القبول يا رب - شباب الطريقة الختمية بدائرة ود ابراهيم بأم بدة
مجموعة مدائح ختمية.. شباب الطريقة الختمية بمسجد السيد علي الميرغني ببحري
|
مكتبة الميرغني الإليكترونية خاصة بجميع مؤلفات السادة المراغنة |
إهداءات ^^^ ترحيب ^^^ تهاني ^^^ تعازي ^^^ تعليقات ^^^ إعلانات | |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
08-14-2013, 11:33 AM | #481 | |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَقَالَ عَطَاءٌ يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا
الشرح: قوله: (باب الطيب عند الإحرام، وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن) أراد بهذه الترجمة أن يبين أن الأمر بغسل الخلوق الذي في الحديث قبله إنما هو بالنسبة إلى الثياب، لأن المحرم لا يلبس شيئا مسه الزعفران كما سيأتي في الباب الذي بعده، وأما الطيب فلا يمنع استدامته على البدن، وأضاف إلى التطيب المقتصر عليه في حديث الباب الرجل والأدهان لجامع ما بينهما من الترفه فكأنه يقول يلحق بالتطيب سائر الترفهات فلا يحرم على المحرم، كذا قال ابن المنير، والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما سيأتي بعد أربعة أبواب من طريق كريب عن ابن عباس قال " انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجل وادهن " الحديث، وقوله "ترجل " أي سرح شعره، وكأنه يؤخذ من قوله في حديث عائشة " طيبته في مفرقه " لأن فيه نوع ترجيل، وسيأتي من وجه آخر بزيادة " وفي أصول شعره". قوله: (وقال ابن عباس إلخ) أما شم الريحان فقال سعيد بن منصور " حدثنا ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا للمحرم بشم الريحان " وروينا في " المعجم الأوسط " مثله عن عثمان. وأخرج ابن أبي شيبة عن جابر خلافه، واختلف في الريحان فقال إسحاق: يباح، وتوقف أحمد. وقال الشافعي يحرم، وكرهه مالك والحنفية. ومنشأ الخلاف أن كل ما يتخذ منه الطيب يحرم بلا خلاف، وأما غيره فلا. وأما النظر في المرآة فقال الثوري في جامعه رواية عبد الله بن الوليد العدني عنه " عن هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس قال: لا بأس أن ينظر في المرآة وهو محرم " وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن إدريس عن هشام به، ونقل كراهته عن القاسم بن محمد. وأما التداوي فقال أبو بكر بن أبي شيبة " حدثنا أبو خالد الأحمر وعباد بن العوام عن أشعث عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقول: يتداوى المحرم بما يأكل " وقال أيضا " حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الضحاك عن ابن عباس إذا شققت يد المحرم أو رجلاه فليدهنهما بالزيت أو بالسمن " ووقع في الأصل " يتداوى بما يأكل الزيت والسمن " وهما بالجر في روايتنا وصحح عليه ابن مالك عطفا على ما الموصولة فإنها مجرورة بالباء ووقع في غيرها بالنصب، وليس المعنى عليه لأن الذي يأكل هو الآكل لا المأكول، لكن يجوز على الاتساع. وفي هذا الأثر رد على مجاهد في قوله إن تداوى بالسمن أو الزيت فعليه دم أخرجه ابن أبي شيبة. (تنبيه) قوله " يشم " بفتح الشين المعجمة على الأشهر وحكي ضمها. قوله: (وقال عطاء يتختم ويلبس الهميان) هو بكسر الهاء معرب، يشبه تكة السراويل يجعل فيها النفقة ويشد في الوسط. وقد روى الدارقطني من طريق الثوري عن ابن إسحاق عن عطاء قال: لا بأس بالخاتم للمحرم. وأخرج أيضا من طريق شريك عن أبي إسحاق عن عطاء - وربما ذكره عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس قال: لا بأس بالهميان والخاتم للمحرم والأول أصح. وأخرجه الطبراني وابن عدي في الكامل من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا وإسناده ضعيف. قال ابن عبد البر: أجاز ذلك فقهاء الأمصار، وأجازوا عقده إذا لم يمكن إدخال بعضه في بعض، ولم ينقل عن أحد كراهته إلا عن ابن عمر، وعنه جوازه. ومنع إسحاق عقده وقيل إنه تفرد بذلك، وليس كذلك فقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: لا بأس بالهميان للمحرم، ولكن لا يعقد عليه السير ولكن يلفه لفا. قال ابن أبي شيبة حدثنا الفضل بن دكين عن إسماعيل بن عبد الملك قال رأيت على سعيد بن جبير خاتما وهو محرم وعلى عطاء. قوله: (وطاف ابن عمر وهو محرم وقد حزم على بطنه بثوب) وصله الشافعي من طريق طاوس قال. رأيت ابن عمر يسعى وقد حزم على بطنه بثوب. وروي من وجه آخر عن نافع أن ابن عمر لم يكن عقد الثوب عليه وإنما غرز طرفه على إزاره. وروى ابن أبي شيبة من طريق مسلم بن جندب سمعت ابن عمر يقول لا تعقد علي شيئا وأنت محرم. قال ابن التين: هو محمول على أنه شده على بطنه فيكون كالهميان ولم يشده فوق المئزر وإلا فمالك يرى على من فعل ذلك الفدية. قوله: (ولم تر عائشة بالتبان بأسا للذين يرحلون هودجها) وقع في نسخة الصغاني بعد قوله بأسا: قال أبو عبد الله يعني الذين إلخ. التبان بضم المثناة وتشديد الموحدة سراويل قصير بغير أكمام، والهودج بفتح الهاء وبالجيم معروف، ويرحلون بفتح أوله وسكون الراء وفتح الحاء المهملة قال الجوهري: رحلت البعير أرحله بفتح أوله رحلا إذا شددت على ظهره الرحل، قال الأعشى: " رحلت أميمة غدوة أجمالها"، وسيأتي في التفسير استشهاد البخاري بقول الشاعر: " إذا ما قمت أرحلها بليل"، وعلى هذا فوهم من ضبطه هنا بتشديد الحاء المهملة وكسرها. وقد وصل أثر عائشة سعيد بن منصور من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها حجت ومعها غلمان لها وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء فأمرتهم أن يتخذوا التبابين فيلبسونها وهم محرمون. وأخرجه من وجه آخر مختصرا بلفظ " يشدون هودجها " وفي هذا رد على ابن التين في قوله: أرادت النساء لأنهن يلبسن المخيط بخلاف الرجال، وكأن هذا رأي رأته عائشة وإلا فالأكثر على أنه لا فرق بين التبان والسراويل في منعه للمحرم. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ قَالَ مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنِي الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ الشرح: قوله: (سفيان) هو الثوري ومنصور هو ابن المعتمر، والإسناد إلى ابن عمر كوفيون وكذا إلى عائشة. قوله: (يدهن بالزيت) أي عند الإحرام بشرط أن لا يكون مطيبا، كمأ أخرجه الترمذي من وجه آخر عنه مرفوعا، والموقوف عنه أخرجه ابن أبي شيبة وهو أصح، ويؤيده ما تقدم في كتاب الغسل من طريق محمد بن المنتشر أن ابن عمر قال " لأن أطلي بقطران أحب إلي من أن أتطيب ثم أصبح محرما " وفيه إنكار عائشة عليه، وكان ابن عمر يتبع في ذلك أباه فإنه كان يكره استدامة الطيب بعد الإحرام كما سيأتي، وكانت عائشة تنكر عليه ذلك. وقد روى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن عبد الله بن عمر أن عائشة كانت تقول " لا بأس بأن يمس الطيب عند الإحرام " قال فدعوت رجلا وأنا جالس بجنب ابن عمر فأرسلته إليها وقد علمت قولها ولكن أحببت أن يسمعه أبي، فجاءني رسولي فقال إن عائشة تقول لا بأس بالطيب عند الإحرام فأصب ما بدا لك. قال فسكت ابن عمر. وكذا كان سالم بن عبد الله بن عمر يخالف أباه وجده في ذلك لحديث عائشة، قال ابن عيينة " أخبرنا عمرو بن دينار عن سالم أنه ذكر قول عمر في الطيب ثم قال: قالت عائشة " فذكر الحديث، قال سالم: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع. قوله: (فذكرته لإبراهيم) هو مقول منصور، وإبراهيم هو النخعي. قوله: (فقال ما تصنع بقوله) يشير إلى ما بينته وإن كان لم يتقدم إلا ذكر الفعل، ويؤخذ منه أن المفزع في النوازل إلى السنن وأنه مستغنى بها عن آراء الرجال وفيها المقنع. قوله: (كأني أنظر) أرادت بذلك قوة تحققها لذلك بحيث أنها لشدة استحضارها له كأنها ناظرة إليه. قوله: (وبيص) بالموحدة المكسورة وآخره صاد مهملة هو البريق، وقد تقدم في الغسل قول الإسماعيلي: إن الوبيص زيادة على البريق، وأن المراد به التلألؤ، وأنه يدل على وجود عين قائمة لا الريح فقط. قوله: (في مفارق) جمع مفرق وهو المكان الذي يفترق فيه الشعر في وسط الرأس، قيل ذكرته بصيغة الجمع تعميما لجوانب الرأس التي يفرق فيها الشعر. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ الشرح: قوله: (لإحرامه) أي لأجل إحرامه، وللنسائي " حين أراد أن يحرم " ولمسلم نحوه كما سيأتي قريبا. قوله: (ولحله) أي بعد أن يرمي ويحلق. واستدل بقولها " كنت أطيب " على أن كان لا تقتضي التكرار لأنها لم يقع منها ذلك إلا مرة واحدة، وقد صرحت في رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوداع كما سيأتي في كتاب اللباس، كذا استدل به النووي في " شرح مسلم " وتعقب بأن المدعي تكراره إنما هو التطيب لا الإحرام، ولا مانع من أن يتكرر التطيب لأجل الإحرام مع كون الإحرام مرة واحدة ولا يخفى ما فيه. وقال النووي في موضع آخر: المختار أنها لا تقتضي تكرارا ولا استمرارا، وكذا قال الفخر في " المحصول"، وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه قال ولهذا استفدنا من قولهم " كان حاتم يقري الضيف " أن ذلك كان يتكرر منه. وقال جماعة من المحققين إنها تقتضي التكرار ظهورا، وقد تقع قرينة تدل على عدمه، لكن يستفاد من سياقه لذلك المبالغة في إثبات ذلك، والمعني أنها كانت تكرر فعل التطيب لو تكرر منه فعل الإحرام لما اطلعت عليه من استحبابه لذلك، على أن هذه اللفظة لم تتفق الرواة عنها عليها، فسيأتي للبخاري من طريق سفيان ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم شيخ مالك فيه هنا بلفظ " طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم " وسائر الطرق ليس فيها صيغة " كان " والله أعلم. واستدل به على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام، وجواز استدامته بعد الإحرام، وأنه لا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام وهو قول الجمهور، وعن مالك يحرم ولكن لا فدية. وفي رواية عنه تجب. وقال محمد بن الحسن: يكره أن يتطيب قبل الإحرام بما يبقى عينه بعده. وتجب المالكية بأمور: منها أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل بعد أن تطيب لقوله في رواية ابن المنتشر المتقدمة في الغسل " ثم طاف بنسائه ثم أصبح محرما " فإن المراد بالطواف الجماع، وكان من عادته أن يغتسل عند كل واحدة، ومن ضرورة ذلك أن لا يبقى للطيب أثر، ويرده قوله في الرواية الماضية أيضا " ثم أصبح محرما ينضح طيبا " فهو ظاهر في أن نضح الطيب - وهو ظهور رائحته - كان في حال إحرامه، ودعوى بعضهم أن فيه تقديما وتأخيرا والتقدير طاف على نسائه ينضح طيبا ثم أصبح محرما خلاف الظاهر، ويرده قوله في رواية الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم عند مسلم " كان إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك " وللنسائي وابن حبان " رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث وهو محرم " وقال بعضهم: إن الوبيص كان بقايا الدهن المطيب الذي تطيب به فزال وبقي أثره من غير رائحة، ويرده قول عائشة ينضح طيبا. وقال بعضهم: بقي أثره لا عينه، قال ابن العربي ليس في شيء من طرق حديث عائشة أن عينه بقيت انتهى. وقد روى أبو داود وابن أبي شيبة من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت " كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا". فهذا صريح في بقاء عين الطيب، ولا يقال إن ذلك خاص بالنساء لأنهم أجمعوا على أن الرجال والنساء سواء في تحريم استعمال الطيب إذا كانوا محرمين. وقال بعضهم: كان ذلك طيبا لا رائحة له تمسكا برواية الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة " بطيب لا يشبه طيبكم " قال بعض رواته: يعني لا بقاء له أخرجه النسائي. ويرد هذا التأويل ما في الذي قبله. ولمسلم من رواية منصور بن زاذان عن عبد الرحمن بن القاسم " بطيب فيه مسك " وله من طريق الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم " كأني أنظر إلى وبيص المسك " وللشيخين من طريق عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه " بأطيب ما أجد". وللطحاوي والدارقطني من طريق نافع عن ابن عمر عن عائشة " بالغالية الجيدة " هذا يدل على أن قولها بطيب لا يشبه طيبكم أي أطيب منه، لا كما فهمه القائل يعني ليس له بقاء. وادعى بعضهم أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم قال المهلب وأبو الحسن القصار وأبو الفرج من المالكية، قال بعضهم: لأن الطيب من دواعي النكاح فنهى الناس عنه وكان هو أملك الناس لإربه ففعله، ورجحه ابن العربي بكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح، وقد ثبت عنه أنه قال " حبب إلي النساء والطيب " أخرجه النسائي من حديث أنس، وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس. وقال المهلب: إنما خص بذلك لمباشرته الملائكة لأجل الوحي، وتعقب بأنه فرع ثبوت الخصوصية وكيف بها، ويردها حديث عائشة بنت طلحة المتقدم. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عائشة قالت " طيبت أبي بالمسك لإحرامه حين أحرم " وبقولها " طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين " أخرجه الشيخان من طريق عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عنها، وسيأتي من طريق سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ " وأشارت بيديها " واعتذر بعض المالكية بأن عمل أهل المدينة على خلافه، وتعقب بما رواه النسائي من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسا من أهل العلم - منهم القاسم بن محمد وخارجة بن زيد وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث - فسألهم عن التطيب قبل الإفاضة، فكلهم أمر به. فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من التابعين قد اتفقوا على ذلك، فكيف يدعى مع ذلك العمل على خلافه. قوله: (ولحله قبل أن يطوف بالبيت) أي لأجل إحلاله من إحرامه قبل أن يطوف طواف الإفاضة، وسيأتي في اللباس من طريق يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ " قبل أن يفيض " وللنسائي من هذا الوجه " وحين يريد أن يزور البيت " ولمسلم نحوه من طريق عمرة عن عائشة، وللنسائي من طريق ابن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة " ولحله بعدما يرمي جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت " واستدل به على حل الطيب وغيره من محرمات الإحرام بعد رمي جمرة العقبة، ويستمر امتناع الجماع ومتعلقاته على الطواف بالبيت، وهو دال على أن للحج تحللين فمن قال أن الحلق نسك كما هو قول الجمهور وهو الصحيح عند الشافعية يوقف استعمال الطيب وغيره من المحرمات المذكورة عليه، ويؤخذ ذلك من كونه صلى الله عليه وسلم في حجته رمى ثم حلق ثم طاف، فلولا أن الطيب بعد الرمي والحلق لما اقتصرت على الطواف في قولها " قبل أن يطوف بالبيت " قال النووي في " شرح المهذب " ظاهر كلام ابن المنذر وغيره أنه لم يقل بأن الحلق ليس بنسك إلا الشافعي، وهو في رواية عن أحمد، وحكي عن أبي يوسف، واستدل به على جواز استدامة الطيب بعد الإحرام، وخالف الحنفية فأوجبوا فيه الفدية قياسا على اللبس، وتعقب بأن استدامة اللبس لبس واستدامة الطيب ليس بطيب، ويظهر ذلك بما لو حلف. وقد تقدم التعقب على من زعم أن المراد بريق الدهن أو أثر الطيب الذي لا رائحة له بما فيه كفاية. |
|
|
08-14-2013, 11:35 AM | #482 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا الشرح:
قوله: (باب من أهل ملبدا) أي أحرم وقد لبد شعر رأسه، أي جعل فيه شيئا نحو الصمغ ليجتمع شعره لئلا يتشعث في الإحرام أو يقع فيه القمل. الحديث: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ مُلَبِّدًا الشرح: حديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه في ذلك وهو مطابق للترجمة، وقوله "سمعته يهل ملبدا " أي سمعته يهل في حال كونه ملبدا، ولأبي داود والحاكم من طريق نافع عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام لبد رأسه بالعسل، قال ابن عبد السلام يحتمل أنه بفتح المهملتين، ويحتمل أنه بكسر المعجمة وسكون المهملة، وهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو غيره. قلت ضبطناه في روايتنا في سنن أبي داود بالمهملتين. *3*باب الْإِهْلَالِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ الشرح: قوله: (باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة) أي لمن حج من المدينة. أورد فيه حديث سالم أيضا عن أبيه في ذلك من وجهين، وساقه بلفظ مالك. وأما لفظ سفيان فأخرجه الحميدي في مسنده بلفظ " هذه البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد مسجد ذي الحليفة " وأخرجه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل عن موسى بن عقبة بلفظ " كان ابن عمر إذا قيل له الإحرام من البيداء قال: البيداء التي تكذبون فيها إلخ، إلا أنه قال: من عند الشجرة حين قام به بعيره " وسيأتي للمصنف بعد أبواب ترجمة " من أهل حين استوت به راحلته " وأخرج فيه من طريق صالح بن كيسان عن نافع عن ابن عمر قال " أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة " وكان ابن عمر ينكر على رواية ابن عباس الآتية بعد بابين بلفظ " ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل " وقد أزال الإشكال ما رواه أبو داود والحاكم من طريق سعيد بن جبير " قلت لابن عباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إهلاله - فذكر الحديث وفيه - فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتين أوجب من مجلسه فأهل بالحج حين فرغ منها فسمع منه قوم فحفظوه، ثم ركب فلما استقلت به راحلته أهل، وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوه في المرة الأولى فسمعوه حين ذاك فقالوا إنما أهل حين استقلت به راحلته، ثم مضى فلما علا شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه فنقل كل أحد ما سمع، وإنما كان إهلاله في مصلاه وايم الله، ثم أهل ثانيا وثالثا " وأخرجه الحاكم من وجه آخر من طريق عطاء عن ابن عباس نحوه دون القصة، فعلى هذا فكان إنكار ابن عمر على من يخص الإهلال بالقيام على شرف البيداء، وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك وإنما الخلاف في الأفضل. (فائدة) : البيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، قاله أبو عبيد البكري وغيره. *3*باب مَا لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ الشرح: قوله: (باب ما لا يلبس المحرم من الثياب) المراد بالمحرم من أحرم بحج أو عمرة أو قرن، وحكى ابن دقيق العيد أن ابن عبد السلام كان يستشكل معرفة حقيقة الإحرام يعني على مذهب الشافعي ويرد على من يقول إنه النية، لأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه، وشرط الشيء غيره، ويعترض على من يقول إنه التلبية بأنها ليست ركنا وكأنه يحوم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء انتهى. والذي يظهر أنه مجموع الصفة الحاصلة من تجرد وتلبية ونحو ذلك، وسيأتي في آخر " باب التلبية " ما يتعلق بشيء من هذا الغرض. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ الشرح: قوله: (أن رجلا قال يا رسول الله) لم أقف على اسمه في شيء من الطرق، وسيأتي في " باب ما ينهى من الطيب للمحرم " ومن طريق الليث عن نافع بلفظ " ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام " وعند النسائي من طريق عمر بن نافع عن أبيه " ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا " وهو مشعر بأن السؤال عن ذلك كان قبل الإحرام. وقد حكى الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري أن في رواية ابن جريج والليث عن نافع أن ذلك كان في المسجد، ولم أر ذلك في شيء من الطرق عنهما. نعم أخرج البيهقي من طريق حماد بن زيد عن أيوب، ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء عن عبد الله بن عون، كلاهما عن نافع عن ابن عمر " نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بذلك المكان " وأشار نافع إلى مقدم المسجد فذكر الحديث، وظهر أن ذلك كان بالمدينة، ووقع في حديث ابن عباس الآتي في أواخر الحج أنه صلى الله عليه وسلم خطب بذلك في عرفات فيحمل على التعدد، ويؤيده أن حديث ابن عمر أجاب به السائل. وحديث ابن عباس ابتدأ به في الخطبة. قوله: (ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القمص إلخ) قال النووي قال العلماء هذا الجواب من بديع الكلام وجزله لأن ما لا يلبس منحصر فحصل التصريح به، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر فقال: لا يلبس كذا أي ويلبس ما سواه انتهى. وقال البيضاوي: سئل عما يلبس فأجاب بما لا يلبس ليدل بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب لأنه أخصر وأحصر، وفيه إشارة إلى أن حق السؤال أن يكون عما لا يلبس لأنه الحكم العارض في الإحرام المحتاج لبيانه، إذ الجواز ثابت بالأصل معلوم بالاستصحاب فكان الأليق السؤال عما لا يلبس. وقال غيره: هذا يشبه أسلوب الحكيم، ويقرب منه قوله تعالى (يسألونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير فللوالدين) الآية، فعدل عن جنس المنفق وهو المسئول عنه إلى ذكر المنفق عليه لأنه أهم. وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف كان ولو بتغيير أو زيادة ولا تشترط المطابقة انتهى. وهذا كله بناء على سياق هذه الرواية وهي المشهورة عن نافع، وقد رواه أبو عوانة من طريق ابن جريج عن نافع بلفظ " ما يترك المحرم " وهي شاذة والاختلاف فيها على ابن جريج لا على نافع، ورواه سالم عن ابن عمر بلفظ " أن رجلا قال: ما يجتنب المحرم من الثياب " أخرجه أحمد وابن خزيمة وأبو عوانة في صحيحيهما من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عنه، وأخرجه أحمد عن ابن عيينة عن الزهري فقال مرة " ما يترك " ومرة " ما يلبس"، وأخرجه المصنف في أواخر الحج من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ نافع، فالاختلاف فيه على الزهري يشعر بأن بعضهم رواه بالمعنى فاستقامت رواية نافع لعدم الاختلاف فيها، واتجه البحث المتقدم. وطعن بعضهم في قول من قال من الشراح أن هذا من أسلوب الحكيم بأنه كان يمكن الجواب بما يحصر أنواع ما لا يلبس كأن يقال ما ليس بمخيط ولا على قدر البدن كالقميص أو بعضه كالسراويل أو الخف ولا يستر الرأس أصلا ولا يلبس ما مسه طيب كالورس والزعفران، ولعل المراد من الجواب المذكور ذكر المهم وهو ما يحرم لبسه ويوجب الفدية. قوله: (المحرم) أجمعوا على أن المراد به هنا الرجل، ولا يلتحق به المرأة في ذلك قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ما ذكر، وإنما تشترك مع الرجل في منع الثوب الذي مسه الزعفران أو الورس، ويؤيده قوله في آخر حديث الليث الآتي في آخر الحج " لا تنتقب المرأة " كما سيأتي البحث فيه، وقوله "لا تلبس " بالرفع على الخبر وهو في معنى النهي، وروي بالجزم على أنه نهي، قال عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم، وأنه نبه بالقميص والسراويل على كل مخيط، وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطى الرأس به مخيطا أو غيره، وبالخفاف على كل ما يستر الرجل انتهى. وخص ابن دقيق العيد الإجماع الثاني بأهل القياس وهو واضح، والمراد بتحريم المخيط ما يلبس على الموضع الذي جعل له ولو في بعض البدن فأما لو ارتدى بالقميص مثلا فلا بأس. وقال الخطابي: ذكر العمامة والبرنس معا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بالمعتاد ولا بالنادر، قال: ومن النادر المكتل يحمله على رأسه. قلت: إن أراد أنه يجعله على رأسه كلابس القبع صح ما قال، وإلا فمجرد وضعه على رأسه على هيئة الحامل لحاجته لا يضر على مذهبه. ومما لا يضر أيضا الانغماس في الماء فإنه لا يسمى لابسا، وكذا ستر الرأس باليد. قوله: (إلا أحد) قال ابن المنير في الحاشية: يستفاد منه جواز استعمال أحد في الإثبات خلافا لمن خصه بضرورة الشعر، قال: والذي يظهر لي بالاستقراء أنه لا يستعمل في الإثبات إلا إن كان يعقبه نفي. قوله: (لا يجد نعلين) زاد معمر في روايته عن الزهري عن سالم في هذا الموضع زيادة حسنة تفيد ارتباط ذكر النعلين بما سبق وهي قوله " وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين " واستدل بقوله " فإن لم يجد " على أن واجد النعلين لا يلبس الخفين المقطوعين وهو قول الجمهور، وعن بعض الشافعية جوازه وكذا عند الحنفية. وقال ابن العربي: إن صارا كالنعلين جاز وإلا متى سترا من ظاهر الرجل شيئا لم يجز إلا للفاقد، والمراد بعدم الوجدان أن لا يقدر على تحصيله إما لفقده أو ترك بذل المالك له وعجزه عن الثمن إن وجد من يبيعه أو الأجرة، ولو بيع بغبن لم يلزمه شراؤه أو وهب له لم يجب قبوله إلا إن أعير له. قوله: (فليلبس) ظاهر الأمر للوجوب، لكنه لما شرع للتسهيل لم يناسب التثقيل وإنما هو للرخصة. قوله: (وليقطعهما أسفل من الكعبين) في رواية ابن أبي ذئب الماضية في آخر كتاب العلم " حتى يكونا تحت الكعبين " والمراد كشف الكعبين في الإحرام وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، ومؤيده ما روى ابن أبي شيبة عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه قال إذا اضطر المحرم إلى الخفين خرق ظهورهما وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه. وقال محمد بن الحسن ومن تبعه من الحنفية: الكعب هنا هو العظم الذي في وسط القدم عند معقد الشراك، وقيل إن ذلك لا يعرف عند أهل اللغة، وقيل إنه لا يثبت عن محمد إن السبب في نقله عنه أن هشام بن عبيد الله الرازي سمعه يقول في مسألة المحرم إذا لم يجد النعلين حيث يقطع خفيه فأشار محمد بيده إلى موضع القطع، ونقله هشام إلى غسل الرجلين في الطهارة، وبهذا يتعقب على من نقل عن أبي حنيفة كابن بطال أنه قال: إن الكعب هو الشاخص في ظهر القدم، فإنه لا يلزم من نقل ذلك عن محمد بن الحسن - على تقدير صحته عنه - أن يكون قول أبي حنيفة. ونقل عن الأصمعي وهو قول الإمامية أن الكعب عظم مستدير تحت عظم الساق حيث مفصل الساق والقدم، وجمهور أهل اللغة على أن في كل قدم كعبين، وظاهر الحديث أنه لا فدية على من لبسهما إذا لم يجد النعلين، وعن الحنفية تجب، وتعقب بأنها لو وجبت لبينها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وقت الحاجة. واستدل به على اشتراط القطع، خلافا للمشهور عن أحمد فإنه أجاز لبس الخفين من غير قطع لإطلاق حديث ابن عباس الآتي في أواخر الحج بلفظ " ومن لم يحد نعلين فليلبس خفين " وتعقب بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيد فينبغي أن يقول بها هنا، وأجاب الحنابلة بأشياء: منها دعوى النسخ في حديث ابن عمر، فقد روى الدارقطني من طريق عمرو بن دينار أنه روى عن ابن عمر حديثه وعن جابر بن زيد عن ابن عباس حديثه وقال: انظروا أي الحديثين قبل، ثم حكى الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري أنه قال: حديث ابن عمر قبل لأنه كان بالمدينة قبل الإحرام، وحديث ابن عباس بعرفات. وأجاب الشافعي عن هذا في " الأم " فقال: كلاهما صادق حافظ، وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس لاحتمال أن تكون عزبت عنه أو شك أو قالها فلم يقلها عنه بعض رواته انتهى. وسلك بعضهم الترجيح بين الحديثين، قال ابن الجوزي: حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لم يختلف في رفعه انتهى. وهو تعليل مردود بل لم يختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلا في رواية شاذة، على أنه اختلف في حديث ابن عباس أيضا فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا، وهو يرتاب أحد من المحدثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وصف بكونه أصح الأسانيد، واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفاظ منهم نافع وسالم، بخلاف حديث ابن عباس فلم يأت مرفوعا إلا من رواية جابر بن زيد عنه حتى قال الأصيلي: إنه شيخ بصري لا يعرف كذا قال، وهو معروف موصوف بالفقه عند الأئمة. واستدل بعضهم بالقياس على السراويل كما سيأتي البحث فيه في حديث ابن عباس إن شاء الله تعالى، وأجيب بأن القياس مع وجود النص فاسد الاعتبار. واحتج بعضهم بقول عطاء: إن القطع فساد والله لا يحب الفساد، وأجيب بأن الفساد إنما يكون فيما نهى الشرع عنه لا فيما أذن فيه. وقال ابن الجوزي: يحمل الأمر بالقطع على الإباحة لا على الاشتراط عملا بالحديثين، ولا يخفى تكلفه. قال العلماء: والحكمة في منع المحرم من اللباس والطيب البعد عن الترفه، والاتصاف بصفة الخاشع، وليتذكر بالتجرد القدوم على ربه فيكون أقرب إلى مراقبته وامتناعه من ارتكاب المحظورات. قوله: (ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس) قيل عدل عن طريقة ما تقدم ذكره إشارة إلى اشتراك الرجال والنساء في ذلك وفيه نظر، بل الظاهر أن نكتة العدول أن الذي يخالطه الزعفران والورس لا يجوز لبسه سواء كان مما يلبسه المحرم أو لا يلبسه. والورس بفتح الواو وسكون الراء بعدها مهملة نبت أصفر طيب الريح يصبغ به، قال ابن العربي: ليس الورس بطيب، ولكنه نبه به على اجتناب الطيب وما يشبهه في ملاءمة الشم، فيؤخذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرم وهو مجمع عليه فيما يقصد به التطيب. واستدل بقوله " مسه " على تحريم ما صبغ كله أو بعضه ولو خفيت رائحته. قال مالك في الموطأ: إنما يكره لبس المصبغات لأنها تنفض. وقال الشافعية: إذا صار الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تفح له رائحة لم يمنع. والحجة فيه حديث ابن عباس الآتي في الباب الذي تقدم بلفظ " ولم ينه عن شيء من الثياب إلا المزعفرة التي تردع الجلد " وأما المغسول فقال الجمهور: إذا ذهبت الرائحة جاز خلافا لمالك، واستدل لهم بما روى أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع في هذا الحديث " إلا أن يكون غسيلا " أخرجه يحيي بن عبد الحميد الحماني في مسنده عنه، وروى الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران أن يحيي بن معين أنكره على الحماني، فقال له عبد الرحمن بن صالح الأزدي: قد كتبته عن أبي معاوية. وقام في الحال فأخرج له أصله فكتبه عنه يحيي بن معين انتهى. وهي زيادة شاذة لأن أبا معاوية وإن كان متقنا لكن في حديثه عن غير الأعمش مقال، قال أحمد: أبو معاوية مضطرب الحديث في عبيد الله ولم يجيء بهذه الزيادة غيره. قلت: والحماني ضعيف وعبد الرحمن الذي تابعه فيه مقال، واستدل به المهلب على منع استدامة الطيب وفيه نظر، واستنبط من منع لبس الثوب المزعفر منع أكل الطعام الذي فيه الزعفران وهذا قول الشافعية، وعن المالكية خلاف. وقال الحنفية لا يحرم لأن المراد اللبس والتطيب والآكل لا يعد متطيبا. (تنبيه) : زاد الثوري في روايته عن أيوب عن نافع في هذا الحديث " ولا القباء " أخرجه عبد الرزاق عنه، ورواه الطبراني من وجه آخر عن الثوري، وأخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع أيضا. والقباء بالقاف والموحدة معروف، ويطلق على كل ثوب مفرج، ومنع لبسه على المحرم متفق عليه، إلا أن أبا حنيفة قال: يشترط أن يدخل يديه في كميه لا إذا ألقاه على كتفيه، ووافقه أبو ثور والخرقي من الحنابلة. وحكى الماوردي نظيره إن كان كمه ضيقا، فإن كان واسعا فلا. *3*باب الرُّكُوبِ وَالِارْتِدَافِ فِي الْحَجِّ الشرح: قوله: (باب الركوب والارتداف في الحج) أورد فيه حديث ابن عباس في إردافه صلى الله عليه وسلم أسامة ثم الفضل، وسيأتي الكلام عليه في " باب التلبية والتكبير غداة النحر " والقصة وإن كانت وردت في حالة الدفع من عرفات إلى منى لكن يلحق بها ما تضمنته الترجمة في جميع حالات الحج، قال ابن المنير: والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم قصد بإردافه من ذكر ليحدث عنه بما يتفق له في تلك الحال من التشريع. |
08-14-2013, 11:35 AM | #483 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ وَالْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَقَالَتْ لَا تَلَثَّمْ وَلَا تَتَبَرْقَعْ وَلَا تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ وَلَا زَعْفَرَانٍ وَقَالَ جَابِرٌ لَا أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِيِّ وَالثَّوْبِ الْأَسْوَدِ وَالْمُوَرَّدِ وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لَا بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ
الشرح: قوله: (باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر) هذه الترجمة مغايرة للسابقة التي قبلها من حيث أن تلك معقودة لما لا يلبس من أجناس الثياب، وهذه لما يلبس من أنواعها. والأزر بضم الهمزة والزاي جمع إزار. قوله: (ولبست عائشة الثياب المعصفرة وهي محرمة) وصله سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال " كانت عائشة تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة " إسناده صحيح. وأخرجه البيهقي من طريق ابن أبي مليكة " أن عائشة كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر الخفيف وهي محرمة " وأجاز الجمهور لبس المعصفر للمحرم. وعن أبي حنيفة العصفر طيب وفيه الفدية، واحتج بأن عمر كان ينهي عن الثياب المصبغة، وتعقبه ابن المنذر بأن عمر كره ذلك لئلا يقتدي به الجاهل فيظن جواز لبس المورس والمزعفر، ثم ساق له قصة مع طلحة فيها بيان ذلك. قوله: (وقالت) أي عائشة (لا تلثم) بمثناة واحدة وتشديد المثلثة وهو على حذف إحدى التاءين. وفي رواية أبي ذر تلتثم بسكون اللام وزيادة مثناة بعدها أي لا تغطي شفتها بثوب، وقد وصله البيهقي، وسقط من رواية الحموي من الأصل. وقال سعيد بن منصور " حدثنا هشيم حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها " وفي " مصنف ابن أبي شيبة " عن عبد الأعلى عن هشام عن الحسن وعطاء قالا " لا تلبس المحرمة القفازين والسراويل ولا تبرقع ولا تلثم، وتلبس ما شاءت من الثياب إلا ثوبا ينفض عليها ورسا أو زعفرانا " وهذا يشبه ما ذكر في الأصل عن عائشة. قوله: (وقال جابر) أي ابن عبد الله الصحابي. قوله: (لا أرى المعصفر طيبا) أي تطيبا. وصله الشافعي ومسدد بلفظ " لا تلبس المرأة ثياب الطيب ولا أرى المعصفر طيبا " وقد تقدم الخلاف في ذلك. قوله: (ولم تر عائشة بأسا بالحلي والثوب الأسود والمورد والخف للمرأة) وصله البيهقي من طريق ابن باباه المكي " أن امرأة سألت عائشة: ما تلبس المرأة في إحرامها؟ قالت عائشة تلبس من خزها وبزها وأصباغها وحليها " وأما المورد والمراد ما صبغ على لون الورد فسيأتي موصولا في " باب طواف النساء " في آخر حديث عطاء عن عائشة، وأما الخف فوصله ابن أبي شيبة عن ابن عمر والقاسم بن محمد والحسن وغيرهم. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلا خفيفا تستر به عن نظر الرجال:، ولا تخمره إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت " كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر " تعني جدتها قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلا كما جاء عن عائشة قالت " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات فإذا جاوزنا رفعناه " انتهى. وهذا الحديث أخرجه هو من طريق مجاهد عنها وفي إسناده ضعف. قوله: (وقال إبراهيم) أي النخعي. قوله: (لا بأس أن يبدل ثيابه) وصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة كلاهما عن هشيم عن مغيرة وعبد الملك ويونس، أما مغيرة فعن إبراهيم، وأما عبد الملك فعن عطاء، وأما يونس فعن الحسن قالوا " يغير المحرم ثيابه ما شاء " لفظ سعيد. وفي رواية ابن أبي شيبة " أنهم لم يروا بأسا أن يبدل المحرم ثيابه " قال سعيد " وحدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا إذا أتوا بئر ميمون اغتسلوا ولبسوا أحسن ثيابهم فدخلوا فيها مكة". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ تُلْبَسُ إِلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَقَدِمَ مَكَّةَ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ لِأَنَّهُ قَلَّدَهَا ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ وَهُوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ وَلَمْ يَقْرَبْ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ ثُمَّ يَحِلُّوا وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِيَ لَهُ حَلَالٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ الشرح: قوله: (حدثنا فضيل) هو بالتصغير. قوله: (ترجل) أي سرح شعره. قوله: (وادهن) قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن والشيرج وأن يستعمل ذلك في جميع بدنه سوى رأسه ولحيته، وأجمعوا أن الطيب لا يجوز استعماله في بدنه، ففرقوا بين الطيب والزيت في هذا، فقياس كون المحرم ممنوعا من استعمال الطيب في رأسه أن يباح له استعمال الزيت في رأسه، وقد تقدمت الإشارة إلى الخلاف في ذلك قبل بأبواب. قوله: (التي تردع) بالمهملة أي تلطخ يقال ردع إذا التطخ، والردع أثر الطيب، وردع به الطيب إذا لزق بجلده، قال ابن بطال وقد روي بالمعجمة من قولهم أردغت الأرض إذا كثرت مناقع المياه فيها، والردغ بالغين المعجمة الطين انتهى. ولم أر في شيء من الطرق ضبط هذه اللفظة بالغين المعجمة ولا تعرض لها عياض ولا ابن قرقول والله أعلم ووقع في الأصل تردع على الجلد قال ابن الجوزي: الصواب حذف " على " كذا قال، وإثباتها موجه أيضا كما تقدم. قوله: (فأصبح بذي الحليفة) أي وصل إليها نهارا ثم بات بها كما سيأتي صريحا في الباب الذي بعده من حديث أنس. قوله: (حتى استوى على البيداء أهل) تقدم نقل الخلاف في ذلك وطريق الجمع بين المختلف فيه. قوله: (وذلك لخمس بقين من ذي القعدة) أخرج مسلم مثله من حديث عائشة، واحتج به ابن حزم في كتاب " حجة الوداع " له على أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان يوم الخميس، قال: لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس بلا شك لأن الوقفة كانت يوم الجمعة بلا خلاف، وظاهر قول ابن عباس " لخمس " يقتضي أن يكون خروجه من المدينة يوم الجمعة بناء على ترك عد يوم الخروج، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا كما سيأتي قريبا من حديث أنس، فتبين أنه لم يكن يوم الجمعة فتعين أنه يوم الخميس. وتعقبه ابن القيم بأن المتعين أن يكون يوم السبت بناء على عد يوم الخروج أو على ترك عده ويكون ذو القعدة تسعا وعشرين يوما انتهى. ويؤيده ما رواه ابن سعد والحاكم في " الإكليل " أن خروجه من المدينة كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، وفيه رد على من منع إطلاق القول في التاريخ لئلا يكون الشهر ناقصا فلا يصح الكلام فيقول مثلا لخمس إن بقين بزيادة أداة الشرط، وحجة المجيز أن الإطلاق يكون على الغالب ومقتضى قوله أنه دخل مكة لأربع خلون من ذي الحجة أن يكون دخلها صبح يوم الأحد وبه صرح الواقدي. قوله: (والطيب والثياب) أي كذلك، وقوله "الحجون " بفتح المهملة بعدها جيم مضمومة هو الجبل المطل على المسجد بأعلى مكة على يمين المصعد وهناك مقبرة أهل مكة. وسيأتي بقية شرح ما اشتمل عليه حديث ابن عباس هذا مفرقا في الأبواب. *3*باب مَنْ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح) يعني إذا كان حجه من المدينة، والمراد من هذه الترجمة مشروعية المبيت بالقرب من البلد التي يسافر منها ليكون أمكن من التوصل إلى مهماته التي ينساها مثلا، قال ابن بطال: ليس ذلك من سنن الحج، إنما هو من جهة الرفق ليلحق به من تأخر عنه، قال ابن المنير: لعله أراد أن يدفع توهم من يتوهم أن الإقامة بالميقات وتأخير الإحرام شبيه بمن تعداه بغير إحرام فبين أن ذلك غير لازم حتى ينفصل عنه. قوله: (قاله ابن عمر) يشير إلى حديثه المتقدم في " باب خروج النبي صلى الله عليه وسلم على طريق الشجرة". الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ الشرح: قوله: (حدثني ابن المنكدر) كذا رواه الحفاظ من أصحاب ابن جريج عنه، وخالفهم عيسى بن يونس فقال " عن ابن جريج عن الزهري عن أنس " وهي رواية شاذة. قوله: (وبذي الحليفة ركعتين) فيه مشروعية قصر الصلاة لمن خرج من بيوت البلد وبات خارجا عنها ولو لم يستمر سفره، واحتج به أهل الظاهر في قصر الصلاة في السفر القصير، ولا حجة فيه لأنه كابتداء سفر لا المنتهى، وقد تقدم البحث في ذلك في أبواب قصر الصلاة، وتقدم الخلاف في ابتداء إهلاله قريبا. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ وَأَحْسِبُهُ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ الشرح: قوله في الرواية الثانية (حدثنا عبد الوهاب) هو ابن عبد المجيد الثقفي. قوله: (وأحسبه) الشك فيه من أبي قلابة، وقد تقدم في طريق ابن المنكدر التي قبلها بغير شك، وسيأتي بعد بابين من طريق أخرى عن أيوب بأتم من هذا السياق. |
08-14-2013, 11:37 AM | #484 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ الشرح:
قوله: (باب رفع الصوت بالإهلال) قال الطبري: الإهلال هنا رفع الصوت بالتلبية وكل رافع صوته بشيء فهو مهل به، وأما أهل القوم الهلال فأرى أنه من هذا لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم عند رؤيته انتهى. وسيأتي اختيار البخاري خلاف ذلك بعد أبواب. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا الشرح: قوله: (وسمعتهم يصرخون بهما جميعا) أي بالحج والعمرة، ومراد أنس بذلك من نوى منهم القران، ويحتمل أن يكون على سبيل التوزيع، أي بعضهم بالحج وبعضهم بالعمرة قاله الكرماني. ويشكل عليه قوله في الطريق الأخرى " يقول لبيك بحجة وعمرة معا " وسيأتي إنكار ابن عمر على أنس ذلك، سيأتي ما فيه في " باب التمتع والقران " وفيه حجة للجمهور في استحباب رفع الأصوات بالتلبية، وقد روى مالك في " الموطأ " وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم من طريق خلاد بن السائب عن أبيه مرفوعا " جاءني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي يرفعون أصواتهم بالإهلال " ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف على التابعي في صحابيه. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني قال " كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين " وأخرج أيضا بإسناد صحيح من طريق المطلب بن عبد الله قال " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم " واختلف الرواة عن مالك فقال ابن القاسم عنه: لا يرفع صوته بالتلبية إلا في المسجد الحرام ومسجد منى. وقال في الموطأ: لا يرفع صوته بالتلبية في مسجد الجماعات، ولم يستثن شيئا. ووجه الاستثناء أن المسجد الحرام جعل للحاج والمعتمر وغيرهما وكان الملبي إنما يقصد إليه فكان ذلك وجه الخصوصية، وكذلك مسجد منى. *3*باب التَّلْبِيَةِ الشرح: قوله: (باب التلبية) هي مصدر لبى أي قال: لبيك، ولا يكون عامله إلا مضمرا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ الشرح: قوله: (لبيك) هو لفظ مثنى عند سيبويه ومن تبعه. وقال يونس: هو اسم مفرد وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير كلدي وعلي. ورد بأنها قلبت ياء مع المظهر. وعن الفراء: هو منصوب على المصدر، وأصله لبا لك فثني على التأكيد أي إلبابا بعد إلباب، وهذه التثنية ليست حقيقية بل هي للتكثير أو المبالغة، ومعناه إجابة بعد إجابة أو إجابة لازمة. قال ابن الأنباري: ومثله حنانيك أي تحننا بعد تحنن. وقيل: معنى لبيك اتجاهي وقصدي إليك، مأخوذ من قولهم داري تلك دارك أي تواجهها. وقيل: معناه محبتي لك مأخوذ من قولهم امرأة لبة أي محبة. وقيل إخلاصي لك من قولهم حب لباب أي خالص. وقيل أنا مقيم على طاعتك من قولهم لب الرجل بالمكان إذا أقام. وقيل قربا منك من الإلباب وهو القرب. وقيل خاضعا لك. والأول أظهر وأشهر لأن المحرم مستجيب لدعاء الله إياه في حج بيته، ولهذا من دعي فقال لبيك فقد استجاب. وقال ابن عبد البر قال جماعة من أهل العلم معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذن في الناس بالحج انتهى. وهذا أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم بأسانيدهم في تفاسيرهم عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغير واحد والأسانيد إليهم قوية، وأقوى ما فيه عن ابن عباس ما أخرجه أحمد بن منيع في مسنده وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عنه قال: " لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له أذن في الناس بالحج، قال: رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ. قال فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون"، ومن طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وفيه " فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال، وأرحام النساء. وأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ " قال ابن المنير في الحاشية: وفي مشروعية التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى. قوله: (إن الحمد) روي بكسر الهمزة على الاستئناف وبفتحها على التعليل، والكسر أجود عند الجمهور. وقال ثعلب لأن من كسر جعل معناه إن الحمد لك على كل حال، ومن فتح قال معناه لبيك لهذا السبب. وقال الخطابي: لهج العامة بالفتح وحكاه الزمخشري عن الشافعي، قال ابن عبد البر: المعنى عندي واحد لأن من فتح أراد لبيك لأن الحمد لك على كل حال، وتعقب بأن التقييد ليس في الحمد وإنما هو في التلبية. قال ابن دقيق العيد: الكسر أجود لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة، وأن الحمد والنعمة لله على كل حال، والفتح يدل على التعليل فكأنه يقول: أجبتك لهذا السبب والأول أعم فهو أكثر فائدة. ولما حكى الرافعي الوجهين من غير ترجيح رجح النووي الكسر، وهذا خلاف ما نقله الزمخشري أن الشافعي اختار الفتح وأن أبا حنيفة اختار الكسر. قوله: (والنعمة لك) المشهور فيه النصب، قال عياض: ويجوز الرفع على الابتداء ويكون الخير محذوفا والتقدير أن الحمد لك والنعمة مستقرة لك، قاله ابن الأنباري. وقال ابن المنير في الحاشية: قرن الحمد والنعمة وأفرد الملك لأن الحمد متعلق النعمة، ولهذا يقال الحمد لله على نعمه فجمع بينهما كأنه قال: لا حمد إلا لك لأنه لا نعمة إلا لك، وأما الملك فهو معنى مستقل بنفسه ذكر لتحقيق أن النعمة كلها لله صاحب الملك. قوله: (والملك) بالنصب أيضا على المشهور ويجوز الرفع، وتقديره والملك كذلك. ووقع عند مسلم من رواية موسى بن عقبة عن نافع وغيره عن ابن عمر " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوت به راحلته عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال: لبيك " الحديث. وللمصنف في اللباس من طريق الزهري عن سالم عن أبيه " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا يقول: لبيك اللهم لبيك " الحديث. وقال في آخره " لا يزيد على هذه الكلمات " زاد مسلم من هذا الوجه " قال ابن عمر: كان عمر يهل بهذا ويزيد لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك والرغباء إليك والعمل " وهذا القدر في رواية مالك أيضا عنه عن نافع عن ابن عمر أنه كان يزيد فيها فذكر نحوه، فعرف أن ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق المسور بن مخرمة قال " كانت تلبية عمر " فذكر مثل المرفوع وزاد " لبيك مرغوبا ومرهوبا إليك ذا النعماء والفضل الحسن " واستدل به على استحباب الزيادة على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، قال الطحاوي بعد أن أخرجه من حديث ابن عمر وابن مسعود وعائشة وجابر وعمرو بن معد يكرب: أجمع المسلمون جميعا على هذه التلبية، غير أن قوما قالوا: لا بأس أن يزيد فيها من الذكر لله ما أحب، وهو قول محمد والثوري والأوزاعي، واحتجوا بحديث أبي هريرة يعني الذي أخرجه النسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم قال " كان من تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك إله الحق لبيك " وبزيادة ابن عمر المذكورة، وخالفهم آخرون فقالوا لا ينبغي أن يزاد على ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس كما في حديث عمرو بن معد يكرب ثم فعله هو ولم يقل لبوا بما شئتم مما هو من جنس هذا بل علمهم كما علمهم التكبير في الصلاة فكذا لا ينبغي أن يتعدى في ذلك شيئا مما علمه. ثم أخرج حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه سمع رجلا يقول: لبيك ذا المعارج؟ فقال إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فهذا سعد قد كره الزيادة في التلبية وبه نأخذ انتهى. ويدل على الجواز ما وقع عند النسائي من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود قال " كان من تلبية النبي صلى الله عليه وسلم " فذكره ففيه دلالة على أنه قد كان يلبي بغير ذلك، وما تقدم عن عمر وابن عمر، وروى سعيد بن منصور من طريق الأسود بن يزيد أنه كان يقول " لبيك غفار الذنوب " وفي حديث جابر الطويل في صفة الحج " حتى استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك إلخ " قال " وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد عليهم شيئا منه، ولزم تلبيته " وأخرجه أبو داود من الوجه الذي أخرجه منه مسلم قال " والناس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئا " وفي رواية البيهقي " ذا المعارج وذا الفواضل " وهذا يدل على أن الاقتصار على التلبية المرفوعة أفضل لمداومته هو صلى الله عليه وسلم عليها وأنه لا بأس بالزيادة لكونه لم يردها عليهم وأقرهم عليها، وهو قول الجمهور وبه صرح أشهب، وحكى ابن عبد البر عن مالك الكراهة قال: وهو أحد قولي الشافعي. وقال الشيخ أبو حامد: حكى أهل العراق عن الشافعي يعني في القديم أنه كره الزيادة على المرفوع، وغلطوا بل لا يكره ولا يستحب. وحكى الترمذي عن الشافعي قال. فإن زاد في التلبية شيئا من تعظيم الله فلا بأس، وأحب إلي أن يقتصر على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ابن عمر حفظ التلبية عنه ثم زاد من قبله زيادة. ونصب البيهقي الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي فقال: الاقتصار على المرفوع أحب، ولا ضيق أن يزيد عليها. قال وقال أبو حنيفة إن زاد فحسن. وحكي في " المعرفة " عن الشافعي قال: ولا ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر وغيره من تعظيم الله ودعائه، غير أن الاختيار عندي أن يفرد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك انتهى. وهذا أعدل الوجوه، فيفرد ما جاء مرفوعا، وإذا اختار قول ما جاء موقوفا أو أنشأه هو من قبل نفسه مما يليق قاله على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع. وهو شبيه بحال الدعاء في التشهد فإنه قال فيه " ثم ليتخير من المسألة والثناء ما شاء " أي بعد أن يفرغ من المرفوع كما تقدم ذلك في موضعه. (تكميل) : لم يتعرض المصنف لحكم التلبية، وفيها مذاهب أربعة يمكن توصيلها إلى عشرة: الأول أنها سنة من السنن لا يجب بتركها شيء، وهو قول الشافعي وأحمد. ثانيها واجبة ويجب بتركها دم، حكاه الماوردي عن ابن أبي هريرة من الشافعية وقال إنه وجد للشافعي نصا يدل عليه، وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية والخطابي عن مالك وأبي حنيفة، وأغرب النووي فحكى عن مالك أنها سنة ويجب بتركها دم، ولا يعرف ذلك عندهم إلا أن ابن الجلاب قال: التلبية في الحج مسنونة غير مفروضة. وقال ابن التين: يريد أنها ليست من أركان الحج وإلا فهي واجبة ولذلك يجب بتركها الدم ولو لم تكن واجبة لم يجب، وحكى ابن العربي أنه يجب عندهم بترك تكرارها دم وهذا قدر زائد على أصل الوجوب. ثالثها واجبة لكن يقوم مقامها فعل يتعلق بالحج كالتوجه على الطريق وبهذا صدر ابن شاس من المالكية كلامه في " الجواهر " له، وحكى صاحب " الهداية " من الحنفية مثله لكن زاد القول الذي يقوم مقام التلبية من الذكر كما في مذهبهم من أنه لا يجب لفظ معين. وقال ابن المنذر قال أصحاب الرأي: إن كبر أو هلل أو سبح ينوي بذلك الإحرام فهو محرم. رابعها أنها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها حكاه ابن عبد البر عن الثوري وأبي حنيفة وابن حبيب من المالكية والزبيري من الشافعية وأهل الظاهر قالوا: هي نظير تكبيرة الإحرام للصلاة، ويقويه ما تقدم من بحث ابن عبد السلام عن حقيقة الإحرام وهو قول عطاء أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه قال: التلبية فرض الحج، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وطاوس وعكرمة، وحكى النووي عن داود أنه لا بد من رفع الصوت بها وهذا قدر زائد على أصل كونها ركنا. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ إِنِّي لَأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ وَقَالَ شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ سَمِعْتُ خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الشرح: قوله: (عن أبي عطية) هو مالك بن عامر وسيأتي الخلاف في اسمه في تفسير سورة البقرة، ورجال هذا الإسناد إلى عائشة كوفيون إلا شيخ البخاري، وأردف المصنف حديث ابن عمر بحديث عائشة لما فيه من الدلالة على أنه كان يديم ذلك، وقد تقدم أن في حديث جابر عند مسلم التصريح بالمداومة. قوله: (تابعه أبو معاوية) يعني تابع سفيان وهو الثوري عن الأعمش وروايته وصلها مسدد في مسنده عنه وكذلك أخرجها الجوزقي من طريق عبد الله بن هشام عنه. قوله: (وقال شعبة إلخ) وصله أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة ولفظه مثل لفظ سفيان إلا أنه زاد فيه " ثم سمعتها تلبي وليس فيه قوله لا شريك لك " وهذا أخرجه أحمد عن غندر عن شعبة، وسليمان شيخ شعبة فيه هو الأعمش والطريقان جميعا محفوظان، وهو محمول على أن للأعمش فيه شيخين، ورجح أبو حاتم في " العلل " رواية الثوري ومن تبعه على رواية شعبة فقال إنها وهم، وخيثمة هو ابن عبد الرحمن الجعفي وأفادت هذه الطريق بيان سماع أبي عطية له من عائشة. والله أعلم. |
08-14-2013, 11:38 AM | #485 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الْإِهْلَالِ عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ
الشرح: قوله: (باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال) سقط من رواية المستملي لفظ التحميد، والمراد بالإهلال هنا التلبية، وقوله "عند الركوب " أي بعد الاستواء على الدابة لا حال وضع الرجل مثلا في الركاب، وهذا الحكم - وهو استحباب التسبيح وما ذكر معه قبل الإهلال - قل من تعرض لذكره مع ثبوته، وقيل أراد المصنف الرد على من زعم أنه يكتفي بالتسبيح وغيره عن التلبية، ووجه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أتى بالتسبيح وغيره ثم لم يكتف به حتى لبى. ثم أورد المصنف حديث أنس وهو مشتمل على أحكام، فتقدم منها ما يتعلق بقصر الصلاة وبالإحرام وسيأتي ما يتعلق بالقران قريبا. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ قَالَ وَنَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا عَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ الشرح: قوله: (ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب) ظاهره أن إهلاله كان بعد صلاة الصبح، لكن عند مسلم من طريق أبي حسان عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج " وللنسائي من طريق الحسن عن أنس " أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالبيداء ثم ركب " ويجمع بينهما بأنه صلاها آخر ذي الحليفة وأول البيداء والله أعلم. قوله: (ثم أهل بحج وعمرة) يأتي الكلام عليه في " باب التمتع والقران " قريبا إن شاء الله تعالى. قوله: (حتى كان يوم التروية) بضم يوم لأن كان تامة. قوله: (ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بدنات بيده قياما، وذبح بالمدينة كبشين أملحين. قال أبو عبد الله) و المصنف (قال بعضهم: هذا عن أيوب عن رجل عن أنس) هكذا وقع عند الكشميهني، والبعض المبهم هنا ليس هو إسماعيل بن علية كما زعم بعضهم فقد أخرجه المصنف عن مسدد عنه في " باب نحر البدن قائمة " بدون هذه الزيادة، ويحتمل أن يكون حماد بن سلمة، فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق أيوب لكن صرح بذكر أبي قلابة، ووهيب أيضا ثقة حجة فقد جعله من رواية أيوب عن أبي قلابة عن أنس فعرف أنه المبهم، وقد تابعه عبد الوهاب الثقفي على حديث ذبح الكبشين الأملحين عن أيوب عن أبي قلابة كما سيأتي في الأضاحي إن شاء الله تعالى. *3*بَاب مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَهَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً الشرح: قوله: (باب من أهل حين استوت به راحلته قائمة) أورد فيه حديث ابن عمر مختصرا وقد تقدم الكلام عليه قريبا، ورواية صالح بن كيسان عن نافع من الأقران، وقد سمع ابن جريج من نافع كثيرا وروى هذا عنه بواسطة، وهو دال على قلة تدليسه والله أعلم. *3*باب الْإِهْلَالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ ثُمَّ رَكِبَ فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ ثُمَّ يُمْسِكُ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ فِي الْغَسْلِ الشرح: قوله: (باب الإهلال مستقبل القبلة) زاد المستملي " الغداة بذي الحليفة " وسيأتي شرحه. قوله: (وقال أبو معمر) هو عبد الله بن عمرو لا إسماعيل القطيعي. وقد وصله أبو نعيم في " المستخرج " من طريق عباس الدوري عن أبي معمر وقال: ذكره البخاري بلا رواية. قوله: (إذا صلى بالغداة) أي صلى الصبح بوقت الغداة، وللكشميهني " إذا صلى الغداة " أي الصبح. قوله: (فرحلت) بتخفيف الحاء. قوله: (استقبل القبلة قائما) أي مستويا على ناقته، أو وصفه بالقيام لقيام ناقته، وقد وقع في الرواية الثانية بلفظ " فإذا استوت به راحلته قائمة " وفهم الداودي من قوله " استقبل القبلة قائما " أي في الصلاة فقال: في السياق تقديم وتأخير، فكأنه قال: أمر براحلته فرحلت ثم استقبل القبلة قائما، أي فصلى صلاة الإحرام ثم ركب حكاه ابن التين قال: وإن كان ما في الأصل محفوظا فلعله لقرب إهلاله من الصلاة انتهى. ولا حاجة إلى دعوى التقديم والتأخير بل صلاة الإحرام لم تذكر هنا والاستقبال إنما وقع بعد الركوب، وقد رواه ابن ماجه وأبو عوانة في صحيحه من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ " كان إذا أدخل رجله في الغرز واستوت به ناقته قائما أهل". قوله: (ثم يمسك) الظاهر أنه أراد يمسك عن التلبية، وكأنه أراد بالحرم المسجد، والمراد بالإمساك عن التلبية التشاغل بغيرها من الطواف وغيره لا تركها أصلا، وسيأتي نقل الخلاف في ذلك وأن ابن عمر كان لا يلبي في طوافه كما رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق عطاء قال " كان ابن عمر يدع التلبية إذا دخل الحرم، ويراجعها بعدما يقضي طوافه بين الصفا والمروة". وأخرج نحوه من طريق القاسم بن محمد عن ابن عمر. قال الكرماني: ويحتمل أن يكون مراده بالحرم منى يعني فيوافق الجمهور في استمرار التلبية حتى يرمي جمرة العقبة، لكن يشكل عليه قوله في رواية إسماعيل بن علية " إذا دخل أدنى الحرم " والأولى أن المراد بالحرم ظاهره لقوله بعد ذلك " حتى إذا جاء ذا طوى " فجعل غاية الإمساك الوصول إلى ذي طوى، والظاهر أيضا أن المراد بالإمساك ترك تكرار التلبية ومواظبتها ورفع الصوت بها الذي يفعل في أول الإحرام لا ترك التلبية رأسا والله أعلم. قوله: (ذا طوى) بضم الطاء وبفتحها وقيدها الأصيلي بكسرها: واد معروف بقرب مكة ويعرف اليوم ببئر الزاهر، وهو مقصور منون وقد لا ينون، ونقل الكرماني أن في بعض الروايات " حتى إذا حاذى طوى " بحاء مهملة بغير همز وفتح الذال قال: والأول هو الصحيح لأن اسم الموضع ذو طوى لا طوى فقط. قوله: (وزعم) هو من إطلاق الزعم على القول الصحيح، وسيأتي من رواية ابن علية عن أيوب بلفظ " ويحدث". قوله: (تابعه إسماعيل) هو ابن علية. قوله: (عن أيوب في الغسل) أي وغيره لكن من غير مقصود الترجمة لأن هذه المتابعة وصلها المصنف كما سيأتي بعد أبواب " عن يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية به " ولم يقتصر فيه على الغسل بل ذكره كله إلا القصة الأولى وأوله " كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية " والباقي مثله، ولهذه النكتة أورد المصنف طريق فليح عن نافع المقتصرة على القصة الأولى بزيادة ذكر الدهن الذي ليست له رائحة طيبة، ولم يقع في رواية فليح التصريح باستقبال القبلة لكنه من لازم الموجه إلى مكة في ذلك الموضع أن يستقبل القبلة، وقد صرح بالاستقبال في الرواية الأولى وهما حديث واحد، إنما احتاج إلى رواية فليح للنكتة التي بينتها والله أعلم. وبهذا التقرير يندفع اعتراض الإسماعيلي عليه في إيراده حديث فليح وأنه ليس فيه للاستقبال ذكر، قال المهلب: استقبال القبلة بالتلبية هو المناسب، لأنها إجابة لدعوة إبراهيم، ولأن المجيب لا يصلح له أن يولي المجاب ظهره بل يستقبله، قال: وإنما كان ابن عمر يدهن ليمنع بذلك القمل عن شعره، ويجتنب ما له رائحة طيبة صيانة للإحرام. *3*باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي الشرح: قوله: (باب التلبية إذا انحدر في الوادي) أورد فيه حديث ابن عباس " أما موسى كأني أنظر إليه إذا انحدر إلى الوادي يلبي " وفيه قصة وسيأتي بها الإسناد بأتم من هذا السياق في كتاب اللباس. وقوله "أما موسى كأني أنظر إليه " قال المهلب: هذا وهم من بعض رواته لأنه لم يأت أثر ولا خبر أن موسى حي وأنه سيحج، إنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر " ليهلن ابن مريم بفج الروحاء " انتهى، وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، فسيأتي في اللباس بالإسناد المذكور بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفيقال إن الراوي غلط فزاده؟ وقد أخرج مسلم الحديث من طريق أبي العالية عن ابن عباس بلفظ " كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا إصبعيه في أذنيه مارا بهذا الوادي وله جؤار إلى الله بالتلبية، قاله لما مر بوادي الأزرق " واستفيد منه تسمية الوادي، وهو خلف أمج بينه وبين مكة ميل واحد، وأمج بفتح الهمزة والميم وبالجيم قرية ذات مزارع هناك، وفي هذا الحديث أيضا ذكر يونس، أفيقال إن الراوي الآخر غلط فزاد يونس؟ وقد اختلف أهل التحقيق في معني قوله " كأني أنظر " على أوجه: الأول هو على الحقيقة والأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون فلا مانع أن يحجوا في هذا الحال كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى قائما في قبره يصلي، قال القرطبي: حببت إليهم العبادة فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعي أنفسهم لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر. ويؤيده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) الآية، لكن تمام هذا التوجيه أن يقال إن المنظور إليه هي أرواحهم، فلعلها مثلت له صلى الله عليه وسلم في الدنيا كما مثلت له ليلة الإسراء، وأما أجسادهم فهي في القبور، قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا فيرى في اليقظة كما يرى في النوم. ثانيها كأنه مثلت له أحوالهم التي كانت في الحياة الدنيا كيف تعبدوا وكيف حجوا وكيف لبوا، ولهذا قال: " كأني". ثالثها كأنه أخبر بالوحي عن ذلك فلشدة قطعه به قال: " كأني أنظر إليه". رابعها كأنها رؤية منام تقدمت له فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحي، وهذا هو المعتمد عندي لما سيأتي في أحاديث الأنبياء من التصريح بنحو ذلك في أحاديث أخر، وكون ذلك كان في المنام والذي قبله أيضا ليس ببعيد والله أعلم. قال ابن المنير في الحاشية: توهيم المهلب للراوي وهم منه، وإلا فأي فرق بين موسى وعيسى لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض إنما ثبت أنه سينزل. قلت أراد المهلب بأن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق فقال " كأني أنظر إليه " ولهذا استدل المهلب بحديث أبي هريرة الذي فيه " ليهلن ابن مريم بالحج " والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ أَنَّهُ قَالَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَكِنَّهُ قَالَ أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذْ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي الشرح: قوله: (إذ انحدر) كذا في الأصول وحكى عياض أن بعض العلماء أنكر إثبات الألف وغلط رواته قال: وهو غلط منه إذ لا فرق بين إذا وإذ هنا لأنه وصفه حالة انحداره فيما مضى. وفي الحديث أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود. (تنبيه) لم يصرح أحد ممن روي هذا الحديث عن ابن عون بذكر النبي صلى الله عليه وسلم قاله الإسماعيلي، ولا شك أنه مراد لأن ذلك لا يقوله ابن عباس من قبل نفسه ولا عن غير النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. *3*باب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ أَهَلَّ تَكَلَّمَ بِهِ وَاسْتَهْلَلْنَا وَأَهْلَلْنَا الْهِلَالَ كُلُّهُ مِنْ الظُّهُورِ وَاسْتَهَلَّ الْمَطَرُ خَرَجَ مِنْ السَّحَابِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَهُوَ مِنْ اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ الشرح: قوله: (باب كيف تهل الحائض والنفساء) أي كيف تحرم. قوله: (أهل تكلم به إلخ) هكذا في رواية المستملي والكشميهني. وليس هذا مخالفا لما قدمناه من أن أصل الإهلال رفع الصوت لأن رفع الصوت يقع بذكر الشيء عند ظهوره. قوله: (وما أهل لغير الله به وهو من استهلال الصبي) أي أنه من رفع الصوت بذلك فاستهل الصبي أي رفع صوته بالصياح إذا خرج من بطن أمه، وأهل به لغير الله أي رفع الصوت به عند الذبح للأصنام، ومنه استهلال المطر والدمع وهو صوت وقعه بالأرض ومن لازم ذلك الظهور غالبا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ فَفَعَلْتُ فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ فَقَالَ هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ قَالَتْ فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا الشرح: قوله: (فأهللنا بعمرة) قال عياض: اختلفت الروايات في إحرام عائشة اختلافا كثيرا. قلت: وسيأتي بسط القول فيه بعد بابين في " باب التمتع والقران". قوله: (فقال انقضي رأسك) هو بالقاف وبالمعجمة. قوله: (وامتشطي وأهلي بالحج) وهو شاهد الترجمة. وقد سبق في كتاب الحيض بلفظ " وافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت " وسيأتي بقية الكلام عليه بعد هذا. قوله: (ثم طافوا طوافا آخر) كذا للكشميهني والجرجاني، ولغيرهما " طوافا واحدا " والأول هو الصواب قاله عياض، قال الخطابي: استشكل بعض أهل العلم أمره لها بنقض رأسها ثم بالامتشاط، وكان الشافعي يتأوله على أنه أمرها أن تدع العمرة وتدخل عليها الحج فتصير قارنة، قال: وهذا لا يشاكل القصة. وقيل إن مذهبها أن المعتمر إذا دخل مكة استباح ما يستبيحه الحاج إذا رمى الجمرة، قال: وهذا لا يعلم وجهه. وقيل كانت مضطرة إلى ذلك. قال: ويحتمل أن يكون نقض رأسها كان لأجل الغسل لتهل بالحج لا سيما إن كانت ملبدة فتحتاج إلى نقض الضفر، وأما الامتشاط فلعل المراد به تسريحها شعرها بأصابعها برفق حتى لا يسقط منه شيء ثم تضفره كما كان. |
