الأوس، وهو حارثة ابن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، وكان بنو حارثة في الجاهلية وبنو عبد الأشهل في دار واحدة، ثم وقعت بينهم الحرب فانهزمت بنو حارثة إلى خيبر فسكنوها، ثم اصطلحوا فرجع بنو حارثة فلم ينزلوا في دار بني عبد الأشهل وسكنوا في دارهم هذه وهي غربي مشهد حمزة. قوله: (بل أنتم فيه) زاد الإسماعيلي " بل أنتم فيه " أعادها تأكيدا. وفي هذا الحديث جواز الجزم بما يغلب على الظن، وإذا تبين أن اليقين على خلافه رجع عنه. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلَى كَذَا مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَقَالَ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَمَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ عَدْلٌ فِدَاءٌ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الرحمن) هو ابن مهدي، وسفيان هو الثوري. قوله: (عن أبيه) هو يزيد بن شريك بن طارق التيمي، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين كوفيون في نسق، وهذه رواية أكثر أصحاب الأعمش عنه، وخالفهم شعبة فرواه عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن علي، أخرجه أحمد والنسائي. قال الدار قطني في " العلل ": والصواب رواية الثوري ومن تبعه. قوله: (ما عندنا شيء) أي مكتوب، وإلا فكان عندهم أشياء من السنة سوى الكتاب، أو المنفي شيء اختصوا به عن الناس. وسبب قول على هذا يظهر مما أخرجه أحمد من طريق قيادة عن أبي حسان الأعرج " أن عليا كان يأمر بالأمر فيقال له: قد فعلناه. فيقول: صدق الله ورسوله. فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما عهد إلي شيئا خاصة دون الناس، إلا شيئا سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة فإذا فيها " فذكر الحديث وزاد فيه " المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده " وقال فيه " إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين حرتيها وحماها كله، لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، ولا يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال " والباقي نحوه. وأخرجه الدار قطني من وجه آخر عن قتادة عن أبي حسان عن الأشتر عن علي، ولأحمد وأبي داود والنسائي من طريق سعيد بن أبي عروبة " عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي فقلنا: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا. قال وكتاب في قراب سيفه، فإذا فيه: المؤمنون تتكافأ دماؤهم " فذكر مثل ما تقدم إلى قوله في عهده " من أحدث حدثا - إلى قوله - أجمعين". ولم يذكر بقية الحديث. ولمسلم من طريق أبي الطفيل " كنت عند علي فأتاه رجل فقال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك؟ فغضب ثم قال: ما كان يسر إلي شيئا يكتمه عن الناس، غير أنه حدثني بكلمات أربع " وفي رواية له " ما خصنا بشيء لم يعم به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا، فأخرج صحيفة مكتوبا فيها: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا " وقد تقدم في كتاب العلم من طريق أبي جحفية " قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر". والجمع بين هذه الأخبار أن الصحيفة المذكورة كانت مشتملة على مجموع ما ذكر، فنقل كل راو بعضها، وأتمها سياقا طريق أبي حسان كما ترى، والله أعلم. قوله: (المدينة حرم) كذا أورده مختصرا، وسيأتي في الجزية بزيادة في أوله قال فيها " الجراحات وأسنان الإبل". قوله: (من أحدث فيها حدثا) يقيد به مطلق ما تقدم في رواية قيس بن عباد، وأن ذلك يختص بالمدينة لفضلها وشرفها. قوله: (لا يقبل منه صرف ولا عدل) بفتح أولهما، واختلف في تفسيرهما فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري، وعن الحسن البصري بالعكس، وعن الأصمعي الصرف التوبة والعدل الفدية، وعن يونس مثله لكن قال: الصرف الاكتساب، وعن أبي عبيدة مثله لكن قال: العدل الحيلة وقيل المثل، وقيل الصرف الدية والعدل الزيادة عليها، وقيل بالعكس، وحكى صاحب " المحكم " الصرف الوزن والعدل الكيل، وقيل الصرف القيمة والعدل الاستقامة، وقيل الصرف الدية والعدل البديل، وقيل الصرف الشفاعة والعدل الفدية لأنها تعادل الدية وبهذا الأخير جزم البيضاوي، وقيل الصرف الرشوة والعدل الكفيل، قاله أبان بن ثعلب وأنشد: لا نقبل الصرف وهاتوا عدلا فحصلنا على أكثر من عشرة أقوال، وقد وقع في آخر الحديث في رواية المستملى " قال أبو عبد الله: عدل فداء " وهذا موافق لتفسير الأصمعي، والله أعلم. قال عياض: معناه لا يقبل قبول رضا وإن قبل قبول جزاء، وقيل يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما، وقد يكون معنى الفدية أنه لا يجد يوم القيامة فدى يفتدى به بخلاف غيره من المذنبين بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري. وفي الحديث رد لما تدعيه الشيعة بأنه كان عند علي وآل بيته من النبي صلى الله عليه وسلم أمور كثيرة أعلمه بها سرا تشتمل على كثير من قواعد الدين وأمور الإمارة. وفيه جواز كتابة العلم. قوله: (ذمة المسلمين واحدة) أي أمانهم صحيح فإذا أمن الكافر واحد منهم حرم على غيره التعرض له. وللأمان شروط معروفة. وقال البيضاوي: الذمة العهد، سمي بها لأنه يذم متعاطيها على إضاعتها. وقوله يسعى بها أي يتولاها ويذهب ويجئ، والمعنى أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر شريف أو وضيع، فإذا أمن أحد من المسلمين كافرا وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه، فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد، لأن المسلمين كنفس واحدة، وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الجزية والموادعة. وقوله "فمن أخفر " بالخاء المعجمة والفاء أي نقض العهد، يقال خفرته بغير ألف: أمنته، وأخفرته: نقضت عهده. قوله: (ومن يتولى قوما بغير إذن مواليه) لم يجعل الأذن شرطا لجواز الادعاء، وإنما هو لتأكيد التحريم، لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه وحالوا بينه وبين ذلك، قاله الخطابي وغيره، ويحتمل أن يكون كنى بذلك عن بيعه، فإذا وقع بيعه جاز له الانتماء إلى مولاه الثاني وهو غير مولاه الأول، أو المراد موالاة الحلف فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا بإذن. وقال البيضاوي: الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه على قوله " من ادعى إلى غير أبيه " والجمع بينهما بالوعيد، فإن العتق من حيث أنه لحمة كلحمة النسب، فإذا نسب إلى غير من هو له كان كالدعي الذي تبرأ عمن هو منه وألحق نفسه بغيره فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة. ثم أجاب عن الإذن بنحو ما تقدم وقال: ليس هو للتقييد، وإنما هو للتنبيه على ما هو المانع، وهو إبطال حق مواليه. فأورد الكلام على ما هو الغالب. وسيأتي البحث في ذلك في كتب الفرائض إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : رتب المصنف أحاديث الباب ترتيبا حسنا، ففي حديث أنس التصريح بكون المدينة حرما، وفي حديثه الثاني تخصيص النهي عن قطع الشجر بما لا ينبته الآدميون، وفي حديث أبي هريرة بيان ما أجمل من حد حرمها في حديث أنس حيث قال كذا وكذا، فبين في هذا أنه ما بين الحرتين، وفي حديث على زيادة تأكيد التحريم وبيان حد الحرم أيضا. |
08-21-2013, 04:15 PM | #525 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهَا تَنْفِي النَّاسَ الشرح:
قوله: (باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس) أي الشرار منهم، وراعى في الترجمة لفظ الحديث، وقرينة إرادة الشرار من الناس ظاهرة من التشبيه الواقع في الحديث، والمراد بالنفي الإخراج، ولو كانت الرواية تنقي بالقاف لحمل لفظ الناس على عمومه. وقد ترجم المصنف بعد أبواب " المدينة تنفي الخبث". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ الشرح: قوله: (عن يحيى بن سعيد) هو الأنصاري وشيخه أبو الحباب بضم المهملة وبالموحدتين الأولى خفيفة، والإسناد كله مدنيون إلا شيخ البخاري، قال ابن عبد البر: اتفق الرواة عن مالك على إسناده إلا إسحاق بن عيسى الطباع فقال " عن مالك عن يحيى عن سعيد بن المسيب " بدل سعيد بن يسار، وهو خطأ. قلت: وتابعه أحمد بن عمر عن خالد السلمي عن مالك، وأخرجه الدار قطني في " غرائب مالك " وقال هذا وهم والصواب عن يحيى عن سعيد بن يسار. قوله: (أمرت بقرية) أي أمرني ربي بالهجرة إليها أو سكناها فالأول محمول على أنه قاله بمكة، والثاني على أنه قاله بالمدينة. قوله: (تأكل القرى) أي تغلبهم. وكنى بالأكل عن الغلبة لأن الآكل غالب على المأكول. ووقع في " موطأ ابن وهب ": قلت لمالك ما تأكل القرى؟ قال: تفتح القرى. وبسطه ابن بطال فقال: معناه يفتح أهلها القرى فيأكلون أموالهم ويسبون ذراريهم. قال: وهذا من فصيح الكلام. تقول العرب: أكلنا بلد كذا إذا ظهروا عليها. وسبقه الخطابي إلى معنى ذلك أيضا. وقال النووي: ذكروا في معناه وجهين، أحدهما هذا والآخر أن أكلها وميرتها من القرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها. وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها، ومعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عدما. قلت: والذي ذكره احتمالا ذكره القاضي عبد الوهاب فقال: لا معنى لقوله تأكل القرى إلا رجوح فضلها عليها وزيادتها على غيرها، كذا قال. ودعوى الحصر مردودة لما مضى، ثم قال ابن المنير: وقد سميت مكة أم القرى، قال: والمذكور للمدينة أبلغ منه لأن الأمومة لا تنمحي إذا وجدت ما هي له أم، لكن يكون حق الأم أظهر وفضلها أكثر. قوله: (يقولون يثرب وهي المدينة) أي أن بعض المنافقين يسميها يثرب، واسمها الذي يليق بها المدينة. وفهم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين. وروى أحمد من حديث البراء بن عازب رفعه " من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة هي طابة " وروى عمر بن شبة من حديث أبي أيوب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب " ولهذا قال عيسى بن دينار من المالكية: من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة. قال: وسبب هذه الكراهة لأن يثرب إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة، أو من الثرب وهو الفساد، وكلاهما مستقبح، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح. وذكر أبو إسحاق الزجاج في مختصره وأبو عبيد البكري في " معجم ما استعجم " أنها سميت بترب باسم يثرب بن قانية ابن مهلايل بن عيل بن عيص بن إرم بن سام بن نوح لأنه أول من سكنها بعد العرب، ونزل أخوه خيبور خيبر فسميت به، وسقط بعض الأسماء من كلام البكري. قوله: (تنفي الناس) قال عياض: وكأن هذا مختص بزمنه لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه. وقال النووي: ليس هذا بظاهر، لأن عند مسلم " لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد " وهذا والله أعلم زمن الدجال. انتهى. ويحتمل أن يكون المراد كلا من الزمنين، وكان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم كذلك للسبب المذكور، ويؤيده قصة الأعرابي الآتية بعد أبواب فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث معللا به خروج الأعرابي وسؤاله الإقالة عن البيعة، ثم يكون ذلك أيضا في آخر الزمان عندما ينزل بها الدجال فترجف بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه كما سيأتي بعد أبواب أيضا، وأما ما بين ذلك فلا. قوله: (كما ينفي الكير) بكسر الكاف وسكون التحتانية، وفيه لغة أخرى كور بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ فيه لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد والصائغ. قال ابن التين: وقيل الكير هو الزق والحانوت هو الكور. وقال صاحب " المحكم ": الكير الزق الذي ينفخ فيه الحداد. ويؤيد الأول ما رواه عمر بن شبة في " أخبار المدينة " بإسناد له إلى أبي مودود قال: رأى عمر بن الخطاب كير حداد في السوق فضربه برجله حتى هدمه. والخبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة أي وسخه الذي تخرجه النار، والمراد أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل، بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده. ونسبة التمييز للكير لكونه السبب الأكبر في اشتعال النار التي يقع التمييز بها. واستدل بهذا الحديث على أن المدينة أفضل البلاد. قال المهلب: لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها، ولأنها تنفي الخبث وأجيب عن الأول بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين، وعن الثاني بأن ذلك إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة ثم علي وطلحة والزبير وعمار وآخرون وهم من أطيب الخلق، فدل على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس ووقت دون وقت. قال ابن حزم: لو فتحت بلد من بلد فثبت بذلك الفضل للأولى للزم أن تكون البصرة أفضل من خراسان وسجستان وغيرهما مما فتح من جهة البصرة وليس كذلك، وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الاعتصام. *3*باب الْمَدِينَةُ طَابَةٌ الشرح: قوله: (باب المدينة طابة) أي من أسمائها إذ ليس في الحديث أنها لا تسمى بغير ذلك، وذكر فيه طرفا من حديث أبي حميد الساعدي وقد مضى مطولا في أواخر الزكاة، ووقع في بعض طرقه طابة وفي بعضها طيبة، وروى مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعا " أن الله سمى المدينة طابة " ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن سماك بلفظ " كانوا يسمون المدينة يثرب، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم طابة " وأخرجه أبو عوانة، والطاب والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيب، وقيل لطهارة تربتها، وقيل لطيبها لساكنها، وقيل من طيب العيش بها. وقال بعض أهل العلم: وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية، لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها. وقرأت بخط أبي على الصدفي في هامش نسخته من صحيح البخاري بخطه: قال الحافظ أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها يجده من أقام بها، ويجد لطيبها أقوى رائحة، ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب. وللمدينة أسماء غير ما ذكر، منها ما رواه عمر بن شبة في " أخبار المدينة " من رواية زيد بن أسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " للمدينة عشرة أسماء، هي: المدينة، وطابة، وطيبة، والمطيبة، والمسكينة، والدار، وجابرة، ومجبورة، ومنيرة، ويثرب". ومن طريق محمد بن أبي يحيى قال " لم أزل أسمع أن للمدينة عشرة أسماء، هي: المدينة، وطيبة، وطابة، والمطيبة، والمسكينة، والمدري، والجابرة، والمجبورة، والمحببة، والمحبوبة". ورواه الزبير في " أخبار المدينة " من طريق ابن أبي يحيى مثله وزاد " والقاصمة " ومن طريق أبي سهل بن مالك عن كعب الأحبار قال: نجد في كتاب الله الذي أنزل على موسى: أن الله قال للمدينة يا طيبة ويا طابة ويا مسكينة لا تقبلي الكنوز، أرفع أجاجيرك على القرى. وروى الزبير في " أخبار المدينة " من حديث عبد الله بن جعفر قال: سمى الله المدينة الدار والإيمان. ومن طريق عبد العزيز الدراوردي قال: بلغني أن لها أربعين اسما. *3*باب لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ الشرح: قوله: (باب لابتي المدينة) ذكر فيه حديث أبي هريرة " لو رأيت الظباء ترتع - أي تسعى أو ترعى - بالمدينة ما ذعرتها " أي ما قصدت أخذها فأخفتها بذلك، وكنى بذلك عن عدم صيدها. واستدل أبو هريرة بقوله صلى الله عليه وسلم "ما بين لابتيها - أي المدينة - حرام " لأن المراد بذلك المدينة لأنها بين لابتين شرقية وغربية، ولها لابتان أيضا من الجانبين الآخرين إلا أنهما يرجعان إلى الأولين لاتصالهما بهما. والحاصل أن جميع دورها كلها داخل ذلك، وقد تقدم شرح الحديث في الباب الأول. وقوله "ترتع " أي ترعى وقيل تنبسط، وفي قول أبي هريرة هذا إشارة إلى قوله في الحديث الماضي " لا ينفر صيدها"، ونقل ابن خزيمة الاتفاق على أن الإجزاء في صيد المدينة بخلاف صيد مكة. *3*باب مَنْ رَغِبَ عَنْ الْمَدِينَةِ الشرح: قوله: (باب من رغب عن المدينة) أي فهو مذموم، أو باب حكم من رغب عنها. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ لَا يَغْشَاهَا إِلَّا الْعَوَافِ يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا الشرح: قوله: (تتركون المدينة) كذا للأكثر بتاء الخطاب، والمراد بذلك غير المخاطبين، لكنهم من أهل البلد أو من نسل المخاطبين أو من نوعهم، وروى " يتركون " بتحتانية ورجحه القرطبي. قوله: (على خير ما كانت) أي على أحسن حال كانت عليه من قبل، قال القرطبي تبعا لعياض: قد وجد ذلك حيث صارت معدن الخلافة ومقصد الناس وملجأهم، وحملت إليها خيرات الأرض وصارت من أعمر البلاد، فلما انتقلت الخلافة عنها إلى الشام ثم إلى العراق وتغلبت عليها الأعراب تعاورتها الفتن وخلت من أهلها فقصدتها عوافي الطير والسباع. والعواني جمع عافية وهي التي تطلب أقواتها، ويقال للذكر عاف. قال ابن الجوزي: اجتمع في العوافي شيئان أحدهما أنها طالبة لأقواتها من قولك عفوت فلانا أعفوه فأنا عاف والجمع عفاة، أي أتيت أطلب معروفه، والثاني من العفاء وهو الموضع الخالي الذي لا أنيس به فإن الطير والوحش تقصده لأمنها على نفسها فيه. وقال النووي: المختار أن هذا الترك يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة، ويؤيده قصة الراعيين فقد وقع عند مسلم بلفظ " ثم يحشر راعيان " وفي البخاري أنهما آخر من يحشر. قلت: ويؤيده ما روى مالك عن ابن حماس بمهملتين وتخفيف عن عمه عن أبي هريرة رفعه " لتتركن المدينة على أحسن ما كانت حتى يدخل الذئب فيعوي على بعض سواري المسجد أو على المنبر. قالوا: فلمن تكون ثمارها؟ قال: للعوافي الطير والسباع " أخرجه معن بن عيسى في " الموطأ " عن مالك ورواه جماعة من الثقات خارج الموطأ، ويشهد له أيضا ما روى أحمد والحاكم وغيرهما من حديث محجن بن الأدرع الأسلمي قال " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة، ثم لقيني وأنا خارج من بعض طرق المدينة فأخذ بيدي حتى أتينا أحدا، ثم أقبل على المدينة فقال: ويل أمها قرية يوم يدعها أهلها كأينع ما يكون. قلت يا رسول الله من يأكل ثمارها؟ قال: عافية الطير والسباع". وروى عمر بن شبة بإسناد صحيح عن عوف بن مالك قال " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ثم نظر إلينا فقال: أما والله ليدعنها أهلها مذللة أربعين عاما للعوافي، أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع". قلت: وهذا لم يقع قطعا. وقال المهلب: في هذا الحديث أن المدينة تسكن إلى يوم القيامة وإن خلت في بعض الأوقات لقصد الراعيين بغنمهما إلى المدينة. قوله: (وآخر من يحشر راعيان من مزينة) هذا يحتمل أن يكون حديثا آخر مستقلا لا تعلق له بالذي قبله، ويحتمل أن يكون من تتمة الحديث الذي قبله، وعلى هذين الاحتمالين يترتب الاختلاف الذي حكيته عن القرطبي والنووي، والثاني أظهر كما قال النووي. قوله: (ينعقان) بكسر المهملة بعدها قاف، النعيق زجر الغنم، يقال نعق ينعق بكسر العين وفتحها نعيقا ونعاقا ونعقانا إذا صاح بالغنم، وأغرب الداودي فقال: معناه يطلب الكلأ، وكأنه فسره بالمقصود من الزجر لأنه يزجرها عن المرعى الوبيل إلى المرعى الوسيم. قوله: (فيجدانها وحوشا) أو يجدانها ذات وحش، أو يجدان أهلها قد صاروا وحوشا، وهذا على أن الرواية بفتح الواو أي يجدانها خالية وفي رواية مسلم " فيجدانها وحشا " أي خالية ليس بها أحد، والوحش من الأرض الخلاء، أو كثرة الوحش لما خلت من سكانها. قال النووي: الصحيح أن معناه يجدانها ذات وحوش، قال: وقد يكون وحشا بمعنى وحوش، وأصل الوحش كل شيء توحش من الحيوان وجمعه وحوش، وقد يعبر بواحده عن جمعه. وحكى عن ابن المرابط أن معناه أن غنم الراعيين المذكورين تصير وحوشا إما بأن تنقلب ذاتها وإما أن تتوحش وتنفر منهما، وعلى هذا فالضمير في يجدانها يعود على الغنم والظاهر خلافه. قال النووي: الصواب الأول. وقال القرطبي: القدرة صالحة لذلك. انتهى. ويؤيده أن في بقية الحديث أنهما يخران على وجوههما إذا وصلا إلى ثنية الوداع، وذلك قبل دخولهما المدينة بلا شك، فيدل على أنهما وجدا التوحش المذكور قبل دخول المدينة فيقوى أن الضمير يعود على غنمهما وكأن ذلك من علامات قيام الساعة. ويوضح هذا رواية عمر بن شبة في " أخبار المدينة " من طريق عطاء بن السائب عن رجل من أشجع عن أبي هريرة موقوفا قال " آخر من يحشر رجلان رجل من مزينة وآخر من جهينة، فيقولان: أين الناس؟ فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعالب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس". قوله "وآخر من يحشر " في رواية مسلم من طريق عقيل عن الزهري " ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة " لم يذكر في الحديث حشرهما، وإنما ذكر مقدمته، لأن الحشر إنما يقع بعد الموت، فذكر سبب موتهما والحشر يعقبه. وقوله على هذا " خرا على وجوههما " أي سقطا ميتين، أو المراد بقوله خرا على وجوههما أي سقطا بمن أسقطهما، وهو الملك كما تقدم في رواية عمر بن شبة. وفي رواية للعقيلي " أنهما كانا ينزلان بجبل ورقان"، وله من حديث حذيفة ابن أسيد " أنهما يفقدان الناس فيقولان: ننطلق إلى بني فلان، فيأتيانهم فلا يجدان أحدا فيقولان: ننطلق إلى المدينة، فينطلقان فلا يجدان بها أحدا، فينطلقان إلى البقيع فلا يريان إلا السباع والثعالب " وهذا يوضح أحد الاحتمالات المتقدمة، وقد روى ابن حبان من طريق عروة عن أبي هريرة رفعه " آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة"، وهو يناسب كون آخر من يحشر يكون منها. (تنبيه) : أنكر ابن عمر على أبي هريرة تعبيره في هذا الحديث بقوله " خير ما كانت " وقال: إن الصواب أعمر ما كانت، أخرج ذلك عمر بن شبة في " أخبار المدينة " من طريق مساحق بن عمرو أنه كان جالسا عند ابن عمر " فجاء أبو هريرة فقال له: لم ترد على حديثي؟ فوالله لقد كنت أنا وأنت في بيت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منها أهلها خبر ما كنت. فقال ابن عمر: أجل ولكن لم يقل خير ما كانت، إنما قال أعمر ما كانت، ولو قال خير ما كانت لكان ذلك وهو حي وأصحابه، فقال أبو هريرة: صدقت والذي نفسي بيده". وروى مسلم من حديث حذيفة أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يخرج أهل المدينة من المدينة، ولعمر بن شبة من حديث أبي هريرة " قيل يا أبا هريرة من يخرجهم؟ قال أمراء السوء". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الشرح: قوله: (عن أبيه) هو عروة بن الزبير، وعبد الله بن الزبير أخوه. وفي الإسناد صحابي عن صحابي وتابعي عن تابعي لأن هشاما قد لقي بعض الصحابة. قوله: (عن سفيان بن أبي زهير) كذا للأكثر ورواه حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه كذلك وقال في آخره " قال عروة ثم لقيت سفيان بن أبي زهير عند موته فأخبرني بهذا الحديث " وذكر علي بن المديني أنه اختلف فيه على هشام اختلافا آخر، فقال وهيب وجماعة كما قال مالك. وقال ابن عيينة عن هشام بسنده: عن سفيان بن الغوث. وقال أبو معاوية عن هشام بسنده: عن سفيان بن عبد الله الثقفي قلت: قد رواه الحميدي عن سفيان على الصواب، ورواه أبو خيثمة عن جرير فقال: سفيان بن أبي قلابة، كأنه عرف خطأ جرير فكني عنه، واسم أبي زهير القرد بفتح القاف وكسر الراء بعدها مهملة وقيل نمير، وهو الشنوئي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة مفتوحة وفي النسب كذلك، وقيل بفتح النون بعدها همزة مكسورة بلا واو، وشنوءة هو عبد الله بن كعب بن مالك بن نضر ابن الأزد، وسمي شنوءة لشنآن كان بينه وبين قومه. قوله: (فتح اليمن) قال ابن عبد البر وغيره: افتتحت اليمن في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي أيام أبي بكر، وافتتحت الشام بعدها، والعراق بعدها. وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد وقع على وفق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ترتيبه، ووقع تفرق الناس في البلاد لما فيها من السعة والرخاء، ولو صبروا على الإقامة بالمدينة لكان خيرا لهم. وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة وهو أمر مجمع عليه. وفيه دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض، ولم يختلف العلماء في أن للمدينة فضلا على غيرها، وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة. قوله: (يبسون) بفتح أوله وضم الموحدة وبكسرها من بس يبس. قال ابن عبد البر: في رواية يحيى بن يحيى بكسر الموحدة، وقيل إن ابن القاسم رواه بضمها، قال أبو عبيد: معناه يسوقون دوابهم، والبس سوق الإبل تقول بس بس عند السوق وإرادة السرعة. وقال الداودي: معناه يزجرون دوابهم فيبسون ما يطؤونه من الأرض من شدة السير فيضير غبارا. قال تعالى (وبست الجبال بسا) أي سالت سيلا، وقيل معناه سارت سيرا. وقال ابن القاسم: البس المبالغة في الفت ومنه قيل للدقيق المصنوع بالدهن بسيس، وأنكر ذلك النووي وقال إنه ضعيف أو باطل. قال ابن عبد البر: وقيل معنى يبسون يسألون عن البلاد ويستقرئون أخبارها ليسيروا إليها. قال: وهذا لا يكاد يعرفه أهل اللغة. وقيل معناه يزينون لأهلهم البلاد التي تفتح ويدعونهم إلى سكناها فيتحملون بسبب ذلك من المدينة راحلين إليها، ويشهد لهذا حديث أبي هريرة عند مسلم " يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، والمدينة خبر لهم لو كانوا يعلمون " وعلى هذا فالذين يتحملون غير الذين يبسون، كأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن البلد ورخاؤها فدعا قريبه إلى المجيء إليها لذلك فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه. قال ابن عبد البر: وروى يبسون بضم أوله وكسر ثانيه من الرباعي من أبس إبساسا ومعناه يزينون لأهلهم البلد التي يقصدونها، وأصل الإبساس للتي تحلب حتى تدر باللبن، وهو أن يجري يده على وجهها وصفحة عنقها كأنه يزين لها ذلك ويحسنه لها، وإلى هذا ذهب ابن وهب، وكذا رواه ابن حبيب عن مطرف عن مالك يبسون من الرباعي وفسره بنحو ما ذكرنا، وأنكر الأول غاية الإنكار. وقال النووي: الصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملا بأهله باسا في سيره مسرعا إلى الرخاء والأمصار المفتتحة. قلت: ويؤيده رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام عن عروة في هذا الحديث بلفظ " تفتح الشام، فيخرج الناس من المدينة إليها يبسون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " ويوضح ذلك ما روى أحمد من حديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاء، ثم يأتون فيتحملون بأهليهم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون". وفي إسناده ابن لهيعة ولا بأس به في المتابعات، وهو يوضح ما قلناه، والله أعلم. وروى أحمد في أول حديث سفيان هذا قصة أخرجها من طريق بشر بن سعيد أنه سمع في مجلس الليثيين يذكرون " أن سفيان بن أبي زهير أخبرهم أن فرسه أعيت بالعقيق وهو في بعث بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إليه يستحمله، فخرج معه يبتغي له بعيرا فلم يجده إلا عند أبي جهم بن حذيفة العدوي، فسامه له، فقال له أبو جهم: لا أبيعكها يا رسول الله، ولكن خذه فاحمل عليه من شئت. ثم خرج حتى إذا بلغ بئر إهاب قال: يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان، ويوشك الشام أن يفتح، فيأتيه رجال من أهل هذا البلد فيعجبهم ريعه ورخاؤه، والمدينة خير لهم " الحديث. قوله: (لو كانوا يعلمون) أي بفضلها من الصلاة في المسجد النبوي وثواب الإقامة فيها وغير ذلك، ويحتمل أن يكون " لو " بمعنى ليت فلا يحتاج إلى تقدير، وعلى الوجهين ففيه تجهيل لمن فارقها وآثر غيرها، قالوا والمراد به الخارجون من المدينة رغبة عنها كارهين لها، وأما من خرج لحاجة أو تجارة أو جهاد أو نحو ذلك فليس بداخل في معنى الحديث. قال الطيبي: الذي يقتضيه هذا المقام أن ينزل ما لا يعلمون منزلة اللازم لتنتفي عنهم المعرفة بالكلية، ولو ذهب مع ذلك إلى التمني لكان أبلغ، لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله، أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظا وتشديدا. وقال البيضاوي: المعنى أنه يفتح اليمن فيعجب قوما بلادها وعيش أهلها فيحملهم ذلك على المهاجرة إليها بأنفسهم وأهلهم حتى يخرجوا من المدينة، والحال أن الإقامة في المدينة خير لهم لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات، لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الدينية بالعوائد الأخروية التي يستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها. وقواه الطيبي لتنكير قوم ووصفهم بكونهم يبسون، ثم توكيده بقوله " لو كانوا يعلمون " لأنه يشعر بأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية والحطام الفاني وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول، ولذلك كرر قوما ووصفه في كل قرينة بقوله يبسون استحضارا لتلك الهيئة القبيحة، والله أعلم. |
08-21-2013, 04:16 PM | #526 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الْإِيمَانُ يَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ الشرح:
قوله: (باب الإيمان يأرز) بفتح أوله وسكون الهمزة وكسر الراء وقد تضم بعدها زاي، وحكى ابن التين عن بعضهم فتح الراء وقال إن الكسر هو الصواب، وحكى أبو الحسن بن سراج ضم الراء، وحكى القابسي الفتح ومعناه ينضم ويجتمع. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا الشرح: قوله: (حدثني عبيد الله) هو ابن عمر العمري. قوله: (عن خبيب) بالمعجمة مصغرا وكذا رواه أكثر أصحاب عبيد الله، وخبيب هو خال عبيد الله المذكور، وقد روى عنه بهذا الإسناد عدة أحاديث. وفي رواية يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أخرجه ابن حبان والبزار. وقال البزار إن يحيى بن سليم أخطأ فيه، وهو كما قال، وهو ضعيف في عبيد الله بن عمر. قوله: (عن حفص بن عاصم) أي ابن عمر بن الخطاب. قوله: (كما تأرز الحية إلى جحرها) أي أنها كما تنتشر من جحرها في طلب ما تعيش به فإذا راعها شيء رجعت إلى جحرها كذلك الإيمان انتشر في المدينة، وكل مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة لمحبته في النبي صلى الله عليه وسلم، فيشمل ذلك جميع الأزمنة لأنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعهم للاقتداء بهديهم، ومن بعد ذلك لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده والتبرك بمشاهدة آثاره وآثار أصحابه. وقال الداودي: كان هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والقرن الذي كان منهم والذين يلونهم والذين يلونهم خاصة. وقال القرطبي: فيه تنبيه على صحة مذهب أهل المدينة وسلامتهم من البدع وأن عملهم حجة كما رواه مالك. ا ه. وهذا إن سلم اختص بعصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وأما بعد ظهور الفتن وانتشار الصحابة في البلاد ولا سيما في أواخر المائة الثانية وهلم جرا فهو بالمشاهدة بخلاف ذلك. *3*باب إِثْمِ مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ الشرح: قوله: (باب إثم من كاد أهل المدينة) أي أراد بأهلها سوءا، والكيد المكر والحيلة في المساءة. الحديث: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ عَنْ جُعَيْدٍ عَنْ عَائِشَةَ هِيَ بِنْتُ سَعْدٍ قَالَتْ سَمِعْتُ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ الشرح: قوله: (أخبرنا الفضل) هو ابن موسى، الجعيد هو ابن عبد الرحمن، وعائشة بنت سعد أي ابن أبي وقاص، (قالت سمعت سعيدا) تعني أباها. قوله: (إلا انماع) أي ذاب. وفي رواية مسلم من طريق أبي عبد الله القراظ عن أبي هريرة وسعد جميعا فذكر حديثا فيه " من أراد أهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء". وفي هذه الطريق تعقب على القطب الحلبي حيث زعم أن هذا الحديث من أفراد البخاري، نعم في أفراد مسلم من طريق عامر بن سعد عن أبيه في أثناء حديث " ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص، أو ذوب الملح في الماء". قال عياض: هذه الزيادة تدفع إشكال الأحاديث الأخر، وتوضح أن هذا حكمه في الآخرة. ويحتمل أن يكون المراد من أرادها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بسوء اضمحل أمره كما يضمحل الرصاص في النار، فيكون في اللفظ تقديم وتأخير، ويؤيده قوله " أو ذوب الملح في الماء"، ويحتمل أن يكون المراد لمن أرادها في الدنيا بسوء وأنه لا يمهل بل يذهب سلطانه عن قرب كما وقع لمسلم ابن عقبة وغيره فإنه عوجل عن قرب وكذلك الذي أرسله، قال ويحتمل أن يكون المراد من كادها اغتيالا وطلبا لغرتها في غفله فلا يتم له أمر، بخلاف من أتى ذلك جهارا كما استباحها مسلم بن عقبة وغيره. وروى النسائي من حديث السائب بن خلاد رفعه " من أخاف أهل المدينة ظالما لهم أخافه الله وكانت عليه لعنة الله " الحديث. ولابن حبان نحوه من حديث جابر. *3*باب آطَامِ الْمَدِينَةِ الشرح: قوله: (باب آطام المدينة) بالمد، جمع أطم بضمتين وهي الحصون التي تبنى بالحجارة، وقيل هو كل بيت مربع مسطح، والآطام جمع قلة وجمح الكثرة أطؤم، والواحدة أطمة كأكمة. وقد ذكر الزبير بن بكار في " أخبار المدينة " ما كان بها من الآطام قبل حلول الأوس والخزرج بها، ثم ما كان بها بعد حلولهم وأطال في ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ سَمِعْتُ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى إِنِّي لَأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ الشرح: قوله: (أشرف) أي نظر من مكان مرتفع. قوله: (مواقع) أي مواضع السقوط، و (خلال) أي نواحيها، شبه سقوط الفتن وكثرتها بسقوط القطر في الكثرة والعموم، وهذا من علامات النبوة لإخباره بما سيكون، وقد ظهر مصداق ذلك من قتل عثمان وهلم جرا ولا سيما يوم الحرة، والرؤية المذكورة يحتمل أن تكون بمعنى العلم أو رؤية العين بأن تكون الفتن مثلت له حتى رآها، كما مثلت له الجنة والنار في القبلة حتى رآهما وهو يصلي. قوله: (تابعه معمر وسليمان بن كثير) أما رواية معمر فوصلها المؤلف في الفتن، وأما متابعة سليمان ابن كثير فوصلها المؤلف في " بر الوالدين " له خارج الصحيح، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الفتن. *3*باب لَا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ الْمَدِينَةَ الشرح: قوله: (باب لا يدخل الدجال المدينة) أورد فيه أربعة أحاديث، الأول: حديث أبي بكرة، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب الفتن. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ الشرح: قوله: (عن جده) هو إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. قوله: (على كل باب) في رواية الكشميهني " لكل باب". الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ الشرح: قوله: (على أنقاب المدينة) جمع نقب بفتح النون والقاف بعدها موحدة، ووقع في حديث أنس وأبي سعيد اللذين بعده " على نقابها " جمع نقب بالسكون وما بمعنى. قال ابن وهب: المراد بها المداخل، وقيل الأبواب. وأصل النقب الطريق بين الجبلين، وقيل: الأنقاب الطرق التي يسلكها الناس، ومنه قوله تعالى (فنقبوا في البلاد) . قوله: (لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) سيأتي في الطب بيان من زاد في هذا الحديث مكة. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ الشرح: حديث أنس: قوله: (حدثنا أبو عمرو) هو الأوزاعي وإسحاق هو ابن عبد الله بن أبي طلحة. قوله: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال) هو على ظاهره وعمومه عند الجمهور، وشذا ابن حزم فقال: المراد ألا يدخله بعثه وجنوده، وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد لقصر مدته، وغفل عما ثبت في صحيح مسلم أن بعض أيامه يكون قدر السنة. قوله: (ثم ترجف المدينة) أي يحصل لها زلزلة بعد أخرى ثم ثالثة حتى يخرج منها من ليس مخلصا في إيمانه ويبقى بها المؤمن الخالص فلا يسلط عليه الدجال. ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكرة الماضي أنه لا يدخل المدينة رعب الدجال، لأن المراد بالرعب ما يحدث من الفزع من ذكره والخوف من عتوه، لا الرجفة التي تقع بالزلزلة لإخراج من ليس بمخلص. وحمل بعض العلماء الحديث الذي فيه أنها تنفي الخبث على هذه الحالة دون غيرها، وقد تقدم أن الصحيح في معناه أنه خاص بناس وبزمان، فلا مانع أن يكون هذا الزمان هو المراد، ولا يلزم من كونه مرادا نفي غيره. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْ الدَّجَّالِ فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْ قَالَ يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَهُ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَلْ تَشُكُّونَ فِي الْأَمْرِ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الْيَوْمَ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ أَقْتُلُهُ فَلَا أُسَلَّطُ عَلَيْهِ الشرح: حديث أبي سعيد: قوله: (بعض السباخ) بكسر المهملة وبالموحدة الخفيفة وآخره معجمة، وسيأتي الكلام عليه أيضا في الفتن. وحاصل ما في هذه الأحاديث إعلامه صلى الله عليه وسلم أن الدجال لا يدخل المدينة ولا الرعب منه كما مضى. *3*باب الْمَدِينَةُ تَنْفِي الْخَبَثَ الشرح: قوله: (باب) بالتنوين (المدينة تنفي الخبث) أي بإخراجه وإظهاره. الحديث: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَجَاءَ مِنْ الْغَدِ مَحْمُومًا فَقَالَ أَقِلْنِي فَأَبَى ثَلَاثَ مِرَارٍ فَقَالَ الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا الشرح: قوله: (حدثنا عمرو بن عباس) بالموحدة والمهملة، وعبد الرحمن هو ابن مهدي، وسفيان هو الثوري. قوله: (عن جابر) وقع في الأحكام من وجه آخر عن ابن المنكدر قال " سمعت جابرا". قوله: (جاء أعرابي) لم أقف على اسمه، إلا أن الزمخشري ذكر في " ربيع الأبرار " أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور صرحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن كان محفوظا فلعله آخر وافق اسمه واسم أبيه. وفي " الذيل " لأبي موسى " في الصحابة قيس بن أبي حازم المنقري " فيحتمل أن يكون هو هذا. قوله: (فبايعه على الإسلام، فجاء من الغد محموما فقال أقلني) ظاهره أنه سأل الإقالة من الإسلام وبه جزم عياض. وقال غيره إنما استقاله من الهجرة وإلا لكان قتله على الردة، سيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفي في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. قوله: (ثلاث مرار) يتعلق بأقلني ويقال معا. قوله: (تنفي خبثها) تقدم الكلام عليه في أوائل المدينة. قوله: (وتنصع) بفتح أوله وسكون النون وبالمهملتين من النصوع وهو الخلوص، والمعنى أنها إذا نفت الخبث تميز الطيب واستقر فيها، وأما قوله: (طيبها) فضبطه الأكثر بالنصب على المفعولية. وفي رواية الكشميهني بالتحتانية أوله ورفع طيبها على الفاعلية وطيبها للجميع بالتشديد، وضبطه القزاز بكسر أوله والتخفيف ثم استشكله فقال: لم أر للنصوع في الطيب ذكرا، وإنما الكلام يتضوع بالضاد المعجمة وزيادة الواو الثقيلة. قال: ويروى " وتنضخ " بمعجمتين، وأغرب الزمخشري في " الفائق " فضبطه بموحدة وضاد معجمة وعين وقال: هو من أبضعه بضاعة إذا دفعها إليه، يعني أن المدينة تعطي طيبها لمن سكنها. وتعقبه الصغاني بأنه خالف جميع الرواة في ذلك. وقال ابن الأثير: المشهور بالنون والصاد المهملة. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ نَقْتُلُهُمْ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ لَا نَقْتُلُهُمْ فَنَزَلَتْ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا تَنْفِي الرِّجَالَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ الشرح: قوله: (عن عبد الله بن يزيد) هو الخطمي، وفي الإسناد صحابيان أنصاريان في نسق واحد. قوله: (رجع ناس من أصحابه) هم عبد الله بن أبي ومن تبعه، وسيأتي الكلام عليه في تفسير سورة النساء، والغرض منه هنا بيان ابتداء قوله " تنفي الرجال " وأنه كان في أحد. قوله: (الرجال) كذا للأكثر وللكشميهني الدجال بالدال وتشديد الجيم وهو تصحيف، ووقع في غزوة أحد " تنفي الذنوب " وفي تفسير النساء " تنفي الخبث " وأخرجه في هذه المواضع كلها من طريق شعبة، وقد أخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طريق غندر عن شعبة باللفظ الذي أخرجه في التفسير من طريق غندر، وغندر أثبت الناس في شعبة، وروايته توافق رواية حديث جابر الذي قبله حيث قال فيه " تنفي خبثها " وكذا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ " تخرج الخبث " ومضى في أول فضائل المدينة من وجه آخر عن أبي هريرة " تنفي الناس " والرواية التي هنا بلفظ " تنفي الرجال " لا تنافي الرواية بلفظ الخبث بل هي مفسرة للرواية المشهورة، بخلاف " تنفي الذنوب"، ويحتمل أن يكون فيه حذف تقديره أهل الذنوب فيلتئم مع باقي الروايات. *3*باب الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي سَمِعْتُ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ تَابَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ يُونُسَ الشرح: قوله: (باب) كذا للأكثر بلا ترجمة، وسقط من رواية أبي ذر فأشكل، وعلى تقدير ثبوته فلا بد له من تعلق بالذي قبله لأنه بمنزلة الفصل من الباب. وقد أورد فيه حديثين لأنس، ووجه تعلق الأول منها بترجمة نفي الخبث أن قضية الدعاء بتضعيف البركة وتكثيرها تقليل ما يضادها فيناسب ذلك نفي الخبث، ووجه تعلق الثاني أن قضية حب الرسول للمدينة أن تكون بالغة في طيب ذاتها وأهلها فيناسب ذلك أيضا، وقد تقدم الكلام على الثاني في أواخر أبواب العمرة، وأما الأول فقوله فيه " حدثنا أبي " هو جرير بن حازم، ويونس هو ابن يزيد. قوله: (أجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة) أي من بركة الدنيا بقرينة قوله في الحديث الآخر " اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا " ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك، لكن يستثنى من ذلك ما خرج بدليل، كتضعيف الصلاة بمكة على المدينة، واستدل به عن تفضيل المدينة على مكة وهو ظاهر من هذه الجهة، لكن لا يلزم من حصول أفضلية المفضول في شيء من الأشياء ثبوت الأفضلية له على الإطلاق. وأما من ناقض ذلك بأنه يلزم أن يكون الشام واليمن أفضل من مكة لقوله في الحديث الآخر " اللهم بارك لنا في شامنا " وأعادها ثلاثا فقد تعقب بأن التأكيد لا يستلزم التكثير المصرح به في حديث الباب. وقال ابن حزم: لا حجة في حديث الباب لهم لأن تكثير البركة بها لا يستلزم الفضل في أمور الآخرة. ورده عياض بأن البركة أعم من أن تكون في أمور الدين أو الدنيا، لأنها بمعنى النماء والزيادة، فأما في الأمور الدينية فلما يتعلق بها من حق الله تعالى من الزكاة والكفارات ولا سيما في وقوع البركة في الصاع والمد. وقال النووي: الظاهر أن البركة حصلت في نفس المكيل بحيث يكفي المد فيها من لا يكفيه في غيرها، وهذا أمر محسوس عند من سكنها. وقال القرطبي: إذا وجدت البركة فيها في وقت حصلت إجابة الدعوة ولا يستلزم دوامها في كل حين ولكل شخص، والله أعلم. قوله: (تابعه عثمان بن عمر عن يونس) أي تابع جرير بن حازم في روايته لهذا الحديث عن يونس ابن يزيد عن الزهري عثمان بن عمر بن فارس فرواه عن يونس بن يزيد، ورواية عثمان بن عمر موصولة في " كتاب علل حديث الزهري " جمع محمد بن يحيى الذهلي، كذا وجدته بخط بعض المصنفين ولم أقف عليه في كتاب الذهلي، وقد ضاق مخرجه على الإسماعيلي فأخرجه من طريق عبد الله بن وهب ومن طريق شبيب بن سعيد وعلقمة من طريق عنبسة بن خالد كلهم عن يونس بن يزيد، وساق رواية وهب بن جرير فقال " حدثنا أبو يعلى حدثنا زهير أبو خيثمة وقاسم بن أبي شيبة كلاهما عن وهب بن جرير " وصرح في رواية زهير عن وهب بسماع جرير له من يونس، ثم قال قاسم بن أبي شيبة: ليس من شرط هذا الكتاب. ونقل مغلطاي كلام الإسماعيلي هذا وتبعه شيخنا ابن الملقن وقال في آخره: قال الإسماعيلي أبو شيبة ليس من شرط هذا الكتاب، وهو سهو كأنه أراد أن يكتب قاسم بن أبي شيبة فقال وأبو شيبة. ثم قال مغلطاي: وقال الإسماعيلي " قال الحسن عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فذكره وقال: يعني المدينة ا ه. وهذا نظر من لم يطلع على حقيقة الحال فيه، إذ الإسماعيلي ذكر رواية الحسن عن أنس لهذا الحديث متابعة لرواية يونس عن الزهري عن أنس، كما ذكر رواية ابن وهب وشبيب بن سعيد متابعة لجرير ابن حازم عن يونس، وليس كذلك وإنما أورد الإسماعيلي طريق شبيب بن سعيد فقال: أخبرني الحسن يعني ابن سفيان حدثنا إبراهيم بن سعيد حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد حدثنا أبي عن يونس عن الزهري، ثم تحول الإسماعيلي إلى طريق ابن وهب، قال ابن وهب: حدثنا يونس عن ابن شهاب حدثني أنس، وساق الحديث على لفظه ثم قال بعد فراغه: وقال الحسن عن أنس، ومراده أن رواية ابن وهب فيها تصريح ابن شهاب وهو الزهري أن أنسا حدثه، بخلاف رواية شبيب بن سعيد التي أخرجها من طريق الحسن بن سفيان فإنه قال فيها: عن أنس. |
08-21-2013, 04:20 PM | #527 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب كَرَاهِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ الشرح:
قوله: (باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة) ذكر فيه حديث أنس في قصة بني سلمة وقد تقدم الكلام عليه في " باب احتساب الآثار " في أوائل صلاة الجماعة. (تنبيه) : ترجم البخاري بالتعليلين، فترجم في الصلاة باحتساب الآثار لقوله صلى الله عليه وسلم "مكانكم تكتب لكم آثاركم " وترجم هنا بما ترى لقول الراوي " فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة " وكأنه صلى الله عليه وسلم اقتصر في مخاطبتهم على التعليل المتعلق بهم لكونه أدعى لهم إلى الموافقة. الحديث: حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُعْرَى الْمَدِينَةُ وَقَالَ يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلَا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ فَأَقَامُوا الشرح: قوله (ألا تحتسبون) كذا للأكثر. وفي رواية " ألا تحتسبوا " وحذف نون الرفع في مثل هذا لغة مشهورة. *3*باب الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي الشرح: قوله: (باب) كذا في جميع النسخ بلا ترجمة، وهو مشتمل على حديثين وأثر، ولكل منهما تعلق بالترجمة التي قبله: فحديث " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " فيه إشارة إلى الترغيب في سكنى المدينة، وحديث عائشة في قصة وعك أبي بكر وبلال فيه دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمدينة بقوله " اللهم صححها " وفي ذلك إشارة إلى الترغيب في سكناها أيضا، وأثر عمر في دعائه بأن تكون وفاته بها ظاهر في ذلك، وفي كل ذلك مناسبة لكراهته صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، أي تصير خالية. فأما الحديث الأول في المنبر فقوله " ما بين بيتي ومنبري " كذا للأكثر، ووقع في رواية ابن عساكر وحده قبري بدل " بيتي " وهو خطأ، فقد تقدم هذا الحديث في كتاب الصلاة قبيل الجنائز بهذا الإسناد بلفظ " بيتي " وكذلك هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه، نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار بسند رجاله ثقات وعند الطبراني من حديث ابن عمر بلفظ القبر، فعلى هذا المراد بالبيت في قوله بيتي أحد بيوته لا كلها وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ " ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة " أخرجه الطبراني في الأوسط. قوله: (روضة من رياض الجنة) أي كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم فيكون تشبيها بغير أداة، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة فيكون مجازا، أو هو على ظاهره وأن المراد أنه روضة حقيقة بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنة. هذا محصل ما أوله العلماء في هذا الحديث، وهي على ترتيبها هذا في القوة، وأما قوله " ومنبري على حوضي " أي ينقل يوم القيامة فينصب على الحوض. وقال الأكثر المراد منبره بعينه الذي قال هذه المقالة وهو فوقه، وقيل المراد المنبر الذي يوضع له يوم القيامة، والأول أظهر. ويؤيده حديث أبي سعيد المتقدم وقد رواه الطبراني في " الكبير " من حديث أبي واقد الليثي رفعه " إن قوائم منبري رواتب في الجنة " وقيل معناه أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه إلى الحوض ويقتضي شربه منه، والله أعلم. ونقل ابن زبالة أن ذرع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعا وقيل أربع وخمسون وسدس وقيل خمسون إلا ثلثي ذراع وهو الآن كذلك فكأنه نقص لما أدخل من الحجرة في الجدار، واستدل به على أن المدينة أفضل من مكة لأنه أثبت التي بين البيت والمنبر من الجنة، وقد قال الحديث الآخر " لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها " وتعقبه ابن حزم بأن قوله أنها من الجنة مجازا إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة (أن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة كما يقال في اليوم الطيب هذا من أيام الجنة، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الجنة تحت ظلال السيوف " قال: ثم لو ثبت أنه على الحقيقة لما كان الفضل إلا لتلك البقعة خاصة، فإن قيل إن ما قرب منها أفضل مما بعد لزمهم أن يقولوا إن الجحفة أفضل من مكة ولا قائل به. وأما حديث عائشة فقوله " وعك " بضم أوله أي أصابه الوعك وهو الحمى، وقيل مغث الحمى، وسيأتي شرح هذا الحديث مستوفي في كتاب المغازي أول الهجرة إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَالَ اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا وَصَحِّحْهَا لَنَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ قَالَتْ وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ قَالَتْ فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا تَعْنِي مَاءً آجِنًا الشرح: قوله: (قالت) يعني عائشة، والقائل عروة فهو متصل. قوله: (وهي أوبأ) بالهمز بوزن أفعل من الوباء والوباء مقصور بهمز وبغير همز هو المرض العام، ولا يعارض قدومهم عليها وهي بهذه الصفة نهيه صلى الله عليه وسلم عن القدوم على الطاعون، لأن ذلك كان قبل النهي، أو أن النهي يختص بالطاعون ونحوه من الموت الذريع لا المرض ولو عم. قوله: (قالت فكان بطحان) يعني وادي، المدينة وقولها (يجري نجلا، تعني ماء آجنا) هو من تفسير الراوي عنها، وغرضها بذلك بيان السبب في كثرة الوباء بالمدينة، لأن الماء الذي هذه صفته يحدث عنده المرض، وقيل النجل النز بنون وزاي، يقال استنجل الوادي إذا ظهر نزوزه. و " نجلا " بفتح النون وسكون الجيم وقد تفتح حكاه ابن التين. وقال ابن فارس: النجل بفتحتين سعة العين وليس هو المراد هنا. وقال ابن السكيت: النجل العين حين تظهر وينبع عين الماء. وقال الحربي نجلا أي واسعا، ومنه عين نجلاء أي واسعة، وقيل هو الغدير الذي لا يزال فيه الماء. قوله: (تعني ماء آجنا) بفتح الهمزة وكسر الجيم بعدها نون أي متغيرا، قال عياض: هو خطأ ممن فسره فليس المراد هنا الماء المتغير. قلت: وليس كما قال فإن عائشة قالت ذلك في مقام التعليل لكون المدينة كانت وبيئة، ولا شك أن النجل إذا فسر بكونه الماء الحاصل من النز فهو بصدد أن يتغير وإذا تغير كان استعماله مما يحدث الوباء في العادة. وأما أثر عمر فذكر ابن سعد سبب دعائه بذلك، وهو ما أخرجه بإسناد صحيح عن عوف بن مالك أنه رأى رؤيا فيها أن عمر شهيد مستشهد، فقال لما قصها عليه أنى لي بالشهادة وأنا بين ظهراني جزيرة العرب لست أغزو والناس حولي ثم قال: بلى يأتي بها الله إن شاء. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي فِي بَلَدِ رَسُولِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ سَمِعْتُ عُمَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشرح: قوله: (وقال ابن زريع روح بن القاسم) وصله الإسماعيلي عن إبراهيم بن هاشم عن أمية بن بسطام عن يزيد بن زريع به ولفظه " عن حفصة قالت: سمعت عمر يقول: اللهم قتلا في سبيلك ووفاة ببلد نبيك. قالت فقلت: وأنى يكون هذا؟ قال: يأتي به الله إذا شاء". قوله: (وقال هشام) ابن سعد (عن زيد عن أبيه) أسلم، وصله ابن سعد عن محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك عنه ولفظه " عن حفصة أنها سمعت أباها يقول " فذكر مثله، وفي آخره " إن الله يأتي بأمره إن شاء " وأراد البخاري بهذين التعليقين بيان الاختلاف فيه على زيد بن أسلم، فاتفق هشام بن سعد وسعيد ابن أبي هلال على أنه " عن زيد عن أبيه أسلم عن عمر " وقد تابعهما حفص بن ميسرة عن زيد عند عمر ابن شبة، وانفرد روح بن القاسم عن زيد بقوله " عن أمه " وقد رواه ابن سعد " عن معن بن عيسى عن مالك عن زيد بن أسلم أن عمر " فذكره مرسلا، وللحديث طريق أخرى أخرجها البخاري في تاريخه من طريق " محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القارئ عن جده عن أبيه محمد عن أبيه عبد الله أنه سمع عمر يقول ذلك " وطريق أخرى أخرجها عمر بن شبة من طريق " عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر " إسنادها صحيح، ومن وجه آخر منقطع وزاد " فكان الناس يتعجبون من ذلك ولا يدرون ما وجهه حتى طعن أبو لؤلؤة عمر رضي الله عنه". (تنبيه) : تقدم ما يتعلق بفضل الصلاة في المسجد النبوي ومسجد قباء والمسجد الأقصى في أبواب في أواخر كتاب الصلاة. (خاتمة) : اشتمل ذكر المدينة على ستة وعشرين حديثا، المعلق منها أربعة، والمكرر منها فيه وفيما مضى تسعة، والخالص سبعة عشر، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة في ذكر بني حارثة، وحديث أبي بكرة في ذكر الدجال. وفيه من الآثار أقر واحد وهو أثر عمر الذي ختم به فأخرجه موصولا ومعلقا، وفيه إشارة إلى حسن الختام، فنسأل الله تعالى أن يختم لنا بالحسنى، وأن يعين على ختم هذا الشرح، ويرفعنا به إلى المحل الأسنى، إنه على كل شيء قدير. |
08-21-2013, 04:23 PM | #528 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
كِتَاب الصَّوْمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الشرح: قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الصوم) كذا للأكثر. وفي رواية النسفي " كتاب الصيام " وثبتت البسملة للجميع، والصوم والصيام في اللغة الإمساك، وفي الشرع إمساك مخصوص في زمن مخصوص عن شيء مخصوص بشرائط مخصوصة. وقال صاحب " المحكم ": الصوم ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام، يقال صام صوما وصياما ورجل صائم وصوم. وقال الراغب: الصوم في الأصل الإمساك عن الفعل، ولذلك قيل للفرس الممسك عن السير صائم، وفي الشرع إمساك المكلف بالنية عن تناول المطعم والمشرب والاستمناء والاستقاء من الفجر إلى المغرب. *3*باب وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الشرح: قوله: (باب وجوب صوم رمضان) كذا للأكثر، وللنسفي " باب وجوب رمضان وفضله " وقد ذكر أبو الخير الطالقاني في كتابه " حظائر القدس " لرمضان ستين اسما، وذكر بعض الصوفية أن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة ثم تاب تأخر قبول توبته مما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يوما، فلما صفا جسده منها تيب عليه ففرض على ذريته صيام ثلاثين يوما، وهذا يحتاج إلى ثبوت السند فيه إلى من يقبل قوله في ذلك، وهيهات وجدان ذلك. قوله: (وقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) الآية) أشار بذلك إلى مبدأ فرض الصيام، وكأنه لم يثبت عنده على شرطه فيه شيء فأورد ما يشير إلى المراد، فإنه ذكر فيه ثلاثة أحاديث: حديث طلحة الدال على أنه لا فرض إلا رمضان. وحديث ابن عمر وعائشة المتضمن الأمر بصيام عاشوراء. وكأن المصنف أشار إلى أن الأمر في روايتهما محمول على الندب بدليل حصر الفرض في رمضان وهو ظاهر الآية، لأنه تعالى قال (كتب عليكم الصيام) ثم بينه فقال (شهر رمضان) وقد اختلف السلف هل فرض على الناس صيام قبل رمضان أو لا؟ فالجمهور - وهو المشهور عند الشافعية - أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان، وفي وجه وهو قول الحنفية أول ما فرض صيام عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. فمن أدلة الشافعية حديث معاوية مرفوعا " لم يكتب الله عليكم صيامه " وسيأتي في أواخر الصيام. ومن أدلة الحنفية ظاهر حديثي ابن عمر وعائشة المذكورين في هذا الباب بلفظ الأمر، وحديث الربيع بنت معوذ الآتي وهو أيضا عند مسلم " من أصبح صائما فليتم صومه. قالت: فلم نزل نصومه ونصوم صبياننا وهم صغار " الحديث. وحديث مسلمة مرفوعا " من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم " الحديث. وبنوا على هذا الخلاف هل يشترط في صحة الصوم الواجب نية من الليل أو لا؟ وسيأتي البحث فيه بعد عشرين بابا. وقد تقدم الكلام على حديث طلحة في كتاب الإيمان، وقوله فيه " عن أبيه " هو مالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس الإمام، وقوله "عن طلحة " قال الدمياطي: في سماعه من طلحة نظر، وتعقب بأنه ثبت سماعه من عمر فكيف يكون في سماعه من طلحة نظر؟ وقد تقدم في كتاب الإيمان في هذا الحديث ما يدل على أنه سمع منهما جميعا، وسيأتي الكلام على حديثي ابن عمر وعائشة في أواخر الصيام إن شاء الله تعالى. *3*باب فَضْلِ الصَّوْمِ الشرح: قوله: (باب فضل الصوم) ذكر فيه حديث أبي هريرة من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عنه، وهو يشتمل على حديثين أفردهما مالك في الموطأ، فمن أوله إلى قوله " الصيام جنة " حديث ومن ثم إلى آخره حديث، وجمعهما عنه هكذا القعنبي، وعنه رواه البخاري هنا. ووقع عن غير القعنبي من رواة الموطأ زيادة في آخر الثاني وهي بعد قوله " وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها " زادوا " إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به " وقد أخرج البخاري هذا الحديث بعد أبواب من طريق أبي صالح عن أبي هريرة وبين في أوله أنه من قول الله عز وجل كما سأبينه. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا الشرح: قوله: (الصيام جنة) زاد سعيد بن منصور عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد " جنة من النار " وللنسائي من حديث عائشة مثله، وله من حديث عثمان بن أبي العاص " الصيام جنة كجنة أحدكم من القتال " ولأحمد من طريق أبي يونس عن أبي هريرة " جنة وحصن حصين من النار " وله من حديث أبي عبيدة ابن الجراح " الصيام جنة ما لم يخرقها " زاد الدارمي " بالغيبة " وبذلك ترجم له هو وأبو داود، والجنة بضم الجيم الوقاية والستر. وقد تبين بهذه الروايات متعلق هذا الستر وأنه من النار، وبهذا جزم ابن عبد البر. وأما صاحب " النهاية " فقال: معنى كونه جنة أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات. وقال القرطبي: جنة أي سترة، يعني بحسب مشروعيته، فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده وينقص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله " فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث الخ"، ويصح أن يراد أنه ستره بحسب فائدته وهو إضعاف شهوات النفس، وإليه الإشارة بقوله " يدع شهوته الخ"، ويصح أن يراد أنه سترة بحسب ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات. وقال عياض في " الإكمال ": معناه سترة من الآثام أو من النار أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النووي. وقال ابن العربي: إنما كان الصوم جنة من النار لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات. فالحاصل أنه إذا كف نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساترا له من النار في الآخرة. وفي زيادة أبي عبيدة بن الجراح إشارة إلى أن الغيبة تضر بالصيام، وقد حكى عن عائشة، وبه قال الأوزاعي: إن الغيبة تفطر الصائم وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم. وأفرط ابن حزم فقال. يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه سواء كانت فعلا أو قولا، لعموم قوله " فلا يرفث ولا يجهل " ولقوله في الحديث الآتي بعد أبواب " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، والجمهور وإن حملوا النهي على التحريم إلا أنهم خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع، وأشار ابن عبد البر إلى ترجيح الصيام على غيره من العبادات فقال: حسبك بكون الصيام جنة من النار فضلا. وروى النسائي بسند صحيح عن أبي أمامة قال " قلت يا رسول الله مرني آخذه عنك، قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له " وفي رواية " لا عدل له " والمشهور عند الجمهور ترجيح الصلاة. قوله: (فلا يرفث) أي الصائم، كذا وقع مختصرا، وفي الموطأ " الصيام جنة، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث الخ " ويرفث بالضم والكسر ويجوز في ماضيه التثليث، والمراد بالرفض هنا وهو بفتح الراء والفاء ثم المثلثة الكلام الفاحش، وهو يطلق على هذا وعلى الجماع وعلى مقدماته وعلى ذكره مع النساء أو مطلقا، ويحتمل أن يكون لما هو أعم منها. قوله: (ولا يجهل) أي لا يفعل شيئا من أفعال أهل الجهل كالصياح والسفه ونحو ذلك. ولسعيد ابن منصور من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه " فلا يرفث ولا يجادل " قال القرطبي: لا يفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم. قوله: (وإن امرؤ) بتخفيف النون (قاتله أو شاتمه) . وفي رواية صالح " فإن سابه أحد أو قاتله " ولأبى قرة من طريق سهيل عن أبيه " وإن شتمه إنسان فلا يكلمه " ونحوه في رواية هشام عن أبي هريرة عند أحمد، ولسعيد بن منصور من طريق سهيل " فإن سابه أحد أو ماراه " أي جادله؛ ولابن خزيمة من طريق عجلان مولى المشمعل عن أبي هريرة " فإن سابك أحد فقل إني صائم وإن كنت قائما فاجلس " ولأحمد والترمذي من طريق ابن المسيب عن أبي هريرة " فإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم " وللنسائي من حديث عائشة " وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه " واتفق الروايات كلها على أنه يقول " إني صائم " فمنهم من ذكرها مرتين ومنهم من اقتصر على واحدة. وقد استشكل ظاهره بأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين والصائم لا تصدر منه الأفعال التي رتب عليها الجواب خصوصا المقاتلة، والجواب عن ذلك أن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها، أي إن تهيأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته فليقل إني صائم، فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكف عنه، فإن أصر دفعه بالأخف فالأخف كالصائل، هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقوله " قاتله " شاتمه لأن القتل يطلق على اللعن واللعن من جملة السب - ويؤيده ما ذكرت من الألفاظ المختلفة فإن حاصلها يرجع إلى الشتم - فالمراد من الحديث أنه لا يعامله بمثل عمله بل يقتصر على قوله " إني صائم " واختلف في المراد بقوله " فليقل إني صائم " هل يخاطب بها الذي يكلمه بذلك أو يقولها في نفسه؟ وبالثاني جزم المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة، ورجح النووي الأول في " الأذكار " وقال في " شرح المهذب " كل منهما حسن، والقول باللسان أقوى ولو جمعهما لكان حسنا، ولهذا التردد أتي البخاري في ترجمته كما سيأتي بعد أبواب بالاستفهام فقال " باب هل يقول إني صائم إذا شتم؟ " وقال الروياني: إن كان رمضان فليقل بلسانه، وإن كان غيره فليقله في نفسه. وادعى ابن العربي أن موضع الخلاف في التطوع. وأما في الفرض فيقوله بلسانه قطعا، وأما تكرير قوله " إني صائم " فليتأكد الانزجار منه أو ممن يخاطبه بذلك. ونقل الزركشي أن المراد بقوله " فليقل إني صائم مرتين " يقوله مرة بقلبه ومرة بلسانه، فيستفيد بقوله بقلبه كف لسانه عن خصمه وبقوله بلسانه كف خصمه عنه. وتعقب بأن القول حقيقة باللسان، وأجيب بأنه لا يمنع المجاز، وقوله "قاتله " يمكن حمله على ظاهره ويمكن أن يراد بالقتل لعن يرجع إلى معنى الشتم، ولا يمكن حمل قاتله وشاتمه على المفاعلة لأن الصائم مأمور بأن الصائم مأمور بأن يكف نفسه عن ذلك فكيف يقع ذلك منه؟ وإنما المعنى إذا جاءه متعرضا لمقاتلته أو مشاتمته كأن يبدأه بقتل أو شتم اقتضت العادة أن يكافئه عليه. فالمراد بالمفاعلة إرادة غير الصائم ذلك من الصائم، وقد تطلق المفاعلة على التهيؤ لها ولو وقع الفعل من واحد، وقد تقع المفاعلة بفعل الواحد كما يقال لواحد عالج الأمر وعافاه الله، وأبعد من حمله على ظاهره فقال المراد إذا بدرت من الصائم مقابلة الشتم بشتم على مقتضى الطبع فلينزجر عن ذلك ويقول إني صائم. ومما يبعده قوله في الرواية الماضية " فإن شتمه شتمه " والله أعلم. وفائدة قوله " إني صائم " أنه يمكن أن يكف عنه بذلك، فإن أصر دفعه بالأخف فالأخف كالصائل، هذا فيمن يروم مقاتلته حقيقة، فإن كان المراد بقوله " قاتله " شاتمه فالمراد من الحديث أنه لا يعامله بمثل عمله، بل يقتصر على قوله إني صائم. قوله: (والذي نفسي بيده) أقسم على ذلك تأكيدا. قوله: (لخلوف) بضم المعجمة واللام وسكون الواو بعدها فاء. قال عياض: هذه الرواية الصحيحة، وبعض الشيوخ يقوله بفتح الخاء، قال الخطابي: وهو خطأ، وحكى القابسي الوجهين، وبالغ النووي في " شرح المهذب " فقال لا يجوز فتح الخاء، واحتج غيره لذلك بأن المصادر التي جاءت على فعول - بفتح أوله - قليلة ذكرها سيبويه وغيره وليس هذا منها، واتفقوا على أن المراد به تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام. قوله: (فم الصائم) فيه رد على من قال لا تثبت الميم في الفم عند الإضافة إلا في ضرورة الشعر لثبوته في هذا الحديث الصحيح وغيره. قوله: (أطيب عند الله من ريح المسك) اختلف في كون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك - مع أنه سبحانه وتعالى منزه عن استطابة الروائح، إذ ذاك من صفات الحيوان، ومع أنه يعلم الشيء على ما هو عليه - على أوجه. قال المازري: هو مجاز لأنه جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك للصوم لتقريبه من الله، فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وإلى ذلك أشار ابن عبد البر، وقيل المراد أن ذلك في حق الملائكة وأنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك، وقيل المعنى أن حكم الخلوف والمسك عند الله على ضد ما هو عندكم، وهو قريب من الأول. وقيل المراد أن الله تعالى يجزيه في الآخرة فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما يأتي المكلوم وريح جرحه تفوح مسكا. وقيل المراد أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك لا سيما بالإضافة إلى الخلوف حكاهما عياض. وقال الداودي وجماعة: المعنى أن الخلوف أكثر ثوابا من المسك المندوب إليه في الجمع ومجالس الذكر، ورجح النووي هذا الأخير، وحاصله حمل معنى الطيب على القبول والرضا، فحصلنا على ستة أوجه. وقد نقل القاضي حسين في تعليقه أن للطاعات يوم القيامة ريحا تفوح. قال فرائحة الصيام فيها بين العبادات كالمسك، ويؤيد الثلاثة الأخيرة قوله في رواية مسلم وأحمد والنسائي من طريق عطاء عن أبي صالح " أطيب عند الله يوم القيامة " وأخرج أحمد هذه الزيادة من حديث بشير بن الخصاصية، وقد ترجم ابن حبان بذلك في صحيحه ثم قال " ذكر البيان بأن ذلك قد يكون في الدنيا " ثم أخرج الرواية التي فيها " فم الصائم حين يخلف من الطعام " وهي عنده وعند أحمد من طريق الأعمش عن أبي صالح، ويمكن أن يحمل قوله " حين يخلف " على أنه ظرف لوجود الخلوف المشهود له بالطيب فيكون سببا للطيب في الحال الثاني فيوافق الرواية الأولى وهي قوله " يوم القيامة " لكن يؤيد ظاهره وأن المراد به في الدنيا ما روى الحسن بن سفيان في مسنده والبيهقي في الشعب من حديث جابر في أثناء حديث مرفوع في فضل هذه الأمة في رمضان، وأما الثانية " فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك " قال المنذري إسناده مقارب، وهذه المسألة إحدى المسائل التي تنازع فيها ابن عبد السلام وابن الصلاح، فذهب ابن عبد السلام إلى أن ذلك في الآخرة كما في دم الشهيد واستدل بالرواية التي فيها " يوم القيامة " وذهب ابن الصلاح إلى أن ذلك في الدنيا واستدل بما تقدم وأن جمهور العلماء ذهبوا إلى ذلك، فقال الخطابي: طيبه عند الله رضاه به وثناؤه عليه. وقال ابن عبد البر: أزكى عند الله وأقرب إليه. وقال البغوي: معناه الثناء على الصائم والرضا بفعله، وبنحو ذلك قال القدوري من الحنفية والداودي وابن العربي من المالكية وأبو عثمان الصابوني وأبو بكر بن السمعاني وغيرهم من الشافعية، جزموا كلهم بأنه عبارة عن الرضا والقبول، وأما ذكر يوم القيامة في تلك الرواية فلأنه يوم الجزاء وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلبا لرضا الله تعالى حيث يؤمر باجتنابها، فقيده بيوم القيامة في رواية وأطلق في باقي الروايات نظرا إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين، وهو كقوله: (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) وهو خبير بهم في كل يوم، انتهى. ويترتب على هذا الخلاف المشهور في كراهة إزالة هذا الخلوف بالسواك، وسيأتي البحث فيه بعد بضعة وعشرين بابا حيث ترجم له المصنف إن شاء الله تعالى، ويؤخذ من قوله " أطيب من ريح المسك " أن الخلوف أعظم من دم الشهادة لأن دم الشهيد شبه ريحه بريح المسك، والخلوف وصف بأنه أطيب، ولا يلزم من ذلك أن يكون الصيام أفضل من الشهادة لما لا يخفى، ولعل سبب ذلك النظر إلى أصل كل منهما فإن أصل الخلوف طاهر وأصل الدم بخلافه فكان ما أصله طاهر أطيب ريحا. قوله: (يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) هكذا وقع هنا، ووقع في الموطأ " وإنما يذر شهوته الخ " ولم يصرح بنسبته إلى الله للعلم به وعدم الإشكال فيه. وقد روى أحمد هذا الحديث عن إسحاق ابن الطباع عن مالك فقال بعد قوله من ريح المسك " يقول الله عز وجل: إنما يذر شهوته الخ " كذلك رواه سعيد بن منصور عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد فقال في أول الحديث " يقول الله عز وجل: كل عمل ابن آدم هو له، إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به، وإنما يذر ابن آدم شهوته وطعامه من أجلي " الحديث. وسيأتي قريبا من طريق عطاء عن أبي صالح بلفظ " قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له " الحديث. ويأتي في التوحيد من طريق الأعمش عن أبي صالح بلفظ " يقول الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به " الحديث. وقد يفهم من الإتيان بصيغة الحصر في قوله " إنما يذر الخ " التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك وهو الإخلاص الخاص به، حتى لو كان ترك المذكورات لغرض آخر كالتخمة لا يحصل للصائم الفضل المذكور، لكن المدار في هذه الأشياء على الداعي القوي الذي يدور معه الفعل وجودا وعدما، ولا شك أن من لم يعرض في خاطره شهوة شيء من الأشياء طول نهاره إلى أن أفطر ليس هو في الفضل كمن عرض له ذلك فجاهد نفسه في تركه، والمراد بالشهوة في الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب، ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص. ووقع في رواية الموطأ بتقديم الشهوة عليها فيكون من الخاص بعد العام، ومثله حديث أبي صالح في التوحيد، وكذا جمهور الرواة عن أبي هريرة. وفي رواية ابن خزيمة من طريق سهيل عن أبي صالح عن أبيه " يدع الطعام والشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي " وفي رواية أبي قرة من هذا الوجه " يذع امرأته وشهوته وطعامه وشرابه من أجلي " وأصرح من ذلك ما وقع عند الحافظ سمويه في فوائده من طريق المسيب بن رافع عن أبي صالح " يترك شهوته من الطعام والشراب والجماع من أجلي". قوله: (الصيام لي وأنا أجزي به) كذا وقع بغير أداة عطف ولا غيرها، وفي الموطأ " فالصيام " بزيادة الفاء وهي للسببية أي سبب كونه لي أنه يترك شهوته لأجلي. ووقع في رواية مغيرة عن أبي الزناد عند سعيد بن منصور " كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " ومثله في رواية عطاء عن أبي صالح الآتية، وقد اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى " الصيام لي وأنا أجزي به " مع أن الأعمال كلها له وهو الذي يجزي بها على أقوال: أحدها أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره، حكاه المازري ونقله عياض عن أبي عبيد، ولفظ أبي عبيد في غريبه: قد علمنا أن أعمال البر كلها لله وهو الذي يجزي بها، فنرى والله أعلم أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب. ويؤيدها هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم "ليس في الصيام رياء " حدثنيه شبابة عن عقيل عن الزهري فذكره يعني مرسلا قال: وذلك لأن الأعمال لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تخفى عن الناس، وهذا وجه الحديث عندي، انتهى. وقد روى الحديث المذكور البيهقي في " الشعب " من طريق عقيل، وأورده من وجه آخر عن الزهري موصولا عن أبي سلمة عن أبي هريرة وإسناده ضعيف ولفظه " الصيام لا رياء فيه. قال الله عز وجل: هو لي وأنا أجزي به " وهذا لو صح لكان قاطعا للنزاع. وقال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه، ولهذا قال في الحديث " يدع شهوته من أجلي " وقال ابن الجوزي: جميع العبادات تظهر بفعلها وقل أن يسلم ما يظهر من شوب، بخلاف الصوم. وارتضى هذا الجواب المازري وقرره القرطبي بأن أعمال بني آدم لما كانت يمكن دخول الرياء فيها أضيفت إليهم، بخلاف الصوم فإن حال الممسك شبعا مثل حال الممسك تقربا يعني في الصورة الظاهرة. قلت: معنى النفي في قوله " لا رياء في الصوم " أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها. وقد حاول بعض الأئمة إلحاق شيء من العبادات البدنية بالصوم فقال: إن الذكر بلا إله إلا الله يمكن أن لا يدخله الرياء، لأنه بحركة اللسان خاصة دون غيره من أعضاء الفم، فيمكن الذاكر أن يقولها بحضرة الناس ولا يشعرون منه بذلك. ثانيها أن المراد بقوله " وأنا أجزي به " أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته. وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الناس. قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير. ويشهد لهذا السياق الرواية الأخرى يعني رواية الموطأ، وكذلك رواية الأعمش عن أبي صالح حيث قال " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله - قال الله - إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " أي أجازي عليه جزاء كثيرا من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) انتهى. والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال. قلت: وسبق إلى هذا أبو عبيد في غريبه فقال: بلغني عن ابن عيينة أنه قال ذلك، واستدل له بأن الصوم هو الصبر لأن الصائم يصبر نفسه عن الشهوات، وقد قال الله تعالى (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) انتهى. ويشهد رواية المسيب بن رافع عن أبي صالح عند سمويه " إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لا يدري أحد ما فيه " ويشهد له أيضا ما رواه ابن وهب في جامعه عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن جده زيد مرسلا، ووصله الطبراني والبيهقي في " الشعب " من طريق أخرى عن عمر بن محمد عن عبد الله بن مينار عن ابن عمر مرفوعا " الأعمال عند الله سبع " الحديث، وفيه " وعمل لا يعلم ثواب عامله إلا الله " ثم قال: وأما العمل الذي لا يعلم ثواب عامله إلى الله فالصيام، ثم قال القرطبي: هذا القول ظاهر الحسن، قال: غير أنه تقدم ويأتي في غير ما حديث أن صوم اليوم بعشرة أيام، وهي نص في إظهار التضعيف، فبعد هذا الجواب بل بطل. قلت: لا يلزم من الذي ذكر بطلانه، بل المراد بما أورده أن صيام اليوم الواحد يكتب بعشرة أيام، وأما مقدار ثواب ذلك فلا يعلمه إلا الله تعالى. ويؤيده أيضا العرف المستفاد من قوله " أنا أجزي به " لأن الكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه. ثالثها معنى قوله " الصوم لي " أي أنه أحب العبادات إلي والمقدم عندي، وقد تقدم قول ابن عبد البر: كفى بقوله " الصوم لي " فضلا للصيام على سائر العبادات. وروى النسائي وغيره من حديث أبي أمامة مرفوعا " عليك بالصوم فإنه لا مثل له " لكن يعكر على هذا الحديث الصحيح " واعلموا أن خبر أعمالكم الصلاة". رابعها: الإضافة إضافة تشريف وتعظيم كما يقال بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله. قال الزين بن المنير: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التعظيم والتشريف. خامسها: أن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب جل جلاله، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه. وقال القرطبي: معناه أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه يقول إن الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي. سادسها: أن المعنى كذلك، لكن بالنسبة إلى الملائكة لأن ذلك من صفاتهم. سابعها: أنه خالص لله وليس للعبد فيه حظ، قاله الخطابي، هكذا نقله عياض وغيره، فإن أراد بالحظ ما يحصل من الثناء عليه لأجل العبادة رجع إلى المعنى الأول، وقد أفصح بذلك ابن الجوزي فقال: المعنى ليس لنفس الصائم فيه حظ بخلاف غيره فإن له فيه حظا لثناء الناس عليه لعبادته. ثامنها: سبب الإضافة إلى الله أن الصيام لم يعبد به غير الله، بخلاف الصلاة والصدقة والطواف ونحو ذلك. واعترض على هذا بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات، فإنهم يتعبدون لها بالصيام. وأجيب بأنهم لا يعتقدون إلهية الكواكب، وإنما يعتقدون أنها فعالة بأنفسها، وهذا الجواب عندي ليس بطائل، لأنهم طائفتان، إحداهما كانت تعتقد إلهية الكواكب وهم من كان قبل ظهور الإسلام، واستمر منهم من استمر على كفره. والأخرى من دخل منهم في الإسلام واستمر على تعظيم الكواكب وهم الذين أشير إليهم. تاسعها: أن جميع العبادات توفى منها مظالم العباد إلا الصيام، روى ذلك البيهقي من طريق إسحاق بن أيوب بن حسان الواسطي عن أبيه عن ابن عيينة قال: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم، فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة. قال القرطبي: قد كنت استحسنت هذا الجواب إلى أن فكرت في حديث المقاصة فوجدت فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال حيث قال " المفلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا " الحديث وفيه " فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار " فظاهره أن الصيام مشترك مع بقية الأعمال في ذلك. قلت: إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك، فقد يستدل له بما رواه أحمد من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رفعه " كل العمل كفارة إلا الصوم، الصوم لي وأنا أجزي به " وكذا رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن محمد بن زياد ولفظه " قال ربكم تبارك وتعالى: كل العمل كفارة إلا الصوم " ورواه قاسم بن أصبغ من طريق أخرى عن شعبة بلفظ " كل ما يعمله ابن آدم كفارة له إلا الصوم " وقد أخرجه المصنف في التوحيد عن آدم عن شعبة بلفظ يرويه " عن ربكم قال: لكل عمل كفارة والصوم لي وأنا أجزي به " فحذف الاستثناء، وكذا رواه أحمد عن غندر عن شعبة لكن قال " كل العمل كفارة " وهذا يخالف رواية آدم لأن معناها إن لكل عمل من المعاصي كفارة من الطاعات، ومعنى رواية غندر كل عمل من الطاعات كفارة للمعاصي، وقد بين الإسماعيلي الاختلاف فيه في ذلك على شعبة، وأخرجه من طريق غندر بذكر الاستثناء فاختلف فيه أيضا على غندر، والاستثناء المذكور يشهد لما ذهب إليه ابن عيينة، لكنه وإن كان صحيح السند فإنه يعارضه حديث حذيفة " فتنة الرجل في أهله وماله وولده يكفرها الصلاة والصيام والصدقة " ولعل هذا هو السر في تعقيب البخاري لحديث الباب بباب الصوم كفارة وأورد فيه حديث حذيفة، وسأذكر وجه الجمع بينهما في الكلام على الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. عاشرها: أن الصوم لا يظهر فتكتبه الحفظة كما تكتب سائر الأعمال، واستند قائله إلى حديث واه جدا أورده ابن العربي في " المسلسلات " ولفظه " قال الله الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحب لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده " ويكفي في رد هذا القول الحديث الصحيح في كتابة الحسنة لمن هم بها وإن لم يعملها. فهذا ما وقفت عليه من الأجوبة، وقد بلغني أن بعض العلماء بلغها إلى أكثر من هذا وهو الطالقاني في " حظائر القدس " له ولم أقف عليه، واتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصي قولا وفعلا. ونقل ابن العربي عن بعض الزهاد أنه مخصوص بصيام خواص الخواص فقال: إن الصوم على أربعة أنواع: صيام العوام وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع، وصيام خواص الخواص وهو هذا مع اجتناب المحرمات من قول أو فعل، وصيام الخواص وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته، وصيام خواص الخواص وهو الصوم عن غير الله فلا فطر لهم إلى يوم القيامة. وهذا مقال عال لكن في حصر المراد من الحديث في هذا النوع نظر لا يخفى. وأقرب الأجوبة التي ذكرتها إلى الصواب الأول والثاني ويقرب منهما الثامن والتاسع. وقال البيضاوي في الكلام على رواية الأعمش عن أبي صالح التي بينتها قبل: لما أراد بالعمل الحسنات وضع الحسنة في الخبر موضع الضمير الراجع إلى المبتدأ، وقوله "إلا الصيام " مستثنى من كلام غير محكي دل عليه ما قبله، والمعنى أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فلا يضاعف إلى هذا القدر بل ثوابه لا يقدر قدره ولا يحصيه إلا الله تعالى، ولذلك يتولى الله جزاءه بنفسه ولا يكله إلى غيره. قال: والسبب في اختصاص الصوم بهذه المزية أمران، أحدهما: أن سائر العبادات مما يطلع العباد عليه، والصوم سر بين العبد وبين الله تعالى يفعله خالصا ويعامله به طالبا لرضاه، وإلى ذلك الإشارة بقوله " فإنه لي". والآخر: أن سائر الحسنات راجعة إلى صرف المال أو استعمال للبدن، والصوم يتضمن كسر النفس وتعريض البدن للنقصان، وفيه الصبر على مضض الجوع والعطش وترك الشهوات، وإلى ذلك أشار بقوله " يدع شهوته من أجلي". قال الطيبي: وبيان هذا أن قوله " يدع شهوته الخ " جملة مستأنفة وقعت موقع البيان لموجب الحكم المذكور، وأما قول البيضاوي: إن الاستثناء من كلام غير محكي، ففيه نظر، فقد يقال: هو مستثنى من كل عمل وهو مروي عن الله لقوله في أثناء الحديث " قال الله تعالى " ولما لم يذكره في صدر الكلام أورده في أثنائه بيانا، وفائدته تفخيم شأن الكلام وأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى. قوله: (والحسنة بعشر أمثالها) كذا وقع مختصرا عند البخاري، وقد قدمت البيان بأنه وقع في " الموطأ " تاما، وقد رواه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق القعنبي شيخ البخاري فيه فقال بعد قوله وأنا أجزي به " كل حسنة يعملها ابن آدم بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " فأعاد قوله " وأنا أجزي به " في آخر الكلام تأكيدا، وفيه إشارة إلى الوجه الثاني. ووقع في رواية أبي صالح عن أبي هريرة في آخر هذا الحديث " للصائم فرحتان يفرحهما " الحديث. وسيأتي الكلام عليه بعد ستة أبواب إن شاء الله تعالى. |
08-21-2013, 04:24 PM | #529 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ الشرح:
قوله: (باب الصوم كفارة) كذا لأبي ذر والجمهور بتنوين باب، أي الصوم يقع كفارة للذنوب، ورأيته هنا بخط القطب في شرحه " باب كفارة الصوم " أي باب تكفير الصوم للذنوب، وقد تقدم في أثناء الصلاة " باب الصلاة كفارة " وللمستملي " باب تكفير الصلاة " وأورد فيه حديث الباب بعينه من وجه آخر عن أبي وائل، وقد تقدم طرف من الكلام على الحديث ويأتي شرحه مستوفى في علامات النبوة إن شاء الله تعالى، وفيه ما ترجم له لكن أطلق في الترجمة والخبر مقيد بفتنة المال وما ذكر معه، فقد يقال لا يعارض الحديث السابق في الباب قبله وهو كون الأعمال كفارة إلا الصوم لأنه يحمل في الإثبات على كفارة شيء مخصوص وفي النفي على كفارة شيء آخر، وقد حمله المصنف في موضع آخر على تكفير مطلق الخطيئة فقال في الزكاة " باب الصدقة تكفر الخطيئة " ثم أورد هذا الحديث بعينه، ويؤيد الإطلاق ما ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة أيضا مرفوعا " الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر " وقد تقدم البحث في الصلاة. ولابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد مرفوعا " من صام رمضان وعرف حدوده كفر ما قبله " ولمسلم من حديث أبي قتادة " إن صيام عرفة يكفر سنتين وصيام عاشوراء يكفر سنة " وعلى هذا فقوله " كل العمل كفارة إلا الصيام " يحتمل أن يكون المراد إلا الصيام فإنه كفارة وزيادة ثواب على الكفارة، ويكون المراد بالصيام الذي هذا شأنه ما وقع خالصا سالما من الرياء والشوائب كما تقدم شرحه، والله أعلم. *3*باب الرَّيَّانُ لِلصَّائِمِينَ الشرح: قوله: (باب) بالتنوين (الريان) بفتح الراء وتشديد التحتانية وزن فعلان من الري: اسم علم على باب من أبواب الجنة يختص بدخول الصائمين منه، وهو مما وقعت المناسبة فيه بين لفظه ومعناه، لأنه مشتق من الري وهو مناسب لحال الصائمين، وسيأتي أن من دخله لم يظمأ. قال القرطبي: اكتفي بذكر الري عن الشبع لأنه يدل عليه من حيث أنه يستلزمه، قلت أو لكونه أشق على الصائم من الجوع. الحديث: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ الشرح: قوله: (حدثني أبو حازم) هو ابن دينار، وسهل هو ابن سعد الساعدي. قوله: (أن في الجنة بابا) قال الزين بن المنير: إنما قال في الجنة ولم يقل للجنة ليشعر بأن في الباب المذكور من النعيم والراحة في الجنة فيكون أبلغ في التشوق إليه. قلت: وقد جاء الحديث من وجه آخر بلفظ " إن للجنة ثمانية أبواب، منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون". أخرجه هكذا الجوزقي من طريق أبي غسان عن أبي حازم، وهو للبخاري من هذا الوجه في بدء الخلق، لكن قال " في الجنة ثمانية أبواب". قوله: (فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد) كرر نفي دخول غيرهم منه تأكيدا، وأما قوله " فلم يدخل " فهو معطوف على " أغلق " أي لم يدخل منه غير من دخل. ووقع عند مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد شيخ البخاري فيه " فإذا دخل آخرهم أغلق " هكذا في بعض النسخ من مسلم، وفي الكثير منها " فإذا دخل أولهم أغلق". قال عياض وغيره: هو وهم. والصواب آخرهم. قلت: وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده وأبو نعيم في مستخرجيه معا من طريقه، وكذا أخرجه الإسماعيلي والجوزقي من طرق عن خالد بن مخلد، وكذا أخرجه النسائي وابن خزيمة من طريق سعيد بن عبد الرحمن وغيره وزاد فيه " من دخل شرب ومن شرب لا يظمأ أبدا " وللترمذي من طريق هشام بن سعد عن أبي حازم نحوه وزاد " ومن دخله لم يظمأ أبدا " ونحوه للنسائي والإسماعيلي من طريق عبد العزيز بن حازم عن أبيه لكنه وقفه، وهو مرفوع قطعا لأن مثله لا مجال للرأي فيه. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا قَالَ نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ الشرح: قوله: (عن حميد بن عبد الرحمن) في رواية شعيب عن الزهري الآتية في فضل أبي بكر " أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف". قوله: (عن أبي هريرة) قال ابن عبد البر: اتفق الرواة عن مالك على وصله، إلا يحيى بن بكير وعبد الله بن يوسف فإنهما أرسلاه، ولم يقع عند القعنبي أصلا. قلت: هذا أخرجه الدار قطني في " الموطآت " من طريق يحيى بن بكير موصولا فلعله اختلف عليه فيه، وأخرجه أيضا من طريق القعنبي فلعله حدث به خارج الموطأ. قوله: (من أنفق زوجين في سبيل الله) زاد إسماعيل القاضي عن أبي مصعب عن مالك " من ماله " واختلف في المراد بقوله " في سبيل الله " فقيل أراد الجهاد، وقيل ما هو أعم منه، والمراد بالزوجين إنفاق شيئين من أي صنف من أصناف المال من نوع واحد كما سيأتي إيضاحه. قوله: (هذا خير) ليس اسم التفضيل، بل المعنى هذا خير من الخيرات، والتنوين فيه للتعظيم وبه تظهر الفائدة. قوله: (ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان) في رواية محمد بن عمرو عن الزهري عند أحمد " لكل أهل عمل باب يدعون منه بذلك العمل، فلأهل الصيام باب يدعون منه يقال له الريان " وهذا صريح في مقصود الترجمة، وسيأتي الكلام على هذا الحديث مستوفى في فضائل أبي بكر إن شاء الله تعالى. *3*باب هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَالَ لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ الشرح: قوله: (باب هل يقال) كذا للأكثر على البناء للمجهول، وللسرخسي والمستملي " هل يقول " أي الإنسان. قوله: (ومن رأى كله واسعا) أي جائزا بالإضافة وبغير الإضافة، وللكشمهيني " ومن رآه " بزيادة الضمير وأشار البخاري بهذه الترجمة إلى حديث ضعيف رواه أبو معشر نجيح المدني عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا " لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا شهر رمضان " أخرجه ابن عدي في الكامل وضعفه بأبي معشر. قال البيهقي: قد روي عن أبي معشر عن محمد ابن كعب وهو أشبه، وروي عن مجاهد والحسن من طريقين ضعيفين، وقد احتج البخاري لجواز ذلك بعدة أحاديث. انتهى. وقد ترجم النسائي لذلك أيضا فقال " باب الرخصة في أن يقال لشهر رمضان رمضان " ثم أورد حديث أبي بكرة مرفوعا " لا يقولن أحدكم صمت رمضان ولا قمته كله " وحديث ابن عباس " عمرة في رمضان تعدل حجة " وقد يتمسك للتقييد بالشهر بورود القرآن به حيث قال (شهر رمضان) مع احتمال أن يكون حذف لفظ شهر من الأحاديث من تصرف الرواة، وكأن هذا هو السر في عدم جزم المصنف بالحكم، ونقل عن أصحاب مالك الكراهية، وعن ابن الباقلاني منهم وكثير من الشافعية إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا يكره، والجمهور على الجواز. واختلف في تسمية هذا الشهر رمضان فقيل: لأنه ترمض فيه الذنوب، أي تحرق لأن الرمضاء شدة الحر، وقيل وافق ابتداء الصوم فيه زمنا جارا، والله أعلم. قوله: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم: من صام رمضان. وقال: لا تقدموا رمضان) أما الحديث الأول فوصله في الباب الذي يليه وفيه تمامه، وأما الثاني فوصله بعد ذلك من طريق هشام عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ " لا يتقدمن أحدكم " وأخرجه مسلم من طريق علي بن المبارك عن يحيى بلفظ " لا تقدموا رمضان". الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الشرح: قوله: (عن أبي سهيل) هو نافع بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن أبي غيمان - بالغين المعجمة والتحتانية - الأصبحي، عم مالك بن أنس بن مالك، وأبوه تابعي كبير أدرك عمر. قوله: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة) كذا أخرجه مختصرا، وقد أخرجه مسلم والنسائي من هذا الوجه بتمامه مثل رواية الزهري الثانية، والظاهر أن البخاري جمع المتن بإسنادين وذكر موضع المغايرة وهو " أبواب الجنة " في رواية إسماعيل بن جعفر " وأبواب السماء " في رواية الزهري. الحديث: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي أَنَسٍ مَوْلَى التَّيْمِيِّينَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ الشرح: قوله: (حدثني ابن أبي أنس) هو أبو سهيل نافع بن أبي أنس مالك بن أبي عامر شيخ إسماعيل بن جعفر، وهو من صغار شيوخ الزهري بحيث أدركه تلامذة الزهري وهو أصغر منهم كإسماعيل بن جعفر. وهذا الإسناد يعد من رواية الأقران، وقد تأخر أبو سهيل في الوفاة عن الزهري. وقد بين النسائي أن مراد الزهري بابن أبي أنس نافع هذا فأخرج من وجه آخر عن عقيل عن ابن شهاب " أخبرني أبو سهيل عن أبيه " وأخرجه من طريق صالح عن ابن شهاب فقال " أخبرني نافع بن أبي أنس " وروى هذا الحديث معمر عن الزهري فأرسله وحذف من بينه وبين أبي هريرة، ورواه ابن إسحاق عن الزهري عن أويس ابن أبي أويس عديل بني تميم عن أنس، قال النسائي وهو خطأ. قوله: (مولى التيميين) أي مولى بني تيم، والمراد منهم آل طلحة بن عبيد الله أحد العشرة، وكان أبو عامر والد مالك قد قدم مكة فقطنها وحالف عثمان بن عبيد الله أخا طلحة فنسب إليه، وكان مالك الفقيه يقول: لسنا موالي آل تيم، إنما نحن عرب من أصبح، ولكن جدي حالفهم. قوله: (وسلسلت الشياطين) قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد من الشياطين مسترقو السمع منهم، وأن تسلسلهم يقع في ليالي رمضان دون أيامه، لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ، ويحتمل أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وبقراءة القرآن والذكر. وقال غيره: المراد بالشياطين بعضهم وهم المردة منهم، وترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه وأورد ما أخرجه هو والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن " وأخرجه النسائي من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة بلفظ " وتغل فيه مردة الشياطين " زاد أبو صالح في روايته " وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة " لفظ ابن خزيمة، وقوله "صفدت " بالمهملة المضمومة بعدها فاء ثقيلة مكسورة أي شدت بالأصفاد وهي الأغلال وهو بمعنى سلسلت، ونحوه للبيهقي من حديث ابن مسعود وقال فيه " فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب الشهر كله". قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشر وتعظيم حرمته ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين. قال: ويؤيد هذا الاحتمال الثاني قوله في رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم " فتحت أبواب الرحمة " قال: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات وذلك أسباب لدخول الجنة، وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات. قال الزين بن المنير: والأول أوجه، ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره. وأما الرواية التي فيها " أبواب الرحمة وأبواب السماء " فمن تصرف الرواة، والأصل أبواب الجنة بدليل ما يقابله وهو غلق أبواب النار، واستدل به على أن الجنة في السماء لإقامة هذا مقام هذه في الرواية وفيه نظر، وجزم التوربشتي شارح المصابيح بالاحتمال الأخير وعبارته: فتح أبواب السماء كناية عن تنزل الرحمة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارة ببذل التوفيق وأخرى بحسن القبول، وغلق أبواب جهنم كناية عن تنزه أنفس الصوام عن رجس الفواحش والتخلص من البواعث عن المعاصي بقمع الشهوات. وقال الطيبي: فائدة فتح أبواب السماء توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وفيه إذا علم المكلف ذلك بأخبار الصادق ما يزيد في نشاطه ويتلقاه بأريحية. وقال القرطبي بعد أن رجح حمله على ظاهره: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرا فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟ فالجواب أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات، أو المقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية لأن لذلك أسبابا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية. وقال غيره: في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له قد كفت الشياطين عنك فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ وَيُونُسُ لِهِلَالِ رَمَضَانَ الشرح: قوله: (إذا رأيتموه) أي الهلال وسيأتي التصريح بذلك بعد خمسة أبواب مع الكلام على الحكم، وكذا هو مصرح بذكر الهلال فيه في الرواية المعلقة، وإنما أراد المصنف بإيراده في هذا الباب ثبوت ذكر رمضان بغير لفظ شهر، ولم يقع ذلك في الرواية الموصولة وإنما وقع في الرواية المعلقة. قوله: (وقال غيره عن الليث الخ) المراد بالغير المذكور أبو صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، كذا أخرجه الإسماعيلي من طريقه قال " حدثني الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب " فذكره بلفظ " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهلال رمضان إذا رأيتموه فصوموا " الحديث. ووقع مثله في غير رواية الزهري. قال عبد الرزاق " أنبأنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهلال رمضان إذا رأيتموه فصوموا " الحديث. وسيأتي بيان اختلاف ألفاظ هذا الحديث حيث ذكرته إن شاء الله تعالى. *3*باب مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَنِيَّةً وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ الشرح: قوله: (باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا ونية) قال الزين بن المنير: حذف الجواب إيجازا واعتمادا على ما في الحديث، وعطف قوله نية على قوله احتسابا لأن الصوم إنما يكون لأجل التقريب إلى الله، والنية شرط في وقوعه قربة. قال: والأولى أن يكون منصوبا على الحال. وقال غيره: انتصب على أنه مفعول له أو تمييز أو حال بأن يكون المصدر في معنى اسم الفاعل أي مؤمنا محتسبا، والمراد بالإيمان الاعتقاد بحق فرضية صومه، وبالاحتساب طلب الثواب من الله تعالى. وقال الخطابي: احتسابا أي عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه. قوله: (وقالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: يبعثون على نياتهم) هذا طرف من حديث وصله المصنف في أوائل البيوع من طريق نافع بن جبير عنها وأوله " يغزو جيش الكعبة، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم، ثم يبعثون على نياتهم " يعني يوم القيامة ووجه الاستدلال منه هنا أن للنية تأثيرا في العمل لاقتضاء الخبر أن في الجيش المذكور المكره والمختار فإنهم إذا بعثوا على نياتهم وقعت المؤاخذة على المختار دون المكره. الحديث: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ الشرح: قوله: (حدثنا يحيى) هو ابن أبي كثير. قوله: (عن أبي سلمة) هو ابن عبد الرحمن، ووقع في رواية معاذ بن هشام عن أبيه عن مسلم " حدثني أبو سلمة " ونحوه في رواية شيبان عن يحيى عند أحمد. قوله: (من قام ليلة القدر) يأتي الكلام عليه في الباب المعقود لها في أواخر الصيام. قوله: (ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) زاد أحمد من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة " وما تأخر " وقد رواه أحمد أيضا عن يزيد بن هارون عن محمد ابن عمرو بدون هذه الزيادة، ومن طريق يحيى بن سعيد عن أبي سلمة بدونها أيضا، ووقعت هذه الزيادة أيضا في رواية الزهري عن أبي سلمة أخرجها النسائي عن قتيبة عن سفيان عنه، وتابعه حامد بن يحيى عن سفيان، أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " واستنكره، وليس بمنكر، فقد تابعه قتيبة كما ترى، وهشام ابن عمار وهو في الجزء الثاني عشر من فوائده، والحسين بن الحسن المروزي أخرجه في كتاب الصيام له، ويوسف بن يعقوب النجاحي أخرجه أبو بكر المقري في فوائده كلهم عن سفيان، والمشهور عن الزهري بدونها. وقد وقعت هذه الزيادة أيضا في حديث عبادة بن الصامت عند الإمام أحمد من وجهين وإسناده حسن. وقد استوعبت الكلام على طرقه في " كتاب الخصال المكفرة، للذنوب المقدمة والمؤخرة " وهذا محصله. وقوله "من ذنبه " اسم جنس مضاف فيتناول جميع الذنوب، إلا أنه مخصوص عند الجمهور، وقد تقدم البحث في ذلك في كتاب الوضوء وفي أوائل كتاب المواقيت. قال الكرماني: وكلمة " من " إما متعلقة بقوله " غفر " أي غفر من ذنبه ما تقدم فهو منصوب المحل، أو هي مبنية لما تقدم وهو مفعول لما لم يسم فاعله فيكون مرفوع المحل. *3*باب أَجْوَدُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ فِي رَمَضَانَ الشرح: قوله: (باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان) أورد فيه حديث ابن عباس " كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير " وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في بدء الوحي. قال الزين بن المنير: وجه التشبيه بين أجوديته صلى الله عليه وسلم بالخير وبين أجودية الريح المرسلة أن المراد بالريح ريح الرحمة التي برسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام الذي يكون سببا لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة، أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة صلى الله عليه وسلم. *3*باب مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِي الصَّوْمِ الشرح: قوله: (باب من لم يدع) أي يترك (قول الزور والعمل به) زاد في نسخة الصغاني " في الصوم". قال الزبير بن المنير: حذف الجواب لأنه لو نص على ما في الخبر لطالت الترجمة، أو لو عبر عنه بحكم معين لوقع في عهدته فكان الإيجاز ما صنع. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ الشرح: قوله: (حدثنا سعد المقبري عن أبيه) كذا في أكثر الروايات عن ابن أبي ذئب، وقد رواه ابن وهب عن ابن أبي ذئب فاختلف عليه: رواه الربيع عنه مثل الجماعة، ورواه ابن السراج عنه فلم يقل " عن أبيه " أخرجها النسائي، وأخرجه الإسماعيلي من طريق حماد بن خالد عن ابن أبي ذئب بإسقاطه أيضا، واختلف فيه على ابن المبارك فأخرجه ابن حبان من طريقه بالإسقاط، وأخرجه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة بإثباته، وذكر الدار قطني أن يزيد بن هارون ويونس بن يحيى روياه عن ابن أبي ذئب بالإسقاط أيضا، وقد أخرجه أحمد عن يزيد فقال فيه " عن أبيه"، والذي يظهر أن ابن أبي ذئب كان تارة لا يقول عن أبيه وفي أكثر الأحوال يقولها، وقد رواه أبو قتادة الحراني عن ابن أبي ذئب بإسناد آخر فقال " عن الزهري عن عبد الله ابن ثعلبة عن أبي هريرة " وهو شاذ والمحفوظ الأول. قوله: (قول الزور والعمل به) زاد المصنف في الأدب عن أحمد بن يونس عن ابن أبي ذئب " والجهل " وكذا لأحمد عن حجاج ويزيد بن هارون كلاهما عن ابن أبي ذئب. وفي رواية ابن وهب " والجهل في الصوم " ولابن ماجة من طريق ابن المبارك " من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به " جعل الضمير في " به " يعود على الجهل، والأول جعله يعود على قول الزور والمعنى متقارب، ولما روى الترمذي حديث أبي هريرة هذا قال: وفي الباب عن أنس. قلت: وحديث أنس أخرجه الطبراني في الأوسط بلفظ " من لم يدع الخنا والكذب " ورجاله ثقات، والمراد بقول الزور: الكذب، والجهل: السفه، والعمل به أي بمقتضاه كما تقدم. قوله: (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) قال ابن بطال: ليس معناه أن يؤمر بأن يدع صيامه، وإنما معناه التحذير من قول الزور وما ذكر معه، وهو مثل قوله " من باع الخمر فليشقص الخنازير " أي يذبحها، ولم يأمره بذبحها ولكنه على التحذير والتعظيم لإثم بائع الخمر. وأما قوله " فليس لله حاجة " فلا مفهوم له، فإن الله لا يحتاج إلى شيء، وإنما معناه فليس لله إرادة في صيامه فوضع الحاجة موضع الإرادة، وقد سبق أبو عمر بن عبد البر إلى شيء من ذلك. قال ابن المنير في الحاشية: بل هو كناية عن عدم القبول كما يقول المغضب لمن رد عليه شيئا طلبه منه فلم يقم به: لا حاجة لي بكذا، فالمراد رد الصوم المتلبس بالزور وقبول السالم منه، وقريب من هذا قوله تعالى (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) فإن معناه لن يصيب رضاه الذي ينشأ عنه القبول. وقال ابن العربي: مقتضى هذا الحديث أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه، ومعناه أن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور وما ذكر معه. وقال البيضاوي: ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول، فقوله " ليس لله حاجة " مجاز عن عدم القبول، فنفى السبب وأراد المسبب والله أعلم. واستدل به على أن هذه الأفعال تنقص الصوم، وتعقب بأنها صغائر تكفر باجتناب الكبائر. وأجاب السبكي الكبير بأن في حديث الباب والذي مضى في أول الصوم دلالة قوية للأول، لأن الرفث والصخب وقول الزور والعمل به مما علم النهي عنه مطلقا والصوم مأمور به مطلقا، فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثر بها لم يكن لذكرها فيه مشروطة فيه معنى يفهمه، فلما ذكرت في هذين الحديثين نبهتنا على أمرين: أحدهما زيادة قبحها في الصوم على غيرها، والثاني البحث على سلامة الصوم عنها، وأن سلامته منها صفة كمال فيه، وقوة الكلام تقتضي أن يقبح ذلك لأجل الصوم، فمقتضى ذلك أن الصوم يكمل بالسلامة عنها. قال: فإذا لم يسلم عنها نقص. ثم قال: ولا شك أن التكاليف قد ترد بأشياء وينبه بها على أخرى بطريق الإشارة، وليس المقصود من الصوم العدم المحض كما في المنهيات لأنه يشترط له النية بالإجماع، ولعل القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن لما كان ذلك يشق خفف الله وأمر بالإمساك عن المفطرات، ونبه الغافل بذلك على الإمساك عن المخالفات، وأرشد إلى ذلك ما تضمنته أحاديث المبين عن الله مراده، فيكون اجتناب المفطرات واجبا واجتناب ما عداها من المخالفات من المكملات، والله أعلم. وقال شيخنا في شرح الترمذي: لما أخرج الترمذي هذا الحديث ترجم ما جاء في التشديد في الغيبة للصائم، وهو مشكل لأن الغيبة ليست قول الزور ولا العمل به، لأنها أن يذكر غيره بما يكره، وقول الزور هو الكذب، وقد وافق الترمذي بقية أصحاب السنن فترجموا بالغيبة وذكروا هذا الحديث، وكأنهم فهموا من ذكر قول الزور والعمل به الأمر بحفظ النطق، ويمكن أن يكون فيه إشارة إلى الزيادة التي وردت في بعض طرقه وهي الجهل فإنه يصح إطلاقه على جميع المعاصي. وأما قوله " والعمل به " فيعود على الزور، ويحتمل أن يعود أيضا على الجهل أي والعمل بكل منهما. (تنبيه) : قوله " فليس لله " وقع عند البيهقي في " الشعب " من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب " فليس به " بموحدة وهاء ضمير، فإن لم يكن تحريفا فالضمير للصائم. *3*باب هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ الشرح: قوله: (باب هل يقول إني صائم إذا شتم) أورد فيه حديث أبي هريرة، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى قبل ستة أبواب. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ الشرح: قوله فيه (ولا يصخب) كذا للأكثر بالمهملة الساكنة بعدها خاء معجمة، ولبعضهم بالسين بدل الصاد وهو بمعناه، والصخب الخصام والصياح، وقد تقدم أن المراد النهي عن ذلك تأكيده حالة الصوم، وإلا فغير الصائم منهي عن ذلك أيضا. قوله: (لخلوف) كذا للأكثر، وللكشميهني " لخلف " بحذف الواو كأنها صيغة جمع، ويروى في غير البخاري بلفظ " لخفة " على الوحدة كتمر وتمرة. قوله: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح) زاد مسلم " بفطره"، وقوله "يفرحهما " أصله يفرح بهما فحذف الجار ووصل الضمير كقوله صام رمضان أي فيه. قال القرطبي: معناه فرح بزوال جوعه وعطشه حيث أبيح له الفطر، وهذا الفرح طبيعي وهو السابق للفهم، وقيل إن فرحه بفطره إنما هو من حيث أنه تمام صومه وخاتمة عبادته وتخفيف من ربه ومعونة على مستقبل صومه. قلت: ولا مانع من الحمل على ما هو أعم مما ذكر، ففرح كل أحد بحسبه لاختلاف مقامات الناس في ذلك، فمنهم من يكون فرحه مباحا وهو الطبيعي، ومنهم من يكون مستحبا وهو من يكون سببه شيء مما ذكره. قوله: (وإذا لقي ربه فرح بصومه) أي بجزائه وثوابه. وقيل الفرح الذي عند لقاء ربه إما لسروره بربه أو بثواب ربه على الاحتمالين. قلت: والثاني أظهر إذ لا ينحصر الأول في الصوم بل يفرح حينئذ بقبول صومه وترتب الجزاء الوافر عليه. *3*باب الصَّوْمِ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْعُزْبَةَ الشرح: قوله: (باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة) بضم المهملة وسكون الزاي بعدها موحدة، كذا لأبي ذر، ولغيره " العزوبة " بزيادة واو، والمراد بالخوف من العزوبة ما ينشأ عنها من إرادة الوقوع في العنت. ثم أورد المصنف فيه حديث ابن مسعود المشهور، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى، والمراد منه هنا قوله فيه " ومن لم يستطع " أي لم يجد أهبة النكاح. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ الشرح: قوله: (فعليه بالصوم فإنه له وجاء) بكسر الواو وبجيم ومد وهو رض الخصيتين، وقيل رض عروقهما، ومن يفعل به ذلك تنقطع شهوته، ومقتضاه أن الصوم قامع لشهوة النكاح. واستشكل بأن الصوم يزيد في تهييج الحرارة وذلك مما يثير الشهوة، لكن ذلك إنما يقع في مبدأ الأمر فإذا تمادى عليه واعتاده سكن ذلك، والله أعلم. |
08-21-2013, 04:27 PM | #530 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا وَقَالَ صِلَةُ عَنْ عَمَّارٍ مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الشرح: قوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الهلال فصوموا) هذه الترجمة لفظ مسلم من رواية إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة، وقد سبق للمصنف في أول الصيام من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبيه بلفظ " إذا رأيتموه " وذكر البخاري في الباب أحاديث تدل على نفي صوم يوم الشك رتبها ترتيبا حسنا: فصدرها بحديث عمار المصرح بعصيان من صامه، ثم بحديث ابن عمر من وجهين أحدهما بلفظ " فإن غم عليكم فاقدروا له " والآخر بلفظ " فأكملوا العدة ثلاثين " وقصد بذلك بيان المراد من قوله فاقدروا له، ثم استظهر بحديث ابن عمر أيضا " الشهر هكذا وهكذا وحبس الإبهام في الثالثة " ثم ذكر شاهدا من حديث أبي هريرة لحديث ابن عمر مصرحا بأن عدة الثلاثين المأمور بها تكون من شعبان، ثم ذكر شاهدا لحديث ابن عمر في كون الشهر تسعا وعشرين من حديث أم سلمة مصرحا فيه بأن الشهر تسع وعشرون، ومن حديث أنس كذلك، وسأتكلم عليها حديثا حديثا إن شاء الله تعالى. قوله: (وقال صلة عن عمار الخ) أما صلة فهو بكسر المهملة وتخفيف اللام المفتوحة ابن زفر بزاي وفاء وزن عمر كوفي عبسي بموحدة ومهملة من كبار التابعين وفضلائهم، ووهم ابن حزم فزعم أنه صلة ابن أشيم، والمعروف أنه ابن زفر، وكذا وقع مصرحا به عند جمع ممن وصل هذا الحديث، وقد وصله أبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عنه ولفظه عندهم " كنا عند عمار بن ياسر فأتى بشاة مصلية فقال: كلوا. فتنحى بعض القوم فقال إني صائم. فقال عمار: من صام يوم الشك " وفي رواية ابن خزيمة وغيره " من صام اليوم الذي يشك فيه"، وله متابع بإسناد حسن، أخرجه ابن أبي شيبة من طريق منصور عن ربعي " أن عمارا وناسا معه أتوهم يسألونهم في اليوم الذي يشك فيه، فاعتزلهم رجل، فقال له عمار تعال فكل فقال: إني صائم، فقال له عمار: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فتعال وكل " ورواه عبد الرزاق من وجه آخر عن منصور عن ربعي عن رجل عن عمار، وله شاهد من وجه آخر أخرجه إسحاق بن راهويه من رواية سماك عن عكرمة. ومنهم من وصله بذكر ابن عباس فيه. قوله: (فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) استدل به على تحريم صوم يوم الشك لأن الصحابي لا يقول ذلك من قبل رأيه فيكون من قبيل المرفوع. قال ابن عبد البر: هو مسند عندهم لا يختلفون في ذلك. وخالفهم الجوهري المالكي فقال: هو موقوف. والجواب أنه موقوف لفظا مرفوع حكما. قال الطيبي: إنما أتى بالموصول ولم يقل يوم الشك مبالغة في أن صوم يوم فيه أدنى شك سبب لعصيان صاحب الشرع فكيف بمن صام يوما الشك فيه قائم ثابت، ونحوه قوله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) أي الذين أونس منهم أدنى ظلم، فكيف بالظلم المستمر عليه؟ قلت: وقد علمت أنه وقع في كثير من الطرق بلفظ " يوم الشك " وقوله " أبا القاسم " قيل فائدة تخصيص ذكر هذه الكنية الإشارة إلى أنه هو الذي يقسم بين عباد الله أحكامه زمانا ومكانا وغير ذلك، وأما حديث ابن عمر فاتفق الرواة عن مالك عن نافع فيه على قوله " فاقدروا له " وجاء من وجه آخر عن نافع بلفظ " فاقدروا ثلاثين " كذلك أخرجه مسلم من طريق عبيد الله ابن عمر عن نافع، وهكذا أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع. قال عبد الرزاق: وأخبرنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع به وقال " فعدوا ثلاثين " واتفق الرواة عن مالك عن عبد الله بن دينار أيضا فيه على قوله " فاقدروا له " وكذلك رواه الزعفراني وغيره عن الشافعي، وكذا رواة إسحاق الحربي وغيره في " الموطأ " عن القعنبي، وأخرجه الربيع بن سليمان والمزني عن الشافعي فقال فيه كما قاله البخاري هنا عن القعنبي " فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " قال البيهقي في " المعرفة " إن كانت رواية الشافعي والقعنبي من هذين الوجهين محفوظة فيكون مالك قد رواه على الوجهين. قلت: ومع غرابة هذا اللفظ من هذا الوجه فله متابعات، منها: ما رواه الشافعي أيضا من طريق سالم عن ابن عمر بتعيين الثلاثين. ومنها: ما رواه ابن خزيمة من طريق عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر بلفظ " فإن غم عليكم فكملوا ثلاثين " وله شواهد من حديث حذيفة عند ابن خزيمة، وأبي هريرة وابن عباس عند أبي داود والنسائي وغيرهما، وعن أبي بكرة وطلق بن علي عند البيهقي، وأخرجه من طرق أخرى عنهم وعن غيرهم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ الشرح: قوله: (لا تصوموا حتى تروا الهلال) ظاهره إيجاب الصوم حين الرؤية متى وجدت ليلا أو نهارا لكنه محمول على صوم اليوم المستقبل، وبعض العلماء فرق بين ما قبل الزوال أو بعد، وخالف الشيعة الإجماع فأوجبوه مطلقا، وهو ظاهر في النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى ذلك لمن تمسك به، لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة وهو قوله " فإن غم عليكم فاقدروا له " فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين حكم الصحو والغيم، فيكون التعليق على الرؤية متعلقا بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر. ويحتمل أن لا تفرقة ويكون الثاني مؤكدا للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا: المراد بقوله " فاقدروا له " أي انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين، ويرجح هذا التأويل الروايات الأخر المصرحة بالمراد وهي ما تقدم من قوله " فأكملوا العدة ثلاثين " ونحوها، وأولى ما فسر الحديث بالحديث، وقد وقع الاختلاف في حديث أبي هريرة في هذه الزيادة أيضا فرواها البخاري كما ترى بلفظ " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " وهذا أصرح ما ورد في ذلك، وقد قيل إن آدم شيخه انفرد بذلك فإن أكثر الرواة عن شعبة قالوا فيه " فعدوا ثلاثين " أشار إلى ذلك الإسماعيلي وهو عند مسلم وغيره. قال فيجوز أن يكون آدم أورده على ما وقع عنده من تفسير الخبر. قلت: الذي ظنه الإسماعيلي صحيح، فقد رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن يزيد عن آدم بلفظ " فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما " يعني عدوا شعبان ثلاثين، فوقع للبخاري إدراج التفسير في نفس الخبر. ويؤيد رواية أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ " لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين"، فإنه يشعر بأن المأمور بعدده هو شعبان، وقد رواه مسلم من طريق الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد بلفظ " فأكملوا العدد " وهو يتناول كل شهر فدخل فيه شعبان، وروى الدار قطني وصححه وابن خزيمة في صحيحه من حديث عائشة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام " وأخرجه أبو داود وغيره أيضا. وروى أبو داود والنسائي وابن خزيمة من طريق ربعي عن حذيفة مرفوعا " لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة " وقيل الصواب فيه عن ربعي عن رجل من الصحابة مبهم، ولا يقدح ذلك في صحته. قال ابن الجوزي في " التحقيق " لأحمد في هذه المسألة - وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان - ثلاثة أقوال: أحدها يجب صومه على أنه من رمضان. ثانيها لا يجوز فرضا ولا نفلا مطلقا، بل قضاء وكفارة ونذرا ونفلا يوافق عادة، وبه قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز عن فرض رمضان ويجوز عما سوى ذلك. ثالثها المرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر. واحتج الأول بأنه موافق لرأي الصحابي راوي الحديث. قال أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر فذكر الحديث بلفظ " فاقدروا له " قال نافع: فكان ابن عمر إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لما ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا، وإن حال أصبح صائما. وأما ما روى الثوري في جامعه عن عبد العزيز بن حكيم سمعت ابن عمر يقول: لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه، فالجمع بينهما أنه في الصورة التي أوجب فيها الصوم لا يسمى يوم شك، وهذا هو المشهور عن أحمد أنه خص يوم الشك بما إذا تقاعد الناس عن رؤية الهلال أو شهد برؤيته من لا يقبل الحاكم شهادته، فأما إذا حال دون منظره شيء فلا يسمى شكا. واختار كثير من المحققين من أصحابه الثاني. قال ابن عبد الهادي في تنقيحه: الذي دلت عليه الأحاديث - وهو مقتضى القواعد - أنه أي شهر غم أكمل ثلاثين سواء في ذلك شعبان ورمضان وغيرهما، فعلى هذا قوله " فأكملوا العدة " يرجع إلى الجملتين وهو قوله " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة " أي غم عليكم في صومكم أو فطركم، وبقية الأحاديث تدل عليه فاللام في قوله " فأكملوا العدة " للشهر أي عدة الشهر، ولم يخص صلى الله عليه وسلم شهرا دون شهر بالإكمال إذا غم، فلا فرق بين شعبان وغيره في ذلك، إذ لو كان شعبان غير مراد بهذا الإكمال لبينه فلا تكون رواية من روى " فأكملوا عدة شعبان " مخالفة لمن قال " فأكملوا العدة " بل مبينة لها. ويؤيد ذلك قوله في الرواية الأخرى " فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا". أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وأبو يعلى من حديث ابن عباس هكذا، ورواه الطيالسي من هذا الوجه بلفظ " ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من شعبان " وروى النسائي من طريق محمد بن حنين عن ابن عباس بلفظ " فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". قوله: (فاقدروا له) تقدم أن للعلماء فيه تأويلين، وذهب آخرون إلى تأويل ثالث، قالوا: معناه فاقدروه بحساب المنازل. قاله أبو العباس بن سريج من الشافعية ومطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين. قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة هو ممن يعرج عليه في مثل هذا. قال: ونقل ابن خويز منداد عن الشافعي مسألة ابن سريج والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور، ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله " فاقدروا له " خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وأن قوله " فأكملوا العدة " خطاب للعامة. قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد، قال: وهذا بعيد عن النبلاء. وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، قال: فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم، وهذا هو الذي أراده ابن سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه. ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه وإنما قال بجوازه، وهو اختيار القفال وأبي الطيب، وأما أبو إسحاق في " المهذب " فنقل عن ابن سريج لزوم الصوم في هذه الصورة فتعددت الآراء في هذه المسألة بالنسبة إلى خصوص النظر في الحساب والمنازل: أحدها الجواز ولا يجزئ عن الفرض، ثانيها يجوز ويجزئ، ثالثها يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم، رابعها يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم، خامسها يجوز لهما ولغيرهما مطلقا. وقال ابن الصباغ أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا. قلت: ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك. فقال في الإشراف: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته، هكذا أطلق ولم يفصل بين حاسب وغيره، فمن فرق بينهم كان محجوجا بالإجماع قبله، وسيأتي بقية البحث في ذلك بعد باب. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ الشرح: قوله: (الشهر تسع وعشرون) ظاهره حصر الشهر في تسع وعشرين مع أنه لا ينحصر فيه بل قد يكون ثلاثين، والجواب أن المعنى أن الشهر يكون تسعة وعشرين أو اللام للعهد والمراد شهر بعينه أو هو محمول على الأكثر الأغلب لقول ابن مسعود " ما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين " أخرجه أبو داود والترمذي، ومثله عن عائشة عند أحمد بإسناد جيد، ويؤيد الأول قوله في حديث أم سلمة في الباب أن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما. وقال ابن العربي: قوله " الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا الخ " معناه حصره من جهة أحد طرفيه، أي أنه يكون تسعا وعشرين وهو أقله، ويكون ثلاثين وهو أكثره، فلا تأخذوا أنفسكم بصوم الأكثر احتياطا، ولا تقتصروا على الأقل تخفيفا، ولكن اجعلوا عبادتكم مرتبطة ابتداء وانتهاء باستهلاله. قوله: (فلا تصوموا حتى تروه) ليس المراد تعليق الصوم بالرؤية في حق كل أحد، بل المراد بذلك رؤية بعضهم وهو من يثبت به ذلك، إما واحد على رأي الجمهور أو اثنان على رأي آخرين. ووافق الحنفية على الأول إلا أنهم خصوا ذلك بما إذا كان في السماء علة من غيم وغيره، وإلا متى كان صحو لم يقبل إلا من جمع كثير يقع العلم بخبرهم. وقد تمسك بتعليق الصوم بالرؤية من ذهب إلى إلزام أهل البلد برؤية أهل بلد غيرها، ومن لم يذهب إلى ذلك قال لأن قوله " حتى تروه " خطاب لأناس مخصوصين فلا يلزم غيرهم، ولكنه مصروف عن ظاهره فلا يتوقف الحال على رؤية كل واحد فلا يتقيد بالبلد. وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: أحدها لأهل كل بلد رؤيتهم، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس ما يشهد له، وحكاه ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه، وحكاه الماوردي وجها للشافعية. ثانيها مقابله إذا رؤي ببلدة لزم أهل البلاد كلها، وهو المشهور عند المالكية، لكن حكى ابن عبد البر الإجماع على خلافه. وقال: أجمعوا على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلاد كخراسان والأندلس. قال القرطبي: قد قال شيوخنا إذا كانت رؤية الهلال ظاهرة قاطعة بموضع ثم نقل إلى غيرهم بشهادة اثنين لزمهم الصوم. وقال ابن الماجشون: لا يلزمهم بالشهادة إلا لأهل البلد الذي ثبتت فيه الشهادة إلا أن يثبت عند الإمام الأعظم فيلزم الناس كلهم لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في الجميع. وقال بعض الشافعية: إن تقاربت البلاد كان الحكم واحدا وإن تباعدت فوجهان: لا يجب عند الأكثر، واختار أبو الطيب وطائفة الوجوب وحكاه البغوي عن الشافعي. وفي ضبط البعد أوجه: أحدها اختلاف المطالع قطع به العراقيون والصيدلاني وصححه النووي في " الروضة " و " شرح المهذب". ثانيها مسافة القصر قطع به الإمام والبغوي وصححه الرافعي في " الصغير " والنووي في شرح مسلم". ثالثها اختلاف الأقاليم. رابعها حكاه السرخسي فقال: يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنها بلا عارض دون غيرهم. خامسها قول ابن الماجشون المتقدم واستدل به على وجوب الصوم والفطر على من رأى الهلال وحده وإن لم يثبت بقوله، وهو قول الأئمة الأربعة في الصوم، واختلفوا في الفطر فقال الشافعي: يفطر ويخفيه. وقال الأكثر: يستمر صائما احتياطا. قوله: (فإن غم عليكم) بضم المعجمة وتشديد الميم أي حال بينكم وبينه غيم، يقال غممت الشيء إذا غطيته، ووقع في حديث أبي هريرة من طريق المستملي " فإن غم " ومن طريق الكشميهني " أغمى " ومن رواية السرخسي " غبى " بفتح العين المعجمة وتخفيف الموحدة وأغمى وغم وغمى بتشديد الميم وتخفيفها فهو مغموم، الكل بمعنى، وأما غبى فمأخوذ من الغباوة وهي عدم الفطنة وهي استعارة لخفاء الهلال، ونقل ابن العربي أنه روى " عمى " بالعين المهملة من العمى قال وهو بمعناه لأنه ذهاب البصر عن المشاهدات أو ذهاب البصيرة عن المعقولات. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ الشرح: قوله (الشهر هكذا وهكذا وخنس الإبهام في الثالثة) كذا للأكثر بالمعجمة والنون أي قبض، والانخناس الانقباض قاله الخطابي. وفي رواية الكشميهني " وحبس " بالحاء المهملة ثم الموحدة، أي منع. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَلَمَّا مَضَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا غَدَا أَوْ رَاحَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ شَهْرًا فَقَالَ إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا الشرح: قوله: (عن يحيى بن عبد الله بن صيفي) بمهملة وفاء وزن زيدي، وهو اسم بلفظ النسبة. ووقع في رواية حجاج عن ابن جريج " أخبرني يحيى " أخرجه مسلم، وكذا صرح بالإخبار في بقية الإسناد، وسيأتي الكلام على حديث أم سلمة هذا مستوفى في كتاب الطلاق. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ وَكَانَتْ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ آلَيْتَ شَهْرًا فَقَالَ إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ الشرح: قوله: (عن حميد عن أنس) سيأتي في الطلاق من وجه آخر عن سليمان عن حميد أنه مع أنسا. قوله: (تسعا وعشرين) كذا للأكثر وللحموي والمستملي " تسعة وعشرين " وسيأتي بقية الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى. |
08-21-2013, 04:29 PM | #531 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَهُوَ تَمَامٌ
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَجْتَمِعَانِ كِلَاهُمَا نَاقِصٌ الشرح: قوله: (باب شهرا عيد لا ينقصان) هكذا ترجم ببعض لفظ الحديث، وهذا القدر لفظ طريق لحديث الباب عند الترمذي من رواية بشر بن المفضل عن خالد الحذاء. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَنِي مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ شَهْرَانِ لَا يَنْقُصَانِ شَهْرَا عِيدٍ رَمَضَانُ وَذُو الْحَجَّةِ الشرح: قوله: (حدثنا مسدد حدثنا معتمر) فساق الإسناد ثم قال: " وحدثني مسدد قال حدثنا معتمر " فساقه بإسناد آخر لمسدد وساق المتن على لفظ الرواية الثانية، وكأن النكتة في كونه لم يجمع الإسنادين معا مع أنهما لم يتغايرا إلا في شيخ معتمر أن مسددا حدثه به مرة ومعه غيره عن معتمر عن إسحاق، وحدثه به مرة أخرى إما وهو وحده وإما بقراءته عليه عن معتمر عن خالد، ولمسدد فيه شيخ آخر أخرجه أبو داود عنه عن يزيد بن زريع عن خالد وهو محفوظ عن خالد الحذاء من طرق. وأما قول قاسم في " الدلائل ": سمعت موسى بن هارون يحدث بهذا الحديث عن العباس بن الوليد عن يزيد بن زريع مرفوعا، قال موسى وأنا أهاب رفعه، فإن لم يحمل على أن يزيد بن زريع كان ربما وقفه وإلا فليس لمهابة رفعه معنى. وأما لفظ إسحاق العدوي فأخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريق أبي خليفة وأبي مسلم الكجي جميعا عن مسدد بهذا الإسناد بلفظ " لا ينقص رمضان ولا ينقص ذو الحجة " وأشار الإسماعيلي أيضا إلى أن هذا اللفظ لإسحاق العدوي، لكن أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن محمد بن يحيى عن مسدد بلفظ " شهرا عيدا لا ينقصان " كما هو لفظ الترجمة، وكأن هذا هو السر في اقتصار البخاري على سياق المتن على لفظ خالد دون إسحاق لكونه لم يختلف في سياقه عليه، وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث: فمنهم من حمله على ظاهره فقال لا يكون رمضان ولا ذو الحجة أبدا إلا ثلاثين، وهذا قول مردود معاند للموجود المشاهد، ويكفي في رده قوله صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة " فإنه لو كان رمضان أبدا ثلاثين لم يحتج إلى هذا. ومنهم من تأول له معنى لائقا. وقال أبو الحسن كان إسحاق بن راهويه يقول: لا ينقصان في الفضيلة إن كانا تسعة وعشرين أو ثلاثين. انتهى. وقيل لا ينقصان معا، إن جاء أحدهما تسعا وعشرين جاء الآخر ثلاثين ولا بد. وقيل لا ينقصان في ثواب العمل فيهما، وهذان القولان مشهوران عن السلف وقد ثبتا منقولين في أكثر الروايات في البخاري، وسقط ذلك في رواية أبي ذر وفي رواية النسفي وغيره عقب الترجمة قبل سياق الحديث. قال إسحاق: وإن كان ناقصا فهو تمام. وقال محمد: لا يجتمعان كلاهما ناقص. وإسحاق هذا هو ابن راهويه، ومحمد هو البخاري المصنف. ووقع عند الترمذي نقل القولين عن إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل، وكأن البخاري اختار مقالة أحمد فجزم بها أو توارد عليها. قال الترمذي قال أحمد: معناه لا ينقصان معا في سنة واحدة انتهى. ثم وجدت في نسخة الصغاني ما نصه عقب الحديث: قال أبو عبد الله قال إسحاق تسعة وعشرون يوما تام. وقال أحمد بن حنبل إن نقص رمضان تم ذو الحجة، وإن نقص ذو الحجة تم رمضان. وقال إسحاق: معناه وإن كان تسعا وعشرين فهو تمام غير نقصان. قال: وعلى مذهب إسحاق يجوز أن ينقصا معا في سنة واحدة. وروى الحاكم في تاريخه بإسناد صحيح أن إسحاق بن إبراهيم سئل عن ذلك فقال: إنكم ترون العدد ثلاثين فإذا كان تسعا وعشرين ترونه نقصانا وليس ذلك بنقصان. ووافق أحمد على اختياره أبو بكر أحمد بن عمرو البزار فأوهم مغلطاي أنه مراد الترمذي بقوله " وقال أحمد " وليس كذلك، وإنما ذكره قاسم في " الدلائل " عن البزار فقال: سمعت البزار يقول معناه لا ينقصان جميعا في سنة واحدة. قال: ويدل عليه رواية زيد بن عقبة عن سمرة ابن جندب مرفوعا " شهرا عيد لا يكونان ثمانية وخمسين يوما " وادعى مغلطاي أيضا أن المراد بإسحاق إسحاق ابن سويد العدوي راوي الحديث، ولم يأت على ذلك بحجة. وذكر ابن حبان لهذا الحديث معنيين: أحدهما ما قاله إسحاق، والآخر أن المراد أنهما في الفضل سواء لقوله في الحديث الآخر " ما من أيام العمل فيها أفضل من عشر ذي الحجة " وذكر القرطبي أن فيه خمسة أقوال فذكر نحو ما تقدم وزاد أن معناه لا ينقصان في عام بعينه وهو العام الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم تلك المقالة. وهذا حكاه ابن بزيزة ومن قبله أبو الوليد ابن رشد ونقله المحب الطبري عن أبي بكر بن فورك، وقيل: المعنى لا ينقصان في الأحكام، وبهذا جزم البيهقي وقبله الطحاوي فقال: معنى لا ينقصان أن الأحكام فيهما وإن كانا تسعة وعشرين متكاملة غير ناقصة عن حكمهما إذا كانا ثلاثين. وقيل معناه لا ينقصان في نفس الأمر لكن ربما حال دون رؤية الهلال مانع، وهذا أشار إليه ابن حبان أيضا. ولا يخفى بعده. وقيل معناه لا ينقصان معا في سنة واحدة على طريق الأكثر الأغلب وإن ندر وقوع ذلك، وهذا أعدل مما تقدم لأنه ربما وجد وقوعهما ووقوع كل منهما تسعة وعشرين قال الطحاوي: الأخذ بظاهره أو حمله على نقص أحدهما يدفعه العيان لأنا قد وجدناهما ينقصان معا في أعوام. وقال الزين بن المنير: لا يخلو شيء من هذه الأقوال عن الاعتراض، وأقربها أن المراد أن النقص الحسي باعتبار العدد ينجبر بأن كلا منهما شهر عيد عظيم فلا ينبغي وصفهما بالنقصان، بخلاف غيرهما من الشهور. وحاصله يرجع إلى تأييد قول إسحاق. وقال البيهقي في " المعرفة " إنما خصهما بالذكر لتعلق حكم الصوم والحج بهما، وبه جزم النووي وقال: إنه الصواب المعتمد. والمعنى أن كل ما ورد عنهما من الفضائل والأحكام حاصل سواء كان رمضان ثلاثين أو تسعا وعشرين، سواء صادف الوقوف اليوم التاسع أو غيره. ولا يخفى أن محل ذلك ما إذا لم يحصل تقصير في ابتغاء الهلال، وفائدة الحديث رفع ما يقع في القلوب من شك لمن صام تسعا وعشرين أو وقف في غير يوم عرفة. وقد استشكل بعض العلماء إمكان الوقوف في الثامن اجتهادا، وليس مشكلا لأنه ربما ثبتت الرؤية بشاهدين أن أول ذي الحجة الخميس مثلا فوقفوا يوم الجمعة، ثم تبين أنهما شهدا زورا. وقال الطيبي: ظاهر سياق الحديث بيان اختصاص الشهرين بمزية ليست في غيرهما من الشهور، وليس المراد أن ثواب الطاعة في غيرهما ينقص، وإنما المراد رفع الحرج عما عسى أن يقع فيه خطأ في الحكم لاختصاصهما بالعيدين وجواز احتمال وقوع الخطأ فيهما، ومن ثم قال " شهرا عيد " بعد قوله " شهران لا ينقصان " ولم يقتصر على قوله رمضان وذي الحجة انتهى. وفي الحديث حجة لمن قال إن الثواب ليس مرتبا على وجود المشقة دائما، بل لله أن يتفضل بإلحاق الناقص بالتام في الثواب. واستدل به بعضهم لمالك في اكتفائه لرمضان بنية واحدة قال: لأنه جعل الشهر بجملته عبادة واحدة فاكتفى له بالنية، وهذا الحديث يقتضي أن التسوية في الثواب بين الشهر الذي يكون تسعا وعشرين وبين الشهر الذي يكون ثلاثين إنما هو بالنظر إلى جعل الثواب متعلقا بالشهر من حيث الجملة لا من حيث تفضيل الأيام. وأما ما ذكره البزار من رواية زيد بن عقبة عن سمرة بن جندب فإسناده ضعيف، وقد أخرجه الدار قطني في " الأفراد " والطبراني من هذا الوجه بلفظ " لا يتم شهران ستين يوما " وقال أبو الوليد ابن رشد: إن ثبت فمعناه لا يكونان ثمانية وخمسين في الأجر والثواب وروى الطبراني حديث الباب من طريق هشيم عن خالد الحذاء بسنده هذا بلفظ " كل شهر حرام لا ينقص ثلاثون يوما وثلاثون ليلة " وهذا بهذا اللفظ شاذ، والمحفوظ عن خالد ما تقدم، وهو الذي توارد عليه الحفاظ من أصحابه كشعبة وحماد ابن زيد ويزيد بن زريع وبشر بن المفضل وغيرهم. وقد ذكر الطحاوي أن عبد الرحمن بن إسحاق روى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي بكرة بهذا اللفظ، قال الطحاوي: وعبد الرحمن بن إسحاق لا يقاوم خالدا الحذاء في الحفظ. قلت: فعلى هذا فقد دخل لهشيم حديث في حديث، لأن اللفظ الذي أورده عن خالد هو لفظ عبد الرحمن. وقال ابن رشد: إن صح فمعناه أيضا في الأجر والثواب. قوله: (رمضان وذو الحجة) أطلق على رمضان أنه شهر عيد لقربه من العيد، أو لكون هلال العيد ربما رؤي في اليوم الأخير من رمضان قاله الأثرم، والأول أولى. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم "المغرب وتر النهار " أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وصلاة المغرب ليلية جهرية، وأطلق كونها وتر النهار لقربها منه. وفيه إشارة إلى أن وقتها يقع أول ما تغرب الشمس. (تنبيه) : ليس لإسحاق بن سويد - وهو ابن هبيرة البصري العدوي عديى مضر، وهو تابعي صغير روى هنا عن تابعي كبير - في البخاري سوى هذا الحديث الواحد. وقد أخرجه مقرونا بخالد الحذاء وقد رمي بالنصب، وذكره ابن العربي في الضعفاء بهذا السبب. *3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشرح: قوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نكتب ولا نحسب) بالنون فيهما، والمراد أهل الإسلام الذين بحضرته عند تلك المقالة، وهو محمول على أكثرهم أو المراد نفسه صلى الله عليه وسلم. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ الشرح: قوله: (الأسود بن قيس) هو الكوفي تابعي صغير، وشيخه سعيد بن عمرو أي ابن سعيد بن العاص، مدني سكن دمشق ثم الكوفة تابعي شهير، سمع عائشة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة، ففي الإسناد تابعي عن تابعي كالذي قبله. قوله: (إنا) أي العرب، وقيل أراد نفسه. و قوله: (أمية) بلفظ النسب إلى الأم فقيل أراد أمة العرب لأنها لا تكتب، أو منسوب إلى الأمهات أي أنهم على أصل ولادة أمهم، أو منسوب إلى الأم لأن المرأة هذه صفتها غالبا، وقيل منسوبون إلى أم القرى، و قوله: (لا نكتب ولا نحسب) تفسير لكونهم كذلك، وقيل للعرب أميون لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة. قال الله تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم) ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة، والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضا إلا النزر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا، ويوضحه قوله في الحديث الماضي " فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " ولم يقل فسلوا أهل الحساب، والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم، وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض، ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلا القليل. قوله: (الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين) هكذا ذكره آدم شيخ البخاري مختصرا، وفيه اختصار عما رواه غندر عن شعبة، أخرجه مسلم عن ابن المثنى وغيره عنه بلفظ " الشهر هكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين " أي أشار أولا بأصابع يديه العشر جميعا مرتين وقبض الإبهام في المرة الثالثة وهذا المعبر عنه بقوله تسع وعشرون، وأشار مرة أخرى بهما ثلاث مرات وهو المعبر عنه بقوله ثلاثون. وفي رواية جبلة بن سحيم عن ابن عمر في الباب الماضي " الشهر هكذا وهكذا وخنس الإبهام في الثالثة". ووقع من هذا الوجه عند مسلم بلفظ " الشهر هكذا وهكذا وصفق بيديه مرتين بكل أصابعه وقبض في الصفقة الثالثة إبهام اليمنى أو اليسرى"، وروى أحمد وابن أبي شيبة واللفظ له من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن ابن عمر رفعه " الشهر تسع وعشرون ثم طبق بين كفيه مرتين وطبق الثالثة فقبض الإبهام. قال فقالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، إنما هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا فنزل لتسع وعشرين، فقيل له فقال: إن الشهر يكون تسعا وعشرين وشهر ثلاثون. قال ابن بطال: في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف. ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف. وفي الحديث مستند لمن رأى الحكم بالإشارة، قلت وسيأتي في كتاب الطلاق. *3*باب لَا يَتَقَدَّمُ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ الشرح: قوله: (باب لا يتقدم) بضم أوله وفتح ثانيه ويجوز فتحهما، أي المكلف. قوله: (لا يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين) أي لا يتقدم رمضان بصوم يوم يعد منه بقصد الاحتياط له فإن صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكلف، واكتفى في الترجمة عن ذلك لتصريح الخبر به. الحديث: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ الشرح: قوله: (هشام) هو الدستوائي. قوله: (عن أبي سلمة عن أبي هريرة) في رواية خالد بن الحارث عن هشام عند الإسماعيلي " حدثني أبو سلمة حدثني أبو هريرة"، ونحوه لأبي عوانة من طريق معاوية بن سلام عن يحيى. قوله: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم) في رواية أبي داود عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه " لا تقدموا صوم رمضان بصوم " وفي رواية خالد بن الحارث المذكورة " لا تقدموا بين يدي رمضان بصوم " ولأحمد عن روح عن هشام " لا تقدموا قبل رمضان بصوم " وللترمذي من طريق علي بن المبارك عن يحيى لا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله. قوله: (إلا أن يكون رجل) كان تامة، أي إلا أن يوجد رجل. قوله: (يصوم صوما) وفي رواية الكشميهني " صومه فليصم ذلك اليوم " وفي رواية معمر عن يحيى عند أحمد إلا رجل كان يصوم صياما فيأتي على صيامه " ونحوه لأبي عوانة من طريق أيوب عن يحيى. وفي رواية أحمد عن روح " إلا رجل كان يصوم صياما فليصله به " وللترمذي وأحمد من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة " إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم " قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي لما أخرجه: العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان ا ه. والحكمة فيه التقوى بالفطر لرمضان ليدخل فيه بقوة ونشاط، وهذا فيه نظر لأن مقتضى الحديث أنه لو تقدمه بصيام ثلاثة أيام أو أربعة جاز، وسنذكر ما فيه قريبا، وقيل الحكمة فيه خشية اختلاط النفل بالفرض، وفيه نظر أيضا لأنه يجوز لمن له عادة كما في الحديث، وقيل لأن الحكم علق بالرؤية فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم وهذا هو المعتمد، ومعنى الاستثناء أن من كان له ورد فقد أذن له فيه لأنه اعتاده وألفه وترك المألوف شديد وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويلتحق بذلك القضاء والنذر لوجوبهما قال بعض العلماء: يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما فلا يبطل القطعي بالظن، وفي الحديث رد على من يرى تقديم الصوم على الرؤية كالرافضة، ورد على من قال بجواز صوم النفل المطلق، وأبعد من قال: المراد بالنهي التقدم بنية رمضان، واستدل بلفظ التقدم لأن التقدم على الشيء بالشيء إنما يتحقق إذا كان من جنسه، فعلى هذا يجوز الصيام بنية النفل المطلق، لكن السياق يأبى هذا التأويل ويدفعه. وفيه بيان لمعنى قوله في الحديث الماضي " صوموا لرؤيته " فإن اللام فيه للتأقيت لا للتعليل. قال ابن دقيق العيد: ومع كونها محمولة على التأقيت فلا بد من ارتكاب مجاز لأن وقت الرؤية - وهو الليل - لا يكون محل الصوم. وتعقبه الفاكهي بأن المراد بقوله " صوموا " انووا الصيام، والليل كله ظرف للنية. قلت: فوقع في المجاز الذي فر منه، لأن الناوي ليس صائما حقيقة بدليل أنه يجوز له الأكل والشرب بعد النية إلى أن يطلع الفجر، وفيه منع إنشاء الصوم قبل رمضان إذا كان لأجل الاحتياط، فإن زاد على ذلك فمفهومه الجواز، وقيل يمتد المنع لما قبل ذلك وبه قطع كثير من الشافعية، وأجابوا عن الحديث بأن المراد منه التقديم بالصوم فحيث وجد منع، وإنما اقتصر على يوم أو يومين لأنه الغالب ممن يقصد ذلك. وقالوا أمد المنع من أول السادس عشر من شعبان لحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا " إذا انتصف شعبان فلا تصوموا " أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان وغيره. وقال الروياني من الشافعية: يحرم التقدم بيوم أو يومين لحديث الباب. ويكره التقدم من نصف شعبان للحديث الآخر. وقال جمهور العلماء: يجوز الصوم تطوعا بعد النصف من شعبان وضعفوا الحديث الوارد فيه. وقال أحمد وابن معين إنه منكر، وقد استدل البيهقي بحديث الباب على ضعفه فقال: الرخصة في ذلك بما هو أصح من حديث العلاء، وكذا صنع قبله الطحاوي. واستظهر بحديث ثابت عن أنس مرفوعا " أفضل الصيام بعد رمضان شعبان " لكن إسناده ضعيف، واستظهر أيضا بحديث عمران بن حصين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: هل صمت من سرر شعبان شيئا؟ قال: لا. قال: فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين " ثم جمع بين الحديثين بأن حديث العلاء محمول على من يضعفه الصوم، وحديث الباب مخصوص بمن يحتاط بزعمه لرمضان، وهو جمع حسن، والله أعلم. *3*باب قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ الشرح: قوله: (باب قول الله عز وجل: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم - إلى قوله - ما كتب الله لكم) كذا في رواية أبي ذر، وساق غيره الآية كلها، والمراد بهذه الترجمة بيان ما كان الحال عليه قبل نزول هذه الآية. ولما كانت هذه الآية منزلة على أسباب تتعلق بالصيام عجل بها المصنف. وقد تعرض لها في التفسير أيضا كما سيأتي. ويؤخذ من حاصل ما استقر عليه الحال من سبب نزولها ابتداء مشروعية السحور وهو المقصود في هذا المكان لأنه جعل هذه الترجمة مقدمة لأبواب السحور. الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا أَعِنْدَكِ طَعَامٌ قَالَتْ لَا وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ خَيْبَةً لَكَ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا وَنَزَلَتْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ الشرح: قوله: (عن أبي إسحاق) هو السبيعي، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق المذكور، وقد رواه الإسماعيلي من طريق يوسف بن موسى وغيره عن عبيد الله بن موسى شيخ البخاري فيه عن إسرائيل وزهير هو ابن معاوية كلاهما عن أبي إسحاق عن البراء زاد فيه ذكر زهير وساقه على لفظ إسرائيل، وقد رواه الدارمي وعبيد بن حميد في مسنديهما عن عبيد الله بن موسى فلم يذكرا زهيرا، وقد أخرجه النسائي من وجه آخر عن زهير به. قوله: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) أي في أول افتراض الصيام، وبين ذلك ابن جرير في روايته من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا. قوله: (فنام قبل أن يفطر الخ) في رواية زهير " كان إذا نام قبل أن يتعشى لم يحل له أن يأكل شيئا ولا يشرب ليله ويومه حتى تغرب الشمس " ولأبي الشيخ من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق " كان المسلمون إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا لم يفعلوا شيئا من ذلك إلى مثلها " فاتفقت الروايات في حديث البراء على أن المنع من ذلك كان مقيدا بالنوم، وهذا هو المشهور في حديث غيره، وقيد المنع من ذلك في حديث ابن عباس بصلاة العتمة، أخرجه أبو داود بلفظ " كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة " ونحوه في حديث أبي هريرة كما سأذكره قريبا، وهذا أخص من حديث البراء من وجه آخر، ويحتمل أن يكون ذكر صلاة العشاء لكون ما بعدها مظنة النوم غالبا، والتقييد في الحقيقة إنما هو بالنوم كما في سائر الأحاديث، وبين السدي وغيره أن ذلك الحكم كان على وفق ما كتب على أهل الكتاب كما أخرجه ابن جرير من طريق السدي ولفظه " كتب على النصارى الصيام، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا ولا ينكحوا بعد النوم، وكتب على المسلمين أولا مثل ذلك حتى أقبل رجل من الأنصار " فذكر القصة. ومن طريق إبراهيم التيمي " كان المسلمون في أول الإسلام يفعلون كما يفعل أهل الكتاب: إذا نام أحدهم لم يطعم حتى القابلة " ويؤيد هذا ما أخرجه مسلم من حديث عمرو بن العاص مرفوعا " فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر". قوله: (وإن قيس بن صرمة) بكسر الصاد المهملة وسكون الراء هكذا سمي في هذه الرواية، ولم يختلف على إسرائيل فيه إلا في رواية أبي أحمد الزبيري عنه فإنه قال " صرمة بن قيس " أخرجه أبو داود، ولأبي نعيم في " المعرفة " من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس مثله، قال وكذا رواه أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس، ووقع عند أحمد والنسائي من طريق زهير عن أبي إسحاق أنه " أبو قيس ابن عمرو " وفي حديث السدي المذكور " حتى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة " ولابن حرير من طريق ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان بفتح المهملة وبالموحدة الثقيلة مرسلا " صرمة بن أبي أنس " ولغير ابن جرير من هذا الوجه " صرمة بن قيس " كما قال أبو أحمد الزبيري، وللذهلي في " الزهريات " من مرسل القاسم بن محمد " صرمة بن أنس " ولابن جرير من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى " صرمة بن مالك " والجمع بين هذه الروايات أنه أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، كذا نسبه ابن عبد البر وغيره، فمن قال قيس بن صرمة قلبه كما جزم الداودي والسهيلي وغيرهما بأنه وقع مقلوبا في رواية حديث الباب، ومن قال صرمة بن مالك نسبه إلى جده، ومن قال صرمة بن أنس حذف أداة الكنية من أبيه، ومن قال أبو قيس بن عمرو أصاب كنيته وأخطأ في اسم أبيه، وكذا من قال أبو قيس بن صرمة، وكأنه أراد أن يقول أبو قيس صرمة فزاد فيه ابن، وقد صحفه بعضهم فرويناه في " جزء إبراهيم بن أبي ثابت " من طريق عطاء عن أبي هريرة قال " كان المسلمون إذا صلوا العشاء حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، وأن ضمرة بن أنس الأنصاري غلبته عينه " الحديث. وقد استدرك ابن الأثير في الصحابة ضمرة بن أنس في حرف الضاد المعجمة على من تقدمه، وهو تصحيف وتحريف ولم يتنبه له والصواب صرمة بن أبي أنس كما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. وصرمة بن أبي أنس مشهور في الصحابة يكنى أبا قيس. قال ابن إسحاق فيما أخرجه السراج في تاريخه من طريقه بإسناده إلى عويم بن ساعدة قال: قال صرمة بن أبي أنس وهو يذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى صديقا مؤاتيا الأبيات. قال ابن إسحاق: وصرمة هذا هو الذي نزل فيه (كلوا واشربوا) الآية. قال: وحدثني محمد ابن جعفر بن الزبير قال: كان أبو قيس ممن فارق الأوثان في الجاهلية، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم وهو شيخ كبير، وهو القائل: يقول أبو قيس وأصبح غاديا ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا الأبيات. قوله: (فقال لها أعندك) بكسر الكاف (طعام؟ قالت لا، ولكن أنطلق أطلب لك) ظاهره أنه لم يجئ معه بشيء، لكن في مرسل السدي أنه أتاها بتمر فقال: استبدلي به طحينا واجعليه سخينا، فإن التمر أحرق جوفي. وفيه: لعلي آكله سخنا، وأنها استبدلته له وصنعته. وفي مرسل ابن أبي ليلى: فقال لأهله أطعموني. فقالت: حتى أجعل لك شيئا سخينا. ووصله أبو داود من طريق ابن أبي ليلى فقال " حدثنا أصحاب محمد " فذكره مختصرا. قوله: (وكان يومه) بالنصب (يعمل) أي في أرضه، وصرح بها أبو داود في روايته. وفي مرسل السدي " كان يعمل في حيطان المدينة بالأجرة " فعلى هذا فقوله " في أرضه " إضافة اختصاص. قوله: (فغلبته عيناه) أي نام، وللكشميهني " عينه " بالإفراد. قوله: (فقالت خيبة لك) بالنصب وهو مفعول مطلق محذوف العامل، وقيل إذا كان بغير لام يجب نصبه وإلا جاز. والخيبة الحرمان يقال خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب. قوله: (فلما انتصف النهار غشي عليه) في رواية أحمد " فأصبح صائما، فلما انتصف النهار " وفي رواية أبي داود " فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه " فيحمل الأول على أن الغشي وقع في آخر النصف الأول من النهار. وفي رواية زهير عن أبي إسحاق " فلم يطعم شيئا وبات حتى أصبح صائما حتى انتصف النهار فغشي عليه " وفي مرسل السدي " فأيقظته، فكره أن يعصي الله وأبى أن يأكل " وفي مرسل محمد بن يحيى " فقالت له كل، فقال إني قد نمت. فقالت لم تنم. فأبى فأصبح جائعا مجهودا". قوله: (فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية زكريا عند أبي الشيخ " وأتى عمر امرأته وقد نامت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم". قوله: (فنزلت هذه الآية (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ففرحوا بها فرحا شديدا ونزلت (وكلوا واشربوا) كذا في هذه الرواية وشرح الكرماني على ظاهرها فقال: لما صار الرفث وهو الجماع هنا حلالا بعد أن كان حراما كان الأكل والشرب بطريق الأولى، فلذلك فرحوا بنزولها وفهموا منها الرخصة، هذا وجه مطابقة ذلك لقصة أبي قيس، قال: ثم لما كان حلهما بطريق المفهوم نزل بعد ذلك (وكلوا واشربوا) ليعلم بالمنطوق تسهيل الأمر عليهم صريحا، ثم قال: أو المراد من الآية هي بتمامها. قلت: وهذا هو المعتمد، وبه جزم السهيلي وقال: إن الآية بتمامها نزلت في الأمرين معا وقدم ما يتعلق بعمر لفضله. قلت: وقد وقع في رواية أبي داود فنزلت (أحل لكم ليلة الصيام) إلى قوله: (من الفجر) فهذا يبين أن محل قوله " ففرحوا بها " بعد قوله: (الخيط الأسود) ووقع ذلك صريحا في رواية زكريا بن أبي زائدة ولفظه " فنزلت (أحل لكم - إلى قوله - من الفجر) ففرح المسلمون بذلك " وسيأتي بيان قصة عمر في تفسير سورة البقرة مع بقية تفسير الآية المذكورة إن شاء الله تعالى. *3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ فِيهِ الْبَرَاءُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب قول الله عز وجل: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم) ساق إلى قوله: (إلى الليل) وهذه الترجمة سيقت لبيان انتهاء وقت الأكل وغيره الذي أبيح بعد أن كان ممنوعا، واستفيد من حديث سهل الذي في هذا الباب أن ذكر نزول الآية في حديث البراء أريد به معظمها وهو أن قوله: (من الفجر) تأخر نزوله عن بقية الآية مع أنه ليس في حديث البراء التصريح بأن قوله: (من الفجر) نزل أولا فإن رواية حديث الباب فيها إلى قوله: (الخيط الأسود) ورواية أبي داود وأبي الشيخ فيها إلى قوله: (من الفجر) فيحمل الثاني على أن قوله: (من الفجر) لم يدخل في الغاية. قوله: (فيه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم) يريد الحديث الذي مضى قبله وهو موصول كما تقدم. ثم أورد المصنف في الباب حديثين: الحديث: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ أَخْبَرَنِي حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ الشرح: قوله: (أخبرني حصين) ، روى الطحاوي من طريق إسماعيل بن سالم عن هشيم أنبأنا حصين ومجالد، وكذا أخرجه الترمذي عن أحمد بن منيع عن هشيم إلا أنه فرقهما. قوله: (عن عدي بن حاتم) في رواية الترمذي " أخبرني عدي بن حاتم " وكذا أخرجه ابن خزيمة عن أحمد بن منيع، وهكذا أورده أبو عوانة من طريق أبي عبيد عن هشيم عن حصين. قوله: (لما نزلت: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود. عمدت الخ) ظاهره أن عديا كان حاضرا لما نزلت هذه الآية، وهو يقتضي تقدم إسلامه، وليس كذلك لأن نزول فرض الصوم كان متقدما في أوائل الهجرة، وإسلام عدي كان في التاسعة أو العاشرة كما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، فإما أن يقال إن الآية التي في حديث الباب تأخر نزولها عن نزول فرض الصوم وهو بعيد جدا، وإما أن يؤول قول عدي هذا على أن المراد بقوله " لما نزلت " أي لما تليت علي عند إسلامي، أو لما بلغني نزول الآية أو في السياق حذف تقديره لما نزلت الآية ثم قدمت فأسلمت وتعلمت الشرائع عمدت، وقد روى أحمد حديثه من طريق مجالد بلفظ " علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والصيام فقال: صل كذا وصم كذا، فإذا غابت الشمس فكل حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود. قال: فأخذت خيطين " الحديث. قوله: (إلى عقال) بكسر المهملة أي حبل وفي رواية مجالد " فأخذت خيطين من شعر". قوله: (فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي) في رواية مجالد " فلا أستبين الأبيض من الأسود". قوله: (فقال إنما ذلك) زاد أبو عبيد " إن وسادك إذا لعريض " وكذا لأحمد عن هشيم، وللإسماعيلي عن يوسف القاضي عن محمد بن الصباح عن هشيم " قال فضحك وقال: إن كان وسادك إذا لعريضا " وهذه الزيادة أوردها المصنف في تفسير البقرة من طريق أبي عوانة عن حصين وزاد " إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك " وفي رواية أبي إدريس عن حصين عند مسلم " إن وسادك لعريض طويل " وللمصنف في التفسير من طريق جرير عن مطرف عن الشعبي " إنك لعريض القفا " ولأبي عوانة من طريق إبراهيم بن طهمان عن مطرف " فضحك وقال: لا يا عريض القفا " قال الخطابي في " المعالم " في قوله " إن وسادك لعريض " قولان: أحدهما يريد أن نومك لكثير، وكنى بالوسادة عن النوم لأن النائم يتوسد، أو أراد أن ليلك لطويل إذا كنت لا تمسك عن الأكل حتى يتبين لك العقال، والقول الآخر أنه كنى بالوسادة عن الموضع الذي يضعه من رأسه وعنقه على الوسادة إذا نام، والعرب تقول فلان عريض القفا إذا كان فيه غباوة وغفلة، وقد روي في هذا الحديث من طريق أخرى " إنك عريض القفا " وجزم الزمخشري بالتأويل الثاني فقال: إنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم قفا عدي لأنه غفل عن البيان، وعرض القفا مما يستدل به على قلة الفطنة، وأنشد في ذلك شعرا، وقد أنكر ذلك كثير منهم القرطبي فقال: حمله بعض الناس على الذم له على ذلك الفهم وكأنهم فهموا أنه نسبه إلى الجهل والجفاء وعدم الفقه، وعضدوا ذلك بقوله " إنك عريض القفا " وليس الأمر على ما قالوه لأن من حمل اللفظ على حقيقته اللسانية التي هي الأصل إن لم يتبين له دليل التجوز لم يستحق ذما ولا ينسب إلى جهل، وإنما عنى والله أعلم أن وسادك إن كان يغطي الخيطين اللذين أراد الله فهو إذا عريض واسع، ولهذا قال في أثر ذلك: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار، فكأنه قال: فكيف يدخلان تحت وسادتك؟ وقوله " إنك لعريض القفا " أي إن الوساد الذي يغطي الليل والنهار لا يرقد عليه إلا قفا عريض للمناسبة. قلت: وترجم عليه ابن حبان " ذكر البيان بأن العرب تتفاوت لغاتها " وأشار بذلك إلى أن عديا لم يكن يعرف في لغته أن سواد الليل وبياض النهار يعبر عنهما بالخيط الأسود والخيط الأبيض. وساق هذا الحديث. قال ابن المنير في الحاشية: في حديث عدي جواز التوبيخ بالكلام النادر الذي يسير فيصير مثلا بشرط صحة القصد ووجود الشرط عند أمن الغلو في ذلك فإنه مزلة القدم إلا لمن عصمه الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ح حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أُنْزِلَتْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَنْزِلْ مِنْ الْفَجْرِ فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ مِنْ الْفَجْرِ فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ الشرح: قوله: (حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، وحدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو غسان حدثني أبو حازم) كذا أخرجه البخاري عن سعيد عن شيخين له، وأعاده في التفسير عن سعيد عن أبي غسان وحده، وظهر من سياقه أن اللفظ هنا لأبي غسان. وقد أخرجه ابن خزيمة عن الذهلي عن سعيد عن شيخيه وبين أبو نعيم في المستخرج أن لفظهما واحد. وقد أخرجه مسلم وابن أبي حاتم وأبو عوانة والطحاوي في آخرين من طريق سعيد عن أبي غسان وحده. قوله: (فكان رجال) لم أقف على تسمية أحد منهم، ولا يحسن أن يفسر بعضهم بعدي بن حاتم لأن قصة عدي متأخرة عن ذلك كما سبق ويأتي. قوله: (ربط أحدهم في رجليه) في رواية فضيل بن سليمان عن أبي حازم عند مسلم " لما نزلت هذه الآية جعل الرجل يأخذ خيطا أبيض وخيطا أسود فيضعهما تحت وسادته فينظر متى يستبينهما " ولا منافاة بينهما لاحتمال أن يكون بعضهم فعل هذا وبعضهم فعل هذا، أو يكونوا يجعلونهما تحت الوسادة إلى السحر فيربطونهما حينئذ في أرجلهم ليشاهدوهما. قوله: (حتى يتبين) كذا للأكثر بالتشديد، وللكشميهني " حتى يستبين " بفتح أوله وسكون المهملة والتخفيف. قوله: (رؤيتهما) كذا لأبي ذر. وفي رواية النسفي " رئيهما " بكسر أوله وسكون الهمزة وضم التحتانية، ولمسلم من هذا الوجه " زيهما " بكسر الزاي وتشديد التحتانية، قال صاحب " المطالع " ضبطت هذه اللفظة على ثلاثة أوجه ثالثها بفتح الراء وقد تكسر بعدها همزة ثم تحتانية مشددة. قال عياض: ولا وجه له إلا بضرب من التأويل، وكأنه رئي بمعنى مرئي، والمعروف أن الرئي التابع من الجن فيحتمل أن يكون من هذا الأصل لترائيه لمن معه من الإنس. قوله: (فأنزل الله بعد: من الفجر) قال القرطبي: حديث عدي يقتضي أن قوله: (من الفجر) زل متصلا بقوله: (من الخيط الأسود) بخلاف حديث سهل فإنه ظاهر في أن قوله: (من الفجر) نزل بعد ذلك لرفع ما وقع لهم من الإشكال. قال: وقد قيل إنه كان بين نزولهما عام كامل، قال: فأما عدي فحمل الخيط على حقيقته وفهم من قوله: (من الفجر) من أجل الفجر ففعل ما فعل. قال: والجمع بينهما أن حديث عدي متأخر عن حديث سهل، فكأن عديا لم يبلغه ما جرى في حديث سهل، وإنما سمع الآية مجردة ففهمها على ما وقع له فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بقوله: (من الفجر) أن ينفصل أحد الخيطين عن الآخر، وأن قوله: (من الفجر) متعلق بقوله " يتبين " قال: ويحتمل أن تكون القصتان في حالة واحدة وأن بعض الرواة - يعني في قصة عدي - تلا الآية تامة كما ثبت في القرآن وإن كان حال النزول إنما نزلت مفرقة كما ثبت في حديث سهل. قلت: وهذا الثاني ضعيف لأن قصة عدي متأخرة لتأخر إسلامه كما قدمته، وقد روى ابن أبي حاتم من طريق أبي أسامة عن مجالد في حديث عدي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما أخبره بما صنع: يا ابن حاتم ألم أقل لك من الفجر " وللطبراني من وجه آخر عن مجالد وغيره " فقال عدي: يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظته غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود، إني بت البارحة معي خيطان أنظر إلى هذا وإلى هذا، قال: إنما هو الذي في السماء " فتبين أن قصة عدي مغايرة لقصة سهل، فأما من ذكر في حديث سهل فحملوا الخيط على ظاهره، فلما نزل " من الفجر " علموا المراد فلذلك قال سهل في حديثه " فعلموا أنما يعني الليل والنهار " وأما عدي فكأنه لم يكن في لغة قومه استعارة الخيط للصبح، وحمل قوله: (من الفجر) على السببية فظن أن الغاية تنتهي إلى أن يظهر تمييز أحد الخيطين من الآخر بضياء الفجر، أو نسي قوله: (من الفجر) حتى ذكره بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الاستعارة معروفة عند بعض العرب، قال الشاعر: ولما تبدت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا قوله: (فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار) في رواية الكشميهني " فعلموا أنه يعني " وقد وقع في حديث عدي " سواد الليل وبياض النهار " ومعنى الآية حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل، وهذا البيان يحصل بطلوع الفجر الصادق ففيه دلالة على أن ما بعد الفجر من النهار. وقال أبو عبيد: المراد بالخيط الأسود الليل وبالخيط الأبيض الفجر الصادق، والخيط اللون، وقيل المراد بالأبيض أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود، وبالأسود ما يمتد معه من غبش الليل شبيها بالخيط، قاله الزمخشري. قال: وقوله: (من الفجر) بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر. قال: ويجوز أن تكون " من " للتبعيض لأنه بعض الفجر، وقد أخرجه قوله: (من الفجر) من الاستعارة إلى التشبيه، كما أن قولهم رأيت أسدا مجاز فإذا زدت فيه من فلان رجع تشبيها. ثم قال: كيف جاز تأخير البيان وهو يشبه العبث لأنه قبل نزول (من الفجر) لا يفهم منه إلا الحقيقة وهي غير مرادة، ثم أجاب بأن من لا يجوزه - وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين - لم يصح عندهم حديث سهل، وأما من يجوزه فيقول ليس بعبث لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به. انتهى. ونقله في التجويز عن الأكثر فيه نظر كما سيأتي، وجوابه عنهم بعدم صحة الحديث مردود ولم يقل به أحد من الفريقين لأنه مما اتفق الشيخان على صحته وتلقته الأمة بالقبول، ومسألة تأخير البيان مشهورة في كتب الأصول، وفيها خلاف بين العلماء من المتكلمين وغيرهم، وقد حكى ابن السمعاني في أصل المسألة عن الشافعية أربعة أوجه: الجواز مطلقا عن ابن سريج والأصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران، والمنع مطلقا عن أبي إسحاق المروزي والقاضي أبي حامد والصيرفي، ثالثها جواز تأخير بيان المجمل دون العام. رابعها عكسه وكلاهما عن بعض الشافعية. وقال ابن الحاجب: تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع إلا عند مجوز تكليف ما لا يطاق، يعني وهم الأشاعرة فيجوزونه وأكثرهم يقولون لم يقع. قال شارحه: والخطاب المحتاج إلى البيان ضربان: أحدهما ماله ظاهر وقد استعمل في خلافه، والثاني ما لا ظاهر له فقال طائفة من الحنفية والمالكية وأكثر الشافعية: يجوز تأخيره عن وقت الخطاب، واختاره الفخر الرازي وابن الحاجب وغيرهم، ومال بعض الحنفية والحنابلة كلهم إلى امتناعه. وقال الكرخي يمتنع في غير المجمل، وإذا تقرر ذلك فقد قال النووي تبعا لعياض: وإنما حمل الخيط الأبيض والأسود على ظاهرهما بعض من لا فقه عنده من الأعراب كالرجال الذين حكي عنهم سهل وبعض من لم يكن في لغته استعمال الخيط في الصبح كعدي، وادعى الطحاوي والداودي أنه من باب النسخ وأن الحكم كان أولا على ظاهره المفهوم من الخيطين، واستدل على ذلك بما نقل عن حذيفة وغيره من جواز الأكل إلى الإسفار، قال: ثم نسخ بعد ذلك بقوله تعالى (من الفجر) . قلت: ويؤيد ما قاله ما رواه عبد الرزاق بإسناد رجاله ثقات " أن بلالا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فقال: الصلاة يا رسول الله، قد والله أصبحت. فقال: يرحم الله بلالا، لولا بلال لرجونا أن يرخص لنا حتى تطلع الشمس " ويستفاد من هذا الحديث - كما قال عياض - وجوب التوقف عن الألفاظ المشتركة وطلب بيان المراد منها وأنها لا تحمل على أظهر وجوهها وأكثر استعمالاتها إلا عند عدم البيان. وقال ابن بزيزة في " شرح الأحكام ": ليس هذا من باب تأخير بيان المجملات، لأن الصحابة عملوا أولا على ما سبق إلى أفهامهم بمقتضى اللسان فعلى هذا فهو من باب تأخير ما له ظاهر أريد به خلاف ظاهره. قلت: وكلامه يقتضي أن جميع الصحابة فعلوا ما نقله سهل ابن سعد، وفيه نظر، واستدل بالآية والحديث على أن غاية الأكل والشرب طلوع الفجر فلو طلع الفجر وهو يأكل أو يشرب فنزع تم صومه، وفيه اختلاف بين العلماء. ولو أكل ظانا أن الفجر لم يطلع لم يفسد صومه عند الجمهور لأن الآية دلت على الإباحة إلى أن يحصل التبيين، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس قال " أحل الله لك الأكل والشرب ما شككت " ولابن أبي شيبة عن أبي بكر وعمر نحوه، وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى قال " سأل رجل ابن عباس عن السحور، فقال له رجل من جلسائه: كل حتى لا تشك، فقال ابن عباس: إن هذا لا يقول شيئا كل ما شككت حتى لا تشك " قال ابن المنذر: وإلى هذا القول صار أكثر العلماء. وقال مالك يقضي. وقال ابن بزيزة في " شرح الأحكام ": اختلفوا هل يحرم الأكل بطلوع الفجر أو بتبينه عند الناظر تمسكا بظاهر الآية، واختلفوا هل يجب إمساك جزء قبل طلوع الفجر أم لا بناء على الاختلاف المشهور في مقدمة الواجب، وسنذكر بقية هذا البحث في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. |
08-21-2013, 04:30 PM | #532 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ الشرح:
قوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنعنكم) كذا للأكثر، وللكشميهني " لا يمنعكم " بسكون العين بغير تأكيد، قال ابن بطال: لم يصح عند البخاري لفظ الترجمة؛ فاستخرج معناه من حديث عائشة. وقد روى لفظ الترجمة وكيع من حديث سمرة مرفوعا " لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق". وقال الترمذي: هو حديث حسن ا ه. وحديث سمرة عند مسلم أيضا لكن لم يتعين في مراد البخاري، إنه قد صح أيضا على شرطه حديث ابن مسعود بلفظ " لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم " الحديث، وقد تقدم في أبواب الأذان في " باب الأذان قبل الفجر " وأخرج عنه حديث عبيد الله بن عمر عن شيخيه القاسم ونافع كما أخرجه هنا، فالظاهر أنه مراده بما ذكره في هذه الترجمة، وقد تقدم الكلام على حديث عبيد الله بن عمر هناك. وفي حديث سمرة الذي أخرجه مسلم بيان لما أبهم في حديث ابن مسعود، وذلك أن في حديث ابن مسعود " وليس الفجر أن يقول -. ورفع بأصابعه إلى فوق وطأطأ إلى أسفل - حتى يقول هكذا " وفي حديث سمرة عند مسلم " لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا " يعني معترضا. وفي رواية " ولا هذا البياض حتى يستطير " وقد تقدم لفظ رواية الترمذي، وله من حديث طلق بن علي " كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر " وقوله " يهيدنكم " بكسر الهاء أي يزعجنكم فتمتنعوا به عن السحور فإنه الفجر الكاذب، يقال هدته أهيده إذا أزعجته، وأصل الهيد بالكسر الحركة. ولابن أبي شيبة عن ثوبان مرفوعا " الفجر فجران: فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه، ولكن المستطير " أي هو الذي يحرم الطعام ويحل الصلاة، وهذا موافق للآية الماضية في الباب قبله. وذهب جماعة من الصحابة - وقال به الأعمش من التابعين وصاحبه أبو بكر بن عياش - إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر، فروى سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن عاصم عن زر عن حذيفة قال " تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والله النهار غير أن الشمس لم تطلع " وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن عاصم نحوه، وروى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة من طرق صحيحة، وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر من طرق عن أبي بكر أنه أمر بغلق الباب حتى لا يرى الفجر، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن علي أنه صلى الصبح ثم قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. قال ابن المنذر: وذهب بعضهم إلى أن المراد بتبين بياض النهار من سواد الليل أن ينتشر البياض في الطرق والسكك والبيوت، ثم حكى ما تقدم عن أبي بكر وغيره. وروي بإسناد صحيح عن سالم بن عبيد الأشجعي - وله صحبة - أن أبا بكر قال له " أخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال فنظرت ثم أتيته فقلت: قد ابيض وسطع، ثم قال: أخرج فانظر هل طلع؟ فنظرت فقلت: قد اعترض. قال: الآن أبلغني شرابي " وروي من طريق وكيع عن الأعمش أنه قال " لولا الشهوة لصليت الغداة ثم تسحرت " قال إسحاق: هؤلاء رأوا جواز الأكل والصلاة بعد طلوع الفجر المعترض حتى يتبين بياض النهار من سواد الليل. قال إسحاق: وبالقول الأول أقول، لكن لا أطعن على من تأول الرخصة كالقول الثاني ولا أرى له قضاء ولا كفارة. قلت: وفي هذا تعقب على الموفق وغيره حيث نقلوا الإجماع على خلاف ما ذهب إليه الأعمش، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ قَالَ الْقَاسِمُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانِهِمَا إِلَّا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا الشرح: قوله: (عن ابن عمر والقاسم بن محمد) بالجر عطفا على نافع لا على ابن عمر، لأن عبيد الله بن عمر رواه عن نافع عن ابن عمر وعن القاسم عن عائشة، وقد تقدم الكلام عليه في المواقيت. *3*باب تَأْخِيرِ السَّحُورِ الشرح: قوله: (باب تعجيل السحور) أي الإسراع بالأكل إشارة إلى أن السحور كان يقع قرب طلوع الفجر. وروى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه " كنا ننصرف - أي من صلاة الليل - فنستعجل بالطعام مخافة الفجر " قال ابن بطال ولو ترجم له بباب تأخير السحور لكان حسنا، وتعقبه مغلطاي بأنه وجد في نسخة أخرى من البخاري " باب تأخير السحور " ولم أر ذلك في شيء من نسخ البخاري التي وقعت لنا. وقال الزين بن المنير: التعجيل من الأمور النسبية، فإن نسب إلى أول الوقت كان معناه التقديم وإن نسب إلى آخره كان معناه التأخير، وإنما سماه البخاري تعجيلا إشارة منه إلى أن الصحابي كان يسابق بسحوره الفجر عند خوف طلوعه وخوف فوات الصلاة بمقدار ذهابه إلى المسجد. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (عن أبيه أبي حازم) أشار الإسماعيلي إلى أن عبد العزيز بن أبي حازم لم يسمعه من أبيه، فأخرج من طريق مصعب الزبيري عن أبي حازم عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن أبي حازم عن سهل، ثم رواه من طريق أخرى عن عبد الله بن عامر عن أبي حازم. وعبد الله بن عامر هو الأسلمي فيه ضعف، وأشار الإسماعيلي إلى تعليل الحديث بذلك. ومصعب بن عبد الله الزبيري لا يقاوم الحفاظ الذين رووه عن عبد العزيز عن أبيه بغير واسطة فزيادته شاذة، ويحتمل أن يكون عبد العزيز سمع من عبد الله بن عامر فيه عن أبيه زيادة لم تكن فيما سمعه من أبيه فلذلك حدث به تارة عن أبيه بلا واسطة وتارة بالواسطة. وقد أخرجه البخاري في المواقيت من وجه آخر عن أبي حازم فبطل التعليل برواية عبد العزيز بن أبي حازم، والله أعلم. قوله: (ثم تكون سرعتي) في رواية سليمان بن بلال " ثم تكون سرعة بي " وسرعة بالضم على أن كان تامة ولفظ " بي " متعلق بسرعة أو ليست تامة و " بي " الخبر أو قوله " أن أدرك"، ويجوز النصب على أنها خبر كان والاسم ضمير يرجع إلى ما يدل عليه لفظ السرعة. قوله: (أن أدرك السحور) كذا في رواية الكشميهني، وللنسفي والجمهور " أن أدرك السجود " وهو الصواب، ويؤيده أن في الرواية المتقدمة في المواقيت " أن أدرك صلاة الفجر " وفي رواية الإسماعيلي " صلاة الصبح " وفي رواية أخرى " صلاة الغداة". قال عياض: مراد سهل بن سعد أن غاية إسراعه أن سحوره لقربه من طلوع الفجر كان بحيث لا يكاد أن يدرك صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولشدة تغليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبح. وقال ابن المنير في الحاشية: المراد أنهم كانوا يزاحمون بالسحور الفجر فيختصرون فيه ويستعجلون خوف الفوات. (تنبيه) : قال المزي: ذكر خلف أن البخاري أخرج هذا الحديث في الصوم عن محمد بن عبيد الله وقتيبة كلاهما عن عبد العزيز، قال: ولم نجده في الصحيح ولا ذكره أبو مسعود. قلت: ورأيت هنا بخط القطب ومغلطاي " محمد بن عبيد " بغير إضافة، وهو غلط والصواب " محمد بن عبيد الله " وهو أبو ثابت المدني مشهور من كبار شيوخ البخاري. *3*باب قَدْرِ كَمْ بَيْنَ السَّحُورِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ الشرح: قوله: (باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر) أي انتهاء السحور وابتداء الصلاة، لأن المراد تقدير الزمان الذي ترك فيه الأكل، والمراد بفعل الصلاة أول الشروع فيها قاله الزين بن المنير. الحديث: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً الشرح: قوله: (حدثنا هشام) هو الدستوائي. قوله: (عن أنس) سبق في المواقيت من طريق سعيد عن قتادة قال " قلت لأنس". قوله: (قلت كم) هو مقول أنس، والمقول له زيد بن ثابت، وقد تقدم بيان ذلك في المواقيت وأن قتادة أيضا سأل أنسا عن ذلك، ورواه أحمد أيضا عن يزيد بن هارون عن همام وفيه أن أنسا قال " قلت لزيد " قوله: (قال قدر خمسين آية) أي متوسطة لا طويلة ولا قصيرة لا سريعة ولا بطيئة، وقدر بالرفع على أنه خبر المبتدأ، ويجوز النصب على أنه خبر كان المقدرة في جواب زيد لا في سؤال أنس لئلا تصير كان واسمها من قائل والخبر من آخر. قال المهلب وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت العرب تقدر الأوقات بالأعمال كقوله: قدر حلب شاة، وقدر نحر جزور فعدل زيد بن ثابت عن ذلك إلى التقدير بالقراءة إشارة إلى أن ذلك الوقت كان وقت العبادة بالتلاوة، ولو كانوا يقدرون بغير العمل لقال مثلا قدر درجة أو ثلث خمس ساعة. وقال ابن أبي جمرة: فيه إشارة إلى أن أوقاتهم كانت مستغرقة بالعبادة. وفيه تأخير السحور لكونه أبلغ في المقصود. قال ابن أبي جمرة: كان صلى الله عليه وسلم ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله لأنه لو لم يتسحر لاتبعوه فيشق على بعضهم، ولو تسحر في جوف الليل لشق أيضا على بعضهم ممن يغلب عليه النوم فقد يفضي إلى ترك الصبح أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر. وقال: فيه أيضا تقوية على الصيام لعموم الاحتياج إلى الطعام ولو ترك لشق على بعضهم ولا سيما من كان صفراويا فقد يغشى عليه فيفضي إلى الإفطار في رمضان. قال: وفي الحديث تأنيس الفاضل أصحابه بالمؤاكلة، وجواز المشي بالليل للحاجة، لأن زيد بن ثابت ما كان يبيت مع النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه الاجتماع على السحور، وفيه حسن الأدب في العبارة لقوله " تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولم يقل نحن ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما يشعر لفظ المعية بالتبعية. وقال القرطبي: فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر، فهو معارض لقول حذيفة " هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع " انتهى، والجواب أن لا معارضة بل تحمل على اختلاف الحال، فليس في رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة، فتكون قصة حذيفة سابقة، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بإسناد هذا الحديث في المواقيت وكونه من مسند زيد بن ثابت أو من مسند أنس. *3*باب بَرَكَةِ السَّحُورِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَاصَلُوا وَلَمْ يُذْكَرْ السَّحُورُ الشرح: قوله: (باب بركة السحور من غير إيجاب لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا ولم يذكر السحور) بضم " يذكر " على البناء للمجهول، وللكشميهني والنسفي " ولم يذكر سحور " قال الزين بن المنير: الاستدلال على الحكم إنما يفتقر إليه إذا ثبت الاختلاف أو كان متوقعا، والسحور إنما هو أكل للشهوة وحفظ القوة، لكن لما جاء الأمر به احتاج أن يبين أنه ليس على ظاهره من الإيجاب، وكذا النهي عن الوصال يستلزم الأمر بالأكل قبل طلوع الفجر. انتهى. وتعقب بأن النهي عن الوصال إنما هو أمر بالفصل بين الصوم والفطر، فهو أعم من الأكل آخر الليل فلا يتعين السحور، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ندبية السحور. وقال ابن بطال: في هذه الترجمة غفلة من البخاري لأنه قد أخرج بعد هذا حديث أبي سعيد " أيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر " فجعل غاية الوصال السحر وهو وقت السحور، قال: والمفسر يقضي على المجمل، انتهى. وقد تلقاه جماعة بعده بالتسليم، وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأن البخاري لم يترجم على عدم مشروعية السحور وإنما ترجم على عدم إيجابه. وأخذ من الوصال أن السحور ليس بواجب، وحيث نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال لم يكن على سبيل تحريم الوصال وإنما هو نهي إرشاد لتعليله إياه بالإشفاق عليهم، وليس في ذلك إيجاب للسحور، ولما ثبت أن النهي عن الوصال للكراهة فضد نهي الكراهة الاستحباب فثبت استحباب السحور، كذا قال. ومسألة الوصال مختلف فيها، والراجح عند الشافعية التحريم. والذي يظهر لي أن البخاري أراد بقوله " لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا الخ " الإشارة إلى حديث أبي هريرة الآتي بعد خمسة وعشرين بابا فيه بعد النهي عن الوصال أنه " واصل بهم يوما ثم يوما، ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم " فدل ذلك على أن السحور ليس بحتم، إذ لو كان حتما ما واصل بهم فإن الوصال يستلزم ترك السحور سواء قلنا الوصال حرام أو لا، وسيأتي الكلام على اختلاف العلماء في حكم الوصال وعلى حديث ابن عمر أيضا في الباب المشار إليه إن شاء الله تعالى. وقوله "أظل " بفتح الهمزة والظاء القائمة المعجمة مضارع ظللت إذا عملت بالنهار، وسيأتي هناك بلفظ " أبيت " وهو دال على أن استعمال أظل هنا ليس مقيدا بالنهار. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً الشرح: قوله (تسحروا فإن في السحور بركة) هو بفتح السين وبضمها، لأن المراد بالبركة الأجر والثواب فيناسب الضم لأنه مصدر بمعنى التسحر، أو البركة لكونه يقوي على الصوم وينشط له ويخفف المشقة فيه فيناسب الفتح لأنه ما يتسحر به، وقيل البركة ما يتضمن من الاستيقاظ والدعاء في السحر، والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة، وهي اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوى به على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام. قال ابن دقيق العيد: هذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية فإن إقامة السنة يوجب الأجر وزيادته، ويحتمل أن تعود إلى الأمور الدنيوية كقوة البدن على الصوم وتيسيره من غير إضرار بالصائم. قال: ومما يعلل به استحباب السحور المخالفة لأهل الكتاب لأنه ممتنع عندهم، وهذا أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأجور الأخروية. وقال أيضا: وقع للمتصوفة في مسألة السحور كلام من جهة اعتبار حكم الصوم وهي كسر شهوة البطن والفرج، والسحور قد يباين ذلك. قال: والصواب أن يقال ما زاد في المقدار حتى تنعدم هذه الحكمة بالكلية فليس بمستحب كالذي صنعه المترفون من التأنق في المآكل وكثرة الاستعداد لها، وما عدا ذلك تختلف مراتبه. (تكميل) : يحصل السحور بأقل ما يتناوله المرء من مأكول ومشروب. وقد أخرج هذا الحديث أحمد من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ " السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين " ولسعيد بن منصور من طريق أخرى مرسلة " تسحروا ولو بلقمة". *3*باب إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ عِنْدَكُمْ طَعَامٌ فَإِنْ قُلْنَا لَا قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الشرح: قوله: (باب إذا نوى بالنهار صوما) أي هل يصح مطلقا أو لا؟ وللعلماء في ذلك اختلاف، فمنهم من فرق بين القرض والنفل، ومنهم من خص جواز النفل بما قبل الزوال، وسيأتي بيان ذلك. قوله: (وقالت أم الدرداء كان أبو الدرداء يقول: عندكم طعام؟ فإن قلنا لا قال: فإني صائم يومي هذا) وصله ابن أبي شيبة من طريق أبي قلابة عن أم الدرداء قالت " كان أبو الدرداء يغدونا أحيانا ضحى فيسأل الغداء، فربما لم يوافقه عندنا فيقول: إذا أنا صائم " وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي إدريس وعن أيوب عن أبي قلابة عن أم الدرداء، وعن معمر عن قتادة " أن أبا الدرداء كان إذا أصبح سأل أهله الغداء، فإن لم يكن قال: أنا صائم"، وعن ابن جريج عن عطاء عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أنه " كان يأتي أهله حين ينتصف النهار " فذكر نحوه، ومن طريق شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء أنه " كان ربما دعا بالغداء فلا يجده، فيفرض عليه الصوم ذلك اليوم". قوله: (وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة) أما أثر أبي طلحة فوصله عبد الرزاق من طريق قتادة وابن أبي شيبة من طريق حميد كلاهما عن أنس، ولفظ قتادة " أن أبا طلحة كان يأتي أهله فيقول: هل من غداء؟ فإن قالوا لا صام يومه ذلك " قال قتادة: وكان معاذ بن جبل يفعله، ولفظ حميد نحوه وزاد " وإن كان عندهم أفطر " ولم يذكر قصة معاذ. وأما أثر أبي هريرة فوصله البيهقي من طريق ابن أبي ذئب عن حمزة عن يحيى عن سعيد بن المسيب قال " رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق، ثم يأتي أهله فيقول: عندكم شيء؟ فإن قالوا لا قال: فأنا صائم " ورواه عبد الرزاق بسند آخر فيه انقطاع أن أبا هريرة وأبا طلحة فذكر معناه. وأما أثر ابن عباس فوصله الطحاوي من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أنه " كان يصبح حتى يظهر ثم يقول: والله لقد أصبحت وما أريد الصوم، وما أكلت من طعام ولا شراب منذ اليوم، ولأصومن يومي هذا " وأما أثر حذيفة فوصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة من طريق سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال حذيفة " من بدا له الصيام بعد ما تزول الشمس فليصم " وفي رواية ابن أبي شيبة " أن حذيفة بدا له في الصوم بعدما زالت الشمس فصام " وقد جاء نحو ما ذكرنا عن أبي الدرداء مرفوعا من حديث عائشة أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة عن عمته عائشة بنت طلحة. وفي رواية له " حدثتني عائشة بتت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا لا. قال: فإني إذا صائم " الحديث. ورواه النسائي والطيالسي من طريق سماك عن عكرمة عن عائشة نحوه ولم يسم النسائي عكرمة. قال النووي: في هذا الحديث دليل للجمهور في أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل زوال الشمس، وتأوله الآخرون على أن سؤاله " هل عندكم شيء " لكونه كأن نوى الصوم من الليل ثم ضعف عنه وأراد الفطر لذلك. قال: وهو تأويل فاسد وتكلف بعيد. وقال ابن المنذر: اختلفوا فيمن أصبح يريد الإفطار، ثم بدا له أن يصوم تطوعا. فقالت طائفة: له أن يصوم متى بدا له، فذكر عمن تقدم، وزاد ابن مسعود وأبا أيوب وغيرهما، وساق ذلك بأسانيده إليهم. قال: وبه قال الشافعي وأحمد، قال: وقال ابن عمر " لا يصوم تطوعا حتى يجمع من الليل أو يتسحر " وقال مالك في النافلة " لا يصوم إلا أن يبيت، إلا إن كان يسرد الصوم فلا يحتاج إلى التبييت " وقال أهل الرأي: من أصبح مفطرا ثم بدا له أن يصوم قبل منتصف النهار أجزأه، وإن بدا له ذلك بعد الزوال لم يجزه. قلت: وهذا هو الأصح عند الشافعية، والذي نقله ابن المنذر عن الشافعي من الجواز مطلقا سواء كان قبل الزوال أو بعده هو أحد القولين للشافعي، والذي نص عليه في معظم كتبه التفرقة، والمعروف عن مالك والليث وابن أبي ذئب أنه لا يصح صيام التطوع إلا بنية من الليل. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا يَأْكُلْ الشرح: قوله: (عن سلمة بن الأكوع) في رواية يحيى وهو القطان " عن يزيد بن أبي عبيد حدثنا سلمة بن الأكوع " كما سيأتي في خبر الواحد. قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس) في رواية يحيى " قال لرجل من أسلم أذن في قومك " واسم هذا الرجل هند بن أسماء بن حارثة الأسلمي له ولأبيه ولعمه هند بن حارثة صحبة، أخرج حديثه أحمد وابن أبي خيثمة من طريق ابن إسحاق " حدثني عبد الله بن أبي بكر عن حبيب ابن هند بن أسماء الأسلمي عن أبيه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي من أسلم فقال: مر قومك أن يصوموا هذا اليوم يوم عاشوراء، فمن وجدته منهم قد أكل في أول يومه فليصم آخره " وروى أحمد أيضا من طريق عبد الرحمن بن حرملة عن يحيى بن هند قال: وكان هند من أصحاب الحديبية وأخوه الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر قومه بالصيام يوم عاشوراء، قال " فحدثني يحيى بن هند عن أسماء ابن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه فقال: مر قومك بصيام هذا اليوم. قال أرأيت إن وجدتهم قد طعموا؟ قال: فليتموا آخر يومهم " قلت: فيحتمل أن يكون كل من أسماء وولده هند أرسلا بذلك، ويحتمل أن يكون أطلق في الرواية الأولى على الجد اسم الأب فيكون الحديث من رواية حبيب بن هند عن جده أسماء فتتحد الروايتان، والله أعلم. واستدل بحديث سلمة هذا على صحة الصيام لمن لم ينوه من الليل سواء كان رمضان أو غيره لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم في أثناء النهار فدل على أن النية لا تشترط من الليل، وأجيب بأن ذلك يتوقف على أن صيام عاشوراء كان واجبا، والذي يترجح من أقوال العلماء أنه لم يكن فرضا، وعلى تقدير أنه كان فرضا فقد نسخ بلا ريب، فنسخ حكمه وشرائطه، بدليل قوله " ومن أكل فليتم " ومن لا يشترط النية من الليل لا يجيز صيام من أكل من النهار، وصرح ابن حبيب من المالكية بأن ترك التبييت لصوم عاشوراء من خصائص عاشوراء، وعلى تقدير أن حكمه باق فالأمر بالإمساك لا يستلزم الإجزاء فيحتمل أن يكون أمر بالإمساك لحرمة الوقت كما يؤمر من قدم من سفر في رمضان نهارا وكما يؤمر من أفطر يوم الشك ثم رأى الهلال، وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء، بل ورد ذلك صريحا في حديث أخرجه أبو داود والنسائي من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه أن أسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا. قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه " وعلى تقدير أن لا يثبت هذا الحديث في الأمر بالقضاء فلا يتعين ترك القضاء، لأن من لم يدرك اليوم بكماله لا يلزمه القضاء كمن بلغ أو أسلم في أثناء النهار. واحتج الجمهور لاشتراط النية في الصوم من الليل بما أخرجه أصحاب السنن من حديث عبد الله بن عمر عن أخته حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له " لفظ النسائي، ولأبي داود والترمذي " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " واختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي والنسائي الموقوف بعد أن أطنب النسائي في تخريج طرقه، وحكى الترمذي في " العلل " عن البخاري ترجيح وقفه. وعمل بظاهر الإسناد جماعة من الأئمة فصححوا الحديث المذكور، منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن حزم، وروى له الدار قطني طريقا آخر وقال رجالها ثقات، وأبعد من خصه من الحنفية بصيام القضاء والنذر، وأبعد من ذلك تفرقة الطحاوي بين صوم الفرض إذا كان في يوم بعينه كعاشوراء فتجزئ النية في النهار، أو لا في يوم بعينه كرمضان فلا يجزئ إلا بنية من الليل، وبين صوم التطوع فيجزئ في الليل وفي النهار. وقد تعقبه إمام الحرمين بأنه كلام غث لا أصل له. وقال ابن قدامة: تعتبر النية في رمضان لكل يوم في قول الجمهور، وعن أحمد أنه يجزئه نية واحدة لجميع الشهر؛ وهو كقول مالك وإسحاق. وقال زفر يصح صوم رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نية وبه قال عطاء ومجاهد، واحتج زفر بأنه لا يصح فيه غير صوم رمضان لتعينه فلا يفتقر إلى نية لأن الزمن معيار له فلا يتصور في يوم واحد إلا صوم واحد. وقال أبو بكر الرازي: يلزم قائل هذا أن يصحح صوم المغمى عليه في رمضان إذا لم يأكل ولم يشرب لوجود الإمساك بغير نية، قال: فإن التزمه كان مستشنعا. وقال غيره: يلزمه أن من أخر الصلاة حتى لم يبق من وقتها إلا قدرها فصلى حينئذ تطوعا أنه يجزئه عن الفرض. واستدل ابن حزم بحديث سلمة على أن من ثبت له هلال رمضان بالنهار جاز له استدراك النية حينئذ ويجزئه وبناه على أن عاشوراء كان فرضا أولا، وقد أمروا أن يمسكوا في أثناء النهار. قال: وحكم الفرض لا يتغير، ولا يخفى ما يرد عليه مما قدمناه، وألحق بذلك من نسى أن ينوي من الليل لاستواء حكم الجاهل والناسي. |
08-21-2013, 04:32 PM | #533 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبًا الشرح:
قوله: (باب الصائم يصبح جنبا) أي هل يصح صومه أو لا؟ وهل يفرق بين العامد والناسي أو بين الفرض والتطوع؟ وفي كل ذلك خلاف للسلف، والجمهور على الجواز مطلقا، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ المُغِيرَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَأَبِي حِينَ دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ ح و حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ أَنَّ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ وَقَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَكَانَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ هُنَالِكَ أَرْضٌ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا وَلَوْلَا مَرْوَانُ أَقْسَمَ عَلَيَّ فِيهِ لَمْ أَذْكُرْهُ لَكَ فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ كَذَلِكَ حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَهُنَّ أَعْلَمُ وَقَالَ هَمَّامٌ وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ وَالْأَوَّلُ أَسْنَدُ الشرح: قوله: (كنت أنا وأبي حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة) كذا أورده البخاري من رواية مالك مختصرا، وعقبه بطريق الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن فأوهم أن سياقهما واحد، لكنه ساق لفظ مالك بعد بابين وليس فيه ذكر مروان ولا قصة أبي هريرة، نعم قد أخرجه مالك في " الموطأ " عن سمي مطولا، ولمالك فيه شيخ آخر أخرجه في الموطأ عن عبد ربه بن سعيد عن أبي بكر بن عبد الرحمن مختصرا، وأخرجه مسلم من هذا الوجه أيضا، وأخرجه مسلم أيضا من رواية ابن جريج عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه أتم منه، وله طرق أخرى كثيرة أطنب النسائي في تخريجها وفي بيان اختلاف نقلتها، وسأذكر محصل فوائدها إن شاء الله تعالى. قوله في رواية شعيب (أن أباه عبد الرحمن أخبر مروان) أي ابن الحكم، وإخبار عبد الرحمن بما ذكر لمروان كان بعد أن أرسله مروان إلى عائشة وأم سلمة، بين ذلك في " الموطأ " وهو عند مسلم أيضا من طريقه ولفظه " كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم، فقال مروان: أقسمت عليك يا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة فلتسألنهما عن ذلك. قال أبو بكر: فذهب عبد الرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة " فساق القصة. وبين النسائي في رواية له أن عبد الرحمن بن الحارث إنما سمعه من ذكوان مولى عائشة عنها ومن نافع مولى أم سلمة عنها، فأخرج من طريق عبد ربه بن سعيد عن أبي الحديث عياض عن عبد الرحمن بن الحارث قال " أرسلني مروان إلى عائشة، فأتيتها فلقيت غلامها ذكوان فأرسلته إليها، فسألها عن ذلك فقالت " فذكر الحديث مرفوعا قال " فأتيت مروان فحدثته بذلك فأرسلني إلى أم سلمة، فأتيتها فلقيت غلامها نافعا فأرسلته إليها فسألها عن ذلك " فذكر مثله. وفي إسناده نظر، لأن أبا عياض مجهول، فإن كان محفوظا فيجمع بأن كلا من الغلامين كان واسطة بين عبد الرحمن وبين كل منهما في السؤال كما في هذه الرواية، وسمع عبد الرحمن وابنه أبو بكر كلاهما من وراء الحجاب كما في رواية المصنف وغيره، وسأذكره من رواية أبي حازم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه عند النسائي ففيه " أن عبد الرحمن جاء إلى عائشة فسلم على الباب فقالت عائشة: يا عبد الرحمن " الحديث. قوله: (كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم) في رواية مالك المشار إليها " كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام " وفي رواية يونس عن ابن شهاب عن عروة وأبي بكر بن عبد الرحمن عن عائشة " كان يدركه الفجر في رمضان جنبا من غير حلم " وستأتي بعد بابين، وللنسائي من طريق عبد الملك ابن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه عنهما " كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم " وله من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال " قال مروان لعبد الرحمن بن الحارث: اذهب إلى أم سلمة فسلها، فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا مني فيصوم ويأمرني بالصيام". قال القرطبي: في هذا فائدتان، إحداهما أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز. الثاني أن ذلك كان من جماع لا من احتلام لأنه كان لا يحتلم إذ الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه. وقال غيره: في قولها " من غير احتلام " إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لما كان للاستثناء معنى، ورد بأن الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه، وأجيب بأن الاحتلام يطلق على الإنزال وقد وقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام، وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدا يفطر، وإذا كان فاعل ذلك عمدا لا يفطر فالذي ينسى. الاغتسال أو ينام عنه أولى بذلك. قال ابن دقيق العيد: لما كان الاحتلام يأتي للمرء على غير اختياره فقد يتمسك به من يرخص لغير المتعمد الجماع، فبين في هذا الحديث أن ذلك كان من جماع لإزالة هذا الاحتمال. قوله: (وقال مروان لعبد الرحمن بن الحارث أقسم بالله) في رواية النسائي من طريق عكرمة ابن خالد عن أبي بكر بن عبد الرحمن " فقال مروان لعبد الرحمن: الق أبا هريرة فحدثه بهذا، فقال: إنه لجاري، وإنه لأكره أن أستقبله بما يكره. فقال: أعزم عليك لتلقينه " ومن طريق عمر بن أبي بكر ابن عبد الرحمن عن أبيه " فقال عبد الرحمن لمروان: غفر الله لك، إنه لي صديق، ولا أحب أن أرد عليه قوله " وبين ابن جريج في روايته عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه سبب ذلك ففيه " عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا هريرة يقول في قصصه: ومن أدركه الفجر جنبا فلا يصم. قال فذكرته لعبد الرحمن، فانطلق وانطلقت معه حتى دخلنا على مروان " فذكر القصة، أخرجه عبد الرزاق عنه ومن طريقه مسلم والنسائي وغيرهما. وفي رواية مالك عن سمي عن أبي بكر " أن أبا هريرة قال: من أصبح جنبا أفطر ذلك يوم " وللنسائي من طريق المقبري " كان أبو هريرة يفتي الناس أنه أصبح جنبا فلا يصوم ذلك اليوم " وله من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة يقول " من احتلم من الليل أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم"، ومن طريق أبي قلابة عن عبد الرحمن بن الحارث " أن أبا هريرة كان يقول: من أصبح جنبا فليفطر " فاتفقت هذه الروايات على أنه كان يفتي بذلك، وسيأتي بيان من روى ذلك عنه مرفوعا في آخر الكلام على هذا الحديث. قوله: (لتفزعن) كذا للأكثر بالفاء والزاي من الفزع وهو الخوف أي لتخيفنه بهذه القصة التي تخالف فتواه، وللكشميهني " لتقرعن " بفتح فقاف وراء مفتوحة، أي تقرع بهذه القصة سمعه، يقال قرعت بكذا سمع فلان إذا أعلمته به إعلاما صريحا. قوله: (ومروان يومئذ على المدينة) أي أمير من جهة معاوية. قوله: (فكره ذلك عبد الرحمن) قد بينا سبب كراهته، قيل ويحتمل أن يكون كره أيضا أن يخالف مروان لكونه كان أميرا واجب الطاعة في المعروف، وبين أبو حازم عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبيه سبب تشديد مروان في ذلك، فعند النسائي من هذا الوجه قال " كنت عند مروان مع عبد الرحمن، فذكروا قول أبي هريرة فقال: اذهب فاسأل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قال فذهبنا إلى عائشة فقالت: يا عبد الرحمن، أما لكم في رسول الله أسوة حسنة " فذكرت الحديث " ثم أتينا أم سلمة كذلك، ثم أتينا مروان فاشتد عليه اختلافهم تخوفا أن يكون أبو هريرة يحدث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مروان لعبد الرحمن: عزمت عليك لما أتيته فحدثته". قوله: (ثم قدر لنا أن نجتمع بذي الحليفة) أي المكان المعروف وهو ميقات أهل المدينة، وقوله (وكان لأبي هريرة هناك أرض) فيه رفع توهم من يظن أنهما اجتمعا في سفر، وظاهره أنهما اجتمعا من غير قصد، لكن في رواية مالك المذكورة " فقال مروان لعبد الرحمن: أقسمت عليك لتركبن دابتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق، فلتخبرنه. قال فركب عبد الرحمن وركبت معه " فهذا ظاهر في أنه قصد أبا هريرة لذلك، فيحمل قوله " ثم قدر لنا أن نجتمع معه " على المعنى الأعم من التقدير لا على معنى الاتفاق، ولا تخالف بين قوله " بذي الحليفة " وبين قوله " بأرضه بالعقيق " لاحتمال أن يكونا قصداه إلى العقيق فلم يجداه ثم وجداه بذي الحليفة وكان له أيضا بها أرض. ووقع في رواية معمر عن الزهري عن أبي بكر " فقال مروان عزمت عليكما لما ذهبتما إلى أبي هريرة، قال فلقينا أبا هريرة عند باب المسجد " والظاهر أن المراد بالمسجد هنا مسجد أبي هريرة بالعقيق لا المسجد النبوي جمعا بين الروايتين، أو يجمع بأنهما التقيا بالعقيق فذكر له عبد الرحمن القصة مجملة أو لم يذكرها بل شرع فيها ثم لم يتهيأ له ذكر تفصيلها وسماع جواب أبي هريرة إلا بعد أن رجعا إلى المدينة وأراد دخول المسجد النبوي. قوله: (إني ذاكر لك) في رواية الكشميهني " إني أذكر " بصيغة المضارعة. قوله: (لم أذكره لك) في رواية الكشميهني " لم أذكر ذلك " وفيه حسن الأدب مع الأكابر وتقديم الاعتذار قبل تبليغ ما يظن المبلغ أن المبلغ يكرهه. قوله: (فذكر قول عائشة وأم سلمة فقال كذلك حدثني الفضل) ظاهره أن الذي حدثه به الفضل مثل الذي ذكره له عبد الرحمن عن عائشة وأم سلمة، وليس كذلك لما قدمناه من مخالفة قول أبي هريرة لقول عائشة وأم سلمة، والسبب في هذا الإبهام أن رواية شعيب في حديث الباب لم يذكر في أولها كلام أبي هريرة كما قدمناه فلذلك أشكل أمر الإشارة بقوله كذلك. ووقع كلام أبي هريرة في رواية معمر وفي رواية ابن جريج كما قدمناه فلذلك قال في آخره " سمعت ذلك - أي القول الذي كنت أقوله - من الفضل " وفي رواية مالك عن سمي " فقال أبو هريرة لا علم لي بذلك " وفي رواية معمر عن ابن شهاب " فتلون وجه أبي هريرة ثم قال: هكذا حدثني الفضل". قوله: (وهو أعلم) أي بما روى والعهدة عليه في ذلك لا علي. ووقع في رواية النسفي عن البخاري " وهن أعلم " أي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا في رواية معمر. وفي رواية ابن جريج " فقال أبو هريرة أهما قالتاه؟ قال: هما أعلم " وهذا يرجح رواية النسفي، وللنسائي من طريق عمر بن أبي بكر ابن عبد الرحمن عن أبيه " هي - أي عائشة - أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا " وزاد ابن جريج في روايته " فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك " وكذلك وقع في رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عند النسائي أنه رجع، وروى ابن أبي شيبة من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رجع عن فتياه: من أصبح جنبا فلا صوم له، وللنسائي من طريق عكرمة بن خالد ويعلى بن عقبة وعراك بن مالك كلهم عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا هريرة أحال بذلك على الفضل بن عباس، لكن عنده من طريق عمر بن أبي بكر عن أبيه " أن أبا هريرة قال في هذه القصة إنما كان أسامة بن زيد حدثني " فيحمل على أنه كان عنده عن كل منهما. ويؤيده رواية أخرى عند النسائي من طريق أخرى عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبيه قال فيها " إنما حدثني فلان وفلان " وفي رواية مالك المذكورة " أخبر نية مخبر " والظاهر أن هذا من تصرف الرواة، منهم من أبهم الرجلين ومنهم من اقتصر على أحدهما تارة مبهما وتارة مفسرا، ومنهم من لم يذكر عن أبي هريرة أحدا، وهو عند النسائي أيضا من طريق أبي قلابة عن عبد الرحمن بن الحارث ففي آخره " فقال أبو هريرة: هكذا كنت أحسب". قوله: (وقال همام وابن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالفطر والأول أسند) أما رواية همام فوصلها أحمد وابن حبان من طريق معمر عنه بلفظ " قال صلى الله عليه وسلم: إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم حينئذ " وأما رواية ابن عبد الله بن عمر فوصلها عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن ابن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة به " وقد اختلف على الزهري في اسمه فقال عنه شعيب عنه " أخبرني عبد الله بن عمر قال لي أبو هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا " أخرجه النسائي والطبراني في " مسند الشاميين". وقال عقيل عنه " عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر به " فاختلف على الزهري هل هو عبد الله مكبرا أو عبيد الله مصغرا، وأما قول المصنف: والأول أسند فاستشكله ابن التين قال: لأن إسناد الخبر رفعه فكأنه قال: إن الطريق الأولى أوضح رفعا، قال: لكن الشيخ أبو الحسن قال: معناه أن الأول أظهر اتصالا. قلت: والذي يظهر لي أن مراد البخاري أن الرواية الأولى أقوى إسنادا، وهي من حيث الرجحان كذلك لأن حديث عائشة وأم سلمة في ذلك جاءا عنهما من طرق كثيرة جدا بمعنى واحد حتى قال ابن عبد البر أنه صح وتواتر، وأما أبو هريرة فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتى به، وجاء عنه من طريق هذين أنه كان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك وقع في رواية معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن " سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكره، أخرجه عبد الرزاق، وللنسائي من طريق عكرمة بن خالد عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: بلغ مروان أن أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وله من طريق المقبري قال بعثت عائشة إلى أبي هريرة لأتحدث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأحمد من طريق عبد الله بن عمرو القاري " سمعت أبا هريرة يقول: ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدرك الصبح وهو جنب فلا يصم، محمد ورب الكعبة قاله " لكن بين أبو هريرة كما مضى أنه لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما سمعه بواسطة الفضل وأسامة، وكأنه كان لشدة وثوقه بخبرهما يحلف على ذلك. وأما ما أخرجه ابن عبد البر من رواية عطاء بن ميناء عن أبي هريرة أنه قال " كنت حدثتكم من أصبح جنبا فقد أفطر، وأن ذلك من كيس أبي هريرة " فلا يصح ذلك عن أبي هريرة لأنه من رواية عمر بن قيس وهو متروك. نعم قد رجع أبو هريرة عن الفتوى بذلك إما لرجحان رواية أمي المؤمنين في جواز ذلك صريحا على رواية غيرهما مع ما في رواية غيرهما من الاحتمال، إذ يمكن أن يحمل الأمر بذلك على الاستحباب في غير الفرض، وكذا النهي عن صوم ذلك اليوم، وإما لاعتقاده أن يكون خبر أمي المؤمنين ناسخا لخبر غيرهما. وقد بقي على مقالة أبي هريرة هذه بعض التابعين كما نقله الترمذي، ثم ارتفع ذلك الخلاف واستقر الإجماع على خلافه كما جزم به النووي. وأما ابن دقيق العيد فقال: صار ذلك إجماعا أو كالإجماع لكن من الآخذين بحديث أبي هريرة من فرق بين من تعمد الجنابة وبين من احتلم كما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه وكذا حكاه ابن المنذر عن طاوس أيضا. قال ابن بطال: وهو أحد قولي أبي هريرة. قلت: ولم يصح عنه، فقد أخرج ذلك ابن المنذر من طريق أبي المهزم وهو ضعيف عن أبي هريرة، ومنهم من قال: يتم صومه ذلك اليوم ويقضيه حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وسالم بن عبد الله بن عمر. قلت: وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن ذلك فقال اختلف أبو هريرة وعائشة فأرى أن يتم صومه ويقضى ا ه، وكأنه لم يثبت عنده رجوع أبي هريرة عن ذلك، وليس ما ذكره صريحا في إيجاب القضاء. ونقل بعض المتأخرين عن الحسن بن صالح بن حي إيجاب القضاء أيضا، والذي نقله الطحاوي عنه استحبابه، ونقل ابن عبد البر عنه وعن النخعي إيجاب القضاء في الفرض والإجزاء في التطوع، ووقع لابن بطال وابن التين والنووي والفاكهي وغير واحد في نقل هذه المذاهب مغايرات في نسبتها لقائلها والمعتمد ما حررته. ونقل الماوردي أن هذا الاختلاف كله إنما هو في حق الجنب، وأما المحتلم فأجمعوا على أنه يجزئه، وهذا النقل معترض بما رواه النسائي بإسناد صحيح عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أنه احتلم ليلا في رمضان فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر ثم نام قبل أن يغتسل فلم يستيقظ حتى أصبح قال فاستفتيت أبا هريرة فقال أفطر، وله من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه سمع أبا هريرة يقول: من احتلم من الليل أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل فلا يصم، وهذا صريح في عدم التفرقة. وحمل القائلون بفساد صيام الجنب حديث عائشة على أنه من الخصائص النبوية، أشار إلى ذلك الطحاوي بقوله: وقال آخرون يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرت عائشة وحكم الناس على ما حكى أبو هريرة. وأجاب الجمهور بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، وبأنه قد ورد صريحا ما يدل على عدمها، وترجم بذلك ابن حبان في صحيحة حيث قال " ذكر البيان بأن هذا الفعل لم يكن المصطفى مخصوصا به " ثم أورد ما أخرجه هو ومسلم والنسائي وابن خزيمة وغيرهم من طريق أبي يونس مولى عائشة عن عائشة " أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله تدركني الصلاة - أي صلاة الصبح - وأنا جنب، أفأصوم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى " وذكر ابن خزيمة أن بعض العلماء توهم أن أبا هريرة غلط في هذا الحديث ثم رد عليه بأنه لم يغلط بل أحال على رواية صادق، إلا أن الخبر منسوخ، لأن الله تعالى عند ابتداء فرض الصيام كان منع في ليل الصوم من الأكل والشرب والجماع بعد النوم قال فيحتمل أن يكون خبر الفضل كان حينئذ ثم أباح الله ذلك كله إلى طلوع الفجر فكان للمجامع أن يستمر إلى طلوعه فيلزم أن يقع اغتساله بعد طلوع الفجر، فدل على أن حديث عائشة ناسخ لحديث الفضل ولم يبلغ الفضل ولا أبا هريرة الناسخ فاستمر أبو هريرة على الفتيا به، ثم رجع عنه بعد ذلك لما بلغه. قلت: ويقويه أن في حديث عائشة هذا الأخير ما يشعر بأن ذلك كان بعد الحديبية لقوله فيها " قد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر " وأشار إلى آية الفتح وهي إنما نزلت عام الحديبية سنة ست، وابتداء فرض الصيام كان في السنة الثانية، وإلى دعوى النسخ فيه ذهب ابن المنذر والخطابي وغير واحد، وقرره ابن دقيق العيد بأن قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) يقتضي إباحة الوطء في ليلة الصوم، ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ولا يفسد صومه فإن إباحة التسبب للشيء إباحة لذلك الشيء. قلت: وهذا أولى من سلوك الترجيح بين الخبرين كما تقدم من قول البخاري والأول أسند " وكذا قال بعضهم: إن حديث عائشة أرجح لموافقة أم سلمة لها على ذلك، ورواية اثنين تقدم على رواية واحد، ولا سيما وهما زوجتان وهما أعلم بذلك من الرجال، ولأن روايتهما توافق المنقول وهو ما تقدم من مدلول الآية، والمعقول وهو أن الغسل شيء وجب بالإنزال، وليس في فعله شيء يحرم على صائم، فقد يحتلم بالنهار فيجب عليه الغسل ولا يحرم عليه بل يتم صومه إجماعا، فكذلك إذا احتلم ليلا بل هو من باب الأولى، وإنما يمنع الصائم من تعمد الجماع نهارا. وهو شبيه بمن يمنع من التطيب وهو محرم لكن لو تطيب وهو حلال ثم أحرم فبقي عليه لونه أو ريحه لم يحرم عليه. وجمع بعضهم بين الحدثين. أن الأمر في حديث أبي هريرة أمر إرشاد إلى الأفضل، فإن الأفضل أن يغتسل قبل الفجر فلو خالف جاز، ويحمل حديث عائشة على بيان الجواز ونقل النووي هذا عن أصحاب الشافعي، وفيه نظر، فإن الذي نقله البيهقي وغيره عن نص الشافعي سلوك الترجيح وعن ابن المنذر وغيره سلوك النسخ، ويعكر على حمله على الإرشاد التصريح في كثير من طرق حديث أبي هريرة بالأمر بالفطر وبالنهي الصيام فكيف يصح الحمل المذكور إذا وقع ذلك في رمضان؟ وقيل هو محمول على من أدركه مجامعا فاستدام بعد طلوعه عالما بذلك، ويعكر عليه ما رواه النسائي من طريق أبي حازم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه " أن أبا هريرة كان يقول: من احتلم وعلم باحتلامه ولم يغتسل حتى أصبح فلا يصوم " وحكى ابن التين عن بعضهم أنه سقط " لا " من حديث الفضل، وكان في الأصل " من أصبح جنبا في رمضان فلا يفطر " فلما سقط " لا " صار " فليفطر " وهذا بعيد بل باطل، لأنه يستلزم عدم الوثوق بكثير من الأحاديث وأنها يطرقها مثل هذا الاحتمال، وكأن قائله ما وقف على شيء من طرق هذا الحديث إلا على اللفظ المذكور. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم دخول العلماء على الأمراء ومذاكرتهم إياهم بالعلم. وفيه فضيلة لمروان ابن الحكم لما يدل عليه الحديث من اهتمامه بالعلم ومسائل الدين. وفيه الاستثبات في النقل والرجوع في المعاني إلى الأعلم، فإن الشيء إذا نوزع فيه رد إلى من عنده علمه، وترجيح مروي النساء فيما لهن عليه الاطلاع دون الرجال على مروي الرجال كعكسه، وأن المباشر للأمر أعلم به من المخبر عنه، والائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله ما لم يقم دليل الخصوصية، وأن للمفضول إذا سمع من الأفضل خلاف ما عنده من العلم أن يبحث عنه حتى يقف على وجهه، وأن الحجة عند الاختلاف في المصير إلى الكتاب والسنة. وفيه الحجة بخبر الواحد وأن المرأة فيه كالرجل. وفيه فضيلة لأبي هريرة لاعترافه بالحق ورجوعه إليه. وفيه استعمال السلف من الصحابة والتابعين الإرسال عن العدول من غير نكير بينهم لأن أبا هريرة اعترف بأنه لم يسمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه كان يمكنه أن يرويه عنه بلا واسطة وإنما بينها لما وقع من الاختلاف. وفيه الأدب مع العلماء، والمبادرة لامتثال أمر ذي الأمر إذا كان طاعة، ولو كان فيه مشقة على المأمور. (تكميل) : في معنى الجنب الحائض والنفساء إذا انقطع دمها ليلا ثم طلع الفجر قبل اغتسالها، قال النووي في شرح مسلم: مذهب العلماء كافة صحة صومها إلا ما حكي عن بعض السلف مما لا يعلم صح عنه أو لا، وكأنه أشار بذلك إلى ما حكاه في شرح المهذب عن الأوزاعي، لكن حكاه ابن عبد البر عن الحسن بن صالح أيضا، وحكى ابن دقيق العيد أن في المسألة في مذهب مالك قولين، وحكاه القرطبي عن محمد بن مسلمة من أصحابهم ووصف قوله بالشذوذ، وحكى ابن عبد البر عن عبد الملك بن الماجشون أنها إذا أخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر لأنها في بعضه غير طاهرة، قال: وليس كالذي يصبح جنبا لأن الاحتلام لا ينقض الصوم والحيض ينقضه. *3*باب الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فَرْجُهَا الشرح: قوله: (باب المباشرة للصائم) أي بيان حكمها وأصل المباشرة التقاء البشرتين ويستعمل في الجماع سواء أولج أو لم يولج. وليس الجماع مرادا بهذه الترجمة. قوله: (وقالت عائشة رضي الله عنه يحرم عليه فرجها) وصله الطحاوي من طريق أبي مرة مولى عقيل عن حكيم بن عقال قال " سألت عائشة ما يحرم على من امرأتي وأنا صائم؟ قالت فرجها " إسناده إلى حكيم صحيح، ويؤدي معناه أيضا ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن مسروق " سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته صائما؟ قالت كل شيء إلا الجماع". الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ وَقَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَآرِبُ حَاجَةٌ قَالَ طَاوُسٌ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ الْأَحْمَقُ لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ الشرح: قوله: (حدثنا سليمان بن حرب عن شعبة) كذا للأكثر، ووقع للكشميهني عن سعيد بمهملة وآخره دال، وهو غلط فاحش فليس في شيوخ سليمان بن حرب أحد اسمه سعيد حدثه عن الحكم، الحكم المذكور هو ابن عتيبة، وإبراهيم هو النخعي. وقد وقع عند الإسماعيلي عن يوسف القاضي عن سليمان بن حرب عن شعبة على الصواب، لكن وقع عنده عن إبراهيم " أن علقمة وشريح بن أرطاة رجلان من النخع كانا عند عائشة، فقال أحدهما لصاحبه سلها عن القبلة للصائم، قال: ما كنت لأرفث عند أم المؤمنين. فقالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه " قال الإسماعيلي: رواه غندر وابن أبي عدي وغير واحد عن شعبة فقالوا " عن علقمة " وحدث به البخاري عن سليمان بن حرب عن شعبة فقال " عن الأسود " وفيه نظر، وصرح أبو إسحاق بن حمزة فيما ذكره أبو نعيم في " المستخرج " عنه بأنه خطأ. قلت: وليس ذلك من البخاري، فقد أخرجه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله بن معبد عن سليمان بن حرب كما قال البخاري، وكأن سليمان بن حرب حدث به على الوجهين، فإن كان حفظه عن شعبة فلعل شعبة حدث به على الوجهين، وإلا فأكثر أصحاب شعبة لم يقولوا فيه من هذا الوجه عن الأسود، وإنما اختلفوا: فمنهم من قال كرواية يوسف المتقدمة وصورتها الإرسال، وكذا أخرجه النسائي بطريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة. ومنهم من قال عن إبراهيم عن علقمة وشريح، وقد ترجم النسائي في سننه الاختلاف فيه على إبراهيم، والاختلاف على الحكم وعلى الأعمش وعلى منصور وعلى عبد الله ابن عون كلهم عن إبراهيم، وأورده من طريق إسرائيل عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال " خرج نفر من النخع فيهم رجل يدعى شريحا فحدث أن عائشة قالت " فذكر الحديث، قال فقال له رجل: لقد هممت أن أضرب رأسك بالقوس، فقال قولوا له فليكف عني حتى نأتي أم المؤمنين؛ فلما أتوها " قالوا لعلقمة: سلها، فقال: ما كنت لأرفث عندها اليوم، فسمعته فقالت " فذكر الحديث، ثم ساقه من طريق عبيدة عن منصور فجعل شريحا هو المنكر وأبهم الذي حدث بذلك عن عائشة، ثم استوعب النسائي طرقه، وعرف منها أن الحديث كان عند إبراهيم عن علقمة والأسود ومسروق جميعا فلعله كان يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وتارة يجمع وتارة يفرق، وقد قال الدار قطني بعد ذكر الاختلاف فيه على إبراهيم: كلها صحاح وعرف من طريق إسرائيل سبب تحديث عائشة بذلك واستدراكها على من حدث عنها به على الإطلاق بقولها " ولكنه كان أملككم لإربه " فأشارت بذلك إلى أن الإباحة لمن يكون مالكا لنفسه دون من لا يأمن من الوقوع فيما يحرم. وفي رواية حماد عند النسائي " قال الأسود قلت لعائشة أيباشر الصائم؟ قالت: لا. قلت أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه " وظاهر هذا أنها اعتقدت خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قاله القرطبي. قال: وهو اجتهاد منها. وقول أم سلمة - يعني الآتي ذكره - أولى أن يؤخذ به لأنه نص في الواقعة. قلت: قد ثبت عن عائشة صريحا إباحة ذلك كما تقدم، فيجمع بين هذا وبين قولها المتقدم أنه " يحل له كل شيء إلا الجمع " بحمل النهي هنا على كراهة التنزيه فإنها لا تنافي الإباحة. وقد رويناه في كتاب الصيام ليوسف القاضي من طريق حماد بن سلمة عن حماد بلفظ " سألت عائشة عن المباشرة للصائم فكرهتها، وكأن هذا هو السر في تصدير البخاري بالأثر الأول عنها لأنه يفسر مرادها بالنفي المذكور في طريق حماد وغيره والله أعلم. ويدل على أنها لا ترى بتحريمها ولا بكونها من الخصائص ما رواه مالك في " الموطأ " عن أبي النضر " أن عائشة بنت طلحة أخبرته أنها كانت عند عائشة فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي بكر فقالت له عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها وتقبلها؟ قال أقبلها وأنا صائم؟ قالت نعم " قوله: (كان يقبل ويباشر وهو صائم) التقبيل أخص من المباشرة، فهو من ذكر العام بعد الخاص، وقد رواه عمرو بن ميمون عن عائشة بلفظ " كان يقبل في شهر الصوم " أخرجه مسلم والنسائي. وفي رواية لمسلم " يقيل في رمضان وهو صائم " فأشارت بذلك إلى عدم التفرقة بين صوم الفرض والنفل. وقد اختلف في القبلة والمباشرة للصائم: فكرهها قوم وهو مطلقا وهو مشهور عند المالكية، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر " أنه كان يكره القبلة والمباشرة " ونقل ابن المنذر وغيره عن قوم تحريمها، واحتجوا بقوله تعالى (فالآن باشروهن) الآية. فمنع المباشرة في هذه الآية نهارا، والجواب عن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم، هو المبين عن الله تعالى، وقد أباح المباشرة نهارا فدل على أن المراد بالمباشرة في الآية الجماع لا ما دونه من قبلة ونحوها، والله أعلم. وممن أفتى بإفطار من قبل وهو صائم عبد الله بن شبرمة أحد فقهاء الكوفة، ونقله الطحاوي عن قوم لم يسمهم وألزم ابن حزم أهل القياس أن يلحقوا الصيام بالحج في المباشرة ومقدمات النكاح للاتفاق على إبطالهما بالجماع، وأباح القبلة قوم مطلقا وهو المنقول صحيحا عن أبي هريرة وبه قال سعيد وسعد بن أبي وقاص وطائفة، بل بالغ بعض أهل الظاهر فاستحبها، وفرق آخرون بين الشاب والشيخ فكرهها للشاب وأباحها للشيخ وهو مشهور عن ابن عباس أخرجه مالك وسعيد بن منصور وغيرهما، وجاء فيه حديثان مرفوعان فيهما ضعف أخرج أحدها أبو داود من حديث أبي هريرة والآخر أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وفرق آخرون بين من يملك نفسه ومن لا يملك كما أشارت إليه عائشة وكما تقدم ذلك في مباشرة الحائض في كتاب الحيض. وقال الترمذي: ورأى بعض أهل العلم أن للصائم إذا ملك نفسه أن يقبل وإلا فلا؛ ليسلم له صومه، وهو قول سفيان الشافعي، ويدل على ذلك ما رواه مسلم من طريق عمر بن أبي سلمة وهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم أنه " سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيقبل الصائم؟ فقال: سل هذه - لأم سلمة - فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك. فقال: يا رسول الله قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له " فدل ذلك على أن الشاب والشيخ سواء، لأن عمر حينئذ كان شابا، ولعله كان أول ما بلغ وفيه دلالة على أنه ليس من الخصائص، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار " عن رجل من الأنصار أنه قبل امرأته وهو صائم، فأمر امرأته أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فسألته فقال إني أفعل ذلك، فقال زوجها: يرخص الله لنبيه فيما يشاء. فرجعت فقال: أنا أعلمكم بحدود الله وأتقاكم " وأخرجه مالك، لكنه أرسله قال " عن عطاء أن رجلا " فذكر نحوه مطولا. واختلف فيما إذا باشر أو قبل أو نظر فأنزل أو أمذى، فقال الكوفيون والشافعي: يقضي إذا أنزل في غير النظر، ولا قضاء في الإمذاء. وقال مالك وإسحاق: يقضي في كل ذلك ويكفر، إلا في الإمذاء فيقضي فقط. واحتج له بأن الإنزال أقصى ما يطلب بالجماع من الالتذاذ في كل ذلك. وتعقب بأن الأحكام علقت بالجماع ولو لم يكن إنزال فافترقا. وروى عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك وجوب القضاء فيمن باشر أو قبل فأنعظ ولم يمذ ولا أنزل، وأنكره غيره عن مالك. وأبلغ من ذلك ما روى عبد الرزاق عن حذيفة " من تأمل خلق امرأته وهو صائم بطل صومه " لكن إسناده ضعيف. وقال ابن قدامة: إن قبل فأنزل أفطر بلا خلاف. كذا قال وفيه نظر، فقد حكى ابن حزم أنه لا يفطر ولو أنزل، وقوى ذلك وذهب إليه. وسأذكر في الباب الذي يليه زيادة في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. قوله: (لأربه) بفتح الهمزة والراء وبالموحدة أي حاجته، ويروي بكسر الهمزة وسكون الراء أي عضوه، والأول أشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري بما أورده من التفسير. قوله: (وقال ابن عباس. مأرب حاجة) مأرب بسكون الهمزة وفتح الراء، وهذا وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (ولي فيها مآرب أخرى) قال: حاجة أخرى، كذا فيه، وهو تفسير الجمع بالواحد، فلعله كان فيها حاجات أو حوائج فقد أخرجه أيضا من طريق عكرمة عنه بلفظ " مآرب أخرى " قال " حوائج أخرى". قوله: (وقال طاوس (غير أولي الإربة) الأحمق لا حاجة له في النساء) وصله عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله: (غير أولى الإربة) قال: هو الأحمق الذي ليس له في النساء حاجة. وقد وقع لنا هذا الأثر بعلو في " جزء محمد بن يحيى الذهلي"؛ المروي من طريق السلفي، وقد تقدم في الحيض بيان الاختلاف في قوله " لأربه " ورأيت بخط مغلطاي في شرحه هنا قال: وقال ابن عباس - أي في تفسير أولى الإربة - المقعد. وقال ابن جبير المعتوه. وقال عكرمة العنين، ولم أر ذلك في شيء من نسخ البخاري. وإنما أوقعه في ذلك أن القطب لما أخرج أثر طاوس قال بعده " وعن ابن عباس المعقد الخ " ولم يرد القطب أن البخاري ذكر ذلك، وإنما أورده القطب من قبل نفسه من كلام أهل التفسير. قوله: (وقال جابر بن زيد: إن نظر فأمنى يتم صومه) وصله ابن أبي شيبة من طريق عمر بن هرم " سئل جابر بن زيد عن رجل نظر إلى امرأته في رمضان فأمنى من شهوتها هل يفطر؟ قال: لا، ويتم صومه " وقد تقدم نقل الخلاف فيه قريبا. (تنبيه) : وقع هذا الأثر في رواية أبي ذر وحده هنا، ووقع في رواية الباقين في أول الباب الذي بعده، وذكره ابن بطال في البابين معا، ومناسبته للبابين من جهة التفرقة بين من يقع منه الإنزال باختياره بين من يقع منه بغير اختياره كما سيأتي بسط القول فيه إن شاء الله تعالى. |
08-21-2013, 04:35 PM | #534 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ إِنْ نَظَرَ فَأَمْنَى يُتِمُّ صَوْمَهُ
الشرح: قوله، (باب القبلة للصائم) أي بيان حكمها. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ ضَحِكَتْ الشرح: قوله، (حدثني يحيى) هو القطان، وهشام هو ابن عروة، وقد أحال المصنف بالمتن على طريق مالك عن هشام وليس بين لفظهما مخالفة، فقد أخرجه النسائي من طريق يحيى القطان بلفظ " قال إني لم أر القبلة بعض أزواجه وهو صائم " وزاد الإسماعيلي من طريق عمرو بن علي بن يحيى قال هشام " قال إني لم أر القبلة تدعو إلى خير"، ورواه سعيد بن منصور عن يعقوب بن عبد الرحمن عن هشام بلفظ " كان يقبل بعض أزواجه وهو صائم ثم ضحكت"، فقال عروة لم أر القبلة تدعو إلى خير، وكذا ذكره مالك في " الموطأ " عن هشام عقب الحديث، لكن لم يقل فيه ثم ضحكت. وقوله ثم ضحكت يحتمل ضحكها التعجب ممن خالف في هذا، وقيل تعجبت من نفسها إذ تحدث بمثل هذا مما يستحيي من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتها الضرورة في تبليغ العلم إلى ذكر ذلك، وقد يكون الضحك خجلا لإخبارها عن نفسها بذلك، أو تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون أبلغ في الثقة بها، أو سرورا بمكانها من النبي صلى الله عليه وسلم وبمنزلتها منه ومحبته لها. وقد روى ابن أبي شيبة عن شريك عن هشام في هذا الحديث " فضحكت، فظننا أنها هي " وروى النسائي من طريق طلحة بن عبد الله التيمي عن عائشة قالت " أهوى إلي النبي صلى الله عليه وسلم ليقبلني فقلت إني صائمة، فقال وأنا صائم، فقبلني " وهذا يؤيد ما قدمناه أن النظر في ذلك لمن لا يتأثر بالمباشرة والتقبيل، لا للتفرقة بين الشاب والشيخ، لأن عائشة كانت شابة، نعم لما كان الشاب مظنة لهيجان الشهوة فرق من فرق. وقال المازري: ينبغي أن يعتبر حال المقبل فإن أثارت منه القبلة الإنزال حرمت عليه لأن الإنزال يمنع منه الصائم فكذلك ما أدى إليه، وإن كان عنها المذي فمن رأى القضاء منه قال يحرم في حقه، ومن رأى أن لا قضاء قال يكره، وإن لم تؤد القبلة إلى شيء فلا معنى للمنع منها إلا على القول بسد الذريعة. قال: ومن بديع ما روي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للسائل عنها " أرأيت لو تمضمضت " فأشار إلى فقه بديع، وذلك أن المضمضة لا تنقض الصوم وهي أول الشرب ومفتاحه، كما أن القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه، والشرب يفسد الصوم كما يفسده الجماع، وكما ثبت عندهم أن أوائل الشرب لا يفسد الصيام فكذلك أوائل الجماع ا ه. والحديث الذي أشار إليه أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عمر، قال النسائي منكر، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقد سبق الكلام على حديث أم سلمة في كتاب الحيض، والغرض منه هنا قولها " وكان يقبلها وهو صائم " وقد ذكرنا شاهده من رواية عمر بن أبي سلمة في الباب الذي قبله. وقال النووي: القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته لكن الأولى له تركها، وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح وقيل مكروهة، وروى ابن وهب عن مالك إباحتها في النفل دون الفرض. قال النووي: ولا خلاف أنها لا تبطل الصوم إلا إن أنزل بها. (تنبيه) : روى أبو داود وحده من طريق مصدع بن يحيى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ويمص لسانها وإسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على من لم يبتلع ريقه الذي خالط ريقها، والله أعلم. *3*باب اغْتِسَالِ الصَّائِمِ وَبَلَّ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ثَوْبًا فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ وَهُوَ صَائِمٌ وَدَخَلَ الشَّعْبِيُّ الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ الْقِدْرَ أَوْ الشَّيْءَ وَقَالَ الْحَسَنُ لَا بَأْسَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالتَّبَرُّدِ لِلصَّائِمِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلْيُصْبِحْ دَهِينًا مُتَرَجِّلًا وَقَالَ أَنَسٌ إِنَّ لِي أَبْزَنَ أَتَقَحَّمُ فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَاكَ وَهُوَ صَائِمٌ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ وَلَا يَبْلَعُ رِيقَهُ وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ ازْدَرَدَ رِيقَهُ لَا أَقُولُ يُفْطِرُ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ قِيلَ لَهُ طَعْمٌ قَالَ وَالْمَاءُ لَهُ طَعْمٌ وَأَنْتَ تُمَضْمِضُ بِهِ وَلَمْ يَرَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ بَأْسًا الشرح: قوله: (باب اغتسال الصائم) أي بيان جوازه. قال الزين بن المنير: أطلق الاغتسال ليشمل الأغسال المسنونة والواجبة والمباحة، وكأنه يشير إلى ضعف ما روى عن علي من النهي عن دخول الصائم الحمام أخرجه عبد الرزاق وفي إسناده ضعف، واعتمده الحنفية فكرهوا الاغتسال للصائم. قوله: (وبل ابن عمر ثوبا فألقى عليه وهو صائم) في رواية الكشميهني " فألقاه " وهذا وصله المصنف في التاريخ وابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي عثمان أنه رأى ابن عمر يفعل ذلك، ومناسبته للترجمة من جهة أن بلل الثوب إذا طالت إقامته على الجسد حتى جف ينزل ذلك منزلة الدلك بالماء، وأراد البخاري بأثر ابن عمر هذا معارضة ما جاء عن إبراهيم النخعي بأقوى منه، فإن وكيعا روي عن الحسن بن صالح عن مغيرة عنه أنه كان يكره للصائم بل الثياب. قوله: (ودخل الشعبي الحمام وهو صائم) وصله ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق قال: رأيت الشعبي يدخل الحمام وهو صائم، ومناسبته للترجمة ظاهرة. قوله: (وقال ابن عباس لا بأس أن يتطعم القدر) بكسر القاف أي طعام القدر أو الشيء، وصله ابن أبي شيبة من طريق عكرمة عنه بلفظ " لا بأس أن يتطاعم القدر " ورويناه في " الجعديات " من هذا الوجه بلفظ " لا بأس أن يتطاعم الصائم بالشيء " يعني المرقة ونحوها. ومناسبته للترجمة من طريق الفحوى، لأنه إذا لم يناف الصوم إدخال الطعام في الفم وتطعمه وتقريبه من الازدراد لم ينافه إيصاله الماء إلى بشرة الجسد من باب الأولى. قوله: (وقال الحسن: لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم) وصله عبد الرزاق بمعناه، ووقع بعضه في حديث مرفوع أخرجه مالك وأبو داود من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه - وهو صائم - من العطش أو من الحر " ومناسبته للترجمة ظاهرة، وسيأتي الكلام على ما يتعلق بالمضمضة في الباب الذي بعده. قوله: (وقال ابن مسعود إذا كان يوم صوم أحدكم فليصبح دهينا مترجلا) قال الزين بن المنير: مناسبته للترجمة من جهة أن الإدهان من الليل يقتضي استصحاب أثره في النار، وهو مما يرطب الدماغ ويقوي النفس فهو أبلغ من الاستعانة ببرد الاغتسال لحظة من النهار ثم يذهب أثره. قلت: وله مناسبة أخرى، وذلك أن المانع من الاغتسال لعله سلك به مسلك استحباب التقشف في الصيام كما ورد مثله في الحج، والإدهان والترجل في مخالفة التقشف كالاغتسال. وقال ابن المنير الكبير: أراد البخاري الرد على من كره الاغتسال للصائم لأنه إن كرهه خشية وصول الماء حلقه فالعلة باطلة بالمضمضة والسواك وبذوق القدر ونحو ذلك، وإن كرهه للرفاهية فقد استحب السلف للصائم الترفه والتجمل بالترجل والإدهان والكحل ونحو ذلك فلذلك ساق هذه الآثار في هذه الترجمة. قوله: (وقال أنس: إن لي أبزن أتقحم فيه وأنا صائم) الأبزن بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الزاي بعدها نون: حجر منقور شبه الحوض، وهي كلمة فارسية ولذلك لم يصرفه. وأتقحم فيه أي أدخل. وهذا الأثر وصله قاسم بن ثابت في " غريب الحديث " له من طريق عيسى بن طهمان سمعت أنس بن مالك يقول " إن لي أبزن إذا وجدت الحر تقحمت فيه وأنا صائم " وكأن الأبزن كان ملآن ماء فكان أنس إذا وجد الحر دخل فيه يتبرد بذلك. قوله: (وقال ابن عمر: يستاك أول النهار وآخره) وصله ابن أبي شيبة عنه بمعناه ولفظه " كان ابن عمر يستاك إذا أراد أن يروح إلى الظهر وهو صائم " ومناسبته للترجمة قريبة مما تقدم في أثر ابن عباس في تطعم القدر. ووقع في نسخة الصغاني بعد قوله وآخره " ولا يبلع ريقه". قوله: (وقال ابن سيرين: لا بأس بالسواك الرطب، قيل له طعم. قال: والماء له طعم وأنت تمضمض به) وصله ابن أبي شيبة من طريق أبي حمزة المازني قال " أتى ابن سيرين رجل فقال: ما ترى في السواك للصائم؟ قال لا بأس به. قال: إنه جريد وله طعم " قال فذكر مثله. قوله: (ولم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل للصائم بأسا) أما أنس فروى أبو داود في السنن من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس أنه كان يكتحل وهو صائم، ورواه الترمذي من طريق أبي عاتكة عن أنس مرفوعا وضعفه، وأما الحسن فوصله عبد الرزاق بإسناد صحيح عنه قال " لا بأس بالكحل للصائم". وأما إبراهيم فاختلف عنه: فروى سعيد بن منصور عن جرير عن القعقاع بن يزيد " سألت إبراهيم أيكتحل الصائم؟ قال نعم. قلت أجد طعم الصبر في حلقي. قال ليس بشيء". وروى أبو داود من طريق يحيى بن عيسى عن الأعمش قال " ما رأيت أحدا من أصحابنا يكره الكحل للصائم، وكان إبراهيم يرخص أن يكتحل الصائم بالصبر " وروى ابن أبي شيبة عن حفص عن الأعمش عن إبراهيم قال " لا بأس بالكحل للصائم ما لم يجد طعمه " ثم أورد المصنف حديث عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بعد الفجر ويصوم، وأورده أيضا من حديثها وحديث أم سلمة وهو مطابق لما ترجم له، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى قبل بابين بحمد الله تعالى. *3*باب الصَّائِمِ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ اسْتَنْثَرَ فَدَخَلَ الْمَاءُ فِي حَلْقِهِ لَا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَمْلِكْ وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ دَخَلَ حَلْقَهُ الذُّبَابُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ إِنْ جَامَعَ نَاسِيًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ الشرح: قوله: (باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا) أي هل يجب عليه القضاء أو لا؟ وهي مسألة خلاف مشهورة، فذهب الجمهور إلى عدم الوجوب، وعن مالك يبطل صومه ويجب عليه القضاء. قال عياض هذا هو المشهور عنه وهو قول شيخه ربيع وجميع أصحاب مالك، لكن فرقوا بين الفرض والنفل. وقال الداودي: لعل مالكا لم يبلغه الحديث، أو أوله على رفع الإثم. قوله: (وقال عطاء: إن استنثر فدخل الماء في حلقه لا بأس إن لم يملك) أي دفع الماء بأن غلبه، فإن ملك دفع الماء فلم يدفعه حتى دخل حلقه أفطر. ووقع في رواية أبي ذر والنسفي " لا بأس، لم يملك " بإسقاط " إن " وهي على هذا جملة مستأنفة كالتعليل لقوله " لا بأس " وهذا الأثر وصله عبد الرزاق عن ابن جريج " قلت لعطاء إنسان يستنثر فدخل الماء في حلقه. قال لا بأس بذلك " قال عبد الرزاق. وقاله معمر عن قتادة. وقال ابن أبي شيبة حدثنا مخلد عن ابن أبي جريج " إن إنسانا قال لعطاء: أمضمض فيدخل الماء في حلقي. قال: لا بأس، لم يملك " وهذا يقوي رواية أبي ذر والنسفي. قوله: (وقال الحسن: إن دخل الذباب في حلقه فلا شيء عليه) وصله ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي نجيح " عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يدخل في حلقه الذباب وهو صائم قال لا يفطر " وعن وكيع عن الربيع عن الحسن قال " لا يفطر " ومناسب هذين الأثرين للترجمة من جهة أن المغلوب بدخول الماء حلقه أو الذباب لا اختيار له في ذلك كالناسي، قال ابن المنير في الحاشية: أدخل المغلوب في ترجمة الناسي لاجتماعهما في ترك العمد وسلب الاختيار. ونقل ابن المنذر الاتفاق على أن من دخل في حلقه الذباب وهو صائم أن لا شيء عليه، لكن نقل غيره عن أشهب أنه قال: أحب إلي أن يقضى؛ حكاه ابن التين. وقال الزين بن المنير: دخول الذباب أقعد بالغلبة وعدم الاختيار من دخول الماء لأن الذباب يدخل بنفسه بخلاف الاستنشاق والمضمضة فإنما تنشأ عن تسببه، وفرق إبراهيم بين من كان ذاكرا لصومه حال المضمضة فأوجب عليه القضاء دون الناسي، وعن الشعبي إن كان لصلاة فلا قضاء وإلا قضى. قوله: (وقال الحسن ومجاهد. إن جامع ناسيا فلا شيء عليه) هذان الأثران وصلهما عبد الرزاق قال " أخبرنا ابن جريج عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لو وطئ رجل امرأته وهو صائم ناسيا في رمضان لم يكن عليه فيه شيء"، " وعن الثوري عن رجل عن الحسن قال: هو بمنزلة من أكل أو شرب ناسيا " وظهر بأثر الحسن هذا مناسبة ذكر هذا الأثر للترجمة، وروي أيضا " عن ابن جريج أنه سأل عطاء عن رجل أصاب امرأته ناسيا في رمضان، قال لا ينسى، هذا كله عليه القضاء " وتابع عطاء على ذلك الأوزاعي والليث ومالك وأحمد وهو أحد الوجهين للشافعية، وفرق هؤلاء كلهم بين الأكل والجماع. وعن أحمد في المشهور عنه: تجب عليه الكفارة أيضا، وحجتهم قصور حالة المجامع ناسيا عن حالة الآكل، وألحق به بعض الشافعية من أكل كثيرا لندور نسيان ذلك، قال ابن دقيق العيد: ذهب مالك إلى إيجاب القضاء على من أكل أو شرب ناسيا وهو القياس، فإن الصوم قد فات ركنه وهو من باب المأمورات، والقاعدة أن النسيان لا يؤثر في المأمورات. قال: وعمدة من لم يوجب القضاء حديث أبي هريرة لأنه أمر بالإتمام، وسمي الذي يتم صوما، وظاهره حمله على الحقيقة الشرعية فيتمسك به حتى يدل دليل على أن المراد بالصوم هنا حقيقته اللغوية. وكأنه يشير بهذا إلى قول ابن القصار: إن معنى قوله " فليتم صومه " أي الذي كان دخل فيه وليس فيه نفي القضاء. قال وقوله " فإنما أطعمه الله وسقاه " مما يستدل به على صحة الصوم لإشعاره بأن الفعل الصادر منه مسلوب الإضافة إليه فلو كان أفطر لأضيف الحكم إليه، قال: وتعليق الحكم بالأكل والشرب للغالب لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما، وذكر الغالب لا يقتضي مفهوما، وقد اختلف فيه القائلون بأن أكل الناسي لا يوجب قضاء، واختلف القائلون بالإفساد هل يوجب مع القضاء الكفارة أو لا مع اتفاقهم على أن أكل الناسي لا يوجبها، ومدار كل ذلك على قصور حالة المجامع ناسيا عن حالة الآكل، ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه فإنما طريقه القياس والقياس مع وجود الفارق متعذر، إلا أن بين القائس أن الوصف الفارق ملغي ا ه. وأجاب بعض الشافعية بأن عدم وجوب القضاء عن المجامع مأخوذ من عموم قوله في بعض طرق الحديث " من أفطر في شهر رمضان " لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع، وإنما خص الأكل والشرب بالذكر في الطريق الأخرى لكونهما أغلب وقوعا ولعدم الاستغناء عنهما غالبا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ الشرح: قوله: (هشام) هو الدستوائي. قوله: (إذا نسى فأكل) في رواية مسلم من طريق إسماعيل عن هشام " من نسى وهو صائم فأكل " وللمصنف في النذر من طريق عوف عن ابن سيرين " من أكل ناسيا وهو صائم " ولأبي داود من طريق حبيب بن الشهيد وأيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة " جاء رجل فقال: يا رسول الله إني أكلت وشربت ناسيا وأنا صائم"، وهذا الرجل هو أبو هريرة راوي الحديث، أخرجه الدار قطني بإسناد ضعيف. قوله: (فليتم صومه) في رواية الترمذي من طريق قتادة عن ابن سيرين " فلا يفطر". قوله: (فإنما أطعمه الله وسقاه) في رواية الترمذي " فإنما هو رزق رزقه الله " وللدار قطني من طريق ابن علية عن هشام " فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه " قال ابن العربي: تمسك جميع فقهاء الأمصار بظاهر هذا الحديث، وتطلع مالك إلى المسألة من طريقها فأشرف عليه، لأن الفطر ضد الصوم والإمساك ركن الصوم فأشبه ما لو نسى ركعة من الصلاة. قال: وقد روى الدار قطني فيه " لا قضاء عليك " فتأوله علماؤنا على أن معناه لا قضاء عليك الآن وهذا تعسف، وإنما أقول ليته صح فنتبعه ونقول به، إلا على أصل مالك في أن خبر الواحد إذا جاء بخلاف القواعد لم يعمل به، فلما جاء الحديث الأول الموافق للقاعدة في رفع الإثم عملنا به، وأما الثاني فلا يوافقها فلم نعمل به. وقال القرطبي احتج به من أسقط القضاء، وأجيب بأنه لم يتعرض فيه للقضاء فيحمل على سقوط المؤاخذة، لأن المطلوب صيام يوم لا خرم فيه، لكن روى الدار قطني فيه سقوط القضاء وهو نص لا يقبل الاحتمال، لكن الشأن في صحته، فإن صح وجب الأخذ به وسقط القضاء ا ه. وأجاب بعض المالكية بحمل الحديث على صوم التطوع كما حكاه ابن التين عن ابن شعبان، وكذا قال ابن القصار، واعتل بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان فيحمل على التطوع. وقال المهلب وغيره: لم يذكر في الحديث إثباتا لقضاء فيحمل على سقوط الكفارة عنه وإثبات عذره ورفع الإثم عنه وبقاء نيته التي بيتها اه. والجواب عن ذلك كله بما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدار قطني من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمر وعن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ " من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة " فعين رمضان وصرح بإسقاط القضاء. قال الدار قطني: تفرد به محمد بن مرزوق عن الأنصاري، وتعقب بأن ابن خزيمة أخرجه أيضا عن إبراهيم ابن محمد الباهلي وبأن الحاكم أخرجه من طريق أبي حاتم الرازي كلاهما عن الأنصاري فهو المنفرد به كما قال البيهقي وهو ثقة، والمراد أنه انفرد بذكر إسقاط القضاء فقط لا بتعيين رمضان، فإن النسائي أخرج الحديث من طريق علي بن بكار عن محمد بن عمرو ولفظه " في الرجل يأكل في شهر رمضان ناسيا فقال: الله أطعمه وسقاه " وقد ورد إسقاط القضاء من وجه آخر عن أبي هريرة أخرجه الدار قطني من رواية محمد بن عيسى ابن، الطباع عن ابن علية عن هشام عن ابن سيرين ولفظه " فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه " وقال بعد تخريجه: هذا إسناد صحيح وكلهم ثقات. قلت: لكن الحديث عند مسلم وغيره من طريق ابن علية وليس