08-14-2013, 11:39 AM | #486 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب مَنْ أَهَلَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الشرح: قوله: (باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم) أي فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فجاز الإحرام على الإبهام، لكن لا يلزم منه جواز تعليقه إلا على فعل من يتحقق أنه يعرفه كما وقع في حديثي الباب، وأما مطلق الإحرام على الإبهام فهو جائز ثم يصرفه المحرم لما شاء لكونه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ذلك وهذا قول الجمهور، وعن المالكية لا يصح الإحرام على الإبهام وهو قول الكوفيين، قال ابن المنير: وكأنه مذهب البخاري لأنه أشار بالترجمة إلى أن ذلك خاص بذلك الزمن لأن عليا وأبا موسى لم يكن عندهما أصل يرجعان إليه في كيفية الإحرام فأحالاه على النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الآن فقد استقرت الأحكام وعرفت مراتب الإحرام فلا يصح ذلك والله أعلم. وكأنه أخذ الإشارة من تقييده بزمن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (قاله ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم) يشير إلى ما أخرجه موصولا في " باب بعث علي إلى اليمن " من كتاب المغازي من طريق بكر بن عبد الله المزني عن ابن عمر فذكر فيه حديثا " فقدم علينا علي بن أبي طالب من اليمن حاجا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بم أهللت فإن معنا أهلك، قال أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم " الحديث، إنما قال له " فإن معنا أهلك " لأن فاطمة كانت قد تمتعت بالعمرة وأحلت كما بينه مسلم من حديث جابر. الحديث: حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ وَذَكَرَ قَوْلَ سُرَاقَةَ وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ قَالَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ الشرح: قوله: (وزاد محمد بن بكر عن ابن جريج) يعني عن عطاء عن جابر، ثبت هذا التعليق في رواية أبي ذر وقد وصله الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار وأبو عوانة في صحيحه عن عمار بن رجاء كلاهما عن محمد بن بكر به، وسيأتي معلقا أيضا في المغازي من هذا الوجه مقرونا بطريق مكي بن إبراهيم أيضا هناك أتم، والمذكور في كل من الموضعين قطعة من الحديث، وأورد بقيته بهذين السندين معلقا وموصولا في كتاب الاعتصام، والمراد بقوله في طريق مكي " وذكر قول سراقة " أي سؤاله " أعمرتنا لعامنا هذا أو للأبد قال بل للأبد " وسيأتي موصولا في أبواب العمرة من وجه آخر عن عطاء عن جابر. قوله: (وامكث حراما كما أنت) في حديث ابن عمر المشار إليه قال " فأمسك فإن معنا هديا" الحديث: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلَّالُ الْهُذَلِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ سَمِعْتُ مَرْوَانَ الْأَصْفَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَمَنِ فَقَالَ بِمَا أَهْلَلْتَ قَالَ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الصمد) هو ابن عبد الوارث بن سعيد، ومروان الأصفر يقال اسم أبيه خاقان وهو أبو خلف البصري، وروي أيضا عن أبي هريرة وابن عمر وغيرهما من الصحابة، وليس له في البخاري عن أنس سوى هذا الحديث وهو من أفراد الصحيح قال الترمذي حسن غريب. وقال الدارقطني في " الأفراد " لا أعلم رواه عن سليم بن حيان غير عبد الصمد بن عبد الوارث. قوله: (قدم علي من اليمن) سيأتي في المغازي ذكر سبب بعث علي إلى اليمن وأن ذلك قبل حجة الوداع وبيان ذلك من حديث البراء بن عازب ومن حديث بريدة. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ بِمَا أَهْلَلْتَ قُلْتُ أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ قُلْتُ لَا فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي فَقَدِمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ قَالَ اللَّهُ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ الشرح: قوله: (عن طارق بن شهاب) في رواية أيوب بن عائذ الآتية في المغازي عن قيس بن مسلم " سمعت طارق بن شهاب". قوله: (عن أبي موسى) هو الأشعري. وفي رواية أيوب المذكورة " حدثني أبو موسى". قوله: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي باليمن) سيأتي تحرير وقت ذلك وسببه في كتاب المغازي. قوله: (وهو بالبطحاء) زاد في رواية شعبة عن قيس الآتية في " باب متى يحل المعتمر " منيخ أي نازل بها وذلك في ابتداء قدومه. قوله: (بم أهللت) في رواية شعبة " فقال أحججت؟ قلت نعم قال بم أهللت". قوله: (قلت أهللت) في رواية شعبة " قلت لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحسنت". قوله: (فأمرني فطفت) في رواية شعبة " طف بالبيت وبالصفا والمروة". قوله: (فأتيت امرأة من قومي) في رواية شعبة " امرأة من قيس " والمبادر إلى الذهن من هذا الإطلاق أنها من قيس عيلان وليس بينهم وبين الأشعريين نسبة لكن في رواية أيوب بن عائذ امرأة من نساء بني قيس وظهر لي من ذلك أن المراد بقيس قيس بن سليم والد أبي موسى الأشعري وأن المرأة زوج بعض إخوته، وكان لأبي موسى من الإخوة أبو رهم وأبو بردة قيل ومحمد. قوله: (أو غسلت رأسي) كذا فيه بالشك، وأخرجه مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بلفظ " وغسلت رأسي " بواو العطف. قوله: (فقدم عمر) ظاهر سياقه أن قدوم عمر كان في تلك الحجة وليس كذلك بل البخاري اختصره، وقد أخرجه مسلم من طريق عبد الرحمن بن مهدي أيضا بعد قوله " وغسلت رأسي: فكنت أفتي الناس بذاك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر، فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك " فذكر القصة وفيه " فلما قدم قلت يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك "؟ فذكر جوابه. وقد اختصره المصنف أيضا من طريق شعبة لكنه أبين من هذا ولفظه " فكنت أفتي به حتى كانت خلافة عمر فقال: إن أخذنا " الحديث، ولمسلم أيضا من طريق إبراهيم بن أبي موسى الأشعري عن أبيه أنه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل رويدك ببعض فتياك الحديث. وفي هذه الرواية تبيين عمر العلة التي لأجلها كره التمتع وهي قوله: " قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن - أي بالنساء - ثم يروحوا في الحج تقطر رءوسهم " انتهى، وكان من رأي عمر عدم الترفه للحج بكل طريق، فكره لهم قرب عهدهم بالنساء لئلا يستمر الميل إلى ذلك بخلاف من بعد عهده به، ومن يفطم ينفطم. وقد أخرج مسلم من حديث جابر أن عمر قال: " افصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم". وفي رواية " إن الله يحل لرسوله ما شاء، فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله". قوله: (أن نأخذ بكتاب الله إلخ) محصل جواب عمر في منعه الناس من التحلل بالعمرة أن كتاب الله دال على منع التحلل لأمره بالإتمام فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا دالة على ذلك لأنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله، لكن الجواب عن ذلك ما أجاب به هو صلى الله عليه وسلم حيث قال " ولولا أن معي الهدي لأحللت " فدل على جواز الإحلال لمن لم يكن معه هدي، وتبين من مجموع ما جاء عن عمر في ذلك أنه منع منه سدا للذريعة. وقال المازري: قيل إن المتعة التي نهى عنها عمر فسخ الحج إلى العمرة، وقيل العمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه، وعلى الثاني إنما نهى عنها ترغيبا في الإفراد الذي هو أفضل لا أنه يعتقد بطلانها وتحريمها. وقال عياض: الظاهر أنه نهى عن الفسخ ولهذا كان يضرب الناس عليها كما رواه مسلم بناء على معتقده أن الفسخ كان خاصا بتلك السنة، قال النووي: والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ثم الحج من عامه وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد كما يظهر من كلامه، ثم انعقد الإجماع على جواز التمتع من غير كراهة ونفي الاختلاف في الأفضل كما سيأتي في الباب الذي بعده، ويمكن أن يتمسك من يقول بأنه إنما نهي عن الفسخ بقوله في الحديث الذي أشرنا إليه قريبا من مسلم " أن الله يحل لرسوله ما شاء " والله أعلم. وفي قصة أبي موسى وعلي دلالة على جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير مع اختلاف آخر الحديثين في التحلل، وذلك أن أبا موسى لم يكن منه هدي فصار له حكم النبي صلى الله عليه وسلم، لو لم يكن معه هدي وقد قال " لولا الهدي لأحللت " أي وفسخت الحج إلى العمرة كما فعله أصحابه بأمره كما سيأتي، وأما علي فكان معه هدي فلذلك أمر بالبقاء على إحرامه وصار مثله قارنا. قال النووي: هذا هو الصواب، وقد تأوله الخطابي وعياض بتأويلين غير مرضيين انتهى. فأما تأويل الخطابي فإنه قال: فعل أبي موسى يخالف فعل علي، وكأنه أراد بقوله أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم أي كما يبينه لي ويعينه لي من أنواع ما يحرم به فأمره أن يحل بعمل عمرة لأنه لم يكن معه هدي، وأما تأويل عياض فقال: المراد بقوله " فكنت أفتي الناس بالمتعة " أي بفسخ الحج إلى العمرة، والحامل لهما على ذلك اعتقادهما أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا مع قوله " لولا أن معي الهدي لأحللت " أي فسخت الحج وجعلته عمرة فلهذا أمر أبا موسى بالتحلل لأنه لم يكن معه هدي، بخلاف علي. قال عياض: وجمهور الأئمة على أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بالصحابة انتهى. وقال ابن المنير في الحاشية: ظاهر كلام عمر التفريق بين ما دل عليه الكتاب ودلت عليه السنة، وهذا التأويل يقتضي أنهما يرجعان إلى معنى واحد، ثم أجاب بأنه لعله أراد إبطال وهم من توهم أنه خالف السنة حيث منع من الفسخ فبين أن الكتاب والسنة متوافقان على الأمر بالإتمام وأن الفسخ كان خاصا بتلك السنة لإبطال اعتقاد الجاهلية أن العمرة لا تصح في أشهر الحج انتهى. وأما إذا قلنا كان قارنا على ما هو الصحيح المختار فالمعتمد ما ذكر النووي والله أعلم. وسيأتي بيان اختلاف الصحابة في كيفية التمتع في " باب التمتع والقران " إن شاء الله تعالى. واستدل به على جواز الإحرام المبهم وأن المحرم به يصرفه لما شاء وهو قول الشافعي وأصحاب الحديث، ومحل ذلك ما إذا كان الوقت قابلا بناء على أن الحج لا ينعقد في غير أشهره كما سيأتي في الباب الذي يليه. *3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَقَوْلِهِ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَكَرِهَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ الشرح: قوله: (باب قول الله تعالى الحج أشهر معلومات إلى قوله في الحج، وقوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) قال العلماء: تقدير قوله: (الحج أشهر معلومات) أي الحج حج أشهر معلومات أو أشهر الحج أو وقت الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقال الواحدي: يمكن حمله على غير إضمار وهو أن الأشهر جعلت نفس الحج اتساعا لكون الحج يقع فيها كقولهم ليل نائم. وقال الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": المراد وقت إحرام الحج لأن الحج لا يحتاج إلى أشهر فدل على أن المراد وقت الإحرام به، وأجمع العلماء على أن المراد بأشهر الحج ثلاثة أولها شوال، لكن اختلفوا هل هي ثلاثة بكمالها وهو قول مالك ونقل عن " الإملاء " للشافعي، أو شهران وبعض الثالث وهو قول الباقين، ثم اختلفوا فقال ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وآخرون: عشر ليال من ذي الحجة، وهل يدخل يوم النحر أو لا؟ قال أبو حنيفة وأحمد: نعم. وقال الشافعي في المشهور المصحح عنه: لا. وقال بعض أتباعه: تسع من ذي الحجة ولا يصح في يوم النحر ولا في ليلته وهو شاذ. واختلف العلماء أيضا في اعتبار هذه الأشهر هل هو على الشرط أو الاستحباب؟ فقال ابن عمر وابن عباس وجابر وغيرهم من الصحابة والتابعين: هو شرط فلا يصح الإحرام بالحج إلا فيها، وهو قول الشافعي، وسيأتي استدلال ابن عباس لذلك في هذا الباب، واستدل بعضهم بالقياس على الوقوف وبالقياس على إحرام الصلاة وليس بواضح لأن الصحيح عند الشافعية أن من أحرم بالحج في غير أشهره انقلب عمرة تجزئه عن عمرة الفرض، وأما الصلاة فلو أحرم قبل الوقت انقلب بشرط أن يكون ظانا دخول الوقت لا عالما فاختلفا من وجهين. قوله: (وقال ابن عمر رضي الله عنهما: أشهر الحج إلخ) وصله الطبري والدارقطني من طريق ورقاء عن عبد الله بن دينار عنه قال " الحج أشهر معلومات، شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " وروى البيهقي من طريق عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مثله والإسنادان صحيحان، وأما ما رواه مالك في " الموطأ " عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال " من اعتمر في أشهر الحج - شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة - قبل الحج فقد استمتع " فلعله تجوز في إطلاق ذي الحجة جمعا بين الروايتين والله أعلم. قوله: (وقال ابن عباس إلخ) وصله ابن خزيمة والحاكم والدارقطني من طريق الحاكم عن مقسم عنه قال " لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج " ورواه ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس قال " لا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج". قوله: (وكره عثمان رضي الله عنه أن يحرم من خراسان أو كرمان) وصله سعيد بن منصور " حدثنا هشيم حدثنا يونس بن عبيد أخبرنا الحسن هو البصري أن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع وكرهه". وقال عبد الرزاق " أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: أحرم عبد الله بن عامر من خراسان، فقدم على عثمان فلامه وقال: غزوت وهان عليك نسكك " وروى أحمد بن سيار في " تاريخ مرو " من طريق داود بن أبي هند قال " لما فتح عبد الله بن عامر خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا محرما، فأحرم من نيسابور، فلما قدم على عثمان لامه على ما صنع". وهذه أسانيد يقوي بعضها بعضا. وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق محمد بن إسحاق أن ذلك كان في السنة التي قتل فيها عثمان، ومناسبة هذا الأثر للذي قبله أن بين خراسان ومكة أكثر من مسافة أشهر الحج، فيستلزم أن يكون أحرم في غير أشهر الحج فكره ذلك عثمان، وإلا فظاهره يتعلق بكراهة الإحرام قبل الميقات فيكون من متعلق الميقات المكاني لا الزماني. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَيَالِي الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ قَالَتْ فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلَا قَالَتْ فَالْآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ قَالَتْ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ وَكَانَ مَعَهُمْ الْهَدْيُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعُمْرَةِ قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهُ قُلْتُ سَمِعْتُ قَوْلَكَ لِأَصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ قَالَ وَمَا شَأْنُكِ قُلْتُ لَا أُصَلِّي قَالَ فَلَا يَضِيرُكِ إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا قَالَتْ فَخَرَجْنَا فِي حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى فَطَهَرْتُ ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى فَأَفَضْتُ بِالْبَيْتِ قَالَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِي النَّفْرِ الْآخِرِ حَتَّى نَزَلَ الْمُحَصَّبَ وَنَزَلْنَا مَعَهُ فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ اخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنْ الْحَرَمِ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغَا ثُمَّ ائْتِيَا هَا هُنَا فَإِنِّي أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِي قَالَتْ فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ وَفَرَغْتُ مِنْ الطَّوَافِ ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ فَقَالَ هَلْ فَرَغْتُمْ فَقُلْتُ نَعَمْ فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِي أَصْحَابِهِ فَارْتَحَلَ النَّاسُ فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ ضَيْرِ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا وَيُقَالُ ضَارَ يَضُورُ ضَوْرًا وَضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا الشرح: حديث عائشة في قصة عمرتها، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في الباب الذي بعده، وشاهد الترجمة منه قولها " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج وليالي الحج وحرم الحج " فإن هذا كله يدل على أن ذلك كان مشهورا عندهم معلوما، وقوله فيه " وحرم الحج " بضم الحاء المهملة والراء أي أزمنته وأمكنته وحالاته، وروي بفتح الراء وهو جمع حرمة أي ممنوعات الحج، وقوله "يا هنتاه " بفتح الهاء والنون - وقد تسكن النون - بعدها مثناة وآخرها هاء ساكنة كناية عن شيء لا يكره باسمه تقول في النداء للمذكر يا هن وقد تزاد الهاء في آخره للسكت فتقول يا هنه، وأن تشبع الحركة في النون فتقول يا هناه وتزاد في جميع ذلك للمؤنث مثناة. وقال بعضهم الألف والهاء في آخره كهما في الندبة، وقوله "قلت لا أصلي " كناية عن أنها حاضت، قال ابن المنير: كنت عن الحيض بالحكم الخاص به أدبا منها، وقد ظهر أثر ذلك في بناتها المؤمنات فكلهن يكنين عن الحيض بحرمان الصلاة أو غير ذلك. وقوله "فلا يضرك " في رواية الكشميهني " فلا يضيرك " بكسر الضاد وتخفف التحتانية من الضير، وقوله "النفر الثاني " هو رابع أيام منى، وقوله "فإني انظر كما " في رواية الكشميهني " أنتظركما " بزيادة مثناة، وقوله "حتى إذا فرغت " أي من الاعتمار وفرغت من الطواف وحذف الأول للعلم به. |
08-14-2013, 11:40 AM | #487 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب التَّمَتُّعِ وَالْإِقْرَانِ وَالْإِفْرَادِ بِالْحَجِّ وَفَسْخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ الشرح:
قوله: (باب التمتع والقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي) أما التمتع فالمعروف أنه الاعتمار في أشهر الحج ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في تلك السنة قال الله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) ويطلق التمتع في عرف السلف على القران أيضا، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) أنه الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، قال: ومن التمتع أيضا القران لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتع فسخ الحج أيضا إلى العمرة انتهى. وأما القران فوقع في رواية أبي ذر " الإقران " بالألف وهو خطأ من حيث اللغة كما قاله عياض وغيره، وصورته الإهلال بالحج والعمرة معا، وهذا لا خلاف في جوازه. أو الإهلال بالعمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه وهذا مختلف فيه. وأما الإفراد فالإهلال بالحج وحده في أشهره عند الجميع وفي غير أشهره أيضا عند من يجيزه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء. وأما فسخ الحج فالإحرام بالحج ثم يتحلل منه بعمل عمرة فيصير متمتعا وفي جوازه اختلاف آخر، وظاهر تصرف المصنف إجازته، فإن تقدير الترجمة باب مشروعية التمتع إلخ، ويحتمل أن يكون التقدير باب حكم التمتع إلخ فلا يكون فيه دلالة على أنه يجيزه. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نُرَى إِلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَحِضْتُ فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ قَالَ وَمَا طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ قُلْتُ لَا قَالَ فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا قَالَتْ صَفِيَّةُ مَا أُرَانِي إِلَّا حَابِسَتَهُمْ قَالَ عَقْرَى حَلْقَى أَوَ مَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَتْ قُلْتُ بَلَى قَالَ لَا بَأْسَ انْفِرِي قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا الشرح: قوله: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم) تقدم في الباب قبله بيان الوقت الذي خرجوا فيه. قوله: (ولا نرى إلا أنه الحج) ، ولأبي الأسود عن عروة عنها كما سيأتي " مهلين بالحج " ولمسلم من طريق القاسم عنها " لا نذكر إلا الحج " وله من هذا الوجه " لبينا بالحج " وظاهره أن عائشة من غيرها من الصحابة كانوا أولا محرمين بالحج، لكن في رواية عروة عنها هنا " فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج " فيحمل الأول على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج فخرجوا لا يعرفون إلا الحج، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج وسيأتي في " باب الاعتمار بعد الحج " من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها " فقال: من أحب أن يهل بعمرة فليهل، ومن أحب أن يهل بحج فليهل " ولأحمد من طريق ابن شهاب عن عروة " فقال. من شاء فليهل بعمرة، ومن شاء فليهل بحج " ولهذه النكتة أورد المصنف في الباب حديث ابن عباس " كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور " فأشار إلى الجمع بين ما اختلف عن عائشة في ذلك، وأما عائشة نفسها فسيأتي في أبواب العمرة وفي حجة الوداع من المغازي من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها في أثناء هذا الحديث قالت " وكنت ممن أهل بعمرة " وسبق في كتاب الحيض من طريق ابن شهاب نحوه عن عروة، زاد أحمد من وجه آخر عن الزهري " ولم أسق هديا " فادعى إسماعيل القاضي وغيره أن هذا غلط من عروة وأن الصواب رواية الأسود والقاسم وعروة عنها أنها أهلت بالحج مفردا وتعقب بأن قول عروة عنها إنها أهلت بعمرة صريح، وأما قول الأسود وغيره عنها " لا نرى إلا الحج " فليس صريحا في إهلالها بحج مفرد فالجمع بينهما ما تقدم من غير تغليط عروة وهو أعلم الناس بحديثها، وقد وافقه جابر بن عبد الله الصحابي كما أخرجه مسلم عنه، وكذا رواه طاوس ومجاهد عن عائشة ويحتمل في الجمع أيضا أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردا كما فعل غيرها من الصحابة، وعلى هذا ينزل حديث الأسود ومن تبعه " ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يفسخوا الحج إلى العمرة ففعلت عائشة ما صنعوا فصارت متمتعة " وعلى هذا يتنزل حديث عروة " ثم لما دخلت مكة وهي حائض فلم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج " على ما سيأتي من الاختلاف في ذلك والله أعلم. قوله: (فلما قدمنا تطوفنا بالبيت) أي غيرها لقولها بعده " فلم أطف " فإنه تبين به أن قولها " تطوفنا " من العام الذي أريد به الخاص. قوله: (فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل) أي من الحج بعمل العمرة، وهذا هو فسخ الحج المترجم به. قوله: (ونساؤه لم يسقن) أي الهدي. قوله: (فأحللن) أي وهي منهن لكن منعها من التحلل كونها حاضت ليلة دخولهم مكة، وقد مضى في الباب قبله بيان ذلك وأنها بكت وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها " كوني في حجك " فظاهره أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تجعل عمرتها حجا ولهذا قالت " يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج " فأعمرها لأجل ذلك من التنعيم. وقال مالك ليس العمل على حديث عروة قديما ولا حديثا، قال ابن عبد البر: يريد ليس عليه العمل في رفض العمرة وجعلها حجا بخلاف جعل الحج عمرة فإنه وقع للصحابة. واختلف في جوازه من بعدهم لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معني قوله " ارفضي عمرتك " أي اتركي التحلل منها وأدخلي عليها الحج فتصير قارنة، ويؤيده قوله في رواية لمسلم " وأمسكي عن العمرة " أي عن أعمالها، وإنما قالت عائشة " وأرجع بحج " لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين، واستبعد هذا التأويل لقولها في رواية عطاء عنها " وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة " أخرجه أحمد، وهذا يقوي قول الكوفيين إن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا في ذلك بقولها في الرواية المتقدمة " دعي عمرتك " في رواية " ارفضي عمرتك " ونحو ذلك. واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما فعلت عائشة، لكن في رواية عطاء عنها ضعف، والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر " أن عائشة أهلت بعمرة، حتى إذا كانت بسرف حاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أهلي بالحج، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت فقال: قد حللت من حجك وعمرتك، قالت يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال فأعمرها من التنعيم " ولمسلم من طريق طاوس عنها " فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم طوافك يسعك لحجك وعمرتك " فهذا صريح في أنها كانت قارنة لقوله " قد حللت من حجك وعمرتك " وإنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة. وقد وقع في رواية لمسلم " وكان النبي صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه " وسيأتي الكلام على قصة صفية في أواخر الحج وعلى ما في قصة اعتمار عائشة من الفوائد في أبواب العمرة إن شاء الله تعالى. قوله: (وأرجع أنا بحجة) في رواية الكشميهني " وأرجع لي بحجة". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ الشرح: قوله: (فأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة لم يحلوا حتى كان يوم النحر) كذا فيه هنا، وسيأتي في حجة الوداع بلفظ " فلم يحلوا " بزيادة فاء وهو الوجه. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ قَالَ مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَدٍ الشرح: قوله: (عن الحكم) هو ابن عتيبة بالمثناة والموحدة مصغرا الفقيه الكوفي، وعلي بن الحسين هو زين العابدين. قوله: (شهدت عثمان وعليا) سيأتي في آخر الباب من طريق سعيد بن المسيب أن ذلك كان بعسفان. قوله: (وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما) أي بين الحج والعمرة (فلما رأى علي) في رواية سعيد بن المسيب " فقال علي ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية الكشميهني " إلا أن تنهى " بحرف الاستثناء، زاد مسلم من هذا الوجه " فقال عثمان دعنا عنك. قال: إني لا أستطيع أن أدعك " وقوله " وأن يجمع بينهما " يحتمل أن تكون الواو عاطفة فيكون نهي عن التمتع والقران معا، ويحتمل أن يكون عطفا تفسيريا وهو على ما تقدم أن السلف كانوا يطلقون على القران تمتعا، ووجهه أن القارن يتمتع بترك النصب بالسفر مرتين فيكون المراد أن يجمع بينهما قرانا أو إيقاعا لهما في سنة واحدة بتقديم العمرة على الحج، وقد رواه النسائي من طريق عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب بلفظ " نهى عثمان عن التمتع " وزاد فيه " فلبى علي وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان، فقال له علي: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع؟ قال: بلى " وله من وجه آخر " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بهما جميعا " زاد مسلم من طريق عبد الله بن شقيق عن عثمان قال " أجل، ولكنا كنا خائفين " قال النووي: لعله أشار إلى عمرة القضية سنة سبع، لكن لم يكن في تلك السنة حقيقة تمتع إنما كان عمرة وحدها. قلت: هي رواية شاذة، فقد روى الحديث مروان بن الحكم وسعيد بن المسيب وهما أعلم من عبد الله بن شقيق فلم يقولا ذلك، والتمتع إنما كان في حجة الوداع وقد قال ابن مسعود كما ثبت عنه في الصحيحين " كنا آمن ما يكون الناس " وقال القرطبي: قوله " خائفين " أي من أن يكون أجر من أفرد أعظم من أجر من تمتع، كذا قال؛ وهو جمع حسن ولكن لا يخفى بعده. ويحتمل أن يكون عثمان أشار إلى أن الأصل في اختياره صلى الله عليه وسلم فسخ إلى العمرة في حجة الوداع دفع اعتقاد قريش منع العمرة في أشهر الحج، وكان ابتداء ذلك بالحديبية لأن إحرامهم بالعمرة كان في ذي القعدة وهو من أشهر الحج، وهناك يصح إطلاق كونهم خائفين، أي من وقوع القتال بينهم وبين المشركين، وكان المشركون صدوهم عن الوصول إلى البيت فتحللوا من عمرتهم، وكانت أول عمرة وقعت في أشهر الحج، ثم جاءت عمرة القضية في ذي القعدة أيضا، ثم أراد صلى الله عليه وسلم تأكيد ذلك بالمبالغة فيه حتى أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة. قوله: (ما كنت لأدع إلخ) زاد النسائي والإسماعيلي " فقال عثمان: تراني أنهى الناس وأنت تفعله؟ فقال: ما كنت أدع". وفي قصة عثمان وعلي من الفوائد إشاعة العالم ما عنده من العلم وإظهاره، ومناظرة ولاة الأمور وغيرهم في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد مناصحة المسلمين، والبيان بالفعل مع القول، وجواز الاستنباط من النص لأن عثمان لم يخف عليه أن التمتع والقران جائزان، وإنما نهى عنهما ليعمل فالأفضل كما وقع لعمر، لكن خشي علي أن يحمل غيره النهي على التحريم فأشاع جواز ذلك، وكل منهما مجتهد مأجور. (تنبيه) : ذكر ابن الحاجب حديث عثمان في التمتع دليلا لمسألة اتفاق أهل العصر الثاني بعد اختلاف أهل العصر الأول فقال: وفي الصحيح أن عثمان كان نهى عن المتعة، قال البغوي: ثم صار إجماعا. وتعقب بأن نهي عثمان عن المتعة إن كان المراد به الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج فلم يستقر الإجماع عليه لأن الحنفية يخالفون فيه. وإن كان المراد به فسخ الحج إلى العمرة فكذلك لأن الحنابلة يخالفون فيه، ثم وراء ذلك أن رواية النسائي السابقة مشعرة بأن عثمان رجع عن النهي فلا يصح التمسك به، ولفظ البغوي بعد أن ساق حديث عثمان في " شرح السنة ": هذا خلاف علي وأكثر الصحابة على الجواز، واتفقت عليه الأئمة بعد فحمله على أن عثمان نهى عن التمتع المعهود، والظاهر أن عثمان ما كان يبطله إنما كان يرى أن الإفراد أفضل منه، وإذا كان ذلك فلم تتفق الأئمة على ذلك فإن الخلاف في أي الأمور الثلاثة أفضل باق والله أعلم. وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهدا آخر بتقليده لعدم إنكار عثمان على علي ذلك مع كون عثمان الإمام إذ ذاك والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَيَقُولُونَ إِذَا بَرَا الدَّبَرْ وَعَفَا الْأَثَرْ وَانْسَلَخَ صَفَرْ حَلَّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرْ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ قَالَ حِلٌّ كُلُّهُ الشرح: عن ابن عباس قال (كانوا يرون أن العمرة) بفتح أوله أي يعتقدون، والمراد أهل الجاهلية. ولابن حبان من طريق أخرى عن ابن عباس قال " والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون " فذكر نحوه فعرف بهذا تعيين القائلين. قوله: (من أفجر الفجور) هذا من تحكماتهم الباطلة المأخوذة عن غير أصل. قوله: (ويجعلون المحرم صفر) كذا هو في جميع الأصول من الصحيحين، قال النووي: كان ينبغي أن يكتب بالألف، ولكن على تقدير حذفها لا بد من قراءته منصوبا لأنه مصروف بلا خلاف، يعني والمشهور عن اللغة الربيعية كتابة المنصوب بغير ألف فلا يلزم من كتابته بغير ألف أن لا يصرف فيقرأ بالألف. وسبقه عياض إلى نفي الخلاف فيه لكن في " المحكم " كان أبو عبيدة لا يصرفه فقيل له: إنه لا يمتنع الصرف حتى يجتمع علتان فما هما؟ قال: المعرفة والساعة. وفسره المطرزي بأن مراده بالساعة أن الأزمنة ساعات والساعة مؤنثة انتهى. وحديث ابن عباس هذا حجة قوية لأبي عبيدة، ونقل بعضهم أن في صحيح مسلم " صفرا " بالألف. وأما جعلهم ذلك فقال النووي: قال العلماء المراد الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية فكانوا يسمون المحرم صفرا ويحلونه ويؤخرون تحريم المحرم إلى نفس صفر لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة فيضيق عليهم فيها ما اعتادوه من المقاتلة والغارة بعضهم على بعض، فضللهم الله في ذلك فقال (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا) الآية. قوله: (ويقولون إذا برأ الدبر) بفتح المهملة والموحدة أي ما كان يحصل بظهور الإبل من الحمل عليها ومشقة السفر فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج، و قوله: (وعفا الأثر) أي اندرس أثر الإبل وغيرها في سيرها، ويحتمل أثر الدبر المذكور. وفي سنن أبي داود و " عفا الوبر " أي كثر وبر الإبل الذي حلق بالرحال، وهذه الألفاظ تقرأ ساكنة الراء لإرادة السجع، ووجه تعلق جواز الاعتمار بانسلاخ صفر - مع كونه ليس من أشهر الحج وكذلك المحرم - أنهم لما جعلوا المحرم صفرا ولا يستقرون ببلادهم في الغالب ويبرأ دبر إبلهم إلا عند انسلاخه ألحقوه بأشهر الحج على طريق التبعية وجعلوا أول أشهر الاعتمار شهر المحرم الذي هو في الأصل صفر، العمرة عندهم في غير أشهر الحج، وأما تسمية الشهر صفرا فقال رؤبة أصلها أنهم كانوا يغيرون فيه بعضهم على بعض فيتركون منازلهم صفرا أي خالية من المتاع، وقيل لإصفار أماكنهم من أهلها. قوله: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم) كذا في الأصول من رواية موسى بن إسماعيل عن وهيب، وقد أخرجه المصنف في " أيام الجاهلية " عن مسلم بن إبراهيم عن وهيب بلفظ " فقدم " بزيادة فاء وهو الوجه، وكذا أخرجه مسلم من طريق بهز بن أسد والإسماعيلي من طريق إبراهيم بن الحجاج كلاهما عن وهيب. قوله: (صبيحة رابعة) أي يوم الأحد. قوله: (مهلين بالحج) في رواية إبراهيم بن الحجاج " وهم يلبون بالحج " وهي مفسرة لقوله مهلين، واحتج به من قال كان حج النبي صلى الله عليه وسلم مفردا، وأجاب من قال كان قارنا بأنه لا يلزم من إهلاله بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة. قوله: (أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم) أي لما كانوا يعتقدونه أولا. وفي رواية إبراهيم بن الحجاج " فكبر ذلك عندهم". قوله: (أي الحل) كأنهم كانوا يعرفون أن للحج تحللين فأرادوا بيان ذلك فبين لهم أنهم يتحللون الحل كله، لأن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد، ووقع في رواية الطحاوي " أي الحل نحل؟ قال: الحل كله". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ بِالْحِلِّ الشرح: حديث أبي موسى " قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني بالحل " هكذا أورده مختصرا. وقد تقدم تاما مشروحا قبل بباب. ووقع للكشميهني " فأمره بالحل " على الالتفات. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ ح و حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الشرح: حديث حفصة " أنها قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة " الحديث، لم يقع في رواية مسلم قوله " بعمرة " وذكر ابن عبد البر أن أصحاب مالك ذكرها بعضهم وحذفها بعضهم، واستشكل كيف حلوا بعمرة مع قولها ولم تحل من عمرتك، والجواب أن المراد قولها بعمرة أي إن إحرامهم بعمرة كان سببا لسرعة حلهم، واستدل به على أن من ساق الهدي لا يتحلل من عمل العمرة حتى يحل بالحج ويفرغ منه، لأنه جعل العلة في بقائه على إحرامه كونه أهدى، وكذا وقع في حديث جابر سابع أحاديث الباب، وأخبر أنه لا يحل حتى ينحر الهدي وهو قول أبي حنيفة وأحمد ومن وافقهما، ويؤيده قوله في حديث عائشة أول حديث الباب " فأمر من لم يكن ساق الهدي أن يحل " والأحاديث بذلك متضافرة وأجاب بعض المالكية والشافعية عن ذلك بأن السبب في عدم تحلله من العمرة كونه أدخلها على الحج، وهو مشكل عليه لأنه يقول إن حجه كان مفردا. وقال بعض العلماء. ليس لمن قال كان مفردا عن هذا الحديث انفصال، لأنه إن قال به استشكل عليه كونه علل عدم التحلل بسوق الهدي لأن عدم التحلل لا يمتنع على من كان قارنا عنده، وجنح الأصيلي وغيره إلى توهيم مالك في قوله " ولم تحل أنت من عمرتك " وأنه لم يقله أحد في حديث حفصة غيره، وتعقبه ابن عبد البر - على تقدير تسليم انفراده - بأنها زيادة حافظ فيجب قبولها، على أنه لم ينفرد، فقد تابعه أيوب وعبيد الله بن عمر وهما مع ذلك حفاظ أصحاب نافع انتهى. ورواية عبيد الله بن عمر عند مسلم، وقد أخرجه مسلم من رواية ابن جريج والبخاري من رواية موسى بن عقبة والبيهقي من رواية شعيب بن أبي حمزة ثلاثتهم عن نافع بدونها، ووقع في رواية عبيد الله بن عمر عند الشيخين " فلا أحل حتى أحل من الحج " ولا تنافي هذه رواية مالك لأن القارن لا يحل من العمرة ولا من الحج حتى ينحر، فلا حجة فيه لمن تمسك بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا كما سيأتي، لأن قول حفصة " ولم تحل من عمرتك " وقوله هو " حتى أحل من الحج " ظاهر في أنه كان قارنا. وأجاب من قال كان مفردا عن قوله " ولم تحل من عمرتك " بأجوبة: أحدها قاله الشافعي معناه ولم تحل أنت من إحرامك الذي ابتدأته معهم بنية واحدة، بدليل قوله " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " وقيل معناه ولم تحل من حجك بعمرة كما أمرت أصحابك، قالوا وقد تأتي " من " بمعنى الباء كقوله عز وجل (يحفظونه من أمر الله) أي بأمر الله، والتقدير ولم تحل أنت بعمرة من إحرامك، وقيل ظنت أنه فسخ حجه بعمرة كما فعل أصحابه بأمره فقالت لم لم تحل أنت أيضا من عمرتك؟ ولا يخفى ما في بعض هذه التأويلات من التعسف. والذي تجتمع به الروايات أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا بمعنى أنه أدخل العمرة على الحج بعد أن أهل به مفردا، لا أنه أول ما أهل أحرم بالحج والعمرة معا، وقد تقدم حديث عمر مرفوعا " وقل عمرة في حجة " وحديث أنس " ثم أهل بحج وعمرة " ولمسلم من حديث عمران بن حصين " جمع بين حج وعمرة " ولأبي داود والنسائي من حديث البراء مرفوعا " أني سقت الهدي وقرنت " وللنسائي من حديث علي مثله، ولأحمد من حديث سراقة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع " وله من حديث أبي طلحة " جمع بين الحج والعمرة " وللدارقطني من حديث أبي سعيد وأبي قتادة والبزار من حديث ابن أبي أوفى ثلاثتهم مرفوعا مثله، وأجاب البيهقي عن هذه الأحاديث وغيرها نصرة لمن قال أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا فنقل عن سليمان بن حرب أن رواية أبي قلابة أنس " أنه سمعهم يصرخون بهما جميعا " أثبت من رواية من روي عنه أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الحج والعمرة، ثم تعقبه بأن قتادة وغيره من الحفاظ رووه عن أنس كذلك، فالاختلاف فيه على أنس نفسه، قال فلعله سمع النبي صلى الله عليه وسلم يعلم غيره كيف يهل بالقران فظن أنه أهل عن نفسه وأجاب عن حديث حفصة بما نقل عن الشافعي أن معنى قولها " ولم تحل أنت من عمرتك " أي من إحرامك كما تقدم، وعن حديث عمر بأن جماعة رووه بلفظ " صلى في هذا الوادي وقال عمرة في حجة " قال: وهؤلاء أكثر عددا ممن رواه " وقل عمرة في حجة " فيكون إذنا في القران لا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم في حال نفسه، وعن حديث عمران بأن المراد بذلك إذنه لأصحابه في القران بدليل روايته الأخرى " أنه صلى الله عليه وسلم أعمر بعض أهله في العشر " وروايته الأخرى " أنه صلى الله عليه وسلم تمتع " فإن مراده بكل ذلك إذنه في ذلك، وعن حديث البراء بأنه ساقه في قصة علي وقد رواها أنس يعني كما تقدم في هذا الباب وجابر كما أخرجه مسلم وليس فيها لفظ " وقرنت " وأخرج حديث مجاهد عن عائشة قالت " لقد علم ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها في حجته " أخرجه أبو داود. وقال البيهقي تفرد أبو إسحاق عن مجاهد بهذا، وقد رواه منصور عن مجاهد بلفء " فقالت ما اعتمر في رجب قط " وقال هذا هو المحفوظ يعني كما سيأتي في أبواب العمرة، ثم أشار إلى أنه اختلف فيه على أبي إسحاق فرواه زهير بن معاوية عنه هكذا وقال زكريا عن أبي إسحاق عن البراء، ثم روى حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم حج حجتين قبل أن يهاجر وحجة قرن منها عمرة " يعني بعدما هاجر، وحكي عن البخاري أنه أعله لأنه من رواية زيد بن الحباب عن الثوري عن جعفر عن أبيه عنه، وزيد ربما يهم في الشيء، والمحفوظ عن الثوري مرسل، والمعروف عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج خالصا، ثم روى حديث ابن عباس نحو حديث مجاهد عن عائشة وأعله بداود العطار وقال إنه تفرد بوصله عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه ابن عيينة عن عمرو فأرسله ولم يذكر ابن عباس، ثم روى حديث الصبي بن معبد أنه أهل بالحج والعمرة معا فأنكر عليه، فقال له عمر " هديت لسنة نبيك " الحديث وهو في السنن وفيه قصة، وأجاب عنه بأنه يدل على جواز القران لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من التعسف. وقال النووي: الصواب الذي نعتقده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في تلك السنة بعد الحج، ولا شك أن القران أفضل من الإفراد الذي لا يعتمر في سننه عندنا، ولم ينقل أحد أن الحج وحده أفصل من القران، كذا قال والخلاف ثابت قديما وحديثا، أما قديما فالثابت عن عمر أنه قال " إن أتم لحجكم وعمرتكم أن تنشئوا لكل منهما سفرا " وعن ابن مسعود نحوه أخرجه ابن أبي شيبة وغيره، وأما حديثا فقد صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر في تلك السنة. وقال صاحب الهداية من الحنفية: الخلاف بيننا وبين الشافعي مبني على أن القارن يطوف طوافا واحدا وسعيا واحدا فبهذا قال إن الإفراد أفضل، ونحن عندنا أن القارن يطوف طوافين وسعيين فهو أفضل لكونه أكثر عملا. وقال الخطابي: اختلفت الرواية فيما كان النبي صلى الله عليه وسلم به محرما، والجواب عن ذلك بأن كل راو أضاف إليه ما أمر به اتساعا، ثم رجح بأنه كان أفرد الحج، وهذا هو المشهور عند المالكية والشافعية، وقد بسط الشافعي القول فيه في " اختلاف الحديث " وغيره ورجح أنه صلى الله عليه وسلم أحرم إحراما مطلقا ينتظر ما يؤمر به فنزل عليه الحكم بذلك وهو على الصفا، ورجحوا الإفراد أيضا بأن الخلفاء الراشدين واظبوا عليه ولا يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل، وبأنه لم ينقل عن أحد منهم أنه كره الإفراد، وقد نقل عنهم كراهية التمتع والجمع بينهما حتى فعله علي لبيان الجواز، وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التمتع والقران انتهى. وهذا ينبني على أن دم القران دم جبران وقد منعه من رجح القران وقال إنه دم فضل وثواب كالأضحية، ولو كان دم نقص لما قام الصيام مقامه، ولأنه يؤكل منه ودم النقص لا يؤكل منه كدم الجزاء قاله الطحاوي. وقال عياض نحو ما قال الخطابي وزاد: وأما إحرامه هو فقد تضافرت الروايات الصحيحة بأنه كان مفردا، وأما رواية من روى متمتعا فمعناه أمر به لأنه صرح بقوله " ولولا أن معي الهدي لأحللت " فصح أنه لم يتحلل. وأما رواية من روى القران فهو إخبار عن آخر أحواله لأنه أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي وقيل له " قل عمرة في حجة " انتهى. وهذا الجمع هو المعتمد، وقد سيق إليه قديما ابن المنذر وبينه ابن حزم في " حجة الوداع " بيانا شافيا ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا يطول ذكره، ومحصله أن كل من روي عنه الإفراد حمل على ما أهل به في أول الحال، وكل من روي عنه التمتع أراد ما أمر به أصحابه، وكل من روي عنه القران أراد ما استقر عليه أمره، ويترجح رواية من روى القران بأمور: منها أن معه زيادة علم على من روى الإفراد وغيره، وبأن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه في ذلك: فأشهر من روي عنه الإفراد عائشة وقد ثبت عنها أنه اعتمر مع حجته كما تقدم، وابن عمر وقد ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج كما سيأتي في أبواب الهدي، وثبت أنه جمع بين حج وعمرة ثم حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وسيأتي أيضا، وجابر وقد تقدم قوله إنه اعتمر مع حجته أيضا. وروى القران عنه جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه، وبأنه لم يقع في شيء من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال أفردت ولا تمتعت، بل صح عنه أنه قال " قرنت " وصح عنه أنه قال " لولا أن معي الهدي لأحللت " وأيضا فإن من روي عنه القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف بخلاف من روى الإفراد فإنه محمول على أول الحال وينتفي التعارض، ويؤيده أن من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران كما تقدم، ومن روي عنه التمتع فإنه محمول على الاقتصار على سفر واحد للنسكين، ويؤيده أن من جاء عنه التمتع لما وصفه بصورة القران لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم عمل جميع الحج وهذه إحدى صور القران، وأيضا فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيا بأسانيد جياد بخلاف روايتي الإفراد والتمتع وهذا يقتضي رفع الشك عن ذلك والمصير إلى أنه كان قارنا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد ومن التمتع وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وبه قال الثوري وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه واختاره من الشافعية المزني وابن المنذر وأبو إسحاق المروزي ومن المتأخرين تقي الدين السبكي وبحث مع النووي في اختياره أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا وأن الإفراد مع ذلك أفضل مستندا إلى أنه صلى الله عليه وسلم اختار الإفراد أولا ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحج لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور كما في ثالث أحاديث الباب، وملخص ما يتعقب به كلامه أن البيان قد سبق منه صلى الله عليه وسلم في عمره الثلاث فإنه أحرم بكل منها في ذي القعدة عمرة الحديبية التي صد عن البيت فيها وعمرة القضية التي بعدها وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره عمرة حجته بيان الجواز فقط مع أن الأفضل خلافه لاكتفى في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل لكونه صلى الله عليه وسلم تمناه فقال " لولا أني سقت الهدي لأحللت " ولا يتمنى إلا الأفضل، وهو قول أحمد بن حنبل في المشهور عنه، وأجيب بأنه إنما تمناه تطييبا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته وإلا فالأفضل ما اختاره الله له واستمر عليه. وقال ابن قدامة يترجح التمتع بأن الذي يفرد إن اعتمر بعدها فهي عمرة مختلف في إجزائها عن حجة الإسلام بخلاف عمرة التمتع فهي مجزئة بلا خلاف فيترجح التمتع على الإفراد ويليه القران. وقال من رجح القران. هو أشق من التمتع وعمرته مجزئة بلا خلاف فيكون أفضل منهما، وحكى عياض عن بعض العلماء أن الصور الثلاث في الفضل سواء وهو مقتضى تصرف ابن خزيمة في صحيحه، وعن أبي يوسف القران والتمتع في الفضل سواء وهما أفضل من الإفراد، وعن أحمد: من ساق الهدي فالقران أفضل له ليوافق فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه، زاد بعض أتباعه ومن أراد أن ينشئ لعمرته من بلده سفرا فالإفراد أفضل له قال: وهذا أعدل المذاهب وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة، فمن قال الإفراد أفضل فعلى هذا يتنزل لأن أعمال سفرين للنسكين أكثر مشقة فيكون أعظم أجرا ولتجزئ عنه عمرته من غير نقص ولا اختلاف ومن العلماء من جمع بين الأحاديث على نمط آخر مع موافقته على أنه كان قارنا كالطحاوي وابن حبان وغيرهما فقيل أهل أولا بعمرة ثم لم يحلل منها إلى أن أدخل عليها الحج يوم التروية، ومستند هذا القائل حديث ابن عمر الآتي في أبواب الهدي بلفظ " فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة ثم أهل بالحج. وهذا لا ينافي إنكار ابن عمر على أنس كونه نقل أنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج والعمرة كما سيأتي في حجة الوداع من المغازي لاحتمال أن يكون من إنكاره كونه نقل أنه أهل بهما معا وإنما المعروف عنده أنه أدخل أحد النسكين على الآخر لكن جزمه بأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة مخالف لما عليه أكثر الأحاديث فهو مرجوح، وقيل أهل أولا بالحج مفردا ثم استمر على ذلك إلى أن أمر أصحابه بأن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة وفسخ معهم، ومنعه من التحلل من عمرته المذكورة ما ذكره في حديث الباب وغيره من سوق الهدي فاستمر معتمرا إلى أن أدخل عليها الحج حتى تحلل منهما جميعا، وهذا يستلزم أنه أحرم بالحج أولا وآخرا، وهو محتمل لكن الجمع الأول أولى. وقيل إنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا واستمر عليه إلى أن تحلل منه بمنى ولم يعتمر في تلك السنة وهو مقتضى من رجح أنه كان مفردا. والذي يظهر لي أن من أنكر القران من الصحابة نفى أن يكون أهل بهما في أول الحال، ولا ينفي أن يكون أهل بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة فيجتمع القولان كما تقدم والله أعلم. قوله: (ولم تحلل) بكسر اللام الأولى أي لم تحل، وإظهار التضعيف لغة معروفة. قوله: (لبدت) بتشديد الموحدة أي شعر رأسي، وقد تقدم بيان التلبيد، وهو أن يجعل فيه شيء ليلتصق به، ويؤخذ منه استحباب ذلك للمحرم. قوله: (فلا أحل حتى أنحر) يأتي الكلام عليه في الحديث السابع. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ قَالَ تَمَتَّعْتُ فَنَهَانِي نَاسٌ فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأَمَرَنِي فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا يَقُولُ لِي حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي أَقِمْ عِنْدِي فَأَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي قَالَ شُعْبَةُ فَقُلْتُ لِمَ فَقَالَ لِلرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتُ الشرح: قوله: (أبو جمرة) بالجيم والراء. قوله: (تمتعت فنهاني ناس) لم أقف على أسمائهم، وكان ذلك في زمن ابن الزبير وكان ينهى عن المتعة كما رواه مسلم من حديث أبي الزبير عنه وعن جابر، ونفل ابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه كان لا يرى التمتع إلا للمحصر، ووافقه علقمة وإبراهيم. وقال الجمهور لا اختصاص لذلك للحصر. قوله: (فأمرني) أي أن أستمر على عمرتي، ولأحمد ومسلم من طريق غندر عن شعبة " فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك فأمرني بها، ثم انطلقت إلى البيت فنمت فأتاني آت في منامي". قوله: (وعمرة متقبلة) في رواية النضر عن شعبة كما سيأتي في أبواب الهدي " متعة متقبلة " وهو خبر مبتدأ محذوف أي هذه عمرة متقبلة، وقد تقدم تفسير المبرور في أوائل الحج. قوله: (فقال سنة أبي القاسم) هو خبر مبتدأ محذوف أي هذه سنة، ويجوز فيه النصب أي وافقت سنة أبي القاسم أو على الاختصاص. وفي رواية النضر " فقال: الله أكبر، سنة أبي القاسم " وزاد فيه زيادة يأتي الكلام عليها هناك إن شاء الله تعالى. قوله: (ثم قال لي) أي ابن عباس (أقم عندي وأجعل لك سهما من مالي) أي نصيبا. (قال شعبة فقلت) يعني لأبي جمرة (ولم) ؟ أي استفهمه عن سبب ذلك (فقال للرؤيا) أي لأجل الرؤيا المذكورة. ويؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسره، وفرح العالم بموافقته الحق، والاستئناس بالرؤيا لموافقة الدليل الشرعي، وعرض الرؤيا على العالم، والتكبير عند المسرة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على اختلاف أهل العلم ليعمل بالراجح منه الموافق للدليل. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ قَالَ قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ فَدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَالَ لِي أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ تَصِيرُ الْآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ فَقَالَ حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَقَالَ لَهُمْ أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَصِّرُوا ثُمَّ أَقِيمُوا حَلَالًا حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً فَقَالُوا كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ فَقَالَ افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ فَلَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَفَعَلُوا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَبُو شِهَابٍ لَيْسَ لَهُ مُسْنَدٌ إِلَّا هَذَا الشرح: قوله: (حدثنا أبو شهاب) هو الأكبر واسمه موسى بن نافع. قوله: (حجك مكيا) في رواية الكشميهني " حجتك مكية " يعني قليلة الثواب لقلة مشقتها. وقال ابن بطال معناه أنك تنشئ حجك من مكة كما ينشئ أهل مكة منها فيفوتك فضل الإحرام من الميقات. قوله: (فدخلت على عطاء) أي ابن أبي رباح. قوله: (يوم ساق البدن معه) بضم الموحدة وإسكان الدال جمع بدنة وذلك في حجة الوداع، وقد رواه مسلم عن ابن نمير عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه بلفظ " عام ساق الهدي". قوله: (فقال لهم أحلوا من إحرامكم إلخ) أي اجعلوا حجكم عمرة وتحللوا منها بالطواف والسعي. قوله: (وقصروا) إنما أمرهم بذلك لأنهم يهلون بعد قليل بالحج فأخر الحلق لأن بين دخولهم وبين يوم التروية أربعة أيام فقط. قوله: (واجعلوا التي قدمتم بها متعة) أي اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرة تتحللوا منها فتصيروا متمتعين، فأطلق على العمرة متعة مجازا والعلاقة بينهما ظاهرة. ووقع في رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عند مسلم " فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة " ونحوه في رواية الباقر عن جابر في الخبر الطويل عند مسلم. قوله: (فقال افعلوا ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي إلخ) فيه ما كان عليه عليه السلام من تطييب قلوب أصحابه وتلطفه بهم وحلمه عنهم. قوله: (لا يحل مني حرام) بكسر حاء يحل أي شيء حرام، والمعنى لا يحل مني ما حرم علي، ووقع في رواية مسلم " لا يحل مني حراما " بالنصب على المفعولية وعلى هذا فيقرأ يحل بضم أوله والفاعل محذوف تقديره لا يحل طول المكث ونحو ذلك مني شيئا حراما حتى يبلغ الهدي محله، أي إذا نحر يوم منى. واستدل به على أن من اعتمر فساق هديا لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، وقد تقدم حديث حفصة نحوه، ويأتي حديث عائشة من طريق عقيل عن الزهري عن عروة عنها بلفظ " من أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى ينحر " وتأول ذلك المالكية والشافعية على أن معناه ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه، ولا يخفى ما فيه. قلت: فإنه خلاف ظاهر الأحاديث المذكورة وبالله التوفيق. قوله: (قاله أبو عبد الله) هو المصنف. قوله: (أبو شهاب ليس له حديث مسند إلا هذا) أي لم يرو حديثا مرفوعا إلا هذا الحديث، قال مغلطاي: كأنه يقول من كان هكذا لا يجعل حديثه أصلا من أصل العلم. قلت: إذا كان موصوفا بصفة من يصحح حديثه لم يضره ذلك مع أنه قد توبع عليه. ثم كلام مغلطاي محمول على ظاهر الإطلاق، وقد أجاب غيره بأنه مقيد بالرواية عن عطاء فإن حديثه هذا طرف من حديث جابر الطويل الذي انفرد مسلم بسياقه من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر، وفي هذا الطرف زيادة بيان لصفة التحلل من العمرة ليس في الحديث الطويل حيث قال فيه " أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا إلى يوم التروية وأهلوا بالحج " ويستفاد منه جواز جواب المفتي لمن سأله عن حكم خاص بأن يذكر له قصة مسندة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتمل على جواب سؤاله ويكون ما اشتملت عليه من الفوائد الزائدة على ذلك زيادة خير، وينبغي أن يكون محل ذلك لائقا بحال السائل. ثم ذكر المصنف حديث اختلاف عثمان وعلي في التمتع وقد تقدم من وجه آخر وهو ثاني أحاديث هذا الباب، فاشتملت أحاديث الباب على ما ترجم به، فحديث عائشة من طريق يؤخذ منه الفسخ والإفراد، وحديث علي من طريقه يؤخذ منه التمتع والقران، وحديث ابن عباس يؤخذ منه الفسخ، وكذا حديث أبي موسى وجابر، وحديث حفصة يؤخذ منه أن من تمتع بالعمرة إلى الحج لا يحل من عمرته إن كان ساق الهدي، وكذا حديث جابر، وحديث ابن عباس الثاني يؤخذ منه مشروعية التمتع وكذا حديث جابر أيضا. والله أعلم. |
08-14-2013, 11:41 AM | #488 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ الشرح:
قوله: (باب من لبى بالحج وسماه) أورد فيه حديث جابر مختصرا من طريق مجاهد عنه وهو بين فيما ترجم له، ويؤخذ منه فسخ الحج إلى العمرة. وقد ذهب الجمهور إلى أنه منسوخ، وذهب ابن عباس إلى أنه محكم وبه قال أحمد وطائفة يسيرة. *3*باب التَّمَتُّعِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب التمتع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) كذا في رواية أبي ذر، وسقط لغيره " على عهد إلخ " ولبعضهم " باب " بغير ترجمة، وكذا ذكره الإسماعيلي، والأول أولى. وفي الترجمة إشارة إلى الخلاف في ذلك وإن كان الأمر استقر بعد على الجواز. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ عَنْ عِمْرَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ الشرح: قوله: (حدثني مطرف) هو ابن عبد الله بن الشخير، ورجال الإسناد كلهم بصريون. قوله: (عن عمران) هو ابن حصين الخزاعي، ولمسلم من طريق شعبة عن قتادة عن مطرف " بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك " فذكر الحديث. قوله: (ونزل القرآن) أي بجوازه يشير إلى قوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) الآية. ورواه مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن همام بلفظ " ولم ينزل فيه القرآن " أي بمنعه، وتوضحه رواية مسلم الأخرى من طريق شعبة وسعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة بلفظ " ثم لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبي الله " وزاد من طريق شعبة عن حميد بن هلال عن مطرف " ولم ينزل فيه القرآن بحرمة " وله من طريق أبي العلاء عن مطرف " فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم تنه عنه حتى مضى لوجهه " وللإسماعيلي من طريق عفان عن همام " تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فيه القرآن ولم ينهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينسخها شيء " وقد أخرجه المصنف في تفسير البقرة من طريق أبي رجاء العطاردي عن عمران بلفظ " أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل قرآن بحرمة فلم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء". قوله: (قال رجل برأيه ما شاء) وفي رواية أبي العلاء " ارتأى كل امرئ بعدما شاء أن يرتئي " قائل ذلك هو عمران بن حصين، ووهم من زعم أنه مطرف الراوي عنه لثبوت ذلك في رواية أبي رجاء عن عمران كما ذكرته قبل، وحكى الحميدي أنه وقع البخاري في رواية أبي رجاء عن عمران قال البخاري يقال إنه عمر، أي الرجل الذي عناه عمران بن حصين، ولم أر هذا في شيء من الطرق التي اتصلت لنا من البخاري، لكن نقله الإسماعيلي عن البخاري كذلك فهو عمدة الحميدي في ذلك، وبهذا جزم القرطبي والنووي وغيرهما، وكأن البخاري أشار بذلك إلى رواية الجريري عن مطرف فقال في آخره " ارتأى رجل برأيه ما شاء " يعني عمر، كذا في الأصل أخرجه مسلم عن محمد بن حاتم عن وكيع عن الثوري عنه. وقال ابن التين: يحتمل أن يريد عمر أو عثمان، وأغرب الكرماني فقال: ظاهر سياق كتاب البخاري أن المراد به عثمان، وكأنه لقرب عهده بقصة عثمان مع علي جزم بذلك، وذلك غير لازم فقد سبقت قصة عمر مع أبي موسى في ذلك، ووقعت لمعاوية أيضا مع سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم قصة في ذلك، والأولى أن يفسر بعمر فإنه أول من نهى عنها وكأن من بعده كان تابعا له في ذلك، وفي مسلم أيضا أن ابن الزبير كان ينهى عنها وابن عباس يأمر بها، فسألوا جابرا فأشار إلى أن أول من نهى عنها عمر، ثم في حديث عمران هذا ما يعكر على عياض وغيره في جزمهم أن المتعة التي نهى عنها عمر وعثمان هي فسخ الحج إلى العمرة لا العمرة التي يحج بعدها، فإن في بعض طرقه عند مسلم التصريح بكونها متعة الحج. وفي رواية له أيضا " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمر بعض أهله في العشر " وفي رواية له " جمع بين حج وعمرة " ومراده التمتع المذكور وهو الجمع بينهما في عام واحد كما سيأتي صريحا في الباب بعده في حديث ابن عباس، وقد تقدم البحث فيه في حديث أبي موسى. وفيه من الفوائد أيضا جواز نسخ القرآن بالقرآن ولا خلاف فيه، وجواز نسخه بالسنة وفيه اختلاف شهير، ووجه الدلالة منه قوله " ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإن مفهومه أنه لو نهى عنها لامتنعت ويستلزم رفع الحكم ومقتضاه جواز النسخ، وقد يؤخذ منه أن الإجماع لا ينسخ به لكونه حصر وجوه المنع في نزول آية أو نهي من النبي صلى الله عليه وسلم وفيه وقوع الاجتهاد في الأحكام بين الصحابة، وإنكار بعض المجتهدين على بعض بالنص. *3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلُوا إِهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ وَقَالَ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ فَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى أَمْصَارِكُمْ الشَّاةُ تَجْزِي فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ اللَّهُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابهِ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي وَالْجِدَالُ الْمِرَاءُ الشرح: قوله: (باب قول الله تعالى: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) أي تفسير قوله، وذلك في الآية إشارة إلى التمتع لأنه سبق فيها (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) إلى أن قال (ذلك) . واختلف السلف في المراد بحاضري المسجد فقال نافع والأعرج: هم أهل مكة بعينها وهو قول مالك واختاره الطحاوي ورجحه. وقال طاوس وطائفة: هم أهل الحرم وهو الظاهر. وقال مكحول: من كان منزله دون المواقيت وهو قول الشافعي في القديم. وقال في الجديد: من كان من مكة على دون مسافة القصر، ووافقه أحمد. وقال مالك: أهل مكة ومن حولها سوى أهل المناهل كعسفان وسوى أهل منى وعرفة. قوله: (وقال أبو كامل) وصله الإسماعيلي قال " حدثنا القاسم المطرز حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو كامل " فذكره بطوله لكنه قال " عثمان بن سعد " بدل عثمان بن غياث وكلاهما بصري وله رواية عن عكرمة، لكن عثمان بن غياث ثقة وعثمان بن سعد ضعيف، وقد أشار الإسماعيلي إلى أن شيخه القاسم وهم في قوله عثمان بن سعد، ويؤيده أن أبا مسعود الدمشقي ذكر في " الأطراف " أنه وجده من رواية مسلم بن الحجاج عن أبي كامل كما ساقه البخاري قال: فأظن البخاري أخذه عن مسلم لأنني لم أجده إلا من رواية مسلم، كذا قال وتعقب باحتمال أن يكون البخاري أخذه عن أحمد بن سنان فإنه أحد مشايخه، ويحتمل أيضا أن يكون أخذه عن أبي كامل نفسه فإنه أدركه وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه ولم نجد له ذكرا في كتابه غير هذا الموضع. وأبو معشر البراء اسمه يوسف بن يزيد والبراء بالتشديد نسبة له إلى بري السهام. قوله: (فلما قدمنا مكة) أي قربها لأن ذلك كان بسرف كما تقدم عن عائشة. قوله: (اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة) الخطاب بذلك لمن كان أهل بالحج مفردا كما تقدم واضحا عن عائشة أنهم كانوا ثلاث فرق. قوله: (طفنا) في رواية الأصيلي " فطفنا " بزيادة فاء وهو الوجه، ووجه الأول بالحمل على الاستئناف أو هو جواب لما وقال جملة حالية وقد مقدرة فيها. قوله: (ونسكنا المناسك) أي من الوقوف والمبيت وغير ذلك. قوله: (وأتينا النساء) المراد به غير المتكلم لأن ابن عباس لم يكن إذ ذاك بالغا. قوله: (عشية التروية) أي بعد الظهر ثامن ذي الحجة، وفيه حجة على من استحب تقديمه على يوم التروية كما نقل عن الحنفية، وعن الشافعية يختص استحباب يوم التروية بعد الزوال بمن ساق الهدي. قوله: (فقد تم حجنا) للكشميهني " وقد " بالواو. ومن هنا إلى آخر الحديث موقوف على ابن عباس، ومن هنا إلى أوله مرفوع. قوله: (فصيام ثلاثة أيام في الحج) سيأتي عن ابن عمر وعائشة موقوفا أن آخرها يوم عرفة فإن لم يفعل صام أيام مني أي الثلاثة التي بعد يوم النحر وهي أيام التشريق، وبه قال الزهري والأوزاعي ومالك والشافعي في القديم، ثم رجع عنه وأخذ بعموم النهي عن صيام أيام التشريق. قوله: (وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم) كذا أورده ابن عباس، وهو تفسير منه للرجوع في قوله تعالى (إذا رجعتم) ويوافقه حديث ابن عمر الأتي في " باب من ساق البدن معه " من طريق عقيل عن الزهري عن سالم عن ابن عمر مرفوعا " قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل " إلى أن قال " فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " وهذا قول الجمهور، وعن الشافعي معناه الرجوع إلى مكة، وعبر عنه مرة بالفراغ من أعمال الحج، ومعنى الرجوع التوجه من مكة فيصومها في الطريق إن شاء وبه قال إسحاق بن راهويه. قوله: (الشاة تجزي) أي عن الهدي، وهي جملة حالية وقعت بدون واو وسيأتي في أبواب الهدي بيان ذلك. قوله: (بين الحج والعمرة) بيان للمراد بقوله " فجمعوا النسكين " وهو بإسكان السين قال الجوهري النسك بالإسكان العبادة وبالضم الذبيحة. قوله: (فإن الله أنزله) أي الجمع بين الحج والعمرة وأخذ بقوله: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) . قوله: (وسنه نبيه) أي شرعه حيث أمر أصحابه به. قوله: (غير أهل مكة) بنصب غير ويجوز كسره، وذلك إشارة إلى التمتع، وهذا مبني على مذهبه بأن أهل مكة لا متعة لهم وهو قول الحنفية، وعند غيرهم أن الإشارة إلى حكم التمتع وهو الفدية فلا يجب على أهل مكة بالتمتع دم إذا أحرموا من الحل بالعمرة، وأجاب الكرماني بجواب ليس طائلا. قوله: (التي ذكر الله) أي بعد آية التمتع حيث قال (الحج أشهر معلومات) وقد تقدم نقل الخلاف في ذي الحجة هل هو بكماله أو بعضه. قوله: (فمن تمتع في هذه الأشهر) ليس لهذا القيد مفهوم لأن الذي يعتمر في غير أشهر الحج لا يسمى متمتعا ولا دم عليه وكذلك المكي عند الجمهور، وخالفه فيه أبو حنيفة كما تقدم والله أعلم. ويدخل في عموم قوله " فمن تمتع " من أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ثم حج منها وبه قال الحسن البصري، وهو مبني على أن التمتع إيقاع العمرة في أشهر الحج فقط، والذي ذهب إليه الجمهور أن التمتع أن يجمع الشخص الواحد بينهما في سفر واحد في أشهر الحج في عام واحد وأن يقدم العمرة وأن لا يكون مكيا، فمتى اختل شرط من هذه الشروط لم يكن متمتعا. قوله: (والجدال المراء) روى ابن أبي نسيبة من طريق مقسم عن ابن عباس قال " ولا جدال في الحج: تماري صاحبك حتى تغضبه " وكذا أخرجه عن ابن عمر مثله، ومن طريق عكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن يسار وغيرهم نحو قول ابن عباس. وأخرج من طريق عبد العزيز بن رفيع عن مجاهد قال: قوله: " ولا جدال في الحج " قال: قد استقام أمر الحج. ومن طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قد صار الحج في ذي الحجة لا شهر ينسأ ولا شك في الحج، لأن أهل الجاهلية كانوا يحجون في غير ذي الحجة. *3*باب الِاغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ الشرح: قوله: (باب الاغتسال عند دخول مكة) قال ابن المنذر: الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية. وقال أكثرهم يجزئ منه الوضوء. وفي " الموطأ " أن ابن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام، وظاهره أن غسله لدخول مكة كان لجسده دون رأسه. وقال الشافعية إن عجز عن الغسل تيمم. وقال ابن التين: لم يذكر أصحابنا الغسل لدخول مكة وإنما ذكروه للطواف، والغسل لدخول مكة هو في الحقيقة للطواف. الحديث: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنْ التَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طِوًى ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ الشرح: قوله: (ثم يبيت بذي طوى) بضم الطاء وبفتحها. قوله: (ويغتسل) أي به. قوله: (كان يفعل ذلك) يحتمل أن الإشارة به إلى الفعل الأخير وهو الغسل وهو مقصود الترجمة، ويحتمل أنها إلى الجميع وهو الأظهر، فسيأتي في الباب الذي يليه ذكر المبيت فقط مرفوعا من رواية أخرى عن ابن عمر، تقدم الحديث بأتم من هذا في " باب الإهلال مستقبل القبلة". *3*باب دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا أَوْ لَيْلًا بَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي طِوًى حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ الشرح: قوله: (باب دخول مكة نهارا أو ليلا) أورد فيه حديث ابن عمر في المبيت بذي طوى حتى يصبح، وهو ظاهر في الدخول نهارا، وقد أخرجه مسلم من طريق أيوب عن نافع بلفظ " كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا " وأما الدخول ليلا فلم يقع منه صلى الله عليه وسلم إلا في عمرة الجعرانة فإنه صلى الله عليه وسلم أحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلا فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت كما رواه أصحاب السنن الثلاثة من حديث محرش الكعبي، وترجم عليه النسائي " دخول مكة ليلا " وروى سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون أن يدخلوا مكة نهارا ويخرجوا منها ليلا. وأخرج عن عطاء: إن شئتم فادخلوا ليلا، إنكم لستم كرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه كان إماما فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس انتهى، وقضية هذا أن من كان إماما يقتدى به استحب له أن يدخلها نهارا. *3*باب مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ الشرح: قوله: (باب من أين يدخل مكة) أورد فيه حديث مالك عن نافع عن ابن عمر قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى " أخرجه عن إبراهيم بن المنذر عن معن بن عيسى عنه، وليس هو في " الموطأ " ولا رأيته في " غرائب مالك للدارقطني " ولم أقف عليه إلا من رواية معن بن عيسى، وقد تابع إبراهيم بن المنذر عليه عبد الله بن جعفر البرمكي، وقد عز على الإسماعيلي استخراجه فأخرجه عن ابن ناجية عن البخاري مثله وزاد في آخره " يعني ثنيتي مكة " وهذه الزيادة قد أخرجها أيضا أبو داود حيث أخرج الحديث عن عبد الله بن جعفر البرمكي عن معن بن عيسى مثله، وقد ذكره المصنف في الباب الذي بعده من طريق أخرى عن نافع وسياقه أبين من سياق مالك. *3*بَاب مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ وَخَرَجَ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ كَانَ يُقَالُ هُوَ مُسَدَّدٌ كَاسْمِهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ لَوْ أَنَّ مُسَدَّدًا أَتَيْتُهُ فِي بَيْتِهِ فَحَدَّثْتُهُ لَاسْتَحَقَّ ذَلِكَ وَمَا أُبَالِي كُتُبِي كَانَتْ عِنْدِي أَوْ عِنْدَ مُسَدَّدٍ الشرح: قوله: (من كداء) بفتح الكاف والمد قال أبو عبيد. لا يصرف. وهذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلى مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها الحجون بفتح المهملة وضم الجيم، وكانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأزرقي، ثم سهل في عصرنا هذا منها سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع، ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة، وكل عقبة في جبل أو طريق عال فيه تسمى ثنية. قوله: (الثنية السفلى) ذكر في ثاني حديثي الباب " وخرج من كدا " وهو بضم الكاف مقصور وهي عند باب شبيكة بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان، وكان بناء هذا الباب عليها في القرن السابع. الحديث: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ الشرح: قوله: (من أعلى مكة) كذا رواه أبو أسامة فقلبه، والصواب ما رواه عمرو وحاتم عن هشام: " دخل من كداء من أعلى مكة " ثم ظهر لي أن الوهم فيه ممن دون أبي أسامة، فقد رواه أحمد عن أبي أسامة على الصواب. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ أَعْلَى مَكَّةَ قَالَ هِشَامٌ وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا مِنْ كَدَاءٍ وَكُدًا وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ الشرح: قوله: (قال هشام) هو ابن عروة بالإسناد المذكور. قوله: (وكان عروة يدخل من كلتيهما) في رواية الكشميهني " على " بدل من. قوله: (وأكثر ما يدخل من كدا) بالضم والقصر للجميع وكذا في رواية حاتم ووهيب وهي الطريقة الرابعة لحديث عائشة. قوله: (وكانت أقربهما إلى منزله) فيه اعتذار هشام لأبيه لكونه روى الحديث وخالفه لأنه رأى أن ذلك ليس بحتم لازم وكان ربما فعله وكثيرا ما يفعل غيره بقصد التيسير، قال عياض والقرطبي وغيرهما: اختلف في ضبط كداء وكدا فالأكثر على أن العليا بالفتح والمد والسفلى بالضم والقصر وقيل بالعكس. قال النووي: وهو غلط. قالوا: واختلف في المعني الذي لأجله خالف صلى الله عليه وسلم بين طريقيه فقيل: ليتبرك به كل من في طريقه، فذكر شيئا مما تقدم في العيد وقد استوعبت ما قيل فيه هناك، وبعضه لا يتأتى اعتباره هنا والله أعلم. وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة بجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأن إبراهيم لما دخل مكة دخل منها، وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم خرج منها متخفيا في الهجرة فأراد أن يدخلها ظاهرا عاليا، وقيل: لأن من جاء من تلك الجهة كان مستقبلا للبيت، ويحتمل أن يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح فاستمر على ذلك، والسبب في ذلك قول أبي سفيان بن حرب للعباس: لا أسلم حتى أرى الخيل تطلع من كداء، فقلت ما هذا؟ قال شيء طلع بقلبي وإن الله لا يطلع الخيل هناك أبدا، قال العباس: فذكرت أبا سفيان بذلك لما دخل وللبيهقي من حديث ابن عمر قال " قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: كيف قال حسان؟ فأنشده: عدمت بنيتي إن لم تروها تثير النقع مطلعها كداء فتبسم وقال: ادخلوها من حيث قال حسان". (تنبيه) : حكى الحميدي عن أبي العباس العذري أن بمكة موضعا ثالثا يقال لها كدي وهو بالضم والتصغير يخرج منه إلى جهة اليمن، قال المحب الطبري: حققه العذري عن أهل المعرفة بمكة، قال: وقد بني عليها باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن. (تنبيهات) : أولها محمود في الطريق الثانية من حديث عائشة هو ابن غيلان، وعمرو في الطريق الثالثة هو ابن الحارث، وأحمد في أول الإسناد لم أره منسوبا في شيء من الروايات، وقد تقدم في أوائل الحج أحمد عن ابن وهب وأنه أحمد بن عيسى فيشبه أن يكون هو المذكور هنا، وحاتم في الطريق الثالثة هو ابن إسماعيل. (التنبيه الثاني) : اختلف على هشام بن عروة في وصل هذا الحديث وإرساله، وأورد البخاري الوجهين مشيرا إلى أن رواية الإرسال لا تقدح في رواية الوصل لأن الذي وصله حافظ وهو ابن عيينة وقد تابعه ثقتان، ولعله إنما أورد الطريقين المرسلين ليستظهر بهما على وهم أبي أسامة الذي أشرت إليه أولا. (الثالث) : وقع في رواية المستملي وحده في آخر الباب " قال أبو عبد الله: كداء وكدا موضعان " والمراد بأبي عبد الله المصنف، وهذا تفسير غير مفيد فمعلوم أنهما موضعان بمجرد السياق، وقد يسر الله بنقل ما فيها من ضبط وتعيين جهة كل منهما. |
08-14-2013, 11:44 AM | #489 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
الشرح: قوله: (باب فضل مكة وبنيانها وقوله تعالى (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) فساق الآيات إلى قوله التواب الرحيم) كذا في رواية كريمة، وساق الباقون بعض الآية الأولى، ولأبي ذر كلها ثم قال: إلى قوله التواب الرحيم. ثم ساق المصنف في الباب حديث جابر في بناء الكعبة، وحديث عائشة في ذلك من أربعة طرق، وليس في الآيات ولا الحديث ذكر لبنيان مكة لكن بنيان الكعبة كان سبب بنيان مكة وعمارتها فاكتفى به. واختلف في أول من بنى الكعبة كما سيأتي في أحاديث الأنبياء في الكلام على حديث أبي ذر أي مسجد وضع في الأرض أول، وكذا قصة بناء إبراهيم وإسماعيل لها يأتي في أحاديث الأنبياء، ويقتصر هنا على قصة بناء قريش لها وعلى قصة بناء ابن الزبير وما غيره الحجاج بعده لتعلق ذلك بحديثي الباب. والبيت اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا، وقوله تعالى (مثابة) أي مرجعا للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يعودون إليه، روى عبد بن حميد بإسناد جيد عن مجاهد قال " يحجون ثم يعودون " وهو مصدر وصف به الموضع، وقوله: (وأمنا) أي موضع أمن وهو كقوله: (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) والمراد ترك القتال فيه كما سيأتي شرحه في الكلام على حديث الباب الذي بعده. وقوله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) أي وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة، ويجوز أن يكون معطوفا على اذكروا نعمتي أو على معنى مثابة أي ثوبوا إليه واتخذوا، والأمر فيه للاستحباب بالاتفاق. وقرأ نافع وابن عامر (واتخذوا) بلفظ الماضي عطفا على (جعلنا) أو على تقدير إذ أي إذ جعلنا وإذ اتخذوا، ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه على الأصح، وسيأتي شرحه في قصة إبراهيم من أحاديث الأنبياء، وعن عطاء مقام إبراهيم عرفة وغيرها من المناسك لأنه قام فيها ودعا. وعن النخعي الحرم كله. وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في أوائل كتاب الصلاة. (والركع السجود) استدل به على جواز صلاة الفرض والنفل داخل البيت، وخالف مالك في الفرض. قوله: (اجعل هذا بلدا آمنا) يأتي الكلام عليه في حديث " إن إبراهيم حرم مكة " وأنه لا يعارض حديث " أن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والأرض " لأن معني الأول أن إبراهيم أعلم الناس بذلك، والثاني ما سبق من تقدير الله. وقوله: (من آمن) بدل من أهله أي وارزق المؤمنين من أهله خاصة (ومن كفر) عطف على من آمن قيل قاس إبراهيم الرزق على الإمامة فعرف الفرق بينهما وإن الرزق قد يكون استدراجا وإلزاما للحجة، وسيأتي الكلام على القواعد في تفسير البقرة وأنها الأساس، وظاهره أنه كان مؤسسا قبل إبراهيم، ويحتمل أن يكون المراد بالرفع نقلها من مكانها إلى مكان البيت كما سيأتي عند نقل الاختلاف في ذلك إن شاء الله تعالى. وقوله (ربنا تقبل منا) أي يقولان ربنا تقبل منا، قد أظهره ابن مسعود في قراءته. قوله: (وأرنا مناسكنا) قال عبد بن حميد: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز قال لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل فأراه الطواف بالبيت سبعا قال وأحسبه وبين الصفا والمروة، ثم أتى به عرفة فقال: أعرفت؟ قال نعم، قال: فمن ثم سميت عرفات. ثم أتى به جمعا فقال: هاهنا يجمع الناس الصلاة. ثم أتى به منى فعرض لهما الشيطان فأخذ جبريل سبع حصيات فقال ارمه بها وكبر مع كل حصاة. قوله. (وتب علينا) قيل طلبا الثبات على الإيمان لأنهما معصومان، وقيل أراد أن يعرف الناس أن ذلك الموقف مكان التوبة، وقيل المعني وتب على من اتبعنا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا بُنِيَتْ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلَانِ الْحِجَارَةَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ فَخَرَّ إِلَى الْأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ أَرِنِي إِزَارِي فَشَدَّهُ عَلَيْهِ الشرح: قوله: (حدثني عبد الله بن محمد) هو الجعفي، وهذا أحد الأحاديث التي أخرجها البخاري عن شيخه أبي عاصم النبيل بواسطة. قوله: (لما بنيت الكعبة) هذا من مرسل الصحابي لأن جابرا لم يدرك هذه القصة، فيحتمل أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن حضرها من الصحابة، وقد روى الطبراني وأبو نعيم في " الدلائل " من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير قال " سألت جابرا هل يقوم الرجل عريانا؟ فقال: أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما انهدمت الكعبة نقل كل بطن من قريش وأن النبي صلى الله عليه وسلم نقل مع العباس، وكانوا يضعون ثيابهم على العواتق يتقوون بها - أي على حمل الحجارة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاعتقلت رجلي فخررت وسقط ثوبي فقلت للعباس: هلم ثوبي، فلست أتعرى بعدها إلا إلى الغسل " لكن ابن لهيعة ضعيف، وقد تابعه عبد العزيز بن سليمان عن أبي الزبير ذكره أبو نعيم فإن كان محفوظا وإلا فقد حضره من الصحابة العباس كما في حديث الباب، فلعل جابرا حمله عنه. وروى الطبراني أيضا، والبيهقي في " الدلائل " من طريق عمرو بن أبي قيس، والطبري في التهذيب من طريق هارون بن المغيرة، وأبو نعيم في " المعرفة " من طريق قيس بن الربيع، وفي " الدلائل " من طريق شعيب بن خالد كلهم عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس حدثني أبي العباس بن عبد المطلب قال " لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي، جعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء قال فقلت لابن أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانا قال فكتمته حتى أظهر الله نبوته " تابعه الحكم بن أبان عن عكرمة أخرجه أبو نعيم أيضا، وروى ذلك أيضا عن طريق النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس ليس فيه العباس وقال في آخره " فكان أول شيء رأى من النبوة " والنضر ضعيف، وقد خبط في إسناده وفي متنه، فإنه جعل القصة في معالجة زمزم بأمر أبي طالب وهو غلام، وكذا روى ابن إسحاق في " السيرة " عن أبيه عمن حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إني لمع غلمان هم أسناني قد جعلنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال: اشدد عليك إزارك " فكأن هذه قصة أخرى، واغتر بذلك الأزرقي فحكى قولا " إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنيت الكعبة كان غلاما " ولعل عمدته في ذلك ما سيأتي عن معمر عن الزهري، ولحديث معمر شاهد من حديث أبي الطفيل أخرجه عبد الرزاق ومن طريقه الحاكم والطبراني قال " كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر، وكانت قدر ما يقتحمها العناق، وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا، وكانت ذات ركنين كهيئة هذه الحلقة: صلى الله عليه وسلم2، فأقبلت سفينة من الروم، حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت، فخرجت قريش لتأخذ خشبها فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا فقدموا به بالخشب ليبنوا به البيت، فكانوا كلما أرادوا القرب منه لهدمه بدت لهم حية فاتحة فاها، فبعث الله طيرا أعظم من النسر فغرز مخالبه فيها فألقاها نحو أجياد، فهدمت قريش الكعبة وبنوها بحجارة الوادي، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا. فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته من صغرها، فنودي: يا محمد خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد ذلك، وكان بين ذلك وبين المبعث خمس سنين " قال معمر: وأما الزهري فقال " لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت، فتشاورت قريش في هدمها وهابوه، فقال الوليد: إن الله لا يهلك من يريد الإصلاح، فارتقى على ظاهر البيت ومعه العباس فقال اللهم لا نريد إلا الإصلاح، ثم هدم. فلما رأوه سالما تابعوه " قال عبد الرزاق وأخبرنا ابن جريج قال: قال مجاهد " كان ذلك قبل المبعث بخمس عشرة سنة " وكذا رواه ابن عبد البر من طريق محمد بن جبير بن مطعم بإسناد له، وبه جزم موسى بن عقبة في مغازيه والأول أشهر، وبه جزم ابن إسحاق. ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء، وذكر ابن إسحاق " أن السيل كان يأتي فيصيب الكعبة فيتساقط من بنائها، وكان رضما فوق القامة، فأرادت قريش رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة " فذكر القصة مطولا في بنائهم الكعبة وفي اختلافهم فيمن يضع الحجر الأسود حتى رضوا بأول داخل، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فحكموه في ذلك فوضعه بيده. قال "وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعا " ووقع عند الطبراني من طريق أخرى عن ابن خثيم عن أبي الطفيل أن اسم النجار المذكور باقوم، وللفاكهي من طريق ابن جريج مثله، قال " وكان يتجر إلى بندر وراء ساحل عدن، فانكسرت سفينته بالشعيبة، فقال لقريش: إن أجريتم عيري مع عيركم إلى الشام أعطيتكم الخشب، ففعلوا " وروى سفيان بن عيينة في جامعه عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول " اسم الذي بنى الكعبة لقريش باقوم، وكان روميا " وقال الأزرقي " كان طولها سبعة وعشرين ذراعا، فاقتصرت قريش منها على ثمانية عشر، ونقصوا من عرضها أذرعا أدخلوها في الحجر". قوله: (فخر إلى الأرض) في رواية زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار الماضية في " باب كراهية التعري " من أوائل الصلاة " فجعله على منكبه فسقط مغشيا عليه". قوله: (فطمحت عيناه) بفتح المهملة والميم أي ارتفعتا، والمعنى أنه صار ينظر إلى فوق. وفي رواية عبد الرزاق عن ابن جريج في أوائل السيرة النبوية " ثم أفاق فقال". قوله: (أرني إزاري) أي أعطني، وحكى ابن التين كسر الراء وسكونها وقد قرئ بهما. وفي رواية عبد الرزاق الآتية " إزاري إزاري " بالتكرير. قوله: (فشده عليه) زاد زكريا بن إسحاق " فما رئي بعد ذلك عريانا " وقد تقدم شاهدها من حديث أبي الطفيل. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ الشرح: قوله: (عن سالم بن عبد الله) أي ابن عمر. قوله: (أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر) أي الصديق، ووقع في رواية مسلم " أبي بكر بن أبي قحافة " وعبد الله هذا هو أخو القاسم بن محمد. قوله: (أخبر عبد الله بن عمر) بنصب عبد الله على المفعولية، وظاهره أن سالما كان حاضرا لذلك فيكون من روايته عن عبد الله بن محمد، وقد صرح بذلك أبو أويس عن ابن شهاب، لكنه سماه عبد الرحمن بن محمد فوهم أخرجه أحمد، وأغرب إبراهيم بن طهمان فرواه عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أخرجه الدارقطني في " غرائب مالك " والمحفوظ الأول. وقد رواه معمر عن ابن شهاب عن سالم لكنه اختصره، وأخرجه مسلم من طريق نافع عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر عن عائشة فتابع سالما فيه وزاد في المتن " ولأنفقت كنز الكعبة " ولم أر هذه الزيادة إلا من هذا الوجه، ومن طريق أخرى أخرجها أبو عوانة من طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن الزبير عن عائشة وسيأتي البحث فيها في " باب كسوة الكعبة". قوله: (قومك) أي قريش. قوله: (اقتصروا عن قواعد إبراهيم) سيأتي بيان ذلك في الطريق التي تلي هذه. قوله: (لولا حدثان) بكسر المهملة وسكون الدال بعدها مثلثة بمعني الحدوث، أي قرب عهدهم. قوله: (لفعلت) أي لرددتها على قواعد إبراهيم. قوله: (فقال عبد الله) أي ابن عمر بالإسناد المذكور، وقد رواه معمر عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه بهذه القصة مجردة. قوله: (لئن كانت) ليس هذا شكا من ابن عمر في صدق عائشة، لكن يقع في كلام العرب كثيرا صورة التشكيك والمراد التقرير واليقين. قوله: (ما أرى) بضم الهمزة أي أظن، وهي رواية معمر، وزاد في آخر الحديث " ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك " ونحوه في رواية أبى أويس المذكورة. قوله: (استلام) افتعال من السلام، والمراد هنا لمس الركن بالقبلة أو اليد. قوله: (يليان) أي يقربان من (الحجر) بكسر المهملة وسكون الجيم وهو معروف على صفة نصف الدائرة وقدرها تسع وثلاثون ذراعا، والقدر الذي أخرج من الكعبة سيأتي قريبا. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ قَالَ إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ قُلْتُ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا قَالَ فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ الشرح: قوله: (حدثنا الأشعث) هو ابن أبي الشعثاء المحاربي، وقد تقدم في العلم من وجه آخر عن الأسود بزيادة نبهنا على ما فيها هناك. قوله: (عن الجدر) بفتح الجيم وسكون المهملة كذا للأكثر وكذا هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه. وفي رواية المستملي " الجدار " قال الخليل: الجدر لغة في الجدار انتهى. ووهم من ضبطه بضمها لأن المراد الحجر، ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن أبي الأحوص شيخ مسدد فيه " الجدر أو الحجر " بالشك، ولأبي عوانة من طريق شيبان عن الأشعث " الحجر " بغير شك. قوله: (أمن البيت هو؟ قال نعم) هذا ظاهره أن الحجر كله من البيت، وكذا قوله في الطريق الثانية (أن أدخل الجدر في البيت) وبذلك كان يفتي ابن عباس كما رواه عبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل قال " سمعت ابن عباس يقول: لو وليت من البيت ما ولي ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت، فلم يطاف به إن لم يكن من البيت "؟ وروى الترمذي والنسائي من طريق علقمة عن أمه عن عائشة قالت " كنت أحب أن أصلي في البيت، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني الحجر فقال: صلي فيه فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروه حتى بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت " ونحوه لأبي داود من طريق صفية بنت شيبة عن عائشة، ولأبي عوانة من طريق قتادة عن عروة عن عائشة، ولأحمد من طريق سعيد بن جبير عن عائشة وفيه " أنها أرسلت إلى شيبة الحجبي ليفتح لها البيت بالليل فقال: ما فتحناه في جاهلية ولا إسلام بليل " وهذه الروايات كلها مطلقة، وقد جاءت روايات أصح منها مقيدة، منها لمسلم من طريق أبي قزعة عن الحارث بن عبد الله عن عائشة في حديث الباب " حتى أزيد فيه من الحجر"، وله من وجه آخر عن الحارث عنها " فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من سبعة أذرع " وله من طريق سعيد بن ميناء عن عبد الله بن الزبير عن عائشة في هذا الحديث " وزدت فيها من الحجر ستة أذرع " وسيأتي في آخر الطريق الرابعة قول يزيد بن رومان الذي رواه عن عروة أنه أراه لجرير بن حازم فحزره ستة أذرع أو نحوها، ولسفيان بن عيينة في جامعه عن داود بن شابور عن مجاهد " أن ابن الزبير زاد فيها ستة أذرع مما يلي الحجر " وله عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن الزبير " ستة أذرع وشبر " وهكذا ذكر الشافعي عن عدد لقيهم من أهل العلم من قريش كما أخرجه البيهقي في " المعرفة " عنه، وهذه الروايات كلها تجتمع على أنها فوق الستة ودون السبعة، وأما رواية عطاء عند مسلم عن عائشة مرفوعا " لكنت أدخل فيها من الحجر خمسة أذرع " فهي شاذة، والرواية السابقة أرجح لما فيها من الزيادة عن الثقات الحفاظ، ثم ظهر لي لرواية عطاء وجه وهو أنه أريد بها ما عدا الفرجة التي بين الركن والحجر فتجتمع مع الروايات الأخرى، فإن الذي عدا الفرجة أربعة أذرع وشيء، ولهذا وقع عند الفاكهي من حديث أبي عمرو بن عدي بن الحمراء " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة في هذه القصة: ولأدخلت فيها من الحجر أربعه أذرع " فيحمل هذا على إلغاء الكسر، ورواية عطاء على جبره، ويجمع بين الروايات كلها بذلك ولم أر من سبقني إلى ذلك، وسأذكر ثمرة هذا البحث في آخر الكلام على هذا الحديث. قوله: (ألم تري) أي ألم تعرفي. قوله: (قصرت بهم النفقة) بتشديد الصاد أي النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك كما جزم به الأزرقي وغيره، ويوضحه ما ذكر ابن إسحاق في " السيرة " عن عبد الله بن أبي نجيح أنه أخبر عن عبد الله بن صفوان بن أمية " أن أبا وهب بن عابد بن عمران بن مخزوم - وهو جد جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي - قال لقريش: لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا الطيب، ولا تدخلوا فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس " وروى سفيان بن عيينة في جامعه " عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه أنه شهد عمر بن الخطاب أرسل إلى شيخ من بني زهرة أدرك ذلك فسأله عمر عن بناء الكعبة فقال أن قريشا تقربت لبناء الكعبة - أي بالنفقة الطيبة - فعجزت فتركوا بعض البيت في الحجر، فقال عمر صدقت". قوله: (ليدخلوا) في رواية المستملي " يدخلوا " بغير لام زاد مسلم من طريق الحارث بن عبد الله عن عائشة " فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط". قوله: (حديث عهدهم) بتنوين حديث. قوله: (بجاهلية) في رواية الكشميهني بالجاهلية، وقد تقدم في العلم من طريق الأسود " حديث عهد بكفر " ولأبي عوانة من طريق قتادة عن عروة عن عائشة " حديث عهد بشرك". قوله: (فأخاف أن تنكر قلوبهم) في رواية شيبان عن أشعث " تنفر " بالفاء بدل الكاف، ونقل ابن بطال عن بعض علمائهم أن النفرة التي خشيها صلى الله عليه وسلم أن ينسبوه إلى الانفراد بالفخر دونهم. قوله: (أن أدخل الجدر) كذا وقع هنا، وهو مؤول بمعني المصدر أي أخاف إنكار قلوبهم إدخال الحجر، وجواب لولا محذوف، وقد رواه مسلم عن سعيد بن منصور عن أبي الأحوص بلفظ " فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل " فأثبت جواب لولا، وكذا أثبته الإسماعيلي من طريق شيبان عن أشعث ولفظه " لنظرت فأدخلته". الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ خَلْفًا يَعْنِي بَابًا الشرح: قوله: (عن هشام) هو ابن عروة. قوله: (عن عائشة) كذا رواه مسلم من طريق أبي معاوية والنسائي من طريق عبدة بن سليمان، وأبو عوانة من طريق علي بن مسهر، وأحمد عن عبد الله بن نمير كلهم عن هشام، وخالفهم القاسم بن معن فرواه عن هشام عن أبيه عن أخيه عبد الله بن الزبير عن عائشة أخرجه أبو عوانة، ورواية الجماعة أرجح، فإن رواية عروة عن عائشة لهذا الحديث مشهورة من غير هذا الوجه، فسيأتي في الطريق الرابعة من طريق يزيد بن رومان عنه وكذا لأبي عوانة من طريق قتادة وأبي النضر كلاهما عن عروة عن عائشة بغير واسطة، ويحتمل أن يكون عروة حمل عن أخيه عن عائشة منه شيئا زائدا على روايته عنها كما وقع للأسود بن يزيد مع ابن الزبير فيما تقدم شرحه في كتاب العلم. قوله: (وجعلت له خلفا) بفتح المعجمة وسكون اللام بعدها فاء، وقد فسره في الرواية المعلقة، وضبطه الحربي في " الغريب " بكسر الخاء المعجمة قال: والخالفة عمود في مؤخر البيت، والصواب الأول، وبينه قوله في الرواية الرابعة " وجعلت لها بابين". (تنبيه) قوله " وجعلت " بسكون اللام وضم التاء عطفا على قوله " لبنيته " وضبطها القابسي بفتح اللام وسكون المثناة عطفا على استقصرت وهو وهم، فإن قريشا لم تجعل له بابا من خلف، وإنما هم النبي صلى الله عليه وسلم بجعله، فلا يغتر بمن حفظ هذه الكلمة بفتح ثم سكون. قوله: (قال أبو معاوية حدثنا هشام) يعني ابن عروة بسنده هذا (خلفا يعني بابا) ، والتفسير المذكور من قول هشام بينه أبو عوانة من طريق علي بن مسهر عن هشام قال: الخلف الباب. وطريق أبي معاوية وصلها مسلم والنسائي، ولم يقع في روايتهما التفسير المذكور. وأخرجه ابن خزيمة عن أبي كريب عن أبي أسامة وأدرج التفسير ولفظه " وجعلت لها خلفا " يعني بابا آخر من خلف يقابل الباب المقدم. الحديث: حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى هَدْمِهِ قَالَ يَزِيدُ وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنْ الْحِجْرِ وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الْإِبِلِ قَالَ جَرِيرٌ فَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ مَوْضِعُهُ قَالَ أُرِيكَهُ الْآنَ فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ هَا هُنَا قَالَ جَرِيرٌ فَحَزَرْتُ مِنْ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا الشرح: قوله: (حدثنا يزيد) هو ابن هارون كما جزم به أبو نعيم في " المستخرج". قوله: (عن عروة) كذا رواه الحفاظ من أصحاب يزيد بن هارون عنه فأخرجه أحمد بن حنبل وأحمد بن سنان وأحمد بن منيع في مسانيدهم عنه هكذا، والنسائي عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، والإسماعيلي من طريق هارون الجمال والزعفراني كلهم عن يزيد بن هارون، وخالفهم الحارث بن أبي أسامة فرواه عن يزيد بن هارون فقال " عن عبد الله بن الزبير " بدل عروة بن الزبير، وبكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي الأزهر عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه، قال الإسماعيلي: إن كان أبو الأزهر ضبطه فكأن يزيد بن رومان سمعه من الأخوين. قلت: قد تابعه محمد بن مشكان كما أخرجه الجوزقي عن الدغولي عنه عن وهب بن جرير، ويزيد قد حمله عن الأخوين، لكن رواية الجماعة أوضح فهي أصح. قوله: (حديث عهد) كذا لجميع الرواة بالإضافة. وقال المطرزي: لا يجوز حذف الواو في مثل هذا والصواب " حديثو عهد " والله أعلم. قوله: (فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه) زاد وهب بن جرير في روايته " وبنائه". قوله: (قال يزيد) هو ابن رومان بالإسناد المذكور. قوله: (وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه - إلى قوله - كأسنمة الإبل) هكذا ذكره يزيد بن رومان مختصرا، وقد ذكره مسلم وغيره واضحا فروى مسلم من طريق عطاء بن أبي رباح قال " لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام فكان من أمره ما كان " وللفاكهي في " كتاب مكة " من طريق أبي أويس عن يزيد بن رومان وغيره " قالوا لما أحرق أهل الشام الكعبة ورموها بالمنجنيق وهت الكعبة " ولابن سعد في الطبقات من طريق أبي الحارث بن زمعة قال " ارتحل الحصين بن نمير يعني الأمير الذي كان يقاتل ابن الزبير من قبل يزيد بن معاوية - لما أتاهم موت يزيد بن معاوية في ربيع الآخر سنة أربع وستين قال: فأمر ابن الزبير بالخصاص التي كانت حول الكعبة فهدمت، فإذا الكعبة تنفض - أي تتحرك - متوهنة ترتج من أعلاها إلى أسفلها فيها أمثال جيوب النساء من حجارة المنجنيق " وللفاكهي من طريق عثمان بن ساج " بلغني أنه لما قدم جيش الحصين بن نمير أحرق بعض أهل الشام على باب بني جمح، وفي المسجد يومئذ خيام فمشى الحريق حتى أخذ في البيت فظن الفريقان أنهم هالكون، وضعف بناء البيت حتى أن الطير ليقع عليه فتتناثر حجارته " ولعبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل أنه حضر ذلك قال " كانت الكعبة قد وهت من حريق أهل الشام قال فهدمها ابن الزبير، فتركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: أشيروا علي في الكعبة " الحديث، ولابن سعد من طريق ابن أبي مليكة قال " لم يبن ابن الزبير الكعبة حتى حج الناس سنة أربع وستين، ثم بناها حين استقبل سنة خمس وستين " وحكي عن الواقدي أنه رد ذلك وقال. الأثبت عندي أنه ابتدأ بناءها بعد رحيل الجيش بسبعين يوما، وجزم الأزرقي بأن ذلك كان في نصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين. قلت ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ابتداء البناء في ذلك الوقت وامتد أمده إلى الموسم ليراه أهل الآفاق ليشنع بذلك على بني أمية. ويؤيده أن في تاريخ المسبحي أن الفراغ من بناء الكعبة كان في سنة خمس وستين، وزاد المحب الطبري أنه كان في شهر رجب والله أعلم. وأن لم يكن هذا الجمع مقبولا فالذي في الصحيح مقدم على غيره. وذكر مسلم في رواية عطاء إشارة ابن عباس عليه بأن لا يفعل، وقول ابن الزبير لو أن أحدكم احترق بيته بناه حتى يجدده، وأنه استخار الله ثلاثا ثم عزم على أن ينقضها، قال فتحاماه الناس حتى صعد رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، وجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه. وقال ابن عيينة في جامعه عن داود بن شابور عن مجاهد قال " خرجنا إلى منى فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب، وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه فهدم " وفي رواية أبي أويس المذكورة " ثم عزل ما كان يصلح أن يعاد في البيت فبنوا به فنظروا إلى ما كان لا يصلح منها أن يبني به فأمر به أن يحفر له في جوف الكعبة فيدفن، واتبعوا قواعد إبراهيم من نحو الحجر فلم يصيبوا شيئا حتى شق على ابن الزبير، ثم أدركوها بعدما أمعنوا، فنزل عبد الله بن الزبير فكشفوا له عن قواعد إبراهيم وهي صخر أمثال الخلف من الإبل، فأنفضوا له أي حركوا تلك القواعد بالعتل فنفضت قواعد البيت ورأوه بنيانا مربوطا بعضه ببعض، فحمد الله وكبره، ثم أحضر الناس فأمر بوجوههم وأشرافهم حتى شاهدوا ما شاهدوه ورأوا بنيانا متصلا فأشهدهم على ذلك " وفي رواية عطاء " وكان طول الكعبة ثمان عشرة ذراعا فزاد ابن الزبير في طولها عشرة أذرع " وقد تقدم من وجه آخر أنه كان طولها عشرين ذراعا، فلعل راويه جبر الكسر، وجزم الأزرقي بأن الزيادة تسعة أذرع فلعل عطاء جبر الكسر أيضا. وروى عبد الرزاق من طريق ابن سابط عن زيد " أنهم كشفوا عن القواعد فإذا الحجر مثل الخلفة والحجارة مشبكة بعضها ببعض " وللفاكهي من وجه آخر عن عطاء قال: " كنت في الأمناء الذين جمعوا على حفره، فحفروا قامة ونصفا، فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد عرق المروة، فضربوه فارتجت قواعد البيت فكبر الناس، فبنى عليه " وفي رواية مرثد عند عبد الرزاق " فكشف عن ربض في الحجر آخذ بعضه ببعض فتركه مكشوفا ثمانية أيام ليشهدوا عليه، فرأيت ذلك الربض مثل خلف الإبل: وجه حجر ووجه حجران، ورأيت الرجل يأخذ العتلة فيضرب بها من ناحية الركن فيهتز الركن الآخر " قال مسلم في رواية عطاء " وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه " وفي رواية الأسود التي في العلم " ففعله عبد الله بن الزبير " وفي رواية إسماعيل بن جعفر عند الإسماعيلي " فنقضه عبد الله بن الزبير فجعل له بابين في الأرض " ونحوه للترمذي من طريق شعبة عن أبي إسحاق، وللفاكهي من طريق أبي أويس عن موسى بن ميسرة " أنه دخل الكعبة بعدما بناها ابن الزبير، فكان الناس لا يزدحمون فيها يدخلون من باب ويخرجون من آخر". (فصل) لم يذكر المصنف رحمه الله قصة تغيير الحجاج لما صنعه ابن الزبير، وقد ذكرها مسلم في رواية عطاء قال " فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير قد وضعه على أس نظر العدول من أهل مكة إليه، فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد بابه الذي فتحه. فنقضه وأعاده إلى بنائه " وللفاكهي من طريق أبي أويس عن هشام بن عروة " فبادر - يعني الحجاج - فهدمها وبنى شقها الذي يلي الحجر، ورفع بابها، وسد الباب الغربي. قال أبو أويس: فأخبرني غير واحد من أهل العلم أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج في هدمها، ولعن الحجاج " ولابن عيينة عن داود بن سابور عن مجاهد " فرد الذي كان ابن الزبير أدخل فيها من الحجر، قال فقال عبد الملك: وددنا أنا تركنا أبا خبيب وما تولى من ذلك " وقد أخرج قصة ندم عبد الملك على ذلك مسلم من وجه آخر، فعنده من طريق الوليد بن عطاء " أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وفد على عبد الملك في خلافته فقال: ما أظن أبا خبيب - يعني ابن الزبير - سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها، فقال الحارث: بلى أنا سمعته منها " زاد عبد الرزاق عن ابن جريج فيه " وكان الحارث مصدقا لا يكذب. فقال عبد الملك: أنت سمعتها تقول ذلك؟ قال: نعم، فنكت ساعة بعصاه وقال: وددت أني تركته وما تحمل " وأخرجها أيضا من طريق أبي قزعة قال " بينما عبد الملك يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين - فذكر الحديث - فقال له الحارث: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث بهذا، فقال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على بناء ابن الزبير". (تنبيه) : جميع الروايات التي جمعتها هذه القصة متفقة على أن ابن الزبير جعل الباب بالأرض، ومقتضاه أن يكون الباب الذي زاده على سمته، وقد ذكر الأزرقي أن جملة ما غيره الحجاج الجدار الذي من جهة الحجر والباب المسدود الذي في الجانب الغربي عن يمين الركن اليماني وما تحته عتبة الباب الأصلي وهو أربعة أذرع وشبر، وهذا موافق لما في الروايات المذكورة، لكن المشاهد الآن في ظهر الكعبة باب مسدود يقابل الباب الأصلي وهو في الارتفاع مثله، ومقتضاه أن يكون الباب الذي كان على عهد ابن الزبير لم يكن لاصقا بالأرض، فيحتمل أن يكون لاصقا كما صرحت به الروايات لكن الحجاج لما غيره رفعه ورفع الباب الذي يقابله أيضا ثم بدا له فسد الباب المجدد، لكن لم أر النقل بذلك صريحا. وذكر الفاكهي في " أخبار مكة " أنه شاهد هذا الباب المسدود من داخل الكعبة في سنة ثلاث وستين ومائتين فإذا هو مقابل باب الكعبة وهو بقدره في الطول والعرض، وإذا في أعلاه كلاليب ثلاثة كما في الباب الموجود سواء. فالله أعلم. قوله: (فحزرت) بتقديم الزاي على الراء أي قدرت. قوله: (ستة أذرع أو نحوها) قد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الطريق الثانية وأنها أرجح الروايات، وأن الجمع بين المختلف منها ممكن كما تقدم، وهو أولى من دعوى الاضطراب والطعن في الروايات المقيدة لأجل الاضطراب كما جنح إليه ابن الصلاح وتبعه النووي، لأن شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه بحيث يتعذر الترجيح أو الجمع، ولم يتعذر ذلك هنا، فيتعين حمل المطلق على المقيد كما هي قاعدة مذهبهما، ويؤيده أن الأحاديث المطلقة والمقيدة متواردة على سبب واحد وهو أن قريشا قصروا على بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأن ابن الزبير أعاده على بناء إبراهيم، وأن الحجاج أعاده على بناء قريش، ولم تأت رواية قط صريحة أن جميع الحجر من بناء إبراهيم في البيت، قال المحب الطبري في " شرح التنبيه " له: والأصح أن القدر الذي في الحجر من البيت قدر سبعة أذرع، والرواية التي جاء فيها أن الحجر من البيت مطلقة فيحمل المطلق على المقيد، فإن إطلاق اسم الكل على البعض سائغ مجازا، وإنما قال النووي ذلك نصرة لما رجحه من أن جميع الحجر من البيت، وعمدته في ذلك أن الشافعي نص على إيجاب الطواف خارج الحجر، ونقل ابن عبد البر الاتفاق عليه، ونقل غيره أنه لا يعرف في الأحاديث المرفوعة ولا عن أحد من الصحابة ومن بعدهم أنه طاف من داخل الحجر وكان عملا مستمرا، ومقتضاه أن يكون جميع الحجر من البيت، وهذا متعقب فإنه لا يلزم من إيجاب الطواف من ورائه أن يكون كله من البيت، فقد نص الشافعي أيضا كما ذكره البيهقي في " المعرفة " أن الذي في الحجر من البيت نحو من ستة أذرع، ونقله عن عدة من أهل العلم من قريش لقيهم كما تقدم، فعلى هذا فلعله رأى إيجاب الطواف من وراء الحجر احتياطا، وأما العمل فلا حجة فيه على الإيجاب، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم من بعده فعلوه استحبابا للراحة من تسور الحجر لا سيما والرجال والنساء يطوفون جميعا فلا يؤمن من المرأة التكشف، فلعلهم أرادوا حسم هذه المادة، وأما ما نقله المهلب عن ابن أبي زيد أن حائط الحجر لم يكن مبنيا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى كان عمر فبناه ووسعه قطعا للشك، وأن الطواف قبل ذلك كان حول البيت، ففيه نظر. وقد أشار المهلب إلى أن عمدته في ذلك ما سيأتي في " باب بنيان الكعبة " في أوائل السيرة النبوية بلفظ " لم يكن حول البيت حائط، كانوا يصلون حول البيت حتى كان عمر فبنى حوله حائطا جدره قصيرة، فبناه ابن الزبير " انتهى. وهذا إنما هو في حائط المسجد لا في الحجر، فدخل الوهم على قائله من هنا. ولم يزل الحجر موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما صرح به كثير من الأحاديث الصحيحة، نعم في الحكم بفساد طواف من دخل الحجر وخلى بينه وبين البيت سبعة أذرع نظر، وقد قال بصحته جماعة من الشافعية كإمام الحرمين ومن المالكية كأبي الحسن اللخمي، وذكر الأزرقي أن عرض ما بين الميزاب ومنتهى الحجر سبعة عشر ذراعا وثلث ذراع منها عرض جدار الحجر ذراعان وثلث وفي بطن الحجر خمسة عشر ذراعا، فعلى هذا فنصف الحجر ليس من البيت فلا يفسد طواف من طاف دونه والله أعلم. وأما قول المهلب إن الفضاء لا يسمى بيتا وإنما البيت البنيان لأن شخصا لو حلف لا يدخل بيتا فانهدم ذلك البيت فلا يحنث بدخوله فليس بواضح، فإن المشروع من الطواف ما شرع للخليل بالاتفاق، فعلينا أن نطوف حيث طاف ولا يسقط ذلك بانهدام حرم البيت لأن العبادات لا يسقط المقدور عليه منها بفوات المعجوز عنه، فحرمة البقعة ثابتة ولو فقد الجدار، وأما اليمين فمتعلقة بالعرف، ويؤيده ما قلناه أنه لو انهدم مسجد فنقلت حجارته إلى موضع آخر بقيت حرمة المسجد بالبقعة التي كان بها ولا حرمة لتلك الحجارة المنقولة إلى غير مسجد، فدل على أن البقعة أصل للجدار بخلاف العكس، أشار إلى ذلك ابن المنير في الحاشية. وفي حديث بناء الكعبة من الفوائد غير ما تقدم ما ترجم عليه المصنف في العلم وهو " ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر عنه فهم بعض الناس " والمراد بالاختيار في عبارته المستحب، وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب. وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة، وحديث الرجل مع أهله في الأمور العامة، وحرص الصحابة على امتثال أوامر النبي صلى الله عليه وسلم. (تكميل) : حكى ابن عبد البر وتبعه عياض وغيره عن الرشيد أو المهدي أو المنصور أنه أراد أن يعيد الكعبة على ما فعله ابن الزبير، فناشده مالك في ذلك وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك، فتركه. قلت: وهذا بعينه خشية جدهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فأشار على ابن الزبير لما أراد أن يهدم الكعبة ويجدد بناءها بأن يرم ما وهي منها ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص. وقال له " لا آمن أن يجيء من بعدك أمير فيغير الذي صنعت " أخرجه الفاكهي من طريق عطاء عنه، وذكر الأزرقي أن سليمان بن عبد الملك هم بنقض ما فعله الحجاج، ثم ترك ذلك لما ظهر له أنه فعله بأمر أبيه عبد الملك، ولم أقف في شيء من التواريخ على أن أحدا من الخلفاء ولا من دونهم غير من الكعبة شيئا مما صنعه الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب وعتبته، وكذا وقع الترميم في جدارها غير مرة وفي سقفها وفي مسلم سطحها، وجدد فيها الرخام فذكر الأزرقي عن ابن جريج " أن أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك " ووقع في جدارها الشامي ترميم في شهور سنة سبعين ومائتين، ثم في شهور سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ثم في شهور سنة تسع عشرة وستمائة، ثم في سنة ثمانين وستمائة، ثم في سنة أربع عشرة وثمانمائة، وقد ترادفت الأخبار الآن في وقتنا هذا في سنة اثنتين وعشرين أن جهة الميزاب فيها ما يحتاج إلى ترميم فاهتم بذلك سلطان الإسلام الملك المؤيد وأرجو من الله تعالى أن يسهل له ذلك، ثم حججت سنة أربع وعشرين وتأملت المكان الذي قيل عنه فلم أجده في تلك البشاعة، وقد رمم ما تشعث من الحرم في أثناء سنة خمس وعشرين إلى أن نقض سقفها في سنة سبع وعشرين على يدي بعض الجند فجدد لها سقفا ورخم السطح، فلما كان في سنة ثلاث وأربعين صار المطر إذا نزل ينزل إلى داخل الكعبة أشد مما كان أولا، فأداه رأيه الفاسد إلى نقض السقف مرة أخرى وسد ما كان في السطح من الطاقات التي كان يدخل: منها الضوء إلى الكعبة، ولزم من ذلك امتهان الكعبة، بل صار العمال يصعدون فيها بغير أدب، فغار بعض المجاورين فكتب إلى القاهرة يشكو ذلك. فبلغ السلطان الظاهر فأنكر أن يكون أمر بذلك، وجهز بعض الجند لكشف ذلك فتعصب للأول بعض من جاور واجتمع الباقون رغبة ورهبة فكتبوا محضرا بأنه ما فعل شيئا إلا عن ملأ منهم، وأن كل ما فعله مصلحة، فسكن غضب السلطان وغطى عنه الأمر. وقد جاء عن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهو بالتحتانية قبل الألف وبعدها معجمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن هذه الأمة لا تزال بخير ما عظموا هذه الحرمة - يعني الكعبة - حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا " أخرجه أحمد وابن ماجه وعمر بن شبة في " كتاب مكة " وسنده حسن، فنسأل الله تعالى الأمن من الفتن بحلمه وكرمه، ومما يتعجب منه أنه لم يتفق الاحتياج في الكعبة إلى الإصلاح إلا فيما صنعه الحجاج إما من الجدار الذي بناه في الجهة الشامية وإما في السلم الذي جدده للسطح والعتبة، وما عدا ذلك مما وقع فإنما هو لزيادة محضة كالرخام أو لتحسين كالباب والميزاب، وكذا ما حكاه الفاكهي عن الحسن بن مكرم عن عبد الله بن بكر السهمي عن أبيه قال " جاورت بمكة فعابت - أي بالعين المهملة وبالباء الموحدة - أسطوانة من أساطين البيت فأخرجت وجيء بأخرى ليدخلوها مكانها فطالت عن الموضع، وأدركهم الليل والكعبة لا تفتح ليلا فتركوها ليعودوا من غد ليصلحوها فجاءوا من غد فأصابوها أقدم من قدح " أي بكسر القاف وهو السهم، وهذا إسناد قوي رجاله ثقات، وبكر هو ابن حبيب من كبار أتباع التابعين، وكأن القصة كانت في أوائل دولة بني العباس، وكانت الأسطوانة من خشب. والله سبحانه وتعالى أعلم. |
08-14-2013, 11:45 AM | #490 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب فَضْلِ الْحَرَمِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قوله: (لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت) وصله الحاكم من طريق أحمد بن حنبل عنه قال البخاري: والأول أكثر، أي لاتفاق من تقدم ذكره على هذا اللفظ وانفراد شعبة بما يخالفهم، وإنما قال ذلك لأن ظاهرهما التعارض، لأن المفهوم من الأول أن البيت يحج بعد أشراط الساعة، ومن الثاني أنه لا يحج بعدها، ولكن يمكن الجمع بين الحديثين، فإنه لا يلزم من حج الناس بعد خروج يأجوج ومأجوج أن يمتنع الحج في وقت ما عند قرب ظهور الساعة، ويظهر والله أعلم أن المراد بقوله " ليحجن البيت " أي مكان البيت لما سيأتي بعد باب أن الحبشة إذا خربوه لم يعمر بعد ذلك.
الشرح: قوله: (باب فضل الحرم) أي المكي الذي سيأتي ذكر حدوده في " باب لا يعضد شجر الحرم". قوله: (وقوله تعالى (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) الآية) وجه تعلقها بالترجمة من جهة إضافة الربوبية إلى البلدة فإنه على سبيل التشريف لها، وهي أصل الحرم. قوله: (أو لم نمكن لهم حرما آمنا الآية) روى النسائي في التفسير " أن الحارث بن مر بن نوفل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن نتبع الهدي معك نتخطف من أرضنا، فأنزل الله عز وجل ردا عليه (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) الآية " أي إن الله جعلهم في بلد أمين وهم منه في أمان في حال كفرهم فكيف لا يكون أمنا لهم بعد أن أسلموا وتابعوا الحق. وأورد المصنف في الباب حديث ابن عباس " أن هذا البلد حرمه الله " أخرجه مختصرا، وسيأتي بأتم من هذا السياق في " باب لا يحل القتال بمكة " ويأتي الكلام عليه مستوفى قريبا هناك إن شاء الله تعالى. *3*باب تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَأَنَّ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سَوَاءٌ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ الْبَادِي الطَّارِي مَعْكُوفًا مَحْبُوسًا الشرح: قوله: (باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها، وأن الناس في المسجد الحرام سواء خاصة، لقوله تعالى (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء) الآية) أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف حديث علقمة بن نضلة قال " توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن " أخرجه ابن ماجه وفي إسناده انقطاع وإرسال. وقال بظاهره ابن عمر ومجاهد وعطاء، قال عبد الرزاق عن ابن جريج: كان عطاء ينهي عن الكراء في الحرم، فأخبرني أن عمر نهى أن تبوب دور مكة لأنها ينزل الحاج في عرصاتها، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو واعتذر عن ذلك لعمر. وروى الطحاوي من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد أنه قال: مكة مباح، لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها. وروى عبد الرزاق من طريق إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر: لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها. وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وخالفه صاحبه أبو يوسف، واختلف عن محمد، وبالجواز قال الجمهور واختاره الطحاوي. ويجاب عن حديث علقمة على تقدير صحته بحمله على ما سيجمع به ما اختلف عن عمر في ذلك. واحتج الشافعي بحديث أسامة الذي أورده البخاري في هذا الباب، قال الشافعي: فأضاف الملك إليه وإلى من ابتاعها منه وبقوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " فأضاف الدار إليه. واحتج ابن خزيمة بقوله تعالى (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) فنسب الله الديار إليهم كما نسب الأموال إليهم، ولو كانت الديار ليست بملك لهم لما كانوا مظلومين في الإخراج من دور ليست بملك لهم، قال: ولو كانت الدور التي باعها عقيل لا تملك لكان جعفر وعلي أولى بها إذ كانا مسلمين دونه. وسيأتي في البيوع أثر عمر أنه اشترى دارا للسجن بمكة. ولا يعارض ما جاء عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه كان ينهي أن تغلق دور مكة في زمن الحاج أخرجه عبد بن حميد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد إن عمر قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا، لينزل البادي حيث شاء، وقد تقدم من وجه آخر عن عمر، فيجمع بينهما بكرامة الكراء رفقا بالوفود، ولا يلزم من ذلك منع البيع والشراء، وإلى هذا جنح الإمام أحمد وآخرون. واختلف عن مالك في ذلك، قال القاضي إسماعيل: ظاهر القرآن يدل على أن المراد به المسجد الذي يكون فيه النسك والصلاة لا سائر دور مكة. وقال الأبهري: لم يختلف قول مالك وأصحابه في أن مكة فتحت عنوة، واختلفوا هل من بها على أهلها لعظم حرمتها أو أقرت للمسلمين؟ ومن ثم جاء الاختلاف في بيع دورها والكراء، والراجح عند من قال إنها فتحت عنوة أن النبي صلى الله عليه وسلم من بها على أهلها فخالفت حكم غيرها من البلاد في ذلك ذكره السهيلي وغيره، وليس الاختلاف في ذلك ناشئا عن هذه المسألة فقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله هنا " المسجد الحرام " هل هو الحرم كله أو مكان الصلاة فقط، واختلفوا أيضا هل المراد بقوله " سواء " في إلا من والاحترام أو فيما هو أعم من ذلك وبواسطة ذلك نشأ الاختلاف المذكور أيضا، قال ابن خزيمة: لو كان المراد بقوله تعالى (سواء العاكف فيه والباد) جميع الحرم وأن اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم لما جاز حفر بئر ولا قبر ولا التغوط ولا البول ولا إلقاء الجيف والنتن. قال: ولا نعلم عالما منع من ذلك ولا كره لحائض ولا لجنب دخول الحرم ولا الجماع فيه، ولو كان كذلك لجاز الاعتكاف في دور مكة وحوانيتها ولا يقول بذلك أحد والله أعلم. قلت: والقول بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله ورد عن ابن عباس وعطاء ومجاهد، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم، والأسانيد بذلك كلها إليهم ضعيفة، وسنذكر في " باب فتح مكة " من المغازي الراجح من الخلاف في فتحها صلحا أو عنوة إن شاء الله تعالى. قوله: (البادي الطاري) هو تفسير منه بالمعني، وهو مقتضى ما جاء عن ابن عباس وغيره كما رواه عبد بن حميد وغيره. وقال الإسماعيلي: البادي الذي يكون في البدو، وكذا من كان ظاهر البلد فهو باد، ومعنى الآية أن المقيم والطارئ سيان. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (سواء العاكف فيه والباد) قال: سواء فيه أهل مكة وغيرهم. قوله: (معكوفا محبوسا) كذا وقع هنا، وليست هذه الكلمة في الآية المذكورة وإنما هي في آية الفتح، ولكن مناسبة ذكرها هنا قوله في هذه الآية (العاكف) والتفسير المذكور قاله أبو عبيدة في المجاز، والمراد بالعاكف المقيم. وروى الطحاوي من طريق سفيان عن أبي حصين قال: أردت أن أعتكف وأنا بمكة، فسألت سعيد بن جبير فقال: أنت عاكف، ثم قرأ هذه الآية. الحديث: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَيْئًا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الْآيَةَ الشرح: قوله: (عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان) في رواية مسلم عن حرملة وغيره عن ابن وهب " أن علي بن الحسين أخبره أن عمرو بن عثمان أخبره". قوله: (أين تنزل، في دارك) حذف أداة الاستفهام من قوله " في دارك " بدليل رواية ابن خزيمة والطحاوي عن يونس عن عبد الأعلى عن ابن وهب بلفظ " أتنزل في دارك " وكذا أخرجه الجوزقي من وجه آخر عن أصبغ شيخ البخاري فيه، وللمصنف في المغازي من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري " أين تنزل غدا " فكأنه استفهمه أولا عن مكان نزوله ثم ظن أنه ينزل في داره فاستفهمه عن ذلك، وظاهر هذه القصة أن ذلك كان حين أراد دخول مكة، ويزيده وضوحا رواية زمعة بن صالح عن الزهري بلفظ " لما كان يوم الفتح قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة قيل: أين تنزل أفي بيوتكم " الحديث، وروى علي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي بن حسين قال " قيل للنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة: أين تنزل؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من طل " قال علي بن المديني: ما أشك أن محمد بن علي بن الحسين أخذ هذا الحديث عن أبيه، لكن في حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك حين أراد أن ينفر من منى، فيحمل على تعدد القصة. قوله: (وهل ترك عقيل) في رواية مسلم وغيره " وهل ترك لنا". قوله: (من رباع أو دور) الرباع جمع ربع بفتح الراء وسكون الموحدة وهو المنزل المشتمل على أبيات وقيل هو الدار فعلى هذا فقوله " أو دور " إما للتأكيد أو من شك الراوي. وفي رواية محمد بن أبي حفصة " من منزل " وأخرج هذا الحديث الفاكهي من طريق محمد بن أبي حفصة وقال في آخره: ويقال إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم بن عبد مناف، ثم صارت لعبد المطلب ابنه فقسمها بين ولده حين عمر، فمن ثم صار للنبي صلى الله عليه وسلم حق أبيه عبد الله وفيها ولد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وكان عقيل إلخ) محصل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما، وباعتبار ترك النبي صلى الله عليه وسلم لحقه منها بالهجرة، وفقد طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها. وحكى الفاكهي أن الدار لم تزل بأولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أحي الحجاج بمائة ألف دينار وزاد في روايته من طريق محمد بن أبي حفصة " فكان علي بن الحسين يقول من أجل ذلك: تركنا نصيبنا من الشعب " أي حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب. وقال الداودي وغيره: كان من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره، وأمضى النبي صلى الله عليه وسلم تصرفات الجاهلية تأليفا لقلوب من أسلم منهم، وسيأتي في الجهاد مزيد بسط في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. وقال الخطابي: وعندي أن تلك الدار إن كانت قائمة على ملك عقيل فإنما لم ينزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها دور هجروها في الله تعالى فلم يرجعوا فيما تركوه. وتعقب بأن سياق الحديث يقتضي أن عقيلا باعها، ومفهومه أنه لو تركها لنزلها. قوله: (فكان عمر) في رواية أحمد بن صالح عن ابن وهب عند الإسماعيلي " فمن أجل ذلك كان عمر يقول " وهذا القدر الموقوف على عمر قد ثبت مرفوعا بهذا الإسناد وهو عند المصنف في المغازي من طريق محمد بن أبي حفصة ومعمر عن الزهري وأخرجه مفردا في الفرائض من طريق ابن جريج عنه، وسيأتي الكلام عليه مستوفى هناك إن شاء الله تعالى. ويختلج في خاطري أن القائل " وكان عمر إلخ " هو ابن شهاب فيكون منقطعا عن عمر. قوله: (قال ابن شهاب وكانوا يتأولون إلخ) أي كانوا يفسرون قوله تعالى (بعضهم أولياء بعض) بولاية الميراث أي يتولى بعضهم بعضا في الميراث وغيره. *3*باب نُزُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ الشرح: قوله: (باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة) أي موضع نزوله، ووقع هنا في نسخة الصغاني " قال أبو عبد الله: نسبت الدور إلى عقيل وتورث الدور وتباع وتشتري". قلت: والمحل اللائق بهذه الزيادة الباب الذي قبله لما تقدم تقريره والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ الشرح: قوله: (حين أراد قدوم مكة) بين في الرواية التي بعدها أن ذلك كان حين رجوعه من منى. قوله: (إن شاء الله تعالى) هو على سبيل التبرك والامتثال للآية. الحديث: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ بِمِنًى نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ يَعْنِي ذَلِكَ الْمُحَصَّبَ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سَلَامَةُ عَنْ عُقَيْلٍ وَيَحْيَى بْنُ الضَّحَّاكِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ وَقَالَا بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَشْبَهُ الشرح: قوله: (عن أبي سلمة) في رواية مسلم عن زهير بن حرب عن الوليد بن مسلم بسنده " حدثني أبو سلمة حدثنا أبو هريرة". قوله: (يعني بذلك المحصب) في رواية المستملي " يعني ذلك " والأول أصح، ويختلج في خاطري أن جميع ما بعد قوله يعني المحصب إلى آخر الحديث من قول الزهري أدرج في الخبر، فقد رواه شعيب كما في هذا الباب وإبراهيم بن سعد كما سيأتي في السيرة ويونس كما سيأتي في التوحيد كلهم عن ابن شهاب مقتصرين على الموصول منه إلى قوله " على الكفر " ومن ثم لم يذكر مسلم في روايته شيئا من ذلك. قوله: (وذلك أن قريشا وكنانة) فيه إشعار بأن في كنانة من ليس قرشيا إذ العطف يقتضي المغايرة فترجح القول بأن قريشا من ولد فهر بن مالك على القول بأنهم ولد كنانة. نعم لم يعقب النضر غير مالك ولا مالك غير فهر فقريش ولد النضر بن كنانة وأما كنانة فأعقب من غير النضر فلهذا وقعت المغايرة. قوله: (تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب) كذا وقع عنده بالشك، ووقع عند البيهقي من طريق أخرى عن الوليد " وبني المطلب " بغير شك فكأن الوهم منه فسيأتي على الصواب ويأتي شرحه في أواخر الباب. قوله: (أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم) في رواية محمد بن مصعب عن الأوزاعي عند أحمد " أن لا يناكحوهم ولا يخالطوهم " وفي رواية داود بن رشيد عن الوليد عند الإسماعيلي " وأن لا يكون بينهم وبينهم شيء " وهي أعم، وهذا هو المراد بقوله في الحديث " على الكفر". قوله: (حتى يسلموا) بضم أوله وإسكان المهملة وكسر اللام. قوله: (وقال سلامة عن عقيل) وصله ابن خزيمة في صحيحه من طريقه. قوله: (ويحيى بن الضحاك عن الأوزاعي) وقع في رواية أبي ذر وكريمة " ويحيى عن الضحاك " وهو وهم، وهو يحيى بن عبد الله بن الضحاك نسب لجده البابلتي بموحدتين وبعد اللام المضمومة مثناة مشددة نزيل حران وليس له في البخاري إلا هذا الموضع، ويقال إنه لم يسمع من الأوزاعي، ويقال إن الأوزاعي كان زوج أمه، وطريقه هذه وصلها أبو عوانة في صحيحه والخطيب في " المدرج " وقد تابعه على الجزم بقوله " بني هاشم وبني المطلب " محمد بن مصعب عن الأوزاعي أخرجه أحمد وأبو عوانة أيضا، وسيأتي شرح هذه القصة في السيرة النبوية إن شاء الله تعالى. *3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ الْآيَةَ الشرح: قوله: (باب قول الله عز وجل وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني - إلى قوله - لعلهم يشكرون) لم يذكر في هذه الترجمة حديثا، وكأنه أشار إلى حديث ابن عباس في قصة إسكان إبراهيم لهاجر وابنها في مكان مكة، وسيأتي مبسوطا في أحاديث الأنبياء إن شاء الله تعالى. ووقع في شرح ابن بطال ضم هذا الباب إلى الذي بعده فقال بعد قوله يشكرون " وقول الله جعل الله الكعبة البيت الحرام إلخ " ثم قال فيه أبو هريرة فذكر أحاديث الباب الثاني. *3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ الشرح: قوله: (باب قول الله تعالى: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس - إلى قوله - عليم) كأنه يشير إلى أن المراد بقوله " قياما " أي قواما وأنها ما دامت موجودة فالدين قائم، ولهذه النكتة أورد في الباب قصة هدم الكعبة في آخر الزمان، وقد روى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية فقال: لا يزال الناس على دين ما حجوا البيت واستقبلوا القبلة. وعن عطاء قال: قياما للناس لو تركوه عاما لم ينظروا أن يهلكوا. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ الشرح: حديث أبي هريرة " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة " وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ الشرح: حديث عائشة في صيام عاشوراء قبل نزول فرض رمضان، وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد في آخر كتاب الصيام، والمقصود منه هنا قوله في هذه الطريق " وكان يوما تستر فيه الكعبة " فإنه يفيد أن الجاهلية كانوا يعظمون الكعبة قديما بالستور ويقومون بها، وعرف بهذا جواب الإسماعيلي في قوله: ليس في الحديث مما ترجم به شيء سوى بيان اسم الكعبة المذكورة في الآية، ويستفاد من الحديث أيضا معرفة الوقت الذي كانت الكعبة تكسى فيه من كل سنة وهو يوم عاشوراء، وكذا ذكر الواقدي بإسناده عن أبي جعفر الباقر أن الأمر استمر على ذلك في زمانهم، وقد تغير ذلك بعد فصارت تكسى في يوم النحر، وصاروا يعمدون إليه في ذي القعدة فيعلقون كسوته إلى نحو نصفه، ثم صاروا يقطعونها فيصير البيت كهيئة المحرم، فإذا حل الناس يوم النحر كسوه الكسوة الجديدة. (تنبيه) : قال الإسماعيلي جمع البخاري بين رواية عقيل وابن أبي حفصة في المتن، وليس في رواية عقيل ذكر الستر، ثم ساقه بدونه من طريق عقيل. وهو كما قال، وعادة البخاري التجوز في مثل هذا. وقد رواه الفاكهي من طريق ابن أبي حفصة فصرح بسماع الزهري له من عروة. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تَابَعَهُ أَبَانُ وَعِمْرَانُ عَنْ قَتَادَةَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ سَمِعَ قَتَادَةُ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ أَبَا سَعِيدٍ الشرح: حديث أبي سعيد الخدري في حج البيت بعد يأجوج ومأجوج، أورده موصولا من طريق إبراهيم - وهو ابن طهمان، عن الحجاج بن الحجاج وهو الباهلي البصري عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عنه وقال بعده: سمع قتادة عبد الله بن أبي عتبة وعبد الله سمع أبا سعيد الخدري، وغرضه بهذا أنه لم يقع فيه تدليس. وهل أراد بهذا أن كلا منهما سمع هذا الحديث بخصوصه أو في الجملة؟ فيه احتمال. وقد وجدته من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة مصرحا بسماع قتادة من عبد الله بن أبي عتبة في حديث " كان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها " وهو عند أحمد، وعند أبي عوانة في مستخرجه من وجه آخر. قوله: (ليحجن) بضم أوله وفتح المهملة والجيم. قوله: (تابعه أبان وعمران عن قتادة) أي على لفظ المتن، فأما متابعة أبان - وهو ابن يزيد العطار - فوصلها الإمام أحمد عن عفان وسويد بن عمرو الكلبي وعبد الصمد بن عبد الوارث ثلاثتهم عن أبان فذكر مثله، وأما متابعة عمران وهو القطان فوصلها أحمد أيضا عن سليمان بن داود وهو الطيالسي عنه، وكذا أخرجه ابن خزيمة وأبو يعلى من طريق الطيالسي، وقد تابع هؤلاء سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أخرجه عبد بن حميد عن روح بن عبادة عنه ولفظه " إن الناس ليحجون ويعتمرون ويغرسون النخل بعد خروج يأجوج ومأجوج". قوله: (فقال عبد الرحمن) يعني ابن مهدي. قوله: (عن شعبة) يعني عن قتادة بهذا السند. |
08-14-2013, 11:48 AM | #491 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ الشرح:
قوله: (باب كسوة الكعبة) أي حكمها في التصرف فيها ونحو ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الْأَحْدَبُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ جِئْتُ إِلَى شَيْبَةَ ح و حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ جَلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلَى الْكُرْسِيِّ فِي الْكَعْبَةِ فَقَالَ لَقَدْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهُ قُلْتُ إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلَا قَالَ هُمَا الْمَرْءَانِ أَقْتَدِي بِهِمَا الشرح: قوله: (حدثنا سفيان) هو الثوري في الطريقين، وإنما قدم الأولى مع نزولها لتصريح سفيان بالتحديث فيها، وأما ابن عيينة فلم يسمعه من واصل بل رواه عن الثوري عنه أخرجه ابن خزيمة من طريقه. قوله: (جلست مع شيبة) هو ابن عثمان بن طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الله بن عبد الدار بن قصي العبدري الحجبي بفتح المهملة والجيم ثم موحدة نسبة إلى حجب الكعبة يكنى أبا عثمان. قوله: (على الكرسي) في رواية عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الشيباني عند ابن ماجه والطبراني بهذا السند " بعث معي رجل بدراهم هدية إلى البيت، فدخلت البيت وشيبة جالس على كرسي، فناولته إياها فقال: لك هذه؟ فقلت: لا ولو كانت لي لم آتك بها، قال أما إن قلت ذلك فقد جلس عمر بن الخطاب مجلسك الذي أنت فيه " فذكره. قوله: (فيها) أي الكعبة. قوله: (صفراء ولا بيضاء) أي ذهبا ولا فضة، قال القرطبي: غلط: من ظن أن المراد بذلك حلية الكعبة، وإنما أراد الكنز الذي بها، وهو ما كان يهدي إليها فيدخر ما يزيد عن الحاجة، وأما الحلي فمحبسة عليها كالقناديل فلا يجوز صرفها في غيرها. وقال ابن الجوزي: كانوا في الجاهلية يهدون إلى الكعبة المال تعظيما لها فيجتمع فيها. قوله: (إلا قسمته) أي المال. وفي رواية عمر بن شبة في " كتاب مكة " عن قبيصة شيخ البخاري فيه " إلا قسمتها " وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عند المصنف في الاعتصام " إلا قسمتها بين المسلمين " وعند الإسماعيلي من هذا الوجه " لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين " ومثله في رواية المحاربي المذكورة. قوله: (قلت إن صاحبيك لم يفعلا) في رواية ابن مهدي المذكورة " قلت ما أنت بفاعل. قال لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك " وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه وكذا المحاربي " قال ولم ذاك؟ قلت: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى مكانه وأبو بكر وهما أحوج منك إلى المال فلم يحركاه". قوله: (هما المرءان) تثنية مرء بفتح الميم ويجوز ضمها والراء ساكنة على كل حال بعدها همزة أي الرجلان. قوله: (أقتدي بهما) في رواية عمر بن شبة تكرير قوله " المرءان أقتدي بهما " وفي رواية ابن مهدي في الاعتصام " يقتدي بهما " على البناء للمجهول. وفي رواية الإسماعيلي والمحاربي " فقام كما هو وخرج". ودار نحو هذه القصة بين عمر أيضا وأبي بن كعب أخرجه عبد الرزاق وعمر بن شبة من طريق الحسن " أن عمر أراد أن يأخذ كنز الكعبة فينفقه في سبيل الله فقال له أبي بن كعب: قد سبقك صاحباك، فلو كان فضلا لفعلاه " لفظ عمر بن شبة. وفي رواية عبد الرزاق " فقال له أبي بن كعب: والله ما ذاك لك، قال: ولم؟ قال: أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال ابن بطال: أراد عمر لكثرته إنفاقه في منافع المسلمين، ثم لما ذكر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض له أمسك، وإنما تركا ذلك والله أعلم لأن ما جعل في الكعبة وسبل لها يجري مجرى الأوقاف فلا يجوز تغييره عن وجهه، وفي ذلك تعظيم الإسلام وترهيب العدو. قلت: أما التعليل الأول فليس بظاهر من الحديث بل يحتمل أن يكون تركه صلى الله عليه وسلم لذلك رعاية لقلوب قريش كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، ويؤيده ما وقع عند مسلم في بعض طرق حديث عائشة في بناء الكعبة " لأنفقت كنز الكعبة " ولفظه " لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض " الحديث، فهذا التعليل هو المعتمد. وحكى الفاكهي في " كتاب مكة " أنه صلى الله عليه وسلم وجد فيها يوم الفتح ستين أوقية، فقيل له: لو استعنت بها على حربك فلم يحركه، وعلى هذا فإنفاقه جائز كما جاز لابن الزبير بناؤها على قواعد إبراهيم لزوال سبب الامتناع، ولولا قوله في الحديث " في سبيل الله " لأمكن أن يحمل الإنفاق على ما يتعلق بها فيرجع إلى أن حكمه حكم التحبيس، ويمكن أن يحمل قوله في سبيل الله على ذلك لأن عمارة الكعبة يصدق عليه أنه في سبيل الله، واستدل التقي السبكي بحديث الباب على جواز تعليق قناديل الذهب والفضة في الكعبة ومسجد المدينة فقال: هذا الحديث عمدة في مال الكعبة وهو ما يهدى إليها أو ينذر لها، قال: وأما قول الرافعي لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة ولا تعليق قناديلها فيها حكى الوجهين في ذلك: أحدهما الجواز تعظيما كما في المصحف، والآخر المنع إذ لم ينقل من فعل السلف، فهذا مشكل لأن للكعبة من التعظيم ما ليس لبقية المساجد بدليل تجويز سترها بالحرير والديباج، وفي جواز ستر المساجد بذلك خلاف. ثم تمسك للجواز بما وقع في أيام الوليد بن عبد الملك من تذهيبه سقوف المسجد النبوي قال: ولم ينكر ذلك عمر بن عبد العزيز ولا أزاله في خلافته. ثم استدل للجواز بأن تحريم استعمال الذهب والفضة إنما هو فيما يتعلق بالأواني المعدة للأكل والشرب ونحوهما قال: وليس في تحلية المساجد بالقناديل الذهب شيء من ذلك، وقد قال الغزالي: من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن فإنه لم يثبت في الذهب إلا تحريمه على الأمة فيما ينسب للذهب وهذا بخلافه فيبقى على أصل الحل ما لم ينه إلى الإسراف انتهى. وتعقب بأن تجويز ستر الكعبة بالديباج قام الإجماع عليه، وأما التحلية بالذهب والفضة فلم ينقل عن فعل من يقتدي به، والوليد لا حجة في فعله، وترك عمر بن عبد العزيز النكير أو الإزالة يحتمل عدة معان فلعله كان لا يقدر على الإنكار خوفا من سطوة الوليد، ولعله لم يزلها لأنه لا يتحصل منها شيء، ولا سيما إن كان الوليد جعل في الكعبة صفائح فلعله رأى أن تركها أولى لأنها صارت في حكم المال الموقوف فكأنه أحفظ لها من غيره، وربما أدى قلعه إلى إزعاج بناء الكعبة فتركه، ومع هذه الاحتمالات لا يصلح الاستدلال بذلك للجواز. وقوله إن الحرام من الذهب إنما هو استعماله في الأكل والشرب إلخ هو متعقب بأن استعمال كل شيء بحسبه، واستعمال قناديل الذهب هو تعليقها للزينة، وأما استعمالها للإيقاد فممكن على بعد، وتمسكه بما قاله الغزالي يشكل عليه بأن الغزالي قيده بما لم ينته إلى الإسراف، والقنديل الواحد من الذهب يكتب تحلية عدة مصاحف، وقد أنكر السبكي على الرافعي تمسكه في المنع بكون ذلك لم ينقل عن السلف، وجوابه أن الرافعي تمسك بذلك مضموما إلى شيء آخر وهو أنه قد صح النهي عن استعمال الحرير والذهب فلما استعمل السلف الحرير في الكعبة دون الذهب - مع عنايتهم بها وتعظيمها - دل على أنه بقي عندهم على عموم النهي، وقد نقل الشيخ الموفق الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب، والقناديل من الأواني بلا شك، واستعمال كل شيء بحسبه والله أعلم. (تنبيه) : قال الإسماعيلي ليس في حديث الباب لكسوة الكعبة ذكر، يعني فلا يطابق الترجمة. وقال ابن بطال: معني الترجمة صحيح، ووجهها أنه معلوم أن الملوك في كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره كما يتفاخرون بتسبيل الأموال لها، فأراد البخاري أن عمر لما رأى قسمة الذهب والفضة صوابا كان حكم الكسوة حكم المال تجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة. وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون مقصوده التنبيه على أ ن كسوة الكعبة مشروع، والحجة فيه أنها لم تزل تقصد بالمال يوضع فيها على معنى الزينة إعظاما لها فالكسوة من هذا القبيل، قال: ويحتمل أن يكون أراد ما في بعض طرق الحديث كعادته ويكون هناك طريق موافقة للترجمة إما لخلل شرطها وإما لتبحر الناظر في ذلك، وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون أخذه من قول عمر: لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة، فالمال يطلق على كل شيء فيدخل فيه الكسوة، وقد ثبت في الحديث " ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت " قال: ويحتمل أيضا - فذكر نحو ما قال ابن بطال وزاد - فأراد التنبيه على أنه موضع اجتهاد، وإن رأي عمر جواز التصرف في المصالح. وأما الترك الذي احتج به عليه شيبة فليس صريحا في المنع، والذي يظهر جواز قسمة الكسوة العتيقة، إذ في بقائها تعريض لإتلافها ولا جمال في كسوة عتيقة مطوية، قال: ويؤخذ من رأي عمر أن صرف المال في المصالح آكد من صرفه في كسوة الكعبة، لكن الكسوة في هذه الأزمنة أهم. قال: واستدلال ابن بطال بالترك على إيجاب بقاء الأحباس لا يتم إلا إن كان القصد بمال الكعبة إقامتها وحفظ أصولها إذا احتيج إلى ذلك، ويحتمل أن يكون القصد منه منفعة أهل الكعبة وسدنتها أو إرصاده لمصالح الحرم أو لأعم من ذلك، وعلى كل تقدير فهو تحبيس لا نظير له فلا يقاس عليه انتهى. ولم أر في شيء من طريق حديث شيبة هذا ما يتعلق بالكسوة، إلا أن الفاكهي روى في " كتاب مكة " من طريق علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة رضي الله عنها قالت " دخل علي شيبة الحجبي فقال: يا أم المؤمنين، إن ثياب الكعبة تجتمع عندنا فتكثر، فننزعها ونحفر بئرا فنعمقها وندفنها لكي لا تلبسها الحائض والجنب، قالت: بئسما صنعت، ولكن بعها فاجعل ثمنها في سبيل الله وفي المساكين، فإنها إذا نزعت عنها لم يضر من لبسها من حائض أو جنب، فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع له فيضعها حيث أمرته " وأخرجه البيهقي من هذا الوجه، لكن في إسناده راو ضعيف، وإسناد الفاكهي سالم منه. وأخرج الفاكهي أيضا من طريق ابن خيثم " حدثني رجل من بني شيبة قال: رأيت شيبة بن عثمان يقسم ما سقط من كسوة الكعبة على المساكين " وأخرج من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه " أن عمر كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيقسمها على الحاج " فلعل البخاري أشار إلى شيء من ذلك. (فصل) في معرفة بدء كسوة البيت: روى الفاكهي من طريق عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه أنه سمعه يقول " زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب أسعد، وكان أول من كسا البيت الوصائل " ورواه الواقدي عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة مرفوعا أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عنه، ومن وجه آخر عن عمر موقوفا، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: بلغنا أن تبعا أول من كسا الكعبة الوصائل فسترت بها. قال: وزعم بعض علمائنا أن أول من كسا الكعبة إسماعيل عليه السلام. وحكى الزبير بن بكار عن بعض علمائهم أن عدنان أول من وضع أنصاب الحرم، وأول من كسا الكعبة، أو كسيت في زمنه. وحكى البلاذري أن أول من كساها الأنطاع عدنان بن أد. وروى الواقدي أيضا عن إبراهيم بن أبي ربيعة قال: كسي البيت في الجاهلية الأنطاع، ثم كساه رسول الله صلى الله عليه وسلم لثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج. وروى الفاكهي بإسناد حسن عن سعيد بن المسيب قال: لما كان عام الفتح أتت امرأة تجمر الكعبة فاحترقت ثيابها وكانت كسوة المشركين، فكساها المسلمون بعد ذلك. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن حسن هو ابن صالح عن ليث هو ابن أبي سليم قال: كانت كسوة الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم المسوح والأنطاع. ليث ضعيف، والحديث معضل. وقال أبو بكر أيضا حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عجوز من أهل مكة قالت: أصيب ابن عفان وأنا بنت أربع عشرة سنة، قالت: ولقد رأيت البيت وما عليه كسوة إلا ما يكسوه الناس الكساء الأحمر يطرح عليه والثوب الأبيض. وقال ابن إسحاق: بلغني أن البيت لم يكس في عهد أبي بكر ولا عمر، يعني لم يجدد له كسوة. وروى الفاكهي بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يكسو بدنه القباطي والحبرات يوم يقلدها، فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان فناطها على الكعبة. زاد في رواية صحيحة أيضا. فلما كست الأمراء الكعبة جللها القباطي، ثم تصدق بها. وهذا يدل على أن الأمر كان مطلقا للناس. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه قالت: سألت عائشة أنكسو الكعبة؟ قالت: الأمراء يكفونكم. وروى عبد الرزاق عن الأسلمي هو إبراهيم بن أبي يحيى عن هشام بن عروة أن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير، وإبراهيم ضعيف. وتابعه محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف أيضا أخرجه الزبير عنه عن هشام، وروى الواقدي عن إسحاق بن عبد الله عن أبي جعفر الباقر قال: كساها يزيد بن معاوية الديباج، وإسحاق بن أبي فروة ضعيف. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرت أن عمر كان يكسوها القباطي، وأخبرني غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كساها القباطي والحبرات وأبو بكر وعمر وعثمان، وأول من كساها الديباج عبد الملك بن مروان، وأن من أدرك ذلك من الفقهاء قالوا أصاب ما نعلم لها من كسوة أوفق منه. وروى أبو عروبة في " الأوائل " له عن الحسن قال: أول من لبس الكعبة القباطي النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الفاكهي في " كتاب مكة " من طريق مسعر عن جسرة قال: أصاب خالد بن جعفر بن كلاب لطيمة في الجاهلية فيها نمط من ديباج، فأرسل به إلى الكعبة فنيط عليها، فعلى هذا هو أول من كسا الكعبة الديباج. وروى الدارقطني في المؤتلف أن أول من كسا الكعبة الديباج نتيلة بنت جناب والدة العباس بن عبد المطلب كانت أضلت العباس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة الديباج. وذكر الزبير بن بكار أنها أضلت ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس فنذرت أن وجدته أن تكسو البيت فرده عليها رجل من جذام فكست الكعبة ثيابا بيضا. وهذا محمول على تعدد القصة. وحكى الأزرقي أن معاوية كساها الديباج والقباطي والحبرات، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء والقباطي في آخر رمضان، فحصلنا في أول من كساها مطلقا على ثلاثة أقوال: إسماعيل وعدنان وتبع وهو أسعد المذكور في الرواية الأولى، ولا تعارض بين ما روي عنه أنه كساها الأنطاع والوصائل لأن الأزرقي حكى في " كتاب مكة " أن تبعا أري في المنام أن يكسو الكعبة فكساها الأنطاع، ثم أري أن يكسوها فكساها الوصائل وهي ثياب حبرة من عصب اليمن، ثم كساها الناس بعده في الجاهلية. ويجمع بين الأقوال الثلاثة إن كانت ثابتة بأن إسماعيل أول من كساها مطلقا، وأما تبع فأول من كساها ما ذكر، وأما عدنان فلعله أول من كساها بعد إسماعيل، وسيأتي في أوائل غزوة الفتح ما يشعر أنها كانت تكسى في رمضان، وحصلنا في أول من كساها الديباج على ستة أقوال: خالد أو نتيلة أو معاوية أو يزيد أو ابن الزبير أو الحجاج، ويجمع بينها بأن كسوة خالد ونتيلة لم تشملها كلها وإنما كان فيما كساها شيء من الديباج، وأما معاوية فلعله كساها في آخر خلافته فصادف ذلك خلافة ابنه يزيد، وأما ابن الزبير فكأنه كساها ذلك بعد تجديد عمارتها فأوليته بذلك الاعتبار، لكن لم يداوم على كسوتها الديباج، فلما كساها الحجاج بأمر عبد الملك استمر ذلك فكأنه أول من داوم على كسوتها الديباج في كل سنة. وقول ابن جريج أول من كساها ذلك عبد الملك يوافق القول الأخير، فإن الحجاج إنما كساها بأمر عبد الملك. وقول ابن إسحاق أن أبا بكر وعمر لم يكسيا الكعبة فيه نظر، لما تقدم عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن عمر كان ينزعها كل سنة، لكن يعارض ذلك ما حكاه الفاكهي عن بعض المكيين أن شيبة بن عثمان استأذن معاوية في تجريد الكعبة فأذن له فكان أول من جردها من الخلفاء، وكانت كسوتها قبل ذلك تطرح عليها شيئا فوق شيء. وقد تقدم سؤال شيبة لعائشة أنها تجتمع عندهم فتكثر. وذكر الأزرقي أن أول من ظاهر الكعبة بين كسوتين عثمان بن عفان. وذكر الفاكهي أن أول من كساها الديباج الأبيض المأمون بن الرشيد واستمر بعده. وكسيت في أيام الفاطميين الديباج الأبيض. وكساها محمد بن سبكتكين ديباجا أصفر، وكساها الناصر العباسي ديباجا أخضر، ثم كساها ديباجا أسود فاستمر إلى الآن. ولم تزل الملوك يتداولون كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح إسماعيل بن الناصر في سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة قرية من نواحي القاهرة يقال لها بيسوس كأن اشترى الثلثين منها من وكيل بيت المال ثم وقفها كلها على هذه الجهة فاستمر، ولم تزل تكسى من هذا الوقف إلى سلطنة الملك المؤيد شيخ سلطان العصر فكساها من عنده سنة لضعف وقفها، ثم فوض أمرها إلى بعض أمنائه وهو القاضي زين الدين عبد الباسط - بسط الله له في رزقه وعمره - فبالغ في تحسينها بحيث يعجز الواصف عن صفة حسنها جزاه الله على ذلك أفضل المجازاة. وحاول ملك الشرق شاه روخ في سلطنة الأشرف برسباي أن يأذن له في كسوة الكعبة فامتنع، فعاد راسله أن يأذن له أن يكسوها من داخلها فقط فأبى، فعاد راسله أن يرسل الكسوة إليه ويرسلها إلى الكعبة ويكسوها ولو يوما واحدا، واعتذر بأنه نذر أن يكسوها ويريد الوفاء بنذره، فاستفتى أهل العصر فتوقفت عن الجواب وأشرت إلى أنه إن خشي منه الفتنة فيجاب دفعا للضرر، وتسرع جماعة إلى عدم الجواز ولم يستندوا إلى طائل، بل إلى موافقة هوى السلطان، ومات الأشرف على ذلك. |
08-14-2013, 11:48 AM | #492 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب هَدْمِ الْكَعْبَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ
الشرح: قوله: (باب هدم الكعبة) أي في آخر الزمان. قوله: (وقالت عائشة) في رواية غير أبي ذر " قالت " بحذف الواو، وهذا طرف من حديث وصله المصنف في أوائل البيوع من طريق نافع بن حبير عنها بلفظ " يغزو جيش الكعبة، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم " وسيأتي الكلام عليه هناك، ومناسبته لهذه الترجمة من جهة أن فيه إشارة إلى أن غزو الكعبة سيقع، فمرة يهلكهم الله قبل الوصول إليها وأخرى يمكنهم، والظاهر أن غزو الذين يخربونه متأخر عن الأولين. الحديث: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَخْنَسِ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا الشرح: قوله: (عبيد الله بن الأخنس) بمعجمة ونون ثم مهملة وزن الأحمر، وعبيد الله بالتصغير كوفي يكنى أبا مالك. قوله: (كأني به) كذا في جميع الروايات عن ابن عباس في هذا الحديث، والذي يظهر أن قي الحديث شيئا حذف، ويحتمل أن يكون هو ما وقع في حديث علي عند أبي عبيد في " غريب الحديث " من طريق أبي العالية عن علي قال: " استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصلع - أو قال أصمع - حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم " ورواه الفاكهي من هذا الوجه ولفظه " أصعل " بدل أصلع وقال " قائما عليها يهدمها بمسحاته " ورواه يحيى الحماني في مسنده من وجه آخر عن علي مرفوعا. قوله: (كأني به أسود أفحج) بوزن أفعل بفاء ثم حاء ثم جيم، والفحج تباعد ما بين الساقين، قال الطيبي وفي إعرابه أوجه: قيل هو حال من خبر كان وهو باعتبار المعنى الذي أشبه الفعل، وقيل هما حالان من خبر كان وذو الحال إما المستقر المرفوع أو المجرور والثاني أشبه أو هما بدلان من الضمير المجرور، وعلى كل حال يلزم إضمار قبل الذكر، وهو مبهم يفسره ما بعده كقولك رأيته رجلا، وقيل هما منصوبان على التمييز. وقوله "حجرا حجرا " حال كقولك بوبته بابا بابا، وقوله في حديث علي " أصلع أو أصعل أو أصمع " الأصلع من ذهب شعر مقدم رأسه، والأصعل الصغير الرأس، والأصمع الصغير الأذنين. وقوله "حمش الساقين " بحاء مهملة وميم ساكنة ثم معجمة أي دقيق الساقين، وهو موافق لقوله في رواية أبي هريرة " ذو السويقتين " كما سيأتي في الحديث الذي بعده. قوله: (يقلعها حجرا حجرا) زاد الإسماعيلي والفاكهي في آخره " يعني الكعبة". الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ الشرح: قوله: (عن ابن شهاب) كذا رواه الليث عن يونس، وتابعه عبد الله بن وهب عن يونس عند أبي نعيم في المستخرج، وخالفهما ابن المبارك فرواه عن يونس عن الزهري فقال عن سحيم مولى بني زهرة عن أبي هريرة رواه الفاكهي من طريق نعيم بن حماد عن ابن المبارك، فإن كان محفوظا فيكون للزهري فيه شيخان عن أبي هريرة. قوله: (ذو السويقتين) تثنية سويقة وهي تصغير ساق أي له ساقان دقيقان. قوله: (من الحبشة) أي رجل من الحبشة، ووقع هذا الحديث عند أحمد من طريق سعيد بن سمعان عن أبي هريرة بأتم من هذا السياق ولفظه " يبايع للرجل بين الركن والمقام، ولن يستحل هذا البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم تجيء الحبشة فيخربونه خرابا لا يعمر بعده أبدا، وهم الذين يستخرجون كنزه " ولأبي قرة في " السنن " من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا " لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة " ونحوه لأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وزاد أحمد والطبراني من طريق مجاهد عنه " فيسلبها حليتها ويجردها من كسوتها، كأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته أو بمعوله". وللفاكهي من طريق مجاهد نحوه وزاد " قال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة جئت أنظر إليه هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو فلم أرها " قيل: هذا الحديث يخالف قوله تعالى (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) ولأن الله حبس عن مكة الفيل ولم يمكن أصحابه من تخريب الكعبة ولم تكن إذ ذاك قبلة، فكيف يسلط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة للمسلمين؟ وأجيب بأن ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان قرب قيام الساعة حيث لا يبقى في الأرض أحد يقول الله الله كما ثبت في صحيح مسلم " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " ولهذا وقع في رواية سعيد بن سمعان " لا يعمر بعده أبدا " وقد وقع قبل ذلك فيه من القتال وغزو أهل الشام له في زمن يزيد بن معاوية ثم من بعده في وقائع كثيرة من أعظمها وقعة القرامطة بعد الثلاثمائة فقتلوا من المسلمين في المطاف من لا يحصى كثرة وقلعوا الحجر الأسود فحولوه إلى بلادهم ثم أعادوه بعد مدة طويلة، ثم غزي مرارا بعد ذلك، كل ذلك لا يعارض قوله تعالى (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) لأن ذلك إنما وقع بأيدي المسلمين فهو مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم "ولن يستحل هذا البيت إلا أهله"، فوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من علامات نبوته، وليس في الآية ما يدل على استمرار الأمن المذكور فيها. والله أعلم. *3*باب مَا ذُكِرَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ الشرح: قوله: (باب ما ذكر في الحجر الأسود) أورد فيه حديث عمر في تقبيل الحجر وقوله " لا تضر ولا تنفع " وكأنه لم يثبت عنده فيه على شرطه شيء غير ذلك، وقد وردت فيه أحاديث: منها حديث عند الله بن عمرو بن العاص مرفوعا " إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب " أخرجه أحمد والترمذي وصححه ابن حبان وفي إسناده رجاء أبو يحيى وهو ضعيف قال الترمذي: حديث غريب، ويروى عن عبد الله بن عمرو موقوفا. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه وقفه أشبه والذي رفعه ليس بقوي. ومنها حديث ابن عباس مرفوعا " نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم " أخرجه الترمذي وصححه، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط، وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها، وقد رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن عطاء مختصرا ولفظه " الحجر الأسود من الجنة " وحماد ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، وفي صحيح ابن خزيمة أيضا عن ابن عباس مرفوعا " أن لهذا الحجر لسانا وشفتين يشهدان لمن استلمه يوم القيامة بحق " وصححه أيضا ابن حبان والحاكم، وله شاهد من حديث أنس عند الحاكم أيضا. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ الشرح: قوله: (عن إبراهيم) هو ابن يزيد النخعي، وقد رواه سفيان وهو الثوري بإسناد آخر عن إبراهيم وهو ابن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة عن عمر أخرجه مسلم. قوله: (إني أعلم أنك حجر) في رواية أسلم الآتية بعد باب عن عمر أنه قال " أما والله إني لأعلم أنك". قوله: (لا تضر ولا تنفع) أي إلا بإذن الله، وقد روى الحاكم من حديث أبي سعيد أن عمر لما قال هذا قال له علي بن أبي طالب إنه يضر وينفع، وذكر أن الله لما أخذ المواثيق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، قال: وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد " وفي إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف جدا، وقد روى النسائي من وجه آخر ما يشعر بأن عمر رفع قوله ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه من طريق طاوس عن ابن عباس قال: " رأيت عمر قبل الحجر ثلاثا ثم قال: إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك " ثم قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ذلك " قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان. وقال المهلب: حديث عمر هذا يرد على من قال إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة، وإنما شرع تقبيله اختيارا ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم. وقال الخطابي: معنى أنه يمين الله في الأرض أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد، وجرت العادة بأن العهد يعقده الملك بالمصافحة لمن يريد موالاته والاختصاص به فخاطبهم بما يعهدونه. وقال المحب الطبري: معناه أن كل ملك إذا قدم عليه الوافد قبل يمينه فلما كان الحاج أول ما يقدم يسن له تقبيله نزل منزلة يمين الملك ولله المثل الأعلى. وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه، وفيه دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصة ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السنن بالقول والفعل، وأن الإمام إذا خشي على أحد من فعله فساد اعتقاده أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضح ذلك، وسيأتي بقية الكلام على التقبيل والاستلام بعد تسعة أبواب. قال شيخنا في " شرح الترمذي ": فيه كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله، وأما قول الشافعي ومهما قبل من البيت فحسن فلم يرد به الاستحباب لأن المباح من جملة الحسن عند الأصوليين. (تكميل) : اعترض بعض الملحدين على الحديث الماضي فقال: كيف سودته خطايا المشركين ولم تبيضه طاعات أهل التوحيد؟ وأجيب بما قال ابن قتيبة: لو شاء الله لكان ذلك، وإنما أجرى الله العادة بأن السواد يصبغ، ولا ينصبغ على العكس من البياض. وقال المحب الطبري: في بقائه أسود عبرة لمن له بصيرة، فإن الخطايا إذا أثرت في الحجر الصلد فتأثيرها في القلب أشد. قال: وروي عن ابن عباس إنما غيره بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، فإن ثبت فهذا هو الجواب. قلت: أخرجه الحميدي في فضائل مكة بإسناد ضعيف والله أعلم. *3*باب إِغْلَاقِ الْبَيْتِ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ الشرح: قوله: (باب إغلاق البيت، ويصلي في أي نواحي البيت شاء) أورد فيه حديث ابن عمر عن بلال في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة بين العمودين، وتعقب بأنه يغاير الترجمة من جهة أنها تدل على التخيير، والفعل المذكور يدل على التعيين. وأجيب بأنه حمل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموضع بعينه على سبيل الاتفاق لا على سبيل القصد لزيادة فضل في ذلك المكان على غيره، ويحتمل أن يكون مراده أن ذلك الفعل ليس حتما وإن كانت الصلاة في تلك البقعة التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من غيرها، ويؤيده ما سيأتي في الباب الذي يليه من تصريح ابن عمر بنص الترجمة مع كونه كان يقصد المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي فيه لفضله، وكأن المصنف أشار بهذه الترجمة إلى الحكمة في إغلاق الباب حينئذ، وهو أولى من دعوى ابن بطال الحكمة فيه لئلا يظن الناس أن ذلك سنة، وهو مع ضعفه منتقض بأنه لو أراد إخفاء ذلك ما اطلع عليه بلال ومن كان معه، وإثبات الحكم بذلك يكفي فيه فعل الواحد وقد تقدم بسط هذا في " باب الغلق للكعبة " من كتاب الصلاة، وظاهر الترجمة أنه يشترط للصلاة في جميع الجوانب إغلاق الباب ليصير مستقبلا في حال الصلاة غير الفضاء، والمحكي عن الحنفية الجواز مطلقا، وعن الشافعية وجه مثله لكن يشترط أن يكون للباب عتبة بأي قدر كانت، ووجه يشترط أن يكون قدر قامة المصلي، ووجه يشترط أن يكون قدر مؤخر الرجل وهو المصحح عندهم، وفي الصلاة فوق ظهر الكعبة نظير هذا الخلاف والله أعلم. وأما قول بعض الشارحين إن قوله " ويصلي في أي نواحي البيت شاء " يعكر على الشافعية فيما إذا كان البيت مفتوحا ففيه نظر لأنه جعله حيث يغلق الباب، وبعد الغلق لا توقف عندهم في الصحة. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نَعَمْ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ الشرح: قوله: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت) كان ذلك في عام الفتح كما وقع مبينا من رواية يونس بن يزيد عن نافع عند المصنف في كتاب الجهاد بزيادة فوائد ولفظه " أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته " وفي رواية فليح عن نافع الآتية في المغازي " وهو مردف أسامة - يعني ابن زيد - على القصواء، ثم اتفقا ومعه بلال وعثمان بن طلحة حتى أناخ في المسجد " وفي رواية فليح " عند البيت. وقال لعثمان ائتنا بالمفتاح، فجاءه بالمفتاح ففتح له الباب فدخل " ولمسلم وعبد الرزاق من رواية أيوب عن نافع " ثم دعا عثمان بن طلحة بالمفتاح فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينه أو لأخرجن هذا السيف من صلبي، فلما رأت ذلك أعطته، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الباب " فظهر من رواية فليح أن فاعل فتح هو عثمان المذكور، لكن روى الفاكهي - من طريق ضعيفة - عن ابن عمر قال " كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده " وعثمان المذكور هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزيز بن عبد الدار بن قصي بن كلاب، ويقال له الحجبي بفتح المهملة والجيم، ولآل بيته الحجبة لحجبهم الكعبة، ويعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان هذا لا ولده، وله أيضا صحبة ورواية، واسم أم عثمان المذكورة سلافة بضم المهملة والتخفيف والفاء. قوله: (هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان) زاد مسلم من طريق أخرى " ولم يدخلها معهم أحد " ووقع عند النسائي من طريق ابن عون عن نافع " ومعه الفضل بن عباس وأسامة وبلال وعثمان " زاد الفضل، ولأحمد من حديث ابن عباس " حدثني أخي الفضل - وكان معه حين دخلها - أنه لم يصل في الكعبة " وسيأتي البحث فيه بعد بابين. قوله: (فأغلقوا عليهم) زاد في رواية حسان بن عطية عن نافع عند أبي عوانة " من داخل " وزاد يونس " فمكث نهارا طويلا " وفي رواية فليح " زمانا " بدل نهارا. وفي رواية جويرية عن نافع التي مضت في أوائل الصلاة " فأطال " ولمسلم من رواية ابن عون عن نافع " فمكث فيها مليا " وله من رواية عبيد الله عن نافع " فأجافوا عليهم الباب طويلا " ومن رواية أيوب عن نافع " فمكث فيها ساعة " وللنسائي من طريق ابن أبي مليكة " فوجدت شيئا فذهبت ثم جئت سريعا فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم خارجا منها " ووقع في الموطأ بلفظ " فأغلقاها عليه " والضمير لعثمان وبلال، ولمسلم من طريق ابن عون عن نافع " فأجاف عليهم عثمان الباب"، والجمع بينهما أن عثمان هو المباشر لذلك لأنه من وظيفته، ولعل بلالا ساعده في ذلك. ورواية الجمع يدخل فيها الآمر بذلك والراضي به. قوله: (فلما فتحوا كنت أول من ولج) في رواية فليح " ثم خرج فابتدر الناس الدخول فسبقتهم " وفي رواية أيوب " وكنت رجلا شابا قويا فبادرت الناس فبدرتهم " وفي رواية جويرية " كنت أول الناس ولج على أثره " وفي رواية ابن عون " فرقيت الدرجة فدخلت البيت " وفي رواية مجاهد الماضية في أوائل الصلاة عن ابن عمر " وأجد بلالا قائما بين البابين " وأفاد الأزرقي في " كتاب مكة " أن خالد بن الوليد كان على الباب يذب عنه الناس، وكأنه جاء بعدما دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأغلق. قوله: (فلقيت بلالا فسألته) زاد في رواية مالك عن نافع الماضية في أوائل الصلاة " ما صنع "؟ وفي رواية جويرية ويونس وجمهور أصحاب نافع " فسألت بلالا أين صلى "؟ اختصروا أول السؤال، وثبت في رواية سالم هذه حيث قال " هل صلى فيه؟ قال نعم " وكذا في رواية مجاهد وابن أبي مليكة عن ابن عمر " فقلت: أصلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة؟ قال نعم " فظهر أنه استثبت أولا هل صلى أو لا، ثم سأل عن موضع صلاته من البيت. ووقع في رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم " فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة " على الشك، والمحفوظ أنه سأل بلالا كما في رواية الجمهور: ووقع عند أبي عوانة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن ابن عمر أنه سأل بلالا وأسامة بن زيد حين خرجا " أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه؟ فقالا على جهته " وكذا أخرجه البزار نحوه، ولأحمد والطبراني من طريق أبي الشعثاء عن ابن عمر قال " أخبرني أسامة أنه صلى فيه هاهنا " ولمسلم والطبراني من وجه آخر " فقلت أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا " فإن كان محفوظا حمل على أنه ابتدأ بلالا بالسؤال كما تقدم تفصيله، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة فسأل عثمان أيضا وأسامة، ويؤيد ذلك قوله في رواية ابن عون عند مسلم " ونسيت أن أسألهم كم صلى " بصيغة الجمع، وهذا أولى من جزم عياض بوهم الرواية التي أشرنا إليها من عند مسلم، وكأنه لم يقف على بقية الروايات، ولا يعارض قصته مع قصة أسامة ما أخرجه مسلم أيضا من حديث ابن عباس أن أسامة بن زيد أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل فيه، ولكنه كبر في نواحيه. فإنه يمكن الجمع بينهما بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره صلى الله عليه وسلم حين صلى. وسيأتي مزيد بسط فيه بعد بابين في الكلام على حديث ابن عباس إن شاء الله تعالى. قوله: (بين العمودين اليمانيين) في رواية جويرية " بين العمودين المقدمين " وفي رواية مالك عن نافع " جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره " وفي رواية عنه " عمودين عن يمينه " وقد تقدم الكلام على ذلك مبسوطا في " باب الصلاة بين السواري " بما يغني عن إعادته، لكن نذكر هنا ما لم يتقدم ذكره؛ فوقع في رواية فليح الآتية في المغازي " بين ذينك العمودين المقدمين، وكان البيت على ستة أعمدة سطرين، صلى بين العمودين من السطر المقدم وجعل باب البيت خلف ظهره " وقال في آخر روايته " وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء " وكل هذا إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم ويبني في زمن ابن الزبير، فأما الآن فقد بين موسى بن عقبة في روايته عن نافع كما في الباب الذي يليه أن بين موقفه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار الذي استقبله قريبا من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع فيما أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مهدي والدارقطني في " الغرائب " من طريقه وطريق عبد الله بن وهب وغيرهما عنه ولفظه " وصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع " وكذا أخرجها أبو عوانة من طريق هشام بن سعد عن نافع، وهذا فيه الجزم بثلاثة أذرع، لكن رواه النسائي من طريق ابن القاسم عن مالك بلفظ " نحو من ثلاثة أذرع " وهي موافقة لرواية موسى بن عقبة. وفي " كتاب مكة " للأزرقي والفاكهي من وجه آخر أن معاوية سأل ابن عمر " أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة " فعلى هذا ينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع فإنه تقع قدماه في مكان قدميه صلى الله عليه وسلم إن كانت ثلاثة أذرع سواء، وتقع ركبتاه أو يداه ووجهه إن كان أقل من ثلاثة والله أعلم. وأما مقدار صلاته حينئذ فقد تقدم البحث فيه في أوائل الصلاة، وأشرت إلى الجمع بين رواية مجاهد عن ابن عمر أنه صلى ركعتين وبين رواية من روى عن نافع أن ابن عمر قال نسيت أن أسأله كم صلى، وإلى الرد على. من زعم أن رواية مجاهد غلط بما فيه مقنع بحمد الله تعالى. وفي هذا الحديث من الفوائد: رواية الصاحب عن الصاحب، وسؤال المفضول مع وجود الأفضل والاكتفاء به، والحجة بخبر الواحد، ولا يقال هو أيضا خبر واجد فكيف يحتج للشيء بنفسه؟ لأنا نقول: هو فرد ينضم إلى نظائر مثله يوجب العلم بذلك، وفيه اختصاص السابق بالبقعة الفاضلة، وفيه السؤال عن العلم والحرص فيه، وفضيلة ابن عمر لشدة حرصه على تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ليعمل بها، وفيه أن الفاضل من الصحابة قد كان يغيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المشاهد الفاضلة ويحضره من هو دونه فيطلع على ما لم يطلع عليه، لأن أبا بكر وعمر وغيرهما ممن هو أفضل من بلال ومن ذكر معه لم يشاركوهم في ذلك، واستدل به المصنف فيما مضى على أن الصلاة إلى المقام غير واجبة، وعلى جواز الصلاة بين السواري في غير الجماعة، وعلى مشروعية الأبواب والغلق للمساجد، وفيه أن السترة إنما تشرع حيث يخشى المرور فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بين العمودين ولم يصل إلى أحدهما، والذي يظهر أنه ترك ذلك للاكتفاء بالقرب من الجدار كما تقدم أنه كان بين مصلاه والجدار نحو ثلاثة أذرع، وبذلك ترجم له النسائي على أن حد الدنو من السترة أن لا يكون بينهما أكثر من ثلاثة أذرع، ويستفاد منه أن قول العلماء تحية المسجد الحرام الطواف مخصوص بغير داخل الكعبة لكونه صلى الله عليه وسلم جاء فأناخ عند البيت فدخله فصلى فيه ركعتين فكانت تلك الصلاة إما لكون الكعبة كالمسجد المستقل أو هو تحية المسجد العام والله أعلم. وفيه استحباب دخول الكعبة، وقد روى ابن خزيمة والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا " من دخل البيت دخل في حسنة وخرج مغفورا له " قال البيهقي تفرد به عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف، ومحل استحبابه ما لم يؤذ أحدا بدخوله. وروى ابن أبي شيبة من قول ابن عباس: أن دخول البيت ليس من الحج في شيء، وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخول البيت من مناسك الحج، ورده بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دخله عام الفتح ولم يكن حينئذ محرما، وأما ما رواه أبو داود والترمذي وصححه هو وابن خزيمة والحاكم عن عائشة " أنه صلى الله عليه وسلم خرج من عندها وهو قرير العين ثم رجع وهو كئيب فقال: دخلت الكعبة فأخاف أن أكون شققت على أمتي " فقد يتمسك به لصاحب هذا القول المحكي لكون عائشة لم تكن معه في الفتح ولا في عمرته، بل سيأتي بعد بابين أنه لم يدخل في الكعبة في عمرته، فتعين أن القصة كانت في حجته وهو المطلوب، وبذلك جزم البيهقي، وإنما لم يدخل في عمرته لما كان في البيت من الأصنام والصور كما سيأتي، وكان إذ ذاك لا يتمكن من إزالتها، بخلاف عام الفتح. ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لعائشة بالمدينة بعد رجوعه فليس في السياق ما يمنع ذلك، وسيأتي النقل عن جماعة من أهل العلم أنه لم يدخل الكعبة في حجته. وفيه استحباب الصلاة في الكعبة وهو ظاهر في النفل، ويلتحق به الفرض إذ لا فرق بينهما في مسألة الاستقبال للمقيم وهو قول الجمهور، وعن ابن عباس لا تصح الصلاة داخلها مطلقا، وعلله بأنه يلزم من ذلك استدبار بعضها وقد ورد الأمر باستقبالها فيحمل على استقبال جميعها. وقال به بعض المالكية والظاهرية والطبري. وقال المازري: المشهور في المذهب منع صلاة الفرض داخلها ووجوب الإعادة، وعن ابن عبد الحكم الإجزاء، وصححه ابن عبد البر وابن العربي. وعن ابن حبيب يعيد أبدا، وعن أصبغ إن كان متعمدا، وأطلق الترمذي عن مالك جواز النوافل، وقيده بعض أصحابه بغير الرواتب وما تسرع فيه الجماعة، وفي " شرح العمدة " لابن دقيق العيد: كره مالك الفرض أو منعه فكأنه أشار إلى اختلاف النقل عنه في ذلك، ويلتحق بهذه المسألة الصلاة في الحجر. ويأتي فيها الخلاف السابق في أول الباب في الصلاة إلى جهة الباب، نعم إذا استدبر الكعبة واستقبل الحجر لم يصح على القول بأن تلك الجهة منه ليست من الكعبة، ومن المشكل ما نقله النووي في " زوائد الروضة " عن الأصحاب أن صلاة الفرض داخل الكعبة - إن لم يرج جماعة - أفضل منها خارجها، ووجه الإشكال أن الصلاة خارجها متفق على صحتها بين العلماء بخلاف داخلها، فكيف يكون المختلف في صحته أفضل من المتفق. |
08-14-2013, 11:50 AM | #493 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ الشرح:
قوله: (باب الصلاة في الكعبة) أورد فيه حديث ابن عمر في ذلك من طريق عبد الله بن المبارك عن موسى بن عقبة عن نافع. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ الْوَجْهِ حِينَ يَدْخُلُ وَيَجْعَلُ الْبَابَ قِبَلَ الظَّهْرِ يَمْشِي حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ فَيُصَلِّي يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِلَالٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَأْسٌ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ الشرح: قوله: (قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة أي مقابل. قوله: (يتوخى) بتشديد الخاء المعجمة أي يقصد. قوله: (وليس على أحد بأس إلخ) الظاهر أنه من كلام ابن عمر مع احتمال أن يكون من كلام غيره، وقد تقدم الحديث المرفوع في كتاب الصلاة في " باب الصلاة بين السواري". *3*باب مَنْ لَمْ يَدْخُلْ الْكَعْبَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَحُجُّ كَثِيرًا وَلَا يَدْخُلُ الشرح: قوله: (باب من لم يدخل الكعبة) كأنه أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من زعم أن دخولها من مناسك الحج، وقد تقدم البحث فيه قبل بباب، واقتصر المصنف على الاحتجاج بفعل ابن عمر لأنه أشهر من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم دخول الكعبة فلو كان دخولها عنده من المناسك لما أخل به مع كثرة اتباعه. قوله: (وكان ابن عمر إلخ) وصله سفيان الثوري في جامعه من رواية عبد الله بن الوليد العدلي عنه عن حنظلة عن طاوس قال " كان ابن عمر يحج كثيرا ولا يدخل البيت " وأخرجه الفاكهي في " كتاب مكة " من هذا الوجه. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ قَالَ لَا الشرح: قوله: (خالد بن عبد الله) هو الطحان البصري، وهذا الإسناد نصفه بصري ونصفه كوفي. قوله: (اعتمر) أي في سنة سبع عام القضية. قوله: (أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة) ؟ الهمزة للاستفهام، أي في تلك العمرة. قوله: (قال لا) قال النووي: قال العلماء سبب ترك دخوله ما كان في البيت من الأصنام والصور، ولم يكن المشركون يتركونه ليغيرها، فلما كان في الفتح أمر بإزالة الصور ثم دخلها، يعني كما في حديث ابن عباس الذي بعده انتهى. ويحتمل أن يكون دخول البيت لم يقع في الشرط، فلو أراد دخوله لمنعوه كما منعوه من الإقامة بمكة زيادة على الثلاث فلم يقصد دخوله لئلا يمنعوه. وفي " السيرة " عن علي أنه دخلها قبل الهجرة فأزال شيئا من الأصنام، وفي " الطبقات " عن عثمان بن طلحة نحو ذلك، فإن ثبت ذلك لم يشكل على الوجه الأول لأن ذلك الدخول كان لإزالة شيء من المنكرات لا لقصد العبادة، والإزالة في الهدنة كانت غير ممكنة بخلاف يوم الفتح. (تنبيه) : استدل المحب الطبري به على أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في حجته وفي فتح مكة، ولا دلالة فيه على ذلك لأنه لا يلزم من نفي كونه دخلها في عمرته أنه دخلها في جميع أسفاره. والله أعلم. *3*باب مَنْ كَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْكَعْبَةِ الشرح: قوله: (باب من كبر في نواحي الكعبة) أورد فيه حديث ابن عباس " أنه صلى الله عليه وسلم كبر في البيت ولم يصل فيه " وصححه المصنف واحتج به مع كونه يرى تقديم حديث بلال في إثباته الصلاة فيه عليه، ولا معارضة في ذلك بالنسبة إلى الترجمة لأن ابن عباس أثبت التكبير ولم يتعرض له بلال، وبلال أثبت الصلاة ونفاها ابن عباس فاحتج المصنف بزيادة ابن عباس، وقد يقدم إثبات بلال على نفي غيره لأمرين: أحدهما أنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وإنما أسند نفيه تارة لأسامة وتارة لأخيه الفضل مع أنه لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة، وقد روى أحمد من طريق ابن عباس عن أخيه الفضل نفي الصلاة فيها فيحتمل أن يكون تلقاه عن أسامة فإنه كان معه كما تقدم، وقد مضى في كتاب الصلاة أن ابن عباس روي عنه نفي الصلاة فيها عند مسلم، وقد وقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر عن أسامة عند أحمد وغيره فتعارضت الرواية في ذلك عنه، فتترجح رواية بلال من جهة أنه مثبت وغيره ناف ومن جهة أنه لم يختلف عليه في الإثبات واختلف على من نفى. وقال النووي وغيره: يجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله، ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة مع احتمال أن يحجبه عنه بعض الأعمدة فنفاها عملا بظنه. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته انتهى. ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة قال " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة فرأى صورا فدعا بدلو من ماء فأتيته به فضرب به الصور " فهذا الإسناد جيد، قال القرطبي: فلعله استصحب النفي لسرعة عوده انتهى. وهو مفرع على أن هذه القصة وقعت عام الفتح، فإن لم يكن فقد روى عمر بن شبة في " كتاب مكة " من طريق علي بن بذيمة - وهو تابعي وأبوه بفتح الموحدة ثم معجمة وزن عظيمة - قال " دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ودخل معه بلال، وجلس أسامة على الباب، فلما خرج وجد أسامة قد احتبى فأخذ بحبوته فحلها " الحديث، فلعله احتبى فاستراح فنعس فلم يشاهد صلاته، فلما سئل عنها نفاها مستصحبا للنفي لقصر زمن احتبائه، وفي كل ذلك إنما نفي رؤيته لا ما في نفس الأمر، ومنهم من جمع بين الحديثين بغير ترجيح أحدهما على الآخر وذلك من أوجه: أحدها حمل الصلاة المثبتة على اللغوية والمنفية على الشرعية، وهذه طريقة من يكره الصلاة داخل الكعبة فرضا ونفلا، وقد تقدم البحث فيه، ويرد هذا الحمل ما تقدم في بعض طرقه من تعيين قدر الصلاة، فظهر أن المراد بها الشرعية لا مجرد الدعاء. ثانيها قال القرطبي: يمكن حمل الإثبات على التطوع والنفي على الفرض، وهذه طريقة المشهور من مذهب مالك، وقد تقدم البحث فيها. ثالثها قال المهلب شارح البخاري: يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرتين، صلى في إحداهما ولم يصل في الأخرى. وقال ابن حبان: الأشبه عندي في الجمع أن يجعل الخبران في وقتين فيقال: لما دخل الكعبة في الفتح صلى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها لأن ابن عباس نفاها وأسنده إلى أسامة، وابن عمر أثبتها وأسند إثباته إلى بلال وإلى أسامة أيضا، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض، وهذا جمع حسن، لكن تعقبه النووي بأنه لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم دخل في يوم الفتح لا في حجة الوداع، ويشهد له ما روى الأزرقي في " كتاب مكة " عن سفيان عن غير واحد من أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح ثم حج فلم يدخلها، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرتين ويكون المراد بالواحدة التي في خبر ابن عيينة وحدة السفر لا الدخول، وقد وقع عند الدارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع والله أعلم. ويؤيد الجمع الأول ما أخرجه عمر بن شبة في " كتاب مكة " من طريق حماد عن أبي حمزة عن ابن عباس قال: قلت له كيف أصلي في الكعبة؟ قال: كما تصلي في الجنازة، تسبح وتكبر ولا تركع ولا تسجد، ثم عند أركان البيت سبح وكبر وتضرع واستغفر ولا تركع ولا تسجد، وسنده صحيح. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ الشرح: قوله: (وفيه الآلهة) أي الأصنام، وأطلق عليها الآلهة باعتبار ما كانوا يزعمون، وفي جواز إطلاق ذلك وقفة، والذي يظهر كراهته، وكانت تماثيل على صور شتى فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من دخول البيت وهي فيه لأنه لا يقر على باطل، ولأنه لا يحب فراق الملائكة وهي لا تدخل ما فيه صورة. قوله: (الأزلام) سيأتي شرحها مبينا حيث ذكرها المصنف في تفسير المائدة. قوله: (أم والله) كذا للأكثر ولبعضهم " أما " بإثبات الألف. قوله: (لقد علموا) قيل وجه ذلك أنهم كانوا يعلمون اسم أول من أحدث الاستقسام بها، وهو عمرو بن لحي، وكانت نسبتهم إلى إبراهيم وولده الاستقسام بها افتراء عليهما لتقدمهما على عمرو. *3*باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ الشرح: قوله: (باب كيف كان بدء الرمل) أي ابتداء مشروعيته، وهو بفتح الراء والميم هو الإسراع. وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة، وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيه، وذكر حديث ابن عباس في قصة الرمل في عمرة القضية، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في المغازي، وعلى ما يتعلق بحكم الرمل بعد باب. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ الشرح: قوله: (أن يرملوا) بضم الميم وهو في موضع مفعول يأمرهم تقول أمرته كذا وأمرته بكذا. و (الأشواط) بفتح الهمزة بعدها معجمة جمع شوط بفتح الشين وهو الجري مرة إلى الغاية، والمراد به هنا الطوفة حول الكعبة، و (الإبقاء) بكسر الهمزة وبالموحدة والقاف الرفق والشفقة، وهو بالرفع على أنه فاعل " لم يمنعه " ويجوز النصب. وفي الحديث جواز تسمية الطوفة شوطا، ونقل عن مجاهد والشافعي كراهته، ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم. وفيه جواز المعاريض بالفعل كما يجوز بالقول، وربما كانت بالفعل أولى. *3*باب اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ وَيَرْمُلُ ثَلَاثًا الشرح: قوله: (باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف ويرمل ثلاثا) أورد فيه حديث ابن عمر في ذلك، وهو مطابق للترجمة من غير مزيد. الحديث: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ السَّبْعِ الشرح: قوله: (يخب) بفتح أوله وضم الخاء المعجمة بعدها موحدة أي يسرع في مشيه، والخبب بفتح المعجمة والموحدة بعدها موحدة أخرى: العدو السريع، يقال خبت الدابة إذا أسرعت وراوحت بين قدميها، وهذا يشعر بترادف الرمل والخبب عند هذا القائل. وقوله: (أول) منصوب على الظرف، و قوله: (من السبع) بفتح أوله أي السبع طوفات، وظاهره أن الرمل يستوعب الطوفة، فهو مغاير لحديث ابن عباس الذي قبله لأنه صريح في عدم الاستيعاب، وسيأتي القول فيه في الباب الذي بعده في الكلام على حديث عمر إن شاء الله تعالى. *3*باب الرَّمَلِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الشرح: قوله: (باب الرمل في الحج والعمرة) أي في بعض الطواف، والقصد إثبات بقاء مشروعيته، وهو الذي عليه الجمهور. وقال ابن عباس: ليس هو بسنة، من شاء رمل ومن شاء لم يرمل. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ تَابَعَهُ اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (حدثني محمد هو ابن سلام) كذا لأبي ذر، وللباقين سوى ابن السكن غير منسوب، وأما أبو نعيم فقال بعد أن أخرج الحديث من طريق محمد بن عبد الله بن نمير عن شريح أخرجه البخاري عن محمد ويقال هو ابن نمير، ورجح أبو علي الجياني أنه محمد بن رافع لكونه روى في موضع آخر عنه عن شريح ويحتمل أن يكون ابن يحيى الذهلي وهو قول الحاكم، والصواب أنه ابن سلام كما نسبه أبو ذر وجزم بذلك أبو علي بن السكن في روايته، على أن شريحا شيخ محمد فيه قد أخرج عنه البخاري بغير واسطة في الجمعة وغيرها فيحتمل أن يكون محمد هو البخاري نفسه والله أعلم. قوله: (سعى) أي أسرع المشي في الطوفات الثلاث الأول، و قوله: (في الحج والعمرة) أي حجة الوداع وعمرة القضية لأن الحديبية لم يمكن فيها من الطواف، والجعرانة لم يكن ابن عمر معه فيها ولهذا أنكرها، والتي مع حجته اندرجت أفعالها في الحج، فلم يبق إلا عمرة القضية. نعم عند الحاكم من حديث أبي سعيد " رمل رسول الله في حجته وعمره كلها وأبو بكر وعمر والخلفاء". قوله: (تابعه الليث قال حدثني كثير إلخ) وصلها النسائي من طريق شعيب بن الليث عن أبيه والبيهقي من طريق يحيي بن بكير عن الليث قال حدثني فذكره بلفظ " إن عبد الله بن عمر كان يخب في طوافه حين يقدم في حج أو عمرة ثلاثا ويمشي أربعا، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك". الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِلرُّكْنِ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ الشرح: قوله: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن) أي للأسود، وظاهره أنه خاطبه بذلك، وإنما فعل ذلك ليسمع الحاضرين. قوله: (ثم قال) أي بعد استلامه. قوله: (ما لنا وللرمل) في رواية بعضهم " والرمل " بغير لام، وهو بالنصب على الأفصح، وزاد أبو داود من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم " فيم الرمل والكشف عن المناكب " الحديث، والمراد به الاضطباع، وهي هيئة تعين على إسراع المشي بأن يدخل رداءه تحت إبطه الأيمن ويرد طرفه على منكبه الأيسر فيبدي منكبه الأيمن ويستر الأيسر، وهو مستحب عند الجمهور سوى مالك قاله ابن المنذر. قوله: (إنما كنا راءينا) بوزن فاعلنا من الرؤية، أي أريناهم بذلك أنا أقوياء قاله عياض. وقال ابن مالك: من الرياء أي أظهرنا له القوة ونحن ضعفاء، ولهذا روي رايينا بياءين حملا له على الرياء وإن كان أصله الرئاء بهمزتين، ومحصله أن عمر كان هم بترك الرمل في الطواف لأنه عرف سببه وقد انقضى فهم أن يتركه لفقد سببه، ثم رجع عن ذلك لاحتمال أن تكون له حكمة ما اطلع عليها فرأى أن الاتباع أولى من طريق المعنى، وأيضا إن فاعل ذلك إذا فعله تذكر السبب الباعث على ذلك فيتذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله. قوله: (فلا نحب أن نتركه) زاد يعقوب بن سفيان عن سعيد شيخ البخاري فيه في آخره " ثم رمل " أخرجه الإسماعيلي من طريقه، ويؤيده أنهم اقتصروا عند مراءاة المشركين على الإسراع إذا مروا من جهة الركنين الشاميين لأن المشركين كانوا بإزاء تلك الناحية، فإذا مروا بين الركنين اليمانيين مشوا على هيئتهم كما هو بين قي حديث ابن عباس، ولما رملوا في حجة الوداع أسرعوا في جميع كل طوفة فكانت سنة مستقلة، ولهذه النكتة سأل عبيد الله بن عمر نافعا كما في الحديث الذي بعده عن مشي عبد الله بن عمر بين الركنين اليمانيين فأعلمه أنه إنما كان يفعله ليكون أسهل عليه في استلام الركن، أي كان يرفق بنفسه ليتمكن من استلام الركن عند الازدحام. وهذا الذي قاله نافع إن كان استند فيه إلى فهمه فلا يدفع احتمال أن يكون ابن عمر فعل ذلك اتباعا للصفة الأولى من الرمل لما عرف من مذهبه في الاتباع. (تكميل) : لا يشرع تدارك الرمل، فلو تركه في الثلاث لما يقضه في الأربع، لأن هيئتها السكينة فلا تغير، ويختص بالرجال فلا رمل على النساء، ويختص بطواف يعقبه سعي على المشهور، ولا فرق في استحبابه بين ماش وراكب، ولا دم بتركه عند الجمهور. واختلف عند المالكية. وقال الطبري: قد ثبت أن الشارع رمل ولا مشرك يومئذ بمكة يعني في حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل بل لهيئة مخصوصة فكان كرفع الصوت بالتلبية فمن لبى خافضا صوته لم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها ولا شيء عليه. (تنبيه) : قال الإسماعيلي بعد أن خرج الحديث الثالث مقتصرا على المرفوع منه وزاد فيه " قال نافع ورأيت عبد الله - يعني ابن عمر - يزاحم على الحجر حتى يدمى " قال الإسماعيلي: ليس هذا الحديث من هدا الباب في شيء يعني باب الرمل، وأجيب بأن القدر المتعلق بهذه الترجمة منه ثابت عند البخاري، ووجهه أن معني قوله " كان ابن عمر يمشي بين الركنين " أي دون غيرهما، وكان يرمل، ومن ثم سأل الراوي نافعا عن السبب في كونه كان يمشي في بعض دون بعض والله أعلم. (تنبيه آخر) : استشكل قول عمر " راءينا " مع أن الرياء بالعمل مذموم، والجواب أن صورته وإن كانت صورة الرياء لكنها ليست مذمومة، لأن المذموم أن يظهر العمل ليقال إنه عامل ولا يعمله بغيبة إذا لم يره أحد، وأما الذي وقع في هذه القصة فإنما هو من قبيل المخادعة في الحرب، لأنهم أوهموا المشركين أنهم أقوياء لئلا يطمعوا فيهم، وثبت أن الحرب خدعة. *3*باب اسْتِلَامِ الرُّكْنِ بِالْمِحْجَنِ الشرح: قوله: (باب استلام الركن بالمحجن) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم بعدها نون، هو عصا محنية الرأس، والحجن الاعوجاج، وبذلك سمي الحجون، والاستلام افتعال من السلام بالفتح أي التحية قاله الأزهري، وقيل من السلام بالكسر أي الحجارة والمعنى أنه يومئ بعصاه إلى الركن يصيبه. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ تَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ الشرح: قوله: (عن عبيد الله) كذا قال يونس وخالفه الليث وأسامة بن زيد وزمعة بن صالح فرووه عن الزهري قال " بلغني عن ابن عباس " ولهذه النكتة استظهر البخاري بطريق ابن أخي الزهري فقال " تابعه الدراوردي عن ابن أخي الزهري وهذه المتابعة أخرجها الإسماعيلي عن الحسين بن سفيان عن محمد بن عباد عن عبد العزيز الدراوردي فذكره ولم يقل " في حجة الوداع " ولا " على بعير " وسيأتي البحث في مسألة الطواف راكبا بعد خمسة عشر بابا. قوله: (يستلم الركن بمحجن) زاد مسلم من حديث أبي الطفيل " ويقبل المحجن " وله من حديث ابن عمر أنه " استلم الحجر بيده ثم قبله " ورفع ذلك، ولسعيد بن المنصور من طريق عطاء قال " رأيت أبا سعيد وأبا هريرة وابن عمر وجابرا إذا استلموا الحجر قبلوا أيديهم. قيل: وابن عباس؟ قال: وابن عباس، أحسبه قال كثيرا " وبهذا قال الجمهور أن السنة أن يستلم الركن ويقبل يده فإن لم يستطع أن يستلمه بيده استلمه بشيء في يده وقبل ذلك الشيء فإن لم يستطع أشار إليه واكتفى بذلك، وعن مالك في رواية لا يقبل يده، وكذا قال القاسم. وفي رواية عند المالكية يضع يده على فمه من غير تقبيل. *3*باب مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنْ الْبَيْتِ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّهُ لَا يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ فَقَالَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ الشرح: قوله: (باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين) أي دون الركنين الشاميين، واليماني بتخفيف الياء على المشهور لأن الألف عوض عن ياء النسب فلو شددت لكان جمعا بين العوض والمعوض، وجوز سيبويه التشديد وقال إن الألف زائدة. قوله: (وقال محمد بن بكر أخبرنا ابن جريج) لم أره من طريق محمد بن بكر، وقد أخرجه الجوزقي من طريق عثمان بن الهيثم به، و " من " في قوله " ومن يتقي " استفهامية على سبيل الإنكار. قوله: (وكان معاوية يستلم الأركان) وصله أحمد والترمذي والحاكم من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الطفيل قال " كنت مع ابن عباس ومعاوية فكان معاوية لا يمر بركن إلا استلمه، فقال ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الحجر واليماني، فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا " وأخرج مسلم المرفوع فقط من وجه آخر عن ابن عباس، وروى أحمد أيضا من طريق شعبة عن قتادة عن أبي الطفيل قال " حج معاوية وابن عباس، فجعل ابن عباس يستلم الأركان كلها، فقال معاوية: إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الركنين اليمانيين، فقال ابن عباس: ليس من أركانه شيء مهجور " قال عبد الله بن أحمد في العلل سألت أبي عنه فقال: قلبه شعبة، وقد كان شعبة يقول: الناس يخالفونني في هذا، ولكنني سمعته من قتادة هكذا انتهى. وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة على الصواب أخرجه أحمد أيضا، وكذا أخرجه من طريق مجاهد عن ابن عباس نحو، وروى الشافعي من طريق محمد بن كعب القرظي " إن ابن عباس كان يمسح الركن اليماني والحجر، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها ويقول: ليس شيء من البيت مهجورا، فيقول ابن عباس (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ، ولفظ رواية مجاهد المذكورة عن ابن عباس أنه " طاف مع معاوية، فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا، فقال له ابن عباس (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فقال معاوية: صدقت " وبهذا يتبين ضعف من حمله على التعدد، وأن اجتهاد كل منهما تغير إلى ما أنكره على الآخر، وإنما قلت ذلك لأن مخرج الحديثين واحد وهو قتادة عن أبي الطفيل؛ وقد جزم أحمد بأن شعبة قلبه فسقط التجويز العقلي. قوله: (إنه) الهاء للشأن. قوله: (لا يستلم هذان الركنان) كذا للأكثر على البناء للمجهول، وللحموي والمستملي " لا نستلم هذين الركنين " بفتح النون ونصب هذين الركنين على المفعولية. قوله: (وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن) وصله ابن أبي شيبة من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير أنه رأى أباه يستلم الأركان كلها وقال " إنه ليس شيء منه مهجورا " وأخرج الشافعي نحوه عنه من وجه آخر كما تقدم، وفي " الموطأ " عن هشام بن عروة بن الزبير أن أباه " كان إذا طاف بالبيت يستلم الأركان كلها"، وأخرجه سعيد بن منصور عن الدراوردي عن هشام بلفظ " إذا بدأ استلم الأركان كلها وإذا ختم". ثم أورد المصنف حديث ابن عمر قال: " لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين " وقد تقدم قول ابن عمر " إنما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم استلام الركنين الشاميين لأن البيت لم يتمم عل قواعد إبراهيم " وعلى هذا المعنى حمل ابن التين تبعا لابن القصار استلام ابن الزبير لهما لأنه لما عمر الكعبة أتم البيت على قواعد إبراهيم انتهى، وتعقب ذلك بعض الشراح بأن ابن الزبير طاف مع معاوية واستلم الكل، ولم يقف على هذا الأثر وإنما وقع ذلك لمعاوية مع ابن عباس، وأما ابن الزبير فقد أخرج الأزرقي في " كتاب مكة " فقال: إن ابن الزبير لما فرغ من بناء البيت وأدخل فيه من الحجر ما أخرج منه ورد الركنين على قواعد إبراهيم خرج إلى التنعيم واعتمر وطاف بالبيت واستلم الأركان الأربعة، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف الطائف استلم الأركان جميعها حتى قتل ابن الزبير. وأخرج من طريق ابن إسحاق قال: بلغني أن آدم لما حج استلم الأركان كلها، وأن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت طافا به سبعا يستلمان الأركان. وقال الداودي: ظن معاوية أنهما ركنا البيت الذي وضع عليه من أول، وليس كذلك، لما سبق من حديث عائشة، والجمهور على ما دل عليه حديث ابن عمر، وروى ابن المنذر وغيره استلام جميع الأركان أيضا عن جابر وأنس والحسن والحسين من الصحابة وعن سويد بن غفلة من التابعين. وقد يشعر ما تقدم في أوائل الطهارة من حديث عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر " رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها " فذكر منها " ورأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين " الحديث بأن الذين رآهم عبيد بن جريج من الصحابة والتابعين كانوا لا يقتضرون في الاستلام على الركنين اليمانيين. وقال بعض أهل العلم: اختصاص الركنين مبين بالسنة ومستند التعميم القياس، وأجاب الشافعي عن قول من قال ليس شيء من البيت مهجورا بأنا لم ندع استلامهما هجرا للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به، ولكنا نتبع السنة فعلا أو تركا، ولو كان ترك استلامهما هجرا لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرا لها ولا قائل به، ويؤخذ منه حفظ المراتب وإعطاء كل ذي حق حقه وتنزيل كل أحد منزلته. (فائدة) : في البيت أربعة أركان، الأول له فضيلتان: كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم. وللثاني الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منهما، فلذلك يقبل الأول ويستلم الثاني فقط ولا يقبل الآخران ولا يستلمان، هذا على رأي الجمهور. واستحب بعضهم تقبيل الركن اليماني أيضا. (فائدة أخرى) : استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من يستحق التنظيم من آدمي وغيره، فأما تقبيل يد الآدمي فيأتي في كتاب الأدب، وأما غيره فنقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيل قبره فلم ير به بأسا، واستبعد بعض اتباعه صحة ذلك، ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين وبالله التوفيق. *3*باب تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الشرح: قوله: (باب تقبيل الحجر) بفتح المهملة والجيم أي الأسود، أورد فيه حديث عمر مختصرا، وقد تقدم الكلام عليه قبل أبواب. ثم أورد فيه حديث ابن عمر " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله " ولابن المنذر من طريق أبي خالد عن عبيد الله عن نافع " رأيت ابن عمر استلم الحجر وقبل يده وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله " ويستفاد منه استحباب الجمع بين التسليم والتقبيل بخلاف الركن اليماني فيستلمه فقط والاستلام المسح باليد والتقبيل بالفم، وروى الشافعي من وجه آخر عن ابن عمر قال " استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الحجر فاستلمه، ثم وضع شفتيه عليه طويلا " الحديث واختص الحجر الأسود بذلك لاجتماع الفضيلتين له كما تقدم. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَقَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ قُلْتُ أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ قَالَ اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ الشرح: قوله: (حدثنا حماد) في رواية أبي الوقت " ابن زيد". قوله: (عن الزبير بن عربي) في رواية أبي داود الطيالسي عن حماد " حدثنا الزبير". قوله: (سأل رجل) هو الزبير الراوي، كذلك وقع عند أبي داود الطيالسي عن حماد " حدثنا الزبير سألت ابن عمر". قوله: (أرأيت إن زحمت) أي أخبرني ما أصنع إذا زحمت، وزحمت بضم الزاي بغير إشباع، وفي بعض الروايات بزيادة واو. قوله: (اجعل أرأيت باليمن) يشعر بأن الرجل يماني، وقد وقع في رواية أبي داود المذكورة " اجعل أرأيت عند ذلك الكوكب " وإنما قال له ذلك لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وأمره إذا سمع الحديث أن يأخذ به ويتقي الرأي، والظاهر أن ابن عمر لم ير الزحام عذرا في ترك الاستلام، وقد روى سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال " رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمى " ومن طريق أخرى أنه قيل له في ذلك فقال هوت الأفئدة إليه فأريد أن يكون فؤادي معهم، وروى الفاكهي من طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة وقال: لا يؤذي ولا يؤذى. (فائدة) : المستحب في التقبيل أن لا يرفع به صوته، وروى الفاكهي عن سعيد بن جبير قال: إذا قبلت الركن فلا ترفع بها صوتك كقبلة النساء. (تنبيه) : قال أبو علي الجياني وقع عند الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني " الزبير بن عدي " بدال مهملة بعدها ياء مشددة، وهو وهم وصوابه " عربي " براء مهملة مفتوحة بعدها موحدة ثم ياء مشددة، كذلك رواه سائر الرواة عن الفربري انتهى. وكأن البخاري استشعر هذا التصحيف فأشار إلى التحذير منه فحكى الفربري أنه وجد في كتاب أبي جعفر - يعني محمد بن أبي حاتم وراق البخاري - قال " قال أبو عبد الله يعني البخاري: الزبير بن عربي هذا بصري، والزبير بن عدي كوفي " انتهى. هكذا وقع عند أبي ذر عن شيوخه عن الفربري، وعند الترمذي من غير رواية الكرخي، وعقب هذا الحديث: الزبير هذا هو ابن عربي، وأما الزبير بن عدي فهو كوفي، ويؤيده أن في رواية أبي داود المقدم ذكرها " الزبير بن العربي " بزيادة ألف ولام، وذلك مما يرفع الإشكال. والله أعلم. |
08-14-2013, 11:51 AM | #494 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب مَنْ أَشَارَ إِلَى الرُّكْنِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ الشرح:
قوله: (باب من أشار إلى الركن) أي الأسود. قوله: (إذا أتى عليه) أورد فيه حديث ابن عباس " طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير، كلما أتى على الركن أشار إليه " وقد تقدم قبل ببابين بزيادة شرح فيه، قال ابن التين: تقدم أنه كان يستلمه بالمحجن، فيدل على قربه من البيت، لكن من طاف راكبا يستحب له أن يبعد إن خاف أن يؤذي أحدا، فيحمل فعله صلى الله عليه وسلم على الأمن من ذلك انتهى. ويحتمل أن يكون في حال استلامه قريبا حيث أمن ذلك، وأن يكون في حال إشارته بعيدا حيث خاف ذلك. *3*باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ الشرح: قوله: (باب التكبير عند الركن) أورد فيه حديث ابن عباس المذكور وزاد " أشار إليه بشيء كان عنده وكبر " والمراد بالشيء المحجن الذي تقدم في الرواية الماضية قبل بابين، وفيه استحباب التكبير عند الركن الأسود في كل طوفة. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ الشرح: قوله: (تابعه إبراهيم بن طهمان عن خالد) يعني في التكبير، وأشار بذلك إلى أن رواية عبد الوهاب عن خالد المذكورة في الباب الذي قبله الخالية عن التكبير لا تقدح في زيادة خالد بن عبد الله لمتابعة إبراهيم، وقد وصل طريق إبراهيم في كتاب الطلاق، وسيأتي الكلام في طواف المريض راكبا في بابه إن شاء الله تعالى. *3*باب مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا الشرح: قوله: (باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته إلخ) قال ابن بطال: غرضه بهذه الترجمة الرد على من زعم أن المعتمر إذا طاف حل قبل أن يسعى بين الصفا والمروة، فأراد أن يبين أن قول عروة " فلما مسحوا الركن حلوا " محمول على أن المراد لما استلموا الحجر الأسود وطافوا وسعوا حلوا، بدليل حديث ابن عمر الذي أردفه به في هذا الباب، وزعم ابن التين أن معنى قول عروة " مسحوا الركن " أي ركن المروة أي عند ختم السعي، وهو متعقب برواية ابن الأسود عن عبد الله مولى أسماء عن أسماء قالت " اعتمرت أنا وعائشة والزبير وفلان وفلان، فلما مسحنا البيت أحللنا " أخرجه المصنف، وسيأتي في أبواب العمرة. وقال النووي: لا بد من تأويل قوله " مسحوا الركن " لأن المراد به الحجر الأسود ومسحه يكون في أول الطواف ولا يحصل التحلل بمجرد مسحه بالإجماع، فتقديره: فلما مسحوا الركن وأتموا طوافهم وسعيهم وحلقوا حلوا. وحذفت هذه المقدرات للعلم بها لظهورها. وقد أجمعوا على أنه لا يتحلل قبل تمام الطواف. ثم مذهب الجمهور أنه لا بد من السعي بعده ثم الحلق. وتعقب بأن المراد بمسح الركن الكناية عن تمام الطواف لا سيما واستلام الركن يكون في كل طوفة. فالمعنى فلما فرغوا من الطواف حلوا، وأما السعي والحلق فمختلف فيهما كما قال، ويحتمل أن يكون المعنى فلما فرغوا من الطواف وما يتبعه حلوا. قلت: وأراد بمسح الركن هنا استلامه بعد فراغ الطواف والركعتين كما وقع في حديث جابر، فحينئذ لا يبقى إلا تقدير وسعوا لأن السعي شرط عند عروة بخلاف ما نقل عن ابن عباس، وأما تقدير حلقوا فينظر في رأي عروة فإن كان الحلق عنده نسكا فيقدر في كلامه وإلا فلا. الحديث: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ قَالَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلَهُ ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا الشرح: قوله: (أخبرني عمرو) هو ابن الحارث كما سيأتي بعد أربعة عشر بابا من وجه آخر عن ابن وهب. قوله: (عن محمد بن عبد الرحمن) هو أبو الأسود النوفلي المدني المعروف بيتيم عروة. قوله: (ذكرت لعروة قال فأخبرتني عائشة) حذف البخاري صورة السؤال وجوابه واقتصر على المرفوع منه، وقد ذكره مسلم من هذا الوجه ولفظه " أن رجلا من أهل العراق قال له: سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج، فإذا طاف أيحل أم لا؟ فإن قال لك لا يحل فقل له: إن رجلا يقول ذلك. قال فسألته قال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج، قال فتصدى لي الرجل فحدثته فقال: فقل له فإن رجلا كان يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك؟ قال فجئته أي عروة فذكرت له ذلك فقال: من هذا؟ فقلت: لا أدري، أي لا أعرف اسمه. قال: فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني؟ أظنه عراقيا. يعني وهم يتعنتون في المسائل. قال: قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة أنه توضأ " فذكر الحديث، والرجل الذي سأل لم أقف على اسمه، وقوله "فإن رجلا كان يخبر " عنى به ابن عباس فإنه كان يذهب إلى أن من لم يسق الهدي وأهل بالحج إذا طاف يحل من حجه، وأن من أراد أن يستمر على حجه لا يقرب البيت حتى يرجع من عرفة، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يجعلوها عمرة، وقد أخرج المصنف ذلك في " باب حجة الوداع " في أواخر المغازي من طريق ابن جريج " حدثني عطاء عن ابن عباس قال: إذا طاف بالبيت فقد حل. فقلت من أين؟ قال: هذا ابن عباس قال: من قوله سبحانه (ثم محلها إلى البيت العتيق) ومن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع، قلت: إنما كان ذلك بعد ذلك المعرف، قال: كان ابن عباس يراه قبل وبعد " وأخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن جريج بلفظ " كان ابن عباس يقول: لا يطوف بالبيت حاج ولا غيره إلا حل. قلت لعطاء: من أي تقول ذلك؟ فذكره " ولمسلم من طريق قتادة سمعت أبا حسان الأعرج قال " قال رجل لابن عباس: ما هذه الفتيا أن من طاف بالبيت فقد حل؟ فقال: سنة نبيكم وإن رغمتم " وله من طريق وبرة بن عبد الرحمن قال " كنت جالسا عند ابن عمر فجاءه رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر: قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقا " وإذا تقرر ذلك فمعنى قوله في حديث أبي الأسود " قد فعل رسول الله ذلك " أي أمر به، وعرف أن هذا مذهب لابن عباس خالفه فيه الجمهور ووافقه فيه ناس قليل منهم إسحاق بن راهويه، وعرف أن مأخذه فيه ما ذكر، وجواب الجمهور أن النبي أمر أصحابه أن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة، ثم اختلفوا فذهب الأكثر إلى أن ذلك كان خاصا بهم، وذهب طائفة إلى أن ذلك جائز لمن بعدهم، واتفقوا كلهم أن من أهل بالحج مفردا لا يضره الطواف بالبيت، وبذلك احتج عروة في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالطواف ولم يحل من حجه ولا صار عمرة وكذا أبو بكر وعمر، فمعنى قوله " ثم لم تكن عمرة " أي لم تكن الفعلة عمرة، هذا إن كان بالنصب على أنه خبر كان، ويحتمل أن تكون كان تامة والمعنى ثم لم تحصل عمرة وهي على هذا بالرفع، وقد وقع في رواية مسلم بدل عمرة " غيره " بغين معجمة وياء ساكنة وآخره هاء، قال عياض وهو تصحيف. وقال النووي لها وجه أي لم يكن غير الحج، وكذا وجهه القرطبي. قوله: (ثم حججت مع أبي الزبير) كذا للأكثر، والزبير بالكسر بدل من أبي، ووقع في رواية الكشميهني مع ابن الزبير يعني أخاه عبد الله، قال عياض: وهو تصحيف، وسيأتي في الطريق الآتية بعد أربعة عشر بابا مع أبي الزبير بن العوام وكأن سبب هذا التصحيف أنه وقع في تلك الطريق من الزيادة بعد ذكر أبي بكر وعمر ذكر عثمان ثم معاوية وعبد الله بن عمر قال " ثم حججت مع أبي الزبير " فذكره وقد عرف أن قتل الزبير كان قبل معاوية وابن عمر، لكن لا مانع أن يحجا قبل قتل الزبير فرآهما عروة، أو لم يقصد بقوله " ثم " الترتيب فإن فيها أيضا " ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر " فأعاد ذكره مرة أخرى، وأغرب بعض الشارحين فرجح رواية الكشميهني موجها لها بما ذكرته، وقد أوضحت جوابه بحمد الله. قوله: (وقد أخبرتني أمي) هي أسماء بنت أبي بكر، وأختها هي عائشة، واستشكل من حيث أن عائشة في تلك الحجة لم تطف لأجل حيضها، وأجيب بالحمل على أنه أراد حجة أخرى غير حجة الوداع، فقد كانت عائشة بعد النبي صلى الله عليه وسلم تحج كثيرا، وسيأتي الإلمام بشيء من هذا في أبواب العمرة إن شاء الله تعالى. قوله: (فلما مسحوا الركن حلوا) أي صاروا حلالا، وقد تقدم في أول الباب ما فيه من الإشكال وجوابه، وفي هذا الحديث استحباب الابتداء بالطواف للقادم لأنه تحية المسجد الحرام، واستثنى بعض الشافعية ومن وافقه المرأة الجميلة أو الشريفة التي لا تبرز فيستحب لها تأخير الطواف إلى الليل إن دخلت نهارا، وكذا من خاف فوت مكتوبة أو جماعة مكتوبة أو مؤكدة أو فائتة فإن ذلك كله يقدم على الطواف، وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه، وعن مالك وأبي ثور من الشافعية عليه دم، وهل يتداركه من تعمد تأخيره لغير عذر، وجهان كتحية المسجد، وفيه الوضوء للطواف، وسيأتي حيث ترجم له المصنف بعد أربعة عشر بابا. الحديث الثاني حديث ابن عمر أخرجه من وجهين كلاهما من رواية نافع عنه: أحدهما من رواية موسى بن عقبة والآخر من رواية عبيد الله، والراوي عنهما واحد وهو أبو ضمرة أنس بن عياض، زاد في رواية موسى " ثم سجد سجدتين " والمراد بهما ركعتا الطواف " ثم سعى بين الصفا والمروة " وزاد في رواية عبيد الله أنه كان يسعى ببطن المسيل، وقد تقدم ما يتعلق بالرمل قبل خمسة أبواب، وأما السعي بين الصفا والمروة فسيأتي الكلام عليه حيث ترحم له المصنف بعد خمسة عشر بابا إن شاء الله تعالى، والمراد ببطن المسيل الوادي لأنه موضع السيل. *3*باب طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ الشرح: قوله: (باب طواف النساء مع الرجال) أي هل يختلطن بهم أو يطفن معهم على حدة بغير اختلاط أو ينفردن. الحديث: و قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ قَالَ كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الرِّجَالِ قُلْتُ أَبَعْدَ الْحِجَابِ أَوْ قَبْلُ قَالَ إِي لَعَمْرِي لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ قُلْتُ كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ قَالَ لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَطُوفُ حَجْرَةً مِنْ الرِّجَالِ لَا تُخَالِطُهُمْ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ انْطَلِقِي عَنْكِ وَأَبَتْ يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ وَكُنْتُ آتِي عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهِيَ مُجَاوِرَةٌ فِي جَوْفِ ثَبِيرٍ قُلْتُ وَمَا حِجَابُهَا قَالَ هِيَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا الشرح: قوله: (وقال لي عمرو بن علي حدثنا أبو عاصم) هذا أحد الأحاديث التي أخرجها عن شيخه عن أبي عاصم النبيل بواسطة، وقد ضاق على الإسماعيلي مخرجه فأخرجه أولا من طريق البخاري ثم أخرجه هكذا وكذا البيهقي، وأما أبو نعيم فأخرجه أولا من طريق البخاري ثم أخرجه من طريق أبي قرة موسى بن طارق عن ابن جريج قال مثله غير قصة عطاء مع عبيد بن عمير، قال أبو نعيم: هذا حديث عزيز ضيق المخرج. قلت: قد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج بتمامه، وكذا وجدته من وجه آخر أخرجه الفاكهي في " كتاب مكة " عن ميمون بن الحكم الصنعاني عن محمد بن جعشم وهو بجيم ومعجمة مضمومتين بينهما عين مهملة قال: أخبرني ابن جريج فذكره بتمامه أيضا. قوله: (إذ منع ابن هشام) هو إبراهيم - أو أخوه محمد - ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي وكان خالي هشام بن عبد الملك فولى محمدا إمرة مكة وولى أخاه إبراهيم بن هشام إمرة المدينة وفوض هشام لإبراهيم إمرة الحج بالناس في خلافته فلهذا قلت: يحتمل أن يكون المراد، ثم عذبهما يوسف بن عمر الثقفي حتى ماتا في محنته في أول ولاية الوليد بن يزيد بن عبد الملك بأمره سنة خمس وعشرين ومائة قاله خليفة بن خياط في تاريخه، وظاهر هذا أن ابن هشام أول من منع ذلك، لكن روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال: نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة، وهذا إن صح لم يعارض الأول لأن ابن هشام منعهن أن يطفن حين يطوف الرجال مطلقا، فلهذا أنكر عليه عطاء واحتج بصنيع عائشة وصنيعها شبيه بهذا المنقول عن عمر، قال الفاكهي: ويذكر عن ابن عيينة أن أول من فرق ببن الرجال والنساء في الطواف خالد بن عبد الله القسري انتهى، وهذا إن ثبت فلعله منع ذلك وقتا ثم تركه فإنه كان أمير مكة في زمن عبد الملك بن مروان وذلك قبل ابن هشام بمدة طويلة. قوله: (كيف يمنعهن) معناه أخبرني ابن جريج بزمان المنع قائلا فيه كيف يمنعهن. قوله: (وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال) أي غير مختلطات بهن. قوله: (بعد الحجاب) في رواية المستملي " أبعد " بإثبات همزة الاستفهام، وكذا هو للفاكهي. قوله: (إي لعمري) هو بكسر الهمزة بمعني نعم. قوله: (لقد أدركته بعد الحجاب) ذكر عطاء هذا لرفع توهم من يتوهم أنه حمل ذلك عن غيره، ودل على أنه رأى ذلك منهن، والمراد بالحجاب نزول آية الحجاب وهي قوله تعالى (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) وكان ذلك في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش كما سيأتي في مكانه، ولم يدرك ذلك عطاء قطعا. قوله: (يخالطن) في رواية المستملي " يخالطهن " في الموضعين، والرجال بالرفع على الفاعلية. قوله: (حجرة) بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها راء أي ناحية، قال القزاز: هو مأخوذ من قولهم: نزل فلان حجرة من الناس أي معتزلا. وفي رواية الكشميهني " حجزة " بالزاي وهي رواية عبد الرزاق فإنه فسره في آخره فقال: يعني محجوزا بينها وبين الرجال بثوب، وأنكر ابن قرقول حجرة بضم أوله وبالراء، وليس بمنكر فقد حكاه ابن عديس وابن سيده فقالا: يقال قعد حجرة بالفتح والضم أي ناحية. قوله: (فقالت امرأة) زاد الفاكهي " معها " ولم أقف على اسم هذه المرأة، ويحتمل أن تكون دقرة بكسر المهملة وسكون القاف امرأة روى عنها يحيي بن أبي كثير أنها كانت تطوف مع عائشة بالليل فذكر قصة أخرجها الفاكهي. قوله: (انطلقي عنك) أي عن جهة نفسك. قوله: (يخرجن) زاد الفاكهي " وكن يخرجن إلخ". قوله: (متنكرات) في رواية عبد الرزاق " مستترات " واستنبط منه الداودي جواز النقاب للنساء في الإحرام وهو في غاية البعد. قوله: (إذا دخلن البيت قمن) في رواية الفاكهي " سترن". قوله: (حين يدخلن) في رواية الكشميهني " حتى يدخلن " وكذا هو للفاكهي، والمعنى إذا أردن دخول البيت وقفن حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه. قوله: (وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير) أي الليثي، والقائل ذلك عطاء، وسيأتي في أول الهجرة من طريق الأوزاعي عن عطاء قال " زرت عائشة مع عبيد بن عمير". قوله: (وهي مجاورة في جوف ثبير) أي مقيمة فيه، واستنبط منه ابن بطال الاعتكاف في غير المسجد لأن ثبيرا خارج عن مكة وهو في طريق منى انتهى، وهذا مبني على أن المراد بثبير الجبل المشهور الذي كانوا في الجاهلية يقولون له: أشرق ثبير كيما نغير، وسيأتي ذلك بعد قليل، وهذا هو الظاهر، وهو جبل المزدلفة، لكن بمكة خمسة جبال أخرى يقال لكل منها ثبير ذكرها أبو عبيد البكري وياقوت وغيرهما، فيحتمل أن يكون المراد لأحدها، لكن يلزم من إقامة عائشة هناك أنها أرادت الاعتكاف، سلمنا لكن لعلها اتخذت في المكان الذي جاورت فيه مسجدا اعتكفت فيه وكأنها لم يتيسر لها مكان في المسجد الحرام تعتكف فيه فاتخذت ذلك. قوله: (وما حجابها) زاد الفاكهي " حينئذ". قوله: (تركية) قال عبد الرزاق: هي قبة صغيرة من لبود تضرب في الأرض. قوله: (درعا موردا) أي قميصا لونه لون الورد، ولعبد الرزاق " درعا معصفرا وأنا صبي " فبين بذلك سبب رؤيته إياها، ويحتمل أن يكون رأى ما عليها اتفاقا، وزاد الفاكهي في آخره " قال عطاء وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة أن تطوف راكبة في خدرها من وراء المصلين في جوف المسجد " وأفرد عبد الرزاق هذا، وكأن البخاري حذفه لكونه مرسلا فاغتنى عنه بطريق مالك الموصولة فأخرجها عقبة. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ الشرح: قوله: (عن محمد بن عبد الرحمن) هو أبو الأسود يتيم عروة. قوله: (عن أم سلمة) هي والدة زينب الراوية عنها. قوله: (أني أشتكي) أي أنها ضعيفة، وقد بين المصنف من طريق هشام بن عروة عن أبيه سبب طواف أم سلمة وأنه طواف الوداع، وسيأتي بعد ستة أبواب. قوله: (وأنت راكبة) في رواية هشام " على بعيرك". قوله: (والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي) في رواية هشام " والناس يصلون " وبين فيه أنها صلاة الصبح، وقد تقدم البحث في ذلك في صفة الصلاة، وفيه جواز الطواف للراكب إذا كان لعذر، وإنما أمرها أن تطوف من وراء الناس ليكون أستر لها ولا تقطع صفوفهم أيضا ولا يتأذون بدابتها، فأما طواف الراكب من غير عذر فسيأتي البحث فيه بعد أبواب، ويلتحق بالراكب المحمول إذا كان له عذر، وهل يجزئ هذا الطواف عن الحامل والمحمول؟ فيه بحث. واحتج به بعض المالكية لطهارة بول ما يؤكل لحمه، وقد تقدم توجيه ذلك والتعقب عليه في " باب إدخال البعير المسجد للعلة". |
08-14-2013, 11:54 AM | #495 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الْكَلَامِ فِي الطَّوَافِ الشرح:
قوله: (باب الكلام في الطواف) أي إباحته، وإنما لم يصرح بذلك لأن الخبر ورد في كلام يتعلق بأمر بمعروف لا بمطلق الكلام، ولعله أشار إلى الحديث المشهور عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا " الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير " أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وقد استنبط منه ابن عبد السلام أن الطواف أفضل أعمال الحج لأن الصلاة أفضل من الحج فيكون ما اشتملت عليه أفضل، قال: وأما حديث " الحج عرفة " فلا يتعين، التقدير معظم الحج عرفة بل يجوز إدراك الحج بالوقوف بعرفة. قلت: وفيه نظر، ولو سلم فما لا يتقوم الحج إلا به أفضل مما ينجبر، والوقوف والطواف سواء في ذلك فلا تفضيل. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ أَنَّ طاووسا أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ قُدْهُ بِيَدِهِ الشرح: قوله: (بإنسان ربط يده إلى إنسان) زاد أحمد عن عبد الرزاق عن ابن جريج " إلى إنسان آخر " وفي رواية النسائي من طريق حجاج عن ابن جريج " بإنسان قد ربط يده بإنسان". قوله: (بسير) بمهملة مفتوحة وياء ساكنة معروف، وهو ما يقد من الجلد وهو الشراك. قوله: (أو بشيء غير ذلك) كأن الراوي لم يضبط ما كان مربوطا به، وقد روى أحمد والفاكهي من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك رجلين وهما مقترنان فقال: ما بال القران؟ قالا: إنا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة، فقال: أطلقا أنفسكما، ليس هذا نذرا إنما النذر ما يبتغى به وجه الله " وإسناده إلى عمرو حسن، ولم أقف على تسمية هذين الرجلين صريحا إلا أن في الطبراني من طريق فاطمة بنت مسلم " حدثني خليفة بن بشر عن أبيه أنه أسلم، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ماله وولده، ثم لقيه هو وابنه طلق بن بشر مقترنين بحبل فقال: ما هذا؟ فقال: حلفت لئن رد الله علي مالي وولدي لأحجن بيت الله مقرونا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحبل فقطعه وقال لهما: حجا، إن هذا من عمل الشيطان"، فيمكن أن يكون بشر وابنه طلق صاحبي هذه القصة. وأغرب الكرماني فقال. قيل اسم الرجل المقود هو ثواب ضد العقاب انتهى، ولم أر ذلك لغيره ولا أدري من أين أخذه. قوله: (قد) بضم القاف وسكون الدال فعل أمر، في رواية أحمد والنسائي " قده " بإثبات هاء الضمير وهو للرجل المقود، قال النووي: وقطعه عليه الصلاة والسلام السير محمول على أنه لم يمكن إزالة هذا المنكر إلا بقطعه، أو أنه دل على صاحبه فتصرف فيه. وقال غيره: كان أهل الجاهلية يتقربون إلى الله بمثل هذا الفعل. قلت: وهو بين من سياق حديثي عمرو بن شعيب وخليفة بن بشر. وقال ابن بطال في هذا الحديث: إنه يجوز للطائف فعل ما خف من الأفعال وتغيير ما يراه الطائف من المنكر. وفيه الكلام في الأمور الواجبة والمستحبة والمباحة. قال ابن المنذر: أولى ما شغل المرء به نفسه في الطواف ذكر الله وقراءة القرآن، ولا يحرم الكلام المباح إلا أن الذكر أسلم. وحكى ابن التين خلافا في كراهة الكلام المباح. وعن مالك تقييد الكراهة بالطواف الواجب. قال ابن المنذر: واختلفوا في القراءة، فكان ابن المبارك يقول: ليس شيء أفضل من قراءة القرآن، وفعله مجاهد، واستحبه الشافعي وأبو ثور، وقيده الكوفيون بالسر، وروي عن عروة والحسن كراهته، وعن عطاء ومالك أنه محدث، وعن مالك لا بأس به إذا أخفاه ولم يكثر منه، قال ابن المنذر: من أباح القراءة في البوادي والطرق ومنعه في الطواف لا حجة له. ونقل ابن التين عن الداودي أن في هذا الحديث من نذر ما لا طاعة لله تعالى فيه لا يلزمه، وتعقبه بأنه ليس في هذا الحديث شيء من ذلك وإنما ظاهر الحديث أنه كان ضرير البصر ولهذا قال له قده بيده انتهى. ولا يلزم من أمره له بأن يقوده أنه كان ضريرا بل يحتمل أن يكون بمعنى آخر غير ذلك، وأما ما أنكره من النذر فمتعقب بما في النسائي من طريق خالد بن الحارث عن ابن جريح في هذا الحديث أنه قال أنه نذر، ولهذا أخرجه البخاري في أبواب النذر كما سيأتي الكلام عليه مشروحا هناك إن شاء الله تعالى. *3*باب إِذَا رَأَى سَيْرًا أَوْ شَيْئًا يُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ قَطَعَهُ الشرح: قوله: (باب إذا رأى سيرا أو شيئا يكره في الطواف قطعه) أورد فيه حديث ابن عباس من وجه آخر عن ابن جريج بإسناده ولفظه " رأى رجلا يطوف بالكعبة بزمام أو غيره فقطعه " وهذا مختصر من الحديث الذي قبله، وقد تقدم الكلام عليه في الذي قبله، قال ابن بطال: وإنما قطعه لأن القود بالأزمة إنما يفعل بالبهائم وهو مثلة *3*باب لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَلَا يَحُجُّ مُشْرِكٌ الشرح: قوله: (باب لا يطوف بالبيت عريان) أورد فيه حديث أبي هريرة في ذلك، وفيه حجة لاشتراط ستر العورة في الطواف كما يشترط في الصلاة، وقد تقدم طرف من ذلك في أوائل الصلاة، والمخالف في ذلك الحنفية قالوا: ستر العورة في الطواف ليس بشرط فمن طاف عريانا أعاد ما دام بمكة، فإن خرج لزمه دم. وذكر ابن إسحاق في سبب هذا الحديث أن قريشا ابتدعت قبل الفيل أو بعده أن لا يطوف بالبيت أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أول ما يطوف إلا في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عريانا، فإن خالف وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ ثم لم ينتفع بها فجاء الإسلام فهدم ذلك كله. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ الشرح: قوله: (أن لا يحج) بالنصب. وفي رواية صالح بن كيسان عن الزهري عند المؤلف في التفسير " أن لا يحجن " وهو يعين ذلك للنهي، وقوله: " ولا يطوف " يجوز فيه النصب، والتقدير وأن لا يطوف، والرفع على أن " أن " مخففة من الثقيلة، ويجوز أن يقرأ بفتح الطاء وتشديد الواو وسكون الفاء عطفا على الذي قبله، وسيأتي الكلام على بقية شرح هذا الحديث في تفسير براءة إن شاء الله تعالى. |
08-14-2013, 11:56 AM | #496 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب إِذَا وَقَفَ فِي الطَّوَافِ وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلَاةُ أَوْ يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ إِذَا سَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ قُطِعَ عَلَيْهِ فَيَبْنِي وَيُذْكَرُ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