فيه هذه الزيادة. وروى الدار قطني أيضا إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وأبي سعيد المقبري والوليد بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار كلهم عن أبي هريرة. وأخرج أيضا من حديث أبي سعيد رفعه " من أكل في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه " وإسناده وإن كان ضعيفا لكنه صالح للمتابعة، فأقل. درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنا فيصلح للاحتجاج به، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوة، ويعتضد أيضا بأنه قد أفتى به جماعة من الصحابة من غير مخالفة لهم منهم - كما قاله ابن المنذر وابن حزم وغيرها - علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر، ثم هو موافق لقوله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) فالنسيان ليس من كسب القلب، وموافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الأكل لا بنسيانه فكذلك الصيام، وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص فلا يقبل، ورده للحديث مع صحته بكونه خبر واحد خالف القاعدة ليس بمسلم، لأنه قاعدة مستقلة بالصيام فمن عارضه بالقياس على الصلاة أدخل قاعدة في قاعدة، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل، وفي الحديث لطف الله بعباده والتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج عنهما، وقد روى أحمد لهذا الحديث سببا فأخرج من طريق أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق أنها " كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى بقصعة من ثريد فأكلت معه، ثم تذكرت أنها كانت صائمة، فقال لها ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك " وفي هذا رد على من فرق بين قليل الأكل وكثيره. ومن المستظرفات ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار: أن إنسانا جاء إلى أبي هريرة فقال أصبحت صائما فنسيت فطعمت، قال لا بأس. قال: ثم دخلت على إنسان فنسيت وطعمت وشربت، قال. لا بأس الله أطعمك وسقاك. ثم قال: دخلت على آخر فنسيت فطعمت، فقال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام. *3*باب سِوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِلصَّائِمِ وَيُذْكَرُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لَا أُحْصِي أَوْ أَعُدُّ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَخُصَّ الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ وَقَالَ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ يَبْتَلِعُ رِيقَهُ الشرح: قوله: (باب سواك الرطب واليابس للصائم) كذا للأكثر وهو كقولهم مسجد الجامع، ووقع في رواية الكشميهني " باب السواك الرطب واليابس " وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من كره للصائم الاستياك بالسواك الرطب كالمالكية والشعبي، وقد تقدم قبل بباب قياس ابن سيرين السواك الرطب على الماء الذي يتمضمض به، ومنه تظهر النكتة في إيراد حديث عثمان في صفة الوضوء في هذا الباب فإن فيه أنه تمضمض واستنشق وقال فيه " من توضأ وضوئي هذا " ولم يفرق بين صائم ومفطر، ويتأيد ذلك بما ذكر في حديث أبي هريرة في الباب. قوله: (ويذكر عن عامر بن ربيعة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستاك وهو صائم ما لا أحصي أو أعد) وصله أحمد وأبو داود والترمذي من طريق عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر ابن ربيعة عن أبيه، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه وقال كنت لا أخرج حديث عاصم، ثم نظرت فإذا شعبة والثوري قد رويا عنه، وروى يحيى وعبد الرحمن عن الثوري عنه، وروى مالك عنه خبرا في غير الموطأ. قلت: وضعفه ابن معين والذهلي والبخاري وغير واحد، ومناسبته للترجمة إشعاره بملازمة السواك ولم يخص رطبا من يابس، وهذا على طريقة المصنف في أن المطلق يسلك به مسلك العموم، أو أن العام في الأشخاص عام في الأحوال، وقد أشار إلى ذلك بقوله في أواخر الترجمة المذكورة " ولم يخص صائما من غيره " أي ولم يخص أيضا رطبا من يابس، وهذا التقرير تظهر مناسبة جميع ما أورده في هذا الباب للترجمة، والجامع لذلك كله قوله في حديث أبي هريرة لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء، فإنه يقتضي إباحته في كل وقت وعلى كل حال، قال ابن المنير في الحاشية: أخذ البخاري شرعية السواك للصائم بالدليل الخاص، ثم انتزعه من أعم الأدلة العامة التي تناولت أحوال متناول السواك وأحوال ما يستاك به، ثم انتزع ذلك من أعم من السواك وهو المضمضة إذ هي أبلغ من السواك الرطب. قوله: (وقالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) وصله أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق عن أبيه عنها رواه عن عبد الرحمن هذا يزيد بن زريع والدراوردي وسليمان بن بلال وغير واحد، وخالفهم حماد بن سلمة فرواه عن عبد الرحمن بن أبي عتيق عن أبيه عن أبي بكر الصديق أخرجه أبو يعلى والسراج في مسنديهما عن عبد الأعلى بن حماد عن حماد بن سلمة. قال أبو يعلى في روايته قال عبد الأعلى: هذا خطأ إنما هو عن عائشة. قوله: (وقال عطاء وقتادة يبتلع ريقه) كذا للأكثر وللمستملي يبلع بغير مثناة، وللحموي يتبلع بتقديم المثناة بعدها موحدة ثم مشددة، فأما قول عطاء فوصله سعيد بن منصور وسيأتي في الباب الذي بعده، وأما أثر قتادة فوصله عبد بن حميد في التفسير عن عبد الرزاق عن معمر عنه نحوه، ومناسبته للترجمة من جهة أن أقصى ما يخشى من السواك الرطب أن يتحلل منه في الفم شيء وذلك الشيء كماء المضمضة فإذا قذفه من فيه لا يضره بعد ذلك أن يبتلع ريقه. قوله: (وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء) وصله النسائي من طريق بشر بن عمر عن مالك عن ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة بهذا اللفظ، ووقع لنا بعلو في " جزء الذهلي"، وأخرجه ابن خزيمة من طريق روح بن عبادة عن مالك بلفظ " لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء " والحديث في الصحيحين بغير هذا اللفظ من غير هذا الوجه، وقد أخرجه النسائي أيضا من طريق عبد الرحمن السراج عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ " لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع كل وضوء". قوله: (ويروى نحوه عن جابر وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم) أما حديث جابر فوصله أبو نعيم في كتاب السواك من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عنه بلفظ " مع كل صلاة سواك " وعبد الله مختلف فيه، ووصله ابن عدي من وجه آخر عن جابر بلفظ " لجعلت السواك عليهم عزيمة " وإسناده ضعيف، وأما حديث زيد بن خالد فوصله أصحاب السنن وأحمد من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عنه بلفظ " عند كل صلاة " وحكى الترمذي عن البخاري أنه سأله عن رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة ورواية محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن زيد بن خالد فقال: رواية محمد بن إبراهيم أصح، قال الترمذي: كلا الحديثين صحيح عندي. قلت: رجح البخاري طريق محمد بن إبراهيم لأمرين، أحدهما: أن فيه قصة وهي قول أبي سلمة فكان زيد بن خالد يضع السواك منه موضع القلم من أذن الكاتب فكلما قام إلى الصلاة استاك. ثانيهما: أنه توبع فأخرج الإمام أحمد من طريق يحيى بن أبي كثير حدثنا أبو سلمة عن يزيد بن خالد فذكر نحوه. (تنبيه) : وقع في رواية غير أبي ذر في سياق هذه الآثار والأحاديث تقديم وتأخير والخطب فيه يسير، ثم أورد المصنف في الباب حديث عثمان في صفة الوضوء وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الوضوء وفي أوائل الصلاة وذكرت ما يتعلق بمناسبته للترجمة قبل. |
08-21-2013, 04:38 PM | #535 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرِهِ الْمَاءَ وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ الْحَسَنُ لَا بَأْسَ بِالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَلْقِهِ وَيَكْتَحِلُ وَقَالَ عَطَاءٌ إِنْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ أَفْرَغَ مَا فِي فِيهِ مِنْ الْمَاءِ لَا يَضِيرُهُ إِنْ لَمْ يَزْدَرِدْ رِيقَهُ وَمَاذَا بَقِيَ فِي فِيهِ وَلَا يَمْضَغُ الْعِلْكَ فَإِنْ ازْدَرَدَ رِيقَ الْعِلْكِ لَا أَقُولُ إِنَّهُ يُفْطِرُ وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ فَإِنْ اسْتَنْثَرَ فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ لَا بَأْسَ لَمْ يَمْلِكْ
الشرح: قوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء) هذا الحديث بهذا اللفظ من الأصول التي لم يوصلها البخاري، وقد أخرجه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة، ورويناه في مصنف عبد الرزاق وفي نسخة همام من طريق الطبراني عن إسحاق عنه عن معمر عن همام ولفظه " إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره الماء ثم ليستنثر " وقول المصنف " ولم يميز الصائم من غيره". قاله تفقها، وهو كذلك في أصل الاستنشاق، لكن ورد تمييز الصائم من غيره في المبالغة في ذلك كما رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق عاصم بن لقيط بن صيرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما"؛ وكأن المصنف أشار بإيراد أثر الحسن عقبه إلى هذا التفصيل. قوله: (وقال الحسن لا بأس بالسعوط للصائم إن لم يصل الماء إلى حلقه) وصله ابن أبي شيبة نحوه. وقال الكوفيون والأوزاعي وإسحاق: يجب القضاء على من استعط. وقال مالك والشافعي: لا يجب إلا إن وصل الماء إلى حلقه. وقوله "ويكتحل " هو من قول الحسن أيضا وقد تقدم ذكره قبل بابين. قوله: (وقال عطاء الخ) وصله سعيد بن منصور عن ابن المبارك عن ابن جريج " قلت لعطاء الصائم يمضمض ثم يزدرد ريقه وهو صائم؟ قال: لا يضره، وماذا بقي في فيه " وكذا أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج، ووقع في أصل البخاري " وما بقي في فيه؟ " قال ابن بطال: ظاهره إباحة الازدراد لما بقي في الفم من ماء المضمضمة، وليس كذلك لأن عبد الرزاق رواه بلفظ " وماذا بقي في فيه " وكأن " ذا " سقطت من رواية البخاري. انتهى. و " ما " على ظاهر ما أورده البخاري موصولة، وعلى ما وقع من رواية ابن جريج استفهامية، وكأنه قال: وأي شيء يبقى في فيه بعد أن يمج الماء إلا أثر الماء، فإذا بلع ريقه لا يضره. وقوله في الأصل " لا يضره " وقع في رواية المستملي " لا يضيره " بزيادة تحتانية والمعنى واحد. قوله: (ولا يمضغ العلك الخ) في رواية المستملي " ويمضغ العلك " والأول أولى فكذلك أخرجه عبد الرازق عن ابن جريج " قلت لعطاء يمضغ الصائم العلك؟ قال: لا. قلت إنه يمج ريق العلك ولا يزدرده ولا يمصه قال. وقلت له: أيتسوك الصائم؟ قال نعم. قلت له أيزدرد ريقه؟ قال: لا. فقلت ففعل أيضره؟ قال لا. ولكن ينهى عن ذلك " وقد تقدم الخلاف في المضمضة في " باب من أكل ناسيا " قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا شيء على الصائم فيما يبتلعه مما يجري مع الريق مما بين أسنانه مما لا يقدر على إخراجه، وكان أبو حنيفة يقول: إذا كان بين أسنانه لحم. فأكله متعمدا فلا قضاء عليه. وخالفه الجمهور لأنه معدود من الأكل. ورخص في مضغ العلك أكثر العلماء إن كان لا يتحلب منه شيء، فإن تحلب منه شيء فازدرده فالجمهور على أنه يفطر. انتهى. والعلك بكسر المهملة وسكون اللام بعدها كاف: كل ما يمضغ ويبقى في الفم كالمصطكى واللبان، فإن كان يتحلب منه شيء في الفم فيدخل الجوف فهو مفطر، وإلا فهو مجفف ومعطش فيكره من هذه الحيثية. *3*باب إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادٌ يَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ الشرح: قوله: (باب إذا جامع في رمضان) أي عامدا عالما وجبت عليه الكفارة. قوله: (ويذكر عن أبي هريرة رفعه: من أفطر يوما من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه) وصله أصحاب السنن الأربعة وصححه ابن خزيمة من طريق سفيان الثوري وشعبة كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن عمارة بن عمير عن أبي المطوس عن أبيه عن أبي هريرة نحوه. وفي رواية شعبة " في غير رخصة رخصها الله تعالى له لم يقض عنه وإن صام الدهر كله " قال الترمذي سألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس لا أعرف له غير هذا الحديث. وقال البخاري في التاريخ أيضا: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا. قلت: واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافا كثيرا فحصلت فيه ثلاث علل: الاضطراب والجهل بحال أبي المطوس والشك في سماع أبيه من أبي هريرة، وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء، وذكر ابن حزم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثله موقوفا. قال ابن بطال: أشار بهذا الحديث إلى إيجاب الكفارة على من أفطر بأكل أو شرب قياسا على الجماع، والجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدا. وقرر ذلك الزين بن المنير بأنه ترجم بالجماع لأنه الذي ورد فيه الحديث المسند، وإنما ذكر آثار الإفطار ليفهم أن الإفطار بالأكل والجماع واحد. انتهى. والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالآثار التي ذكرها إلى أن إيجاب القضاء مختلف فيه بين السلف، وأن الفطر بالجماع لا بد فيه من الكفارة، وأشار بحديث أبي هريرة إلى أنه لا يصح لكونه لم يجزم به عنه، وعلى تقدير صحته فظاهره يقوي قول من ذهب إلى عدم القضاء في الفطر بالأكل بل يبقى ذلك في ذمته زيادة في عقوبته لأن مشروعية القضاء تقتضي رفع الإثم، لكن لا يلزم من عدم القضاء عدم الكفارة فيما ورد فيه الأمر بها وهو الجماع، والفرق بين الانتهاك بالجماع والأكل ظاهر فلا يصح القياس المذكور. قال ابن المنير في الحاشية ما محصله: إن معنى قوله في الحديث " لم يقض عنه صيام الدهر " أي لا سبيل إلى استدراك كمال فضيلة الأداء بالقضاء، أي في وصفه الخاص، وإن كان يقضي عنه في وصفه العام فلا يلزم من ذلك إهدار القضاء بالكلية. انتهى. ولا يخفى تكلفه، وسياق أثر ابن مسعود الآتي يرد هذا التأويل، وقد سوى بينهما البخاري. قوله: (وبه قال ابن مسعود) أي بما دل عليه حديث أبي هريرة، وأثر ابن مسعود وصله البيهقي ورويناه عاليا في " جزء هلال الحفار " من طريق منصور عن واصل عن المغيرة بن عبد الله اليشكري قال: " حدثت أن عبد الله بن مسعود قال: من أفطر يوما من رمضان من غير علة لم يجزه صيام الدهر حتى يلقى الله، فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه " وصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة من وجه آخر عن واصل عن المغيرة عن فلان بن الحارث عن ابن مسعود، ووصله الطبراني والبيهقي أيضا من وجه آخر عن عرفجة قال قال عبد الله بن مسعود " من أفطر يوما في رمضان متعمدا من غير علة ثم قضى طول الدهر لم يقبل منه " وبهذا الإسناد عن على مثله، وذكر ابن حزم من طريق ابن المبارك بإسناد له فيه انقطاع أن أبا بكر الصديق قال لعمر بن الخطاب فيما أوصاه به " من صام شهر رمضان في غيره لم يقبل منه ولو صام الدهر أجمع". قوله: (وقال سعيد بن المسيب والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وحماد: يقضى يوما مكانه) أما سعيد بن المسيب فوصله مسدد وغيره عنه في قصة المجامع قال " يقضى يوما مكانه ويستغفر الله " ولم أر عنه التصريح بذلك في الفطر بالأكل، بل روى ابن أبي شيبة من طريق عاصم قال " كتب أبو قلابة إلى سعيد بن المسيب يسأله عن رجل أفطر يوما من رمضان متعمدا، قال: يصوم شهرا. قلت: فيومين؟ قال صيام شهر. قال فعددت أياما قال: صيام شهر " قال ابن عبد البر كأنه ذهب إلى وجوب التتابع في رمضان، فإذا تخلله فطر يوم عمدا بطل التتابع ووجب استئناف صيام شهر كمن لزمه صوم شهر متتابع بنذر أو غيره. وقال غيره يحتمل أنه أراد عن كل يوم شهر، فقوله " فيومين قال صيام شهر " أي عن كل يوم، والأول أظهر. وروى البزار والدار قطني مقتضى هذا الاحتمال مرفوعا عن أنس وإسناده ضعيف. وأما الشعبي فقال سعيد بن منصور " حدثنا هشيم حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي في رجل أفطر يوما في رمضان عامدا قال: يصوم يوما مكانه ويستغفر الله عز وجل " وأما سعيد بن جبير فوصله ابن أبي شيبة من طريق يعلى بن حكيم عنه فذكر مثله. وأما إبراهيم النخعي فقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم. وقال ابن أبي شيبة: حدثنا شريك كلاهما عن مغيرة عن إبراهيم فذكر مثله. وأما قتادة فذكره عبد الرزاق عن معمر عن الحسن وقتادة في قصة المجامع في رمضان. وأما حماد وهو ابن أبي سليمان فذكره عبد الرزاق عن أبي حنيفة عنه. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ أَخْبَرَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ إِنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ احْتَرَقَ قَالَ مَا لَكَ قَالَ أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِكْتَلٍ يُدْعَى الْعَرَقَ فَقَالَ أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ قَالَ أَنَا قَالَ تَصَدَّقْ بِهَذَا الشرح: قوله: (حدثنا يحيى) هو ابن سعد الأنصاري وفي إسناده هذا أربعة من التابعين في نسق كلهم من أهل المدينة: يحيى وعبد الرحمن تابعيان صغيران من طبقة واحدة، وفوقهما قليلا محمد بن جعفر، وأما ابن عمه عباد فمن أواسط التابعين. قوله: (إن رجلا) قيل هو سلمة بن صخر البياضي ولا يصح ذلك كما سيأتي. قوله: (إنه احترق) سيأتي في حديث أبي هريرة أنه عبر بقوله " هلكت " ورواية الاحتراق تفسر رواية الهلاك، وكأنه لما اعتقد أن مرتكب الإثم يعذب بالنار أطلق على نفسه أنه احترق لذلك، وقد أثبت. النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوصف فقال " أين المحترق " إشارة إلى أنه لو أصر على ذلك لاستحق ذلك وفيه دلالة على أنه كان عامدا كما سيأتي. قوله: (تصدق بهذا) هكذا وقع مختصرا، وأورده مسلم وأبو داود من طريق عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم وفيه " قال أصبت أهلي، قال تصدق، قال والله ما لي شيء، قال اجلس فجلس، فأقبل رجل يسوق حمارا عليه طعام، فقال أين المحترق آنفا؟ فقام الرجل، فقال تصدق بهذا. فقال أعلى غيرنا؟ فوالله إنا لجياع. قال كلوه " وقد استدل به لمالك حيث جزم في كفارة الجماع في رمضان بالإطعام دون غيره من الصيام والعتق، ولا حجة فيه لأن القصة واحدة وقد حفظها أبو هريرة وقصها على وجهها وأوردتها عائشة مختصرة، أشار إلى هذا الجواب الطحاوي، والظاهر أن الاختصار من بعض الرواة، فقد رواه عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر بن الزبير بهذا الإسناد مفسرا ولفظه " كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل فارع - يعني بالفاء والمهملة - فجاءه رجل من بني بياضة فقال: احترقت، وقعت بامرأتي في رمضان. قال أعتق رقبة، قال لا أجدها، قال أطعم ستين مسكينا، قال ليس عندي " فذكر الحديث، أخرجه أبو داود ولم يسق لفظه، وساقه ابن خزيمة في صحيحه والبخاري في تاريخه ومن طريقه البيهقي، ولم يقع في هذه الرواية أيضا ذكر صيام شهرين، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. (تنبيه) : اختلفت الرواية عن مالك في ذلك، فالمشهور ما تقدم، وعنه يكفر في الأكل بالتخيير وفي الجماع بالإطعام فقط، وعنه التخيير مطلقا، وقيل يراعى زمان الخصب والجدب، وقيل يعتبر حالة المكفر، وقيل غير ذلك. *3*باب إِذَا جَامَعَ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلْيُكَفِّرْ الشرح: قوله: (باب إذا جامع في رمضان) أي عامدا عالما (ولم يكن له شيء) يعتق أو يطعم ولا يستطيع الصيام (فتصدق عليه) أي بقدر ما يجزيه (فليكفر) أي به لأنه صار واجدا، وفيه إشارة إلى أن الإعسار لا يسقط الكفارة عن الذمة. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ مَا لَكَ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا قَالَ لَا قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا فَقَالَ فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لَا قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ فَقَالَ أَنَا قَالَ خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَ اللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ الشرح: قوله: (أخبرني حميد بن عبد الرحمن) أي ابن عوف، هكذا توارد عليه أصحاب الزهري وقد جمعت منهم في جزء مفرد لطرق هذا الحديث أكثر من أربعين نفسا، منهم: ابن عيينة والليث ومعمر ومنصور عند الشيخين، والأوزاعي وشعيب وإبراهيم بن سعد عند البخاري ومالك، وابن جريج عند مسلم، ويحيى بن سعيد وعراك بن مالك عند النسائي، وعبد الجبار بن عمر عند أبي عوانة، والجوزقي وعبد الرحمن بن مسافر عند الطحاوي، وعقيل عند ابن خزيمة، وابن أبي حفصة عند أحمد، ويونس وحجاج بن أرطاة وصالح بن أبي الأخضر عند الدار قطني، ومحمد بن إسحاق عند البزار، وسأذكر ما عند كل منهم من زيادة فائدة إن شاء الله تعالى. وخالفهم هشام بن سعد فرواه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أخرجه أبو داود وغيره. قال البزار وابن خزيمة وأبو عوانة: أخطأ فيه هشام بن سعد. قلت: وقد تابعه عبد الوهاب بن عطاء عن محمد بن أبي حفصة، فرواه عن الزهري أخرجه الدار قطني في " العلل " والمحفوظ عن ابن أبي حفصة كالجماعة. كذلك أخرجه أحمد وغيره من طريق روح بن عبادة عنه، ويحتمل أن يكون الحديث عند الزهري عنهما، فقد جمعهما عنه صالح بن أبي الأخضر، أخرجه الدار قطني في " العلل " من طريقه، وسيأتي في الباب الذي بعده حكاية خلاف آخر فيه على منصور وكذلك في الكفارات حكاية خلاف فيه على سفيان بن عيينة إن شاء الله تعالى. قوله: (أن أبا هريرة قال) في رواية ابن جريج عند مسلم وعقيل عند ابن خزيمة وابن أبي أويس عند الدار قطني التصريح بالتحديث بين حميد وأبي هريرة. قوله: (بينما نحن جلوس) أصلها " بين " وقد ترد بغير " ما " فتشبع الفتحة، وهن خاصة " بينما " أنها تتلقى بإذ وبإذا حيث تجيء للمفاجأة، بخلاف بينا فلا تتلقى بواحدة منهما، وقد وردا في هذا الحديث كذلك. قوله: (عند النبي صلى الله عليه وسلم) فيه حسن الأدب في التعبير لما تشعر العندية بالتعظيم، بخلاف ما لو قال مع، لكن في رواية الكشميهني " مع النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: (إذ جاءه رجل) لم أقف على تسميته، إلا أن عبد الغني في المبهمات - وتبعه ابن بشكوال - جزما بأنه سليمان أو سلمة بن صخر البياضي، واستند إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طريق سليمان ابن يسار " عن سلمة بن صخر أنه ظاهر من امرأته في رمضان وأنه وطئها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: حرر رقبة، قلت ما أملك رقبة غيرها وضرب صفحة رقبته. قال فصم شهرين متتابعين. قال وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال فأطعم ستين مسكينا. قال والذي بعثك بالحق ما لنا طعام. قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك " والظاهر أنهما واقعتان فإن في قصة المجامع في حديث الباب أنه كان صائما كما سيأتي، وفي قصة سلمة بن صخر أن ذلك كان ليلا فافترقا، ولا يلزم من اجتماعهما - في كونهما من بني بياضة وفي صفة الكفارة وكونها مرتبة وفي كون كل منهما كان لا يقدر على شيء من خصالها - اتحاد القصتين، وسنذكر أيضا ما يؤيد المغايرة بينهما. وأخرج ابن عبد البر في ترجمة عطاء الخراساني من " التمهيد " من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن الرجل الذي وقع على امرأته في رمضان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو سليمان بن صخر. قال ابن عبد البر: أظن هذا وهما، لأن المحفوظ أنه ظاهر من امرأته ووقع عليها في الليل لا أن ذلك كان منه بالنهار ا ه. ويحتمل أن يكون قوله في الرواية المذكورة " وقع على امرأته في رمضان " أي ليلا بعد أن ظاهر فلا يكون وهما ولا يلزم الاتحاد، ووقع في مباحث العام من " شرح ابن الحاجب " ما يوهم أن هذا الرجل هو أبو بردة بن يسار وهو وهم يظهر من تأمل بقية كلامه. قوله: (فقال يا رسول الله) زاد عبد الجبار بن عمر عن الزهري " جاء رجل وهو ينتف شعره ويدق صدره ويقول هلك الأبعد " ولمحمد بن أبي حفصة " يلطم وجهه " ولحجاج بن أرطاة " يدعو ويله " وفي مرسل ابن المسيب عند. الدار قطني " ويحثي على رأسه التراب " واستدل بهذا على جواز هذا الفعل والقول من وقعت له معصية، ويفرق بذلك بين مصيبة الدين والدنيا فيجوز في مصيبة الدين لما يشعر به الحال من شدة الندم وصحة الإقلاع، ويحتمل أن تكون هذه الواقعة قبل النهي عن لطم الخدود وحلق الشعر عند المصيبة. قوله: (فقال هلكت) في رواية منصور في الباب الذي يليه " فقال إن الأخر هلك " والأخر بهمزة مفتوحة وخاء معجمة مكسورة بغير مد هو الأبعد، وقيل الغائب، وقيل الأرذل. قوله: (هلكت) في حديث عائشة كما تقدم " احترقت " وفي رواية ابن أبي حفصة " ما أراني إلا قد هلكت " واستدل به على أنه كان عامدا لأن الهلاك والاحتراق مجاز عن العصيان المؤدي إلى ذلك، فكأنه جعل المتوقع كالواقع، وبالغ فعبر عنه بلفظ الماضي، وإذا تقرر ذلك فليس فيه حجة على وجوب الكفارة على الناسي وهو مشهور قول مالك والجمهور، وعن أحمد وبعض المالكية يجب على الناسي، وتمسكوا بترك استفساره عن جماعة هل كان عن عمد أو نسيان، وترك الاستفصال في الفعل ينزل منزلة العموم في القول كما اشتهر، والجواب أنه قد تبين حاله بقوله هلكت واحترقت فدل على أنه كان عامدا عارفا بالتحريم، وأيضا فدخول النسيان في الجماع في نهار رمضان في غاية البعد، واستدل بهذا على أن من ارتكب معصية لا حد فيها وجاء مستفتيا أنه لا يعزر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاقبه اعترافه بالمعصية، وقد ترجم لذلك البخاري في الحدود وأشار إلي هذه القصة، وتوجهه أن مجيئه مستفتيا يقتضي الندم والتوبة، والتعزير إنما جعل للاستصلاح ولا استصلاح من الصلاح، وأيضا فلو عوقب المستفتي لكان سببا لترك الاستفتاء وهي مفسدة فاقتضى ذلك أن لا يعاقب، هكذا قرره الشيخ تفي الدين، لكن وقع في " شرح السنة للبغوي " أن من جامع متعمدا في رمضان فسد صومه وعليه القضاء والكفارة ويعزر على سوء صنيعه، وهو محمول على من لم يقع منه ما وقع من صاحب هذه القصة من الندم والتوبة، وبناه بعض المالكية على الخلاف في تعزير شاهد الزور. قوله: (قال مالك) ؟ بفتح اللام استفهام عن حاله. وفي رواية عقيل " ويحك ما شأنك؟ " ولابن أبي حفصة " وما الذي أهلكك؟ " ولعمرو " ما ذاك؟ " وفي رواية الأوزاعي " ويحك ما صنعت؟ " أخرجه المصنف في الأدب وترجم " باب ما جاء في قول الرجل ويلك ويحك " ثم قال عقبه " تابعه يونس عن الزهري " يعني في قوله " ويحك " وقال عبد الرحمن بن خالد عن الزهري " ويلك". قلت: وسأذكر من وصلهما هناك إن شاء الله تعالى. وقد تابع ابن خالد في قوله " ويلك " صالح بن أبي الأخضر، وتابع الأوزاعي في قوله " ويحك " عقيل وابن إسحاق وحجاج بن أرطاة فهو أرجح وهو اللائق بالمقام، فإن ويح كلمة رحمة وويل كلمة عذاب والمقام يقتضي الأول. قوله: (وقعت على امرأتي) وفي رواية ابن إسحاق " أصبت أهلي " وفي حديث عائشة " وطئت امرأتي " ووقع في رواية مالك وابن جريج وغيرهما كما سيأتي بيانه بعد قليل في الكلام على الترتيب والتخيير في أول الحديث " أن رجلا أفطر في رمضان، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم " الحديث واستدل به على إيجاب الكفارة على من أفسد صيامه مطلقا بأي شيء كان وهو قول المالكية، وقد تقدم نقل الخلاف فيه، والجمهور حملوا قوله " أفطر " هنا على المقيد في الرواية الأخرى وهو قوله " وقعت على أهلي " وكأنه قال أفطر بجماع، وهو أولى من دعوى القرطبي وغيره تعدد القصة. واحتج من أوجب الكفارة مطلقا بقياس الآكل على المجامع بجامع ما بينهما من انتهاك حرمة الصوم، وبأن من أكره على الأكل فسد صومه كما يفسد صوم من أكره على الجماع بجامع ما بينهما، وسيأتي بيان الترجيح بين الروايتين في الكلام على الترتيب. وقد وقع في حديث عائشة نظير ما وقع في حديث أبي هريرة فمعظم الروايات فيها " وطئت " ونحو ذلك. وفي رواية ساق مسلم إسنادها وساق أبو عوانة في مستخرجه متنها أنه قال " أفطرت في رمضان " والقصة واحدة ومخرجها متحد فيحمل على أنه أراد أفطرت في رمضان بجماع، وقد وقع في مرسل ابن المسيب عند سعيد ابن منصور " أصبت امرأتي ظهرا في رمضان " وتعيين رمضان معمول بمفهومه، وللفرق في وجوب كفارة المجامع في الصوم بين رمضان وغيره من الواجبات كالنذر، وفي كلام أبي عوانة في صحيحه إشارة إلى وجوب ذلك على من وقع منه في رمضان نهارا سواء كان الصوم واجبا عليه أو غير واجب. قوله: (وأنا صائم) جملة حالية من قوله " وقعت " فيؤخذ منه أنه لا يشترط في إطلاق اسم المشتق بقاء المعنى المشتق منه حقيقة لاستحالة كونه صائما مجامعا في حالة واحدة، فعلى هذا قوله " وطئت " أي شرعت في الوطء أو أراد جامعت بعد إذ أنا صائم، ووقع في رواية عبد الجبار بن عمر " وقعت على أهلي اليوم وذلك في رمضان". قوله: (هل تجد رقبة تعتقها) في رواية منصور " أتجد ما تحرر رقبة " وفي رواية ابن أبي حفصة " أتستطيع أن تعتق رقبة " وفي رواية إبراهيم بن سعد والأوزاعي فقال " أعتق رقبة " زاد في رواية مجاهد عن أبي هريرة فقال " بئسما صنعت أعتق رقبة". قوله: (قال لا) في رواية ابن مسافر " فقال لا والله يا رسول الله " وفي رواية ابن إسحاق " ليس عندي " وفي حديث ابن عمر " فقال والذي بعثك بالحق ما ملكت رقبة قط " واستدل بإطلاق الرقبة على جواز إخراج الرقبة الكافرة كقول الحنفية، وهو ينبني على أن السبب إذا اختلف واتحد الحكم هل يقيد المطلق أو لا؟ وهل تقييده بالقيام أو لا؟ والأقرب أنه بالقياس، ويؤيده التقييد في مواضع أخرى. قوله: (قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا) وفي رواية إبراهيم عن سعد " قال فصم شهرين متتابعين " وفي حديث سعد " قال لا أقدر " وفي رواية ابن إسحاق " وهل لقيت ما لقيت إلا من الصيام؟ " قال ابن دقيق العيد: لا إشكال في الانتقال عن الصوم إلى الإطعام، لكن رواية ابن إسحاق هذه اقتضت أن عدم استطاعته لشدة شبقه وعدم صبره عن الوقاع فنشأ للشافعية نظر: هل يكون ذلك عذرا - أي شدة الشبق - حتى يعد صاحبه غير مستطيع للصوم أو لا؟ والصحيح عندهم اعتبار ذلك، ويلتحق به من يجد رقبة لا غنى به عنها فإنه يسوغ له الانتقال إلى الصوم مع وجودها لكونه في حكم غير الواجد، وأما ما رواه الدار قطني من طريق شريك عن إبراهيم بن عامر عن سعيد بن المسيب في هذه القصة مرسلا أنه قال في جواب قوله هل تستطيع أن تصوم " إني لأدع الطعام ساعة فما أطيق ذلك " ففي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته فلعله اعتل بالأمرين. قوله: (فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال لا) زاد ابن مسافر " يا رسول الله". ووقع في رواية سفيان " فهل تستطيع إطعام؟ " وفي رواية إبراهيم بن سعد وعراك بن مالك " فتطعم ستين مسكينا؟ قال لا أجد " وفي رواية ابن أبي حفصة " أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال لا " وذكر الحاجة. وفي حديث ابن عمر " قال والذي بعثك بالحق ما أشبع أهلي " قال ابن دقيق العيد: أضاف الإطعام الذي هو مصدر أطعم إلى ستين فلا يكون ذلك موجودا في حق من أطعم ستة مساكين عشرة أيام مثلا، ومن أجاز ذلك فكأنه استنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال، والمشهور عن الحنفية الإجزاء حتى لو أطعم الجميع مسكينا واحدا في ستين يوما كفي، والمراد بالإطعام الإعطاء لا اشتراط حقيقة الإطعام من وضع المطعوم في الفم بل يكفي الوضع بين يديه بلا خلاف، وفي إطلاق الإطعام ما يدل على الاكتفاء بوجود الإطعام من غير اشتراط مناولة، بخلاف زكاة الفرض فإن فيها النص على الإيتاء وصدقة الفطر فإن فيها النص على الأداء، وفي ذكر الإطعام ما يدل على وجود طاعمين فيخرج الطفل الذي لم يطعم كقول الحنفية، ونظر الشافعي إلى النوع فقال: يسلم لوليه، وذكر الستين ليفهم أنه لا يجب ما زاد عليها، ومن لم يقل بالمفهوم تمسك بالإجماع على ذلك. وذكر في حكمة هذه الخصال من المناسبة أن من انتهك حرمة الصوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية فناسب أن يعتق رقبة فيفدي نفسه، وقد صح أن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار. وأما الصيام فمناسبته ظاهره لأنه كالمقاصة بجنس الجناية، وأما كونه شهرين فلأنه لما أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر رمضان على الولاء فلما أفسد منه يوما كان كمن أفسد الشهر كله من حيث أنه عبادة واحدة بالنوع فكلف بشهرين مضاعفة على سبيل المقابلة لنقيض قصده. وأما الإطعام فمناسبته ظاهرة لأنه مقابلة كل يوم بإطعام مسكين. ثم إن هذه الخصال جامعة لاشتمالها على حق الله وهو الصوم، وحق الأحرار بالإطعام، وحق الأرقاء بالإعتاق، وحق الجاني بثواب الامتثال. وفيه دليل على إيجاب الكفارة بالجماع خلافا لمن شذ فقال لا تجب مستندا إلى أنه لو كان واجبا لما سقط بالإعسار، وتعقب بمنع الإسقاط كما سيأتي البحث فيه. وقد تقدم في آخر " باب الصائم يصبح جنبا " نقل الخلاف في إيجاب الكفارة بالقبلة والنظر والمباشرة والإنعاظ، واختلفوا أيضا هل يلحق الوطء في الدبر بالوطء في القبل، وهل يشترط في إيجاب الكفارة كل وطء في أي فرج كان؟ وفيه دليل على جريان الخصال الثلاث المذكورة في الكفارة. ووقع في " المدونة " ولا يعرف مالك غير الإطعام ولا يأخذ بعتق ولا صيام. قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يهتدي إلى توجيهها مع مصادمة الحديث الثابت، غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الطعام على غيره من الخصال، ووجهوا ترجيح الطعام على غيره بأن الله ذكره في القرآن رخصة للقادر ثم نسخ هذا الحكم، ولا يلزم منه نسخ الفضيلة فيترجح الإطعام أيضا لاختيار الله له في حق المفطر بالعذر، وكذا أخبر بأنه في حق من أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر، ولمناسبة إيجاب الإطعام لجبر فوات الصيام الذي هو إمساك عن الطعام، ولشمول نفعه للمساكين، وكل هذه الوجوه لا تقاوم ما ورد في الحديث من تقديم العتق على الصيام ثم الإطعام سواء قلنا الكفارة على الترتيب أو التخيير فإن هذه البداءة إن لم تقتض وجوب الترتيب فلا أقل من أن تقتضي استحبابه. واحتجوا أيضا بأن حديث عائشة لم يقع فيه سوى الإطعام، وقد تقدم الجواب عن ذلك قبل، وأنه ورد فيه من وجه آخر ذكر العتق أيضا. ومن المالكية من وافق على هذا الاستحباب، ومنهم من قال إن الكفارة تختلف باختلاف الأوقات: ففي وقت الشدة يكون بالإطعام وفي غيرها يكون بالعتق أو الصوم ونقلوه عن محققي المتأخرين، ومنهم من قال: الإفطار بالجماع يكفر بالخصال الثلاث، وبغيره لا يكفر إلا بالإطعام وهو قول أبي مصعب. وقال ابن حرير الطبري: هو مخير بين العتق والصوم ولا يطعم إلا عند العجز عنهما، وفي الحديث أنه لا مدخل لغير هل هذه الخصال الثلاث في الكفارة. وجاء عن بعض المتقدمين إهداء البدنة عند تعذر الرقبة، وربما أيده بعضهم بإلحاق إفساد الصيام بإفساد الحج، وورد ذكر البدنة في مرسل سعيد بن المسيب عند مالك في " الموطأ " عن عطاء الخراساني عنه، وهو مع إرساله قد رده سعيد بن المسيب وكذب من نقله عنه كما روى سعيد بن منصور عن ابن علية عن خالد الحذاء عن القاسم ابن عاصم " قلت لسعيد بن المسيب ما حدث حدثناه عطاء ا الخراساني عنك في الذي وقع على امرأته في رمضان أنه يعتق رقبة أو يهدي بدنة؟ فقال: كذب " فذكر الحديث، وهكذا رواه الليث عن عمرو ابن الحارث عن أيوب عن القاسم بن عاصم، وتابعه همام عن قتادة عن سعيد، وذكر ابن عبد البر أن عطاء لم ينفرد بذلك فقد ورد من طريق مجاهد عن أبي هريرة موصولا، ثم ساقه بإسناده لكنه من رواية ليث بن أبي سليم عن مجاهد، وليث ضعيف وقد اضطرب في روايته سندا ومتنا فلا حجة فيه. وفي الحديث أيضا أن الكفارة بالخصال الثلاث على الترتيب المذكور. قال ابن العربي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نقله من أمر بعد عدمه لأمر آخر وليس هذا شأن التخيير، ونازع عياض في ظهور دلالة الترتيب في السؤال عن ذلك فقال: إن مثل هذا السؤال قد يستعمل فيما هو على التخيير، وقرره ابن المنير في الحاشية بأن شخصا لو حنث فاستفتى فقال له المفتي: أعتق رقبة فقال لا أجد، فقال صم ثلاثة أيام الخ، لم يكن مخالفا لحقيقة التخيير، بل يحمل على أن إرشاده إلى العتق لكونه أقرب لتنجيز الكفارة. وقال البيضاوي: ترتيب الثاني بالفاء على فقد الأول ثم الثالث بالفاء على فقد الثاني يدل على عدم التخيير مع كونها في معرض البيان وجواب السؤال فينزل منزلة الشرط للحكم، وسلك الجمهور في ذلك مسلك الترجيح بأن الذين رووا الترتيب عن الزهري أكثر ممن روى التخيير، وتعقبه ابن التين بأن الذين رووا الترتيب ابن عيينة ومعمر والأوزاعي، والذين رووا التخيير مالك وابن جريج وفليح بن سليمان وعمرو بن عثمان المخزومي، وهو كما قال في الثاني دون الأول، فالذين رووا الترتيب في البخاري الذي نحن في شرحه أيضا إبراهيم بن سعد والليث بن سعد وشعيب بن أبي حمزة ومنصور، ورواية هذين في هذا الباب الذي نشرحه وفي الذي يليه، فكيف غفل ابن التين عن ذلك وهو ينظر فيه؟ بل روى الترتيب عن الزهري كذلك تمام ثلاثين نفسا أو أزيد، ورجح الترتيب أيضا بأن راويه حكى لفظ القصة على وجهها فمعه زيادة علم من صورة الواقعة، وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث فدل على أنه من تصرف بعض الرواة إما لقصد الاختصار أو لغير ذلك. ويترجح الترتيب أيضا بأنه أحوط لأن الأخذ به مجزئ سواء قلنا بالتخيير أو لا بخلاف العكس وجمع بعضهم بين الروايتين كالمهلب والقرطبي بالحمل على التعدد وهو بعيد لأن القصة واحدة والمخرج متحد والأصل عدم التعدد، وبعضهم حمل الترتيب على الأولوية والتخيير على الجواز، وعكسه بعضهم فقال " أو " في الرواية الأخرى ليست للتخيير وإنما هي للتفسير والتقدير، أمر رجلا أن يعتق رقبة أو يصوم إن عجز عن العتق أو يطعم إن عجز عنهما. وذكر الطحاوي أن سبب إتيان بعض الرواة بالتخيير أن الزهري راوي الحديث قال في آخر حديثه " فصارت الكفارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين أو الإطعام". قال فرواه بعضهم مختصرا مقتصرا على ما ذكر الزهري أنه آل إليه الأمر، قال وقد قص عبد الرحمن بن خالد ابن مسافر عن الزهري القصة على وجهها ثم ساقه من طريقه مثل حديث الباب إلى قوله " أطعمه أهلك " قال فصارت الكفارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا. قلت: وكذلك رواه الدار قطني في " العلل " من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري وقال في آخره " فصارت سنة عتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا". قوله: (فمكث عند النبي صلى الله عليه وسلم) كذا هنا بالميم والكاف المفتوحة، ويجوز ضمها والثاء المثلثة. وفي رواية أبي نعيم في " المستخرج " من وجهين عن أبي اليمان " فسكت " بالمهملة والكاف المفتوحة والمثناة، وكذا ابن مسافر وابن أبي الأخضر. وفي رواية ابن عيينة " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اجلس فجلس". قوله: (فبينا نحن على ذلك) في رواية ابن عيينة " فبينما هو جالس كذلك " قال بعضهم يحتمل أن يكون سبب أمره له بالجلوس انتظار ما يوحي إليه في حقه، ويحتمل أنه كان عرف أنه سيؤتي بشيء يعينه به، ويحتمل أن يكون أسقط عنه الكفارة بالعجز. وهذا الثالث ليس بقوى لأنها لو سقطت ما عادت عليه حيث أمره بها بعد إعطائه إياه المكتل. قوله: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم) كذا للأكثر بضم أوله على البناء للمجهول وهو جواب " بينا " في هذه الرواية. وأما رواية ابن عيينة المشار إليها فقال فيها " إذ أتى " لأنه قال فيها " فبينما هو جالس " وقد تقدم تقرير ذلك، والآتي المذكور لم يسم لكن وقع في رواية معمر كما سيأتي في الكفارات " فجاء رجل من الأنصار " وعند الدار قطني من طريق داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب مرسلا " فأتى رجل من ثقيف " فإن لم يحمل على أنه كان حليفا للأنصار أو إطلاق الأنصار بالمعنى الأعم وإلا فرواية الصحيح أصح، ووقع في رواية ابن إسحاق " فجاء رجل بصدقته يحملها " وفي مرسل الحسن عند سعيد بن منصور " بتمر من تمر المصدقة". قوله: (بعرق) بفتح المهملة والراء بعدها قاف. قال ابن التين كذا لأكثر الرواة. وفي رواية أبي الحسن يعني القابسي بإسكان الراء. قال عياض والصواب الفتح. وقال ابن التين أنكر بعضهم الإسكان لأن الذي بالإسكان هو العظم الذي عليه اللحم. قلت: إن كان الإنكار من جهة الاشتراك مع العظم فلينكر الفتح لأنه يشترك مع الماء الذي يتحلب من الجسد، نعم الراجح من حيث الرواية الفتح ومن حيث اللغة أيضا، إلا أن الإسكان ليس بمنكر بل أثبته بعض أهل اللغة كالقزاز. قوله: (والعرق المكتل) بكسر الميم وسكون الكاف وفتح المثناة بعدها لام، زاد ابن عيينة عند الإسماعيلي وابن خزيمة: المكتل الضخم. قال الأخفش: سمي المكتل عرقا لأنه يضفر عرقة عرقة جمع فالعرق جمع عرقة كعلق وعلقة، والعرقة الضفيرة من الخوص. وقوله والعرق المكتل تفسير من أحد رواته، وظاهر هذه الرواية أنه الصحابي، لكن في رواية ابن عيينة ما يشعر بأنه الزهري. وفي رواية منصور في الباب الذي يلي هذا " فأتى بعرق فيه تمر وهو الزبيل " وفي رواية ابن أبي حفصة " فأتى بزبيل وهو المكتل " والزبيل بفتح الزاي وتخفيف الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم لام بوزن رغيف هو المكتل، قال ابن دريد يسمى زبيلا لحمل الزبل فيه، وفيه لغة أخرى زنبيل بكسر الزاي أوله وزيادة نون ساكنة وقد تدغم النون فتشدد الباء مع بقاء وزنه، وجمعه على اللغات الثلاث زنابيل، ووقع في بعض طرق عائشة عند مسلم " فجاءه عرقان " والمشهور في غيرها عرق ورجحه البيهقي، وجمع غيره بينهما بتعدد الواقعة، وهو جمع لا نرضاه لاتحاد مخرج الحديث والأصل عدم التعدد، والذي يظهر أن التمر كان قدر عرق لكنه كان في عرقين في حال التحميل على الدابة ليكون أسهل في الحمل، فيحتمل أن الآتي به لما وصل أفرغ أحدهما في الآخر، فمن قال عرقان أراد ابتداء الحال ومن قال عرق أراد ما آل إليه، والله أعلم. قوله: (أين السائل؟) زاد ابن مسافر " آنفا " أطلق عليه ذلك لأن كلامه متضمن للسؤال فإن مراده هلكت فينجيني وما يخلصني مثلا، وفي حديث عائشة " أين المحترق آنفا "؟ وقد تقدم توجيهه، ولم يعين في هذه الرواية مقدار ما في المكتل من التمر بل ولا في شيء من طرق الصحيحين في حديث أبي هريرة، ووقع في رواية ابن أبي حفصة " فيه خمسة عشر صاعا " وفي رواية مؤمل عن سفيان " فيه خمسة عشر أو نحو ذلك " وفي رواية مهران بن أبي عمر عن الثوري عن ابن خزيمة " فيه خمسة عشر أو عشرون " وكذا هو عند مالك وعبد الرزاق في مرسل سعيد بن المسيب، وفي مرسله عند الدار قطني الجزم بعشرين صاعا، ووقع في حديث عائشة عند ابن خزيم " فأتى بعرق فيه عشرون صاعا " قال البيهقي قوله عشرون صاعا بلاغ بلغ محمد بن جعفر يعني بعض رواته، وقد بين ذلك محمد بن إسحاق عنه فذكر الحديث وقال في آخره: قال محمد بن جعفر فحدثت بعد أنه كان عشرين صاعا من تمر. قلت: ووقع في مرسل عطاء بن أبي رباح وغيره عند مسدد " فأمر له ببعضه " وهذا يجمع الروايات، فمن قال إنه كان عشرين أراد أصل ما كان فيه، ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفارة، ويبين ذلك حديث على عند الدار قطني " تطعم ستين مسكينا لكل مسكين مد " وفيه " فأتى بخمسة عشر صاعا فقال أطعمه ستين مسكينا " وكذا في رواية حجاج الزهري عند الدار قطني في حديث أبي هريرة، وفيه رد على الكوفيين في قولهم إن واجبه من القمح ثلاثون صاعا ومن غيره ستون صاعا، ولقول عطاء: إن أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعا، وعلى أشهب في قوله لو غداهم أو عشاهم كفي تصدق الإطعام، ولقول الحسن يطعم أربعين مسكينا عشرين صاعا أو بالجماع أطعم خمسة عشر، وفيه رد على الجوهري حيث قال في الصحاح المكتل يشبه الزبيل يسع خمسة عشر صاعا لأنه لا حصر في ذلك، وروي عن مالك أنه قال يسع خمسة عشر أو عشرين ولعله قال ذلك في هذه القصة الخاصة فيوافق رواية مهران وإلا فالظاهر أنه لا حصر في ذلك والله أعلم. وأما ما وقع في رواية عطاء ومجاهد عن أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط أنه " أتى بمكتل فيه عشرون صاعا فقال تصدق بهذا " وقال قبل ذلك تصدق بعشرين صاعا أو بتسع عشرة أو بإحدى وعشرين فلا حجة فيه لما فيه من الشك، ولأنه من رواية ليث بن أبي سليم وهو ضعيف وقد اضطرب فيه، وفي الإسناد إليه مع ذلك من لا يحتج به. ووقع في بعض طرق حديث عائشة عند مسلم " فجاءه عرقان فيهما طعام " ووجهه إن كان محفوظا ما تقدم قريبا والله أعلم. قوله: (خذ هذا فتصدق به) كذا للأكثر ومنهم من ذكره بمعناه، وزاد ابن إسحاق " فتصدق به عن نفسك " ويؤيده رواية منصور في الباب الذي يليه بلفظ " أطعم هذا عنك " ونحوه في مرسل سعيد ابن المسيب من رواية داود بن أبي هند عنه عند الدار قطني، وعنده من طريق ليث عن مجاهد عن أبي هريرة " نحن نتصدق به عنك " واستدل بإفراده بذلك على أن الكفارة عليه وحده دون الموطوءة، وكذا قوله في المراجعة " هل تستطيع " و " هل تجد " وغير ذلك، وهو الأصح من قولي الشافعية وبه قال الأوزاعي. وقال الجمهور وأبو ثور وابن المنذر تجب الكفارة على المرأة أيضا على اختلاف وتفاصيل لهم في الحرة والأمة والمطاوعة والمكرهة وهل هي عليها أو على الرجل عنها، واستدل الشافعية بسكوته عليه الصلاة والسلام عن إعلام المرأة بوجوب الكفارة مع الحاجة، وأجيب بمنع وجود الحاجة إذ ذاك لأنها لم تعترف ولم تسأل واعتراف الزوج عليها لا يوجب عليها حكما ما لم تعترف، وبأنها قضية حال فالسكوت عنها لا يدل على الحكم لاحتمال أن تكون المرأة لم تكن صائمة لعذر من الأعذار. ثم إن بيان الحكم للرجل بيان في حقها لاشتراكهما في تحريم الفطر وانتهاك حرمة الصوم كما لم يأمره بالغسل. والتنصيص على الحكم في حق بعض المكلفين كاف عن ذكره في حق الباقين، ويحتمل أن يكون سبب السكوت عن حكم المرأة ما عرفه من كلام زوجها بأنها لا قدرة لها على شيء. وقال القرطبي اختلفوا في الكفارة هل هي على الرجل وحده على نفسه فقط أو عليه وعليها أو عليه كفارتان عنه وعنها أو عليه عن نفسه وعليها عنها، وليس في الحديث ما يدل على شيء من ذلك لأنه ساكت عن المرأة فيؤخذ حكمها من دليل آخر مع احتمال أن يكون سبب السكوت أنها كانت غير صائمة، واستدل بعضهم بقوله في بعض طرق هذا الحديث " هلكت وأهلكت " وهي زيادة فيها مقال، فقال ابن الجوزي: في قوله وأهلكت تنبيه على أنه أكرهها ولولا ذلك لم يكن مهلكا لها، قلت: ولا يلزم من ذلك تعدد الكفارة بل لا يلزم من قوله وأهلكت إيجاب الكفارة عليها، بل يحتمل أن يريد بقوله هلكت أثمت وأهلكت أي كنت سببا في تأثيم من طاوعتني فواقعها إذ لا ريب في حصول الإثم على المطاوعة ولا يلزم من ذلك إثبات الكفارة ولا نفيها، أو المعنى هلكت أي حيث وقعت في شيء لا أقدر على كفارته، وأهلكت أي نفسي بفعلي الذي جر على الإثم، وهذا كله بعد ثبوت الزيادة المذكورة، وقد ذكر البيهقي أن للحاكم في بطلانها ثلاثة أجزاء، ومحصل القول فها أنها وردت من طريق الأوزاعي ومن طريق ابن عيينة، أما الأوزاعي فتفرد بها محمد بن المسيب عن عبد السلام بن عبد الحميد عن عمر بن عبد الواحد والوليد بن مسلم وعن محمد بن عقبة عن علقمة عن أبيه ثلاثتهم عن الأوزاعي قال البيهقي رواه جميع أصحاب الأوزاعي بدونها وكذلك جميع الرواة عن الوليد وعقبة وعمر، ومحمد ابن المسيب كان حافظا مكثرا إلا أنه كان في آخر أمره عمى فلعل هذه اللفظة أدخلت عليه، وقد رواه أبو علي النيسابوري عنه بدونها، ويدل على بطلانها ما رواه العباس بن الوليد عن أبيه قال: سئل الأوزاعي عن رجل جامع امرأته في رمضان قال: عليهما كفارة واحدة إلا الصيام، قيل له فإن استكرهها؟ قال عليه الصيام وحده. وأما ابن عيينة فتفرد بها أبو ثور عن معلى بن منصور عنه، قال الخطابي: المعلى ليس بذاك الحافظ. وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يعرف أحدا طعن في المعلى، وغفل عن قول الإمام أحمد إنه كان يخطئ كل يوم في حديثين أو ثلاثة، فلعله حدث من حفظه بهذا فوهم، وقد قال الحاكم: وقفت على " كتاب الصيام للمعلى " بخط موثوق به وليست هذه اللفظة فيه، وزعم ابن الجوزي أن الدار قطني أخرجه من طريق عقيل أيضا، وهو غلط منه فإن الدار قطني لم يخرج طريق عقيل في " السنن " وقد ساقه في " العلل " بالإسناد الذي ذكره عنه ابن الجوزي بدونها. (تنبيه) : القائل بوجوب كفارة واحدة على الزوج عنه وعن موطوءته يقول يعتبر حالهما فإن كانا من أهل العتق أجزأت رقبة، وإن كانا من أهل الإطعام أطعم ما سبق، وإن كانا من أهل الصيام صاما جميعا، فإن اختلف حالهما ففيه تفريع محله كتب الفروع. قوله: (فقال الرجل على أفقر مني) أي أتصدق به على شخص أفقر مني؟ وهذا يشعر بأنه فهم الإذن له في التصدق على من يتصف بالفقر، وقد بين ابن عمر في حديثه ذلك فزاد فيه " إلى من أدفعه؟ قال إلى أفقر من تعلم " أخرجه البزار والطبراني في " الأوسط " وفي رواية إبراهيم بن سعد " أعلى أفقر من أهلي "؟ ولابن مسافر " أعلى أهل بيت أفقر مني "؟ وللأوزاعي " أعلى غير أهلي "؟ ولمنصور " أعلى أحوج منا " ولابن إسحاق " وهل الصدقة إلا لي وعلي "؟ قوله: (فوالله ما بين لابتيها) تثنية لابة وقد تقدم شرحها في أواخر كتاب الحج والضمير للمدينة، وقوله "يريد الحرتين " من كلام بعض رواته، زاد في رواية ابن عيينة ومعمر " والذي بعثك بالحق " ووقع في حديث ابن عمر المذكور " ما بين حرتيها " وفي رواية الأوزاعي الآتية في الأدب " والذي نفسي بيده ما بين طنبي المدينة " تثنية طنب - وهو بضم الطاء المهملة بعدها نون - والطنب أحد أطناب الخيمة فاستعاره للطرف. قوله: (أهل بيت أفقر من أهل بيتي) زاد يونس " مني ومن أهل بيتي " وفي رواية إبراهيم بن سعد " أفقر منا " وأفقر بالنصب على أنها خبر ما النافية، ويجوز الرفع على لغة تميم. وفي رواية عقيل " ما أحد أحق به من أهلي، ما أحد أحوج إليه مني " وفي أحق وأحوج ما في أفقر. وفي مرسل سعيد من رواية داود عنه " والله ما لعيالي من طعام " وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة " ما لنا عشاء ليلة". قوله: (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه) في رواية ابن إسحاق " حتى بدت نواجذه " ولأبي قرة في " السنن " عن ابن جريج " حتى بدت ثناياه " ولعلها تصحيف من أنيابه فإن الثنايا تبين بالتبسم غالبا وظاهر السياق إرادة الزيادة على التبسم، ويحمل ما ورد في صفته صلى الله عليه وسلم أن ضحكه كان تبسما على غالب أحواله، وقيل كان لا يضحك إلا في أمر يتعلق بالآخرة فإن كان في أمر الدنيا لم يزد على التبسم، قيل وهذه القضية تعكر عليه وليس كذلك فقد قيل إن سبب ضحكه صلى الله عليه وسلم كان من تباين حال الرجل حيث جاء خائفا على نفسه راغبا في فدائها مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة طمع في أن يأكل ما أعطيه من الكفارة، وقيل ضحك من حال الرجل في مقاطع كلامه وحسن تأتيه وتلطفه في الخطاب وحسن توسله في توصله إلى مقصوده. قوله: (ثم قال أطعمه أهلك) تابعه معمر وابن أبي حفصة. وفي رواية لابن عيينة في الكفارات " أطعمه عيالك " ولإبراهيم بن سعد " فأنتم إذا " وقدم على ذلك ذكر الضحك، ولأبي قرة عن ابن جريج " ثم قال كله " ونحوه ليحيى بن سعيد وعراك، وجمع بينهما ابن إسحاق ولفظه " خذها وكلها وأنفقها على عيالك " ونحوه في رواية عبد الجبار وحجاج وهشام بن سعد كلهم عن الزهري، ولابن خزيمة في حديث عائشة " عد به عليك وعلى أهلك " وقال ابن دقيق العيد: تباينت في هذه القصة المذاهب فقيل إنه دل على سقوط الكفارة بالإعسار المقارن لوجوبها لأن الكفارة لا تصرف إلى النفس ولا إلى العيال، ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم استقرارها في ذمته إلى حين يساره، وهو أحد قولي الشافعية وجزم به عيسى ابن دينار من المالكية. وقال الأوزاعي: يستغفر الله ولا يعود. ويتأيد ذلك بصدقة الفطر حيث تسقط بالإعسار المقارن لسبب وجوبها وهو هلال الفطر، لكن الفرق بينهما أن صدقة الفطر لها أمد تنتهي إليه، وكفارة الجماع لا أمد لها فتستقر في الذمة، وليس في الخبر ما يدل على إسقاطها بل فيه ما يدل على استمرارها على العاجز. وقال الجمهور: لا تسقط الكفارة بالإعسار، والذي أذن له في التصرف فيه ليس على سبيل الكفارة. ثم اختلفوا فقال الزهري: هو خاص بهذا الرجل، وإلى هذا نحا إمام الحرمين، ورد بأن الأصل عدم الخصوصية. وقال بعضهم: هو منسوخ، ولم يبين قائله ناسخه، وقيل: المراد بالأهل الذين أمر بصرفها إليهم من لا تلزمه نفقته من أقاربه، وهو قول بعض الشافعية، وضعف بالرواية الأخرى التي فيها عيالك، وبالرواية المصرحة بالإذن له في الأكل من ذلك، وقيل لما كان عاجزا عن نفقة أهله جاز له أن يصرف الكفارة لهم، وهذا هو ظاهر الحديث، وهو الذي حمل أصحاب الأقوال الماضية على ما قالوه بأن المرء لا يأكل من كفارة نفسه. قال الشيخ تقي الدين: وأقوى من ذلك أن يجعل الإعطاء لا على جهة الكفارة بل على جهة التصدق عليه وعلى أهله بتلك الصدقة لما ظهر من حاجتهم، وأما الكفارة فلم تسقط بذلك، ولكن ليس استقرارها في ذمته مأخوذا من هذا الحديث. وأما ما اعتلوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه، لأن العلم بالوجوب قد تقدم، ولم يرد في الحديث ما يدل على الإسقاط لأنه لما أخبره بعجزه ثم أمره بإخراج العرق دل على أن لا سقوط عن العاجز، ولعله أخر البيان إلى وقت الحاجة وهو القدرة ا ه. وقد ورد ما يدل على إسقاط الكفارة أو على إجزائها عنه بإنفاقه إياها على عياله وهو قوله في حديث علي " وكله أنت وعيالك فقد كفر الله عنك " ولكنه حديث ضعيف لا يحتج بما انفرد به، والحق أنه لما قال له صلى الله عليه وسلم خذ هذا فتصدق به لم يقبضه بل اعتذر بأنه أحوج إليه من غيره فأذن له حينئذ في أكله، فلو كان قبضه لملكه ملكا مشروطا بصفة وهو إخراجه عنه في كفارته فينبني على الخلاف المشهور في التمليك المقيد بشرط، لكنه لما لم يقبضه لم يملكه، فلما أذن له صلى الله عليه وسلم في إطعامه لأهله وأكله منه كان تمليكا مطلقا بالنسبة إليه وإلى أهله وأخذهم إياه بصفة الفقر المشروحة، وقد تقدم أنه كان من مال الصدقة، وتصرف النبي صلى الله عليه وسلم فيه تصرف الإمام في إخراج مال الصدقة، واحتمل إنه كان تمليكا بالشرط الأول ومن ثم نشأ الإشكال، والأول أظهر فلا يكون فيه إسقاط ولا أكل المرء من كفارة نفسه ولا إنفاقه على من تلزمه نفقتهم من كفارة نفسه. وأما ترجمة البخاري الباب الذي يليه " باب المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج " فليس فيه تصريح بما تضمنه حكم الترجمة. وإنما أشار إلى الاحتمالين المذكورين بإتيانه بصيغة الاستفهام والله أعلم. واستدل به على جواز إعطاء الصدقة جميعها في صنف واحد، وفيه نظر لأنه لم يتعين أن ذلك القدر هو جميع ما يجب على ذلك الرجل الذي أحضر التمر، وعلى سقوط قضاء اليوم الذي أفسده الجامع اكتفاء بالكفارة، إذ لم يقع التصريح في الصحيحين بقضائه وهو محكي في مذهب الشافعي، وعن الأوزاعي يقضي إن كفر بغير الصوم وهو وجه للشافعية أيضا، قال ابن العربي: إسقاط القضاء لا يشبه منصب الشافعي إذ لا كلام في القضاء لكونه أفسد العبادة وأما الكفارة فإنما هي لما اقترف من الإثم، قال: وأما كلام الأوزاعي فليس بشيء. قلت: وقد ورد الأمر بالقضاء في هذا الحديث في رواية أبي أويس وعبد الجبار وهشام بن سعد كلهم عن الزهري، وأخرجه البيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الليث عن الزهري، وحديث إبراهيم بن سعد في الصحيح عن الزهري نفسه بغير هذه الزيادة، وحديث الليث عن الزهري في الصحيحين بدونها، ووقعت الزيادة أيضا في مرسل سعيد بن المسيب ونافع بن جبير والحسن ومحمد بن كعب، وبمجموع هذه الطرق تعرف أن لهذه الزيادة أصلا، ويؤخذ من قوله " صم يوما " عدم اشتراط الفورية للتنكير في قوله " يوما". وفي الحديث من الفوائد - غير ما تقدم - السؤال عن حكم ما يفعله المرء مخالفا للشرع، والتحدث بذلك لمصلحة معرفة الحكم، واستعمال الكناية فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه لقوله واقعت أو أصبت، على أنه قد ورد في بعض طرقه - كما تقدم - وطئت، والذي يظهر أنه من تصرف الرواة. وفيه الرفق بالمتعلم والتلطف في التعليم والتألف على الدين، والندم على المعصية، واستشعار الخوف. وفيه الجلوس في المسجد لغير الصلاة من المصالح الدينية كنشر العلم، وفيه جواز الضحك عند وجود سببه، وإخبار الرجل بما يقع منه مع أهله للحاجة. وفيه الحلف لتأكيد الكلام، وقبول قول المكلف مما لا يطلع عليه إلا من قبله لقوله في جواب قوله أفقر منا أطعمه أهلك ويحتمل أن يكون هناك قرينة لصدقه. وفيه التعاون على العبادة والسعي في إخلاص المسلم وإعطاء الواحد فوق حاجته الراهنة، وإعطاء الكفارة أهل بيت واحد، وأن المضطر إلى ما بيده لا يجب عليه أن يعطيه أو بعضه لمضطر آخر. |
08-21-2013, 04:39 PM | #536 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ هَلْ يُطْعِمُ أَهْلَهُ مِنْ الْكَفَّارَةِ إِذَا كَانُوا مَحَاوِيجَ الشرح:
قوله: (باب المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج) ؟ يعني أم لا؟ ولا منافاة بين هذه الترجمة والتي قبلها، لأن التي قبلها آذنت بأن الإعسار بالكفارة لا يسقطها عن الذمة لقوله فيها " إذا جامع ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر " والثانية ترددت هل المأذون له بالتصرف فيه نفس الكفارة أم لا؟ وعلى هذا يتنزل لفظ الترجمة. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ الْأَخِرَ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ فَقَالَ أَتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رَقَبَةً قَالَ لَا قَالَ فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا قَالَ أَفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لَا قَالَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَهُوَ الزَّبِيلُ قَالَ أَطْعِمْ هَذَا عَنْكَ قَالَ عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا قَالَ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ الشرح: قوله: (عن منصور) هو ابن المعتمر. قوله: (عن الزهري عن حميد) كذا للأكثر من أصحاب منصور عنه، وكذا رواه مؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن منصور، وخالفه مهران بن أبي عمر فرواه عن الثوري بهذا الإسناد فقال " عن سعيد ابن المسيب " بدل حميد بن عبد الرحمن أخرجه ابن خزيمة، وهو قول شاذ والمحفوظ الأول. قوله: (إن الأخر) بهمزة غير ممدودة بعدها خاء معجمة مكسورة، تقدم في أوائل الباب الذي قبله، وحكى ابن القوطية فيه مد الهمزة. قوله: (أتجد ما تحرر رقبة) ؟ بالنصب على البدل من لفظ " ما " وهي مفعول بتجد، ومثله قوله " أفتجد ما تطعم ستين مسكينا " وقد تقدم باقي الكلام عليه مستوفى في الذي قبله، وقد اعتنى به بعض المتأخرين ممن أدركه شيوخنا فتكلم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة، ومحصله إن شاء الله تعالى فيما لخصته مع زيادات كثيرة عليه، فلله الحمد على ما أنعم. *3*باب الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ وَقَالَ لِي يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا قَاءَ فَلَا يُفْطِرُ إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلَا يُولِجُ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ تَرَكَهُ فَكَانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلًا وَيُذْكَرُ عَنْ سَعْدٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأُمِّ سَلَمَةَ احْتَجَمُوا صِيَامًا وَقَالَ بُكَيْرٌ عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَا تَنْهَى وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَقَالَ لِي عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ قِيلَ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ الشرح: قوله: (باب الحجامة والقيء للصائم) أي هل يفسدان هما أو أحدهما الصوم أو لا؟ قال الزين بن المنير: جمع بين القيء والحجامة مع تغايرهما، وعادته تفريق التراجم إذا نظمها خبر واحد فضلا عن خبرين، وإنما صنع ذلك لاتحاد مأخذهما لأنهما إخراج والإخراج لا يقتضي الإفطار، وقد أومأ ابن عباس إلى ذلك كما سيأتي البحث فيه، ولم يذكر المصنف حكم ذلك، ولكن إيراده للآثار المذكورة يشعر بأنه يرى عدم الإفطار بهما، ولذلك عقب حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " بحديث " أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم " وقد اختلف السلف في المسألتين: أما القيء فذهب الجمهور إلى التفرقة بين من سبقه فلا يفطر وبين من تعمده فيفطر، ونقل ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء، لكن نقل ابن بطال عن ابن عباس وابن مسعود لا يفطر مطلقا وهي إحدى الروايتين عن مالك، واستدل الأبهري بإسقاط القضاء عمن تقيأ عمدا بأنه لا كفارة عليه على الأصح عندهم قال فلو وجب القضاء لوجبت الكفارة، وعكس بعضهم فقال هذا يدل على اختصاص الكفارة بالجماع دون غيره من المفطرات، وارتكب عطاء والأوزاعي وأبو ثور فقالوا يقضي ويكفر، ونقل ابن المنذر أيضا الإجماع على ترك القضاء على من ذرعه القيء ولم يتعمده إلا في إحدى الروايتين عن الحسن. وأما الحجامة فالجمهور أيضا على عدم الفطر بها مطلقا، وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء. وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا. وقال بقول أحمد من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابوري وابن حبان. ونقل الترمذي عن الزعفران أن الشافعي علق القول على صحة الحديث، وبذلك قال الداودي من المالكية، وحجة الفريقين قد ذكرها المصنف في هذا الباب، وسنذكر البحث في ذلك في آخر الباب إن شاء الله تعالى. قوله: (وقال لي يحيى بن صالح) هكذا وقع في جميع النسخ من الصحيح، وعادة البخاري الإتيان بهذه الصيغة في الموقوفات إذا أسندها. وقوله في الإسناد " حدثنا يحيى " هو ابن أبي كثير. قوله: (إذا قاء فلا يفطر، إنما يخرج ولا يولج) كذا للأكثر، وللكشميهني " أنه يخرج ولا يولج " قال ابن المنير في الحاشية يؤخذ من هذا الحديث أن الصحابة كانوا يؤولون الظاهر بالأقيسة من حيث الجملة، ونقض غيره هذا الحضر بالمني فإنه إنما يخرج، وهو موجب للقضاء والكفارة. قوله: (ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر، والأول أصح) كأنه يشير بذلك إلى ما رواه هو في " التاريخ الكبير " قال: قال لي مسدد عن عيسى بن يونس حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رفعه قال " من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه القضاء، وإن استقاء فليقض " قال البخاري: لم يصح، وإنما يروى عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة وعبد الله ضعيف جدا. ورواه الدارمي من طريق عيسى بن يونس، ونفل عن عيسى أنه قال: زعم أهل البصرة أن هشاما وهم فيه. وقال أبو داود سمعت أحمد يقول: ليس من ذا شيء. ورواه أصحاب السنن الأربعة والحاكم من طريق عيسى بن يونس به وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من رواية عيسى بن يونس عن هشام. وسألت محمدا عنه فقال: لا أراه محفوظا. انتهى. وقد أخرجه ابن ماجة والحاكم من طريق حفص بن غياث أيضا عن هشام قال: وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة ولا يصح إسناده ولكن العمل عليه عند أهل العلم. قلت: ويمكن الجمع بين قول أبي هريرة " إذا قاء لا يفطر " وبين قوله " إنه يفطر " مما فصل في حديثه هذا المرفوع، فيحتمل قوله قاء أنه تعمد القيء واستدعى به، وبهذا أيضا يتأول قوله في حديث أبي الدرداء الذي أخرجه أصحاب السنن مصححا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر أي استقاء عمدا، وهو أولى من تأويل من أوله بأن المعنى قاء فضعف فأفطر والله أعلم، حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم. وقال الطحاوي: ليس في الحديث أن القيء فطره، وإنما فيه أنه قاء فأفطر بعد ذلك. وتعقبه ابن المنير بأن الحكم إذا عقب بالفاء دل على أنه العلة كقولهم سها فسجد. قوله: (وقال ابن عباس وعكرمة الصوم مما دخل، وليس مما خرج) أما قول ابن عباس فوصله ابن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في الحجامة للصائم قال: الفطر مما دخل وليس مما خرج، والوضوء مما خرج وليس مما دخل، وروى من طريق إبراهيم النخعي أنه سئل عن ذلك فقال " قال عبد الله يعني ابن مسعود فذكر مثله " وإبراهيم لم يلق ابن مسعود وإنما أخذ عن كبار أصحابه، وأما قول عكرمة فوصله ابن أبي شيبة عن هشيم عن حصين عن عكرمة مثله. قوله: (وكان ابن عمر يحتجم وهو صائم ثم تركه فكان يحتجم بالليل) وصله مالك في " الموطأ " عن نافع عن ابن عمر " أنه احتجم وهو صائم، ثم ترك ذلك، وكان إذا صام لم يحتجم حتى يفطر ورويناه في نسخة أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس عن الزهري " كان ابن عمر يحتجم وهو صائم في رمضان وغيره، ثم تركه لأجل الضعف " هكذا وجدته منقطعا، ووصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه، وكان ابن عمر كثير الاحتياط، فكأنه ترك الحجامة نهارا لذلك. قوله: (واحتجم أبو موسى ليلا) وصله ابن أبي شيبة من طريق حميد الطويل " عن بكر بن عبد الله المزني عن أبي العالية قال: " دخلت على أبي موسى وهو أمير البصرة ممسيا فوجدته يأكل تمرا وكامخا وقد احتجم، فقلت له ألا تحتجم نهارا؟ قال: أتأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم "؟ ورواه النسائي والحاكم من طريق مطر الوراق " عن بكر أن أبا رافع قال: دخلت على أبي موسى وهو يحتجم ليلا فقلت: ألا كان هذا نهارا؟ فقال: أتأمرني أن أهريق دمي وأنا صائم، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفطر الحاجم والمحجوم " قال الحاكم سمعت أبا على النيسابوري يقول: قلت لعبدان الأهوازي يصح في " أفطر الحاجم والمحجوم " شيء؟ قال سمعت عباسا العنبري يقول سمعت علي بن المديني يقول: قد صح حديث أبي رافع عن أبي موسى. قلت: إلا أن مطرا خولف في رفعه فالله أعلم. قوله: (ويذكر عن سعد وزيد بن أرقم وأم سلمة أنهم احتجموا صياما) هكذا أخرجه بصيغة التمريض، والسبب في ذلك يظهر بالتخريج، فأما أثر سعد وهو ابن أبي وقاص فوصله مالك في " الموطأ " عن ابن شهاب " أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر كانا يحتجمان وهما صائمان " وهذا منقطع عن سعد، لكن ذكره ابن عبد البر من وجه آخر عن عامر بن سعد عن أبيه، وأما أثر زيد بن أرقم فوصله عبد الرزاق " عن الثوري عن يونس بن عبد الله الجرمي عن دينار قال: حجمت زيد بن أرقم وهو صائم " ودينار هو الحجام مولى جرم بفتح الجيم لا يعرف إلا في هذا الأثر. وقال أبو الفتح الأزدي لا يصح حديثه. وأما أثر أم سلمة فوصله ابن أبي شيبة من طريق الثوري أيضا " عن فرات عن مولى أم سلمة أنه رأى أم سلمة تحتجم وهي صائمة " وفرات هو ابن عبد الرحمن ثقة لكن مولى أم سلمة مجهول الحال. قال ابن المنذر: وممن رخص في الحجامة للصائم أنس وأبو سعيد والحسين بن علي وغيرهم من الصحابة والتابعين، ثم ساق ذلك بأسانيده. قوله: (وقال بكير عن أم علقمة: كنا نحتجم عند عائشة فلا ننهى) أما بكير فهو ابن عبد الله ابن الأشج، وأما أم علقمة فاسمها مرجانة. وقد وصله البخاري في تاريخه من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن أم علقمة قالت " كنا نحتجم عند عائشة ونحن صيام وبنو أخي عائشة فلا تنهاهم". قوله: (ويروى عن الحسن عن غير واحد مرفوعا: أفطر الحاجم والمحجوم) وصله النسائي من طرق عن أبي حرة عن الحسن به. وقال علي بن المديني: روى يونس عن الحسن حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " عن أبي هريرة، ورواه قتادة عن الحسن عن ثوبان، ورواه عطاء بن السائب عن الحسن عن معقل بن يسار، ورواه مطر عن الحسن عن علي، ورواه أشعث عن الحسن عن أسامة، زاد الدار قطني في " العلل " أنه اختلف على عطاء بن السائب في الصحابي فقيل: معقل بن يسار المزني، وقبل معقل ابن سنان الأشجعي، وروي عن عاصم عن الحسن عن معقل بن يسار أيضا، وقيل عن مطر عن الحسن عن معاذ. واختلف على قتادة عن الحسن في الصحابي فقيل أيضا على، وقيل أبو هريرة. قلت: واختلف على يونس أيضا كما سأذكره. قال: وقال أبو حرة " عن الحسن عن غير واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال فإن كان حفظه صحت الأقوال كلها. قلت: لم ينفرد به أبو حرة كما سأبينه. قوله: (وقال لي عياش) بتحتانية ومعجمة، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى. قوله: (حدثنا يونس) هو ابن عبيد (عن الحسن) مثله أي " أفطر الحاجم والمحجوم". قوله: (قيل له: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم. ثم قال: الله أعلم) وهذا متابع لأبي حرة عن الحسن، وقد أخرجه البخاري في تاريخه والبيهقي أيضا من طريقه قال حدثني عياش فذكره، رواه عن ابن المديني في " العلل " والبيهقي أيضا من طريقه قال حدثنا المعتمر هو ابن سليمان التيمي عن أبيه عن الحسن عن غير واحد به، ورواية يونس عن الحسن عن أبي هريرة عند النسائي من طريق عبد الوهاب الثقفي عن يونس، وأخرجه من طريق بشر بن المفضل عن يونس عن الحسن قوله، وذكره الدار قطني من طريق عبيد الله بن تمام عن يونس عن الحسن عن أسامة، والاختلاف على الحسن في هذا الحديث واضح لكن نقل الترمذي في " العلل الكبير " عن البخاري أنه قال: يحتمل أن يكون سمعه عن غير واحد، وكذا قال الدار قطني في " العلل " إن كان قول الحسن عن غير واحد من الصحابة محفوظا صحت الأقوال كلها. قلت: يريد بذلك انتفاء الاضطراب، وإلا فالحسن لم يسمع من أكثر للمذكورين. ثم الظاهر من السياق أن الحسن كان يشك في رفعه وكأنه حصل له بعد الجزم تردد، وحمل الكرماني جزمه على وثوقه بخبر من أخبره به، وتردده لكونه خبر واحد فلا يفيد اليقين، وهو حمل في غاية البعد. ونقل الترمذي أيضا عن البخاري يعني عن أبي قلابة، قال: كلاهما عندي صحيح لأن يحيى بن أبي كثير روي عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، وعن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد روى الحديثين جميعا، يعني فانتفى الاضطراب وتعين الجمع بذلك. وكذا قال عثمان الدارمي: صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم من طريق ثوبان وشداد قال: وسمعت أحمد يذكر ذلك. وقال المروزي: قلت لأحمد إن يحيى بن معين قال ليس فيه شيء يثبت، فقال: هذا مجازفة. وقال ابن خزيمة: صح الحديثان جميعا، وكذا قال ابن حبان والحاكم، وأطنب النسائي في تخريج طرق هذا المتن وبيان الاختلاف فيه فأجاد وأفاد. وقال أحمد: أصح بشيء في باب " أفطر الحاجم والمحجوم " حديث رافع بن خديج. قلت: يريد ما أخرجه هو والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق معمر عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن السائب ابن يزيد عن رافع، لكن عارض أحمد يحيى بن معين في هذا فقال: حديث رافع أضعفها. وقال البخاري: هو غير محفوظ. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هو عندي باطل. وقال الترمذي: سألت إسحاق بن منصور عنه فأبي أن يحدثني به عن عبد الرزاق وقال: هو غلط، قلت ما علته؟ قال: روى هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد حديث " مهر البغي خبيث " وروى عن يحيى عن أبي قلابة أن أبا أسماء حدثه أن ثوبان أخبره به، فهذا هو المحفوظ عن يحيى، فكأنه دخل لمعمر حديث في حديث والله أعلم. وقال الشافعي في " اختلاف الحديث " بعد أن أخرج حديث شداد ولفظه " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان الفتح فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان فقال وهو آخذ بيدي: أفطر الحاجم والمحجوم، ثم ساق حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم قال: وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادا، فإن توقى أحد الحجامة كان أحب إلى احتياطا، والقياس مع حديث ابن عباس، والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة. قلت: وكأن هذا هو السر في إيراد البخاري لحديث ابن عباس عقب حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " وحكى الترمذي عن الزعفراني أن الشافعي علق القول بأن الحجامة تفطر على صحة الحديث، قال الترمذي: كان الشافعي يقول ذلك ببغداد وأما بمصر فمال إلى الرخصة والله أعلم. وأول بعضهم حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " أن المراد به أنهما سيفطران كقوله تعالى (إني أراني أعصر خمرا) أي ما يؤول إليه، ولا يخفى تكلف هذا التأويل، ويقربه ما قال البغوي في " شرح السنة " معنى قوله " أفطر الحاجم والمحجوم ": أي تعرضا للإفطار، أما الحاجم فلأنه لا يأمن وصول شيء من الدم إلى جوفه عند المص، وأما المحجوم فلأنه لا يأمن ضعف قوته بخروج الدم فيؤول أمره إلى أن يفطر، وقيل معنى أفطرا فعلا مكروها وهو الحجامة فصارا كأنهما غير متلبسين بالعبادة، وسأذكر بقية كلامهم في الحديث الذي يليه. الحديث: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ الشرح: قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم) هكذا أخرجه من طريق وهيب عن عكرمة عن ابن عباس، وتابعه عبد الوارث عن أيوب موصولا كما سيأتي في الطب، ورواه ابن علية ومعمر عن أيوب عن عكرمة مرسلا واختلف على حماد بن زيد في وصله وإرساله، وقد بين ذلك النسائي. وقال مهنا: سألت أحمد عن هذا الحديث فقال ليس فيه " صائم " إنما هو " وهو محرم"، ثم ساقه من طرق عن ابن عباس لكن ليس فيها طريق أيوب هذه، والحديث صحيح لا مرية فيه. قال ابن عبد البر وغيره: فيه دليل على أن حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " منسوخ لأنه جاء في بعض طرقه أن ذلك كان في حجة الوداع، وسبق إلى ذلك الشافعي، واعترض ابن خزيمة بأن في هذا الحديث أنه كان صائما محرما، قال ولم يكن قط محرما مقيما ببلده إنما كان محرما وهو مسافر، والمسافر إن كان ناويا للصوم فمضى عليه بعض النهار وهو صائم أبيح له الأكل والشرب على الصحيح، فإذا جاز له ذلك جاز له أن يحتجم وهو مسافر، قال: فليس في خبر ابن عباس ما يدل على إفطار المحجوم فضلا عن الحاجم ا ه. وتعقب بأن الحديث ما ورد هكذا إلا لفائدة، فالظاهر أنه وجدت منه الحجامة وهو صائم لم يتحلل من صومه واستمر. وقال ابن خزيمة أيضا: جاء بعضهم بأعجوبة فزعم أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال " أفطر الحاجم والمحجوم " لأنهما كانا يغتابان، قال فإذا قيل له فالغيبة تفطر الصائم؟ قال لا، قال فعلى هذا لا يخرج من مخالفة الحديث بلا شبهة. انتهى. وقد أخرج الحديث المشار إليه الطحاوي وعثمان الدارمي والبيهقي في " المعرفة " وغيرهم من طريق يزيد بن أبي ربيعة عن أبي الأشعث عن ثوبان، ومنهم من أرسله، ويزيد بن ربيعة متروك وحكم علي بن المديني بأنه حديث باطل. وقال ابن حزم: صح حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد " أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم " وإسناده صحيح فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما. انتهى. والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدار قطني ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه، وله شاهد من حديث أنس أخرجه الدار قطني ولفظه " أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان. ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم. وكان أنس يحتجم وهو صائم " ورواته كلهم من رجال البخاري، إلا أن في المتن ما ينكر لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك. ومن أحسن ما ورد في ذل: ما رواه عبد الرزاق وأبو داود من طريق عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نهى النبي عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه " إسناده صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر، وقوله "إبقاء على أصحابه " يتعلق بقوله نهى، وقد رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بإسناده هذا ولفظه " عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وكرهها للضعيف " أي لئلا يضعف. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ قَالَ لَا إِلَّا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ وَزَادَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (سمعت ثابتا البناني قال: سئل أنس بن مالك) كذا في أكثر أصول البخاري " سئل " بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية أبي الوقت " سأل أنسا " وهذا غلط فإن شعبة ما حضر سؤال ثابت لأنس، وقد سقط منه رجل بين شعبة وثابت فرواه الإسماعيلي وأبو نعيم والبيهقي من طريق جعفر بن محمد القلانسي وأبي قرصافة محمد بن عبد الوهاب وإبراهيم بن الحسين بن دريد كلهم عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري فيه فقال " عن شعبة عن حميد قال سمعت ثابتا وهو يسأل أنس بن مالك " فذكر الحديث، وأشار الإسماعيلي والبيهقي إلى أن الرواية التي وقعت للبخاري خطأ وأنه سقط منه حميد، قال الإسماعيلي: وكذلك رواه على بن سهل عن أبي النضر عن شعبة عن حميد. قوله: (وزاد شبابة حدثنا: شعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) هذا يشعر بأن رواية شبابة موافقة لرواية آدم في الإسناد والمتن إلا أن شبابة زاد فيه ما يؤكد رفعه. وقد أخرج ابن منده في " غرائب شعبة " طريق شبابة فقال " حدثنا محمد بن أحمد بن حاتم حدثنا عبد الله بن روح حدثنا شبابة حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد " وبه " عن شبابة عن شعبة عن حميد عن أنس " نحوه وهذا يؤكد صحة ما اعترض به الإسماعيلي ومن تبعه ويشعر بأن الخلل فيه من غير البخاري، إذ لو كان إسناد شبابة عنده مخالفا لإسناد آدم لبينه وهو واضح لا خفاء به، والله أعلم بالصواب |
08-21-2013, 04:42 PM | #537 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَالْإِفْطَارِ الشرح:
قوله: (باب الصوم في السفر والإفطار) أي إباحة ذلك وتخيير المكلف فيه سواء كان رمضان أو غيره، وسأذكر بيان الاختلاف في ذلك بعد باب، وذكر المؤلف في الباب حديث عبد الله بن أبي أوفى وسيأتي الكلام عليه بعد أبواب وموضع الدلالة منه ما يشعر به سياقه من مراجعة الرجل له بكون الشمس لم تغرب في جواب طلبه لما يشير به، فهو ظاهر في أنه كان صلى الله عليه وسلم صائما، وقد كره في " باب متى يحل فطر الصائم " وفي غيره بلفظ صريح في ذلك حيث قال " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم" الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فَشَرِبَ ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَا هُنَا ثُمَّ قَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ تَابَعَهُ جَرِيرٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ الشرح: قوله: (الشمس يا رسول الله) بالرفع، ويجوز النصب وتوجيههما ظاهر. قوله: (تابعه جرير وأبو بكر بن عياش عن الشيباني) يعني تابعا سفيان وهو ابن عيينة، والشيباني هو أبو إسحاق شيخهم فيه، ومتابعة جرير وصلها المؤلف في الطلاق، ومتابعة أبي بكر ستأتي موصولة بعد قليل في " باب تعجيل الإفطار " وتابعهم غير من ذكر كما سيأتي ولفظهم متقارب، والمراد المتابعة في أصل الحديث. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْرُدُ الصَّوْمَ الشرح: قوله: (حدثنا يحيى) هو القطان، وهشام هو ابن عروة. قوله: (أن حمزة بن عمرو الأسلمي) هكذا رواه الحفاظ عن هشام. وقال عبد الرحيم بن سليمان عند النسائي والدراوردي عند الطبراني ويحيى بن عبد الله بن سالم عند الدار قطني ثلاثتهم عن هشام عن أبيه عن عائشة عن حمزة بن عمرو جعلوه من مسند حمزة والمحفوظ أنه من مسند عائشة، ويحتمل أن يكون هؤلاء لم يقصدوا بقولهم " عن حمزة " الرواية عنه وإنما أرادوا الإخبار عن حكايته فالتقدير عن عائشة عن قصة حمزة أنه سأل، لكن قد صح مجيء الحديث من رواية حمزة، فأخرجه مسلم من طريق أبي الأسود عن عروة عن أبي مراوح عن حمزة، وكذلك رواه محمد بن إبراهيم التيمي عن عروة لكنه أسقط أبا مراوح والصواب إثباته، وهو محمول على أن لعروة فيه طريقين: سمعه من عائشة، وسمعه من أبي مراوح عن حمزة. قوله: (أسرد الصوم) أي أتابعه، واستدل به على أن لا كراهية في صيام الدهر، ولا دلالة فيه لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، فإن ثبت النهي عن صوم الدهر لم يعارضه هذا الإذن بالسرد، بل الجمع بينهما واضح. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ الشرح: قوله: (أأصوم في السفر الخ) قال ابن دقيق العيد: ليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان فلا يكون فيه حجة على من منع صيام رمضان في السفر. قلت: وهو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية أبي مراوح التي ذكرتها عند مسلم أنه قال " يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله، فن أخذ بها حسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام، الفريضة، وذلك أن الرخصة إنما تطلق في مقابلة ما هو واجب. وأصرح من ذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم من طريق محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه أنه قال " يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه وأكريه، وأنه ربما صادفني هذا الشهر - يعني رمضان - وأنا أجد القوة، وأجدني أن أصوم أهون علي من أن أوخره فيكون دينا علي، فقال: أي ذلك شئت يا حمزة". *3*باب إِذَا صَامَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ الشرح: قوله (باب إذا صام أياما من رمضان ثم سافر) أي هل يباح له الفطر أو لا، وكأنه أشار إلى تضعيف ما روي عن علي، وإلى رد ما روي عن غيره في ذلك، قال ابن المنذر: روي عن علي بإسناد ضعيف. وقال به عبيدة بن عمرو وأبو مجلز وغيرهما ونقله النووي عن أبي مجلز وحده، ووقع في بعض الشروح أبو عبيدة وهو وهم، قالوا: إن من استهل عليه رمضان في الحضر ثم سافر بعد ذلك فليس له أن يفطر لقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) قال: وقال اكثر أهل العلم لا فرق بينه وبين من استهل رمضان في السفر، ثم ساق ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) نسخها قوله تعالى (ومن كان مريضا أو على سفر) الآية. ثم احتج للجمهور بحديث ابن عباس المذكور في هذا الباب. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَالْكَدِيدُ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ الشرح: قوله: (خرج إلى مكة) كان ذلك في غزوة الفتح كما سيأتي. قوله: (فلما بلغ الكديد) بفتح الكاف وكسر الدال المهملة مكان معروف وقع تفسيره في نفس الحديث بأنه بين عسفان وقديد، يعني بضم القاف على التصغير. ووقع في رواية المستملي وحده نسبة هذا التفسير للبخاري، لكن سيأتي في المغازي موصولا من وجه آخر في نفس الحديث، وسيأتي قريبا عن ابن عباس من وجه آخر " حتى بلغ عسفان " بدل الكديد، وفيه مجاز القرب لأن الكديد أقرب إلى المدينة من عسفان، وبين الكديد ومكة مرحلتان، قال البكري: هو بين أمج - بفتحتين وجيم - وعسفان وهو ماء عليه نخل كثير. ووقع عند مسلم في حديث جابر " فلما بلغ كراع الغميم " هو بضم الكاف والغميم بفتح المعجمة وهو اسم واد أمام عسفان، قال عياض: اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر صلى الله عليه وسلم فيه، والكل في قصة واحدة وكلها متقاربة والجميع من عمل عسفان ا ه، وسيأتي في المغازي من طريق معمر عن الزهري سياق هذا الحديث أوضح من رواية مالك، ولفظ رواية معمر " خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف من المسلمين، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة فسار ومن معه من المسلمين يصوم ويصومون حتى بلغ الكديد فأفطر وأفطروا، قال الزهري: وإنما يؤخذ بالآخرة فالآخرة من أمره صلى الله عليه وسلم، وهذه الزيادة التي في آخره من قول الزهري، وقعت مدرجة عند مسلم من طريق الليث عن الزهري ولفظه " حتى بلغ الكديد أفطر، قال وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره " وأخرجه من طريق سفيان عن الزهري قال مثله، قال سفيان: لا أدري من قول من هو، ثم أخرجه من طريق معمر ومن طريق يونس كلاهما عن الزهري، وبينا أنه من قول الزهري، وبذلك جزم البخاري في الجهاد، وظاهره أن الزهري ذهب إلى أن الصوم في السفر منسوخ ولم يوافق على ذلك كما سيأتي قريبا. وأخرج البخاري في المغازي أيضا من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال " خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان والناس صائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحلته ثم نظر الناس " زاد في رواية أخرى من طريق طاوس عن ابن عباس " ثم دعا بماء فشرب نهارا ليراه الناس " وأخرجه الطحاوي من طريق أبي الأسود عن عكرمة أوضح من سياق خالد ولفظه " فلما بلغ الكديد بلغه أن الناس يشق عليهم الصيام، فدعا بقدح من لبن فأمسكه بيده حتى رآه الناس وهو على راحلته ثم شرب فأفطر، فناوله رجلا إلى جنبه فشرب " ولمسلم من طريق الدراوردي عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر في هذا الحديث " فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر " وله من وجه آخر عن جعفر " ثم شرب فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال: أولئك العصاة " واستدل بهذا الحديث على تحتم الفطر في السفر، ولا دلالة فيه كما سيأتي. واستدل به على أن للمسافر أن يفطر في أثناء النهار ولو استهل رمضان في الحضر والحديث نص في الجواز إذ لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم استهل رمضان في عام غزوة الفتح وهو بالمدينة ثم سافر في أثنائه. ووقع في رواية ابن إسحاق في المغازي عن الزهري في حديث الباب أنه خرج لعشر مضين من رمضان، ووقع في مسلم من حديث أبي سعيد اختلاف من الرواة في ضبط ذلك، والذي اتفق عليه أهل السير أنه خرج في عاشر رمضان ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه، واستدل به على أن للمرء أن يفطر ولو نوى الصيام من الليل وأصبح صائما فله أن يفطر في أثناء النهار وهو قول الجمهور وقطع به أكثر الشافعية، وفي وجه ليس له أن يفطر وكأن مستند قائله ما وقع في البويطي من تعليق القول به على صحة حديث ابن عباس هذا، وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر، فأما لو نوى الصوم وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار؟ منعه الجمهور. وقال أحمد وإسحاق بالجواز، واختاره المزني محتجا بهذا الحديث، فقيل له قال كذلك، ظنا منه أنه صلى الله عليه وسلم أفطر في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، وليس كذلك فإن بين المدينة والكديد عدة أيام. وقد وقع في البويطي مثل ما وقع عند المزني فسلم المزني، وأبلغ من ذلك ما رواه ابن أبي شيبة والبيهقي عن أنس أنه كان إذا أراد السفر يفطر في الحضر قبل أن يركب. ثم لا فرق عند المجيزين في الفطر بكل مفطر، وفرق أحمد في المشهور عنه بين الفطر بالجماع وغيره فمنعه في الجماع، قال فلو جامع فعليه الكفارة إلا إن أفطر بغير الجماع قبل الجماع، واعترض بعض المانعين في أصل المسألة فقال: ليس في الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم نوى الصيام في ليله اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون نوى أن يصبح مفطرا ثم أظهر الإفطار ليفطر الناس، لكن سياق الأحاديث ظاهر في أنه كان أصبح صائما ثم أفطر. وقد روى ابن خزيمة وغيره من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، فأتى بطعام فقال لأبي بكر وعمر: ادنوا فكلا، فقالا إنا صائمان، فقال اعملوا لصاحبيكم ارحلوا لصاحبيكم ادنوا فكلا " قال ابن خزيمة: فيه دليل على أن للصائم السفر الفطر بعد مضي بعض النهار. (تنبيه) : قال القابسي: هذا الحديث من مرسلات الصحابة لأن ابن عباس كان في هذه السفرة مقيما مع أبويه بمكة فلم يشاهد هذه القصة، فكأنه سمعها من غيره من الصحابة. *3*باب الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ رَوَاحَةَ الشرح: قوله: (باب) كذا للأكثر بغير ترجمة، وسقط من رواية النسفي، وعلى الحالين لا بد أن يكون لحديث أبي الدرداء المذكور فيه تعلق بالترجمة، ووجهه ما وقع من إفطار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان في السفر بمحضر منه، ولم ينكر عليهم فدل على الجواز، وعلى رد قول من قال: من سافر في شهر رمضان امتنع عليه الفطر. قوله: (عن أم الدرداء) في رواية أبي داود من طريق سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله وهو ابن أبي المهاجر الدمشقي " حدثتني أم الدرداء " والإسناد كله شاميون سوى شيخ البخاري وقد دخل الشام، وأم الدرداء هي الصغرى التابعية. قوله: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره) في رواية مسلم من طريق سعيد بن عبد العزيز أيضا " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد " الحديث، وبهذه الزيادة يتم المراد من الاستدلال، ويتوجه الرد بها على أبي محمد بن حزم في زعمه أن حديث أبي الدرداء هذا لا حجة فيه لاحتمال أن يكون ذلك الصوم تطوعا، وقد كنت ظننت أن هذه السفرة غزوة الفتح لما رأيت في " الموطأ " من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن عن رجل من الصحابة قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج في الحر وهو يصب على رأسه الماء - وهو صائم - من العطش ومن الحر، فلما بلغ الكديد أفطر " فإنه يدل على أن غزاة الفتح كانت في أيام شدة الحر، وقد اتفقت الروايتان على أن كلا من السفرتين كان في رمضان، لكنني رجعت عن ذلك وعرفت أنه ليس بصواب لأن عبد الله بن رواحة استشهد بمؤتة قبل غزوة الفتح بلا خلاف وإن كانتا جميعا في سنة واحدة، وقد استثناه أبو الدرداء في هذه السفرة النبي صلى الله عليه وسلم فصح أنها كانت سفرة أخرى. وأيضا فإن في سياق أحاديث غزوة الفتح أن الذين استمروا من الصحابة صياما كانوا جماعة، وفي هذا أنه عبد الله بن رواحة وحده. وأخرج الترمذي من حديث عمر " غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان يوم بدر ويوم الفتح " الحديث، ولا يصح حمله أيضا على بدر لأن أبا الدرداء لم يكن حينئذ أسلم، وفي الحديث دليل على أن لا كراهية في الصوم في السفر لمن قوى عليه ولم يصبه منه مشقة شديدة. *3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ الشرح: قوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر: ليس من البر الصيام في السفر) أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم "ليس من البر الصيام في السفر " ما ذكره من المشقة، وأن من روى الحديث مجردا فقد اختصر القصة، وبما أشار إليه من اعتبار شدة المشقة يجمع بين حديث الباب والذي قبله، فالحاصل أن الصوم لمن قوى عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه الصوم أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وأن من لم يتحقق المشقة يخير بين الصوم والفطر. وقد اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة: لا يجزئ الصوم في السفر عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر لظاهر قوله تعالى (فعدة من أيام أخر) ولقوله صلى الله عليه وسلم "ليس من البر الصيام في السفر " ومقابلة البر الإثم، وإذا كان آثما بصومه لم يجزئه وهذا قول بعض أهل الظاهر، وحكى عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم، واحتجوا بقوله تعالى (فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) قالوا ظاهره فعليه عدة أو فالواجب عدة، وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة، ومقابل هذا القول قول من قال إن الصوم في السفر لا يجوز إلا لمن خاف على نفسه الهلاك أو المشقة الشديدة حكاه الطبري عن قوم، وذهب أكثر العلماء ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوى عليه ولم يشق عليه. وقال كثير منهم الفطر أفضل عملا بالرخصة وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال آخرون هو مخير مطلقا. وقال آخرون أفضلهما أيسرهما لقوله تعالى (يريد الله بكم اليسر) فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذ ويشق عليه قضاؤه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل وهو قول عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر، والذي يترجح قول الجمهور، ولكن قد يكون الفطر أفضل لمن اشتد عليه الصوم وتضرر به، وكذلك من ظن به الإعراض عن قبول الرخصة كما تقدم نظيره في المسح على الخفين، وسيأتي نظيره في تعجيل الإفطار، وقد روى أحمد من طريق أبي طعمة قال: قال رجل لابن عمر: إني أقوى على الصوم في السفر، فقال له ابن عمر: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة، وهذا محمول على من رغب عن الرخصة لقوله صلى الله عليه وسلم "من رغب عن سنتي فليس مني " وكذلك من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر فقد يكون الفطر أفضل له، وقد أشار إلى ذلك ابن عمر، فروى الطبري من طريق مجاهد قال: إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم قال أصحابك: اكفوا الصائم، ارفعوا للصائم، وقاموا بأمرك. وقالوا فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك. ومن طريق مجاهد أيضا عن جنادة بن أمية عن أبي ذر نحو ذلك، وسيأتي في الجهاد من طريق مؤرق عن أنس نحو هذا مرفوعا حيث قال صلى الله عليه وسلم للمفطرين حيث خدموا الصيام " ذهب المفطرون اليوم بالأجر " واحتج من منع الصوم أيضا بما وقع في الحديث الماضي أن ذلك كان آخر الأمرين، وأن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله، وزعموا أن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ، وتعقب أولا بما تقدم من أن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري، وبأنه استند إلى ظاهر الخبر من أنه صلى الله عليه وسلم أفطر بعد أن صام ونسب من صام إلى العصيان، ولا حجة في شيء من ذلك لأن مسلما أخرج من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصة في السفر ولفظه " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، فنزلنا منزلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر، فنزلنا منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت عزيمة فأفطرنا. ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر " وهذا الحديث نص في المسألة، ومنه يؤخذ الجواب عن نسبته صلى الله عليه وسلم الصائمين إلى العصيان لأنه عزم عليهم فخالفوا، وهو شاهد لما قلناه من أن الفطر أفضل لمن شق عليه الصوم، ويتأكد ذلك إذا كان يحتاج إلى الفطر للتقوى به على لقاء العدو، وروى الطبري في تهذيبه من طريق خيثمة سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر فقال: لقد أمرت غلامي أن يصوم، قال فقلت له فأين هذه الآية (فعدة من أيام أخر) فقال: إنها نزلت ونحن نرتحل جياعا وننزل على غير شبع، وأما اليوم فنرتحل شباعا وننزل على شبع، فأشار أنس إلى الصفة التي يكون فيها الفطر أفضل من الصوم. وأما الحديث المشهور " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " فقد أخرجه ابن ماجة مرفوعا من حديث ابن عمر بسند ضعيف، وأخرجه الطبري من طريق أبي سلمة عن عائشة مرفوعا أيضا وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، ورواه الأثرم من طريق أبي سلمة عن أبيه مرفوعا والمحفوظ عن أبي سلمة عن أبيه موقوفا كذلك أخرجه النسائي وابن المنذر، ومع وقفه فهو منقطع لأن أبا سلمة لم يسمع من أبيه، وعلى تقدير صحته فهو محمول على ما تقدم أولا حيث يكون الفطر أولى من الصوم والله أعلم. وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم "ليس من البر الصيام في السفر " فسلك المجيزون فيه طرقا: فقال بعضهم قد خرج على سبب فيقصر عليه وعلى من كان في مثل حاله، وإلى هذا جنح البخاري في ترجمته، ولذا قال الطبري بعد أن ساق نحو حديث الباب من رواية كعب بن عاصم الأشعري ولفظه " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في حر شديد، فإذا رجل من القوم قد دخل تحت ظل شجرة وهو مضطجع كضجعة الوجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لصاحبكم، أي وجع به؟ فقالوا ليس به وجع، ولكنه صائم وقد اشتد عليه الحر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ليس البر أن تصوموا في السفر، عليكم برخصة الله التي رخص لكم " فكان قوله صلى الله عليه وسلم ذلك لمن كان في مثل ذلك الحال. وقال ابن دقيق العيد: أخذ من هذه القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصة بمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله " ليس من البر الصوم في السفر " على مثل هذه الحالة. قال: والمانعون في السفر يقولون إن اللفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب، قال: وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم، وبين مجرد ورود العام على سبب، فإن بين العامين فرقا واضحا، ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان، وأما السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة لبيان المجملات وتعيين المحتملات كما في حديث الباب. وقال ابن المنير في الحاشية: هذه القصة تشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم؛ وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله والله أعلم. وحمل الشافعي نفى البر المذكور في الحديث على من أبى قبول الرخصة فقال: معنى قوله " ليس من البر " أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو صحيح، قال ويحتمل أن يكون معناه ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم، وجزم ابن خزيمة وغيره بالمعنى الأول. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى مراتب البر، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برأ لأن الإفطار قد يكون أبر من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو مثلا، قال: وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم "ليس المسكين بالطواف " الحديث، فإنه لم يرد إخراجه من أسباب المسكنة كلها، وإنما أراد أن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يجد غني يغنيه ويستحيي أن يسأل ولا يفطن له. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا صَائِمٌ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن عبد الرحمن الأنصاري) عند مسلم من طريق غندر عن شعبة عن محمد ابن عبد الرحمن يعني ابن سعد، ولأبي داود عن أبي الوليد عن شعبة عن محمد بن عبد الرحمن يعني بن سعد ابن زرارة. قوله: (سمعت محمد بن عمرو الخ) أدخل محمد بن عبد الرحمن بن سعد بينه وبين جابر محمد بن عمرو ابن الحسن في رواية شعبة عنه، واختلف في حديثه على يحيى بن أبي كثير فأخرجه النسائي من طريق شعيب ابن إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن حدثني جابر بن عبد الله فذكره، قال النسائي: هذا خطأ، ثم ساقه من طريق الفريابي عن الأوزاعي عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن حدثني من سمع جابرا، ومن طريق علي بن المبارك عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن رجل عن جابر ثم قال: ذكر تسمية هذا الرجل المبهم، فساق طريق شعبة ثم قال هذا هو الصحيح، يعني إدخال رجل بين محمد بن عبد الرحمن وجابر، وتعقبه المزي فقال ظن النسائي أن محمد بن عبد الرحمن شيخ شعبة في هذا الحديث هو محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى بن أبي كثير فيه، وليس كذلك لأن شيخ يحيى هو محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان وشيخ شعبة هو ابن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ا ه. والذي يترجح في نظري أن الصواب مع النسائي، لأن مسلما لما روى الحديث من طريق أبي داود عن شعبة قال في آخره: قال شعبة كان بلغني هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير أنه كان يزيد في هذا الإسناد في هذا الحديث " عليكم برخصة الله التي رخص لكم " فلما سألته لم يحفظه ا ه. والضمير في سألت يرجع إلى محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى لأن شعبة لم يلق يحيى فدل على أن شعبة أخبر أنه كان يبلغه عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن محمد بن عمرو عن جابر في هذا الحديث زيادة، ولأنه لما لقي محمد بن عبد الرحمن شيخ يحيى سأله عنها فلم يحفظها. وأما ما وقع في رواية الأوزاعي عن يحيى أنه نسب محمد بن عبد الرحمن فقال فيه ابن ثوبان فهو الذي اعتمده المزي، لكن جزم أبو حاتم كما نقله عنه ابنه في " العلل " بأن من قال فيه عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان فقد وهم، وإنما هو ابن عبد الرحمن بن سعد ا ه. وقد اختلف فيه مع ذلك على الأوزاعي، وجل الرواة عن يحيى ابن أبي كثير لم يزيدوا على محمد بن عبد الرحمن، لا يذكرون جده ولا جد جده والله أعلم. قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر) تبين من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أنها غزوة الفتح، ولابن خزيمة من طريق حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر " سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان " فذكر نحوه. قوله: (ورجلا قد ظلل عليه) في رواية حماد المذكورة " فشق على رجل الصوم فجعلت راحلته تهيم به تحت الشجرة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأمره أن يفطر " الحديث ولم أقف على اسم هذا الرجل، ولولا ما قدمته من أن عبد الله بن رواحة استشهد قبل غزوة الفتح لأمكن أن يفسر به لقول أبي الدرداء إنه لم يكن من الصحابة في تلك السفرة صائما غيره، وزعم مغلطاي أنه أبو إسرائيل وعزا ذلك لمبهمات الخطيب، ولم يقل الخطيب ذلك في هذه القصة وإنما أورد حديث مالك عن حميد بن قيس وغيره " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس فقالوا نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم " الحديث، ثم قال: هذا الرجل هو أبو إسرائيل القرشي العامري، ثم ساق بإسناده إلى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فنظر إلى رجل من قريش يقال له أبو إسرائيل فقالوا: نذر أن يصوم ويقوم في الشمس " الحديث فلم يزد الخطيب على هذا، وبين القصتين مغايرات ظاهرة أظهرها أنه كان في الحضر في المسجد وصاحب القصة في حديث جابر كان في السفر تحت ظلال الشجر والله أعلم. وفي الحديث استحباب التمسك بالرخصة عند الحاجة إليها، وكراهة تركها على وجه التشديد والتنطيع. (تنبيه) : أوهم كلام صاحب " العمدة " أن قوله صلى الله عليه وسلم "عليكم برخصة الله التي رخص لكم " مما أخرجه مسلم بشرطه، وليس كذلك وإنما هي بقية في الحديث لم يوصل إسنادها كما تقدم بيانه، نعم وقعت عند النسائي موصولة في حديث يحيى بن أبي كثير بسنده، وعند الطبراني من حديث كعب بن عاصيم الأشعري كما تقدم. *3*باب لَمْ يَعِبْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ الشرح: قوله: (باب لم يعب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضا في الصوم والإفطار) أي في الأسفار، وأشار بهذا إلى تأكيد ما اعتمده من تأويل الحديث الذي قبله، وأنه محمول على من بلغ حالة يجهد بها، وأن من لم يبلغ ذلك لا يعاب عليه الصيام ولا الفطر. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ الشرح: قوله: (عن أنس) في رواية أبي خالد عند مسلم عن حميد التصريح بالإخبار بين حميد وأنس، ولفظه عن حميد " خرجت فصمت فقالوا لي أعد، فقلت إن أنسا أخبرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، قال حميد فلقيت ابن أبي مليكة فأخبرني عن عائشة مثله". قوله: (كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم) في حديث أبي سعيد عند مسلم " كنا نغزو مع رسول الله فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ومن وجد ضعفا فأفطر أن ذلك حسن، وهذا التفصيل هو المعتمد، وهو نص رافع للنزاع كما تقدم والله أعلم. (تنبيه) : نقل ابن عبد البر عن محمد بن وضاح أن مالكا تفرد بسياق هذا الحديث على هذا اللفظ، وتعقبه بأن أبا إسحاق الفزاري وأبا ضمرة وعبد الوهاب الثقفي وغيرهم رووه عن حميد مثل مالك. *3*باب مَنْ أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ الشرح: قوله: (باب من أفطر في السفر ليراه الناس) أي إذا كان ممن يقتدي به، وأشار بذلك إلى أن أفضلية الفطر لا تختص بمن أجهده الصوم أو خشي العجب والرياء أو ظن به الرغبة عن الرخصة، بل يلحق بذلك من يقتدي به ليتابعه من وقع له شيء من الأمور الثلاثة ويكون الفطر في حقه في تلك الحالة أفضل لفضيلة البيان. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَرَفَعَهُ إِلَى يَدَيْهِ لِيُرِيَهُ النَّاسَ فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَفْطَرَ فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ الشرح: قوله: (عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس) كذا عنده من طريق أبي عوانة عن منصور عن مجاهد، وكذا أخرجه من طريق جرير عن منصور في المغازي، وأخرجه النسائي من طريق شعبة عن منصور فلم يذكر طاوسا في الإسناد، وكذا أخرجه من طريق الحكم عن مجاهد عن ابن عباس، فيحتمل أن يكون مجاهد أخذه عن طاوس عن ابن عباس ثم لقي ابن عباس فحمله عنه، أو سمعه من ابن عباس وثبته فيه طاوس، وقد تقدم نظير ذلك في حديث ابن عباس في قصة الجريدتين على القبرين في الطهارة. قوله: (فرفعه إلى يده) كذا في الأصول التي وقفت عليها من البخاري، وهو مشكل لأن الرفع إنما يكون باليد، وأجاب الكرماني بأن المعنى يجتمل أن يكون رفعه إلى أقصى طول يده، أي انتهى الرفع إلى أقصى غايتها. قلت. : وقد وقع عند أبي داود عن مسدد عن أبي عوانة بالإسناد المذكور في البخاري " فرفعه إلى فيه " وهذا أوضح، ولعل الكلمة تصحفت، وقد تقدم ما يؤيد ذلك سياق ألفاظ الرواة لهذا الحديث عن ابن عباس وغيره مع بقية مباحث المتن. قوله: (ليراه الناس) كذا للأكثر، والناس بالرفع على الفاعلية. وفي رواية المستملي " ليريه " بضم أوله وكسر الراء وفتح التحتانية والناس بالنصب على المفعولية، ويحتمل أن يكون الناسخ كتب " ليراه الناس " بالياء فلا يكون بين الروايتين اختلاف. قوله: (فكان ابن عباس يقول الخ) فهم ابن عباس من فعله صلى الله عليه وسلم ذلك أنه لبيان الجواز لا للأولوية، وقد تقدم في حديث أبي سعيد جابر عند مسلم ما يوضح المراد. والله أعلم. |
08-21-2013, 04:45 PM | #538 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ نَسَخَتْهَا شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ وَرُخِّصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَتْهَا وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ الشرح: قوله: (باب قوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)) قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع: نسختها (شهر رمضان الذي أنزل فيه - إلى قوله - على ما هداكم ولعلكم تشكرون) أما حديث ابن عمر فوصله في آخر الباب عن عياش وهو بتحتانية ومعجمة، وقد أخرجه عنه أيضا في التفسير وزاد أنه ابن الوليد وهو الرقام، وشيخه عبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى البصري السامي بالمهملة، ولكن لم يعين الناسخ، وقد أخرجه الطبري من طريق عبد الوهاب الثقفي عن عبيد الله بن عمر بلفظ: نسخت هذه الآية (وعلى الذين يطيقونه) التي بعدها (فمن مهد منكم الشهر فليصمه) وعلى هذا فقوله في الترجمة " وفي حديث سلمة نسختها شهر رمضان " أي الآية التي أولها (شهر رمضان) لاشتمالها على موضع النسخ، وقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ، وأما حديث سلمة فوصله في تفسير البقرة بلفظ لما نزلت (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) كان من أراد أن يفطر أفطر وافتدى حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. قوله: (وقال ابن نمير الخ) وصله أبو نعيم في المستخرج والبيهقي من طريقه، ولفظ البيهقي " قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولا عهد لهم بالصيام، فكانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر حتى نزل (شهر رمضان) فاستكثروا ذلك وشق عليهم، فكان من أطعم مسكينا كل يوم ترك الصيام ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك، ثم نسخه (وأن تصوموا خير لكم) فأمروا بالصيام " وهذا الحديث أخرجه أبو داود من طريق شعبة والمسعودي عن الأعمش مطولا في الأذان والقبلة والصيام، واختلف في إسناده اختلافا كثيرا، وطريق ابن نمير هذه أرجحها، وإذا تقرر أن الإفطار والإطعام كان رخصة ثم نسخ لزم أن يصبر الصيام حتما واجبا فكيف يلتئم مع قوله تعالى (وأن تصوموا خير لكم) والخيرية لا تدل على الوجوب بل المشاركة في أصل الخير؟ أجاب الكرماني بأن المعنى فالصوم خير من التطوع بالفدية، والتطوع بها كان سنة، والخير من السنة لا يكون إلا واجبا أي لا يكون شيء خيرا من السنة إلا الواجب، كذا قال ولا يخفى بعده وتكلفه. ودعوى الوجوب في خصوص الصيام في هذه الآية ليست بظاهرة، بل هو واجب مخير، من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم، فنصت الآية على أن الصوم أفضل، وكون بعض الواجب المخير أفضل من بعض لا إشكال فيه، واتفقت هذه الأخبار على أن قوله: (وعلى الذين يطيقونه فدية) منسوخ، وخالف في ذلك ابن عباس فذهب إلى أنها محكمة لكنها مخصوصة بالشيخ الكبير ونحوه، وسيأتي بيان ذلك والبحث فيه في كتاب التفسير إن شاء الله تعالى حيث ذكره المصنف من تفسير البقرة. *3*باب مَتَى يُقْضَى قَضَاءُ رَمَضَانَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا بَأْسَ أَنْ يُفَرَّقَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي صَوْمِ الْعَشْرِ لَا يَصْلُحُ حَتَّى يَبْدَأَ بِرَمَضَانَ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا فَرَّطَ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ يَصُومُهُمَا وَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ طَعَامًا وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُرْسَلًا وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُطْعِمُ وَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ الْإِطْعَامَ إِنَّمَا قَالَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الشرح: قوله: (باب متى يقضي قضاء رمضان؟) أي متى تصام الأيام التي تقضي عن فوات رمضان؟ وليس المراد قضاء القضاء على ما هو ظاهر اللفظ، ومراد الاستفهام هل يتعين قضاؤه متتابعا أو يجوز متفرقا؟ وهل يتعين على الفور أو يجوز على التراخي؟ قال الزين بن المنير: جعل المصنف الترجمة استفهاما لتعارض الأدلة، لأن ظاهر قوله تعالى (فعدة من أيام أخر) يقتضي التفريق لصدق " أيام أخر " سواء كانت متتابعة أو متفرقة، والقياس يقتضي التتابع إلحاقا لصفة القضاء بصفة الأداء، وظاهر صنيع عائشة يقتضي إيثار المبادرة إلى القضاء لولا ما منعها من الشغل، فيشعر بأن من كان بغير عذر لا ينبغي له التأخير. قلت: ظاهر صنيع البخاري يقتضي جواز التراخي والتفريق لما أودعه في الترجمة من الآثار كعادته وهو قول الجمهور، ونقل ابن المنذر وغيره عن علي وعائشة وجوب التتابع وهو قول بعض أهل الظاهر، وروى عبد الرزاق بسنده عن ابن عمر قال: يقضيه تباعا. وعن عائشة: نزلت " فعدة من أيام أخر متتابعات " فسقطت متتابعات. وفي " الموطأ " أنها قراءة أبي كعب، وهذا إن صح يشعر بعدم وجوب التتابع فكأنه كان أولا واجبا ثم نسخ، ولا يختلف المجيزون للتفريق أن التتابع أولى. قوله: (وقال ابن عباس: لا بأس أن يفرق لقول الله تعالى: (فعدة من أيام أخر)) وصله مالك عن الزهري: أن ابن عباس وأبا هريرة اختلفا في قضاء رمضان، فقال أحدهما يفرق وقال الآخر لا يفرق. هكذا أخرجه منقطعا مبهما، ووصله عبد الرزاق معينا عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس فيمن عليه قضاء من رمضان قال: يقضيه مفرقا، قال الله تعالى (فعدة من أيام أخر) ، وأخرجه الدار قطني من وجه آخر عن معمر بسنده قال: صمه كيف شئت. ورويناه في " فوائد أحمد ابن شبيب " من روايته عن أبيه عن يونس عن الزهري بلفظ: لا يضرك كيف قضيتها إنما هي عدة من أيام أخر فأحصه. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء أن ابن عباس وأبا هريرة قالا: فرقه إذا أحصيته. وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي هريرة نحو قول ابن عمر، وكأنه اختلف فيه عن أبي هريرة. وروى ابن أبي شيبة أيضا من طريق معاذ بن جبل: إذا أحصى العدة فليصم كيف شاء. ومن طريق أبي عبيدة بن الجراح ورافع بن خديج نحوه، وروى سعيد بن منصور عن أنس نحوه. قوله: (وقال سعيد بن المسيب في صوم العشر لا يصلح حق يبدأ برمضان) وصله ابن أبي شيبة عنه نحوه ولفظه " لا بأس أن يقضي رمضان في العشر " وظاهر قوله جواز التطوع بالصوم لمن عليه دين من رمضان، إلا أن الأولى له أن يصوم الدين أولا لقوله " لا يصلح " فإنه ظاهر في الإرشاد إلى البداءة بالأهم والآكد، وقد روى عبد الرزاق عن أبي هريرة أن رجلا قال له إن علي أياما من رمضان أفأصوم العشر تطوعا؟ قال: لا، ابدأ بحق الله ثم تطوع ما شئت. وعن عائشة نحوه. وروى ابن المنذر عن علي أنه نهى عن قضاء رمضان في عشر ذي الحجة وإسناده ضعيف، قال وروى بإسناد صحيح نحوه عن الحسن والزهري وليس مع أحد منهم حجة على ذلك، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عمر أنه كان يستحب ذلك. قوله: (وقال إبراهيم) أي النخعي (إذا فرط حتى جاء رمضان آخر يصومهما، ولم ير عليه إطعاما) وقع في رواية الكشميهني " حتى جاز " بزاي بدل الهمزة من الجواز، وفي نسخة " حان " بمهملة ونون من الحين، وصله سعيد بن منصور من طريق يونس عن الحسن، ومن طريق الحارث العكلي عن إبراهيم، قال: إذا تتابع عليه رمضانان صامهما فإن صح بينهما فلم يقض الأول فبئسما صنع فليستغفر الله وليصم. قوله: (ويذكر عن أبي هريرة مرسلا، وعن ابن عباس أنه يطعم) أما أثر أبي هريرة فوجدته عنه من طرق موصولا، فأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عطاء عن أبي هريرة قال: أي إنسان مرض في رمضان ثم صح فلم يقضه حتى أدركه رمضان آخر فليصم الذي حدث ثم يقض الآخر ويطعم مع كل يوم مسكينا. قلت لعطاء: كم بلغك يطعم؟ قال مدا زعموا " وأخرجه عبد الرزاق أيضا عن معمر عن أبي إسحاق، عن مجاهد عن أبي هريرة نحوه وقال فيه " وأطعم عن كل يوم نصف صاع من قمح " وأخرجه الدار قطني من طريق مطرف عن أبي إسحاق نحوه، ومن طريق رقبة وهو ابن مصقلة قال " زعم عطاء أنه سمع أبا هريرة يقول في المريض يمرض ولا يصوم رمضان ثم يترك حتى يدركه رمضان آخر قال: يصوم الذي حضره ثم يصوم الآخر ويطعم لكل يوم مسكينا " ومن طريق ابن جريج وقيس بن سعد عن عطاء نحوه. وأما قول ابن عباس فوصله سعيد بن منصور عن هشيم والدار قطني من طريق ابن عيينة كلاهما عن يونس " عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عباس قال: من فرط في صيام رمضان حتى أدركه رمضان آخر فليصم هذا الذي أشركه ثم ليصم ما فاته ويطعم مع كل يوم مسكينا " وأخرجه عبد الرزاق من طريق جعفر بن برقان، وسعيد بن منصور من طريق حجاج، والبيهقي من طريق شعبة عن الحكم، كلهم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس نحوه. قوله: (ولم يذكر الله تعالى الإطعام، إنما قال: فعدة من أيام أخر) هذا من كلام المصنف قاله تفقها، وظن الزين بن المنير أنه بقية كلام إبراهيم النخعي، وليس كما ظن فإنه مفصول من كلامه بأثر أبي هريرة وابن عباس، لكن إنما يقوى ما احتج به إذا لم يصح في السنة دليل الإطعام إذ لا يلزم من عدم ذكره في الكتاب أن لا يثبت بالسنة، ولم يثبت فيه شيء مرفوع وإنما جاء فيه عن جماعة من الصحابة منهم من ذكر ومنهم عمر عند عبد الرزاق، ونقل الطحاوي عن يحيى بن أكثم قال: وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم فيه مخالفا. انتهى. وهو قول الجمهور، وخالف في ذلك إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأصحابه، ومال الطحاوي إلى قول الجمهور في ذلك، وممن قال بالإطعام ابن عمر لكنه بالغ في ذلك فقال يطعم ولا يصوم، فروى عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما من طرق صحيحة عن نافع عن ابن عمر قال " من تابعه رمضانان وهو مريض لم يصح بينهما قضى الآخر منها بصيام وقضى الأول منهما بإطعام مد من حنطة كل يوم ولم يصم " لفظ عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع، قال الطحاوي تفرد ابن عمر بذلك. قلت: لكن عند عبد الرزاق عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد قال: بلغني مثل ذلك عن عمر، لكن المشهور عن عمر خلافه، فروى عبد الرزاق أيضا من طريق عوف بن مالك سمعت عمر يقول " من صام يوما من غير رمضان وأطعم مسكينا فإنهما يعدلان يوما من رمضان " ونقله ابن المنذر عن ابن عباس وعن قتادة، وانفرد ابن وهب بقوله: من أفطر يوما في قضاء رمضان وحب عليه لكل يوم صوم يومين. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ قَالَ يَحْيَى الشُّغْلُ مِنْ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (حدثنا زهير) هو ابن معاوية الجعفي أبو خيثمة. قوله: (عن يحيى) هو ابن سعيد الأنصاري، ووهم الكرماني تبعا لابن التين فقال: هو يحيى ابن أبي كثير، وغفل عما أخرجه مسلم عن أحمد بن يونس شيخ البخاري فيه فقال في نفس السند " عن يحيى ابن سعيد ويحيى بن سعيد هذا هو الأنصاري " وذهل مغلطاي فنقل عن الحافظ الضياء أنه القطان، وليس كما قال، فإن الضياء حكى قول من قال إنه يحيى بن أبي كثير ثم رده وجزم بأنه يحيى بن سعيد ولم يقل القطان، ولا جائز أن يكون القطان لأنه لم يدرك أبا سلمة، وليست لزهير بن معاوية عنه رواية وإنما هو يروي عن زهير. قوله: (عن أبي سلمة) في رواية الإسماعيلي من طريق أبي خالد عن يحيى بن سعيد " سمعت أبا سلمة". قوله: (فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان) استدل به على أن عائشة كانت لا تتطوع بشيء من الصيام لا في عشر ذي الحجة ولا في عاشوراء ولا غير ذلك، وهو مبني على أنها كانت لا ترى جواز صيام التطوع لمن عليه دين من رمضان، ومن أين لقائله ذلك؟ قوله: (قال يحيى) أي الراوي المذكور بالسند المذكور إليه فهو موصول. قوله: (الشغل من النبي أو بالنبي صلى الله عليه وسلم) هو خبر مبتدأ محذوف تقديره: المانع لها الشغل، أو هو مبتدأ محذوف الخبر تقديره الشغل هو المانع لها. وفي قوله " قال يحيى " هذا تفصيل لكلام عائشة من كلام غيرها، ووقع في رواية مسلم المذكورة مدرجا لم يقل فيه قال يحيى فصار كأنه من كلام عائشة أو من روي عنها، وكذا أخرجه أبو عوانة من وجه آخر عن زهير، وأخرجه مسلم من طريق سليمان ابن بلال عن يحيى مدرجا أيضا ولفظه " وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأخرجه من طريق ابن جريج عن يحيى فبين إدراجه ولفظه " فظننت أن ذلك لمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم " يحيى يقوله، وأخرجه أبو داود من طريق مالك، والنسائي من طريق يحيى القطان، وسعيد بن منصور عن ابن شهاب وسفيان، والإسماعيلي من طريق أبي خالد كلهم عن يحيى بدون الزيادة، وأخرجه مسلم من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بدون الزيادة لكن فيه ما يشعر بها فإنه قال فيه ما معناه: فما أستطيع قضاءها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المراد بالمعية الزمان أي أن ذلك كان خاصا بزمانه. وللترمذي وابن خزيمة من طريق عبد الله البهي عن عائشة " ما قضيت شيئا مما يكون على من رمضان إلا في شعبان حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومما يدل على ضعف الزيادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم لنسائه فيعدل وكان يدنو من المرأة في غير نوبتها فيقبل ويلمس من غير جماع، فليس في شغلها بشيء من ذلك ما يمنع الصوم، اللهم إلا أن يقال إنها كانت لا تصوم إلا بإذنه ولم يكن يأذن لاحتمال احتياجه إليها فإذا ضاق الوقت أذن لها، وكان هو صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان كما سيأتي بعد أبواب فلذلك كانت لا يتهيأ لها القضاء إلا في شعبان، وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقا سواء كان لعذر أو لغير عذر لأن الزيادة كما بيناه مدرجة فلو لم تكن مرفوعة لكان الجواز مقيدا بالضرورة لأن حديث حكم الرفع لأن الظاهر إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع توفر دواعي أزواجه على السؤال منه عن أمر الشرع فلولا أن ذلك كان جائزا لم تواظب عائشة عليه، ويؤخذ من حرصها على ذلك في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر. وأما الإطعام فليس فيه ما يثبته ولا ينفيه وقد تقدم البحث فيه. |
08-21-2013, 04:46 PM | #539 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الْحَائِضِ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِي كَثِيرًا عَلَى خِلَافِ الرَّأْيِ فَمَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنْ اتِّبَاعِهَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ
الشرح: قوله: (باب الحائض تترك الصوم والصلاة) قال الزين بن المنير ما محصله: إن الترجمة لم تتضمن حكم القضاء لتطابق حديث الباب فإنه ليس فيه تعرض لذلك، قال وأما تعبيره بالترك فللإشارة إلى أنه ممكن حسا، وإنما تتركه اختيارا لمنع الشرع لها من مباشرته. قوله: (وقال أبو الزناد الخ) قال الزين بن المنير: نظر أبو الزناد إلى الحيض فوجده مانعا من هاتين العبادتين، وما سلب الأهلية استحال أن يتوجه به خطاب الاقتضاء، وما يمنع صحة الفعل يمنع الوجوب، فلذلك استبعد الفرق بين الصلاة والصوم فأحال بذلك على اتباع السنة والتعبد المحض، وقد تقدم في كتاب الحيض سؤال معاذ من عائشة عن الفرق المذكور وأنكرت عليها عائشة السؤال وخشيت عليها أن تكون تلقنته من الخوارج الذين جرت عادتهم باعتراض السنن بآرائهم، ولم تزدها على الحوالة على النص، وكأنها قالت لها: دعي السؤال عن العلة إلى ما هو أهم من معرفتها وهو الانقياد إلى الشارع. وقد تكلم بعض الفقهاء في الفرق المذكور، واعتمد كثير منهم على أن الحكمة فيه أن الصلاة تتكرر فيشق قضاؤها بخلاف الصوم الذي لا يقع في السنة إلا مرة، واختار إمام الحرمين أن المتبع ذلك هو النص وأن كل شيء ذكروه من الفرق ضعيف والله أعلم. وزعم المهلب أن السبب في منع الحائض من الصوم أن خروج الدم يحدث ضعفا في النفس غالبا فاستعمل هذا الغالب في جميع الأحوال، فلما كان الضعف يبيح الفطر ويوجب القضاء كان كذلك الحيض، ولا يخفي ضعف هذا المأخذ، فان المريض لو تحامل فصام صح صومه بخلاف الحائض، وأن المستحاضة في نزف الدم أسد من الحائض وقد أبيح لها الصوم. وقول أبي الزناد إن السنن لتأتي كثيرا على خلاف الرأي كأنه يشير إلى قول علي: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحق بالمسح من أعلاه أخرجه احمد وأبو داود والدار قطني ورجال إسناده ثقات، ونظائر ذلك في الشرعيات كثير. ومما يفرق فيه بين الصوم والصلاة في حق الحائض أنها لو طهرت قبل الفجر ونوت صح صومها في قول الجمهور ولا يتوقف على الغسل، بخلاف الصلاة، ثم أورد المصنف طرفا من حديث أبي سعيد الماضي في كتاب الحيض مقتصرا على قوله " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم " وقد أخرجه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ " تمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين " الحديث. *3*باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ صَامَ عَنْهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا يَوْمًا وَاحِدًا جَازَ الشرح: قوله: (باب من مات وعليه صوم) أي هل يشرع قضاؤه عنه أم لا؟ وإذا شرع هل يختص بصيام دون صيام أو يعم كل صيام؟ وهل يتعين الصوم أو يجزئ الإطعام؟ وهل يختص الولي بذلك أو يصح منه ومن غيره؟ والخلاف في ذلك مشهور للعلماء كما سنبينه. قوله: (وقال الحسن إن صام عنه ثلاثون رجلا يوما وأحدا جاز) في رواية الكشميهني " في يوم واحد " والمراد من مات وعليه صيام شهر. وهذا الأثر وصله الدار قطني في كتاب الذبح من طريق عبد الله بن المبارك عن سعيد بن عامر وهو الضبعي عن أشعث عن الحسن فيمن مات وعليه صوم ثلاثين يوما فجمع له ثلاثون رجلا فصاموا عنه يوما واحدا أجزأ عنه، قال النووي في " شرح المهذب ": هذه المسألة لم أر فيها نقلا في المذهب، وقياس، المذهب الإجزاء. قلت: لكن الجواز مقيد بصوم لم يجب فيه التتابع لفقد التتابع في الصورة المذكورة. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ تَابَعَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرٍو وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن خالد) أي ابن خلي بمعجمة وزن علي كما جزم به أبو نعيم في " المستخرج"، وجزم الجوزقي بأنه الذهلي فإنه أخرجه عن أبي حامد بن الشرقي عنه وقال: أخرجه البخاري عن محمد أين يحيى وبذلك جزم الكلاباذي، وصنيع المزي يوافقه وهو الراجح، وعلى هذا فقد نسبه البخاري هنا إلى جد أبيه لأنه محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد وشيخه محمد بن موسى بن أعين أدركه البخاري لكنه لم يرو عنه إلا بواسطة وكأنه لم يلقه، وعمرو بن الحارث هو المصري. قوله: (من مات) عام في المكلفين لقرينة " وعليه صيام " وقوله " صام عنه وليه " خير بمعنى الأمر تقديره فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر للوجوب عند الجمهور، وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه فادعوا الإجماع على ذلك، وفيه نطر لأن بعض أهل الظاهر أوجبه فلعله لم يعتد بخلافهم على قاعدته. وقد اختلف السلف في هذه المسألة: فأجاز الصيام عن الميت أصحاب الحديث، وعلق الشافعي في القديم القول به على صحة الحديث كما نقله البيهقي في " المعرفة " وهو قول أبي ثور وجماعة من محدثي الشافعية. وقال البيهقي في " الخلافيات ": هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها فوجب العمل بها، ثم ساق بسنده إلى الشافعي قال: كل ما قلت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فخذوا بالحديث ولا تقلدوني. وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبو حنيفة لا يصام عن الميت. وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: لا يصام عنه إلا النذر حملا للعموم الذي في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس، وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم حيث قيل في آخره " فدين الله أحق أن يقضي". وأما رمضان فيطعم عنه، فأما المالكية فأجابوا عن حديث الباب بدعوى عمل أهل المدينة كعادتهم، وادعى القرطبي تبعا لعياض أن الحديث مضطرب، وهذا لا يتأتى إلا في حديث ابن عباس ثاني حديثي الباب، وليس الاضطراب فيه مسلما كما سيأتي، وأما حديث عائشة فلا اضطراب فيه. واحتج القرطبي بزيادة ابن لهيعة المذكورة لأنها تدل على عدم الوجوب، وتعقب بأن معظم المجيزين لم يوجبوه كما تقدم وإنما قالوا يتخير الولي بين الصيام والإطعام، وأجاب الماوردي عن الجديد بأن المراد بقوله " صام عنه وليه أي فعل عنه وليه ما يقوم مقام الصوم وهو الإطعام، قال وهو نظير قوله " التراب وضوء المسلم إذا لم يجد الماء " قال فسمي البدل باسم المبدل فكذلك هنا، وتعقب بأنه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل. وأما الحنفية فاعتلوا لعدم القول بهذين الحديثين بما روي عن عائشة أنها " سئلت عن امرأة ماتت وعليها صوم، قالت: يطعم عنها". وعن عائشة قالت " لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم " أخرجه البيهقي، وبما روي عن ابن عباس " قال في رجل مات وعليه رمضان قال يطعم عنه ثلاثون مسكينا " أخرجه عبد الرزاق، وروى النسائي عن ابن عباس قال " لا يصوم أحد عن أحد " قالوا فلما أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ما روياه دل ذلك على أن العمل على خلاف ما روياه، وهذه قاعدة لهم معروفة، إلا أن الآثار المذكورة عن عائشة وعن ابن عباس فيها مقال، وليس فيها ما يمنع الصيام إلا الأثر الذي عن عائشة وهو ضعيف جدا، والراجح أن المعتبر ما رواه لا ما رآه لاحتمال أن يخالف ذلك لاجتهاد ومستنده فيه لم يتحقق ولا يلزم من ذلك ضعف الحديث عنده، وإذا تحققت صحة الحديث لم يترك المحقق للمظنون، والمسألة مشهورة في الأصول. واختلف المجيزون في المراد بقوله " وليه " فقيل كل قريب، وقيل الوارث خاصة، وقيل عصبته، والأول أرجح، والثاني قريب، ويرد الثالث قصة المرأة التي سألت عن نذر أمها. واختلفوا أيضا هل يختص ذلك بالولي؟ لأن الأصل عدم النيابة في العبادة البدنية، ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة في الحياة فكذلك في الموت إلا ما ورد فيه الدليل فيقتصر على ما ورد فيه ويبقى الباقي على الأصل وهذا هو الراجح، وقيل يختص بالولي فلو أمر أجنبيا بأن يصوم عنه أجزأ كما في الحج، وقيل يصح استقلال الأجنبي بذلك وذكر الولي لكونه الغالب، وظاهر صنيع البخاري اختيار هذا الأخير، وبه جزم أبو الطيب الطبري وقواه بتشبيهه صلى الله عليه وسلم ذلك بالدين والدين لا يختص بالقريب. قوله: (تابعه ابن وهب عن عمرو) يعني ابن الحارث المذكور بسنده، وهذه المتابعة وصلها مسلم وأبو داود وغيرهما بلفظه. قوله: (ورواه يحيى بن أيوب) يعني المصري عن عبيد الله بن أبي جعفر بسنده المذكور، وروايته هذه عند أبي عوانة والدار قطني من طريق عمرو بن الربيع وابن خزيم من طريق سعيد بن أبي مريم كلاهما عن يحيى بن أيوب وألفاظهم متوافقة، ورواه البزار من طريق ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر فزاد في آخر المتن " إن شاء". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى قَالَ سُلَيْمَانُ فَقَالَ الْحَكَمُ وَسَلَمَةُ وَنَحْنُ جَمِيعًا جُلُوسٌ حِينَ حَدَّثَ مُسْلِمٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَا سَمِعْنَا مُجَاهِدًا يَذْكُرُ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ الْحَكَمِ وَمُسْلِمٍ الْبَطِينِ وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَقَالَ يَحْيَى وَأَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَتْ أُمِّي وَعَلَيْهَا صَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن عبد الرحيم) هو الحافظ المعروف بصاعقة، ومعاوية بن عمرو هو الأزدي ويعرف بابن الكرماني من قدماء شيوخ البخاري حدث عنه بغير واسطة في أواخر كتاب الجمعة وحدث عنه هنا وفي الجهاد وفي الصلاة بواسطة، وكان طلب معاوية المذكور للحديث وهو كبير وإلا فلو كان طلبه وهو على قدر سنه لكان من أعلى شيوخ البخاري، وزائدة شيخه هو ابن قدامة الثقفي مشهور قد لقي البخاري جماعة من أصحابه. قوله: (عن مسلم البطين) بفتح الموحدة وكسر المهملة ثم تحتانية ساكنة ثم نون، وسيأتي أن الحديث جاء من رواية شعبة عن الأعمش عن مسلم المذكور، وشعبة لا يحدث عن شيوخه الذين ربما دلسوا إلا بما تحقق أنهم سمعوه. قوله: (جاء رجل) في رواية غير زائدة " جاءت امرأة " وقد تقدم القول في تسميتها في كتاب الحج. قوله: (جاء رجل) لم أقف على اسمه، واتفق من عدا زائدة وعبثر بن القاسم على أن السائل امرأة، وزاد أبو حريز في روايته أنها خثعمية. قوله: (إن أمي) خالف أبو حامد جميع من رواه فقال " إن أختي " واختلف على أبي بشر عن سعيد ابن جبير فقال هشيم عنه " ذات قرابة لها " وقال شعبة عنه " إن أختها " أخرجهما أحمد. وقال حماد عنه ذات قرابة لها إما أختها وإما ابنتها " وهذا يشعر بأن التردد فيه من سعيد بن جبير. قوله: (وعليها صوم شهر) هكذا في أكثر الروايات. وفي رواية أبي حريز " خمسة عشر يوما " وفي رواية أبي خالد " شهرين متتابعين " وروايته تقتضي أن لا يكون الذي عليها صوم شهر رمضان بخلاف رواية غيره فإنها محتملة إلا رواية زيد بن أبي أنيسة فقال " إن عليها صوم نذر " وهذا واضح في أنه غير رمضان، وبين أبو بشر في روايته سبب النذر فروى أحمد من طريق شعبة عن أبي بشر " أن امرأة ركبت البحر فنذرت أن تصوم شهرا فماتت قبل أن تصوم، فأتت أختها النبي صلى الله عليه وسلم " الحديث ورواه أيضا عن هشيم عن أبي بشر نحوه، وأخرجه البيهقي من حديث حماد بن سلمة. وقد ادعى بعضهم أن هذا الحديث اضطرب فيه الرواة عن سعيد ن جبير، فمنهم من قال: إن السائل امرأة، ومنهم من قال: رجل، ومنهم من قال: إن السؤال وقع عن نذر، فمنهم من فسره بالصوم ومنهم من فسره بالحج لما تقدم في أواخر الحج والذي يظهر أنهما قصتان، ويؤيده أن السائلة في نذر الصوم خثعمية كما في رواية أبي حريز المعلقة السائلة عن نذر الحج جهنية كما تقدم في موضعه. وقد قدمنا في أواخر الحج أن مسلما روى من حديث بريدة أن امرأة سألت عن الحج وعن الصوم معا. وأما الاختلاف في كون السائل رجلا أو امرأة والمسئول عنه أختا أو أما فلا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث لأن الغرض منه مشروعية الصوم أو الحج عن الميت ولا اضطراب في ذلك، وقد تقدمت الإشارة إلى كيفية الجمع بين مختلف الروايات فيه عن الأعمش وغيره والله أعلم. قوله: (فدين الله أحق أن يقضي) تقدمت مباحثه في أواخر الحج قبيل " فضل المدينة " مستوفى. قوله: (قال سليمان) هو الأعمش، يعني بالإسناد المذكور أولا إليه. قوله: (فقال الحكم) أي ابن عتيبة، وسلمة أي ابن كهيل، والحاصل أن الأعمش سمع هذا الحديث من ثلاثة أنفس، في مجلس واحد مسلم البطين: أولا عن سعيد بن جبير، ثم من الحكم وسلمة عن مجاهد. قد خالف زائدة في ذلك أبو خالد الأحمر كما سيأتي. قوله: (ويذكر عن أبي خالد حدثنا الأعمش الخ) محصله أن أبا خالد جمع بين شيوخ الأعمش الثلاثة، فحدث به عنه عنهم عن شيوخ ثلاثة. وظاهره أنه عند كل منهم عن كل منهم. ويحتمل أن يكون أراد به اللف والنشر بغير ترتيب، فيكون شيخ الحكم عطاء، وشيخ البطين سعيد بن جبير، وشيخ سلمة مجاهدا، ويؤيده أن النسائي أخرجه من طريق عبد الرحمن بن مغراء عن الأعمش مفصلا هكذا، وهو مما يقوى رواية أبي خالد وقد وصلها مسلم لكن لم يسق المتن بل أحال به على رواية زائدة، وهو معترض لأن بينهما مخالفة سيأتي بيانها. ووصلها أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة والدار قطني من طريق أبي خالد. قوله: (وقال يحيى) أي ابن سعيد (وأبو معاوية عن الأعمش الخ) وافقا زائدة على أن شيخ مسلم البطين فيه سعيد بن جبير، وكذلك رواه شعبة وعبد الله بن نمير وعبثر بن القاسم وعبيدة بن حميد وآخرون عن الأعمش وطرقهم عند النسائي وأحمد وغيرهما. قوله: (وقال عبيد الله بن عمرو) أي الرقي (عن زيد بن أبي أنيسة الخ) هذا يخالف رواية عبد الرحمن ابن مغراء من حيث أن شيخ الحكم فيها عطاء وفي هذه شيخه سعيد، ويحتمل أن يكون سمعه من كل منهما، وطريق عبيد الله هذه وصلها مسلم أيضا. قوله: (وقال أبو حريز) بالمهملة والراء والزاي، وهو عبد الله بن الحسين قاضي سجستان، وطريقه هذه وصلها ابن خزيمة والحسن بن سفيان ومن جهته البيهقي. *3*باب مَتَى يَحِلُّ فِطْرُ الصَّائِمِ وَأَفْطَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ حِينَ غَابَ قُرْصُ الشَّمْسِ الشرح: قوله: (باب متى يحل فطر الصائم) غرض هذه الترجمة الإشارة إلى أنه هل يجب إمساك جزء من الليل لتحقق مضى النهار أم لا؟ وظاهر صنيعه يقتضي ترجيح الثاني لذكره لأثر أبي سعيد في الترجمة، لكن محله إذا ما حصل تحقق غروب الشمس. قوله: (وأفطر أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس) وصله سعيد بن منصور وأبو بكر ابن أبي شيبة من طريق عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال " دخلنا على أبي سعيد فأفطر ونحن نرى أن الشمس لم تغرب " ووجه الدلالة منه أن أبا سعيد لما تحقق غروب الشمس لم يطلب مزيدا على ذلك ولا التفت إلى موافقة من عنده على ذلك، فلو كان يجب عنده إمساك جزء من الليل لاشترك الجميع في معرفة ذلك والله أعلم. ثم ذكر المصنف في الباب حديثين. الحديث: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ الشرح: قوله: (حدثنا سفيان) هو ابن عيينة، والإسناد كله حجازيون: الحميدي وسفيان مكيان، والباقون مدنيون. وفيه رواية الأبناء عن الآباء، ورواية تابعي صغير عن تابعي كبير هشام عن أبيه، وصحابي صغير عن صحابي كبير عاصم عن أبيه، وكان مولد عاصم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن لم يسمع منه شيئا. قوله: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام " قال لي". قوله: (إذا أقبل الليل من هاهنا) أي من جهة المشرق كما في الحديث الذي يليه، والمراد به وجود الظلمة حسا، وذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور، لأنها وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة بل لوجود أمر يغطي ضوء الشمس وكذلك إدبار النهار فمن ثم قيد بقوله " وغربت الشمس " إشارة إلى اشتراط تحقق الإقبال والإدبار، وأنهما بواسطة غروب الشمس لا بسبب آخر، ولم يذكر ذلك في الحديث الثاني فيحتمل أن ينزل على حالين: أما حيث ذكرها ففي حال الغيم مثلا وأما حيث لم يذكرها ففي حال الصحو، ويحتمل أن يكونا في حالة واحدة وحفظ أحد الراويين ما لم يحفظ الآخر، وإنما ذكر الإقبال والإدبار معا لإمكان وجود أحدهما مع عدم تحقق الغروب قاله القاضي عياض. وقال شيخنا في " شرح الترمذي ": الظاهر الاكتفاء بأحد الثلاثة لأنه يعرف انقضاء النهار بأحدهما، ويؤيده الاقتصار في رواية ابن أبي أوفى على إقبال الليل قوله: (فقد أفطر الصائم) أي دخل في وقت الفطر كما يقال أنجد إذا أقام بنجد وأتهم إذا أقام بتهامة. ويحتمل أن يكون معناه فقد صار مفطرا في الحكم لكون الليل ليس طرفا للصيام الشرعي، وقد رد ابن خزيمة هذا الاحتمال وأومأ إلى ترجيح الأول فقال: قوله " فقد أفطر الصائم " لفظ خبر ومعناه الأمر أي فليفطر الصائم، ولو كان المراد فقد صار مفطرا كان فطر جمع الصوام واحدا ولم يكن للترغيب في تعجيل الإفطار معنى ا ه. وقد يجاب بأن المراد فعل الإفطار حسا ليوافق الأمر الشرعي، ولا شك أن الأول أرجح، ولو كان الثاني معتمدا لكان من حلف أن لا يفطر فصام فدخل الليل حنث بمجرد دخوله ولو لم يتناول شيئا، ويمكن الانفصال عن ذلك بأن الأيمان مبنية على العرف، وبذلك أفتى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في مثل هذه الواقعة بعينها، ومثل هذا لو قال إن أفطرت فأنت طالق فصادف يوم العيد لم تطلق حتى يتناول ما يفطر به، وقد ارتكب بعضهم الشطط فقال يحنث، ويرجح الأول أيضا رواية شعبة أيضا بلفظ " فقد حل الإفطار " وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق الثوري عن الشيباني، وسيأتي لذلك مزيد بيان في " باب الوصال " بعد ثلاثة أبواب. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ لِبَعْضِ الْقَوْمِ يَا فُلَانُ قُمْ فَاجْدَحْ لَنَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَوْ أَمْسَيْتَ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُمْ فَشَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ الشرح: قوله: (حدثنا خالد) هو ابن عبد الله الواسطي والشيباني هو أبو إسحاق. قوله: (عن عبد الله بن أبي أوفى) سيأتي الباب الذي يليه من وجه آخر عن أبي إسحاق " سمعت ابن أبي أوفى". قوله: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر) هذا السفر يشبه أن يكون سفر غزوة الفتح، ويؤيده رواية هشميم عن الشيباني عند مسلم بلفظ " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في شهر رمضان " وقد تقدم أن سفره في رمضان منحصر في غزوة بدر وغزوة الفتح، فإن ثبت فلم يشهد ابن أبي أوفى بدرا فتعينت غزوة الفتح. قوله: (فلما غابت الشمس) في رواية الباب الذي يليه " فلما غربت الشمس " وهي تفيد معنى أزيد من معنى غابت. قوله: (قال لبعض القوم يا فلان) في رواية شعبة عن الشيباني عند أحمد " فدعا صاحب شرابه بشراب فقال لو أمسيت " وسأذكر من سماه في الباب الذي يليه. قوله: (فاجدح) بالجيم ثم الحاء المهملة، والجدح تحريك السويق ونحوه بالماء بعود يقال له المجدح مجنح الرأس، وزعم الداودي أن معنى قوله اجدح لي أي احلب، وغلطوه في ذلك. قوله: (إن عليك نهارا) يحتمل أن يكون المذكور كان يرى كثرة الضوء من شدة الصحو فيظن أن الشمس لم تغرب ويقول لعلها غطاها شيء من جبل ونحوه، أو كان هناك غيم فلم يتحقق غروب الشمس، وأما قول الراوي " وغربت الشمس " فإخبار منه بما في نفس الأمر وإلا فلو تحقق الصحابي أن الشمس غربت ما توقف لأنه حينئذ يكون معاندا، وإنما توقف احتياطا واستكشافا عن حكم المسألة، قال الزين بن المنير: يؤخذ من هذا جواز الاستفسار عن الظواهر لاحتمال أن لا يكون المراد إمرارها على ظاهرها، وكأنه أخذ ذلك من تقريره صلى الله عليه وسلم الصحابي على ترك المبادرة إلى الامتثال. وفي الحديث أيضا استحباب تعجيل الفطر، وأنه لا يجب إمساك جزء من الليل مطلقا، بل متى تحقق غروب الشمس حل الفطر. وفيه تذكر العالم بما يخشى أن يكون نسيه وترك المراجعة له بعد ثلاث. وقد اختلفت الروايات عن الشيباني في ذلك فأكثر ما وقع فيها أن المراجعة وقع ثلاثا وفي بعضها مرتين وفي بعضها مرة واحدة، وهو محمول على أن بعض الرواة اختصر القصة، ورواية خالد المذكورة في هذا الباب أتمهم سياقا وهو حافظ فزيادته مقبولة، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يراجع بعد ثلاث، وهو عند أحمد من حديث عبد الله ابن أبي حدرد في حديث أوله " كان ليهودي عليه دين". وفي حديثي الباب من الفوائد بيان وقت الصوم وأن الغروب متى تحقق كفي، وفيه إيماء إلى الزجر عن متابعة أهل الكتاب فإنهم يؤخرون الفطر عن الغروب. وفيه أن الأمر الشرعي أبلغ من الحسي، وأن العقل لا يقضي على الشرع. وفيه البيان بذكر اللازم والملزوم جميعا لزيادة الإيضاح. *3*باب يُفْطِرُ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ الشرح: قوله: (باب يفطر بما تيسر من الماء أو غيره) أي سواء كان وحده أو مخلوطا. وفي رواية أبي ذر عن غير الكشميهني " بالماء " وذكر فيه حديث ابن أبي أوفى وهو ظاهر فيما ترجم له، ولعله أشار إلى أن الأمر في قوله " من وجد تمرا فليفطر عليه ومن لا فليفطر على الماء " ليس على الوجوب، وهو حديث أخرجه الحاكم من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس مرفوعا وصححه الترمذي وابن حبان من حديث سلمان بن عامر، وقد شذ ابن حزم فأوجب الفطر على التمر وإلا فعلى الماء. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ سُلَيْمَانُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتَ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا فَنَزَلَ فَجَدَحَ ثُمَّ قَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ الشرح: قوله: (سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم فلما غربت الشمس قال: انزل فاجدح لنا) لم يسم المأمور بذلك، وقد أخرجه أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه فسماه ولفظه " فقال يا بلال انزل الخ " وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عن عبد الواحد وهو ابن زياد شيخ مسدد فيه فاتفقت رواياتهم على قوله " يا فلان " فلعلها تصحفت، ولعل هذا هو السر في حذف البخاري لها، وقد سبق الحديث في الباب الذي قبله من رواية خالد من الشيباني بلفظ " يا فلان " وذكرنا أن في حديث عمر عند ابن خزيمة " قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل الليل الخ " فيحتمل أن يكون المخاطب بذلك عمر فإن الحديث واحد، فلما كان عمر هو المقول له " إذا أقبل الليل الخ " احتمل أن يكون هو المقول له أولا " اجدح " لكن يؤيد كونه بلالا قوله في رواية شعبة المذكورة قبل " فدعا صاحب شرابه " فإن بلالا هو المعروف بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم. |
مواقع النشر (المفضلة) |
كاتب الموضوع | حسن الخليفه احمد | مشاركات | 538 | المشاهدات | 89733 | | | | انشر الموضوع |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|