الشرح: قوله: (باب إذا وقف في الطواف) أي هل ينقطع طوافه أو لا، وكأنه أشار بذلك إلى ما روي عن الحسن أن من أقيمت عليه الصلاة وهو في الطواف فقطعه أن يستأنفه ولا يبني على ما مضى، وخالفه الجمهور فقالوا يبني، وقيده مالك بصلاة الفريضة وهو قول الشافعي، وفي غيرها إتمام الطواف أولى فإن خرج بنى. وقال أبو حنيفة وأشهب يقطعه ويبني، واختار الجمهور قطعه للحاجة، ومال نافع طول القيام في الطواف بدعة. قوله: (وقال عطاء إلخ) وصل نحوه عبد الرزاق عن ابن جريج " قلت لعطاء الطواف الذي يقطعه علي الصلاة وأعتد به أيجزئ؟ قال نعم، وأحب إلي أن لا يعتد به. قال فأردت أن أركع قيل أن أتم سبعي، قال: لا، أوف سبعك إلا أن تمنع من الطواف " وقال سعيد بن منصور " حدثنا هشيم حدثنا عبد الملك عن عطاء أنه كان يقول في الرجل يطوف بعض طوافه ثم تحضر الجنازة يخرج فيصلي عليها ثم يرجع فيقضي ما بقي عليه من طوافه". قوله: (ويذكر نحوه عن ابن عمر) وصل نحوه سعيد بن منصور " حدثنا إسماعيل بن زكريا عن جميل بن زيد قال: رأيت ابن عمر طاف بالبيت فأقيمت الصلاة فصلى مع القوم، ثم قام فبني على ما مضى من طوافه". قوله: (وعبد الرحمن بن أبي بكر) وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء " أن عبد الرحمن بن أبي بكر طاف في إمارة عمرو بن سعيد على مكة - يعني في خلافة معاوية - فخرج عمرو إلى الصلاة، فقال له عبد الرحمن: انظرني حتى أنصرف على وتر، فانصرف على ثلاثة أطواف - يعني ثم صلى - ثم أتم ما بقي " وروى عبد الرزاق من وجه آخر عن ابن عباس قال " من بدت له حاجة وخرج إليها فليخرج على وتر من طوافه ويركع ركعتين " ففهم بعضهم منه أنه يجزئ عن ذلك ولا يلزمه الإتمام، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج عن عطاء " إن كان الطواف تطوعا وخرج في وتر فإنه يجزئ عنه " ومن طريق أبي الشعثاء أنه أقيمت الصلاة وقد طاف خمسة أطواف فلم يتم ما بقي. (تنبيه) : لم يذكر البخاري في الباب حديثا مرفوعا إشارة إلى أنه لم يجد فيه حديثا على شرطه، وقد أسقط ابن بطال من شرحه ترجمة الباب الذي يليه فصارت أحاديثه لترجمة " إذا وقف في الطواف " ثم استشكل إيراد كونه عليه الصلاة والسلام طاف أسبوعا وصلى ركعتين في هذا الباب، وأجاب بأنه يستفاد منه أنه عليه الصلاة والسلام لم يقف ولا جلس قي طوافه فكانت السنة فيه الموالاة. *3*باب صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُصَلِّي لِكُلِّ سُبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ إِنَّ عَطَاءً يَقُولُ تُجْزِئُهُ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فَقَالَ السُّنَّةُ أَفْضَلُ لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبُوعًا قَطُّ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ الشرح: قوله: (باب صلى النبي صلى الله عليه وسلم لسبوعه ركعتين) السبوع بضم المهملة والموحدة لغة قليلة في الأسبوع، قال ابن التين هو جمع سبع بالضم ثم السكون كبرد وبرود، ووقع في حاشية " الصحاح " مضبوطا بفتح أوله. قوله: (وقال نافع إلخ) وصله عبد الرزاق عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر أنه " كان يطوف بالبيت سبعا ثم يصلي ركعتين " وعن معمر عن أيوب عن نافع " أن ابن عمر كان يكره قرن الطواف ويقول: على كل سبع صلاة ركعتين، وكان لا يقرن". قوله: (وقال إسماعيل بن أمية) وصله ابن أبي شيبة مختصرا قال " حدثنا يحيي بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن الزهري قال: مضت السنة أن مع كل أسبوع ركعتين " ووصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بتمامه، وأراد الزهري أن يستدل على أن المكتوبة لا تجزئ عن ركعتي الطواف بما ذكره من أنه صلى الله عليه وسلم لم يطف أسبوعا قط إلا صلى ركعتين، وفي الاستدلال بذلك نظر لأن قوله " إلا صلى ركعتين " أعم من أن يكون نفلا أو فرضا، لأن الصبح ركعتان فيدخل في ذلك لكن الحيثية مرعية، والزهري لا يخفى عليه هذا القدر فلم يرد بقوله " إلا صلى ركعتين " أي من غير المكتوبة. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسوة حَسَنَةٌ قَالَ وَسَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ الشرح: قال "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا ثم صلى خلف المقام ركعتين " الحديث، وسيأتي الكلام عليه مستوفى في أبواب العمرة إن شاء الله تعالى. قوله: (وطاف بين الصفا والمروة) فيه تجوز، لأنه يسمى سعيا لا طوافا إذ حقيقة الطواف الشرعية فيه غير موجودة أو هي حقيقة لغوية. قوله: (قال وسألت) القائل هو عمرو بن دينار الراوي عن ابن عمر، ووجه الدلالة منه لمقصود الترجمة وهو أن القران بين الأسابيع خلاف الأولى من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وقد قال " خذوا عني مناسككم " وهذا قول أكثر الشافعية وأبي يوسف، وعن أبي حنيفة ومحمد يكره، وأجازه الجمهور بغير كراهة. وروى ابن أبي شيبة بإسناد جيد عن المسور بن مخرمة أنه " كان يقرن بين الأسابيع إذا طاف بعد الصبح والعصر، فإذا طلعت الشمس أو غربت صلى لكل أسبوع ركعتين " وقال بعض الشافعية: إن قلنا إن ركعتي الطواف واجبتان كقول أبي حنيفة والمالكية فلا بد من ركعتين لكل طواف. وقال الرافعي: ركعتا الطواف وإن قلنا بوجوبهما فليستا بشرط في صحة الطواف، لكن في تعليل بعض أصحابنا ما يقتضي اشتراطهما، وإذا قلنا بوجوبهما هل يجوز فعلهما عن قعود مع القدرة؟ فيه وجهان، أصحهما لا ولا يسقط بفعل فريضة كالظهر إذا قلنا بالوجوب، والأصح أنهما سنة كقول الجمهور. *3*باب مَنْ لَمْ يَقْرَبْ الْكَعْبَةَ وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَ وَيَرْجِعَ بَعْدَ الطَّوَافِ الْأَوَّلِ الشرح: قوله: (باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة) أي لم يطف تطوعا، ويقرب بضم الراء ويجوز كسرها. أورد فيه حديث ابن عباس في ذلك، وهو ظاهر فيما ترجم له، وهذا لا يدل على أن الحاج منع من الطواف قبل الوقوف، فلعله صلى الله عليه وسلم ترك الطواف تطوعا خشية أن يظن أحد أنه واجب، وكان يحب التخفيف على أمته، واجتزأ عن ذلك بما أخبرهم به من فضل الطواف بالبيت، ونقل عن مالك أن الحاج لا ينتفل بطواف حتى يتم حجه، وعنه الطواف بالبيت أفضل من صلاة النافلة لمن كان من أهل البلاد البعيدة وهو المعتمد. (تنبيه) : نقل ابن التين عن الداودي أن الطواف الذي طاقه النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة من فروض الحج ولا يكون إلا وبعده السعي. ثم ذكر ما يتعلق بالمتمتع، قال ابن التين: وقوله " من فروض الحج " ليس بصحيح لأنه كان مفردا والمفرد لا يجب عليه طواف القدوم لقدومه، وليس طواف القدوم للحج ولا هو فرض من فروضه، وهو كما قال. *3*باب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ وَصَلَّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَارِجًا مِنْ الْحَرَمِ الشرح: قوله: (باب من صلى ركعتي الطواف خارجا من المسجد) هذه الترجمة معقودة لبيان إجزاء صلاة ركعتي الطواف في أي موضع أراد الطائف وإن كان ذلك خلف المقام أفضل، وهو متفق عليه إلا في الكعبة أو الحجر، ولذلك عقبها بترجمة من صلى ركعتي الطواف خلف المقام. قوله: (وصلى عمر خارجا من الحرم) سيأتي شرحه في الباب الذي يلي الباب بعده. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْغَسَّانِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتْ الْخُرُوجَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ الشرح: قوله: (عن أم سلمة قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحدثني محمد بن حرب إلخ) هكذا عطف هذه على التي قبلها وساقه هنا على لفظ الرواية الثانية، وتجوز في ذلك فإن اللفظين مختلفان، وقد تقدم لفظ الرواية الأولى في " باب طواف النساء مع الرجال " ويأتي بعد بابين أيضا. قوله: (يحيى بن أبي زكريا الغساني) هو يحيى بن يحيى اشتهر باسمه واشتهر أبوه بكنيته، والغساني بغين معجمة وسين مهملة مشدودة نسبة إلى بني غسان، قال أبو علي الجياني: وقع لأبي الحسن القابسي في هذا الإسناد تصحيف في نسب يحيى فضبطه بعين مهملة ثم شين معجمة. وقال ابن التين: قيل هو العشاني بعين مهملة ثم معجمة خفيفة نسبة إلى بني عشانة، وقيل هو بالهاء يعني بلا نون نسبة إلى بني عشاه. قلت: وكل ذلك تصحيف، والأول هو المعتمد. قال ابن قرقول: رواه القابسي بمهملة ثم معجمة خفيفة وهو وهم. قوله: (عن هشام) هو ابن عروة. قوله: (عن عروة عن أم سلمة) كذا للأكثر، ووقع للأصيلي عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة، وقوله "عن زينب " زيادة في هذه الطريق فقد أخرجه أبو علي بن السكن عن علي بن عبد الله بن مبشر عن محمد بن حرب شيخ البخاري فيه ليس فيه زينب. وقال الدارقطني في " كتاب التتبع " في طريق يحيى بن أبي زكريا هذه: هذا منقطع، فقد رواه حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أمها أم سلمة ولم يسمعه عروة عن أم سلمة انتهى. ويحتمل أن يكون ذلك حديثا آخر فإن حديثها هذا في طواف الوداع كما بيناه قبل قليل، وأما هذه الرواية فذكرها الأثرم قال " قال لي أبو عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن زينب عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه يوم النحر بمكة. قال أبو عبد الله: هذا خطأ، فقد قال وكيع عن هشام عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافيه صلاة الصبح يوم النحر بمكة. قال: وهذا أيضا عجيب، ما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمكة؟ وقد سألت يحيى بن سعيد - يعني القطان - عن هذا فحدثني به عن هشام بلفظ أمرها أن توافي ليس فيه هاء. قال أحمد: وبين هذين فرق، فإذا عرف ذلك تبين التغاير بين القصتين، فإن إحداهما صلاة الصبح يوم النحر والأخرى صلاة صبح يوم الرحيل من مكة " وقد أخرج الإسماعيلي حديث الباب من طريق حسان بن إبراهيم وعلي بن هاشم ومحاضر بن المورع وعبدة بن سليمان، وهو عند النسائي أيضا من طريق عبدة كلهم عن هشام عن أبيه عن أم سلمة وهذا هو المحفوظ، وسماع عروة من أم سلمة ممكن فإنه أدرك من حياتها نيفا وثلاثين سنة وهو معها في بلد واحد، وقد تقدم الكلام على حديث أم سلمة في " باب طواف النساء مع الرجال " وموضع الحاجة منه هنا قوله في آخره " فلم يصل حتى خرجت " أي من المسجد أو من مكة، فدل على جواز صلاة الطواف خارجا من المسجد إذ لو كان ذلك شرطا لازما لما أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وفي رواية حسان عند الإسماعيلي " إذا قامت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك من وراء الناس وهم يصلون. قالت ففعلت ذلك ولم أصل حتى خرجت " أي فصليت وبهذا ينطبق الحديث مع الترجمة، وفيه رد على من قال يحتمل أن تكون أكملت طوافها قبل فراغ صلاة الصبح ثم أدركتهم في الصلاة فصلت معهم صلاة الصبح ورأت أنها تجزئها عن ركعتي الطواف، وإنما لم يبت البخاري الحكم في هذه المسألة لاحتمال كون ذلك يختص بمن كان له عذر لكون أم سلمة كانت شاكية ولكون عمر إنما فعل ذلك لكونه طاف بعد الصبح وكان لا يرى التنفل بعده مطلقا حتى تطلع الشمس كما سيأتي واضحا بعد باب، واستدل به على أن من نسي ركعتي الطواف قضاهما حيث ذكرهما من حل أو حرم وهو قول الجمهور، وعن الثوري يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم، وعن مالك إن لم يركعهما حتى تباعد ورجع إلى بلده فعليه دم، قال ابن المنذر: ليس ذلك أكثر من صلاة المكتوبة وليس على من تركها غير قضائها حيث ذكرها. *3*باب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ الشرح: قوله: (باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام) أورد فيه حديث ابن عمر الماضي قبل بابين، وسيأتي الكلام عليه في أبواب العمرة، وهو ظاهر فيما ترجم له. وفي حديث جابر الطويل في صفة حجة الوداع عند مسلم " طاف ثم تلا (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فصلى عند المقام ركعتين " قال ابن المنذر: احتملت قراءته أن تكون صلاة الركعتين خلف المقام فرضا، لكن أجمع أهل العلم على أن الطائف تجزئه ركعتا الطواف حيث شاء، إلا شيئا ذكر عن مالك في أن من صلى ركعتي الطواف الواجب في الحجر يعيد، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بذلك مستوفى في أوائل كتاب الصلاة في " باب قول الله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى". *3*باب الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ وَطَافَ عُمَرُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِي طُوًى الشرح: قوله: (باب الطواف بعد الصبح والعصر) أي ما حكم صلاة الطواف حينئذ؟ وقد ذكر فيه آثارا مختلفة، ويظهر من صنيعه أنه يختار فيه التوسعة، وكأنه أشار إلى ما رواه الشافعي وأصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما من حديث جبير بن مطعم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمر الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار " وإنما لم يخرجه لأنه ليس على شرطه، وقد أورد المصنف أحاديث تتعلق بصلاة الطواف، ووجه تعلقها بالترجمة إما من جهة أن الطواف صلاة فحكمهما واحد، أو من جهة أن الطواف مستلزم للصلاة التي تشرع بعده وهو أظهر، وأشار به إلى الخلاف المشهور في المسألة، قال ابن عبد البر: كره الثوري والكوفيون الطواف بعد العصر والصبح، قالوا فإن فعل فليؤخر الصلاة، ولعل هذا عند بعض الكوفيين وإلا فالمشهور عند الحنفية أن الطواف لا يكره وإنما تكره الصلاة، قال ابن المنذر: رخص في الصلاة بعد الطواف في كل وقت جمهور الصحابة ومن بعدهم، ومنهم من كره ذلك أخذا بعموم النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر وهو قول عمر والثوري وطائفة وذهب إليه مالك وأبو حنيفة. وقال أبو الزبير: رأيت البيت يخلو بعد هاتين الصلاتين ما يطوف به أحد. وروى أحمد بإسناد حسن عن أبي الزبير عن جابر قال " كنا نطوف فنمسح الركن الفاتحة والخاتمة، ولم نكن نطوف بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس " فال " وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تطلع الشمس بين قرني شيطان". قوله: (وكان ابن عمر رضي الله عنها يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس) وصله سعيد بن منصور من طريق عطاء " إنهم صلوا الصبح بغلس، وطاف ابن عمر بعد الصبح سبعا ثم التفت إلى أفق السماء فرأى أن عليه غلسا، قال: فاتبعته حتى أنظر أي شيء يصنع فصلى ركعتين " قال وحدثنا داود العطار عن عمرو بن دينار " رأيت ابن عمر طاف سبعا بعد الفجر وصلى ركعتين وراء المقام " هذا إسناد صحيح، وهذا جار على مذهب ابن عمر في اختصاص الكراهة بحال طلوع الشمس وحال غروبها، وقد تقدم ذلك عنه صريحا في أبواب المواقيت، وروى الطحاوي من طريق مجاهد قال " كان ابن عمر يطوف بعد العصر ويصلي ما كانت الشمس بيضاء حية نقية، فإذا اصفرت وتغيرت طاف طوافا واحدا حتى يصلي المغرب، ثم يصلي ركعتين، وفي الصبح نحو ذلك " وقد جاء عن ابن عمر أنه كان لا يطوف بعد هاتين الصلاتين، قال سعيد بن أبي عروبة في " المناسك ": عن أيوب عن نافع " أن ابن عمر كان لا يطوف بعد صلاة العصر ولا بعد صلاة الصبح"، وأخرجه ابن المنذر من طريق حماد عن أيوب أيضا، ومن طريق أخرى عن نافع " كان ابن عمر إذا طاف بعد الصبح لا يصلي حتى تطلع الشمس، وإذا طاف بعد العصر لا يصلي حتى تغرب الشمس " ويجمع بين ما اختلف عنه في ذلك بأنه كان في الأغلب يفعل ذلك، والذي يعتمد من رأيه عليه التفصيل السابق. قوله: (وطاف عمر بعد الصبح فركب حتى صلى الركعتين بذي طوى) وصله مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر به، وروى الأثرم عن أحمد عن سفيان عن الزهري مثله، إلا أنه قال " عن عروة " بدل حميد، قال أحمد: أخطأ فيه سفيان، قال الأثرم: وقد حدثني به نوح بن يزيد من أصله عن إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري كما قال سفيان انتهى. وقد رويناه بعلو في " أمالي ابن منده " من طريق سفيان ولفظه " أن عمر طاف بعد الصبح سبعا ثم خرج إلى المدينة، فلما كان بذي طوى وطلعت الشمس صلى ركعتين". الحديث: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نَاسًا طَافُوا بِالْبَيْتِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى الْمُذَكِّرِ حَتَّى إِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ قَامُوا يُصَلُّونَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَعَدُوا حَتَّى إِذَا كَانَتْ السَّاعَةُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ قَامُوا يُصَلُّونَ الشرح: قوله: (عن حبيب) هو المعلم كما جزم به المزي في " الأطراف " وقد ضاق على الإسماعيلي وأبي نعيم مخرجه فتركه الإسماعيلي، وأخرجه أبو نعيم من طريق البخاري هذه، والحسن بن عمر البصري شيخه جزم المزي بأنه الحسن بن عمر بن شقيق وهو من أهل البصرة وكان يتجر إلى بلخ فكان يقال له البلخي، وسيأتي له ذكر في كتاب اللباس. قوله: (ثم قعدوا إلى المذكر) بالمعجمة وتشديد الكاف أي الواعظ، وضبطه ابن الأثير في " النهاية " بالتخفيف بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه قال: وأرادت موضع الذكر، إما الحجر، وإما الحجر. قوله: (الساعة التي تكره فيها الصلاة) أي التي عند طلوع الشمس، وكأن المذكورين كانوا يتحرون ذلك الوقت فأخروا الصلاة إليه قصدا فلذلك أنكرت عليهم عائشة هذا إن كانت ترى أن الطواف سبب لا تكره مع وجوده الصلاة في الأوقات المنهية، ويحتمل أنها كانت تحمل النهي على عمومه، ويدل لذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن عبد الملك عن عطاء عن عائشة أنها قالت " إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو العصر فطف، وآخر الصلاة حتى تغيب الشمس أو حتى تطلع فصل لكل أسبوع ركعتين " وهذا إسناد حسن. الحديث: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الزَّعْفَرَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ قَالَ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَطُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَيُخْبِرُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا إِلَّا صَلَّاهُمَا الشرح: قوله: (قال عبد العزيز) يعني بالإسناد المذكور وليس بمعلق، وكأن عبد الله بن الزبير استنبط جواز الصلاة بعد الصبح من جواز الصلاة بعد العصر فكان يفعل ذلك بناء على اعتقاده أن ذلك على عمومه، وقد تقدم الكلام على ذلك مبسوطا في أواخر المواقيت قبيل الأذان، وبينا هناك أن عائشة أخبرت أنه صلى الله عليه وسلم لم يتركهما وأن ذلك من خصائصه، أعني المواظبة على ما يفعله من النوافل لا صلاة الراتبة في وقت الكراهة فأغنى ذلك عن أعادته هنا، والذي يظهر أن ركعتي الطواف تلتحق بالرواتب. والله أعلم. |
08-14-2013, 11:58 AM | #497 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الْمَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا الشرح:
قوله: (باب المريض يطوف راكبا) أورد فيه حديث ابن عباس وحديث أم سلمة، والثاني ظاهر فيما ترجم له لقولها فيه " أني اشتكي " وقد تقدم الكلام عليهما في " باب إدخال البعير المسجد للعلة " في أواخر أبواب المساجد، وأن المصنف حمل سبب طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا على أنه كان عن شكوى، وأشار بذلك إلى ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس أيضا بلفظ " قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته " ووقع في حديث جابر عند مسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس وليسألوه " فيحتمل أن يكون فعل ذلك للأمرين، وحينئذ لا دلالة فيه على جواز الطواف راكبا لغير عذر، وكلام الفقهاء يقتضي الجواز إلا أن المشي أولى، والركوب مكروه تنزيها، والذي يترجح المنع لأن طوافه صلى الله عليه وسلم وكذا أم سلمة كان قبل أن يحوط المسجد، ووقع في حديث أم سلمة " طوفي من وراء الناس " وهذا يقتضي منع الطواف في المطاف، وإذا حوط المسجد امتنع داخله، إذ لا يؤمن التلويث فلا يجوز بعد التحويط، بخلاف ما قبله فإنه كان لا يحرم التلويث كما في السعي، وعلى هذا فلا فرق في الركوب - إذا ساغ - بين البعير والفرس والحمار، وأما طواف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا فللحاجة إلى أخذ المناسك عنه ولذلك عده بعض من جمع خصائصه فيها، واحتمل أيضا أن تكون راحلته عصمت من التلويث حينئذ كرامة له فلا يقاس غيره عليه، وأبعد من استدل به على طهارة بول البعير وبعره، وقد تقدم حديث ابن عباس قبل أبواب، وزاد أبو داود في آخر حديثه " فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين " واستدل به للتكبير عند الركن، وتقدم الكلام على حديث أم سلمة أيضا. (تنبيه) : خالد هو الطحان، وخالد شيخه هو الحذاء. *3*باب سِقَايَةِ الْحَاجِّ الشرح: قوله: (باب سقاية الحاج) : قال الفاكهي: حدثنا أحمد بن محمد حدثنا الحسن بن محمد بن عبيد الله حدثنا ابن جريج عن عطاء قال: سقاية الحاج زمزم. وقال الأزرقي: كان عبد مناف يحمل الماء في الروايا والقرب إلى مكة ويسكبه في حياض من أدم بفناء الكعبة للحجاج، ثم فعله ابنه هاشم بعده، ثم عبد المطلب؛ فلما حفر زمزم كان يشتري الزبيب فينبذه في ماء زمزم ويسقي الناس. قال ابن إسحاق: لما ولي قصي بن كلاب أمر الكعبة كان إليه الحجابة والسقاية واللواء والرفادة ودار الندوة، ثم تصالح بنوه على أن لعبد مناف السقاية والرفادة والبقية للأخوين. ثم ذكر نحو ما تقدم وزاد: ثم ولي السقاية من بعد عبد المطلب ولده العباس - وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا - فلم تزل بيده حتى قام الإسلام وهي بيده، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فهي اليوم إلى بني العباس. وروى الفاكهي من طريق الشعبي قال " تكلم العباس وعلي وشيبة بن عثمان في السقاية والحجابة، فأنزل الله عز وجل (أجعلتم سقاية الحاج) الآية إلى قوله: (حتى يأتي الله بأمره) قال: حتى تفتح مكة". ومن طريق ابن أبي مليكة عن ابن عباس " أن العباس لما مات أراد علي أن يأخذ السقاية، فقال له طلحة: أشهد لرأيت أباه يقوم عليها، وأن أباك أبا طالب لنازل في إبله بالأراك بعرفة. قال فكف علي عن السقاية". ومن طريق ابن جريج قال " قال العباس: يا رسول الله. لو جمعت لنا الحجابة والسقاية، فقال: إنما أعطيتكم ما ترزؤون ولم أعطكم ما ترزؤون " الأول بضم أوله وسكون الراء وفتح الزاي والثاني بفتح أوله وضم الزاي، أي أعطيتكم ما ينقصكم لا ما تنقصون به الناس. وروى الطبراني والفاكهي حديث السائب المخزومي أنه كان يقول " اشربوا من سقاية العباس فإنه من السنة"، ثم ذكر البخاري في الباب حديثين: أحدهما حديث ابن عمر في الإذن للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى، وسيأتي الكلام عليه في أواخر صفة الحج. ثانيهما حديث ابن عباس في قصة شربه صلى الله عليه وسلم من سراب السقاية. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فَاسْتَسْقَى فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا فَضْلُ اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا فَقَالَ اسْقِنِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ قَالَ اسْقِنِي فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا فَقَالَ اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ ثُمَّ قَالَ لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ يَعْنِي عَاتِقَهُ وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ الشرح: قوله: (حدثنا إسحاق) هو الواسطي، وقد مضى هذا الإسناد بعينه في أول الباب الذي قبله. قوله: (فاستسقى) أي طلب الشرب. والفضل هو ابن العباس أخو عبد الله، وأمه هي أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية، وهي والدة عبد الله أيضا. قوله: (إنهم يجعلون أيديهم فيه) في رواية الطبراني من طريق يزيد بن أبي زياد عن عكرمة في هذا الحديث " أن العباس قال له: إن هذا قد مرث، أفلا أسقيك من بيوتنا؟ قال لا، ولكن اسقني مما يشرب منه الناس". قوله: (قال اسقني) زاد أبو علي بن السكن في روايته: فناوله العباس الدلو. قوله: (فشرب منه) في رواية يزيد المذكورة " فأتى به فذاقه فقطب، ثم دعا بماء فكسره. فال: وتقطيبه إنما كان لحموضته، وكسره بالماء ليهون عليه شربه " وعرف بهذا جنس المطلوب شربه إذ ذاك. وقد أخرج مسلم من طريق بكر بن عبد الله المزني قال " كنت جالسا مع ابن عباس فقال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه أسامة فاستسقى، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة وقال: أحسنتم كذا فاصنعوا". قوله: (لولا أن تغلبوا) بضم أوله على البناء للمجهول، قال الداودي أي إنكم لا تتركوني أستقي، ولا أحب أن أفعل بكم ما تكرهون فتغلبوا، كذا قال. وقال غيره: معناه لولا أن تقع لكم الغلبة بأن يجب عليكم ذلك بسبب فعلي. وقيل: معناه لولا أن يغلبكم الولاة عليها حرصا على حيازة هذه المكرمة. والذي يظهر أن معناه لولا أن تغلبكم الناس على هذا العمل إذا رأوني قد عملته لرغبتهم في الاقتداء بي فيغلبوكم بالمكاثرة لفعلت. ويؤيد هذا ما أخرج مسلم من حديث جابر " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن تغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم " واستدل بهذا على أن سقاية الحاج خاصة ببني العباس، وأما الرخصة في المبيت ففيها أموال للعلماء هي أوجه للشافعية: أصحها لا يختص بهم ولا بسقايتهم، واستدل به الخطابي على أن أفعاله للوجوب، وفيه نظر. وفال ابن بزيزة: أراد بقوله " لولا أن تغلبوا " قصر السقاية عليهم وأن لا يشاركوا فيها، واستدل به على أن الذي أرصد للمصالح العامة لا يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على آله تناوله، لأن العباس أرصد سقاية زمزم لذلك، وقد شرب منها النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن المنير في الحاشية: يحمل الأمر في مثل هذا على أنها مرصدة للنفع العام فتكون للغني في معني الهدية، وللفقير صدقة. وفيه أنه لا يكره طلب السقي من الغير، ولا رد ما يعرض على المرء من الإكرام إذا عارضته مصلحة أولى منه، لأن رده لما عرض عليه العباس مما يؤتى به من نبيذ لمصلحة التواضع التي ظهرت من شربه مما يشرب منه الناس. وفيه الترغيب في سقي الماء خصوصا ماء زمزم. وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحرص أصحابه على الاقتداء به وكراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات. قال ابن المنير في الحاشية: وفيه أن الأصل في الأشياء الطهارة لتناوله صلى الله عليه وسلم من الشراب الذي غمست فيه الأيدي. *3*باب مَا جَاءَ فِي زَمْزَمَ وَقَالَ عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا افْتَحْ قَالَ مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ الشرح: قوله: (باب ما جاء في زمزم) كأنه لم يثبت عنده في فضلها حديث على شرطه صريحا، وقد وقع في مسلم من حديث أبي ذر " أنها طعام طعم " زاد الطيالسي من الوجه الذي أخرجه منه مسلم " وشفاء سقم " وفي المستدرك من حديث ابن عباس مرفوعا " ماء زمزم لما شرب له " رجاله موثقون، إلا أنه اختلف في إرساله ووصله وإرساله أصح، وله شاهد من حديث جابر، وهو أشهر منه أخرجه الشافعي وابن ماجه ورجاله ثقات إلا عبد الله بن المؤمل المكي فذكر العقيلي أنه تفرد به، لكن ورد من رواية غيره عند البيهقي من طريق إبراهيم بن طهمان ومن طريق حمزة الزيات كلاهما عن أبي الزبير بن سعيد عن جابر، ووقع في " فوائد ابن المقري " من طريق سويد بن سعيد عن ابن المبارك عن ابن أبي الموالي عن ابن المنكدر عن جابر، وزعم الدمياطي أنه على رسم الصحيح وهو كما قال من حيث الرجال إلا أن سويدا وإن أخرج له مسلم فإنه خلط وطعنوا فيه وقد شذ بإسناده، والمحفوظ عن ابن المبارك عن ابن المؤمل، وقد جمعت في ذلك جزءا، والله أعلم. وسميت زمزم لكثرتها، يقال ماء زمزم أي كثير، وقيل لاجتماعها نقل عن ابن هشام. وقال أبو زيد: الزمزمة من الناس خمسون ونحوهم، وعن مجاهد: إنما سميت زمزم لأنها مشتقة من الهزمة والهزمة الغمز بالعقب في الأرض، أخرجه الفاكهي بإسناد صحيح عنه، وقيل لحركتها قاله الحربي، وقيل لأنها زمت بالميزان لئلا تأخذ يمينا وشمالا، وستأتي قصتها في شأن إسماعيل وهاجر في أحاديث الأنبياء وقصة حفر عبد المطلب لها في أيام الجاهلية إن شاء الله تعالى. قوله: (وقال عبدان) سيأتي في أحاديث الأنبياء أتم منه بلفظ " وقال لي عبدان " وأورده هنا مختصرا، وقد وصله الجوزقي بتمامه عن الدغولي عن محمد بن الليث عن عبدان بطوله، وقد تقدم الكلام عليه في أوائل الصلاة. والمقصود منه هنا قوله " ثم غسله بماء زمزم". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدَّثَهُ قَالَ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ قَالَ عَاصِمٌ فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا عَلَى بَعِيرٍ الشرح: قوله: (حدثنا محمد) في رواية أبي ذر هو ابن سلام، والفزاري هو مروان بن معاوية وغلط من قال هو أبو إسحاق، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، قال ابن بطال وغيره: أراد البخاري أن الشرب من ماء زمزم من سنن الحج. وفي " المصنف " عن طاوس قال " شرب نبيذ السقاية من تمام الحج " وعن عطاء " لقد أدركته وإن الرجل ليشربه فتلزق شفتاه من حلاوته " وعن ابن جريج عن نافع " أن ابن عمر لم يكن يشرب من النبيذ في الحج " فكأنه لم يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب منه لأنه كان كثير الاتباع للآثار أو خشي أن يظن الناس أن ذلك من تمام الحج كما نقل عن طاوس. قوله: (فحلف عكرمة ما كان يومئذ إلا على بعير) عند ابن ماجه من هذا الوجه قال عاصم: فذكرت ذلك لعكرمة فحلف بالله ما فعل - أي ما شرب قائما - لأنه كان حينئذ راكبا انتهى. وقد تقدم أن عند أبي داود من رواية عكرمة عن ابن عباس أنه أناخ فصلى ركعتين، فلعل شربه من زمزم كان بعد ذلك، ولعل عكرمة إنما أنكر شربه قائما لنهيه عنه، لكن ثبت عن علي عند البخاري " أنه صلى الله عليه وسلم شرب قائما " فيحمل على بيان الجواز. *3*باب طَوَافِ الْقَارِنِ الشرح: قوله: (باب طواف القارن) أي هل يكتفي بطواف واحد أو لا بد من طوافين، أورد فيه حديث عائشة في حجة الوداع وفيه " وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا " وحديث ابن عمر في حجة عام نزل الحجاج بابن الزبير أورده من وجهين في كل منهما أنه: جمع بين الحج والعمرة أهل بالعمرة أولا ثم أدخل عليها الحج وطاف لهما طوافا واحدا كما في الطريق الأولى، وفي الطريق الثانية: ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، وفي هذه الرواية رفع احتمال قد يؤخذ من الرواية الأولى أن المراد بقوله طوافا واحدا أي طاف لكل منهما طوافا يشبه الطواف الذي للآخر، والحديثان ظاهران في أن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد كالمفرد، وقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر أصرح من سياق حديثي الباب في الرفع ولفظه " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد " وأعله الطحاوي بأن الدراوردي أخطأ فيه وأن الصواب أنه موقوف، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب والليث وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما في الباب من أن ذلك وقع لابن عمر وأنه قال " أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك " لا أنه روى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم اه، وهو تعليل مردود فالدراوردي صدوق، وليس ما رواه مخالفا لما رواه غيره، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين. واحتج الحنفية بما روي عن علي أنه " جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل " وطرقه عن علي عند عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه. وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك وفيه الحسن بن عمارة وهو متروك، والمخرج في الصحيحين وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد. وقال البيهقي إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين فيحمل على طواف القدوم وطواف الإفاضة، وأما السعي مرتين فلم يثبت. وقال ابن حزم: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لا عن أحد من أصحابه في ذلك شيء أصلا. قلت: لكن روى الطحاوي وغيره مرفوعا عن علي وابن مسعود ذلك بأسانيد لا بأس بها إذا اجتمعت، ولم أر في الباب أصح من حديثي ابن عمر وعائشة المذكورين في هذا الباب، وقد أجاب الطحاوي عن حديث ابن عمر بأنه اختلف عليه في كيفية إحرام النبي صلى الله عليه وسلم وإن الذي يظهر من مجموع الروايات عنه أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا بحجة ثم فسخها فصيرها عمرة ثم تمتع بها إلى الحج، كذا قال الطحاوي مع جزمه قبل ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا. وهب أن ذلك كما قال فلم لا يكون قول ابن عمر " هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي أمر من كان قارنا أن يقتصر على طواف واحد، وحديث ابن عمر المذكور ناطق بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا فإنه مع قوله فيه تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف فعل القران حيث قال " بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ": وهذا من صور القران، وغايته أنه سماه تمتعا لأن الإحرام عنده بالعمرة في أشهر الحج كيف كان يسمى تمتعا. ثم أجاب عن حديث عائشة بأنها أرادت بقولها " وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوافا واحدا " يعني الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج لأن حجتهم كانت مكية، والحجة المكية لا يطاف لها إلا بعد عرفة، قال: والمراد بقولها " جمعوا بين الحج والعمرة " جمع متعة لا جمع قران انتهى. وإني لكثير التعجب منه في هذا الموضع كيف ساغ له هذا التأويل، وحديث عائشة مفصل للحالتين فإنها صرحت بفعل من تمتع ثم من قرن حيث قالت " فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى " فهؤلاء أهل التمتع ثم قالت " وأما الذين جمعوا إلخ " فهؤلاء أهل القران، وهذا أبين من أن يحتاج إلى إيضاح والله المستعان. وقد روى مسلم من طريق أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول " لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا " ومن طريق طاوس عن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يسعك طوافك لحجك وعمرتك " وهذا صريح في الإجزاء وإن كان العلماء اختلفوا فيما كانت عائشة محرمة به، قال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل قال " حلف طاوس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافا واحدا " وهذا إسناد صحيح، وفيه بيان ضعف ما روي عن علي وابن مسعود من ذلك، وقد روى آل بيت علي عنه مثل الجماعة، قال جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أنه كان يحفظ عن علي " للقارن طواف واحد " خلاف ما يقول أهل العراق، ومما يضعف ما روي عن علي من ذلك أن أمثل طرقه عنه رواية عبد الرحمن بن أذينة عنه وقد ذكر فيها أنه " يمتنع على من ابتدأ الإهلال بالحج أن يدخل عليه العمرة، وأن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين " والذين احتجوا بحديثه لا يقولون بامتناع إدخال العمرة على الحج، فإن كانت الطريق صحيحة عندهم لزمهم العمل بما دلت عليه وإلا فلا حجة فيها. وقال ابن المنذر: احتج أبو أيوب من طريق النضر بأنا أجزنا جميعا للحج والعمرة سفرا واحدا وإحراما واحدا وتلبية واحدة فكذلك يجزي عنهما طواف واحد وسعي واحد لأنهما خالفا في ذلك سائر العبادات. وفي هدا القياس مباحث كثيرة لا نطيل بها. واحتج غيره بقوله صلى الله عليه وسلم "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " وهو صحيح كما سلف فدل على أنها لا تحتاج بعد أن دخلت فيه إلى عمل آخر غير عمله، والحق أن المتبع في ذلك السنة الصحيحة وهي مستغنية عن غيرها، وقد تقدم الكلام على بقية حديث عائشة، وسيأتي الكلام على حديث ابن عمر في أبواب المحصر إن شاء الله تعالى، وننبه هناك على اختلاف الرواية فيه. الحديث: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دَخَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَظَهْرُهُ فِي الدَّارِ فَقَالَ إِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ فَيَصُدُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ فَلَوْ أَقَمْتَ فَقَالَ قَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسوة حَسَنَةٌ ثُمَّ قَالَ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِي حَجًّا قَالَ ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا الشرح: قوله: (لا آمن) كذا للأكثر بالمد وفتح الميم الخفيفة أي أخاف، وللمستملي " لا أيمن " بياء ساكنة بين الهمزة والميم فقبل إنها إمالة، وقيل لغة تميمية وهي عندهم بكسر الهمزة. قوله: (فإن حيل) كذا للأكثر، وللكشميهني " وأن يحل " بضم الياء وفتح المهملة واللام ساكنة، وقوله في الطريق الثانية " بطوافه الأول " أي الذي طافه يوم النحر للإفاضة، وتوهم بعضهم أنه أراد طواف القدوم فحمله على السعي. وقال ابن عبد البر: فبه حجة لمالك في قوله أن طواف القدوم إذا وصل بالسعي يجزئ عن طواف الإفاضة لمن تركه جاهلا أو نسيه حتى رجع إلى بلده وعليه الهدي، قال: ولا أعلم أحدا قال به غيره وغير أصحابه، وتعقب بأنه إن حمل قوله " طوافه الأول " على طواف القدوم فإنه أجزأ عن طواف الإفاضة كان ذلك دالا على الإجزاء مطلقا ولو تعمده لا بقيد الجهل والنسيان لا إذا حملنا قوله طوافه الأول على طواف الإفاضة يوم النحر أو على السعي، ويؤيد التأويل الثاني حديث جابر عند مسلم " لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول " وهو محمول على ما حمل عليه حديث ابن عمر المذكور والله أعلم. (تنبيه) : وقع هنا عقب الطريق الثانية لحديث ابن عمر المذكور في نسخة الصغاني تعلية السند المذكور لبعض الرواة ولفظه: قال أبو إسحاق حدثنا قتيبة ومحمد بن رمح قالا حدثنا الليث مثله، وأبو إسحاق هذا إن كان هو المستملي فقد سقط بينه وبين قتيبة وابن رمح رجل وإن كان غيره فيحتمل أن يكون إبراهيم بن معفل النسفي الراوي عن البخاري والله أعلم. |
08-14-2013, 12:00 PM | #498 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ الشرح:
قوله: (باب الطواف على وضوء) أورد فيه حديث عائشة " أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم أنه توضأ ثم طاف " الحديث بطوله، وليس فيه دلالة على الاشتراط إلا إذا انضم إليه قوله صلى الله عليه وسلم "خذوا عني مناسككم"، وباشتراط الوضوء للطواف قال الجمهور، وخالف فيه بعض الكوفيين، ومن الحجة عليهم قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت " غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " وسيأتي بيان الدلالة منه بعد بابين. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَأَيْتُهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ فَلَا يَسْأَلُونَهُ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَا يَحِلُّونَ وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لَا تَبْتَدِئَانِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُمَا لَا تَحِلَّانِ وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بِعُمْرَةٍ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا الشرح: قوله: (ما كان يبدؤون بشيء حين يضعون أقدامهم من الطواف بالبيت) قال ابن بطال: لا بد من زيادة لفظ " أول " بعد لفظ " أقدامهم " وأجاب الكرماني بأن معناه ما كانوا يبدؤون بشيء آخر حين يضعون أقدامهم في المسجد لأجل الطواف انتهى، وحاصله أنه لم يتعين حذف لفظ أول بل يجوز أن يكون الحذف في موضع آخر لكن الأول أولى لأن الثاني يحتاج إلى جعل من بمعنى من أجل وهو قليل، وأيضا فلفظ " أول " قد ثبت في بعض الروايات وثبت أيضا في مكان آخر من الحديث نفسه ووقع في رواية الكشميهني " حتى يضعوا " بدل " حين يضعون " وتوجيهه واضح. قوله: (ثم إنهما لا تحلان) أي سواء كان إحرامهما بالحج وحده أو بالقران خلافا لمن قال أن من حج مفردا فطاف حل بذلك كما تقدم عن ابن عباس. وقوله: " أمي " يعني أسماء بنت أبي بكر، وخالته هي عائشة، وقد تقدم الكلام على فوائد هذا الحديث في " باب من طاف إذا قدم". (تنبيه) : قال الداودي ما ذكر من حج عثمان هو من كلام عروة، وما قبله من كلام عائشة. وقالا أبو عبد الملك: منتهى حديث عائشة عند قوله " ثم لم تكن عمرة " ومن قوله " ثم حج أبو بكر إلخ " من كلام عروة انتهى، فعلى هذا يكون بعض هذا منقطعا لأن عروة لم يدرك أبا بكر ولا عمر، نعم أدرك عثمان، وعلى قول الداودي يكون الجميع متصلا وهو الأظهر. *3*باب وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الشرح: قوله: (باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله) أي وجوب السعي بينهما مستفاد من كونهما جعلا من شعائر الله قاله ابن المنير في الحاشية، وتمام هذا نقل أهل اللغة في تفسير الشعائر قال الأزهري: الشعائر المقالة التي ندب الله إليها وأمر بالقيام عليها. وقال الجوهري: الشعائر أعمال الحج وكل ما جعل علما لطاعة الله. ويمكن أن يكون الوجوب مستفادا من قول عائشة " ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة " وهو في بعض طرق حديثها المذكور في هذا الباب عند مسلم، واحتج ابن المنذر للوجوب بحديث صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراه - بكسر المثناة وسكون: الجيم بعدها راء ثم ألف ساكنة ثم هاء - وهي إحدى نساء بني عبد الدار - قالت " دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي، وسمعته يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " أخرجه الشافعي وأحمد وغيرهما، وفي إسناد هذا الحديث عبد الله بن المؤمل وفيه ضعف، ومن ثم قال ابن المنذر: إن ثبت فهو حجة في الوجوب. قلت: له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة، وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى وإذا انضمت إلى الأولى قويت، واختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها به، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة، فقد وقع عند الدارقطني عنها " أخبرتني نسوة من بني عبد الدار " فلا يضره الاختلاف، والعمدة في الوجوب قوله صلى الله عليه وسلم "خذوا عني مناسككم"، واستدل بعضهم بحديث أبي موسى في إهلاله، وقد تقدم في أبواب المواقيت وفيه " طف بالبيت وبين الصفا والمروة " واختلف أهل العلم في هذا: فالجمهور قالوا هو ركن لا يتم الحج بدونه، وعن أبي حنيفة واجب يجبر بالدم، وبه قال الثوري في الناسي لا في العامد، وبه قال عطاء، وعنه أنه سنة لا يجب بتركه شيء، وبه قال أنس فيما نقله ابن المنذر، واختلف عن أحمد كهذه الأقوال الثلاثة، وعند الحنفية تفصيل فيما إذا ترك بعض السعي كما هو عندهم في الطواف بالبيت، وأغرب ابن العربي فحكى الإجماع على أن السعي ركن في العمرة، وإنما الاختلاف في الحج. وأغرب الطحاوي فقال في كلام له على المشعر الحرام: قد ذكر الله أشياء في الحج لم يرد بذكرها إيجابها في قول أحد من الأمة من ذلك قوله: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية، وكل أجمع على أنه لو حج ولم يطوف بهما أن حجه قد تم وعليه دم. وقد أطنب ابن المنير في الرد عليه في حاشيته على ابن بطال. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرْ الصَّفَا فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَسْمَعُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ الشرح: قوله: (فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة إلخ) الجواب محصله أن عروة احتج للإباحة باقتصار الآية على رفع الجناح فلو كان واجبا لما اكتفى بذلك لأن رفع الإثم علامة المباح، ويزداد المستحب بإثبات الأجر، ويزداد الوجوب عليهما بعقاب التارك، ومحل جواب عائشة أن الآية ساكتة عن الوجوب وعدمه مصرحة برفع الإثم عن الفاعل، وأما المباح فيحتاج إلى رفع الإثم عن التارك، والحكمة في التعبير بدلك مطلقة جواب السائلين لأنهم توهموا من كونهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية أنه لا يستمر في الإسلام فخرج الجواب مطابقا لسؤالهم، وأما الوجوب فيستفاد من دليل آخر، ولا مانع أن يكون الفعل واجبا ويعتقد إنسان امتناع إيقاعه على صفة مخصوصة فيقال له لا جناح عليك في ذلك، ولا يستلزم ذلك نفي الوجوب، ولا يلزم من نفي الإثم عن الفاعل نفي الإثم عن التارك، فلو كان المراد مطلق الإباحة لنفي الإثم عن التارك، وقد وقع في بعض الشواذ باللفظ الذي قالت عائشة أنها لو كانت للإباحة لكانت كذلك حكاه الطبري وابن أبي داود في " المصاحف " وابن المنذر وغيرهم عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس، وأجاب الطبري بأنها محمولة على القراءة المشهورة و " لا " زائدة، وكذا قال الطحاوي. وقال غيره: لا حجة في الشواذ إذا خالفت المشهور. وقال الطحاوي أيضا: لا حجة لمن قال إن السعي مستحب بقوله (فمن تطوع خيرا) لأنه راجع إلى أصل الحج والعمرة لا إلى خصوص السعي لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع والله أعلم. قوله: (يهلون) أي يحجون. قوله: (لمناة) بفتح الميم والنون الخفيفة صنم كان في الجاهلية. وقال ابن الكلبي: كانت صخرة نصبها عمرو بن لحي لهذيل وكانوا يعبدونها، والطاغية صفة لها إسلامية. قوله: (بالمشلل) بضم أوله وفتح المعجمة ولامين الأولى مفتوحة مثقلة هي الثنية المشرفة على قديد، زاد سفيان عن الزهري " بالمشلل من قديد " أخرجه مسلم وأصله للمصنف كما سيأتي في تفسير النجم، وله في تفسير البقرة من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال " قلت لعائشة وأنا يومئذ حديث السن - فذكر الحديث وفيه - كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد " أي مقابله، وقديد بقاف مصغر قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه قاله أبو عبيد البكري. قوله: (فكان من أهل يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة) وقوله بعد ذلك (إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة) ظاهره أنهم كانوا في الجاهلية لا يطوفون بين الصفا والمروة ويقتصرون على الطواف بمناة فسألوا عن حكم الإسلام في ذلك، ويصرح بذلك رواية سفيان المذكورة بلفظ " إنما كان من أهل بمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة " وفي رواية معمر عن الزهري " إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة " أخرجه البخاري تعليقا، ووصله أحمد وغيره. وفي رواية يونس عن الزهري عند مسلم " إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة وكان ذلك سنة في آبائهم، من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة " فطرق الزهري متفقة، وقد اختلف فيه على هشام بن عروة عن أبيه فرواه مالك عنه بنحو رواية شعيب عن الزهري، ورواه أبو أسامة عنه بلفظ " إنما أنزل الله هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة " أخرجه مسلم، وظاهره يوافق رواية الزهري، وبذلك جزم محمد بن إسحاق فيما رواه الفاكهي من طريق عثمان بن ساج عنه " أن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديد، فكانت الأزد وغسان يحجونها ويعظمونها، إذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى أتوا مناة فأهلوا لها، فمن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة - قال - وكانت مناة للأوس والخزرج والأزد من غسان ومن دان دينهم من أهل يثرب " فهذا يوافق رواية الزهري. وأخرج مسلم من طريق أبي معاوية عن هشام هذا الحديث فخالف جميع ما تقدم ولفظه " إنما كان ذلك لأن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يقال لهما أساف ونائلة فيطوفون بين الصفا والمروة ثم يحلون، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية " فهذه الرواية تقتضي أن تحرجهم إنما كان لئلا يفعلوا في الإسلام شيئا كانوا يفعلونه في الجاهلية لأن الإسلام أبطل أفعال الجاهلية إلا ما أذن فيه الشارع، فخشوا أن يكون ذلك من أمر الجاهلية الذي أبطله الشارع، فهذه الرواية توجيهها ظاهر بخلاف رواية أبي أسامة فإنها تقتضي أن التحرج عن الطواف بين الصفا والمروة لكونهم كانوا لا يفعلونه في الجاهلية، ولا يلزم من تركهم فعل شيء في الجاهلية أن يتحرجوا من فعله في الإسلام، ولولا الزيادة التي في طريق يونس حيث قال وكانت سنة في آبائهم إلخ لكان الجمع بين الروايتين ممكنا بأن نقول: وقع في رواية الزهري حذف تقديره أنهم كانوا يهلون في الجاهلية لمناة ثم يطوفون بين الصفا والمروة فكان من أهل أي بعد ذلك في الإسلام يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة لئلا يضاهي فعل الجاهلية. ويمكن أيضا أن يكون في رواية أبي أسامة حذف تقديره كانوا إذا أهلوا أهلوا لمناة في الجاهلية، فجاء الإسلام فظنوا أنه أبطل ذلك فلا يحل لهم، ويبين ذلك رواية أبي معاوية المذكورة حيث قال فيها " فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية"، إلا أنه وقع فيها وهم غير هذا نبه عليه عياض فقال: قوله لصنمين على شط البحر وهم، فإنهما ما كانا قط على شط البحر وإنما كانا على الصفا والمروة، إنما كانت مناة مما يلي جهة البحر انتهى. وسقط من روايته أيضا إهلالهم أولا لمناة، فكأنهم كانوا يهلون لمناة فيبدؤون بها ثم يطوفون بين الصفا والمروة لأجل أساف ونائلة، فمن ثم تحرجوا من الطواف بينهما في الإسلام، ويؤيد ما ذكرناه حديث أنس المذكور في الباب الذي بعده بلفظ " أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ فقال: نعم، لأنها كانت من شعار الجاهلية " وروى النسائي بإسناد قوي عن زيد بن حارثة قال " كان على الصفا والمروة صنمان من نحاس يقال لهما أساف ونائلة كان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما " الحديث، وروى الطبراني وابن أبي حاتم في التفسير بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال " قالت الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية، فأنزل الله عز وجل (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية"، وروى الفاكهي وإسماعيل القاضي في " الأحكام " بإسناد صحيح عن الشعبي قال " كان صنم بالصفا يدعى أساف ووثن بالمروة يدعى نائلة، فكان أهل الجاهلية يسعون بينهما، فلما جاء الإسلام رمى بهما وقالوا: إنما كان ذلك يصنعه أهل الجاهلية من أجل أوثانهم، فأمسكوا عن السعي بينهما، قال فأنزل الله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) الآية " وذكر الواحدي في " أسبابه " عن ابن عباس نحو هذا وزاد فيه: يزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا. والباقي نحو. وروى الفاكهي بإسناد صحيح إلى أبي مجلز نحوه. وفي " كتاب مكة " لعمر بن شبة بإسناد قوي عن مجاهد في هذه الآية قال: قالت الأنصار أن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، فنزلت. ومن طريق الكلبي قال: كان الناس أول ما أسلموا كرهوا الطواف بينهما لأنه كان على كل واحد منهما صنم فنزلت، فهذا كله يوضح قوة رواية أبي معاوية وتقدمها على رواية غيره، ويحتمل أن يكون الأنصار في الجاهلية كانوا فريقين منهم من كان يطوف بينهما على ما اقتضته رواية أبي معاوية، ومنهم من كان لا يقربهما على ما اقتضته رواية الزهري واشترك الفريقان في الإسلام على التوقف عن الطواف بينهما لكونه كان عندهم جميعا من أفعال الجاهلية، فيجمع بين الروايتين بهذا، وقد أشار إلى نحو هذا الجمع البيهقي والله أعلم. (تنبيه) : قول عائشة " سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بين الصفا والمروة " أي فرضه بالسنة، وليس مرادها نفي فرضيتها، ويؤيده قولها " لم يتم الله حج أحدكم ولا عمرته ما لم يطف بينهما". قوله: (ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن) القائل هو الزهري، ووقع في رواية سفيان عن الزهري عند مسلم " قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك". قوله: (إن هذا العلم) كذا للأكثر، أي أن هذا هو العلم المتين، وللكشميهني " إن هذا لعلم " بفتح اللام وهي المؤكدة وبالتنوين على أنه الخبر. قوله: (إن الناس إلا من ذكرت عائشة) إنما ساغ له هذا الاستثناء مع أن الرجال الذين أخبروه أطلقوا ذلك لبيان الخبر عنده من رواية الزهري له عن عروة عنها، ومحصل ما أخبر به أبو بكر بن عبد الرحمن أن المانع لهم من التطوف بينهما أنهم كانوا يطوفون بالبيت وبين الصفا والمروة في الجاهلية، فلما أنزل الله الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بينهما ظنوا رفع ذلك الحكم فسألوا هل عليهم من حرج إن فعلوا ذلك، بناء على ما ظنوه من أن التطوف بينهما من فعل الجاهلية. ووقع في رواية سفيان المذكورة " إنما كان من لا يطوف بينهما من العرب يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية " وهو يؤيد ما شرحناه أولا. قوله: (فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين) كذا في معظم الروايات بإثبات الهمزة وضم العين بصيغة المضارعة للمتكلم، وضبطه الدمياطي في نسخته بالوصل وسكون العين بصيغة الأمر، والأول أصوب فقد وقع في رواية سفيان المذكورة " فأراها نزلت " وهو بضم الهمزة أي أظنها، وحاصله أن سبب نزول الآية على هذا الأسلوب كان للرد على الفريقين: الذين تحرجوا أن يطوفوا بينهما لكونه عندهم من أفعال الجاهلية، والذين امتنعوا من الطواف بينهما لكونهما لم يذكرا. قوله: (حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت) يعني تأخر نزول آية البقرة في الصفا والمروة عن آية الحج وهي قوله تعالى (وليطوفوا بالبيت العتيق) ، ووقع في رواية المستملي وغيره " حتى ذكر بعد ذلك ما ذكر الطواف بالبيت " وفي توجيهه عسر، وكأن قوله " الطواف بالبيت " بدل من قوله " ما ذكر " بتقدير الأول إنما امتنعوا من السعي بين الصفا والمروة لأن قوله: (وليطوفوا بالبيت العتيق) دل على الطواف بالبيت ولا ذكر للصفا والمروة فيه حتى نزل (إن الصفا والمروة من شعائر الله) بعد نزول (وليطوفوا بالبيت) أما الثاني فيجوز أن تكون ما مصدرية أي بعد ذلك الطواف بالبيت الطواف بين الصفا والمروة. والله أعلم. *3*باب مَا جَاءَ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا السَّعْيُ مِنْ دَارِ بَنِي عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ بَنِي أَبِي حُسَيْنٍ الشرح: قوله: (باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة) أي في كيفيته. قوله: (وقال ابن عمر إلخ) وصله الفاكهي من طريق ابن جريج " أخبرني نافع قال: نزل ابن عمر من الصفا، حتى إذا حاذى باب بني عباد سعى، حتى إذا انتهى إلى الزقاق الذي يسلك بين دار بني أبي حسين ودار بنت قرظة " ومن طريق عبيد الله بن أبي يزيد قال " رأيت ابن عمر يسعى من مجلس أبي عباد إلى زقاق ابن أبي حسين " قال سفيان هو بين هذين العلمين. وروى ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن الأسود عن مجاهد وعطاء قال " رأيتهما يسعيان من خوخة بني عباد إلى زقاق بني أبي حسين، قال فقلت لمجاهد، فقال: هذا بطن المسيل الأول " ا ه. والعلمان اللذان أشار إليهما معروفان إلى الآن. وروى ابن خزيمة والفاكهي من طريق أبي الطفيل قال " سألت ابن عباس عن السعي فقال: لما بعث الله جبريل إلى إبراهيم ليريه المناسك عرض له الشيطان بين الصفا والمروة، فأمر الله أن يجيز الوادي. قال ابن عباس: فكانت سنة " وسيأتي في أحاديث الأنبياء أن ابتداء ذلك كان من هاجر. وروى الفاكهي بإسناد حسن عن ابن عباس قال " هذا ما أورثتكموه أم إسماعيل " وسيأتي حديثه في آخر الباب في سبب فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقُلْتُ لِنَافِعٍ أَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَمْشِي إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ قَالَ لَا إِلَّا أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن عبيد) زاد أبو ذر في روايته " هو ابن أبي حاتم " ولغيره " محمد بن عبيد بن ميمون " وهو الصواب وبه جزم أبو نعيم، ولعل حاتما اسم جد له إن كانت رواية أبي ذر فيه مضبوطة. وقد ذكر أبو علي الجياني أنه رآه بخط أبي محمد الأصيلي في نسخته " حدثنا محمد بن عبيد بن حاتم". قوله: (كان إذا طاف الطواف الأول) أي طواف القدوم. قوله: (خب) بفتح المعجمة وتشديد الموحدة وقد تقدم في " باب من طاف إذا قدم مكة". قوله: (وكان يسعى بطن المسيل) أي المكان الذي يجتمع فيه السيل، وقوله بطن منصوب على الظرف، وهذا مرفوع عن ابن عمر، وكأن المصنف بدأ بالموقوف عنه في الترجمة لكونه مفسرا لحد السعي، والمراد به شدة المشي وإن كان جميع ذلك يسمى سعيا. قوله: (فقلت لنافع) القائل عبيد الله بن عمر المذكور، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالاستلام قبل بأبواب. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ فَقَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ الشرح: حديث ابن عمر أيضا في طواف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة، أورده من وجهين، وقد تقدم في " باب صلى النبي صلى الله عليه وسلم لسبوعه ركعتين " قال شيخنا ابن الملقن هنا قال صاحب المحيط من الحنفية: لو بدأ بالمروة وختم بالصفا أعاد شوطا فإن البداءة واجبة، ولا أصل لما قال الكرماني أن الترتيب ليس بشرط ولكن تركه مكروه لترك السنة فيستحب إعادة الشوط. قلت: الكرماني المذكور عالم من الحنفية وليس هو شمس الدين شارح البخاري، وإنما نبهت على ذلك لئلا يتوهم أن شيخنا وقف على شرحه ونقل منه فإن هذا الكلام ما هو في شرح شمس الدين وشمس الدين شافعي المذهب يرى الترتيب شرطا في صحة السعي. الحديث: حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ تَلَا لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسوة حَسَنَةٌ الشرح: حديث ابن عمر أيضا في طواف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة، أورده من وجهين، وقد تقدم في " باب صلى النبي صلى الله عليه وسلم لسبوعه ركعتين " قال شيخنا ابن الملقن هنا قال صاحب المحيط من الحنفية: لو بدأ بالمروة وختم بالصفا أعاد شوطا فإن البداءة واجبة، ولا أصل لما قال الكرماني أن الترتيب ليس بشرط ولكن تركه مكروه لترك السنة فيستحب إعادة الشوط. قلت: الكرماني المذكور عالم من الحنفية وليس هو شمس الدين شارح البخاري، وإنما نبهت على ذلك لئلا يتوهم أن شيخنا وقف على شرحه ونقل منه فإن هذا الكلام ما هو في شرح شمس الدين وشمس الدين شافعي المذهب يرى الترتيب شرطا في صحة السعي. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ قَالَ قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ نَعَمْ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا الشرح: حديث أنس في نزول قوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) وقد تقدم الكلام عليه في الباب الذي قبله. الرابع حديث ابن عباس " إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته " والمراد بالسعي هنا شدة المشي، وقد تقدم القول فيه في " باب بدء الرمل". الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ زَادَ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو سَمِعْتُ عَطَاءً عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ الشرح: قوله: (زاد الحميدي إلخ) أي زاد التصريح بالتحديث من عمرو لسفيان ومن عطاء لعمرو، وهكذا رويناه في " مسند الحميدي " رواية بشر بن موسى عنه ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في المستخرج. وأخرج مسلم في هذا الباب حديث جابر " أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الركعتين بعد طوافه خرج إلى الصفا فقال: أبدأ بما بدأ الله به " واستدل به على اشتراط البداءة بالصفا، ورواه النسائي بلفظ الأمر فقال " ابدؤوا بما بدأ الله به". (تكميل) : قال ابن عبد السلام المروة أفضل من الصفا لأنها تقصد بالذكر والدعاء أربع مرات بخلاف الصفا فإنما يقصد ثلاثا، قال: وأما البداءة بالصفا فليس بوارد لأنه وسيلة. قلت: وفيه نظر لأن الصفا تقصد أربعا أيضا أولها عند البداءة فكل منهما مقصود بذلك ويمتاز بالابتداء، وعند التنزل يتعادلان، ثم ما ثمرة هذا التفضيل مع أن العبادة المتعلقة بهما لا تتم إلا بهما معا؟ |
08-14-2013, 12:01 PM | #499 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
الشرح: قوله: (باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة) جزم بالحكم الأول لتصريح الأخبار التي ذكرها في الباب بذلك، وأورد المسألة الثانية مورد الاستفهام للاحتمال وكأنه أشار إلى ما روي عن مالك في حديث الباب بزيادة " ولا بين الصفا والمروة " قال ابن عبد البر: لم يقله أحد عن مالك إلا يحيى بن يحيي التميمي النيسابوري. قلت: فإن كان يحيي حفظه فلا يدل على اشتراط الوضوء للسعي لأن السعي يتوقف على تقدم طواف قبله فإذا كان الطواف ممتنعا امتنع لذلك لا لاشتراط الطهارة له. وقد روي عن ابن عمر أيضا قال " تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة " أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح قال: وحدثنا ابن فضيل عن عاصم قلت لأبي العالية تقرأ الحائض؟ قال: لا، ولا تطوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة. ولم يذكر ابن المنذر عن أحد من السلف اشتراط الطهارة للسعي إلا عن الحسن البصري، وقد حكى المجد بن تيمية من الحنابلة رواية عندهم مثله، وأما ما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر بإسناد صحيح " إذا طافت ثم حاضت قبل أن تسعى بين الصفا والمروة فلتسع " وعن عبد الأعلى عن هشام عن الحسن مثله، وهذا إسناد صحيح عن الحسن فلعله يفرق بين الحائض والمحدث كما سيأتي. وقال ابن بطال: كأن البخاري فهم أن قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت". أن لها أن تسعى ولهذا قال: وإذا سعى على غير وضوء ا ه، وهو توجيه جيد لا يخالف التوجيه الذي قدمته وهو قول الجمهور، وحكى ابن المنذر عن عطاء قولين فيمن بدأ بالسعي قبل الطواف بالبيت، وبالإجزاء قال بعض أهل الحديث واحتج بحديث أسامة بن شريك " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: سعيت قبل أن أطوف، قال: طف ولا حرج " وقال الجمهور: لا يجزئه، وأولوا حديث أسامة على من سعى بعد طواف القدوم وقيل طواف الإفاضة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي الشرح: حديث عائشة وفيه " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " وهو بفتح التاء والطاء المهملة المشددة وتشديد الهاء أيضا أو هو على حذف إحدى التاءين وأصله تتطهري، ويؤيده قوله في رواية مسلم " حتى تغتسلي " والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض الجنب والمحدث وهو قول الجمهور، وذهب جمع من الكوفيين إلى عدم الاشتراط، قال ابن أبي شيبة: حدثنا غندر حدثنا شعبة سألت الحكم وحمادا ومنصورا وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة فلم يروا به بأسا. وروي عن عطاء: إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدا ثم حاضت أجزأ عنها. وفي هذا تعقب على النووي حيث قال في " شرح المهذب ": انفرد أبو حنيفة بأن الطهارة ليست بشرط في الطواف، واختلف أصحابه في وجوبها وجبرانه بالدم إن فعله ا ه، ولم ينفردوا بذلك كما ترى، فلعله أراد انفرادهم عن الأئمة الثلاثة، لكن عند أحمد رواية أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم، وعند المالكية قول يوافق هذا. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ ح وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَهَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةَ وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ وَمَعَهُ هَدْيٌ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالُوا نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ وَحَاضَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ الشرح: حديث جابر في الإهلال بالحج وفيه قصة قدوم علي ومعه الهدي، وقصة عائشة " حاضت فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت " الحديث وسيأتي الكلام عليه مستوفى في " باب عمرة التنعيم " من أبواب العمرة، والاحتياج منه لقوة " غير أنها لم تطف بالبيت". (تنبيه) : ساقه المؤلف هنا رحمه الله بلفظ خليفة، وسيأتي لفظ محمد بن المثنى في " باب عمرة التنعيم". الحديث: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَحَدَّثَتْ أَنَّ أُخْتَهَا كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتِّ غَزَوَاتٍ قَالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى فَسَأَلَتْ أُخْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ هَلْ عَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لَا تَخْرُجَ قَالَ لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا وَلْتَشْهَدْ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَأَلْنَهَا أَوْ قَالَتْ سَأَلْنَاهَا فَقَالَتْ وَكَانَتْ لَا تَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَدًا إِلَّا قَالَتْ بِأَبِي فَقُلْنَا أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا قَالَتْ نَعَمْ بِأَبِي فَقَالَ لِتَخْرُجْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى فَقُلْتُ أَلْحَائِضُ فَقَالَتْ أَوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا الشرح: حديث حفصة " كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن، فقدمت امرأة فنزلت قصر بني خلف - وفيه - ويعتزل الحيض المصلى " وقد تقدم في الحيض وفي العيدين وتقدم الكلام عليه مستوفى في كتاب الحيض، والمحتاج إليه هنا قولها في آخره " أو ليس تشهد عرفة وتشهد كذا وتشهد كذا " فهو المطابق لقول جابر " فنسكت المناسك كلها إلا الطواف بالبيت " وكذا قولها " ويعتزل الحيض المصلى " فإنه يناسب قوله " إن الحائض لا تطوف بالبيت " لأنها إذا أمرت باعتزال المصلى كان اعتزالها للمسجد بل للمسجد الحرام بل للكعبة من باب الأولى. *3*باب الْإِهْلَالِ مِنْ الْبَطْحَاءِ وَغَيْرِهَا لِلْمَكِّيِّ وَلِلْحَاجِّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى وَسُئِلَ عَطَاءٌ عَنْ الْمُجَاوِرِ يُلَبِّي بِالْحَجِّ قَالَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُلَبِّي يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَهْلَلْنَا مِنْ الْبَطْحَاءِ وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلَالَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَقَالَ لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ الشرح: قوله: (باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي والحاج إذا خرج من منى) كذا في معظم الروايات، وفي نسخة معتمدة من طريق أبي الوقت " إلى منى " وكذا ذكره ابن بطال في شرحه والإسماعيلي في مستخرجه ولا إشكال فيها، وعلى الأول فلعله أشار إلى الخلاف في ميقات المكي، قال النووي: ميقات من بمكة من أهلها أو غيرهم نفس مكة على الصحيح، وقيل مكة وسائر الحرم ا ه. والثاني مذهب الحنفية، واختلف في الأفضل فاتفق المذهبان على أنه من باب المنزل، وفي قول للشافعي من المسجد، وحجة الصحيح ما تقدم في أول كتاب الحج من حديث ابن عباس " حتى أهل مكة يهلون منها " وقال مالك وأحمد وإسحاق: يهل من جوف مكة ولا يخرج إلى الحل إلا محرما، واختلفوا في الوقت الذي يهل فيه: فذهب الجمهور إلى أن الأفضل أن يكون يوم التروية، وروى مالك وغيره بإسناد منقطع وابن المنذر بإسناد متصل عن عمر أنه قال لأهل مكة " ما لكم يقدم الناس عليكم شعثا وأنتم تنضحون طيبا مدهنين، إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج " وهو قول ابن الزبير ومن أشار إليهم عبيد بن جريج بقوله لابن عمر أهل الناس إذا رأوا الهلال، وقيل إن ذلك محمول على الاستحباب وبه قال مالك وأبو ثور. وقال ابن المنذر: الأفضل أن يهل يوم التروية إلا المتمتع الذي لا يجد الهدي ويريد الصوم فيعجل الإهلال ليصوم ثلاثة أيام بعد أن يحرم، واحتج الجمهور بحديث أبي الزبير عن جابر وهو الذي علقه المصنف في هذا الباب، وقوله في الترجمة " للمكي " أي إذا أراد الحج، وقوله "الحاج " أي الآفاقي إذا كان قد دخل مكة متمتعا. قوله: (وسئل عطاء إلخ) وصله سعيد بن منصور من طريقه بلفظ " رأيت ابن عمر في المسجد فقيل له: قد رئي الهلال - فذكر قصة فيها - فأمسك حتى كان يوم التروية فأتى البطحاء، فلما استوت به راحلته أحرم " وروى مالك في " الموطأ " أن ابن عمر أهل لهلال ذي الحجة، وذلك أنه كان يرى التوسعة في ذلك. قوله: (وقال عبد الملك إلخ) الظاهر أن عبد الملك هو ابن أبي سليمان وقد وصله مسلم من طريقه عن عطاء عن جابر قال " أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا " الحديث وفيه " أيها الناس أحلوا، فأحللنا، حتى كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج " وقد روى عبد الملك بن جريج نحو هذه القصة وسيأتي في أثناء حديث. (تنبيه) : قوله " بظهر " أي وراء ظهورنا، وقوله "أهللنا بالحج " أي جعلنا مكة من ورائنا في يوم التروية حال كوننا مهلين بالحج، فعلم أنهم حين الخروج من مكة كانوا محرمين، ويوضح ذلك ما بعده. قوله: (وقال أبو الزبير عن جابر أهللنا من البطحاء) وصله أحمد ومسلم من طريق ابن جريج عنه عن جابر قال " أمرنا النبي إذا أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من الأبطح " وأخرجه مسلم مطولا من طريق الليث عن أبي الزبير فذكر قصة فسخهم الحج إلى العمرة، وقصة عائشة لما حاضت وفيه " ثم أهللنا يوم التروية " وزاد من طريق زهير عن أبي الزبير " أهللنا بالحج " وفي حديثه الطويل عنده نحو. (تنبيه) : يوم التروية سيأتي الكلام عليه في الترجمة التي بعد هذه. قوله: (وقال عبيد بن جريج لابن عمر إلخ) وصله المؤلف في أوائل الطهارة في اللباس بأتم من سياقه هنا، قال ابن بطال وغيره: وجه احتجاج ابن عمر على ما ذهب إليه أنه يهل يوم التروية إذا كان بمكة بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إنما أهل حين انبعثت به راحلته بذي الحليفة، ولم يكن بمكة ولا كان ذلك يوم التروية من جهة أنه صلى الله عليه وسلم أهل من ميقاته من حين ابتدائه في عمل حجته واتصل له عمله ولم يكن بينهما مكث ربما انقطع به العمل. فكذلك المكي إذا أهل يوم التروية اتصل عمله، بخلاف ما لو أهل من أول الشهر، وقد قال ابن عباس: لا يهل أحد من مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى. *3*باب أَيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ الشرح: قوله: (باب أين يصلي الظهر يوم التروية) أي يوم الثامن من ذي الحجة وسمي التروية بفتح المثناة وسكون الراء وكسر الواو وتخفيف التحتانية لأنهم كانوا يروون فيها إبلهم ويتروون من الماء لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون، وأما الآن فقد كثرت جدا واستغنوا عن حمل الماء. وقد روى الفاكهي في " كتاب مكة " من طريق مجاهد قال: قال عبد الله بن عمر: يا مجاهد، إذا رأيت الماء بطريق مكة، ورأيت البناء يعلو أخاشبها، فخذ حذرك. وفي رواية: فاعلم أن الأمر قد أظلك. وقيل في تسميته التروية أقوال أخرى شاذة: منها أن آدم رأى فيه حواء واجتمع بها. ومنها أن إبراهيم رأى في ليلته أنه يذبح ابنه فأصبح متفكرا يتروى. ومنها أن جبريل عليه السلام أرى فيه إبراهيم مناسك الحج. ومنها أن الإمام يعلم الناس فيه مناسك الحج. ووجه شذوذها أنه لو كان من الأول لكان يوم الرؤية، أو من الثاني لكان يوم التروي بتشديد الواو، أو من الثالث لكان من الرؤيا، أو من الرابع لكان من الرواية. الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَالَ بِمِنًى قُلْتُ فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ قَالَ بِالْأَبْطَحِ ثُمَّ قَالَ افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ الشرح: قوله: (حدثني عبد الله بن محمد) هو الجعفي. وإسحاق الأزرق هو ابن يوسف، وسفيان هو الثوري. قال الترمذي بعد أن أخرجه: صحيح يستغرب من حديث إسحاق الأزرق عن الثوري، يعني أن إسحاق تفرد به وأظن أن لهذه النكتة أردفه البخاري بطريق أبي بكر بن عياش عن عبد العزيز، ورواية أبي بكر وإن كان قصر فيها كما سنوضحه لكنها متابعة قوية لطريق إسحاق، وقد وجدنا له شواهد: منها ما وقع في حديث جابر الطويل في صفة الحج عند مسلم " فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر " الحديث. وروى أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم من حديث ابن عباس قال " صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى خمس صلوات " وله عن ابن عمر أنه " كان يحب - إذا استطاع - أن يصلي الظهر بمنى يوم التروية " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى، وحديث ابن عمر في " الموطأ " عن نافع عنه موقوفا، ولابن خزيمة والحاكم من طريق القاسم بن محمد عن عبد الله بن الزبير قال " من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر وما بعدها والفجر بمنى ثم يغدون إلى عرفة". قوله: (يوم النفر) بفتح النون وسكون الفاء يأتي الكلام عليه في أواخر أبواب الحج. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ لَقِيتُ أَنَسًا ح و حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَلَقِيتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ فَقُلْتُ أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْيَوْمَ الظُّهْرَ فَقَالَ انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ الشرح: قوله: (حدثنا علي) لم أره منسوبا في شيء من الروايات، والذي يظهر لي أنه ابن المديني، وقد ساق المصنف الحديث على لفظ إسماعيل بن أبان، وإنما قدم طريق علي لتصريحه فيها بالتحديث بين أبي بكر وهو ابن عياش وعبد العزيز وهو ابن رفيع. قوله: (فلقيت أنسا ذاهبا) في رواية الكشميهني " راكبا". قوله: (انظر حيث يصلي أمراؤك فصل) هذا فيه اختصار يوضحه رواية سفيان وذلك أنه في رواية سفيان بين له المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية وهو منى كما تقدم، ثم خشي عليه أن يحرص على ذلك فينسب إلى المخالفة أو تفوته الصلاة مع الجماعة فقال له صل مع الأمراء حيث يصلون. وفيه إشعار بأن الأمراء إذ ذاك كانوا لا يواظبون على صلاة الظهر ذلك اليوم بمكان معين فأشار أنس إلى أن الذي يفعلونه جائز وإن كان الاتباع أفضل، ولما خلت رواية أبي بكر بن عياش عن القدر المرفوع وقع في بعض الطرق عنه وهم فرواه الإسماعيلي من رواية عبد الحميد بن بيان عنه بلفظ " أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر هذا اليوم؟ قال: صلى حيث يصلي أمراؤك " قال الإسماعيلي: قوله " صلى " غلط. قلت: ويحتمل أن يكون كانت " صل " بصيغة الأمر كغيرها من الروايات فأشبع الناسخ اللام فكتب بعدها باء فقرأها الراوي بفتح اللام. وأغرب الحميدي في جمعه فحذف لفظ فصل من آخر رواية أبي بكر ابن عياش فصار ظاهره أن أنسا أخبر أنه صلى حيث يصلي الأمراء، وليس كذلك فهذا بعينه الذي أطلق الإسماعيلي أنه غلط. وقال أبو مسعود في " الأطراف ": جود إسحاق عن سفيان هذا الحديث ولم يجوده أبو بكر بن عياش. قلت: وهو كما قال، وقد قدمت عذر البخاري في تخريجه وأنه أراد به دفع من يتوقف في تصحيحه لتفرد إسحاق به عن سفيان. ووقع في رواية عبد الله بن محمد في هذا الباب زيادة لفظة لم يتابعه عليها سائر الرواة عن إسحاق وهي قوله " أين صلى الظهر والعصر "؟ فإن لفظ " العصر " لم يذكره غيره، فسيأتي في أواخر صفة الحج عن أبي موسى محمد بن المثنى عند المصنف، وكذا أخرجه ابن خزيمة عن أبي موسى، وأخرجه أحمد في مسنده عن إسحاق نفسه، وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب، وأبو داود عن أحمد بن إبراهيم، والترمذي عن أحمد بن منيع ومحمد بن وزير، والنسائي عن محمد بن إسماعيل بن علية وعبد الرحمن بن محمد بن سلام، والدارمي عن أحمد بن حنبل ومحمد بن أحمد، وأبو عوانة في صحيحه عن سعدان بن يزيد، وابن الجارود في " المنتقى " عن محمد بن وزير، وسمويه في فوائده عن محمد بن بشار بندار، وأخرجه ابن المنذر والإسماعيلي من طريق بندار، زاد الإسماعيلي وزهير بن حرب وعبد الحميد بن بيان وأحمد بن منيع كلهم - وهم اثنا عشر نفسا - عن إسحاق الأزرق، ولم يقل أحد منهم في روايته " والعصر"، وادعى الداودي أن ذكر العصر هنا وهم وإنما ذكر العصر في النفس، وتعقب بأن النصر مذكور في هذه الرواية في الموضعين، وقد تقدم التصريح في حديث جابر عند مسلم بأنه صلى الظهر والعصر وما بعد ذلك إلى صبح يوم عرفة بمنى، فالزيادة في نفس الأمر صحيحة إلا أن عبد الله بن محمد تفرد بذكرها عن إسحاق دون بقية أصحابه والله أعلم. (تكميل) : ليس لعبد العزيز بن رفيع عن أنس في الصحيحين إلا هذا الحديث الواحد، وله عن غير أنس أحاديث تقدم بعضها في " باب من طاف بعد الصبح " والمراد بالنفر الرجوع من منى بعد انقضاء أعمال الحج، والمراد بالأبطح المحصب كما سيأتي في مكانه. وفي الحديث أن السنة أن يصلي الحاج الظهر يوم التروية بمنى وهو قول الجمهور، وروى الثوري في جامعه عن عمرو بن دينار فال: رأيت ابن الزبير صلى الظهر يوم التروية بمكة. وقد تقدمت رواية القاسم عنه أن السنة أن يصليها بمنى فلعله فعل ما نقله عمرو عنه لضرورة أو لبيان الجواز، وروى ابن المنذر من طريق ابن عباس قال " إذا زاغت الشمس فليرح إلى منى " قال ابن المنذر في حديث ابن الزبير: أن من السنة أن يصلي الإمام الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، قال به علماء الأمصار، قال: ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه أوجب على من تخلف عن منى ليلة التاسع شيئا. ثم روي عن عائشة أنها لم تخرج من مكة يوم التروية حتى دخل الليل وذهب ثلثه، قال ابن المنذر: والخروج إلى منى في كل وقت مباح إلا أن الحسن وعطاء قالا: لا بأس أن يتقدم الحاج إلى منى قبل يوم التروية بيوم أو يومين. وكرهه مالك، وكره الإقامة بمكة يوم التروية حتى يمسي إلا إن أدركه وقت الجمعة فعليه أن يصليها قبل أن يخرج. وفي الحديث أيضا الإشارة إلى متابعة أولي الأمر، والاحتراز عن مخالفة الجماعة. |
08-14-2013, 12:04 PM | #500 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الصَّلَاةِ بِمِنًى الشرح:
قوله: (باب الصلاة بمنى) أي هل يقصر الرباعية أم لا؟ وقد تقدم البحث في ذلك في أبواب قصر الصلاة في الكلام على نظير هذه الترجمة، وأورد فيها أحاديث الباب الثلاثة، لكن غاير في بعض أسانيدها: فإنه أورد حديث ابن عمر هناك من طريق نافع عنه، وهنا من طريق ولده عبيد الله عنه. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ الشرح: قوله: (وعثمان صدرا من خلافته) زاد في رواية نافع المذكورة " ثم أتمها " وأورد حديث حارثة هناك عن أبي الوليد وهنا عن آدم كلاهما عن شعبة، وحديث ابن مسعود هناك من رواية عبد الواحد وهنا من رواية سفيان كلاهما عن الأعمش. الحديث: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ فَيَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ الشرح: قوله: (فليت حظي من أربع ركعتان) قال الداودي: خشي ابن مسعود أن لا يجزئ الأربع فاعلها وتبع عثمان كراهة لخلافه، وأخبر بما يعتقده. وقال غيره: يريد أن لو صلى أربعا تكلفها فليتها تقبل كما تقبل الركعتان انتهى. والذي يظهر أنه قال ذلك على سبيل التفويض إلى الله لعدم إطلاعه على الغيب وهل يقبل الله صلاته أم لا، فتمنى أن يقبل منه من الأربع التي يصليها ركعتان ولو لم يقيل الزائد، وهو يشعر بأن المسافر عنده مخير بين القصر والإتمام والركعتان لا بد منهما، ومع ذلك فكان يخاف أن لا يقبل منه شيء، فحاصله أنه قال: إنما أتم متابعة لعثمان، وليت الله قبل مني ركعتين من الأربع. وقد تقدم الكلام على بقية فوائد هذه الأحاديث في أبواب القصر وعلى السبب في إتمام عثمان بمنى ولله الحمد. *3*بَاب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سَالِمٌ قَالَ سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ الشرح: (لا يوجد شرح). *3*باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا غَدَا مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ الشرح: قوله: (باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة) أي مشروعيتهما، وغرضه بهذه الترجمة الرد على من قال. يقطع المحرم التلبية إذا راح إلى عرفة، وسيأتي البحث فيه بعد أربعة عشر بابا إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ الشرح: قوله: (عن محمد بن أبي بكر الثقفي) تقدم في العيدين من وجه آخر عن مالك " حدثني محمد " وليس لمحمد المذكور في الصحيح عن أنس ولا غيره غير هذا الحديث الواحد، وقد وافق أنسا على روايته عبد الله بن عمر أخرجه مسلم. قوله: (وهما غاديان) أي ذاهبان غدوة. قوله: (كيف كنتم تصنعون) أي من الذكر، ولمسلم من طريق موسى بن عقبة عن محمد بن أبي بكر " قلت لأنس غداة عرفة: ما نقول في التلبية في هذا اليوم". قوله: (فلا ينكر عليه) بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية موسى بن عقبة " لا يعيب أحدنا على صاحبه " وفي حديث ابن عمر المشار إليه من طريق عبد الله بن أبي سلمة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه " غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات، منا الملبي ومنا المكبر " وفي رواية له " قال - يعني عبد الله بن أبي سلمة - فقلت له - يعني لعبيد الله - عجبا لكم كيف لم تسألوه ماذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع " وأراد عبد الله بن أبي سلمة بذلك الوقوف على الأفضل، لأن الحديث يدل على التخيير بين التكبير والتلبية من تقريره لهم صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأراد أن يعرف ما كان يصنع هو ليعرف الأفضل من الأمرين، وسيأتي من حديث ابن مسعود بيان ذلك إن شاء الله تعالى. *3*باب التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ الشرح: قوله: (باب التهجير بالرواح يوم عرفة) أي من نمرة، لحديث ابن عمر أيضا " غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل نمرة - وهو منزل الإمام الذي ينزل فيه بعرفة - حتى إذ كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف " أخرجه أحمد وأبو داود، وظاهره أنه توجه من منى حين صلى الصبح بها، لكن في حديث جابر الطويل عند مسلم أن توجهه صلى الله عليه وسلم منها كان بعد طلوع الشمس ولفظه " فضربت له قبة بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت فأتى بطن الوادي " انتهى، ونمرة بفتح النون وكسر الميم موضع بقرب عرفات خارج الحرم بين طرف الحرم وطرف عرفات. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاجِ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ قَالَ هَذِهِ السَّاعَةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخْرُجُ فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي فَقُلْتُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الْوُقُوفَ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ صَدَقَ الشرح: قوله: (عن سالم) هو ابن عبد الله بن عمر. قوله: (كتب عبد الملك) يعني ابن مروان. قوله: (إلى الحجاج) يعني ابن يوسف الثقفي حين أرسله إلى قتال ابن الزبير كما سيأتي مبينا بعد باب. قوله: (في الحج) أي في أحكام الحج، وللنسائي من طريق أشهب عن مالك " في أمر الحج " وكان ابن الزبير لم يمكن الحجاج وعسكره من دخول مكة فوقف قبل الطواف. قوله: (فجاء ابن عمر رضي الله عنهما وأنا معه) القائل هو سالم، ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري " فركب هو وسالم وأنا معهما " وفي روايته " قال ابن شهاب: وكنت يومئذ صائما فلقيت من الحر شدة " واختلف الحفاظ في رواية معمر هذه فقال يحيى بن معين: هي وهم، ابن شهاب لم ير ابن عمر ولا سمع منه. وقال الذهلي لست أدفع رواية معمر لأن ابن وهب روى عن العمري عن ابن شهاب نحو رواية معمر، وروى عنبسة بن خالد عن يونس عن ابن شهاب قال " وفدت إلى مروان وأنا محتلم " قال الذهلي: ومروان مات سنة خمس وستين، وهذه القصة كانت سنة ثلاث وسبعين انتهى. وقال غيره. أن رواية عنبسة هذه أيضا وهم، وإنما قال الزهري وفدت على عبد الملك، ولو كان الزهري وفد على مروان لأدرك جلة الصحابة ممن ليست له عنهم رواية إلا بواسطة. وقد أدخل مالك وعقيل - وإليهما المرجع في حديث الزهري - بينه وبين ابن عمر في هذه القصة سالما فهذا هو المعتمد. قوله: (فصاح عند سرادق الحجاج) أي خيمته، زاد الإسماعيلي من هذا الوجه " أين هذا " أي الحجاج. ومثله يأتي بعد باب من رواية القعنبي. قوله: (وعليه ملحفة) بكسر الميم أي إزار كبير، والمعصفر المصبوغ بالعصفر. وقوله "يا أبا عبد الرحمن " هي كنية ابن عمر، وقوله "الرواح " بالنصب أي عجل أو رح. قوله: (إن كنت تريد السنة) في رواية ابن وهب " إن كنت مريد أن تصيب السنة". قوله: (فأنظرني) بالهمزة وكسر الظاء المعجمة أي أخرني، وللكشميهني بألف وصل وضم الظاء أي انتظرني. قوله: (فنزل) يعني ابن عمر كما صرح به بعد بابين. قوله: (فاقصر) بألف موصولة ومهملة مكسورة. قال ابن عبد البر: هذا الحديث يدخل عندهم في المسند لأن المراد بالسنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطلقت ما لم تضف إلى صاحبها كسنة العمرين. قلت: وهي مسألة خلاف عند أهل الحديث والأصول، وجمهورهم على ما قال ابن عبد البر، وهي طريقة البخاري ومسلم، ويقويه قول سالم لابن شهاب إذ قال له " أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: وهل يتبعون في ذلك إلا سنته "؟ وسيأتي بعد باب. قوله: (وعجل الوقوف) قال ابن عبد البر: كذا رواه القعنبي وأشهب، وهو عندي غلط لأن أكثر الرواة عن مالك قالوا " وعجل الصلاة " قال ورواية القعنبي لها وجه، لأن تعجيل الوقوف يستلزم تعجيل الصلاة. قلت: قد وافق القعنبي عبد الله بن يوسف كما ترى، ورواية أشهب التي أشار إليها عند النسائي، فهؤلاء ثلاثة رووه هكذا، فالظاهر أن الاختلاف فيه من مالك، وكأنه ذكره باللازم لأن الغرض بتعجيل الصلاة حينئذ تعجيل الوقوف، قال ابن بطال: وفي هذا الحديث الغسل للوقوف بعرفة لقول الحجاج لعبد الله أنظرني، فانتظره، وأهل العلم يستحبونه انتهى. ويحتمل أن يكون ابن عمر إنما انتظره لحمله على أن اغتساله عن ضرورة. نعم روى مالك في " الموطأ " عن نافع أن ابن عمر كان يغتسل لوقوفه عشية عرفة. وقال الطحاوي: فيه حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم، وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأن الحجاج لم يكن يتقي المنكر الأعظم من سفك الدماء وغيره حتى يتقي المعصفر، وإنما لم ينهه ابن عمر لعلمه بأنه لا ينجع فيه النهي، ولعلمه بأن الناس لا يقتدون بالحجاج انتهى ملخصا. وفيه نظر لأن الاحتجاج إنما هو بعدم إنكار ابن عمر، فبعدم إنكاره يتمسك الناس في اعتقاد الجواز، وقد تقدم الكلام على مسألة المعصفر في بابه. وقال المهلب: فيه جواز تأمير الأدون على الأفضل. وتعقبه ابن المنير أيضا بأن صاحب الأمر في ذلك هو عبد الملك، وليس بحجة ولا سيما في تأمير الحجاج، وأما ابن عمر فإنما أطاع لذلك فرارا من الفتنة. قال: وفيه أن إقامة الحج إلى الخلفاء، وأن الأمير يعمل في الدين بقول أهل العلم ويصير إلى رأيهم. وفيه مداخلة العلماء السلاطين وأنه لا نقيصة عليهم في ذلك. وفيه فتوى التلميذ بحضرة معلمه عند السلطان وغيره، وابتداء العالم بالفتوى قبل أن يسأل عنه، وتعقبه ابن المنير بأن ابن عمر إنما ابتدأ بذلك لمسألة عبد الملك له في ذلك، فإن الظاهر أنه كتب إليه بذلك كما كتب إلى الحجاج، قال: وفيه الفهم بالإشارة والنظر لقول سالم " فجعل الحجاج ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك قال: صدق " انتهى. وفيه طلب العلو في العلم لتشوف الحجاج إلى سماع ما أخبره به سالم من أبيه ابن عمر، ولم ينكر ذلك ابن عمر. وفيه تعليم الفاجر السنن لمنفعة الناس. وفيه احتمال المفسدة الخفيفة لتحصيل المصلحة الكبيرة يؤخذ ذلك من مضي ابن عمر إلى الحجاج وتعليمه. وفيه الحرص على نشر العلم لانتفاع الناس به. وفيه صحة الصلاة خلف الفاسق، وأن التوجه إلى المسجد الذي بعرفة حين تزول الشمس للجمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر سنة، ولا يضر التأخر بقدر ما يشتغل به المرء من متعلقات الصلاة كالغسل ونحوه. وسيأتي بقية ما فيه في الذي يليه. *3*باب الْوُقُوفِ عَلَى الدَّابَّةِ بِعَرَفَةَ الشرح: قوله: (باب الوقوف على الدابة بعرفة) أورد فيه حديث أم الفضل في فطره صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بها، وقد تقدم قريبا، ويأتي الكلام عليه في كتاب الصيام، وموضع الحاجة منه قوله فيه " وهو واقف على بعيره " وأصرح منه حديث جابر الطويل عند مسلم ففيه " ثم ركب إلى الموقف فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس " واختلف أهل العلم في أيهما أفضل: الركوب أو تركه بعرفة؟ فذهب الجمهور إلى أن الأفضل الركوب لكونه صلى الله عليه وسلم وقف راكبا، ومن حيث النظر فإن في الركوب عونا على الاجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب حينئذ كما ذكروا مثله في الفطر، وذهب آخرون إلى أن استحباب الركوب يختص بمن يحتاج الناس إلى التعليم منه، وعن الشافعي قول أنهما سواء، واستدل به على أن الوقوف على ظهر الدواب مباح، وأن النهي الوارد في ذلك محمول على ما إذا أجحف بالدابة. *3*باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ تَصْنَعُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ سَالِمٌ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ صَدَقَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ فَقُلْتُ لِسَالِمٍ أَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَالِمٌ وَهَلْ تَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ إِلَّا سُنَّتَهُ الشرح: قوله: (باب الجمع بين الصلاتين بعرفة) لم يبين حكم ذلك، وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك الجمع المذكور يختص بمن يكون مسافرا بشرطه، وعن مالك والأوزاعي وهو وجه للشافعية أن الجمع بعرفة جمع للنسك فيحوز لكل أحد، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن القاسم بن محمد " سمعت ابن الزبير يقول: إن من سنة الحج أن الإمام يروح إذا زالت الشمس يخطب فيخطب الناس، فإذا فرغ من خطبته نزل فصلى الظهر والعصر جميعا، واختلف فيمن صلى وحده كما سيأتي. قوله: (وكان ابن عمر إلخ) وصله إبراهيم الحربي في المناسك له قال " حدثنا الحوضي عن همام أن نافعا حدثه أن ابن عمر كان إذا لم يدرك الإمام يوم عرفة جمع بين الظهر والعصر في منزله " وأخرج الثوري في جامعه رواية عبد الله بن الوليد العدني عنه عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع مثله، وأخرجه ابن المنذر من هذا الوجه، وبهذا قال الجمهور، وخالفهم في ذلك النخعي والثوري وأبو حنيفة فقالوا: يختص الجمع بمن صلى مع الإمام، وخالف أبا حنيفة في ذلك صاحباه والطحاوي، ومن أقوى الأدلة لهم صنيع ابن عمر هذا، وقد روى حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين وكان مع ذلك يجمع وحده فدل على أنه عرف أن الجمع لا يختص بالإمام، ومن قواعدهم أن الصحابي إذا خالف ما روى دل على أن عنده علما بأن مخالفه أرجح تحسينا للظن به فينبغي أن يقال هذا هنا، وهذا في الصلاة بعرفة، وأما صلاة المغرب فعند أبي حنيفة وزفر ومحمد يجب تأخيرها إلى العشاء فلو صلاها في الطريق أعاد، وعن مالك يجوز لمن به أو بدابته عذر فيصليها لكن بعد مغيب الشفق الأحمر، وعن المدونة يعيد من صلى المغرب قبل أن يأتي جمعا، وكذا من جمع بينها وبين العشاء بعد مغيب الشفق فيعيد العشاء، وعن أشهب: إن جاء جمعا قبل الشفق جمع. وقال ابن القاسم: حتى يغيب، وعند الشافعية وجمهور أهل العلم: لو جمع تقديما أو تأخيرا قبل جمع أو بعد أن نزلها أو أفرد أجزأ وفاتت السنة. واختلافهم مبني على أن الجمع بعرفة وبمزدلفة للنسك أو للسفر. قوله: (وقال الليث إلخ) وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير وأبي صالح جميعا عن الليث. قوله: (سأل عبد الله) يعني ابن عمر. قوله: (فهجر بالصلاة) أي صل بالهاجرة وهي شدة الحر. قوله: (إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة) بضم المهملة وتشديد النون أي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن ابن عمر فهم من قول ولده سالم " فهجر بالصلاة " أي الظهر والعصر معا فأجاب بذلك فطابق كلام ولده. وقال الطيبي: قوله " في السنة " هو حال من فاعل يجمعون أي متوغلين في السنة، قاله تعريضا بالحجاج. قوله: (فقلت لسالم) القائل هو ابن شهاب، وقوله "أفعل " بهمزة استفهام، وقوله "هل يتبعون بذلك " بتشديد المثناة وكسر الموحدة بعدها مهملة كذا للأكثر من الاتباع، وللكشميهني " يبتغون في ذلك " بسكون الموحدة وفتح المثناة بعدها غين معجمة من الابتغاء أي لا يطلبون في ذلك الفعل إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الحموي بحذف " في " وهي مقدرة. *3*باب قَصْرِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ الشرح: قوله: (باب قصر الخطبة بعرفة) أورد فيه حديث ابن عمر الماضي قريبا وفيه قول سالم " إن كنت تريد السنة اليوم فاقصر الخطبة " وقد تقدم الكلام عليه مستوفى، وقيد المصنف قصر الخطبة بعرفة اتباعا للفظ الحديث، وقد أخرج مسلم الأمر باقتصار الخطبة في أثناء حديث لعمار أخرجه في الجمعة، قال ابن التين: أطلق أصحابنا العراقيون أن الإمام لا يخطب يوم عرفة. وقال المدنيون والمغاربة يخطب وهو قول الجمهور، ويحمل قول العراقيين على معنى أنه ليس لما يأتي به من الخطبة تعلق بالصلاة كخطبة الجمعة، وكأنهم أخذوه من قول مالك: كل صلاة يخطب لها يجهر فيها بالقراءة، فقيل له: فعرفة يخطب فيها ولا يجهر بالقراءة فقال: إنما تلك للتعليم. *3*باب التَّعْجِيلِ إِلَى الْمَوْقِفِ الشرح: قوله: (باب التعجيل إلى الموقف) كذا للأكثر هذه الترجمة بغير حديث، وسقط من رواية أبي ذر أصلا، ووقع في نسخة الصغاني هنا ما لفظه " يدخل في الباب حديث مالك عن ابن شهاب - يعني الذي رواه عن سالم وهو المذكور في الباب الذي قبل هذا - ولكني أريد أن أدخل فيه غير معاد " يعني حديثا لا يكون تكرر كله سندا ومتنا. قلت: وهو يقتضي أن أصل قصده أن لا يكرر، فيحمل على أن كل ما وقع فيه من تكرار الأحاديث إنما هو حيث يكون هناك مغايرة إما في السند وإما في المتن حتى أنه لو أخرج الحديث في الموضعين عن شيخين حدثاه به عن مالك لا يكون عنده معادا ولا مكررا، وكذا لو أخرجه في موضعين بسند واحد لكن اختصر من المتن شيئا، أو أورده في موضع موصولا وفي موضع معلقا، وهذه الطريق لم يخالفها إلا في مواضع يسيرة مع طول الكتاب إذا بعدما بين البابين بعدا شديدا. ونقل الكرماني أنه رأى في بعض النسخ عقب هذه الترجمة " قال أبو عبد الله يعني المصنف: يزاد في هذا الباب هم حديث مالك عن ابن شهاب، ولكني لا أريد أن أدخل فيه معادا " أي مكررا. قلت: كأنه لم يحضره حينئذ طريق للحديث المذكور عن مالك غير الطريقين اللتين ذكرهما، وهذا يدل على أنه لا يعيد حديثا إلا لفائدة إسنادية أو متنية كما قدمته، وأما قوله في هذه الزيادة التي نقلها الكرماني " هم " فهي بفتح الهاء وسكون الميم. قال الكرماني: قيل إنها فارسية وقيل عربية ومعناها قريب من معنى أيضا. قلت: صرح غير واحد من علماء العربية ببغداد بأنها لفظة اصطلح عليها أهل بغداد وليست بفارسية ولا هي عربية قطعا، وقد دل كلام الصغاني في نسخته التي أتقنها وحررها - وهو من أئمة اللغة - خلو كلام البخاري عن هذه اللفظة. *3*باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ الشرح: قوله: (باب الوقوف بعرفة) أي دون جمع فيما دونها أو فوقها. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ كُنْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي ح و حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ فَقُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ مِنْ الْحُمْسِ فَمَا شَأْنُهُ هَا هُنَا الشرح: قوله: (حدثنا سفيان) هو ابن عيينة وعمرو هو ابن دينار. قوله: (أضللت بعيرا) كذا للأكثر في الطريق الثانية. وفي رواية الكشميهني " لي " كما في الأولى. قوله: (فذهبت أطلبه يوم عرفة) في رواية الحميدي في مسنده ومن طريقه أخرجه أبو نعيم " أضللت بعيرا لي يوم عرفة فخرجت أطلبه بعرفة " فعلى هذا فقوله يوم عرفة يتعلق بأضللت، فإن جبيرا إنما جاء إلى عرفة ليطلب بعيره لا ليقف بها. قوله: (من الحمس) بضم المهملة وسكون الميم بعدها مهملة سيأتي تفسيره. قوله: (فما شأنه هاهنا) في رواية الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وابن أبي عمر جميعا عن سفيان " فما له خرج من الحرم " وزاد مسلم في روايته عن عمرو الناقد وأبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بعد قوله " فما شأنه هاهنا ": وكانت قريش تعد من الحمس وهذه الزيادة توهم أنها من أصل الحديث وليس كذلك بل هي من قول سفيان بينه الحميدي في مسنده عنه، ولفظه متصلا بقوله " ما شأنه هاهنا". قال سفيان والأحمس الشديد على دينه، وكانت قريش تسمى الحمس، وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم فكانوا لا يخرجون من الحرم. ووقع عند الإسماعيلي من طريقيه بعد قوله " فما له خرج من الحرم " قال سفيان الحمس يعني قريشا، وكانت تسمى الحمس وكانت لا تجاوز الحرم ويقولون نحن أهل الله لا نخرج من الحرم وكان سائر الناس يقف بعرفة وذلك قوله: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) انتهى. وعرف بهاتين الزيادتين معنى حديث جبير، وكأن البخاري حذفهما استغناء بالرواية عن عروة، لكن في سياق سفيان فوائد زائدة. وقد روى بعض ذلك ابن خزيمة وإسحاق بن راهويه في مسنده موصولا من طريق ابن إسحاق حدثنا عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان عن عمه نافع بن جبير عن أبيه قال " كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة ويقولون نحن الحمس فلا نخرج من الحرم، وقد تركوا الموقف بعرفة، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا". ولفظ يونس بن بكير عن ابن إسحاق في المغازي مختصرا وفيه " توفيقا من الله له". وأخرجه إسحاق أيضا عن الفضل بن موسى عن عثمان بن الأسود عن عطاء أن حبير بن مطعم قال: أضللت حمارا لي في الجاهلية فوجدته بعرفة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت علمت أن الله وفقه لذلك". وأما تفسير الحمس فروى إبراهيم الحربي في " غريب الحديث " من طريق ابن جريج عن مجاهد قال: الحمس قريش ومن كان يأخذ مأخذها هن القبائل كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وغزوان وبني عامر وبني صعصعة وبني كنانة إلا بني بكر، والأحمس في كلام العرب الشديد، وسموا بذلك لما شددوا على أنفسهم، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لا يأكلون لحما ولا يضربون وبرا ولا شعرا، وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم. وروى إبراهيم أيضا من طريق عبد العزيز بن عمران المدني قال: سموا حمسا بالكعبة لأنها حمساء حجرها أبيض يضرب إلى السواد انتهى. والأول أشهر وأكثر وأنه من التحمس وهو التشدد، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تحمس تشدد، ومنه حمس الوغي إذا اشتد، وسيأتي مزيد لذلك في الكلام على الحديث الذي بعده. وأفادت هذه الرواية أن رواية جبير له لذلك كانت قبل الهجرة، وذلك قبل أن يسلم جبير، وهو نظير روايته أنه سمعه يقرأ في المغرب بالطور وذلك قبل أن يسلم جبير أيضا كما تقدم، وتضمن ذلك التعقب على السهيلي حيث ظن أن رواية جبير لذلك كانت في الإسلام في حجة الوداع فقال: انظر كيف أنكر جبير هذا وقد حج بالناس عتاب سنة ثمان وأبو بكر سنة تسع، ثم قال: إما أن يكونا وقفا بجمع كما كانت قريش تصنع، وإما أن يكون جبير لم يشهد معهما الموسم. وقال الكرماني: وقفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة كانت سنة عشر وكان جبير حينئذ مسلما لأنه أسلم يوم الفتح، فإن كان سؤاله عن ذلك إنكارا أو تعجبا فلعله لم يبلغه نزول قوله تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) وإن كان للاستفهام عن حكمة المخالفة عما كانت عليه الحمس فلا إشكال، ويحتمل أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة بعرفة قبل الهجرة انتهى ملخصا. وهذا الأخير هو المعتمد كما بينته قبل بدلائله، وكأنه تبع السهيلي في ظنه أنها حجة الوداع، أو وقع له اتفاقا، ودل هذا الحديث على أن المراد بقوله تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) الإفاضة من عرفة. وظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من مزدلفة لأنها ذكرت بلفظة " ثم " بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام. وأجاب بعض المفسرين بأن الأمر بالذكر عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر لما ورد منه على المكان الذي تشرع الإفاضة منه، فالتقدير فإذا أفضتم اذكروا ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس لا من حيث كان الحمس يفيضون، أو التقدير فإذا أفضتم من عرفات إلى المشعر الحرام فاذكروا الله عنده ولتكن إفاضتكم من المكان الذي يفيض فيه الناس غير الحمس. الحديث: حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلَّا الْحُمْسَ وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ وَكَانَتْ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُمْسِ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ قَالَ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ الشرح: قوله: (قال عروة) في رواية عبد الرزاق عن معمر " عن هشام بن عروة عن أبيه فذكره". قوله: (والحمس قريش وما ولدت) زاد معمر " وكان ممن ولدت قريش خزاعة وبنو كنانة وبنو عامر بن صعصعة"، وقد تقدم في أثر مجاهد أن منهم أيضا غزوان وغيرهم، وذكر إبراهيم الحربي في غريبه عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال: كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم، فدخل في الحمس من غير قريش ثقيف وليث وخزاعة وبنو عامر بن صعصعة يعني وغيرهم. وعرف بهذا أن المراد بهذه القبائل من كانت له من أمهاته قريشية، لا جميع القبائل المذكورة. قوله: (فأخبرني أبي) القائل هو هشام بن عروة، والموصول من الحديث هذا القدر في سبب نزول هذه الآية وسيأتي في تفسير البقرة من وجه آخر أتم من هذا. وقوله "فدفعوا إلى عرفات " في رواية الكشميهني " فرفعوا " بالراء، ولمسلم من طريق أبي أسامة عن هشام " رجعوا إلى عرفات " والمعني أنهم أمروا أن يتوجهوا إلى عرفات ليقفوا بها ثم يفيضوا منها، وقد تقدم في طريق جبير سبب امتناعهم من ذلك، وتقدم الكلام على قصة الطواف عريانا في أوائل الصلاة، وعرف برواية عائشة أن المخاطب بقوله تعالى (أفيضوا) النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به من كان لا يقف بعرفة من قريش وغيرهم. وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الضحاك أن المراد بالناس هنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وعنه المراد به الإمام، وعن غيره آدم، وقرئ في الشواذ " الناسي " بكسر السين بوزن القاضي والأول أصح، نعم الوقوف بعرفة موروث عن إبراهيم كما روى الترمذي وغيره من طريق يزيد بن شيبان قال " كنا وقوفا بعرفة فأتانا ابن مريع فقال: إني رسول رسول الله إليكم، يقول لكم: كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم " الحديث، ولا يلزم من ذلك أن يكون هو المراد خاصة ب قوله: (من حيث أفاض الناس) بل هو الأعم من ذلك، والسبب فيه ما حكته عائشة رضي الله عنها. وأما الإتيان في الآية بقوله: (ثم) فقيل هي بمعنى الواو وهذا اختيار الطحاوي، وقيل لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب، والمعنى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ثم اجعلوا الإفاضة التي تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون، قال الزمخشري: وموقع (ثم) هنا موقعها من قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، فتأتي ثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة فقال (ثم أفيضوا) لتفاوت ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ، قال الخطابي: تضمن قوله تعالى (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) الأمر بالوقوف بعرفة لأن الإفاضة إنما تكون عند اجتماع قبله، وكذا قال ابن بطال وزاد: وبين الشارع مبتدأ الوقوف بعرفة ومنتهاه. |
08-14-2013, 12:05 PM | #501 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ الشرح:
قوله: (باب السير إذا دفع من عرفة) أي صفته. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا جَالِسٌ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ قَالَ كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ قَالَ هِشَامٌ وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ فَجْوَةٌ مُتَّسَعٌ وَالْجَمِيعُ فَجَوَاتٌ وَفِجَاءٌ وَكَذَلِكَ رَكْوَةٌ وَرِكَاءٌ مَنَاصٌ لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ الشرح: قوله: (عن أبيه) في رواية ابن خزيمة من طريق سفيان عن هشام " سمعت أبي". قوله: (سئل أسامة وأنا جالس) في رواية النسائي من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك " وأنا جالس معه " وفي رواية مسلم من طريق حماد بن زيد عن هشام عن أبيه " سئل أسامة وأنا شاهد وقال سألت أسامة بن زيد". قوله: (حين دفع) في رواية يحيى بن يحيى الليثي وغيره عن مالك في الموطأ " حين دفع من عرفة". قوله: (العتق) بفتح المهملة والنون هو السير الذي بين الإبطاء والإسراع، قال في " المشارق ": هو سير سهل في سرعة. وقال القزاز: العنق سير سريع، وقيل المشي الذي يتحرك به عنق الدابة، وفي " الفائق ": العنق الخطو الفسيح. وانتصب العنق على المصدر المؤكد من لفظ الفعل. قوله: (نص) أي أسرع، قال أبو عبيد: النص تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها، وأصل النص غاية المشي ومنه نصصت الشيء رفعته، ثم استعمل في ضرب سريع من السير. قوله: (قال هشام) يعني ابن عروة الراوي، وكذا بين مسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن وأبو عوانة من طريق أنس بن عياض كلاهما عن هشام أن التفسير من كلامه، وأدرجه يحيى القطان فيما أخرجه المصنف في الجهاد، وسفيان فيما أخرجه النسائي، وعبد الرحيم بن سليمان ووكيع فيما أخرجه ابن خزيمة كلهم عن هشام، وقد رواه إسحاق في مسنده عن وكيع ففصله وجعل التفسير من كلام وكيع، وقد رواه ابن خزيمة من طريق سفيان ففصله وجعل التفسير من كلام سفيان، وسفيان ووكيع إنما أخذا التفسير المذكور عن هشام فرجع التفسير إليه، وقد رواه أكثر رواة " الموطأ " عن مالك فلم يذكروا التفسير، وكذلك رواه أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة ومسلم من طريق حماد بن زيد كلاهما عن هشام، قال ابن خزيمة: في هذا الحديث دليل على أن الحديث الذي رواه ابن عباس عن أسامة أنه قال " فما رأيت ناقته رافعة يدها حني أتى جمعا " أنه محمول على حال الزحام دون غيره ا ه، وأشار بذلك إلى ما أخرجه حفص من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن أسامة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه حين أفاض من عرفة وقال: أيها الناس، عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بإلايجاف، قال: فما رأيت ناقته رافعة يدها حتى أتى جمعا " الحديث، وأخرجه أبو داود، وسيأتي للمصنف بعد باب من حديث ابن عباس ليس فيه أسامة، ويأتي الكلام عليه هناك. وأخرج مسلم من طريق عطاء عن ابن عباس عن أسامة في أثناء حديث قال " فما زال يسير على هينته حتى أتى جمعا " وهذا يشعر بأن ابن عباس إنما أخذه عن أسامة كما ستأتي الحجة لذلك. وقال ابن عبد البر: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى مزدلفة لأجل الاستعجال للصلاة، لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الزحمة، ومن الإسراع عند عدم الزحام، وفيه أن السلف كانوا يحرصون على السؤال عن كيفية أحواله صلى الله عليه وسلم في جميع حركاته وسكونه ليقتدوا به في ذلك. قوله: (فجوة) بفتح الفاء وسكون الجيم المكان المتسع كما سيأتي تفسيره في آخر الباب، ورواه أبو مصعب ويحيى بن بكير وغيرهما عن مالك بلفظ " فرجة " بضم الفاء وسكون الراء وهو بمعنى الفجوة. قوله في رواية المستملي وحده (قال أبو عبد الله) هو المصنف. (فجوة: متسع والجمع فجوات) أي بفتحتين. (وفجاء) أي بكسر الفاء والمد. (وكذلك ركوة وركاء) وركوات. قوله: (مناص ليس حين فرار) أي هرب، أي تفسير قوله تعالى (ولات حين مناص) وإنما ذكر هذا الحرف هنا لقوله " نص " ولا تعلق له به إلا لدفع وهم هن يتوهم أن أحدهما مشتق من الآخر وإلا فمادة نص غير مادة ناص، قال أبو عبيدة في " المجاز ": المناص مصدر من قوله ناص ينوص. *3*باب النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ الشرح: قوله: (باب النزول بين عرفة وجمع) أي لقضاء الحاجة ونحوها، وليس من المناسك. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ مَالَ إِلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي فَقَالَ الصَّلَاةُ أَمَامَكَ الشرح: قوله: (عن يحيى بن سعيد) هو الأنصاري وروايته عن موسى بن عقبة من رواية الأقران لأنهما تابعيان صغيران، وقد حمله موسى عن كريب فصار في الإسناد ثلاثة من التابعين. قوله: (حيث أفاض) في رواية أبي الوقت " حين " هي أولى لأنها ظرف زمان وحيث ظرف مكان. (نكتة) : في حيث ست لغات ضم آخرها وفتحه وكسره وبالواو بدل الياء مع الحركات. قوله: (مال إلى الشعب) بين محمد بن أبي حرملة في روايته الآتية بعد حديث عن كريب أنه قرب المزدلفة، وأردف المصنف بهذا الحديث حديث ابن عمر أنه كان يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك في كونه يقضي الحاجة بالشعب ويتوضأ لكنه لا يصلي إلا بالمزدلفة، وقوله "فينتفض " بفاء وضاد معجمة أي يستجمر، وقد سبق بيانه في كتاب الطهارة، وأخرجه الفاكهي من وجه آخر عن ابن عمر من طريق سعيد بن جبير قال " دفعت مع ابن عمر من عرفة، حني إذا وازينا الشعب الذي يصلي فيه الخلفاء المغرب دخله ابن عمر فتنفض فيه، ثم توضأ وكبر، فانطلق حتى جاء جمعا فأقام فصلى المغرب. فلما سلم قال: الصلاة، ثم صلى العشاء " وأصله في الجمع بجمع عند مسلم وأصحاب السنن، وروى الفاكهي أيضا من طريق ابن جريج قال: قال عطاء " أردف النبي صلى الله عليه وسلم أسامة، فلما جاء الشعب الذي يصلي فيه الخلفاء الآن المغرب نزل فأهرق الماء ثم توضأ " وظاهر هذين الطريقين أن الخلفاء كانوا يصلون المغرب عند الشعب المذكور قبل دخول وقت العشاء، وهو خلاف السنة في الجمع بين الصلاتين بمزدلفة. ووقع عند مسلم من طريق محمد بن عقبة عن كريب " لما أتى الشعب الذي ينزله الأمراء " وله من طريق إبراهيم بن عقبة عن كريب " الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمغرب " والمراد بالخلفاء والأمراء في هذا الحديث بنو أمية فلم يوافقهم ابن عمر على ذلك، وقد جاء عن عكرمة إنكار ذلك، وروى الفاكهي أيضا من طريق ابن أبي نجيح سمعت عكرمة يقول: اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالا واتخذتموه مصلى، وكأنه أنكر بذلك على من ترك الجمع بين الصلاتين لمخالفته السنة في ذلك، وكان جابر يقول: لا صلاة إلا بجمع، أخرجه ابن المنذر بإسناد صحيح، ونقل عن الكوفيين، وعند ابن القاسم صاحب مالك وجوب الإعادة، وعن أحمد إن صلى أجزأه وهو قول أبي يوسف والجمهور. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَاتٍ فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّعْبَ الْأَيْسَرَ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ فَبَالَ ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا فَقُلْتُ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصَّلَاةُ أَمَامَكَ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ جَمْعٍ قَالَ كُرَيْبٌ فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الْفَضْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ الشرح: قوله: (عن محمد بن أبي حرملة) هو المدني مولى آل حويطب ولا يعرف اسم أبيه، وكان خصيف يروي عنه فيقول " حدثني محمد بن حويطب " فذكر ابن حبان أن خصيفا كان ينسبه إلى جد مواليه، والإسناد من شيخ قتيبة إلخ كلهم مدنيون. قوله: (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم) بكسر الدال أي ركبت وراءه، وفيه الركوب حال الدفع من عرفة والارتداف على الدابة، ومحله إذا كانت مطيقة، وارتداف أهل الفضل، ويعد ذلك من إكرامهم للرديف لا من سوء أدبه. قوله: (فصببت عليه الوضوء) بفتح الواو أي الماء الذي يتوضأ به، ويؤخذ منه الاستعانة في الوضوء، وللفقهاء فيها تفصيل لأنها إما أن تكون في إحضار الماء مثلا أو في صبه على المتوضئ أو مباشرة غسل أعضائه، فالأول جائز والثالث مكروه إلا إن كان لعذر، واختلف في الثاني والأصح أنه لا يكره بل هو خلاف الأولى، فأما وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فهو إما لبيان الجواز وهو حينئذ أفضل في حقه أو للضرورة. قوله: (وضوءا خفيفا) أي خففه بأن توضأ مرة مرة وخفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته، وهو معنى قوله في رواية مالك الآتية بعد باب بلفظ " فلم يسبغ الوضوء " وأغرب ابن عبد البر فقال: معنى قوله " فلم يسبغ الوضوء " أي استنجى به، وأطلق عليه اسم الوضوء اللغوي لأنه من الوضاءة وهي النظافة ومعني الإسباغ الإكمال أي لم يكمل وضوءه فيتوضأ للصلاة، قال: وقد قيل إنه نوضأ وضوءا خفيفا، ولكن الأصول تدفع هذا لأنه لا يشرع الوضوء لصلاة واحدة مرتين، وليس ذلك في رواية مالك. ثم قال: وقد قيل إن معنى قوله " لم يسبغ الوضوء " أي لم يتوضأ في جميع أعضاء الوضوء بل اقتصر على بعضها، واستضعفه ا ه. وحكى ابن بطال أن عيسى بن دينار من قدماء أصحابهم سبق ابن عبد البر إلى ما اختاره أو لا، وهو متعقب بهذه الرواية الصريحة، وقد تابع محمد بن أبي حرملة عليها محمد بن عقبة أخو موسى أخرجه مسلم بمثل لفظه، وتابعهما إبراهيم بن عقبة أخو موسى أيضا أخرجه مسلم أيضا بلفظ " فتوضأ وضوءا ليس بالبالغ"، وقد تقدم في الطهارة من طريق يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن موسى بن عقبة بلفظ " فجعلت أصب عليه ويتوضأ"، ولم تكن عادته صلى الله عليه وسلم أن يباشر ذلك أحد منه حال الاستنجاء، ويوضحه ما أخرجه مسلم أيضا من طريق عطاء مولى ابن سباع عن أسامة في هذه القصة قال فيها أيضا " ذهب إلى الغائط فلما رجع صببت عليه من الإداوة " قال القرطبي: اختلف الشراح في قوله " ولم يسبغ الوضوء " هل المراد به اقتصر به على بعض الأعضاء فيكون وضوءا لغويا، أو اقتصر على بعض العدد فيكون وضوءا شرعيا؟ قال: وكلاهما محتمل، لكن يعضد من قال بالثاني قوله في الرواية الأخرى " وضوءا خفيفا " لأنه يقال في الناقص خفيف، ومن موضحات ذلك أيضا قول أسامة له " الصلاة " فإنه يدل على أنه رآه يتوضأ وضوءه للصلاة ولذلك قال له أتصلي، كذا قال ابن بطال وفيه نظر لأنه لا مانع أن يقول له ذلك لاحتمال أن يكون مراده أتريد الصلاة فلم لم تتوضأ وضوءها؟ وجوابه بأن الصلاة أمامك معناه أن المغرب لا تصلي هنا فلا تحتاج إلى وضوء الصلاة، وكأن أسامة طن أنه صلى الله عليه وسلم نسي صلاة المغرب ورأى وقتها قد كاد أن يخرج أو خرج، فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أنها في تلك الليلة يشرع تأخيرها لتجمع مع العشاء بالمزدلفة، ولم يكن أسامة يعرف تلك السنة قبل ذلك وأما اعتلال ابن عبد البر بأن الوضوء لا يشرع مرتين لصلاة واحدة فليس بلازم لاحتمال أنه توضأ ثانيا عن حدث طارئ، وليس الشرط بأنه لا يشرع تجديد الوضوء إلا لمن أدى به صلاة فرضا أو نفلا متفق عليه، بل ذهب جماعة إلى جوازه وإن كان الأصح خلافه، وإنما توضأ أولا ليستديم الطهارة ولا سيما في تلك الحالة لكثرة الاحتياج إلى ذكر الله حينئذ، وخفف الوضوء لقلة الماء حينئذ، وقد تقدم شيء من هذا في أوائل الطهارة. وقال الخطابي: إنما ترك إسباغه حين نزل الشعب ليكون مستصحبا للطهارة في طريقه، وتجوز فيه لأنه لم يرد أن يصلي به، فلما نزل وأرادها أسبغه. وقول أسامة " الصلاة " بالنصب على إضمار الفعل، أي تذكر الصلاة أو صل، ويجوز الرفع على تقدير حضرت الصلاة مثلا. قوله "الصلاة أمامك " بالرفع وأمامك بفتح الهمزة بالنصب على الظرفية أي الصلاة ستصلى بين يديك، أو أطلق الصلاة على مكانها أي المصلى بين يديك، أو معنى أمامك لا تفوتك وستدركها، وفيه تذكير التابع بما تركه متبوعه ليفعله أو يعتذر عنه أو يبين له وجه صوابه. قوله: (حتى أتى المزدلفة فصلى) أي لم يبدأ بشيء قبل الصلاة، ووقع في رواية إبراهيم بن عقبة عند مسلم " ثم سار حتى بلغ جمعا فصلى المغرب والعشاء"، وقد بينه في رواية مالك بعد باب بلفظ " حتى جاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما " وبين مسلم من وجه آخر عن إبراهيم بن عقبة عن كريب أنهم لم يزيدوا بين الصلاتين على الإناخة ولفظه " فأقام المغرب، ثم أناخ الناس، ولم يحلوا حتى أقام العشاء فصلوا ثم حلوا " وكأنهم صنعوا ذلك رفقا بالدواب أو للأمن من تشويشهم بها، وفيه إشعار بأنه خفف القراءة في الصلاتين، وفيه أنه لا بأس بالعمل اليسير بين الصلاتين اللتين يجمع بينهما ولا يقطع ذلك الجمع، وسيأتي البحث في ذلك بعد ثلاثة أبواب. وقوله في رواية مالك " ولم يصل بينهما " أي لم يتنفل، وسيأتي حديث ابن عمر في ذلك بعد بابين. قوله: (ثم ردف الفضل) أي ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب، ووقع في رواية إبراهيم بن عقبة عند مسلم " قال كريب فقلت لأسامة: كيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال ردفه الفضل بن العباس وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي " يعني إلى منى. وسيأتي الكلام على التلبية بعد سبعة أبواب، واستدل بالحديث على جمع التأخير وهو إجماع بمزدلفة، لكنه عند الشافعية وطائفة بسبب السفر وعند الحنفية والمالكية بسبب النسك، وأغرب الخطابي فقال: فيه دليل على أنه لا يجوز أن يصلي الحاج المغرب إذا أفاض من عرفة حتى يبلغ المزدلفة، ولو أجزأته في غيرها لما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم عن وقتها المؤقت لها في سائر الأيام. *3*باب أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الْإِفَاضَةِ وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ الشرح: قوله: (باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة) أي من عرفة. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى وَالِبَةَ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلْإِبِلِ فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ أَوْضَعُوا أَسْرَعُوا خِلَالَكُمْ مِنْ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا بَيْنَهُمَا الشرح: قوله: (حدثنا إبراهيم بن سويد) هو المدني وهو ثقة لكن قال ابن حبان: في حديثه مناكير انتهى. وهذا الحديث قد تابعه عليه سليمان بن بلال عند الإسماعيلي، والراوي عنه إبراهيم بن سويد مدني أيضا واسم جده حبان، ووهم الأصيلي فسماه مولى حكاه الجياني وخطؤوه فيه. قوله: (مولى المطلب) أي ابن عبد الله بن حنطب. قوله: (مولى والبة) بكسر اللام بعدها موحدة خفيفة بطن من بني أسد. قوله: (أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة) أي من عرفة. قوله: (زجرا) بفتح الزاي وسكون الجيم بعدها راء أي صياحا لحث الإبل. قوله: (وضربا) زاد في رواية كريمة " وصوتا " وكأنها تصحيف من قوله وضربا فظنت معطوفة. قوله: (عليكم بالسكينة) أي في السير، والمراد السير بالرفق وعدم المزاحمة. قوله: (فإن البر ليس بالإيضاع) أي السير السريع، ويقال هو سير مثل الخبب فبين صلى الله عليه وسلم أن تكلف الإسراع في السير ليس البر أي مما يتقرب به، ومن هذا أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لما خطب بعرفة " ليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له " وقال المهلب: إنما نهاهم عن الإسراع إبقاء عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة. قوله: (أوضعوا أسرعوا) هو من كلام المصنف، وهو قول أبي عبيدة في المجاز. قوله: (خلالكم من التخلل بينكم) هو أيضا من قول أبي عبيدة ولفظه " ولأوضعوا أي لأسرعوا، خلالكم أي بينكم وأصله من التخلل " وقال غيره المعنى وليسعوا بينكم بالنميمة يقال أوضع البعير أسرعه وخص الراكب لأنه أسرع من الماشي، وقوله: (وفجرنا خلالهما: بينهما) هو قول أبي عبيدة أيضا ولفظه " وفجرنا خلالهما أي وسطهما وبينهما " وإنما ذكر البخاري هذا التفسير لمناسبة أوضعوا للفظ الإيضاع، ولما كان متعلق أوضعوا الخلال ذكر تفسيره تكثيرا للفائدة. *3*باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ الشرح: قوله: (باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة) أي المغرب والعشاء، ذكر فيه حديث أسامة وقد تقدم الكلام عليه مستوفى قبل باب. *3*باب مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَتَطَوَّعْ الشرح: قوله: (باب من جمع بينهما) أي بين الصلاتين المذكورتين. قوله: (ولم يتطوع) أي لم يتنفل بينهما. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلَا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الشرح: قوله: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء) كذا لأبي ذر، ولغيره " بين المغرب والعشاء". قوله: (بجمع) بفتح الجيم وسكون الميم أي المزدلفة، وسميت جمعا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء، وازدلف إليها أي دنا منها، وروي عن قتادة أنها سميت جمعا لأنها يجمع فيها بين الصلاتين، وقيل وصفت بفعل أهلها لأنهم يجتمعون بها ويزدلفون إلى الله أي يتقربون إليه بالوقوف فيها، وسميت المزدلفة إما لاجتماع الناس بها أو لاقترابهم إلى منى أو لازدلاف الناس منها جميعا أو للنزول بها في كل زلفة من الليل أو لأنها منزلة وقربة إلى الله أو لازدلاف آدم إلى حواء بها. قوله: (بإقامة) لم يذكر الأذان، وسيأتي البحث فيه بعد باب. قوله: (ولم يسبح بينهما) أي لم يتنفل، و قوله: (ولا على إثر كل واحدة منهما) أي عقبها، ويستفاد منه أنه ترك التنفل عقب المغرب وعقب العشاء، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرح بأنه لم يتنفل بينهما، بخلاف العشاء فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها لكنه تنفل بعد ذلك في أثناء الليل، ومن ثم قال الفقهاء تؤخر سنة العشاءين عنهما، ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة لأنهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع بينهما انتهى. ويعكر على نقل الاتفاق فعل ابن مسعود الآتي في الباب الذي بعده. الحديث: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ الشرح: قوله: (حدثنا يحيى) هو ابن سعيد الأنصاري وفي روايته عن عدي بن ثابت رواية تابعي عن تابعي. وفي رواية عبد الله بن يزيد شيخ عدي فيه رواية صحابي عن صحابي، والإسناد كله دائر بين مدني وكوفي، وزاد مسلم من رواية الليث عن يحيى عن عدي عن عبد الله بن يزيد " وكان أميرا على الكوفة على عهد ابن الزبير". قوله: (بالمزدلفة) مبين لقوله في رواية مالك عن يحيى بن سعيد التي أخرجها المصنف في المغازي بلفظ " أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع المغرب والعشاء جميعا " وللطبراني من طريق جابر الجعفي عن عدي بهذا الإسناد " صلى بجمع المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة " وفيه رد على قول ابن حزم: أن حديث أبي أيوب ليس فيه ذكر أذان ولا إقامة، لأن جابرا وإن كان ضعيفا فقد تابعه محمد بن أبي ليلى عن عدي على ذكر الإقامة فيه عند الطبراني أيضا فيقوى كل واحد منهما بالآخر. |
08-14-2013, 12:06 PM | #502 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الشرح:
قوله: (باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما) أي من المغرب والعشاء بالمزدلفة. الحديث: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الْأَذَانِ بِالْعَتَمَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَمَرَ أُرَى فَأَذَّنَ وَأَقَامَ قَالَ عَمْرٌو لَا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلَّا مِنْ زُهَيْرٍ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُمَا صَلَاتَانِ تُحَوَّلَانِ عَنْ وَقْتِهِمَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِي النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ الشرح: قوله: (زهير) هو الجعفي، وأبو إسحاق هو السبيعي، وشيخه هو النخعي، وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: (حج عبد الله) في رواية أحمد عن حسن بن موسى، وللنسائي من طريق حسين بن عياش كلاهما عن زهير بالإسناد " حج عبد الله بن مسعود فأمرني علقمة أن ألزمه فلزمته فكنت معه " وفي رواية إسرائيل الآتية بعد باب " خرجت مع عبد الله إلى مكة ثم قدمنا جمعا". قوله: (حين الأذان بالعتمة أو قريبا من ذلك) أي من مغيب الشفق. قوله: (فأمر رجلا) لم أقف على اسمه، ويحتمل أن يكون هو عبد الرحمن بن يزيد فإن في رواية حسن وحسين المذكورتين " فكنت معه فأتينا المزدلفة، فلما كان حين طلع الفجر قال قم، فقلت له إن هذه الساعة ما رأيتك صليت فيها". قوله: (ثم أمر أرى رجلا فأذن وأقام، قال عمرو ولا أعلم الشك إلا من زهير) أرى بضم الهمزة أي أظن، وقد بين عمرو وهو ابن خالد شيخ البخاري فيه أنه من شيخه زهير، وأخرجه الإسماعيلي من طريق الحسن بن موسى عن زهير مثل ما رواه عنه عمرو ولم يقل ما قال عمرو، وأخرجه البيهقي من طريق عبد الرحمن بن عمرو عن زهير وقال فيه " ثم أمر قال زهير أرى فأذن وأقام " وسيأتي بعد باب رواية إسرائيل عن أبي إسحاق بأصرح مما قال زهير ولفظه " ثم قدمنا جمعا فصلى الصلاتين كل صلاة وحدها بأذان وإقامة والعشاء بينهما " والعشاء بفتح العين ورواه ابن خزيمة وأحمد من طريق ابن أبي زائدة عن أبي إسحاق بلفظ " فأذن وأقام ثم صلى المغرب ثم تعشى ثم قام فأذن وأقام وصلى العشاء ثم بات بجمع، حتى إذا طلع الفجر فأذن وأقام " ولأحمد من طريق جرير بن حازم عن أبي إسحاق " فصلى بنا المغرب، ثم دعا بعشاء فتعشى ثم قام فصلى العشاء ثم رقد " ووقع عند الإسماعيلي من رواية شبابة عن ابن أبي ذئب في هذا الحديث " ولم يتطوع قبل كل واحدة منهما ولا بعدها " ولأحمد من رواية زهير " فقلت له إن هذه لساعة ما رأيتك صليت فيها". قوله: (فلما طلع الفجر) في رواية المستملي والكشميهني " فلما حين طلع الفجر " وفي رواية الحسين بن عياش عن زهير " فلما كان حين طلع الفجر". قوله: (قال عبد الله) هو ابن مسعود. قوله: (عن وقتهما) كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي " عن وقتها " بالأفراد، وسيأتي في رواية إسرائيل بعد باب رفع هذه الجملة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (حين يبزغ) بزاي مضمومة وغين معجمة أي يطلع، وفي هذا الحديث مشروعية الأذان والإقامة لكل من الصلاتين إذا جمع بينهما، قال ابن حزم: لم نجده مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت عنه لقلت به. ثم أخرج من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث: قال أبو إسحاق فذكرته لأبي جعفر محمد بن علي فقال: أما نحن أهل البيت فهكذا نصنع، قال ابن حزم: وقد روي عن عمر من فعله، قلت أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه، ثم تأوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه فأذن لهم ليجتمعوا ليجمع بهم، ولا يخفى تكلفه، ولو تأتي له ذلك في حق عمر - لكونه كان الإمام الذي يقيم للناس حجهم - لم يتأت له في حق ابن مسعود لأنه إن كان معه ناس من أصحابه لا يحتاج في جمعهم إلى من يؤذن لهم، وقد أخذ بظاهره مالك، وهو اختيار البخاري. وروى ابن عبد البر عن أحمد بن خالد أنه كان يتعجب من مالك حيث أخذ بحديث ابن مسعود وهو من رواية الكوفيين مع كونه موقوفا ومع كونه لم يروه ويترك ما روي عن أهل المدينة وهو مرفوع، قال ابن عبد البر: وأعجب أنا من الكوفيين حيث أخذوا بما رواه أهل المدينة وهو أن يجمع بينهما بأذان وإقامة واحدة وتركوا ما رووا في ذلك عن ابن مسعود مع أنهم لا يعدلون به أحدا. قلت: الجواب عن ذلك أن مالكا اعتمد على صنيع عمر في ذلك وإن كان لم يروه في " الموطأ " واختار الطحاوي ما جاء عن جابر يعني في حديثه الطويل الذي أخرجه مسلم أنه جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، وهذا قول الشافعي في القديم ورواية عن أحمد وبه قال ابن الماجشون وابن حزم وقواه الطحاوي بالقياس على الجمع بين الظهر والعصر بعرفة. وقال الشافعي في الجديد والثوري وهو رواية عن أحمد: يجمع بينهما بإقامتين فقط، وهو ظاهر حديث أسامة الماضي قربيا حيث قال " فأقام المغرب ثم أناخ الناس ولم يحلوا حتى أقام العشاء " وقد جاء عن ابن عمر كل واحد من هذه الصفات أخرجه الطحاوي وغيره، وكأنه كان يراه من الأمر الذي يتخير فيه الإنسان، وهو المشهور عن أحمد، واستدل بحديث ابن مسعود على جواز التنفل بين الصلاتين إن أراد الجمع بينهما لكون ابن مسعود تعشى بين الصلاتين، ولا حجة فيه لأنه لم يرفعه، ويحتمل أن لا يكون قصد الجمع، وظاهر صنيعه يدل على ذلك لقوله إن المغرب تحول عن وقتها فرأى أنه وقت هذه المغرب خاصة، ويحتمل أن يكون قصد الجمع وكان يرى أن العمل بين الصلاتين لا يقطعه إذا كان ناويا للجمع، ويحتمل قوله " تحول عن وقتها " أي المعتاد، وأما إطلاقه على صلاة الصبح أنها تحول عن وقتها فليس معناه أنه أوقع الفجر قبل طلوعها، وإنما أراد أنها وقعت قبل الوقت المعتاد فعلها فيه في الحضر، ولا حجة فيه لمن منع التغليس بصلاة الصبح لأنه ثبت عن عائشة وغيرها كما تقدم في المواقيت التغليس بها، بل المراد هنا أنه كان إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته ثم خرج فصلى الصبح مع ذلك بغلس، وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين والفجر نصب أعينهم فبادر بالصلاة أول ما بزغ حتى أن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه، وهو بين في رواية إسرائيل الآتية حيث قال " ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، قائل يقول طلع الفجر وقائل يقول لم يطلع " واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود هذا على ترك الجمع بين الصلاتين في غير يوم عرفة وجمع لقول ابن مسعود " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين " وأجاب المجوزون بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وقد ثبت الجمع بين الصلاتين من حديث ابن عمر وأنس وابن عباس وغيرهم وتقدم في موضعه بما فيه كفاية، وأيضا فالاستدلال به إنما هو من طريق المفهوم وهم لا يقولون به، وأما من قال به فشرطه أن لا يعارضه منطوق، وأيضا فالحصر فيه ليس على ظاهره لإجماعهم على مشروعية الجمع بين الظهر والعصر بعرفة. *3*باب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ وَيُقَدِّمُ إِذَا غَابَ الْقَمَرُ الشرح: قوله: (باب من قدم ضعفة أهله) أي من نساء وغيرهم. قوله: (بليل) أي من منزله بجمع. قوله: (فيقفون بالمزدلفة ويدعون ويقدم) ضبطه الكرماني بفتح القاف وكسر الدال قال: وحذف الفاعل للعلم به وهو من ذكر أولا، وبفتح الدال على البناء للمجهول. وقوله "إذا غاب القمر " بيان للمراد من قوله في أول الترجمة " بليل"، ومغيب القمر تلك الليلة يقع عند أوائل الثلث الأخير، ومن ثم قيده الشافعي ومن تبعه بالنصف الثاني. قال صاحب " المغني ": لا نعلم خلافا في جواز تقديم الضعفة بليل من جمع إلى منى. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَالِمٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الْجَمْرَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (قال سالم) في رواية ابن وهب عند مسلم عن يونس عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله أخبره. قوله: (المشعر) بفتح الميم والعين، وحكى الجوهري كسر الميم وقيل إنه لغة أكثر العرب. وقال ابن قرقول: كسر الميم لغة لا رواية. وقال ابن قتيبة: لم يقرأ بها في الشواذ، وقيل بل قرئ حكاه الهذلي. وسمي المشعر لأنه معلم للعبادة، والحرام لأنه من الحرم أو لحرمته. وقوله "ما بدا لهم " بغير همز أي ظهر لهم، وأشعر ذلك بأنه لا توقيف لهم فيه. قوله: (ثم يرجعون) في رواية مسلم " ثم يدفعون " وهو أوضح، ومعنى الأول أنهم يرجعون عن الوقوف إلى الدفع ثم يقدمون منى على ما فصل في الخبر، وقوله "لصلاة الفجر " أي عند صلاة الفجر. قوله: (وكان ابن عمر يقول أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم) كذا وقع فيه أرخص، وفي بعض الروايات رخص بالتشديد وهو أظهر من حيث المعنى لأنه من الترخيص لا من الرخص، واحتج به ابن المنذر لقول من أوجب المبيت بمزدلفة على غير الضعفة لأن حكم من لم يرخص له ليس كحكم من رخص له، قال: ومن زعم أنهما سواء لزمه أن يجيز المبيت على منى لسائر الناس لكونه صلى الله عليه وسلم أرخص لأصحاب السقاية وللرعاء أن لا يبيتوا بمنى، قال: فإن قال لا تعدوا بالرخص مواضعها فليستعمل ذلك هنا، ولا يأذن لأحد أن يتقدم من جمع إلا لمن رخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وقد اختلف السلف في هذه المسألة فقال علقمة والنخعي والشعبي: من ترك المبيت بمزدلفة فاته الحج. وقال عطاء والزهري وقتادة والشافعي والكوفيون وإسحاق: عليه دم، قالوا: ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف. وقال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع، وفي حديث ابن عمر دلالة على جواز رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس لقوله " أن من يقدم عند صلاة الفجر إذا قدم رمى الجمرة " وسيأتي ذلك صريحا من صنيع أسماء بنت أبي بكر في الحديث الثالث من هذا الباب، ويأتي الكلام عليه فيه إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ الشرح: حديث ابن عباس، وفائدته تعيين من أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهله في ذلك، وأورده من وجهين في الثاني منهما أنه ليس البعث المذكور خاصا له لأن اللفظ الأول وهو قول " بعثني " قد يوهم اختصاصه بذلك وفي الثاني " أنا ممن قدم " فأفهم أنه لم يختص، وقوله في الثاني " في ضعفة أهله " قد أخرجه المصنف في " باب حج الصبيان " من طريق حماد عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ " في الثقل " زاد مسلم من هذا الوجه " وقال في الضعفة"، ولسفيان فيه إسناد آخر أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عنه عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس مثله، وقد أخرج طريق عطاء هذه مطولة الطحاوي من رواية إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير عن عطاء [قال أخبرني] ابن عباس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس ليلة المزدلفة: اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس " قال فكان عطاء يفعله بعدما كبر وضعف، ولأبي داود من طريق حبيب عن عطاء عن ابن عباس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفاء أهله بغلس " ولأبي عوانة في صحيحه من طريق أبي الزبير عن ابن عباس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم العيال والضعفة إلى منى من المزدلفة". الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ الشرح: حديث ابن عباس، وفائدته تعيين من أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهله في ذلك، وأورده من وجهين في الثاني منهما أنه ليس البعث المذكور خاصا له لأن اللفظ الأول وهو قول " بعثني " قد يوهم اختصاصه بذلك وفي الثاني " أنا ممن قدم " فأفهم أنه لم يختص، وقوله في الثاني " في ضعفة أهله " قد أخرجه المصنف في " باب حج الصبيان " من طريق حماد عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ " في الثقل " زاد مسلم من هذا الوجه " وقال في الضعفة"، ولسفيان فيه إسناد آخر أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عنه عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس مثله، وقد أخرج طريق عطاء هذه مطولة الطحاوي من رواية إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير عن عطاء [قال أخبرني] ابن عباس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس ليلة المزدلفة: اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس " قال فكان عطاء يفعله بعدما كبر وضعف، ولأبي داود من طريق حبيب عن عطاء عن ابن عباس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفاء أهله بغلس " ولأبي عوانة في صحيحه من طريق أبي الزبير عن ابن عباس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم العيال والضعفة إلى منى من المزدلفة". الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْتُ لَا فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْت نَعَمْ قَالَتْ فَارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتْ الْجَمْرَةَ ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا فَقُلْتُ لَهَا يَا هَنْتَاهُ مَا أُرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا قَالَتْ يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلظُّعُنِ الشرح: قوله: (حدثني عبد الله مولى أسماء) هو ابن كيسان المدني يكنى أبا عمر، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر سيأتي في أبواب العمرة، وقد صرح ابن جريج بتحديث عبد الله له هكذا في رواية مسدد هذه عن يحيى، وكذا رواه مسلم عن محمد بن أبي بكر المقدمي وابن خزيمة عن بندار، وكذا أخرجه أحمد في مسنده كلهم عن يحيى، وأخرجه مسلم من طريق عيسى بن يونس، وأخرجه الإسماعيلي من طريق داود العطار، والطبراني من طريق ابن عيينة، والطحاوي من طريق سعيد بن سالم، وأبو نعيم من طريق محمد بن بكير كلهم عن ابن جريج، وأخرجه أبو داود عن محمد بن خلاد عن يحيى القطان عن ابن جريج عن عطاء أخبرني مخبر عن أسماء، وأخرجه مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء أن مولى أسماء أخبره، وكذا أخرجه الطبراني من طريق أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد، فالظاهر أن ابن جريج سمعه من عطاء ثم لقي عبد الله فأخذه عنه، ويحتمل أن يكون مولى أسماء شيخ عطاء غير عبد الله. قوله: (قالت فارتحلوا) في رواية مسلم " قالت ارتحل بي". قوله: (فمضينا حتى رمت الجمرة) في رواية ابن عيينة " فمضينا بها". قوله: (يا هنتاه) أي يا هذه، وقد سبق ضبطه في " باب الحج أشهر معلومات". قوله: (ما أرانا) بضم الهمزة أي أظن. وفي رواية مسلم بالجزم " فقلت لها لقد غلسنا " وفي رواية مالك " لقد جئنا منى بغلس " وفي رواية داود العطار " لقد ارتحلنا بليل " وفي رواية أبي داود " فقلت أنا رمينا الجمرة بليل وغلسنا " أي جئنا بغلس. قوله: (أذن للظعن) بضم الظاء المعجمة جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ثم أطلق على المرأة مطلقا. وفي رواية أبي داود المذكورة " إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية مالك " لقد كنا نفعل ذلك مع من هو خير منك " تعني النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل بهذا الحديث على جواز الرمي قبل طلوع الشمس عند من خص التعجيل بالضعفة وعند من لم يخصص، وخالف في ذلك الحنفية فقالوا: لا يرمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، فإن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز، وإن رماها قبل الفجر أعادها، وبهذا قال أحمد وإسحاق والجمهور، وزاد إسحاق " ولا يرميها قبل طلوع الشمس " وبه قال النخعي ومجاهد والثوري وأبو ثور، ورأى جواز ذلك قبل طلوع الفجر عطاء وطاوس والشعبي والشافعي، واحتج الجمهور بحديث ابن عمر الماضي قبل هذا، واحتج إسحاق بحديث ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغلمان بني عبد المطلب: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " وهو حديث حسن أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي وابن حبان من طريق الحسن العرني - وهو بضم المهملة وفتح الراء بعدها نون - عن ابن عباس، وأخرجه الترمذي والطحاوي من طرق عن الحكم عن مقسم عنه، وأخرجه أبو داود من طريق حبيب عن عطاء، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا، ومن ثم صححه الترمذي وابن حبان. وإذا كان من رخص له منع أن يرمي قبل طلوع الشمس فمن لم يرخص له أولى. واحتج الشافعي بحديث أسماء هذا. ويجمع بينه وبين حديث ابن عباس بحمل الأمر في حديث ابن عباس علي الندب، ويؤيده ما أخرجه الطحاوي من طريق شعبة مولى ابن عباس عنه قال " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله وأمرني أن أرمي مع الفجر " وقال ابن المنذر. السنة أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر لأن فاعله مخالف للسنة، ومن رمى حينئذ فلا إعادة عليه إذ لا أعلم أحدا قال لا يجزئه. واستدل به أيضا على إسقاط الوقوف بالمشعر الحرام عن الضعفة، ولا دلالة فيه لأن رواية أسماء ساكتة عن الوقوف، وقد بينته رواية ابن عمر التي قبلها. وقد اختلف السلف في هذه المسألة فكان بعضهم يقول: ومن مر بمزدلفة فلم ينزل بها فعليه دم، ومن نزل بها ثم دفع منها في أي وقت كان من الليل فلا دم عليه ولو لم يقف مع الإمام. وقال مجاهد وقتادة والزهري والثوري: من لم يقف بها فقد ضيع نسكا وعليه دم، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وروي عن عطاء، وبه قال الأوزاعي لا دم عليه مطلقا، وإنما هو منزل من شاء نزل به ومن شاء لم ينزل به. وروى الطبري بسند فيه ضعف عن عبد الله بن عمرو مرفوعا " إنما جمع منزل لدلج المسلمين " وذهب ابن بنت الشافعي وابن خزيمة إلى أن الوقوف بها ركن لا يتم الحج إلا به، وأشار ابن المنذر إلى ترجيحه، ونقله ابن المنذر عن علقمة والنخعي، والعجب أنهم قالوا من لم يقف بها فاته الحج ويجعل إحرامه عمرة، واحتج الطحاوي بأن الله لم يذكر الوقوف وإنما قال (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) وقد أجمعوا على أن من وقف بها بغير ذكر أن حجه تام، فإذا كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج فالموطن الذي يكون الذكر فيه أحرى أن لا يكون فرضا. قال: وما احتجوا به من حديث عروة بن مضرس - وهو بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها مهملة - رفعه قال " من شهد معنا صلاة الفجر بالمزدلفة وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه " لإجماعهم أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أن حجه تام انتهى. وحديث عروة أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم ولفظ أبي داود عنه " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف - يعني يجمع - قلت جئت يا رسول الله من جبل طيء فأكلت مطيتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه " وللنسائي " من أدرك جمعا مع الإمام والناس حتى يفيضوا فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك مع الإمام والناس فلم يدرك " ولأبي يعلى " ومن لم يدرك جمعا فلا حج له " وقد صنف أبو جعفر العقيلي جزءا في إنكار هذه الزيادة وبين أنها من رواية مطرف عن الشعبي عن عروة وأن مطرفا كان يهم في المتون، وقد ارتكب ابن حزم الشطط فزعم أنه من لم يصل صلاة الصبح بمزدلفة مع الإمام أن الحج يفوته التزاما لما ألزمه به الطحاوي، ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه فحكى الإجماع على الإجزاء كما حكاه الطحاوي، وعند الحنفية يجب بترك الوقوف بها دم لمن ليس به عذر، ومن جملة الأعذار عندهم الزحام. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً فَأَذِنَ لَهَا الشرح: قوله: (عن القاسم) هو ابن محمد بن أبي بكر والد عبد الرحمن الراوي عنه. قوله: (استأذنت سودة) أي بنت زمعة أم المؤمنين. قوله: (ثقيلة) أي من عظم جسمها. قوله: (ثبطة) بفتح المثلثة وكسر الموحدة بعدها مهملة خفيفة أي بطيئة الحركة كأنها تثبط بالأرض أي تشبث بها، ولم يذكر محمد بن كثير شيخ البخاري فيه عن سفيان وهو الثوري ما استأذنته سودة فيه، فلذلك عقبه بطريق أفلح عن القاسم المبينة لذلك، وقد أخرجه ابن ماجه من طريق وكيع عن الثوري فبين ذلك ولفظه " أن سودة بنت زمعة كانت امرأة ثبطة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدفع من جمع قبل دفعة الناس فأذن لها"، ولأبي عوانة من طريق قبيصة عن الثوري " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة ليلة جمع"، وأخرجه مسلم من طريق وكيع فلم يسق لفظه، ومن طريق عبد الله بن عمر العمري عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ " وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فأصلي الصبح بمنى فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس " فذكر بقية الحديث مثل سياق محمد بن كثير، وله نحوه من طريق أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم وفيه من الزيادة " وكانت عائشة لا تفيض إلا مع الإمام". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَاسْتَأْذَنَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَكَانَتْ امْرَأَةً بَطِيئَةً فَأَذِنَ لَهَا فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ فَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ الشرح: قوله: (حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم) في رواية الإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن أفلح " أخبرنا القاسم " وله من طريق أبي بكر الحنفي عن أفلح " سمعت القاسم". قوله: (أن تدفع قبل حطمة الناس) في رواية مسلم عن القعنبي عن أفلح " أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس " والحطمة بفتح الحاء وسكون الطاء المهملتين الزحمة. قوله: (فلأن أكون) بفتح اللام فهو مبتدأ وخبره " أحب " وقولها " مفروح " أي ما يفرح به من كل شيء. (تنبيه) : وقع عند مسلم عن القعنبي عن أفلح بن حميد ما يشعر بأن تفسير الثبطة بالثقيلة من القاسم راوي الخبر ولفظه " وكانت امرأة ثبطة، يقول القاسم: والثبطة الثقيلة " ولأبي عوانة من طريق ابن أبي فديك عن أفلح بعد أن ساق الحديث بلفظ " وكانت امرأة ثبطة قال: الثبطة الثقيلة " وله من طريق أبي عامر العقدي عن أفلح " وكانت امرأة ثبطة، يعني ثقيلة " فعلى هذا فقوله في رواية محمد بن كثير عند المصنف وكانت امرأة ثقيلة ثبطة من الأدراج الواقع قبل ما أدرج عليه وأمثلته قليلة جدا، وسببه أن الراوي أدرج التفسير بعد الأصل فظن الراوي الآخر أن اللفظين ثابتان في أصل المتن فقدم وأخر. والله أعلم. *3*باب مَتَى يُصَلِّي الْفَجْرَ بِجَمْعٍ الشرح: قوله: (باب متى يصلي الفجر بجمع) ذكر فيه حديث ابن مسعود مختصرا ومطولا. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلَّا صَلَاتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الشرح: قوله: (حدثني عمارة) هو ابن عمير، وعبد الرحمن هو ابن يزيد النخعي، والإسناد كله كوفيون. قوله: (لغير ميقاتها) في رواية غير أبي ذر " بغير " بالموحدة بدل اللام، والمراد في غير وقتها المعتاد كما بيناه في الكلام عليه قبل باب. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ كُلَّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ قَائِلٌ يَقُولُ طَلَعَ الْفَجْرُ وَقَائِلٌ يَقُولُ لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فَلَا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا وَصَلَاةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ ثُمَّ قَالَ لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الْآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ فَمَا أَدْرِي أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ الشرح: قوله: (خرجت) في رواية غير أبي ذر " خرجنا". قوله: (والعشاء بينهما) بفتح المهملة لا بكسرها أي الأكل، وقد تقدم إيضاحه. قوله: (فلا يقدم) بفتح الدال. قوله: (حتى يعتموا) أي يدخلوا في العتمة وهو وقت العشاء الآخرة كما تقدم بيانه في المواقيت. قوله: (لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن) يعني عثمان كما بين في آخر الكلام، وقوله: (فما أدري) هو كلام عبد الرحمن بن يزيد الراوي عن ابن مسعود، وأخطأ من قال أنه كلام ابن مسعود، والمراد أن السنة الدفع من المشعر الحرام عند الإسفار قبل طلوع الشمس، خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية كما في حديث عمر الذي بعده. (فائدة) : وقع في رواية جرير بن حازم عن أبي إسحاق عند أحمد من الزيادة في هذا الحديث أن نظير هذا القول صدر من ابن مسعود عند الدفع من عرفة أيضا ولفظه " لما وقفنا بعرفة غابت الشمس فقال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن كان قد أصاب، قال: فما أدري أكلام ابن مسعود أسرع أو إفاضة عثمان، قال: فأوضع الناس. ولم يزد ابن مسعود على العنق حتى أتى جمعا " وله من طريق زكريا عن أبي إسحاق في هذا الحديث " أفاض ابن مسعود من عرفة على هينته لا يضرب بعيره حتى أتى جمعا " وقال سعيد بن منصور " حدثنا سفيان وأبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد أن ابن مسعود أوضع بعيره في وادي محسر " وهذه الزيادة مرفوعة في حديث جابر الطويل في صفة الحج عند مسلم. قوله: (فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) سيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. |
08-14-2013, 12:09 PM | #503 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ الشرح:
قوله: (باب متى يدفع من جمع) أي بعد الوقوف بالمشعر الحرام. الحديث: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يَقُولُ شَهِدْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ أَشْرِقْ ثَبِيرُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالَفَهُمْ ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ الشرح: قوله: (عن أبي إسحاق) هو السبيعي. قوله: (لا يفيضون) زاد يحيى القطان عن شعبة " من جمع " أخرجه الإسماعيلي، وكذا هو للمصنف في أيام الجاهلية من رواية سفيان الثوري عن أبي إسحاق، وزاد الطبراني من رواية عبيد الله بن موسى عن سفيان " حتى يروا الشمس على ثبير". قوله: (ويقولون: أشرق ثبير) أشرق بفتح أوله فعل أمر من الإشراق أي أدخل في الشروق. وقال ابن التين: وضبطه بعضهم بكسر الهمزة كأنه ثلاثي من شرق وليس ببين، والمشهور أن المعنى لتطلع عليك الشمس وقيل: معناه أضئ يا جبل، وليس ببين أيضا. وثبير بفتح المثلثة وكسر الموحدة جبل معروف هناك، وهو على يسار الذاهب إلى منى، وهو أعظم جبال مكة، عرف برجل من هذيل اسمه ثبير دفن فيه. زاد أبو الوليد عن شعبة " كيما نغير " أخرجه الإسماعيلي، ومثله لابن ماجه من طريق حجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق، وللطبري من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق " أشرق ثبير لعلنا نغير " قال الطبري: معناه كيما ندفع للنحر، وهو من قتلهم أغار الفرس إذا أسرع في عدوه، قال ابن التين: وضبطه بعضهم بسكون الراء في ثبير وفي نغير لإرادة السجع. قوله: (ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس) الإفاضة الدفعة قاله الأصمعي، ومنه أفاض القوم في الحديث إذا دفعوا فيه، ويحتمل أن يكون فاعل أفاض عمر فيكون انتهاء حديثه ما قبل هذا، ويحتمل أن يكون فاعل أفاض النبي صلى الله عليه وسلم لعطفه على قوله خالفهم، وهذا هو المعتمد. وقد وقع في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عند الترمذي " فأفاض " وفي رواية الثوري " فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض " وللطبري من طريق زكريا عن أبي إسحاق بسنده " كان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره ذلك فنفر قبل طلوع الشمس " وله من رواية إسرائيل " فدفع لقدر صلاة القوم المسفرين لصلاة الغداة " وأوضح من ذلك ما وقع في حديث جابر الطويل عند مسلم " ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله تعالى وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس " وقد تقدم حديث ابن مسعود في ذلك وصنيع عثمان بما يوافقه، وروى ابن المنذر من طريق الثوري عن أبي إسحاق " سألت عبد الرحمن بن يزيد: متى دفع عبد الله من جمع؟ قال: كانصراف القوم المسفرين من صلاة الغداة " وروى الطبري من حديث علي قال " لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة غدا فوقف على قزح وأردف الفضل ثم قال: هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف. حتى إذا أسفر دفع " وأصله في الترمذي دون قوله " حتى إذا أسفر " ولابن خزيمة والطبري من طريق عكرمة عن ابن عباس " كان أهل الجاهلية يقفون بالمزدلفة، حتى إذا طلعت الشمس فكانت على رءوس الجبال كأنها العمائم على رءوس الرجال دفعوا، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسفر كل شيء قبل أن تطلع الشمس " وللبيهقي من حديث المسور بن مخرمة نحوه، وفي هذا الحديث فضل الدفع من الموقف بالمزدلفة عند الأسفار، وقد تقدم بيان الاختلاف فيمن دفع قبل الفجر. ونقل الطبري الإجماع على أن من لم يقف فيه حتى طلعت الشمس فاته الوقوف قال ابن المنذر: وكان الشافعي وجمهور أهل العلم يقولون بظاهر هذه الأخبار، وكان مالك يرى أن يدفع قبل الأسفار، واحتج له بعض أصحابه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعجل الصلاة مغلسا إلا ليدفع قبل الشمس، فكل من بعد دفعه من طلوع الشمس كان أولى. *3*باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حِينَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ وَالِارْتِدَافِ فِي السَّيْرِ الشرح: قوله: (باب التلبية والتكبير غداة النحر حتى يرمي) في رواية الكشميهني " حين يرمي " وهو أصوب. قال الكرماني: ليس في الحديث ذكر التكبير، فيحتمل أن يكون أشار إلى الذكر الذي في خلال التلبية، وأراد أن يستدل على أن التكبير غير مشروع حينئذ لأن قوله " لم يزل " يدل على إدامة التلبية وإدامتها تدل على ترك ما عداها، أو هو مختصر من حديث فيه ذكر التكبير انتهى. والمعتمد أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما جرت به عادته، فعند أحمد وابن أبي شيبة والطحاوي من طريق مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخلطها بتكبير". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْدَفَ الْفَضْلَ فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ الشرح: قوله: (فأخبر الفضل) في رواية مسلم من طريق عيسى بن يونس عن ابن جريج عن عطاء " فأخبرني ابن عباس أن الفضل أخبره". الحديث: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ الْأَيْلِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى قَالَ فَكِلَاهُمَا قَالَا لَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ الشرح: قوله: (فكلاهما) أي الفضل بن عباس وأسامة بن زيد، وفي ذكر أسامة إشكال لما تقدم في " باب النزول بين عرفة وجمع " أن عند مسلم في رواية إبراهيم بن عقبة عن كريب أن أسامة قال " وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي " لأن مقتضاه أن يكون أسامة سبق إلى رمي الجمرة فيكون إخباره بمثل ما أخبر به الفضل من التلبية مرسلا، لكن لا مانع أنه يرجع مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجمرة أو يقيم بها حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخرج مسلم أيضا من حديث أم الحصين قالت " فرأيت أسامة بن زيد وبلالا في حجة الوداع وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة". (تنبيه) : زاد ابن أبي شيبة من طريق علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل في هذا الحديث " فرماها سبع حصيات يكبر مع كل حصاة " وسيأتي هذا الحكم بعد نيف وثلاثين بابا، وفي هذا الحديث أن التلبية تستمر إلى رمي الجمرة يوم النحر، وبعدها يشرع الحاج في التحلل، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقول " التلبية شعار الحج، فإن كنت حاجا فلب حتى بدء حلك، وبدء حلك أن ترمي جمرة العقبة " وروى سعيد بن منصور من طريق ابن عباس قال " حججت مع عمر إحدى عشرة حجة، وكان يلبي حتى يرمي الجمرة " وباستمرارها قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق وأتباعهم. وقالت طائفة: يقطع المحرم التلبية إذا دخل الحرم، وهو مذهب ابن عمر، لكن كان يعاود التلبية إذا خرج من مكة إلى عرفة. وقالت طائفة: يقطعها إذا راح إلى الموقف، رواه ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة عن عائشة وسعد بن أبي وقاص وعلي، وبه قال مالك وقيده بزوال الشمس يوم عرفة، وهو قول الأوزاعي والليث، وعن الحسن البصري مثله لكن قال " إذا صلى الغداة يوم عرفة " وهو بمعنى الأول. وقد روى الطحاوي بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن يزيد قال " حججت مع عبد الله، فلما أفاض إلى جمع جعل يلبي، فقال رجل: أعرابي هذا؟ فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلوا " وأشار الطحاوي إلى أن كل من روي عنه ترك التلبية من يوم عرفة أنه تركها للاشتغال بغيرها من الذكر لا على أنها لا تشرع، وجمع في ذلك بين ما اختلف من الآثار والله أعلم. واختلفوا أيضا هل يقطع التلبية مع رمي أول حصاة أو عند تمام الرمي؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني أحمد وبعض أصحاب الشافعي، ويدل لهم ما روى ابن خزيمة من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن الفضل قال " أفضت مع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة " قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسر لما أبهم في الروايات الأخرى، وأن المراد بقوله " حتى رمى جمرة العقبة " أي أتم رميها. *3*باب فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الشرح: قوله: (باب فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي - إلى قوله تعالى - حاضري المسجد الحرام) كذا في رواية أبي ذر وأبي الوقت، وساق في طريق كريمة ما بين قوله: (الهدي) قوله: (حاضري المسجد الحرام) وغرض المصنف بذلك تفسير الهدي، وذلك أنه لما انتهى في صفة الحج إلى الوصول إلى منى أراد أن يذكر أحكام الهدي والنحر، لأن ذلك يكون غالبا بمنى. والمراد بقوله: (فمن تمتع) أي في حال الأمن لقوله: (فإذا أمنتم فمن تمتع) وفيه حجة للجمهور في أن التمتع لا يختص بالمحصر، وروى الطبري عن عروة قال في قوله: (فإذا أمنتم) أي من الوجع ونحوه، قال الطبري: والأشبه بتأويل الآية أن المراد بها الأمن من الخوف، لأنها نزلت وهم خائفون بالحديبية فبينت لهم ما يعملون حال الحصر، وما يعملون حال الأمن. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الْمُتْعَةِ فَأَمَرَنِي بِهَا وَسَأَلْتُهُ عَنْ الْهَدْيِ فَقَالَ فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ قَالَ وَكَأَنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ إِنْسَانًا يُنَادِي حَجٌّ مَبْرُورٌ وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَقَالَ آدَمُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ وَغُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ وَحَجٌّ مَبْرُورٌ الشرح: قوله: (أخبرنا النضر) هو ابن شميل صاحب العربية. قوله: (أبو جمرة) بالجيم والراء وقد تقدم لهذا الحديث طريق في آخر " باب التمتع والقرآن " وقد تقدم الكلام عليه هناك، والغرض منه هنا بيان الهدي. قوله: (وسألته) أي ابن عباس. قوله: (عن الهدي) فقال فيها أي المتعة يعني يجب على من تمتع دم. قوله: (جزور) بفتح الجيم وضم الزاي أي بعير ذكرا كان أو أنثى، وهو مأخوذ من الجزر أي القطع ولفظها مؤنث تقول هذه الجزور. قوله: (أو شرك) بكسر الشين المعجمة وسكون الراء أي مشاركة في دم أي حيث يجزئ الشيء الواحد عن جماعة، وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة " وبهذا قال الشافعي والجمهور، سواء كان الهدي تطوعا أو واجبا، وسواء كانوا كلهم متقربين بذلك أو كان بعضهم يريد التقرب وبعضهم يريد اللحم، وعن أبي حنيفة. يشترط في الاشتراك أن يكونوا كلهم متقربين بالهدي، وعن زفر مثله بزيادة أن تكون أسبابهم واحدة، وعن داود وبعض المالكية: يجوز في هدي التطوع دون الواجب، وعن مالك: لا يجوز مطلقا، واحتج له إسماعيل القاضي بأن حديث جابر إنما كان بالحديبية حيث كانوا محصرين، وأما حديث ابن عباس فخالف أبا جمرة عنه ثقات أصحابه فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي شاة، ثم ساق ذلك بأسانيد صحيحة عنهم عن ابن عباس قال: وقد روى ليث عن طاوس عن ابن عباس مثل رواية أبي جمرة، وليث ضعيف. قال: وحدثنا سليمان عن حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن ابن عباس قال " ما كنت أرى أن دما واحدا يقضي عن أكثر من واحد " انتهى. وليس بين رواية أبي جمرة ورواية غيره منافاة لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك ووافقهم على ذكر الشاة، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر، وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا. وأما رواية محمد عن ابن عباس فمتقطعة، ومع ذلك لو كانت متصلة احتمل أن يكون ابن عباس أخبر أنه كان لا يرى ذلك من جهة الاجتهاد حتى صح عنده النقل بصحة الاشتراك فأفتى به أبا جمرة، وبهذا تجتمع الأخبار، وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء على توثيقه والاحتجاج بروايته وهو أبو جمرة الضبعي. وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة. قال أحمد: حدثنا عبد الوهاب حدثنا مجاهد عن الشعبي قال " سألت ابن عمر قلت: الجزور والبقرة تجزئ عن سبعة؟ قال. يا شعبي، ولها سبعة أنفس؟ قال قلت: فإن أصحاب محمد يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن الجزور عن سبعة والبقرة عن سبعة. قال فقال ابن عمر لرجل: أكذلك يا فلان؟ قال: نعم. قال: ما شعرت بهذا". وأما تأويل إسماعيل لحديث جابر بأنه كان بالحديبية فلا يدفع الاحتجاج بالحديث، بل روى مسلم من طريق أخرى عن جابر في أثناء حديث قال " فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحللنا أن نهدي ونجمع النفر منا في الهدية " وهذا يدل على صحة أصل الاشتراك، واتفق من قال بالاشتراك على أنه لا يكون في أكثر من سبعة، إلا إحدى الروايتين عن سعيد بن المسيب فقال: تجزئ عن عشرة، وبه قال إسحاق بن راهويه وابن خزيمة من الشافعية، واحتج لذلك في صحيحه وقواه، واحتج له ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج " أنه صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير " الحديث وهو في الصحيحين، وأجمعوا على أن الشاة لا يصح الاشتراك فيها، وقوله "أو شاة " هو قول الجمهور، ورواه الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد صحيحة عنهم، ورويا بإسناد قوي عن القاسم بن محمد عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر. ووافقهما القاسم وطائفة. قال إسماعيل القاضي في " الأحكام " له: أظنهم ذهبوا إلى ذلك لقوله تعالى (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) فذهبوا إلى تخصيص ما يقع عليه اسم البدن، قال: ويرد هذا قوله تعالى (هديا بالغ الكعبة) وأجمع المسلمون أن في الظبي شاة فوقع عليها اسم هدي. قلت: قد احتج بذلك ابن عباس فأخرج الطبري بإسناد صحيح إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال قال ابن عباس: الهدي شاة. فقيل له في ذلك، قال: أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تقوون به، ما في الظبي؟ قالوا شاة، قال: فإن الله تعالى يقول (هديا بالغ الكعبة) . قوله: (ومتعة متقبلة) قال الإسماعيلي وغيره: تفرد النضر بقوله " متعة " ولا أعلم أحدا من أصحاب شعبة رواه عنه إلا قال " عمرة " وقال أبو نعيم: قال أصحاب شعبة كلهم عمرة إلا النضر فقال متعة. قلت: وقد أشار المصنف إلى هذا بما علقه بعد. قوله: (وقال آدم ووهب بن جرير وغندر عن شعبة عمرة إلخ) أما طريق آدم فوصلها عنه في " باب التمتع والقران " وأما طريق وهب بن جرير فوصلها البيهقي من طريق إبراهيم بن مرزوق عن وهب وأما طريق غندر فوصلها أحمد عنه، وأخرجها مسلم عن أبي موسى وبندار كلاهما عن غندر. *3*باب رُكُوبِ الْبُدْنِ لِقَوْلِهِ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مُجَاهِدٌ سُمِّيَتْ الْبُدْنَ لِبُدْنِهَا وَالْقَانِعُ السَّائِلُ وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرُّ بِالْبُدْنِ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ وَشَعَائِرُ اسْتِعْظَامُ الْبُدْنِ وَاسْتِحْسَانُهَا وَالْعَتِيقُ عِتْقُهُ مِنْ الْجَبَابِرَةِ وَيُقَالُ وَجَبَتْ سَقَطَتْ إِلَى الْأَرْضِ وَمِنْهُ وَجَبَتْ الشَّمْسُ الشرح: قوله: (باب ركوب البدن لقوله تعالى: والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير، فاذكروا اسم الله عليها صواف، فإذا وجبت جنوبها - إلى قوله تعالى - وبشر المحسنين) هكذا في رواية أبي ذر وأبي الوقت، وساق في رواية كريمة الآيتين، واستدل المصنف لجواز ركوب البدن بعموم قوله تعالى (لكم فيها خير) وأشار إلى قول إبراهيم النخعي (لكم فيها خير) : من شاء ركب ومن شاء حلب، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنه بإسناد جيد. والبدن بسكون الدال في قراءة الجمهور، وقرأ الأعرج وهي رواية عن عاصم بضمها، وأصلها من الإبل وألحقت بها البقر شرعا. قوله: (قال مجاهد سميت البدن لبدنها) هو بفتح الموحدة والمهملة للأكثر، وبضمها وسكون الدال لبعضهم. وفي رواية الكشميهني لبدانتها أي سمنها، وكذا أخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إنما سميت البدن من قبل السمانة. قوله: (والقانع السائل، والمعتر الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير) أي يطيف بها متعرضا لها، وهذا التعليق أخرجه أيضا عبد بن حميد من طريق عثمان بن الأسود قلت لمجاهد: ما القانع؟ قال جارك الذي ينتظر ما دخل بيتك، والمعتر الذي يعتر ببابك ويريك نفسه ولا يسألك شيئا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: القانع هو الطامع. وقال مرة: هو السائل. ومن طريق الثوري عن فرات عن سعيد بن جبير: المعتر الذي يعتريك يزورك ولا يسألك. ومن طريق ابن جريج عن مجاهد: المعتر الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير. وقال الخليل في العين: القنوع المتذلل للمسألة، قنع إليه مال وخضع، وهو السائل. والمعتر الذي يعترض ولا يسأل. ويقال قنع بكسر النون إذا رضي وقنع بفتحها إذا سأل. وقرأ الحسن " المعتري " وهو بمعنى المعتر. قوله: (وشعائر الله استعظام البدن واستحسانها) أخرجه عبد بن حميد أيضا من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: (ومن يعظم شعائر الله) قال استعظام البدن استحسانها واستسمانها. ورواه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس نحوه، لكن فيه ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ. قوله: (والعتيق عتقه من الجبابرة) أخرج عبد بن حميد أيضا من طريق سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إنما سمي العتيق لأنه أعتق من الجبابرة. وقد جاء هذا مرفوعا أخرجه البزار من حديث عبد الله بن الزبير. قوله: (ويقال وجبت سقطت إلى الأرض ومنه وجبت الشمس) هو قول ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مقسم عن ابن عباس قال: فإذا وجبت أي سقطت، وكذا أخرجه الطبري من طريقين عن مجاهد. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا فَقَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ فَقَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَكَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الثَّانِيَةِ الشرح: قوله: (عن الأعرج) لم تختلف الرواة عن مالك عن أبي الزناد فيه، ورواه ابن عيينة عن أبي الزناد فقال عن الأعرج عن أبي هريرة، أو عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة، أخرجه سعيد بن منصور عنه. وقد رواه الثوري عن أبي الزناد بالإسنادين مفرقا. قوله: (رأى رجلا) لم أقف على اسمه بعد طول البحث. قوله: (يسوق بدنة) كذا في معظم الأحاديث، ووقع لمسلم من طريق بكير بن الأخنس عن أنس " مر ببدنة أو هدية " ولأبي عوانة من هذا الوجه " أو هدي"، وهو مما يوضح أنه ليس المراد بالبدنة مجرد مدلولها اللغوي. ولمسلم من طريق المغيرة عن أبي الزناد " بينا رجل يسوق بدنة مقلدة " وكذا في طريق همام عن أبي هريرة، وسيأتي للمصنف في " باب تقليد البدن " أنها كانت مقلدة نعلا. قوله: (فقال اركبها) زاد النسائي من طريق سعيد عن قتادة، والجوزقي من طريق حميد عن ثابت كلاهما عن أنس " وقد جهده المشي " ولأبي يعلى من طريق الحسن عن أنس " حافيا " لكنها ضعيفة. قوله: (ويلك في الثانية أو في الثالثة) وقع في رواية همام عند مسلم " ويلك اركبها، ويلك اركبها " ولأحمد من رواية عبد الرحمن بن إسحاق والثوري كلاهما عن أبي الزناد، ومن طريق عجلان عن أبي هريرة قال " اركبها ويحك. قال: إنها بدنة. قال: اركبها ويحك " زاد أبو يعلى من رواية الحسن " فركبها " وقد قلنا إنها ضعيفة، لكن سيأتي للمصنف من طريق عكرمة عن أبي هريرة " فلقد رأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها " وتبين بهذه الطرق أنه أطلق البدنة على الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام، ولو كان المراد مدلولها اللغوي لم يحصل الجواب بقوله إنها بدنة لأن كونها من الإبل معلوم، فالظاهر أن الرجل ظن أنه خفي كونها هديا فلذلك قال إنها بدنة، والحق أنه لم يخف ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكونها كانت مقلدة، ولهذا قال له لما زاد في مراجعته " ويلك " واستدل به على جواز ركوب الهدي سواء كان واجبا أو متطوعا به؛ لكونه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل صاحب الهدي عن ذلك، فدل على أن الحكم لا يختلف بذلك. وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد من حديث علي " أنه سئل: هل يركب الرجل هديه؟ فقال: لا بأس، قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالرجال يمشون فيأمرهم يركبون هديه " أي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، إسناده صالح. وبالجواز مطلقا قال عروة بن الزبير، ونسبه ابن المنذر لأحمد وإسحاق، وبه قال أهل الظاهر، وهو الذي جزم به النووي في " الروضة " تبعا لأصله في الضحايا، ونقله في " شرح المهذب " عن القفال والماوردي، ونقل فيه عن أبي حامد والبندنيجي وغيرهما تقييده بالحاجة. وقال الروياني: تجويزه بغير حاجة يخالف النص، وهو الذي حكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق، وأطلق ابن عبد البر كراهة ركوبها بغير حاجة عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء، وقيده صاحب " الهداية " من الحنفية بالاضطرار إلى ذلك، وهو المنقول عن الشعبي عند ابن أبي شيبة ولفظه: لا يركب الهدي إلا من لا يجد منه بدا. ولفظ الشافعي الذي نقله ابن المنذر وترجم له البيهقي: يركب إذا اضطر ركوبا غير فادح. وقال ابن العربي عن مالك: يركب للضرورة، فإذا استراح نزل. ومقتضى من قيده بالضرورة أن من انتهت ضرورته لا يعود إلى ركوبها إلا من ضرورة أخرى، والدليل على اعتبار هذه القيود الثلاثة - وهي الاضطرار والركوب بالمعروف وانتهاء الركوب بانتهاء الضرورة - ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا بلفظ " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا " فإن مفهومه أنه إذا وجد غيرها تركها، وروى سعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي قال: يركبها إذا أعيا قدر ما يستريح على ظهرها. وفي المسألة مذهب خامس وهو المنع مطلقا نقله ابن العربي عن أبي حنيفة وشنع عليه، ولكن الذي نقله الطحاوي وغيره الجواز بقدر الحاجة إلا أنه قال: ومع ذلك يضمن ما نقص منها بركوبه. وضمان النقص وافق عليه الشافعية في الهدي الواجب كالنذر. ومذهب سادس وهو وجوب ذلك نقله ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر تمسكا بظاهر الأمر، ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من البحيرة والسائبة، ورده بأن الذين ساقوا الهدي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا كثيرا ولم يأمر أحدا منهم بذلك انتهى. وفيه نظر لما تقدم من حديث علي، وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح رواه أبو داود في " المراسيل " عن عطاء " كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركبها غير منهكها. قلت: ماذا؟ قال: الراجل والمتيع اليسير فإن نتجت حمل عليها ولدها " ولا يمتنع القول بوجوبه إذا تعين طريقا إلى إنقاذ مهجة إنسان من الهلاك. واختلف المجيزون هل يحمل عليها متاعه؟ فمنعه مالك وأجازه الجمهور. وهل يحمل عليها غيره؟ أجازه الجمهور أيضا على التفصيل المتقدم. ونفل عياض الإجماع على أنه لا يؤجرها. وقال الطحاوي في " اختلاف العلماء ": قال أصحابنا والشافعي إن احتلب منها شيئا تصدق به. فإن أكله تصدق بثمنه، ويركب إذا احتاج فإن نقصه ذلك ضمن. وقال مالك: لا يشرب من لبنه فإن شرب لم يغرم. ولا يركب إلا عند الحاجة فإن ركب لم يغرم. وقال الثوري: لا يركب إلا إذا اضطر. قوله: (ويلك) قال القرطبي: قالها له تأديبا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه، وبهذا جزم ابن عبد البر وابن العربي وبالغ حتى قال: الويل لمن راجع في ذلك بعد هذا قال: ولولا أنه صلى الله عليه وسلم اشترط على ربه ما اشترط لهلك ذلك الرجل لا محالة. قال القرطبي: ويحتمل أن يكون فهم عنه أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها فزجره عن ذلك، فعلى الحالتين هي إنشاء. ورجحه عياض وغيره قالوا: والأمر هنا وإن قلنا إنه للإرشاد لكنه استحق الذم بتوقفه على امتثال الأمر. والذي يظهر أنه ما ترك الامتثال عنادا، ويحتمل أن يكون ظن أنه يلزمه غرم بركوبها أو إثم وأن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للشفقة عليه فتوقف، فلما أغلظ إليه بادر إلى الامتثال. وقيل لأنه كان أشرف على هلكة من الجهد. وويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة، فالمعنى أشرفت على الهلكة فاركب، فعلى هذا هي إخبار وقيل هي كلمة تدعم بها العرب كلامها ولا تقصد معناها كقوله لا أم لك، ويقويه ما تقدم في بعض الروايات بلفظ " ويحك " بدل ويلك، قال الهروي: ويل يقال لمن وقع في هلكة يستحقها، وويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها. وفي الحديث تكرير الفتوى، والندب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر، وزجر من لم يبادر إلى ذلك وتوبيخه، وجواز مسايرة الكبار في السفر، وأن الكبير إذا رأى مصلحة للصغير لا يأنف عن إرشاده إليها، واستنبط منه المصنف جواز انتفاع الواقف بوقفه، وهو موافق للجمهور في الأوقاف العامة أما الخاصة فالوقف على النفس لا يصح عند الشافعية ومن وافقهم كما سيأتي بيانه في مكانه إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَشُعْبَةُ قَالَا حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا ثَلَاثًا الشرح: قوله: (عن أنس) في رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي " سمعت أنس بن مالك". قوله: (قال اركبها ثلاثا) كذا في رواية أبي ذر مختصرا وفي رواية غيره قال " إنها بدنة، قال اركبها. قال إنها بدنة، قال اركبها. ثلاثا " وكذا أخرجه أبو مسلم الكجي في السنن عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري فيه، ومن طريقه أبو نعيم في " المستخرج". وأخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن مسلم كذلك لكن قال في آخره " ويلك " بدل " ثلاثا " وللترمذي من طريق أبي عوانة عن قتادة " فقال له في الثالثة أو الرابعة: اركبها ويحك أو ويلك " وللنسائي من طريق سعيد عن قتادة " قال في الرابعة: اركبها ويلك". *3*باب مَنْ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ الشرح: قوله: (باب من ساق البدن معه) أي من الحل إلى الحرم، قال المهلب: أراد المصنف أن يعرف أن السنة في الهدي أن يساق من الحل إلى الحرم، فإن اشتراه من الحرم خرج به إذا حج إلى عرفة. وهو قول مالك قال: فإن لم يفعل فعليه البدل، وهو قول الليث. وقال الجمهور: إن وقف به بعرفة فحسن وإلا فلا بدل عليه. وقال أبو حنيفة: ليس بسنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ساق الهدي من الحل لأن مسكنه كان خارج الحرم. وهذا كله في الإبل، فأما البقر فقد يضعف عن ذلك، والغنم أضعف، ومن ثم قال مالك: لا يساق إلا من عرفة أو ما قرب منها لأنها تضعف عن قطع طول المسافة. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِشَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعًا فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنْ النَّاسِ وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (عن عقيل) في رواية مسلم من طريق شعيب بن الليث عن أبيه " حدثني عقيل". قوله: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج) قال المهلب: معناه أمر بذلك، لأنه كان ينكر على أنس قوله أنه قرن ويقول بل كان مفردا، وأما قوله " وبدأ فأهل بالعمرة " فمعناه أمرهم بالتمتع، وهو أن يهلوا بالعمرة أولا ويقدموها قبل الحج، قال: ولا بد من هذا التأويل لدفع التناقض عن ابن عمر. قلت. لم يتعين هذا التأويل المتعسف، وقد قال ابن المنير في الحاشية: أن حمل قوله " تمتع " على معنى أمر من أبعد التأويلات، والاستشهاد عليه بقوله رجم وإنما أمر بالرجم من أوهن الاستشهادات، لأن الرجم من وظيفة الإمام، والذي يتولاه إنما يتولاه نيابة عنه، وأما أعمال الحج من إفراد وقران وتمتع فإنه وظيفة كل أحد عن نفسه. ثم أجاز تأويلا آخر وهو أن الراوي عهد أن الناس لا يفعلون إلا كفعله لا سيما مع قوله " خذوا عني مناسككم " فلما تحقق أن الناس تمتعوا ظن أنه عليه الصلاة والسلام تمتع فأطلق ذلك. قلت: ولم يتعين هذا أيضا، بل يحتمل أن يكون معنى قوله " تمتع " محمولا على مدلوله اللغوي وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها وغيرها، بل قال النووي. أن هذا هو المتعين. قال: وقوله " بالعمرة إلى الحج " أي بإدخال العمرة على الحج، وقد قدمنا في " باب التمتع والقران " تقرير هذا التأويل، وإنما المشكل هنا قوله " بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج " لأن الجمع بين الأحاديث الكثيرة في هذا الباب استقر كما تقدم على أنه بدأ أولا بالحج ثم أدخل عليه العمرة، وهذا بالعكس. وأجيب عنه بأن المراد به صورة الإهلال، أي لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال: لبيك بعمرة وحجة معا. وهذا مطابق لحديث أنس المتقدم، لكن قد أنكر ابن عمر ذلك على أنس، فيحتمل أن يحمل إنكار ابن عمر عليه كونه أطلق أنه صلى الله عليه وسلم جمع بينهما أي في ابتداء الأمر، ويعين هذا التأويل قوله في نفس الحديث " وتمتع الناس إلخ " فإن الذين تمتعوا إنما بدؤوا بالحج لكن فسخوا حجهم إلى العمرة حتى حلوا بعد ذلك بمكة ثم حجوا من عامهم. قوله: (فساق معه الهدي من ذي الحليفة) أي من الميقات، وفيه الندب إلى سوق الهدي من المواقيت ومن الأماكن البعيدة، وهي من السنن التي أغفلها كثير من الناس. قوله: (فإنه لا يحل من شيء) تقدم بيانه في حديث حفصة في " باب التمتع والقران". قوله: (ويقصر) كذا لأبي ذر، وأما الأكثر فعندهم " وليقصر " وكذا في رواية مسلم، قال النووي: معناه أنه يفعل الطواف والسعي والتقصير ويصير حلالا، وهذا دليل على أن الحلق أو التقصير نسك، وهو الصحيح، وقيل استباحة محظور. قال: وإنما أمره بالتقصير دون الحلق مع أن الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج. قوله: (وليحلل) هو أمر معناه الخبر أي قد صار حلالا فله فعل كل ما كان محظورا عليه في الإحرام، ويحتمل أن يكون أمرا على الإباحة لفعل ما كان عليه حراما قبل الإحرام. قوله: (ثم ليهل بالحج) أي يحرم وقت خروجه إلى عرفة، ولهذا أتى بثم الدالة على التراخي، فلم يرد أن يهل بالحج عقب إهلاله من العمرة. قوله: (وليهد) أي هدي التمتع وهو واجب بشروطه. قوله: (فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج) أي لم يجد الهدي بذلك المكان، ويتحقق ذلك بأن يعدم الهدي أو يعدم ثمنه حينئذ أو يجد ثمنه لكن يحتاج إليه لأهم من ذلك أو يجده لكن يمتنع صاحبه من بيعه أو يمتنع من بيعه إلا بغلائه فينقل إلى الصوم كما هو نص القرآن، والمراد بقوله " في الحج " أي بعد الإحرام به. وقال النووي: هذا هو الأفضل، فإن صامها قبل الإهلال بالحج أجزأه على الصحيح، وأما قبل التحلل من العمرة فلا على الصحيح قاله مالك وجوزه الثوري وأصحاب الرأي، وعلى الأول فمن استحب صيام عرفة بعرفة قال: يحرم يوم السابع ليصوم السابع والثامن والتاسع وإلا فيحرم يوم السادس ليفطر بعرفة، فإن فاته الصوم قضاه، وقيل يسقط ويستقر الهدي في ذمته وهو قول الحنفية. وفي صوم أيام التشريق لهذا قولان للشافعية أظهرهما لا يجوز، قال النووي: وأصحهما من حيث الدليل الجواز. قوله: (ثم خب) تقدم الكلام عليه في " باب استلام الحجر الأسود " وتقدم الكلام على السعي في بابه، وقوله "ثم سلم فانصرف فأتى الصفا " ظاهره أنه لم يتخلل بينهما عمل آخر، لكن في حديث جابر الطويل في صفة الحج عند مسلم " ثم رجع إلى الحجر فاستلمه ثم خرج من باب الصفا". قوله: (ثم حل من كل شيء حرم منه) تقدم أن سبب عدم إحلاله كونه ساق الهدي، وإلا لكان يفسخ الحج إلى العمرة ويتحلل منها كما أمر به أصحابه. واستدل به على أن التحلل لا يقع بمجرد طواف القدوم خلافا لابن عباس وهو واضح، وقد تقدم البحث فيه. وقوله "وفعل مثل ما فعل " إشارة إلى عدم خصوصيته بذلك، وفيه مشروعية طواف القدوم للقارن والرمل فيه إن عقبه بالسعي، وتسمية السعي طوافا، وطواف الإفاضة يوم النحر، واستدل به على أن الحلق ليس بركن، وليس بواضح لأنه لا يلزم من ترك ذكره في هذا الحديث أن لا يكون وقع بل هو داخل في عموم قوله " حتى قضى حجه". (تنبيه) : وقع بين قوله " وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " وبين قوله " من أهدى وساق الهدي من الناس " في رواية أبي الوقت لفظ " باب " وقال " فيه عن عروة عن عائشة إلخ " وهو خطأ شنيع فإن قوله " من أهدى " فاعل قوله " وفعل " فالفصل بينهما بلفظ باب خطأ ويصير فاعل فعل محذوفا، وأغرب الكرماني فشرحه على أن فاعل فعل هو ابن عمر راوي الخبر، وأما أبو نعيم في " المستخرج " فساق الحديث بتمامه إلخ ثم أعاد هذا اللفظ بترجمة مستقلة، وساق حديث عائشة بالإسناد الذي قبله وقال في كل منهما " أخرجه البخاري عن يحيى بن بكير " وهذا غريب والأصوب ما رواه الأكثر، ووقع في رواية أبي الوليد الباجي عن أبي ذر بعد قوله " ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " فاصلة صورتها (. ) وبعدها " من أهدى وساق الهدي من الناس " وعن عروة أن عائشة أخبرته. قال أبو الوليد: أمرنا أبو ذر أن نضرب على هذه الترجمة، يعني قوله " من أهدى وساق الهدي من الناس " انتهى. وهو عجيب من أبي الوليد ومن شيخه، فإن قوله " من أهدى " هو صفة لقوله " وفعل " ولكنهما ظنا أنها ترجمة فحكما عليها بالوهم، وليس كذلك. وكذا أخرجه مسلم من رواية شعيب فساق حديث ابن عمر إلى قوله " من الناس " ثم أعاد الإسناد بعينه إلى عائشة قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالحج إلى العمرة " وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن عبد الله " وقد تعقب المهلب قول الزهري " بمثل الذي أخبرني سالم " فقال: يعني مثله في الوهم لأن أحاديث عائشة كلها شاهدة بأنه حج مفردا. قلت: وليس وهما إذ لا مانع من الجمع بين الروايتين بمثل ما جمعنا به بين المختلف عن ابن عمر بأن يكون المراد بالإفراد في حديثها البداءة بالحج وبالتمتع بالعمرة إدخالها على الحج، وهو أولى من توهيم جبل من جبال الحفظ. والله أعلم. |
08-14-2013, 12:10 PM | #504 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب مَنْ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ الطَّرِيقِ الشرح:
قوله: (باب من اشترى الهدي من الطريق) أي سواء كان في الحل أو الحرم إذ سوقه معه من بلده ليس بشرط. وقال ابن بطال: أراد أن يبين أن مذهب ابن عمر في الهدي أنه ما أدخل من الحل إلى الحرم، لأن قديدا من الحل. قلت: لا يخفى أن الترجمة أعم من فعل ابن عمر فكيف تكون بيانا له. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَبِيهِ أَقِمْ فَإِنِّي لَا آمَنُهَا أَنْ سَتُصَدُّ عَنْ الْبَيْتِ قَالَ إِذًا أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي الْعُمْرَةَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الدَّارِ قَالَ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَقَالَ مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا وَاحِدٌ ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ قُدَيْدٍ ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا الشرح: قوله: (فإني لا آمنها) بالمد وفتح الميم الخفيفة، وقد تقدم في " باب طواف القارن " بلفظ " لا آمن " والهاء هنا ضمير الفتنة أي لا آمن الفتنة أن تكون سببا في صدك عن البيت، وسيأتي بيان ذلك في " باب المحصر " مع بقية الكلام عليه. وفي رواية المستملي والسرخسي هنا " لا أيمنها " وقد تقدم ضبطه وشرحه في " باب طواف القارن". قوله: (أن تصد) في رواية السرخسي " أن ستصد " قوله: (فأهل بالعمرة) زاد في رواية أبي ذر " من الدار " وكذا أخرجه أبو نعيم من رواية علي بن عبد العزيز عن أبي النعمان شيخ البخاري فيه، ويؤخذ منه جواز الإحرام من قبل الميقات، وللعلماء فيه اختلاف: فنقل ابن المنذر الإجماع على الجواز، ثم قيل هو أفضل من الإحرام من الميقات، وقيل دونه، وقيل مثله، وقيل من كان له ميقات معين فهو في حقه أفضل وإلا فمن داره، وللشافعية في أرجحية الميقات عن الدار اختلاف. وقال الرافعي يؤخذ من تعليلهم أن من أمن على نفسه كان أرجح في حقه وإلا فمن الميقات أفضل، وقد تقدم قول المصنف " وكره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان " في " باب قوله تعالى الحج أشهر معلومات". قوله: (فلم يحل حتى حل) في رواية السرخسي " حتى أحل " بزيادة ألف والحاء مفتوحة وهي لغة شهيرة يقال حل وأحل. *3*باب مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ وَقَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا أَهْدَى مِنْ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ يَطْعُنُ فِي شِقِّ سَنَامِهِ الْأَيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ وَوَجْهُهَا قِبَلَ الْقِبْلَةِ بَارِكَةً الشرح: قوله: (باب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم) قال ابن بطال: غرضه أن يبين أن المستحب أن لا يشعر المحرم ولا يقلد إلا في ميقات بلده انتهى. والذي يظهر أن غرضه الإشارة إلى رد قول مجاهد لا يشعر حتى يحرم أخرجه ابن أبي شيبة لقوله في الترجمة " من أشعر ثم أحرم " ووجه الدلالة لذلك من حديث المسور قوله " حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد الهدي وأحرم " فإن ظاهره البداءة بالتقليد، ومن حديث عائشة قوله " ثم قلدها وأشعرها وما حرم عليه شيء " فإنه يدل على أن تقدم الإحرام ليس شرطا في صحة التقليد والإشعار، وأبين من ذلك لتحصيل مقصود الترجمة ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس قال " صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج " وسيأتي الكلام على حديث المسور حيث ساقه المصنف مطولا في كتاب الشروط وعلى حديث عائشة بعد بابين. قوله في صدر الباب (وقال نافع كان ابن عمر إلخ) وصله مالك في " الموطأ " قال " عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أهدى هديا من المدينة على ساكنها الصلاة والسلام قلده بذي الحليفة يقلده قبل أن يشعره وذلك في مكان واحد وهو متوجه إلى القبلة يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة ثم يدفع به فإذا قدم غداة النحر نحره. وعن نافع عن ابن عمر كان إذا طعن في سنام هديه وهو يشعره قال بسم الله والله أكبر " وأخرج البيهقي من طريق ابن وهب عن مالك وعبد الله بن عمر عن نافع " أن عبد الله بن عمر كان يشعر بدنه من الشق الأيسر إلا أن تكون صعابا، فإذا لم يستطع أن يدخل بينها أشعر من الشق الأيمن، وإذا أراد أن يشعرها وجهها إلى القبلة " وتبين بهذا أن ابن عمر كان يطعن في الأيمن تارة وفي الأيسر أخرى بحسب ما يتهيأ له ذلك، وإلى الإشعار في الجانب الأيمن ذهب الشافعي وصاحبا لأبي حنيفة وأحمد في رواية، وإلى الأيسر ذهب مالك وأحمد في رواية، ولم أر في حديث ابن عمر ما يدل على تقدم ذلك على إحرامه. وذكر ابن عبد البر في " الاستذكار " عن مالك قال: لا يشعر الهدي إلا عند الإهلال، يقلده ثم يشعره ثم يصلي ثم يحرم. وفي هذا الحديث مشروعية الإشعار، وفائدته الإعلام بأنها صارت هديا ليتبعها من يحتاج إلى ذلك، وحتى لو اختلطت بغيرها تميزت، أو ضلت عرفت، أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة فأكلوها مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشرع وحث الغير عليه. وأبعد من منع الإشعار، واعتل باحتمال أنه كان مشروعا قبل النهي عن المثلة، فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، بل وقع الإشعار في حجة الوداع وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان، وسيأتي نقل الخلاف في ذلك بعد باب. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ قَالَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ الشرح: قوله: (زمن الحديبية) وقع عند الكشميهني " من المدينة". *3*باب فَتْلِ الْقَلَائِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ الشرح: قوله: (باب فتل القلائد للبدن والبقر) أورد فيه حديث حفصة " ما شأن الناس حلوا " وحديث عائشة " كان يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه " قال ابن المنير في الحاشية: ليس في الحديثين ذكر البقر إلا أنهما مطلقان، وقد صح أنه أهداهما جميعا، كذا قال، وكأنه أراد حديث عائشة " دخل علينا يوم النحر بلحم بقر " الحديث وسيأتي بعد أبواب، ولا دلالة فيه على أنه كان ساق البقر، وترجمة البخاري صحيحة لأنه إن كان المراد بالهدي في الحديث الإبل والبقر معا فلا كلام، وإن كان المراد الإبل خاصة فالبقر في معناها، وقد سبق الكلام على حديث حفصة مستوفى في " باب التمتع والقران " ومناسبته للترجمة من جهة أن التقليد يستلزم تقدم الفتل عليه، ويوضح ذلك حديث عائشة المذكور معه، ويأتي الكلام عليه بعد باب. (تنبيه) : أخذ بعض المتأخرين من اقتصار البخاري في هذه الترجمة على الإبل والبقر أنه موافق لمالك وأبي حنيفة في أن الغنم لا تقلد، وغفل هذا المتأخر عن أن البخاري أفرد ترجمة لتقليد الغنم بعد أبواب يسيرة كعادته في تفريق الأحكام في التراجم. *3*باب إِشْعَارِ الْبُدْنِ وَقَالَ عُرْوَةُ عَنْ الْمِسْوَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَلَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ الشرح: قوله: (باب إشعار البدن) ذكر فيه حديث عروة عن المسور معلقا، وقد تقدم موصولا قبل باب. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا أَوْ قَلَّدْتُهَا ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ الشرح: حديث عائشة " فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها " الحديث فيه مشروعية الإشعار، وهو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل مم ثم يسلته فيكون ذلك علامة على كونها هديا، وبذلك قال الجمهور من السلف والخلف، وذكر الطحاوي في " اختلاف العلماء " كراهته عن أبي حنيفة، وذهب غيره إلى استحبابه للاتباع، حتى صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: هو حسن. قال وقال مالك: يختص الإشعار بمن لها سنام، قال الطحاوي: ثبت عن عائشة وابن عباس التخيير في الإشعار وتركه، فدل على أنه ليس بنسك، لكنه غير مكروه لثبوت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الخطابي وغيره: اعتلال من كره الإشعار بأنه من المثلة مردود، بل هو باب آخر كالكي وشق أذن الحيوان ليصير علامة وغير ذلك من الوسم. وكالختان والحجامة، وشفقة الإنسان على المال عادة فلا يخشى ما توهموه من سريان الجرح حتى يفضي إلى الهلاك، ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيده الذي كرهه به كأنه يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه، فكان قريبا. وقد كثر تشنيع المتقدمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإشعار، وانتصر له الطحاوي في " المعاني " فقال: لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار، وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاك البدن كسراية الجرح، ولا سيما مع الطعن بالشفرة، فأراد سد الباب عن العامة لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، وأما من كان عارفا بالسنة في ذلك فلا. وفي هذا تعقب على الخطابي حيث قال: لا أعلم أحدا كره الإشعار إلا أبا حنيفة، وخالفه صاحباه فقالا بقول الجماعة انتهى. وروي عن إبراهيم النخعي أيضا أنه كره الإشعار، ذكر ذلك الترمذي قال: سمعت أبا السائب يقول كنا عند وكيع فقال له رجل: روي عن إبراهيم النخعي أنه قال الإشعار مثلة، فقال له وكيع: أقول لك أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم؟ ما أحقك بأن تحبس انتهى. وفيه تعقب على ابن حزم في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف. وقد بالغ ابن حزم في هذا الموضع. ويتعين الرجوع إلى ما قال الطحاوي فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه. (تنبيه) : اتفق من قال بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل، إلا سعيد بن جبير. واتفقوا على أن الغنم لا تشعر لضعفها، ولكن صوفها أو شعرها يستر موضع الإشعار، وأما على ما نقل عن مالك فلكونها ليست ذات أسنمة. والله أعلم. *3*باب مَنْ قَلَّدَ الْقَلَائِدَ بِيَدِهِ الشرح: قوله: (باب من قلد القلائد بيده) أي الهدايا، وله حالان: إما أن يسوق الهدي ويقصد النسك فإنما يقلدها ويشعرها عند إحرامه، وإما أن يسوقه ويقيم فيقلدها من مكانه وهو مقتضى حديث الباب، وسيأتي بيان ما يقلد به بعد باب والغرض بهذه الترجمة أنه كان عالما بابتداء التقليد ليترتب عليه ما بعده، قال ابن التين: يحتمل أن يكون قول عائشة " ثم قلدها بيده " بيانا لحفظها للأمر ومعرفتها به، محتمل أن تكون أرادت أنه صلى الله عليه وسلم تناول ذلك بنفسه وعلم وقت التقليد، ومع ذلك فلم يمتنع من شيء يمتنع منه المحرم لئلا يظن أحد أنه استباح ذلك قبل أن يعلم بتقليد الهدي. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ قَالَتْ عَمْرَةُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ الشرح: قوله: (عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم) كذا للأكثر، وسقط " عمرو " من رواية أبي ذر. وعمرة هي خالة عبد الله الراوي عنها، والإسناد كله مدنيون إلا شيخ البخاري. قوله: (أن زياد بن أبي سفيان) كذا وقع في " الموطأ " وكأن شيخ مالك حدث به كذلك في زمن بني أمية وأما بعدهم فما كان يقال له إلا زياد ابن أبيه، وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد، وكانت أمه سمية مولاة الحارث بن كلدة الثقفي تحت عبيد المذكور فولدت زيادا على فراشه فكان ينسب إليه، فلما كان في خلافة معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأن زيادا ولده فاستلحقه معاوية لذلك وزوج ابنه ابنته وأمر زيادا على العراقين البصرة والكوفة جمعهما له ومات في خلافة معاوية سنه ثلاث وخمسين. (تنبيه) : وقع عند مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك في هذا الحديث " أن ابن زياد " بدل قوله " أن زياد بن أبي سفيان " وهو وهم نبه عليه الغساني ومن تبعه، قال النووي وجميع من تكلم على صحيح مسلم: والصواب ما وقع في البخاري، وهو الموجود عند جميع رواة الموطأ. قوله: (حتى ينحر هديه) زاد مسلم في روايته " وقد بعثت بهديي فاكتبي إلي بأمرك " زاد الطحاوي من رواية ابن وهب عن مالك " أومري صاحب الهدي " أي الذي معه الهدي، أي بما يصنع. قوله: (قالت عمرة) هو بالسند المذكور. وقد روى الحديث المرفوع عن عائشة القاسم وعروة كما مضى قريبا مختصرا، ورواه عنها أيضا مسروق، وسيأتي في آخر الباب الذي بعده مختصرا، وأورده في الضحايا مطولا وترجم هناك على حكم من أهدى وأقام هل يصير محرما أو لا؟ ولم يترجم به هناك، ولفظه هناك " عن مسروق أنه قال: يا أم المؤمنين إن رجلا يبعث بالهدي إلى الكعبة ويجلس في المصر فيوصي أن تقلد بدنته فلا يزال من ذلك اليوم محرما حتى يحل الناس " فذكر الحديث نحوه. ولفظ الطحاوي في حديث مسروق " قال قلت لعائشة: إن رجالا هاهنا يبعثون بالهدي إلى البيت ويأمرون الذي يبعثون معه بمعلم لهم يقلدها في ذلك اليوم، فلا يزالون محرمين حتى يحل الناس " الحديث وقال سعيد بن منصور " حدثنا هشيم حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا محدث عن عائشة وقيل لها إن زيادا إذا بعث بالهدي أمسك عما يمسك عنه المحرم حتى ينحر هديه، فقالت عائشة: أو له كنبة يطوف بها". قال "وحدثنا يعقوب حدثنا هشام عن أبيه بلغ عائشة أن زيادا بعث بالهدي وتجرد فقالت إن كنت لأفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يبعث بها وهو مقيم عندنا ما يجتنب شيئا " وروى مالك في الموطأ " عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى رجلا متجردا بالعراق فسأل عنه فقالوا إنه أمر بهديه أن يقلد، قال ربيعة: فلقيت عبد الله بن الزبير فذكرت له ذلك فقال: بدعة ورب الكعبة " ورواه ابن أبي شيبة " عن الثقفي عن يحيى بن سعيد أخبرني محمد بن إبراهيم أن ربيعة أخبره أنه رأى ابن عباس وهو أمير على البصرة في زمان علي متجردا على منبر البصرة " فذكره، فعرف بهذا اسم المبهم في رواية مالك. قال ابن التين: خالف ابن عباس في هذا جميع الفقهاء، واحتجت عائشة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه، ولعل ابن عباس رجع عنه انتهى. وفيه قصور شديد فإن ابن عباس لم ينفرد بذلك بل ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب وابن المنذر من طريق ابن جريج كلاهما عن نافع " أن ابن عمر كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم إلا أنه لا يلبي " ومنهم قيس بن سعد بن عبادة أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيب عنه نحو ذلك، وروى ابن أبي شيبة من طريق محمد بن علي بن الحسين عن عمر وعلي أنهما قالا في الرجل يرسل ببدنته " أنه يمسك عما يمسك عنه المحرم " وهذا منقطع. وقال ابن المنذر " قال عمر وعلي وقيس بن سعد وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون: من أرسل الهدي وأقام حرم عليه ما يحرم على المحرم. وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون: لا يصير بذلك محرما، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار، ومن حجة الأولين ما رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه قال " كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقد قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه وقال: إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على مكان كذا، فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي " الحديث وهذا لا حجة فيه لضعف إسناده، إلا أن نسبة ابن عباس إلى التفرد بذلك خطأ. وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أنه لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم إلا الجماع ليلة جمع، رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح. نعم جاء عن الزهري ما يدل على أن الأمر استقر على خلاف ما قال ابن عباس، ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه وأخرجه البيهقي من طريقه قال " أول من كشف العمى عن الناس وبين لهم السنة في ذلك عائشة " فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها قال " فلما بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس " وذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أن من أراد النسك صار بمجرد تقليده الهدي محرما حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق، قال وقال أصحاب الرأي: من ساق الهدي وأم البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام. قال وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرما ولا يجب عليه شيء. ونقل الخطابي عن أصحاب الرأي مثل قول ابن عباس وهو خطأ عليهم، فالطحاوي أعلم بهم منه. ولعل الخطابي ظن التسوية بين المسألتين. قوله: (بيدي) فيه رفع مجاز أن تكون أرادت أنها فتلت بأمرها. قوله: (مع أبي) بفتح الهمزة وكسر الموحدة الخفيفة، تريد بذلك أباها أبا بكر الصديق. واستفيد من ذلك وقت البعث وأنه كان في سنة تسع عام حج أبو بكر بالناس. قال ابن التين: أرادت عائشة بذلك علمها بجميع القصة، ويحتمل أن تريد أنه آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حج في العام الذي يليه حجة الوداع لئلا يظن ظان أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ، فأرادت إزالة هذا اللبس وأكملت ذلك بقولها " فلم يحرم عليه شيء كان له حلا حتى نحر الهدي " أي وانقضى أمره ولم يحرم، وترك إحرامه بعد ذلك أحرى وأولى، لأنه إذا انتفى في وقت الشبهة فلأن ينتفي عند انتفاء الشبهة أولى. وحاصل اعتراض عائشة على ابن عباس أنه ذهب إلى ما أفتى به قياسا للتولية في أمر الهدي على المباشرة له، فبينت عائشة أن هذا القياس لا اعتبار له في مقابلة هذه السنة الظاهرة. وفي الحديث من الفوائد تناول الكبير الشيء بنفسه وإن كان له من يكفيه إذا كان مما يهتم به، ولا سيما ما كان من إقامة الشرائع وأمور الديانة. وفيه تعقب بعض العلماء على بعض، ورد الاجتهاد بالنص، وأن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم التأسي به حتى تثبت الخصوصية. *3*باب تَقْلِيدِ الْغَنَمِ الشرح: قوله: (باب تقليد الغنم) قال ابن المنذر: أنكر مالك وأصحاب الرأي تقليدها. زاد غيره: وكأنهم لم يبلغهم الحديث، ولم نجد لهم حجة إلا قول بعضهم إنها تضعف عن التقليد، وهي حجة ضعيفة لأن المقصود من التقليد العلامة وقد اتفقوا على أنها لا تشعر لأنها تضعف عنه فتقلد بما لا يضعفها، والحنفية في الأصل يقولون: ليست الغنم من الهدي، فالحديث حجة عليهم من جهة أخرى. وقال ابن عبد البر. احتج من لم ير بإهداء الغنم بأنه صلى الله عليه وسلم حج مرة واحدة ولم يهد فيها غنما انتهى. وما أدري ما وجه الحجة منه، لأن حديث الباب دال على أنه أرسل بها وأقام، وكان ذلك قبل حجته قطعا، فلا تعارض بين الفعل والترك لأن مجرد الترك لا يدل على نسخ الجواز. ثم من الذي صرح من الصحابة بأنه لم يكن في هداياه في حجته غنم حتى يسوغ الاحتجاج بذلك؟ ثم ساق ابن المنذر من طريق عطاء وعبيد الله بن أبي يزيد وأبي جعفر محمد بن علي وغيرهم قالوا: رأينا الغنم تقدم مقلدة. ولابن أبي شيبة عن ابن عباس نحوه. والمراد بذلك الرد على من ادعى الإجماع على ترك إهداء الغنم وتقليدها. وأعل بعض المخالفين حديث الباب بأن الأسود تفرد عن عائشة بتقليد الغنم دون بقية الرواة عنها من أهل بيتها وغيرهم، قال المنذري وغيره: وليست هذه بعلة لأنه حافظ ثقة لا يضره التفرد. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْتُ أَفْتِلُ الْقَلَائِدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا الشرح: قوله: (حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد، وإنما أردف البخاري بطريقه طريق أبي نعيم مع أن طريق أبي نعيم عنده أعلى درجة لتصريح الأعمش بالتحديث عن إبراهيم في رواية عبد الواحد، مع أن في رواية عبد الواحد زيادة التقليد وزيادة إقامته في أهله حلالا. ثم أردفه برواية منصور عن إبراهيم استظهارا لرواية عبد الواحد لما في حفظ عبد الواحد عندهم وإن كان هو عنده حجة، وأما إردافه برواية مسروق مع أنه لا تصريح فيها بكون القلائد للغنم فلأن لفظ الهدي أعم من أن يكون لغنم أو غيرها، فالغنم فرد من أفراد ما يهدى، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أهدى الإبل وأهدى البقر، فمن ادعى اختصاص الإبل بالتقليد فعليه البيان. وعامر في طريق مسروق هو الشعبي، وزكريا الراوي عنه هو ابن أبي زائدة. وقد ذكرت في الباب الذي قبله أنه أخرج طريق مسروق من وجه آخر عن الشعبي مطولا. *3*باب الْقَلَائِدِ مِنْ الْعِهْنِ الشرح: قوله: (باب القلائد من العهن) بكسر المهملة وسكون الهاء أي الصوف، وقيل: هو المصبوغ منه، وقيل: هو الأحمر خاصة. الحديث: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِي الشرح: قوله: (عن أم المؤمنين) هي عائشة، بينه يحيى بن حكيم عن معاذ أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " وكذا وقعت تسميتها عند الإسماعيلي من وجه آخر عن ابن عون. قوله: (فتلت قلائدها) أي الهدايا. وفي رواية يحيى المذكورة " أنا فتلت تلك القلائد " ولمسلم من وجه آخر عن ابن عون مثله وزاد " فأصبح فينا حلالا يأتي ما يأتي الحلال من أهله " وفيه رد على من كره القلائد من الأوبار واختار أن تكون من نبات الأرض، وهو منقول عن ربيعة ومالك. وقال ابن التين: لعله أراد أنه الأولى، مع القول بجواز كونها من الصوف. والله أعلم. |
08-14-2013, 12:13 PM | #505 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب تَقْلِيدِ النَّعْلِ الشرح:
قوله: (باب تقليد النعل) يحتمل أن يريد الجنس، ويحتمل أن يريد الوحدة أي النعل الواحدة فيكون فيه إشارة إلى من اشترط نعلين وهو قول الثوري. وقال غيره تجزئ الواحدة. وقال آخرون: لا تتعين النعل بل كل ما قام مقامها أجزأ حتى أذن الإداوة. ثم قيل: الحكمة في تقليد النعل أن فيه إشارة إلى السفر والحد فيه، فعلى هذا يتعين والله أعلم. وقال ابن المنير في الحاشية: الحكمة فيه أن العرب تعتد النعل مركوبة لكونها تقي عن صاحبها وتحمل عنه وعر الطريق، وقد كنى بعض الشعراء عنها بالناقة، فكأن الذي أهدى خرج عن مركوبه لله تعالى حيوانا وغيره، كما خرج حين أحرم عن ملبوسه، ومن ثم استحب تقليد نعلين لا واحدة، وهذا هو الأصل في نذر المشي حافيا إلى مكة. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً قَالَ ارْكَبْهَا قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ قَالَ ارْكَبْهَا قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّعْلُ فِي عُنُقِهَا تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (حدثنا محمد) كذا للأكثر غير منسوب، ولابن السكن " محمد بن سلام " ولأبي ذر " محمد هو ابن سلام " ورجح أبو علي الجياني أنه محمد بن المثنى لأن المصنف روى عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى حديثا غير هذا سيأتي قريبا، وأيده غيره بأن الإسماعيلي وأبا نعيم أخرجاه في مستخرجيهما من رواية محمد بن المثنى، وليس ذلك بلازم، والعمدة على ما قال ابن السكن فإنه حافظ. قوله: (عن عكرمة) هو مولى ابن عباس، وأما عكرمة بن عمار فهو تلميذ يحيى بن أبي كثير لا شيخه، وقد تقدم الكلام على حديث الباب قبل تسعة أبواب. قوله: (تابعه محمد بن بشار إلخ) المتابع بالفتح هنا هو معمر، والمتابع بالكسر ظاهر السياق أنه محمد بن بشار، وفي التحقيق هو علي ابن المبارك، وإنما احتاج معمر عنده إلى المتابعة لأن في رواية البصريين عنه مقالا لكونه حدثهم بالبصرة من حفظه وهذا من رواية البصريين، ولم تقع لي رواية محمد بن بشار موصولة، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق وكيع عن علي بن المبارك بمتابعة عثمان بن عمرو قال: إن حسينا المعلم رواه عن يحيى بن أبي كثير أيضا. *3*باب الْجِلَالِ لِلْبُدْنِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يَشُقُّ مِنْ الْجِلَالِ إِلَّا مَوْضِعَ السَّنَامِ وَإِذَا نَحَرَهَا نَزَعَ جِلَالَهَا مَخَافَةَ أَنْ يُفْسِدَهَا الدَّمُ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا الشرح: قوله: (باب الجلال للبدن) بكسر الجيم وتخفيف اللام جمع جل بضم الجيم وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه. قوله: (وكان ابن عمر لا يشق من الجلال إلا موضع السنام فإذا نحرها نزع جلالها مخافة أن يفسدها الدم ثم يتصدق بها) هذا التعليق وصل بعضه مالك في " الموطأ " عن نافع " أن عبد الله بن عمر كان لا يشق جلال بدنه " وعن نافع " أن ابن عمر كان يجلل بدنه القباطي والحلل ثم يبعث بها إلى الكعبة فيكسوها إياها " وعن مالك أنه سأل عبد الله بن دينار " ما كان ابن عمر يصنع بجلال بدنه حين كسيت الكعبة هذه الكسوة؟ قال: كان يتصدق بها " وقال البيهقي بعد أن أخرجه من طريق يحيى بن بكير عن مالك زاد فيه غيره عن مالك " إلا موضع السنام " إلى آخر الأثر المذكور. قال المهلب ليس التصدق بجلال البدن فرضا، وإنما صنع ذلك ابن عمر لأنه أراد أن لا يرجع في شيء أهل به له، ولا في شيء أضيف إليه ا ه. وفائدة شق الجل من موضع السنام ليظهر الإشعار لئلا يستتر ما تحتها. وروى ابن المنذر من طريق أسامة بن زيد عن نافع " أن ابن عمر كان يجلل بدنه الأنماط والبرود والحبر حتى يخرج من المدينة، ثم ينزعها فيطويها حتى يكون يوم عرفة فيلبسها إياها حتى ينحرها، ثم يتصدق بها، قال نافع: وربما دفعها إلى بني شيبة. وأورد المصنف حديث علي في التصدق بجلال البدن مختصرا، وسيأتي الكلام عليه مستوفي بعد سبعة أبواب إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : ما في هذه الأحاديث من استحباب التقليد والإشعار وغير ذلك يقتضي أن إظهار التقرب بالهدي أفضل من إخفائه، والمقرر أن إخفاء العمل الصالح غير الفرض أفضل من إظهاره، فأما أن يقال إن أفعال الحج مبنية على الظهور كالإحرام والطواف والوقوف فكان الإشعار والتقليد كذلك فيخص الحج من عموم الإخفاء، وإما أن يقال لا يلزم من التقليد والإشعار إظهار العمل الصالح لأن الذي يهديها يمكنه أن يبعثها مع من يقلدها ويشعرها ولا يقول إنها لفلان فتحصل سنة التقليد مع كتمان العمل، وأبعد من استدل بذلك على أن العمل إذا شرع فيه صار فرضا. وإما أن يقال إن التقليد جعل علما لكونها هديا حتى لا يطمع صاحبها في الرجوع فيها. *3*باب مَنْ اشْتَرَى هَدْيَهُ مِنْ الطَّرِيقِ وَقَلَّدَهَا الشرح: قوله: (باب من اشترى هديه من الطريق وقلدها) تقدم قبل ثمانية أبواب " من اشترى الهدي من الطريق " وأورد فيه حديث ابن عمر هذا من وجه آخر، وإنما زادت هذه الترجمة التقليد، وقد تقدم القول فيه مستوفى في " باب من قلد القلائد بيده " وحديث ابن عمر يأتي الكلام عليه مستوفى في أبواب المحصر إن شاء الله تعالى. لكن قوله في هذه الرواية " عام حجة الحرورية " وفي رواية الكشميهني " حج الحرورية في عهد ابن الزبير " مغاير لقوله في " باب طواف القارن " من رواية الليث عن نافع " عام نزول الحجاج بابن الزبير لأن حجة الحرورية كانت في السنة التي مات فيها يزيد بن معاوية سنة أربع وستين وذلك قبل أن يتسمى ابن الزبير بالخلافة، ونزول الحجاج بابن الزبير كان في سنة ثلاث وسبعين وذلك في آخر أيام ابن الزبير، فأما أن يحمل على أن الراوي أطلق على الحجاج وأتباعه حرورية لجامع ما بينهم من الخروج على أئمة الحق، وإما أن يحمل على تعدد القصة. وقد ظهر من رواية أيوب عن نافع أن القائل لابن عمر الكلام المذكور هو ولده عبيد الله كما تقدم في " باب من اشترى الهدي من الطريق " وسيأتي في أول الإحصار مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى. *3*باب ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِنَّ الشرح: قوله: (باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن) أما التعبير بالذبح مع أن حديث الباب بلفظ النحر فإشارة إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الذبح، وسيأتي بعد سبعة أبواب من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد، ونحر البقر جائز عند العلماء إلا أن الذبح مستحب عندهم لقوله تعالى (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) وخالف الحسن بن صالح فاستحب نحرها، وأما قوله " من غير أمرهن " فأخذه من استفهام عائشة عن اللحم لما دخل به عليها، ولو كان ذبحه بعلمها لم تحتج إلى الاستفهام، لكن ليس ذلك دافعا للاحتمال، فيجوز أن يكون علمها بذلك تقدم بأن يكون استأذنهن في ذلك، لكن لما أدخل اللحم عليها احتمل عندها أن يكون هو الذي وقع الاستئذان فيه وأن يكون غير ذلك فاستفهمت عنه لذلك. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَا نُرَى إِلَّا الْحَجَّ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ قَالَتْ فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فَقُلْتُ مَا هَذَا قَالَ نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ قَالَ يَحْيَى فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ فَقَالَ أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ الشرح: قوله: (عن عمرة) في رواية سليمان المذكورة حدثتني عمرة. قوله: (لا نرى) بضم النون أي لا نظن. قوله: (إلا الحج) تقدم القول فيه في الكلام على " باب التمتع والإفراد والقران". وقوله (فدخل علينا) بضم الدال على البناء للمجهول. قوله: (بلحم بقر) قال ابن بطال: أخذ بظاهره جماعة فأجازوا الاشتراك في الهدي والأضحية، ولا حجة فيه لأنه يحتمل أن يكون عن كل واحدة بقرة وأما رواية يونس عن الزهري عن عمرة عن عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن أزواجه بقرة واحدة " فقد قال إسماعيل القاضي: تفرد يونس بذلك، وقد خالفه غيره ا ه. ورواية يونس أخرجها النسائي وأبو داود وغيرهما، ويونس ثقة حافظ، وقد تابعه معمر عند النسائي أيضا ولفظه أصرح من لفظ يونس قال " ما ذبح عن آل محمد في حجه الوداع إلا بقرة " وروى النسائي أيضا من طريق يحيي بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال " ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن اعتمر من نسائه في حجة الوداع بقرة بينهن " صححه الحاكم، وهو شاهد قوي لرواية الزهري وأما ما رواه عمار الدهني عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت " ذبح عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حججنا بقرة بقرة " أخرجه النسائي أيضا فهو شاذ خالف لما تقدم، وقد رواه المصنف في الأضاحي ومسلم أيضا من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر " ولم يذكر ما زاده عمار الدهني، وأخرجه مسلم أيضا من طريق عبد العزيز الماجشون عن عبد الرحمن لكن بلفظ " أهدى " بدل " ضحى " والظاهر أن التصرف من الرواة لأنه ثبت في الحديث ذكر النحر فحمله بعضهم على الأضحية، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك كان عمن اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ " أهدى " وتبين أنه هدي التمتع فليس فيه حجة على مالك في قوله لا ضحايا على أهل منى، وتبين توجيه الاستدلال به على جواز الاشتراك في الهدي والأضحية والله أعلم. واستدل به على أن الإنسان قد يلحقه من عمل غيره ما عمله عنه بغير أمره ولا علمه، وتعقب باحتمال الاستئذان كما تقدم في الكلام على الترجمة، وفيه جواز الأكل من الهدي والأضحية، وسيأتي نقل الخلاف فيه بعد سبعة أبواب. قوله: (قال يحيى) هو ابن سعيد الأنصاري بالإسناد المذكور كله إليه. قوله: (فذكرته للقاسم) يعني ابن محمد بن أبي بكر الصديق. قوله: (فقال أتتك بالحديث على وجهه) أي ساقته لك سياقا تاما لم تختصر منه شيئا، وكأنه يشير بذلك إلى روايته هو عن عائشة فإنها مختصرة كما قدمت الإشارة إليها في هذا الباب. *3*باب النَّحْرِ فِي مَنْحَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى الشرح: قوله: (باب النحر في منحر النبي صلى الله عليه وسلم بمنى) قال ابن التين: منحر النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الأولى التي تلي المسجد انتهى. وكأنه أخذه من أثر أخرجه الفاكهي من طريق ابن جريج عن طاوس قال " كان منزل النبي صلى الله عليه وسلم بمنى عن يسار المصلي". قال وقال غير طاوس من أشياخنا مثله وزاد " وأمر بنسائه أن ينزلن جنب الدار بمنى، وأمر الأنصار أن ينزلوا الشعب وراء الدار". قلت: والشعب هو عند الجمرة المذكورة. قال ابن التين: وللنحر فيه فضيلة على غيره لقوله صلى الله عليه وسلم "هذا المنحر، وكل منى منحر " انتهى. والحديث المذكور أخرجه مسلم من حديث جابر ولفظه " نحرت هاهنا"، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم " وهذا ظاهره أن نحره صلى الله عليه وسلم بذلك المكان وقع عن اتفاق، لا لشيء يتعلق بالنسك، ولكن ابن عمر كان شديد الاتباع. وقد روى عمر بن شبة في كتابه من طريق ابن جريج عن عطاء قال " كان ابن عمر لا ينحر إلا بمنى " وحكى ابن بطال قول مالك في النحر بمنى للحاج والنحر بمكة للمعتمر، وأطال في تقرير ذلك وترجيحه، ولا خلاف في الجواز وإن اختلف في الأفضل. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ خَالِدَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَنْحَرُ فِي الْمَنْحَرِ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ مَنْحَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (حدثنا إسحاق بن إبراهيم) هو المعروف بابن راهويه، وكذلك أخرجه في مسنده. وأخرجه من طريقه أبو نعيم. قوله: (قال عبيد الله) أي ابن عمر بالإسناد المذكور، والمعنى أن مراد نافع بإطلاق المنحر منحر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى المصنف هذا الحديث في الأضاحي أوضح من هذا ولفظه " حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا خالد بن الحارث " فذكر الحديث قال " قال عبيد الله يعني منحر النبي صلى الله عليه وسلم " ولهذا أردفه المصنف هنا بطريق موسى بن عقبة عن نافع المصرحة بإضافة المنحر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس الخبر، وأفادت رواية موسى زيادة وقت بعث الهدي إلى المنحر وأنها من آخر الليل. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمْ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ الشرح: قوله "مع حجاج " بضم المهملة جمع حاج، وقوله "فيهم الحر والمملوك " معناه أنه لا يشترط بعث الهدي مع الأحرار دون الأرقاء، وسيأتي في الأضاحي من طريق كثير بن فرقد عن نافع عن ابن عمر " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلي " وهذا محمول على الأضحية بالمدينة. *3*باب مَنْ نَحَرَ هَدْيَهُ بِيَدِهِ الشرح: قوله: (باب من نحر هديه بيده) أورد فيه حديث أنس مختصرا وفيه " نحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدن " وسيأتي بعد باب واحد بتمامه بالإسناد الذي ساقه هنا سواء، وليست هذه الترجمة وحديثها عند أكثر الرواة، بل ثبتت لأبي ذر عن المستملي وحده، وفي نسخة الصغاني بعد الترجمة ما نصه " حديث سهل بن بكار عن وهيب " فاكتفى بالإشارة. *3*باب نَحْرِ الْإِبِلِ مُقَيَّدَةً الشرح: قوله: (باب نحر الإبل مقيدة) أورد فيه حديث ابن عمر، وهو مطابق لما ترجم له. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا قَالَ ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ أَخْبَرَنِي زِيَادٌ الشرح: قوله: (عن يونس) هو ابن عبيد، في رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن عبد الأعلى عن يزيد بن زريع " أخبرنا يونس " والإسناد سوى الصحابي كلهم بصريون. قوله: (عن زياد بن جبير) بجيم وموحدة مصغر بصري تابعي ثقة ليس له في الصحيحين سوى هذا الحديث وحديث آخر أخرجه المصنف في النذر بهذا الإسناد وأخرجه في الصوم بإسناد آخر إلى يونس بن عبيد، وقد سبق في أوائل الحج حديث غير هذا من طريق زيد بن جبير عن ابن عمر، وهو غير زياد بن جبير هذا وليس أخا له أيضا لأن زيدا طائي كوفي وزيادا ثقفي بصري لكنهما اشتركا في الثقة وفي الرواية عن ابن عمر. قوله: (أتى على رجل) لم أقف على اسمه. قوله: (قد أناخ بدنته ينحرها) زاد أحمد عن إسماعيل بن علية عن يونس " لينحرها بمنى". قوله: (ابعثها) أي أثرها، يقال بعثت الناقة أثرتها. و قوله: (قياما) أي عن قيام، وقياما مصدر بمعنى قائمة وهي حال مقدرة، أو قوله " ابعثها " أي أقمها، أو العامل محذوف تقديره انحرها. وقد وقع في رواية عند الإسماعيلي " انحرها قائمة". قوله: (مقيدة) أي معقولة الرجل قائمة على ما بقي من قوائمها، ولأبي داود من حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها " وقال سعيد بن منصور " حدثنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير رأيت ابن عمر ينحر بدنته وهي معقولة إحدى يديها". قوله: (سنة محمد) بنصب سنة بعامل مضمر كالاختصاص، أو التقدير متبعا سنة محمد. قلت: ويجوز الرفع، ويدل عليه رواية الحربي في المناسك بلفظ " فقال له انحرها قائمة فإنها سنة محمد " وفي هذا الحديث استحباب نحر الإبل على الصفة المذكورة، وعن الحنفية يستوي نحرها قائمة وباركة في الفضيلة، وفيه تعليم الجاهل وعدم السكوت على مخالفة السنة وإن كان مباحا، وفيه أن قول الصحابي من السنة كذا مرفوع عند الشيخين لاحتجاجهما بهذا الحديث في صحيحيهما. قوله: (وقال شعبة عن يونس أخبرني زياد) هذا التعليق أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده قال " أخبرنا النضر بن شميل حدثنا شعبة عن يونس سمعت زياد بن جبير يقول: انتهيت مع ابن عمر فإذا رجل قد أضجع بدنته وهو يريد أن ينحرها فقال قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم " وقد نسب مغلطاي ومن تبعه تعليق شعبة المذكور لتخريج إبراهيم الحربي عن عمرو بن مرزوق عن شعبة، فراجعته فوجدته فيه عن يونس عن زياد بالعنعنة، وليس في ذلك وفاء بمقصود البخاري، فإنه أخرج طريق شعبة لبيان سماع يونس له من زياد، وكذا أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر غندر عن شعبة بالعنعنة. *3*باب نَحْرِ الْبُدْنِ قَائِمَةً وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَوَافَّ قِيَامًا الشرح: قوله: (باب نحر البدن قائمة) في رواية الكشميهني " قياما". قوله: (وقال ابن عمر سنة محمد) يشير إلى حديثه في الباب الذي قبله. قوله: (وقال ابن عباس صواف قياما) وهكذا ذكره سفيان بن عيينة في تفسيره عن عبيد الله ابن أبي يزيد عنه في تفسير قوله تعالى (اذكروا اسم الله عليها صواف) قال: قياما، أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة، وأخرجه عبد بن حميد عن أبي نعيم عنه. وقوله "صواف " بالتشديد جمع صافة أي مصطفة في قيامها. ووقع في " مستدرك الحاكم " من وجه آخر عن ابن عباس في قوله تعالى " صوافن " أي قياما على ثلاث قوائم معقولة، وهي قراءة ابن مسعود " صوافن " بكسر الفاء بعدها نون جمع صافنة وهي التي رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب. الحديث: حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَبَاتَ بِهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَجَعَلَ يُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ فَلَمَّا عَلَا عَلَى الْبَيْدَاءِ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا وَنَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ الشرح: قوله: (حدثنا سهل بن بكار) الإسناد إلى آخره بصريون. قوله: (فبات بها فلما أصبح) في رواية الكشميهني " فبات بها حتى أصبح". وقد تقدم الكلام عليه في أوائل الحج، والمراد منه هنا قوله " ونحر بيده سبع بدن قياما " كذا في رواية أبي ذر وفي رواية كريمة وغيرها سبعة بدن فقيل في توجيهها أراد أبعرة فلذا ألحق بها الهاء، والجمع بينه وبين ما قبله واضح، وسيأتي بيان ما نحره وعدده في حديث علي إن شاء الله تعالى قريبا، ويأتي الكلام على حديث التضحية بالكبشين في كتاب الأضاحي. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ فَصَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ الشرح: قوله: (وعن أيوب عن رجل عن أنس) المراد به بيان اختلاف إسماعيل بن علية ووهيب على أيوب فيه، فساقه وهيب عنه بإسناد واحد وفصل إسماعيل بعضه فقال " عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس " وقال في بعضه " عن أيوب عن رجل عن أنس " قال الداودي: لو كان كله عند أيوب عن أبي قلابة ما أبهمه. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون إسماعيل شك فيه أو نسيه، ووهيب ثقة فقد جزم بأن جميع الحديث عنه، وقد تقدم الكلام على شيء من هذا في " باب التسبيح والتحميد " في أوائل الحج. (تنبيه) : حكى ابن بطال عن المهلب أنه وقع عنده هنا " فلما أهل لنا بهما جميعا " قال ومعناه أمر من أهل بالقران لأنه هو كان مفردا، فمعنى " أهل لنا " أي أباح لنا الإهلال فكان ذلك أمرا وتعليما لهم كيف يهلون، وإلا فما معنى " لنا " في هذا الموضع؟ انتهى. ولم أقف في شيء من الروايات التي اتصلت لنا في هذا الحديث ولا في غيره على ما ذكر. وإنما الذي في أصولنا " فلما علا على البيداء لبى بهما جميعا " ولعله وقع في نسخته " فلما علا على البيداء أهل " وفي أخرى " لبى " فكتبت " لبى " بألف فصارت صورتها " لنا " بنون خفيفة وجمع بينها وبين الرواية الأخرى فصارت " أهل لنا " ولا وجود لذلك في شيء من الطرق. |
08-14-2013, 12:18 PM | #506 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ الشرح:
قوله: (باب الذبح قبل الحلق) أورد فيه حديث السؤال عن الحلق قبل الذبح، ووجه الاستدلال به لما ترجم له أن السؤال عن ذلك دال على أن السائل عرف أن الحكم على عكسه، وقد أورد حديث ابن عباس من طرق ثم حديث أبي موسى، فأما الطريق الأولى لحديث ابن عباس فمن طريق منصور بن زاذان عن عطاء عنه بلفظ " سئل عمن حلق قبل أن يذبح ونحوه " والثانية من طريق أبي بكر وهو ابن عياش عن عبد العزيز بن رفيع عن عطاء عن ابن عباس فذكر فيه الزيارة قبل الرمي والحلق قبل الذبح والذبح قبل الرمي وعرف به المراد بقوله في رواية منصور " ونحوه " والثالثة من رواية ابن خثيم عن عطاء. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ لَا حَرَجَ قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ لَا حَرَجَ قَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ لَا حَرَجَ وَقَالَ عَبْدُ الرَّحِيمِ الرَّازِيُّ عَنْ ابْنِ خُثَيْمٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنِي ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَفَّانُ أُرَاهُ عَنْ وُهَيْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (وقال عبد الرحيم بن سليمان عن ابن خثيم) وهو عبد الله بن عثمان وهذه الرواية المعلقة وصلها الإسماعيلي من طريق الحسن بن حماد عنه ولفظه " أن رجلا قال: يا رسول الله، طفت بالبيت قبل أن أرمي. قال: ارم ولا حرج " وصله الطبراني في " الأوسط " من طريق سعيد بن محمد بن عمرو الأشعثي عن عبد الرحيم. وقال: تفرد به عبد الرحيم عن ابن خثيم. كذا قال، والرواية التي تلي هذه ترد عليه. وعرف بهذا أن مراد البخاري أصل الحديث لا خصوص ما ترجم به من الذبح قبل الحلق. قوله: (وقال القاسم بن يحيى حدثني ابن خثيم) لم أقف على طريقه موصولة. قوله: (وقال عفان أراه عن وهيب حدثنا ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس) القائل " أراه " هو البخاري، فقد أخرجه أحمد عن عفان بدونها ولفظه " جاء رجل فقال: يا رسول الله، حلقت ولم أنحر. قال: لا حرج فانحر. وجاءه آخر فقال: يا رسول الله، نحرت قبل أن أرمي. قال: فارم ولا حرج " وزعم خلف أن البخاري قال فيه " حدثنا عفان " والمراد بهذا التعليق بيان الاختلاف فيه على ابن خثيم هل شيخه فيه عطاء أو سعيد بن جبير، كما اختلف فيه على عطاء هل شيخه فيه ابن عباس أو جابر، فالذي يتبين من صنيع البخاري ترجيح كونه عن ابن عباس ثم كونه عن عطاء وأن الذي يخالف ذلك شاذ، وإنما قصد بإيراده بيان الاختلاف. وفي رواية عفان هذه الدلالة على تعدد السائلين عن الأحكام المذكورة. قوله: (وقال حماد) يعني ابن سلمة إلخ. هذه الطريق وصلها النسائي والطحاوي والإسماعيلي وابن حبان من طرق عن حماد بن سلمة به نحو سياق عبد العزيز بن رفيع، والطريق الرابعة من طريق عكرمة عن ابن عباس. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ فَقَالَ لَا حَرَجَ قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ قَالَ لَا حَرَجَ الشرح: قوله: (عبد الأعلى) هو ابن عبد الأعلى وخالد هو الحذاء، وكأن البخاري استظهر به لما وقع في طريق عطاء من الاختلاف، فأراد أن يبين أن لحديث ابن عباس أصلا آخر. وفي طريق عكرمة هذه زيادة حكم الرمي بعد المساء فإن فيه إشعارا بأن الأصل في الرمي أن يكون نهارا، وسيأتي الكلام على حكم هذه المسألة بعد أربعة أبواب. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ أَحَجَجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِمَا أَهْلَلْتَ قُلْتُ لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَحْسَنْتَ انْطَلِقْ فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ بَنِي قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ النَّاسَ حَتَّى خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرْتُهُ لَهُ فَقَالَ إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ الشرح: حديث أبي موسى تقدم الكلام عليه في " باب التمتع والقران " ومطابقته للترجمة من قول عمر فيه " لم يحل حتى بلغ الهدي محله " لأن بلوغ الهدي محله يدل على ذبح الهدي فلو تقدم الحلق عليه لصار متحللا قبل بلوغ الهدي محله، وهذا هو الأصل، وهو تقديم الذبح على الحلق، وأما تأخيره فهو رخصة كما سيأتي. قوله: (ففلت) بفاء التعقيب بعدها فاء ثم لام خفيفة مفتوحتين ثم مثناة أي تتبعت القمل منه. *3*باب مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَحَلَقَ الشرح: قوله: (باب من لبد رأسه عند الإحرام وحلق) أي بعد ذلك عند الإحلال، قيل أشار بهذه الترجمة إلى الخلاف فيمن لبد هل يتعين عليه الحلق أو لا؟ فنقل ابن بطال عن الجمهور تعين ذلك حتى عن الشافعي. وقال أهل الرأي لا يتعين بل إن شاء قصر ا ه، وهذا قول الشافعي في الجديد وليس للأول دليل صريح، وأعلى ما فيه ما سيأتي في اللباس عن عمر " من ضفر رأسه فليحلق " وأورد المصنف في هذا الباب حديث حفصة وفيه " أني لبدت رأسي " وليس فيه تعرض للحلق إلا أنه معلوم من حاله صلى الله عليه وسلم أنه حلق رأسه في حجه. وقد ورد ذلك صريحا في حديث ابن عمر كما في أول الباب الذي بعده، وأردفه ابن بطال بحديث حفصة فجعله من هذا الباب لمناسبته للترجمة، وقد قلت غير مرة إنه لا يلزمه أن يأتي بجميع ما اشتمل عليه الحديث في الترجمة بل إذا وجدت واحدة كفت، وقد تقدم الكلام على حديث حفصة في " باب التمتع والقران". *3*باب الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ الشرح: قوله: (باب الحلق والتقصير عند الإحلال) قال ابن المنير في الحاشية: أفهم البخاري بهذه الترجمة أن الحلق نسك لقوله " عند الإحلال " وما يصنع عند الإحلال وليس هو نفس التحلل وكأنه استدل على ذلك بدعائه صلى الله عليه وسلم لفاعله والدعاء يشعر بالثواب والثواب لا يكون إلا على العبادة لا على المباحات، وكذلك تفضيله الحلق على التقصير يشعر بذلك لأن المباحات لا تتفاضل، والقول بأن الحلق نسك قول الجمهور إلا رواية مضعفة عن الشافعي أنه استباحة محظور، وقد أوهم كلام ابن المنذر أن الشافعي تفرد بها، لكن حكيت أيضا عن عطاء وعن أبي يوسف وهي رواية عن أحمد وعن بعض المالكية، وسيأتي ما فيه بعد بابين. ثم ذكر المصنف في الباب لابن عمر ثلاثة أحاديث ولأبي هريرة حديثا ولابن عباس حديثا. فالحديث الأول لابن عمر من طريق شعيب بن أبي حمزة قال: قال نافع " كان ابن عمر يقول: حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته " وهذا طرف من حديث طويل أوله " لما نزل الحجاج بابن الزبير " الحديث، نبه على ذلك الإسماعيلي. والحديث الثاني لابن عمر في الدعاء للمحلقين وسيأتي بسطه. والحديث الثالث لابن عمر من طريق جويرية بن أسماء عن نافع أن عبد الله وهو ابن عمر قال " حلق النبي صلى الله عليه وسلم وطائفة من أصحابه وقصر بعضهم " وكأن البخاري لم يقع له على شرطه التصريح بمحل الدعاء للمحلقين فاستنبط من الحديث الأول والثالث أن ذلك كان في حجة الوداع، لأن الأول صرح بأن حلاقه وقع في حجته، والثالث لم يصرح بذلك إلا أنه بين فيه أن بعض الصحابة حلق وبعضهم قصر، وقد أخرجه في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع بلفظ " حلق في حجة الوداع وأناس من أصحابه وقصر بعضهم. وأخرج مسلم من طريق الليث بن سعد عن نافع مثل حديث جويرية سواء وزاد فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يرحم الله المحلقين " فأشعر ذلك بأن ذلك وقع في حجة الوداع، وسنذكر البحث فيه مع ابن عبد البر هنا إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : أفاد ابن خزيمة في صحيحه من الوجه الذي أخرجه البخاري منه في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع متصلا بالمتن المذكور قال " وزعموا أن الذي حلقه معمر بن عبد الله بن نضلة " وبين أبو مسعود في " الأطراف " أن قائل " وزعموا " ابن جريج الراوي له عن موسى بن عقبة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَالَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ وَالْمُقَصِّرِينَ الشرح: قوله: (قالوا والمقصرين يا رسول الله) لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد، والواو في قوله " والمقصرين " معطوفة على شيء محذوف تقديره قل والمقصرين أو قل وارحم المقصرين، وهو يسمى العطف التلقيني. وفي قوله صلى الله عليه وسلم "والمقصرين " إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه ولو تخلل بينهما السكوت لغير عذر. قوله: (قال والمقصرين) كذا في معظم الروايات عن مالك إعادة ذلك الدعاء للمحلقين مرتين، وعطف المقصرين عليهم في المرة الثالثة، وانفرد يحيى بن بكير دون رواة " الموطأ " بإعادة ذلك ثلاث مرات نبه عليه ابن عبد البر في " التقصي " وأغفله في " التمهيد " بل قال فيه: أنهم لم يختلفوا على مالك في ذلك. وقد راجعت أصل سماعي من موطأ يحيى بن بكير فوجدته كما قال في " التقصي". قوله: (وقال الليث) وصله مسلم ولفظه " رحم الله المحلقين مرة أو مرتين، قالوا: والمقصرين، قال: والمقصرين " والشك فيه من الليث وإلا فأكثرهم موافق لما رواه مالك. قوله: (وقال عبيد الله) بالتصغير وهو العمري، وروايته وصلها مسلم من رواية عبد الوهاب الثقفي عنه باللفظ الذي علقه البخاري، وأخرجه أيضا عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه عنه بلفظ " رحم الله المحلقين قالوا: والمقصرين " فذكر مثل رواية مالك سواء وزاد " قال رحم الله المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: والمقصرين " وبيان أن كونها في الرابعة أن قوله والمقصرين معطوف على مقدر تقديره يرحم الله المحلقين، وإنما قال ذلك بعد أن دعا للمحلقين ثلاث مرات صريحا فيكون دعاؤه للمقصرين في الرابعة. وقد رواه أبو عوانة في مستخرجه من طريق الثوري عن عبيد الله بلفظ " قال في الثالثة والمقصرين " والجمع بينهما واضح بأن من قال في الرابعة فعلى ما شرحناه، ومن قال في الثالثة أراد أن قوله " والمقصرين " معطوف على الدعوة الثالثة، أو أراد بالثالثة مسألة السائلين في ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم لا يراجع بعد ثلاث كما ثبت، ولو لم يدع لهم بعد ثالث مسألة ما سألوه ذلك. أخرجه أحمد من طريق أيوب عن نافع بلفظ " اللهم اغفر للمحلقين. قالوا: وللمقصرين - حتى قالها ثلاثا أو أربعا - ثم قال: والمقصرين " ورواية من جزم مقدمة على رواية من شك. الحديث: حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ قَالَهَا ثَلَاثًا قَالَ وَلِلْمُقَصِّرِينَ الشرح: قوله: (حدثنا عياش بن الوليد) هو الرقام بالتحتانية والمعجمة، ووقع في رواية ابن السكن بالموحدة والمهملة. وقال أبو علي الجياني: الأول أرجح بل هو الصواب، وكان القابسي يشك عن أبي زيد فيه فيهمل ضبطه فيقول: عباس أو عياش. قلت: لم يخرج البخاري للعباس - بالموحدة والمهملة - ابن الوليد إلا ثلاثة أحاديث نسبه في كل منهما " النرسي " أحدها في علامات النبوة والآخر في المغازي والثالث في الفتن ذكره معلقا قال " وقال عباس النرسي"، وأما الذي بالتحتانية والمعجمة فأكثر عنه وفي الغالب لا ينسبه والله أعلم. قوله: (قالها ثلاثا) أي قوله " اللهم اغفر للمحلقين " وهذه الرواية شاهدة لأن عبيد الله العمري حفظ الزيادة. (تنبيه) : لم أر في حديث أبي هريرة من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير عنه إلا من رواية محمد بن فضيل هذه بهذا الإسناد في جميع ما وقفت عليه من السنن والمسانيد، فهي من أفراده عن عمارة ومن أفراد عمارة عن أبي زرعة، وتابع أبا زرعة عليه عبد الرحمن بن يعقوب أخرجه مسلم من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانة، ورواية أبي زرعة أتم. واختلف المتكلمون على هذا الحديث في الوقت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال ابن عبد البر: لم يذكر أحد من رواة نافع عن ابن عمر أن ذلك كان يوم الحديبية، وهو تقصير وحذف، وإنما جرى ذلك يوم الحديبية حين صد عن البيت، وهذا محفوظ مشهور من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وحبشي بن جنادة وغيرهم. ثم أخرج حديث أبي سعيد بلفظ " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة " وحديث ابن عباس بلفظ " حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله المحلقين " الحديث، وحديث أبي هريرة من طريق محمد بن فضيل الماضي ولم يسق لفظه بل قال " فذكر معناه " وتجوز في ذلك فإنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضع ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية، ولم يسق ابن عبد البر عن ابن عمر في هذا شيئا، ولم أقف على تعيين الحديبية في شيء من الطرق عنه، وقد قدمت في صدر الباب أنه مخرج من مجموع الأحاديث عنه أن ذلك كان في حجة الوداع كما يومئ إليه صنيع البخاري، وحديث أبي سعيد الذي أخرجه ابن عبد البر أخرجه أيضا الطحاوي من طريق الأوزاعي وأحمد وابن أبي شيبة، وأبو داود الطيالسي من طريق هشام الدستوائي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم الأنصاري عن أبي سعيد، وزاد فيه أبو داود أن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة، وأما حديث ابن عباس فأخرجه ابن ماجة من طريق ابن إسحاق " حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه " وهو عند ابن إسحاق في المغازي بهذا الإسناد وأن ذلك كان بالحديبية، وكذلك أخرجه أحمد وغيره من طريقه، وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة من طريق أبي إسحاق عنه ولم يعين المكان، وأخرجه أحمد من هذا الوجه وزاد في سياقه " عن حبشي وكان ممن شهد حجة الوداع " فذكر هذا الحديث، وهذا يشعر بأنه كان في حجة الوداع. وأما قول ابن عبد البر " فوهم " فقد ورد تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في " السنن " ومن طريق الطبراني في " الأوسط " ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في " المغازي " وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم، ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث، فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا وأصح إسنادا ولهذا قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأم الحصين: هذه الأحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع، قال: وهو الصحيح المشهور. وقيل: كان في الحديبية، وجزم بأن ذلك كان في الحديبية إمام الحرمين في " النهاية " ثم قال النووي: لا يبعد أن يكون وقع في الموضعين انتهى. وقال عياض: كان في الموضعين. ولذا قال ابن دقيق العيد أنه الأقرب. قلت: بل هو المتعين لتظاهر الروايات بذلك في الموضعين كما قدمناه، إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، والقصة مشهورة كما ستأتي في مكانها. فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو صلى الله عليه وسلم قبلهم ففعل، فتبعوه فحلق بعضهم وقصر بعض، وكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير. وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس المشار إليه قبل فإن في آخره عند ابن ماجة وغيره أنهم " قالوا يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة؟ قال: لأنهم لم يشكوا". وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في " النهاية ": كان أكثر من حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسق الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤوسهم شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق ففعله أكثرهم، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم فعل من حلق لكونه أبين في امتثال الأمر انتهى. وفيما قاله نظر وإن تابعه عليه غير واحد، لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا، وقد كان ذلك في حقهم كذلك. والأولى ما قاله الخطابي وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعر والتزين به، وكان الحلق فيهم قليلا وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن زي الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. وفي حديث الباب من الفوائد أن التقصير يجزئ عن الحلق، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن الحسن البصري أن الحلق يتعين في أول حجة، حكاه ابن المنذر بصيغة التمريض، وقد ثبت عن الحسن خلافه. قال ابن أبي شيبة: حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن في الذي لم يحج قط، فإن شاء حلق وإن شاء قصر. نعم روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال: إذا حج الرجل أول حجة حلق، فإن حج أخرى فإن شاء حلق وإن شاء قصر. ثم روي عنه أنه قال: كانوا يحبون أن يحلقوا في أول حجة وأول عمرة انتهى. وهذا يدل على أن ذلك للاستحباب لا للزوم. نعم عند المالكية والحنابلة أن محل تعيين الحلق والتقصير أن لا يكون المحرم لبد شعره أو ضفره أو عقصه، وهو قول الثوري والشافعي في القديم والجمهور. وقال في الجديد وفاقا للحنفية: لا يتعين إلا إن نذره أو كان شعره خفيفا لا يمكن تقصيره أو لم يكن له شعر فيمر الموسى على رأسه. وأغرب الخطابي فاستدل بهذا الحديث لتعين الحلق لمن لبد، ولا حجة فيه، وفيه أن الحلق أفضل من التقصير، ووجهه أنه أبلغ في العبادة وأبين للخضوع والذلة وأدل على صدق النية، والذي يقصر يبقى على نفسه شيئا مما يتزين به، بخلاف الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله تعالى. وفيه إشارة إلى التجرد، ومن ثم استحب الصلحاء إلقاء الشعور عند التوبة والله أعلم. وأما قول النووي تبعا لغيره في تعليل ذلك بأن المقصر يبقى على نفسه الشعر الذي هو زينة والحاج مأمور بترك الزينة بل هو أشعث أغبر ففيه نظر، لأن الحلق إنما يقع بعد انقضاء زمن الأمر بالتقشف فإنه يحل له عقبة كل شيء إلا النساء في الحج خاصة. واستدل بقوله " المحلقين " على مشروعية حلق جميع الرأس لأنه الذي تقتضيه الصيغة. وقال بوجوب حلق جميعه مالك وأحمد واستحبه الكوفيون والشافعي، ويجزئ البعض عندهم، واختلفوا فيه فعن الحنفية الربع، إلا أبا يوسف فقال النصف. وقال الشافعي: أقل ما يجب حلق ثلاث شعرات، وفي وجه لبعض أصحابه شعرة واحدة، والتقصير كالحلق فالأفضل أن يقصر من جميع شعر رأسه، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة، وإن اقتصر على دونها أجزأ، هذا للشافعية وهو مرتب عند غيرهم على الحلق، وهذا كله في حق الرجال وأما النساء فالمشروع في حقهن التقصير بالإجماع، وفيه حديث لابن عباس عند أبي داود ولفظه " ليس على النساء حلق، وإنما على النساء التقصير " وللترمذي من حديث علي " نهى أن تحلق المرأة رأسها " وقال جمهور الشافعية: لو حلقت أجزأها ويكره. وقال القاضيان أبو الطيب وحسين: لا يجوز، والله أعلم. وفي الحديث أيضا مشروعية الدعاء لمن فعل ما شرع له، وتكرار الدعاء لمن فعل الراجح من الأمرين المخير فيهما والتنبيه بالتكرار على الرجحان وطلب الدعاء لمن فعل الجائز وإن كان مرجوحا. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ الشرح: قوله: (عن الحسن بن مسلم) في رواية يحيى بن سعيد عن ابن جريج " حدثني الحسن بن مسلم " أخرجه مسلم، والإسناد سوى أبي عاصم مكيون، وفيه رواية صحابي عن صحابي. ومعاوية هو ابن أبي سفيان الخليفة المشهور. قوله: (عن معاوية) في رواية مسلم " أن معاوية بن أبي سفيان أخبره". قوله: (قصرت) أي أخذت من شعر رأسه، وهو يشعر بأن ذلك كان في نسك، إما في حج أو عمرة، وقد ثبت أنه حلق في حجته فتعين أن يكون في عمرة، ولا سيما وقد روى مسلم في هذا الحديث أن ذلك كان بالمروة ولفظه " قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة " أو " رأيته يقصر عنه بمشقص وهو على المروة " وهذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة، لكن وقع عند مسلم من طريق أخرى عن طاوس بلفظ " أما علمت أني قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة؟ فقلت له لا أعلم هذه إلا حجة عليك " وبين المراد من ذلك في رواية النسائي فقال بدل قوله: " فقلت له لا إلخ " يقول ابن عباس " وهذه على معاوية أن ينهى الناس عن المتعة وقد تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولأحمد من وجه آخر عن طاوس عن ابن عباس قال " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات " الحديث وقال " وأول من نهى عنها معاوية. قال ابن عباس: فعجبت منه، وقد حدثني أنه قصر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص " انتهى. وهذا يدل على أن ابن عباس حمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع لقوله لمعاوية " أن هذه حجة عليك " إذ لو كان في العمرة لما كان فيه على معاوية حجة. وأصرح منه ما وقع عند أحمد من طريق قيس بن سعد عن عطاء " أن معاوية حدث أنه أخذ من أطراف شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام العشر بمشقص معي وهو محرم " وفي كونه في حجة الوداع نظر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله فكيف يقصر عنه على المروة. وقد بالغ النووي هنا في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنا وثبت أنه حلق بمنى وفرق أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا لأن هذا غلط فاحش، فقد تظاهرت الأحاديث في مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له " ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر". قلت: ولم يذكر الشيخ هنا ما مر في عمرة القضية، والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند، لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح. وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية وأنه كان يخفي إسلامه خوفا من أبويه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل في عمرة القضية مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظروه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه، ولا يعارضه أيضا قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم وغيره " فعلناها - يعني العمرة - في أشهر الحج وهذا يومئذ كافر بالعرش " بضمتين يعني بيوت مكة، يشير إلى معاوية لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه. ويعكر على ما جوزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة ولم يستصحب أحدا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين، فقدم مكة فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت، فخفيت عمرته على كثير من الناس. وكذا أخرجه الترمذي وغيره، ولم يعد معاوية فيمن صحبه حينئذ، ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين حتى يقال لعله وجده بمكة، بل كان مع القوم وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة مع جملة المؤلفة. وأخرج الحاكم في " الإكليل " في آخر قصة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة، فإن ثبت هذا وثبت أن معاوية كان حينئذ معه أو كان بمكة فقصر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولا وكان الحلاق غائبا في بعض حاجته ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق لأنه أفضل ففعل، وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية وثبت أنه صلى الله عليه وسلم - حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه وحصل التوفيق بين الأخبار كلها، وهذا مما فتح الله علي به في هذا الفتح ولله الحمد ثم لله الحمد أبدا. قال صاحب " الهدي " الأحاديث الصحيحة المستفيضة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر كما أخبر عن نفسه بقوله " فلا أحل حتى أنحر " وهو خبر لا يدخله الوهم بخلاف خبر غيره، ثم قال: ولعل معاوية قصر عنه في عمرة الجعرانة فنسي بعد ذلك وظن أنه كان في حجته انتهى. ولا يعكر على هذا إلا رواية قيس بن سعد المتقدمة لتصريحه فيها بكون ذلك في أيام العشر، إلا أنها شاذة، وقد قال قيس بن سعد عقبها: والناس ينكرون ذلك انتهى. وأظن قيسا رواها بالمعنى ثم حدث بها فوقع له ذلك. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون في قول معاوية " قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص " حذف تقديره قصرت أنا شعري عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. ويعكر عليه قوله في رواية أحمد " قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة " أخرجه من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن ابن عباس. وقال ابن حزم يحتمل أن يكون معاوية قصر عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شعر لم يكن الحلاق استوفاه يوم النحر، وتعقبه صاحب " الهدي " بأن الحالق لا يبقى شعرا يقصر منه، ولا سيما وقد قسم صلى الله عليه وسلم شعره بين الصحابة الشعرة والشعرتين، وأيضا فهو صلى الله عليه وسلم لم يسع بين الصفا والمروة إلا سعيا واحدا في أول ما قدم فماذا يصنع عند المروة في العشر. قلت: وفي رواية العشر نظر كما تقدم، وقد أشار النووي إلى ترجيح كونه في الجعرانة وصوبه المحب الطبري وابن القيم، وفيه نظر لأنه جاء أنه حلق في الجعرانة، واستبعاد بعضهم أن معاوية قصر عنه في عمرة الحديبية لكونه لم يكن أسلم ليس ببعيد. قوله: (بمشقص) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف وآخره صاد مهملة، قال القزاز: هو نصل عريض يرمى به الوحش. وقال صاحب " المحكم ": هو الطويل من النصال وليس بعريض. وكذا قال أبو عبيد والله أعلم. *3*باب تَقْصِيرِ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ الشرح: قوله: (باب تقصير المتمتع بعد العمرة) أي عند الإحلال منها. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يَحِلُّوا وَيَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن أبي بكر) هو المقدمي، وفضيل شيخه بالتصغير. قوله: (ثم يحلوا ويحلقوا أو يقصروا) فيه التخيير بين الحلق والتقصير للمتمتع، وهو على التفصيل الذي قدمناه إن كان بحيث يطلع شعره فالأولى له الحلق وإلا فالتقصير ليقع له الحلق في الحج. والله أعلم. *3*باب الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى الشرح: قوله: (باب الزيارة يوم النحر) أي زيارة الحاج البيت للطواف به، وهو طواف الإفاضة، ويسمى أيضا طواف الصدر وطواف الركن. قوله: (وقال أبو الزبير إلخ) وصله أبو داود والترمذي وأحمد من طريق سفيان وهو الثوري عن أبي الزبير به، قال ابن القطان الفاسي: هذا الحديث مخالف لما رواه ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف يوم النحر نهارا انتهى. فكأن البخاري عقب هذا بطريق أبي حسان ليجمع بين الأحاديث بذلك، فيحمل حديث جابر وابن عمر على اليوم الأول، وحديث ابن عباس هذا على بقية الأيام. قوله: (ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى) وصله الطبراني من طريق قتادة عنه. وقال ابن المديني في " العلل " روى قتادة حديثا غريبا لا نحفظه عن أحد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام، فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام ولم اسمعه منه عن أبيه عن قتادة حدثني أبو حسان عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى " وقال الأثرم قلت لأحمد تحفظ عن قتادة؟ فذكر هذا الحديث فقال: كتبوه من كتاب معاذ، قلت: فإن هنا إنسانا يزعم أنه سمعه من معاذ، فأنكر ذلك. وأشار الأثرم بذلك إلى إبراهيم بن محمد بن عرعرة فإن من طريقه أخرجه الطبراني بهذا الإسناد، وأبو حسان اسمه مسلم بن عبد الله قد أخرج له مسلم حديثا غير هذا عن ابن عباس وليس هو من شرط البخاري. ولرواية أبي حسان هذه شاهد مرسل أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة " حدثنا ابن طاوس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة". الحديث: وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا ثُمَّ يَقِيلُ ثُمَّ يَأْتِي مِنًى يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ وَرَفَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ الشرح: قوله: (وقال لنا أبو نعيم إلخ) ثم قال (رفعه عبد الرزاق حدثنا عبيد الله) وصله ابن خزيمة والإسماعيلي من طريق عبد الرزاق بلفظ أبي نعيم وزاد في آخره " ويذكر - أي ابن عمر - أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله " وفيه التنصيص على الرجوع إلى منى بعد القيلولة في يوم النحر، ومقتضاه أن يكون خرج منها إلى مكة لأجل الطواف قبل ذلك. ثم ذكر المصنف حديث أبي سلمة أن عائشة قالت " حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضنا يوم النحر " أي طفنا طواف الإفاضة، وهو مطابق للترجمة، وذكر فيه قصة صفية وسيأتي الكلام عليه في " باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت " قريبا. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا حَائِضٌ قَالَ حَابِسَتُنَا هِيَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ اخْرُجُوا وَيُذْكَرُ عَنْ الْقَاسِمِ وَعُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَفَاضَتْ صَفِيَّةُ يَوْمَ النَّحْرِ الشرح: قوله: (ويذكر عن القاسم وعروة والأسود عن عائشة أفاضت صفية يوم النحر) وغرضه بهذا أن أبا سلمة لم ينفرد عن عائشة بذلك، وإنما لم يجزم لأن بعضهم أورده بالمعنى كما نبينه، أما طريق القاسم فهي عند مسلم من طريق أفلح بن حميد عنه عن عائشة قالت " كنا نتخوف أن تحيض صفية قبل أن تفيض، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحابستنا صفية؟ قلنا: قد أفاضت. قال: فلا إذا " ورواه أحمد من وجه آخر عن القاسم عنها " أن صفية حاضت بمنى وكانت قد أفاضت " الحديث. وأما طريق عروة فرواه المصنف في المغازي من طريق شعيب عن الزهري عنه عن عائشة " أن صفية حاضت بعدما أفاضت " وأخرجه الطحاوي عقب رواية الأسود عن عائشة بلفظ " أكنت أفضت يوم النحر؟ قالت. نعم " أخرجه من طريق يونس عن الزهري به وقال نحوه، وأما طريق الأسود فوصلها المصنف في " باب الإدلاج من المحصب " بلفظ " حاضت صفية " الحديث وفيه " أطافت يوم النحر؟ فقيل نعم". *3*باب إِذَا رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا الشرح: قوله: (باب إذا رمى بعد ما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيا أو جاهلا) أورد فيه حديث ابن عباس في ذلك، وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي بعده، ولم يبين الحكم في الترجمة إشارة منه إلى أن الحكم برفع الحرج مقيد بالجاهل أو الناسي فيحتمل اختصاصهما بذلك، أو إلى أن نفي الحرج لا يستلزم رفع وجوب القضاء أو الكفارة، وهذه المسألة مما وقع فيها الاختلاف بين العلماء كما سنبينه إن شاء الله تعالى، وكأنه أشار بلفظ النسيان والجهل إلى ما ورد في بعض طرق الحديث كما يأتي بيانه أيضا في الباب الذي يليه وأما قوله " إذا رمى بعدما أمسى " فمنتزع من حديث ابن عباس في الباب قال " رميت بعدما أمسيت " أي بعد دخول المساء، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل. *3*باب الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الشرح: قوله: (باب الفتيا على الدابة عند الجمرة) هذه الترجمة تقدمت في كتاب العلم لكن بلفظ " باب الفتيا وهو واقف على الدابة أو غيرها " ثم قال بعد أبواب كثيرة " باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار " وأورد في كل من الترجمتين حديث عبد الله بن عمرو المذكور في هذا الباب، ومثل هذا لا يقع له إلا نادرا، وقد اعترض عليه الإسماعيلي بأنه ليس في شيء من الروايات عن مالك أنه كان على دابة، بل في رواية يحيى القطان عنه أنه جلس في حجة الوداع فقام رجل، ثم قال الإسماعيلي: فإن ثبت في شيء من الطرق أنه كان على دابة فيحمل قوله " جلس " على أنه ركبها وجلس عليها قلت: وهذا هو المتعين، فقد أورد هو رواية صالح بن كيسان بلفظ " وقف على راحلته " وهي بمعنى جلس، والدابة تطلق على المركوب من ناقة وفرس وبغل وحمار، فإذا ثبت في الراحلة كان الحكم في البقية كذلك. ثم قال الإسماعيلي: إن صالح بن كيسان تفرد بقوله " وقف على راحلته " وليس كما قال، فقد ذكر ذلك أيضا يونس عند مسلم ومعمر عند أحمد والنسائي كلاهما عن الزهري، وقد أشار المصنف إلى ذلك بقوله " تابعه معمر " أي في قوله " وقف على راحلته " ثم أورد المصنف حديث عبد الله بن عمرو وهو ابن العاصي كما في الطريق الثانية، بخلاف ما وقع في بعض نسخ العمدة وشرح عليه ابن دقيق العيد ومن تبعه على أنه ابن عمر بضم العين أي ابن الخطاب، وأورده المصنف من أربعة طرق عن الزهري عن عيسى بن طلحة، وطلحة هو ابن عبيد الله أحد العشرة عن عبد الله، ولم أره من حديثه إلا بهذا الإسناد، وقد اختلف أصحاب الزهري عليه في سياقه، وأتمهم عنه سياقا صالح بن كيسان وهي الطريق الثالثة، ولم يسق المصنف لفظها، وهي عند أحمد في مسنده عن يعقوب وفيه زيادة على سياق ابن جريج ومالك، وقد تابعه يونس عن الزهري عند مسلم بزيادة أيضا سنبينها. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ فَقَالَ رَجُلٌ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَالَ اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ الشرح: قوله: (مالك عن ابن شهاب) كذا في " الموطأ"، وعند النسائي من طريق يحيى وهو القطان عن مالك " حدثني الزهري". قوله: (عن عيسى) في رواية صالح " حدثني عيسى". قوله: (وقف في حجة الوداع) لم يعين المكان ولا اليوم، لكن تقدم في كتاب العلم عن إسماعيل عن مالك " بمنى " وكذا في رواية معمر، وفيه من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن الزهري " عند الجمرة " وفي رواية ابن جريج وهي الطريق الثانية هنا " يخطب يوم النحر " وفي رواية صالح ومعمر كما تقدم " على راحلته " قال عياض: جمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد على أن معنى خطب أي علم الناس لا أنها من خطب الحج المشروعة، قال: ويحتمل أن يكون ذلك في موطنين أحدهما على راحلته عند الجمرة ولم يقل في هذا خطب، والثاني يوم النحر بعد صلاة الظهر وذلك وقت الخطبة المشروعة من خطب الحج يعلم الإمام فيها الناس ما بقي عليهم من مناسكهم. وصوب النووي هذا الاحتمال الثاني. فإن قيل لا منافاة بين هذا الذي صوبه وبين الذي قبله فإنه ليس في شيء من طرق الحديثين - حديث ابن عباس وحديث عبد الله بن عمرو - بيان الوقت الذي خطب فيه من النهار، قلت: نعم لم يقع التصريح بذلك، لكن في رواية ابن عباس " أن بعض السائلين قال رميت بعدما أمسيت " وهذا يدل على أن هذه القصة كانت بعد الزوال لأن المساء يطلق على ما بعد الزوال، وكأن السائل علم أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يقدم ضحى فلما أخرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك، على أن حديث عبد الله بن عمرو من مخرج واحد لا يعرف له طريق إلا طريق الزهري هذه عن عيسى عنه، الاختلاف فيه من أصحاب الزهري، وغايته أن بعضهم ذكر ما لم يذكره الآخر، واجتمع من مرويهم ورواية ابن عباس أن ذلك كان يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة، وإذا تقرر أن ذلك كان بعد الزوال يوم النحر تعين أنها الخطبة التي شرعت لتعليم بقية المناسك، فليس قوله خطب مجازا عن مجرد التعليم بل حقيقة، ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها فسيأتي في آخر الباب الذي يليه من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات فذكر خطبته، فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض ورجع إلى منى. قوله: (فقال رجل) لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد، ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة، وسأبين أنهم كانوا جماعة، لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره كان الأعراب يسألونه، وكأن هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم. قوله: (لم أشعر) أي لم أفطن، يقال شعرت بالشيء شعورا إذا فطنت له، وقيل الشعور العلم، ولم يفصح في رواية مالك بمتعلق الشعور، وقد بينه يونس عند مسلم ولفظه " لم أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي " وقال آخر " لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر " وفي رواية ابن جريج: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، وقد تبين ذلك في رواية يونس، وزاد في رواية ابن جريج: وأشباه ذلك. ووقع في رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم " حلقت قبل أن أرمي " وقال آخر " أفضت إلى البيت قبل أن أرمي " وفي حديث معمر عند أحمد زيادة الحلق قبل الرمي أيضا، فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال عن أربعة أشياء: الحلق قبل الذبح، والحلق قبل الرمي، والنحر قبل الرمي، والإفاضة قبل الرمي، والأوليان في حديث ابن عباس أيضا كما مضى، وعند الدارقطني من حديث ابن عباس أيضا السؤال عن الحلق قبل الرمي، وكذا في حديث جابر وفي حديث أبي سعيد عند الطحاوي، وفي حديث علي عند أحمد السؤال عن الإفاضة قبل الحلق، وفي حديثه عند الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة معا قبل الحلق، وفي حديث جابر الذي علقه المصنف فيما مضى ووصله ابن حبان وغيره السؤال عن الإفاضة قبل الذبح، وفي حديث أسامة بن شريك عند أبي داود السؤال عن السعي قبل الطواف. قوله: (اذبح ولا حرج) أي لا ضيق عليك في ذلك، وقد تقدم في " باب الذبح قبل الحلق " تقرير ترتيبه، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة. وفي حديث أنس في الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى فنحر. وقال للحالق خذ " ولأبي داود " رمى ثم نحر ثم حلق " وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، إلا أن ابن الجهم المالكي استثنى القارن فقال: لا يحلق حتى يطوف، كأنه لاحظ أنه في عمل العمرة والعمرة يتأخر فيها الحلق عن الطواف، ورد عليه النووي بالإجماع، ونازعه ابن دقيق العيد في ذلك. واختلفوا في جواز تقديم بعضها على بعض فأجمعوا على الإجزاء في ذلك كما قاله ابن قدامة في " المغني " إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع. وقال القرطبي: روي عن ابن عباس ولم يثبت عنه أن من قدم شيئا على شيء فعليه دم، وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي وأصحاب الرأي انتهى. وفي نسبة ذلك إلى النخعي وأصحاب الرأي نظر، فإنهم لا يقولون بذلك إلا في بعض المواضع كما سيأتي. قال: وذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى الجواز وعدم وجوب الدم لقوله للسائل " لا حرج " فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا، لأن اسم الضيق يشملهما. قال الطحاوي: ظاهر الحديث يدل على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، قال: إلا أنه يحتمل أن يكون قوله " لا حرج " أي لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية، وتعقب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبا لبينه صلى الله عليه وسلم حينئذ لأنه وقت الحاجة ولا يجوز تأخيره. وقال الطبري: لم يسقط النبي صلى الله عليه وسلم الحرج إلا وقد أجزأ الفعل، إذ لو لم يجزئ لأمره بالإعادة لأن الجهل والنسيان لا يضعان عن المرء الحكم الذي يلزمه في الحج، كما لو ترك الرمي ونحوه فإنه لا يأثم بتركه جاهلا أو ناسيا لكن يجب عليه الإعادة. والعجب ممن يحمل قوله " ولا حرج " على نفي الإثم فقط ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن كان الترتيب واجبا يجب بتركه دم فليكن في الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض من تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج. وأما احتجاج النخعي ومن تبعه في تقديم الحلق على غيره بقوله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) قال: فمن حلق قبل الذبح إهراق دما عنه رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح، فقد أجيب بأن المراد ببلوغ محله وصوله إلى الموضع الذي يحل ذبحه فيه وقد حصل، وإنما يتم ما أراد أن لو قال ولا تحلقوا حتى تنحروا. واحتج الطحاوي أيضا بقول ابن عباس: من قدم شيئا من نسكه أو أخره فليهرق لذلك دما، قال وهو أحد من روى أن لا حرج، فدل على أن المراد بنفي الحرج نفي الإثم فقط. وأجيب بأن الطريق بذلك إلى ابن عباس فيها ضعف، فإن ابن أبي شيبة أخرجها وفيها إبراهيم بن مهاجر وفيه مقال، وعلى تقدير الصحة فيلزم من يأخذ بقول ابن عباس أن يوجب الدم في كل شيء من الأربعة المذكورة ولا يخصه بالحلق قبل الذبح أو قبل الرمي. وقال ابن دقيق العيد: منع مالك وأبو حنيفة تقديم الحلق على الرمي والذبح لأنه حينئذ يكون حلقا قبل وجود التحللين، وللشافعي قول مثله، وقد بني القولان له على أن الحلق نسك أو استباحة محظور؟ فإن قلنا إنه نسك جاز تقديمه على الرمي وغيره لأنه يكون من أسباب التحلل، وإن قلنا إنه استباحة محظور فلا، قال: وفي هذا البناء نظر، لأنه لا يلزم من كون الشيء نسكا أن يكون من أسباب التحلل، لأن النسك ما يتاب عليه، وهذا مالك يرى أن الحلق نسك ويرى أنه لا يقدم على الرمي مع ذلك. وقال الأوزاعي: إن أفاض قبل الرمي إهراق دما. وقال عياض: اختلف عن مالك في تقديم الطواف على الرمي. وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يجب عليه إعادة الطواف، فإن توجه إلى بلده بلا إعادة وجب عليه دم. قال ابن بطال: وهذا يخالف حديث ابن عباس، وكأنه لم يبلغه انتهى. قلت: وكذا هو في رواية ابن أبي حفصة عن الزهري في حديث عبد الله بن عمرو، وكأن مالكا لم يحفظ ذلك عن الزهري. قوله: (فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر) في رواية يونس عند مسلم وصالح عند أحمد " فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعض أو أشباهها إلا قال: افعلوا ذلك ولا حرج " واحتج به وبقوله في رواية مالك " لم أشعر " بأن الرخصة تختص بمن نسي أو جهل لا بمن تعمد، قال صاحب " المغني " قال الأثرم عن أحمد: إن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه، وإن كان عالما فلا لقوله في الحديث " لم أشعر". وأجاب بعض الشافعية بأن الترتيب لو كان واجبا لما سقط بالسهو، كالترتيب بين السعي والطواف فإنه لو سعى قبل أن يطوف وجب إعادة السعي، وأما ما وقع في حديث أسامة بن شريك فمحمول على من سعى بعد طواف القدوم ثم طاف طواف الإفاضة فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف أي طواف الركن، ولم يقل بظاهر حديث أسامة إلا أحمد وعطاء فقالا: لو لم يطف للقدوم ولا لغيره وقدم السعي قبل طواف الإفاضة أجزأه، أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عنه. وقال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول في الحج بقوله " خذوا عني مناسككم " وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل " لم أشعر " فيختص الحكم بهذه الحالة وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج. وأيضا فالحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز إطراحه، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة، وقد علق به الحكم فلا يمكن إطراحه بإلحاق العمد به إذ لا يساويه، وأما التمسك بقول الراوي " فما سئل عن شيء إلخ " فإنه يشعر بأن الترتيب مطلقا غير مراعى، فجوابه أن هذا الإخبار من الراوي يتعلق بما وقع السؤال عنه وهو مطلق بالنسبة إلى حال السائل والمطلق لا يدل على أحد الخاصين سنة فلا يبقى حجة في حال العمد والله أعلم. قوله: (عن عبد الله) في رواية صالح " أنه سمع عبد الله". وفي رواية ابن جريج وهي الثانية " إن عبد الله حدثه". الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ الشرح: قوله: (حدثنا سعيد بن يحيى حدثنا أبي) هو يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي الأموي. قوله في رواية ابن جريج (فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهن كلهن: افعل ولا حرج) قال الكرماني: اللام في قوله " لهن " متعلقة بقال، أي قال لأجل هذه الأفعال، أو بمحذوف أي قال يوم النحر لأجلهن أو بقوله " لا حرج " أي لا حرج لأجلهن انتهى. ويحتمل أن تكون اللام بمعنى عن أي قال عنهن كلهن. (تكميل) : قال ابن التين هذا الحديث لا يقتضي رفع الحرج في غير المسألتين المنصوص عليهما يعني المذكورتين في رواية مالك لأنه خرج جوابا للسؤال ولا يدخل فيه غيره انتهى. وكأنه غفل عن قوله في بقية الحديث " فما سئل عن شيء قدم ولا أخر " وكأنه حمل ما أبهم فيه على ما ذكر، لكن قوله في رواية ابن جريج " وأشباه ذلك " يرد عليه، وقد تقدم فيما حررناه من مجموع الأحاديث عدة صور، وبقيت عدة صور لم تذكرها الرواة إما اختصارا وإما لكونها لم تقع، وبلغت بالتقسيم أربعا وعشرين صورة، منها صورة الترتيب المتفق عليها والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد جواز القعود على الراحلة للحاجة، ووجوب اتباع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لكون الذين خالفوها لما علموا سألوه عن حكم ذلك، واستدل به البخاري على أن من حلف على شيء ففعله ناسيا أن لا شيء عليه كما سيأتي في الأيمان والنذور إن شاء الله تعالى. قوله في الطريق الثالثة (حدثني إسحاق) كذا للأكثر غير منسوب، ونسبه أبو علي بن السكن فقال " إسحاق بن منصور " وأورده أبو نعيم في " المستخرج " من " مسند إسحاق بن راهويه " وهو المترجح عندي لتعبيره بقوله " أخبرنا يعقوب " لأن إسحاق بن راهويه لا يحدث عن مشايخه إلا بلفظ الإخبار بخلاف إسحاق بن منصور فيقول " حدثنا". قوله: (وقف النبي) في رواية ابن جريج " أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: (تابعه معمر عن الزهري) قد سبق أن أحمد وصله. *3*باب الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى الشرح: قوله: (باب الخطبة أيام منى) أي مشروعيتها خلافا لمن قال إنها لا تشرع وأحاديث الباب صريحة في ذلك إلا حديث جابر بن زيد عن ابن عباس وهو ثاني أحاديث الباب، فإن فيه التقييد بالخطبة بعرفات، وقد أجاب عنه ابن المنير كما سيأتي. وأيام منى أربعة يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وليس في شيء من أحاديث الباب التصريح بغير يوم النحر وهو الموجود في أكثر الأحاديث كحديث الهرماس بن زياد وأبي أمامة كلاهما عند أبي داود، وحديث جابر بن عبد الله عند أحمد " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أي يوم أعظم حرمة " الحديث، وقد تقدم حديث عبد الله بن عمرو وفيه ذكر الخطبة يوم النحر، وأما قوله في حديث ابن عمر أنه قال ذلك بمنى فهو مطلق فيحمل على المقيد فيتعين يوم النحر، فلعل المصنف أشار إلى ما ورد في بعض طرق حديث الباب كما عند أحمد من طريق أبي حرة الرقاشي عن عمه فقال " كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود عن الناس " فذكر نحو حديث أبي بكرة، فقوله " في أوسط أيام التشريق " يدل أيضا على وقوع ذلك أيضا في اليوم الثاني أو الثالث. وفي حديث سراء بنت نبهان عند أبي داود " خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الرؤوس فقال: أي يوم هذا؟ أليس أوسط أيام التشريق". وفي الباب عن كعب بن عاصم عند الدارقطني، وعن ابن أبي نجيح عن رجلين من بني بكر عند أبي داود، وعن أبي نضرة عمن سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم عند أحمد، قال ابن المنير في الحاشية: أراد البخاري الرد على من زعم أن يوم النحر لا خطبة فيه للحاج، وأن المذكور في هذا الحديث من قبيل الوصايا العامة لا على أنه من شعار الحج، فأراد البخاري أن يبين أن الراوي قد سماها خطبة كما سمى التي وقعت في عرفات خطبة، وقد اتفقوا على مشروعية الخطبة بعرفات فكأنه الحق المختلف فيه بالمتفق عليه انتهى والله أعلم. وسنذكر نقل الاختلاف في مشروعية الخطبة يوم النحر في آخر الباب. وعلي بن عبد الله المذكور في الإسناد هو ابن المديني ويحيى بن سعيد هو القطان وفضيل بالتصغير وغزوان بفتح المعجمة وسكون الزاي. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ قَالَ فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ قَالَ فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ الشرح: قوله: (فقال: يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام) كذا في حديث ابن عباس هذا، وفي حديث أبي بكرة ثالث أحاديث الباب " أتدرون أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى " وحديث ابن عمر المذكور بعده نحو إلا أنه ليس فيه " فسكت إلخ " بل فيه بعد قولهم أعلم " قال هذا يوم حرام " فقيل في الجمع بين الحديثين: لعلهما واقعتان، وليس بشيء لأن الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة وفد قال في كل منهما أن ذلك كان يوم النحر، وقيل في الجمع بينهما إن بعضهم بادر بالجواب وبعضهم سكت، وقيل في الجمع إنهم فوضوا أولا كلهم بقولهم الله ورسوله أعلم، فلما سكت أجاب بعضهم دون بعض، وقيل وقع السؤال في الوقت الواحد مرتين بلفظين، فلما كان في حديث أبي بكرة فخامة ليس في الأول لقوله فيه " أتدرون " سكتوا عن الجواب بخلاف حديث ابن عباس لخلوه عن ذلك، أشار إلى ذلك الكرماني. وقيل: في حديث ابن عباس اختصار بينته رواية أبي بكرة وابن عمر، فكأنه أطلق قولهم يوم حرام باعتبار أنهم قرروا ذلك بقولهم بلى، وسكت في رواية ابن عمر عن ذكر جوابهم، وهذا جمع حسن، وقد تقدم الكلام في هذا باختصار في كتاب العلم في " باب قوله رب مبلغ أوعى من سامع". قوله: (يوم حرام) أي يحرم فيه القتال، وكذلك الشهر وكذلك البلد، وسيأتي الكلام على قوله " لا ترجعوا بعدي كفارا " في كتاب الفتن مستوعبا إن شاء الله تعالى. قوله: (فأعادها مرارا) لم أقف على عددها صريحا ويشبه أن يكون ثلاثا كعادته صلى الله عليه وسلم. قوله: (ثم رفع رأسه) زاد الإسماعيلي من هذا الوجه " إلى السماء". قوله: (قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته) يريد بذلك الكلام الأخير وهو قوله صلى الله عليه وسلم "فليبلغ الشاهد الغائب " إلى آخر الحديث، وقد رواه أحمد بن حنبل عن عبد الله بن نمير عن فضيل بإسناد الباب بلفظ " ثم قال ألا فليبلغ إلخ " وهو يوضح ما قلناه والله أعلم. قوله: (إلى أمته) في رواية أحمد عن ابن نمير " أنها لوصيته إلى ربه " وكذلك رواه عمرو بن علي الفلاس والمقدمي عن يحيى بن سعيد أخرجه أبو نعيم من طريقهما. (تنبيه) : لستة أيام متوالية من أيام ذي الحجة أسماء: الثامن يوم التروية، والتاسع عرفة، والعاشر النحر، والحادي عشر القر، والثاني عشر النفر الأول، والثالث عشر النفر الثاني. وذكر مكي بن أبي طالب أن السابع يسمى يوم الزينة وأنكره النووي. الحديث: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ تَابَعَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو الشرح: قوله: (أخبرنا عمرو) هو ابن دينار. و قوله: (يخطب بعرفات) هو طرف من حديث سيأتي في " باب لبس الخفين للمحرم " عن أبي الوليد عن شعبة بهذا الإسناد وبعده متصلا " يخطب بعرفات بقوله: من لم يجد النعلين فليلبس الخفين " الحديث وذكره بعده بباب عن آدم عن شعبة بلفظ " خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال: من لم يجد " فذكر الحديث. قوله: (تابعه ابن عيينة عن عمرو) أي أن سفيان بن عيينة تابع شعبة في رواية هذا الحديث، والمراد به أصل الحديث، فإن أحمد أخرجه في مسنده عن سفيان بن عيينة ولفظه " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: من لم يجد " فذكره فلم يعين موضع الخطبة، وكذلك رواه الحميدي وابن أبي شيبة وغيرهما عن سفيان، وهو عند مسلم وغيره من طريق سفيان كذلك. الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَرَجُلٌ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ قُلْنَا بَلَى قَالَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ قُلْنَا بَلَى قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ قَالُوا نَعَمْ قَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ الشرح: قوله: (حدثني عبد الله بن محمد) هو الجعفي، وأبو عامر هو العقدي، وقرة هو ابن خالد، وحميد بن عبد الرحمن هو الحميري، وإنما كان عند ابن سيرين أفضل من عبد الرحمن بن أبي بكرة لأنه دخل في الولايات وكان حميد زاهدا. قوله: (أليس يوم النحر) بنصب يوم على أنه خبر ليس والتقدير أليس اليوم يوم النحر، ويجوز الرفع على أنه اسم ليس والتقدير أليس يوم النحر هذا اليوم والأول أوضح، لكن يؤيد هذا الثاني قوله " أليس ذو الحجة " أي أليس ذو الحجة هذا الشهر. قوله: (بالبلدة الحرام) كذا فيه بتأنيث البلد وتذكير الحرام وذلك أن لفظ الحرام اضمحل منه معنى الوصفية وصار اسما، قال الخطابي: يقال إن البلدة اسم خاص بمكة وهي المرادة بقوله تعالى (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة) وقال الطيبي: المطلق محمول على الكامل وهي الجامعة للخير المستجمعة للكمال، كما أن الكعبة تسمى البيت ويطلق عليها ذلك. وقد اختصرت ذلك من كلام طويل للتوربشتي. قوله: (إلى يوم تلقون) بفتح يوم وكسره مع التنوين وعدمه، وترك التنوين مع الكسر هو الذي ثبتت به الرواية. قوله: (اللهم اشهد) تقدم أنه أعاد ذلك في حديث ابن عباس، وإنما قال ذلك لأنه كان فرضا عليه أن يبلغ، فأشهد الله على أنه أدى ما أوجبه عليه. " والمبلغ " بفتح اللام أي رب شخص بلغه كلامي فكان أحفظ له وأفهم لمعناه من الذي نقله له، قال المهلب: فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدمه، إلا أن ذلك يكون في الأقل لأن " رب " موضوعة للتقليل. قلت: هي في الأصل كذلك إلا أنها استعملت في التكثير بحيث غلبت على الاستعمال الأول، لكن يؤيد أن التقليل هنا مراد أنه وقع في رواية أخرى تقدمت في العلم بلفظ " عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه " وفي الحديث دلالة على جواز تحمل الحديث لمن لم يفهم معناه ولا فقهه إذا ضبط ما يحدث به، ويجوز وصفه بكونه من أهل العلم بذلك. وفي الحديث من الفوائد أيضا وجوب تبليغ العلم على الكفاية، وقد يتعين في حق بعض الناس، وفيه تأكيد التحريم وتغليظه بأبلغ ممكن من تكرار ونحوه، وفيه مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح للسامع، وإنما شبه حرمة الدم والعرض والمال بحرمة اليوم والشهر والبلد لأن المخاطبين بذلك كانوا لا يرون تلك الأشياء ولا يرون هتك حرمتها ويعيبون على من فعل ذلك أشد العيب، وإنما قدم السؤال عنها تذكارا لحرمتها وتقريرا لما ثبت في نفوسهم ليبني عليه ما أراد تقريره على سبيل التأكيد. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَقَالَ فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ بَلَدٌ حَرَامٌ أَفَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهْرٌ حَرَامٌ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ بِهَذَا وَقَالَ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ وَوَدَّعَ النَّاسَ فَقَالُوا هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ الشرح: قوله: (عن أبيه) هو محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر فروايته عن جده. قوله: (أفتدرون) في رواية الإسماعيلي عن القاسم المطرز عن محمد بن المثنى شيخ البخاري قال " أو تدرون " قوله: (وقال هشام بن الغاز) بالغين المعجمة وآخره زاي خفيفة، وقد وصله ابن ماجة قال " حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا هشام " وأخرجه الطبراني عن أحمد بن المعلى، والإسماعيلي عن جعفر الفريابي كلاهما عن هشام بن عمار، وعن جعفر الفريابي عن دحيم عن الوليد بن مسلم عن هشام بن الغاز، ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود. قوله: (بين الجمرات) بفتح الجيم والميم فيه تعيين البقعة التي وقف فيها، كما أن في الرواية التي قبلها تعيين المكان، كما أن في حديثي ابن عباس وأبي بكرة تعيين اليوم، ووقع تعيين الوقت من اليوم في رواية رافع بن عمر والمزني عند أبي داود والنسائي ولفظه " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى " الحديث. قوله: (في الحجة التي حج) هذا هو المعروف عند من ذكر أولا، ووقع في رواية الكشميهني " في حجته التي حج " وللطبراني " في حجة الوداع". قوله: (بهذا) أي بالحديث الذي تقدم من طريق محمد بن زيد عن جده، وأراد المصنف بذلك أصل الحديث وأصل معناه لكن السياق مختلف فإن في طريق محمد بن زيد أنهم أجابوا بقولهم " الله ورسوله أعلم " وفي هذا عند ابن ماجة وغيره في أجوبتهم قالوا: يوم النحر، قالوا: بلد حرام، قالوا: شهر حرام. ويجمع بينهما بنحو ما تقدم وهو أنهم أجابوا أولا بالتفويض فلما سكت أجابوا بالمطلوب. وأغرب الكرماني فقال: قوله " بهذا " أي وقف متلبسا بهذا الكلام. قوله: (وقال هذا يوم الحج الأكبر) فيه دليل لمن يقول إن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر وسيأتي البحث فيه في أول تفسير سورة براءة إن شاء الله تعالى. قوله: (فطفق) في رواية ابن ماجة وغيره بين قوله " يوم الحج الأكبر " وبين قوله " فطفق " من الزيادة " ودماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا اليوم " وقد وقع معنى ذلك في طريق محمد بن زيد أيضا. قوله: (فودع الناس) وقع في طريق ضعيفة عند البيهقي من حديث ابن عمر سبب ذلك ولفظه " أنزلت (إذا جاء نصر الله والفتح) على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب، فوقف بالعقبة واجتمع الناس إليه فقال: يا أيها الناس " فذكر الحديث، وفي هذه الأحاديث دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر، وبه أخذ الشافعي ومن تبعه، وخالف ذلك المالكية والحنفية قالوا: خطب الحج ثلاثة، سابع ذي الحجة، ويوم عرفة، وثاني يوم النحر بمنى. ووافقهم الشافعي إلا أنه قال بدل ثاني النحر ثالثه لأنه أول النفر، وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر وقال: إن بالناس حاجة إليها ليتعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف. وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج وإنما ذكر فيها وصايا عامة، ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا من الذي يتعلق بيوم النحر، فعرفنا أنها لم تقصد لأجل الحج. وقال ابن القصار: إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا، فظن الذي رآه أنه خطب، قال: وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة ا ه. وأجيب بأنه نبه صلى الله عليه وسلم في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم شهر ذي الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة فلا يلتفت لتأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة يعكر عليه في كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل كان يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يأتي بعده من أعمال الحج، لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب، وقد بين الزهري - وهو عالم أهل زمانه - أن الخطبة ثاني يوم النحر نقلت من خطبة يوم النحر، وأن ذلك من عمل الأمراء، يعني من بني أمية. قال ابن أبي شيبة " حدثنا وكيع عن سفيان هو الثوري عن ابن جريج عن الزهري قال: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، فشغل الأمراء فأخروه إلى الغد " وهذا وإن كان مرسلا لكنه يعتضد بما سبق، وبان به أن السنة الخطبة يوم النحر لا ثانيه، وأما قول الطحاوي إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من أسباب التحلل فلا ينفي قوع ذلك أو شيئا منه في نفس الأمر، بل قد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كما تقدم في الباب قبله أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عن تقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق مع روايته هو لحديث عبد الله بن عمرو، وثبت أيضا في بعض طرق أحاديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم قال للناس حينئذ " خذوا عني مناسككم " فكأنه وعظهم بما وعظهم به وأحال في تعليمهم على تلقي ذلك من أفعاله. ومما يرد به على تأويل الطحاوي ما أخرجه ابن ماجة من حديث ابن مسعود قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته بعرفات: أتدرون أي يوم هذا " الحديث، ونحوه للطبراني في الكبير من حديث ابن عباس. وأخرج أحمد من حديث نبيط بن شريط أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة على بعير أحمر يخطب " فسمعته يقول: أي يوم أحرم؟ قالوا: هذا اليوم. قال فأي بلد أحرم " الحديث، ونحوه لأحمد من حديث العداء بن خالد، فهذا الحديث - الذي وقع في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم خطب به يوم النحر - قد ثبت أنه خطب به قبل ذلك يوم عرفة، وأما الأحاديث التي وردت عن الصحابة بتصريحهم أنه صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر غير ما تقدم، فمنها حديث الهرماس بن زياد أخرجه أبو داود ولفظه " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته الجدعاء يوم الأضحى " وحديث أبي إمامة " سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر " أخرجه عبد الرحمن، وحديث معاذ " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى " أخرجه...وحديث رافع بن عمرو " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى " أخرجه وأخرج من مرسل مسروق " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر " والله أعلم. |
08-14-2013, 12:21 PM | #507 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب طَوَافِ الْوَدَاعِ الشرح:
قوله: (باب طواف الوداع) قال النووي: طواف الوداع واجب يلزم بتركه دم على الصحيح عندنا وهو قول أكثر العلماء. وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه انتهى والذي رأيته في " الأوسط " لابن المنذر أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْحَائِضِ الشرح: قوله: (أمر الناس) كذا في رواية عبد الله بن طاوس عن أبيه على البناء لما لم يسم فاعله والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله " خفف " وقد رواه سفيان أيضا عن سليمان الأحول عن طاوس فصرح فيه بالرفع ولفظه عن ابن عباس قال " كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " أخرجه مسلم هو والذي قبله عن سعيد بن منصور عن سفيان بالإسنادين فرقهما، فكأن طاوسا حدث به على الوجهين، ولهذا وقع في رواية كل من الراويين عنه ما لم يقع في رواية الآخر، وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف كما تقدم، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكد، واستدل به على أن الطهارة شرط لصحة الطواف، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده. الحديث: حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ تَابَعَهُ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي خَالِدٌ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (عن قتادة) سيأتي بعد باب من وجه آخر عن ابن وهب التصريح بتحديث قتادة، ويأتي الكلام هناك، والمقصود منه هنا قوله في آخره " ثم ركب إلى البيت فطاف به". قوله: (تابعه الليث) أي تابع عمرو بن الحارث في روايته لهذا الحديث عن قتادة بطريق أخرى إلى قتادة، وقد وصله البزار والطبراني من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث، وخالد شيخ الليث هو ابن يزيد، وذكر البزار والطبراني أنه تفرد بهذا الحديث عن سعيد وأن الليث تفرد به عن خالد وأن سعيد بن أبي هلال لم يرو عن قتادة عن أنس غير هذا الحديث. *3*باب إِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ الشرح: قوله: (باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت) أي هل يجب عليها طواف الوداع أو يسقط، وإذا وجب هل يجبر بدم أم لا؟ وقد تقدم معنى هذه الترجمة في كتاب الحيض بلفظ " باب المرأة تحيض بعد الإفاضة " قال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع. وروينا عن عمر بن الخطاب وابن عمر وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضا لطواف الوداع، وكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها. ثم أسند عن عمر بإسناد صحيح إلى نافع عن ابن عمر قال " طافت امرأة بالبيت يوم النحر ثم حاضت، فأمر عمر بحبسها بمكة بعد أن ينفر الناس حتى تطهر وتطوف بالبيت " قال: وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك، وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة. يشير بذلك إلى ما تضمنته أحاديث هذا الباب. وقد روى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمد " كان الصحابة يقولون. إذا أفاضت المرأة قبل أن تحيض فقد فرغت، إلا عمر فإنه كان يقول: يكون آخر عهدها بالبيت " وقد وافق عمر على رواية ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم غيره، فروى أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي - واللفظ لأبي داود - من طريق الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي قال: " أتيت عمر فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض، قال: ليكن آخر عهدها بالبيت. فقال الحارث كذلك أفتاني - وفي رواية أبي داود هكذا حدثني - رسول الله صلى الله عليه وسلم " واستدل الطحاوي بحديث عائشة وبحديث أم سليم على نسخ حديث الحارث في حق الحائض. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاضَتْ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَابِسَتُنَا هِيَ قَالُوا إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ قَالَ فَلَا إِذًا الشرح: قوله: (حاضت) أي بعد أن أفاضت يوم النحر كما تقدم في " باب الزيارة يوم النحر". قوله: (فذكر) كذا في هذه الرواية بضم الذال على البناء للمجهول، وقد تقدم في الباب المذكور من وجه آخر أن عائشة هي التي ذكرت له ذلك. قوله: (أحابستنا) أي مانعتنا من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه، ظنا منه صلى الله عليه وسلم أنها ما طافت طواف إفاضة، وإنما قال ذلك لأنه كان لا يتركها ويتوجه، ولا يأمرها بالتوجه معه وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثاني. قوله: (قالوا) سيأتي في الطريق التي في آخر الباب أن صفية هي قالت " بلى " وفي رواية الأعرج عن أبي سلمة عن عائشة التي مضت في باب الزيارة يوم النحر " حججنا فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله فقلت: يا رسول الله إنها حائض " الحديث، وهذا مشكل لأنه صلى الله عليه وسلم إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول أحابستنا هي؟ وإن كان ما علم فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثاني؟ ويجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة فأذن لهن فكان بانيا على أنها قد حلت، فلما قيل له إنها حائض جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة فاستفهم عن ذلك فأعلمته عائشة أنها طافت معهن فزال عنه ما خشيه من ذلك والله أعلم. وقد سبق في كتاب الحيض من طريق عمرة عن عائشة أنه قال لهم " لعلها تحبسنا، ألم تكن طافت معكن؟ قالوا: بلى " وسأذكر بقية اختلاف ألفاظ هذه القصة في آخر الباب إن شاء الله تعالى. قوله: (فلا إذا) أي فلا حبس علينا حينئذ، أي إذا أفاضت فلا مانع لنا من التوجه لأن الذي يجب عليها قد فعلته. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ امْرَأَةٍ طَافَتْ ثُمَّ حَاضَتْ قَالَ لَهُمْ تَنْفِرُ قَالُوا لَا نَأْخُذُ بِقَوْلِكَ وَنَدَعُ قَوْلَ زَيْدٍ قَالَ إِذَا قَدِمْتُمْ الْمَدِينَةَ فَسَلُوا فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَسَأَلُوا فَكَانَ فِيمَنْ سَأَلُوا أُمُّ سُلَيْمٍ فَذَكَرَتْ حَدِيثَ صَفِيَّةَ رَوَاهُ خَالِدٌ وَقَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ الشرح: قوله: (حماد) هو ابن زيد. قوله: (أن أهل المدينة) أي بعض أهلها وقد رواه الإسماعيلي من طريق عبد الوهاب الثقفي عن أيوب بلفظ " أن ناسا من أهل المدينة". قوله: (قال لهم تنفر) زاد الثقفي " فقالوا: لا نبالي أفتيتنا أو لم تفتنا، زيد بن ثابت يقول لا تنفر". قوله: (فكان فيمن سألوا أم سليم) في رواية الثقفي " فسألوا أم سليم وغيرها فذكرت صفية " كذا ذكره مختصرا، وساقه الثقفي بتمامه قال " فأخبرتهم أن عائشة قالت لصفية. أفي الخيبة أنت؟ إنك لحابستنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ذاك؟ قالت عائشة: صفية حاضت، قيل إنها قد أفاضت، قال: فلا إذا. فرجعوا إلى ابن عباس فقالوا وجدنا الحديث كما حدثتناه". قوله: (رواه خالد) يعني الحذاء (وقتادة عن عكرمة) أما رواية خالد فوصلها البيهقي من طريق معلى بن منصور عن هشيم عنه عن عكرمة عن ابن عباس قال " إذا طافت يوم النحر ثم حاضت فلتنفر " وقال زيد بن ثابت " لا تنفر حتى تطهر وتطوف بالبيت. ثم أرسل زيد بعد ذلك إلى ابن عباس: إني وجدت الذي قلت كما قلت " وأما رواية قتادة فوصلها أبو داود الطيالسي في مسنده قال: حدثنا هشام هو الدستوائي عن قتادة عن عكرمة قال " اختلف ابن عباس وزيد بن ثابت في المرأة إذا حاضت وقد طافت بالبيت يوم النحر، فقال زيد: يكون آخر عهدها بالبيت. وقال ابن عباس: تنفر إن شاءت، فقالت الأنصار: لا نتابعك يا ابن عباس وأنت تخالف زيدا، فقال: سلوا صاحبتكم أم سليم - يعني فسألوها - فقالت: حضت بعدما طفت بالبيت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنفر، وحاضت صفية فقالت لها عائشة حبستنا فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنفر " ورواه سعيد بن أبي عروبة في كتاب المناسك الذي رويناه من طريق محمد بن يحيى القطعي عن عبد الأعلى عنه قال: عن قتادة عن عكرمة نحوه. وقال فيه " لا نتابعك إذا خالفت زيد بن ثابت " وقال فيه " وأنبئت أن صفية بنت حيي حاضت بعدما طافت بالبيت يوم النحر فقالت لها عائشة: الخيبة لك حبستنا، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تنفر " وهكذا أخرجه إسحاق في مسنده عن عبدة عن سعيد وفي آخره " وكان ذلك من شأن أم سليم أيضا". (تنبيه) : طريق قتادة هذه هي المحفوظة، وقد شذ عباد بن العوام فرواه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مختصرا في قصة أم سليم أخرجه الطحاوي من طريقه انتهى. ولقد اختصر البخاري حديث عكرمة جدا، ولولا تخريج هذه الطرق لما ظهر المراد منه، فلله الحمد على ما أنعم به وتفضل. وقد روى هذه القصة طاوس عن ابن عباس متابعا لعكرمة، أخرجه مسلم والنسائي والإسماعيلي من طريق الحسن بن مسلم عن طاوس " كنت مع ابن عباس إذ قال له زيد بن ثابت: تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ فقال ابن عباس: أما لا فسل فلانة الأنصارية هل أمرها النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال فرجع إليه فقال: ما أراك إلا قد صدقت " لفظ مسلم، وللنسائي " كنت عند ابن عباس فقال له زيد بن ثابت أنت الذي تفتي " وقال فيه " فسألها، ثم رجع وهو يضحك فقال: الحديث كما حدثتني " وللإسماعيلي بعد قوله أنت الذي إلخ " قال: نعم. قال: فلا تفت بذلك. قال: فسل فلانة " والباقي نحو سياق مسلم، وزاد في إسناده عن ابن جريج قال: وقال عكرمة بن خالد عن زيد وابن عباس نحوه وزاد فيه " فقال ابن عباس سل أم سليم وصواحبها هل أمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ فسألهن، فقلن: قد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك " وقد عرف برواية عكرمة الماضية أن الأنصارية هي أم سليم، وأما صواحبها فلم أقف على تسميتهن. الحديث: حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا أَفَاضَتْ قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ إِنَّهَا لَا تَنْفِرُ ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لَهُنَّ الشرح: قوله: (حدثنا مسلم) هو ابن إبراهيم، ووهيب هو ابن خالد وابن طاوس هو عبد الله. قوله: (رخص) بضم الراء على البناء لما لم يسم فاعله، ووقع في رواية يحيى بن حسان عن وهيب عند النسائي " رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: (قال وسمعت ابن عمر) القائل ذلك هو طاوس بالإسناد المذكور، بينه النسائي في روايته المذكورة. قوله: (ثم سمعته يقول بعد) سيأتي أن ذلك كان قبل موت ابن عمر بعام. قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن) هذا من مراسيل الصحابة، وكذا ما أخرجه النسائي والترمذي وصححه والحاكم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال من حج فليكن آخر عهده بالبيت، إلا الحيض رخص لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإن ابن عمر لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وسنوضح ذلك، فعند النسائي من طريق إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عمر أنه كان يقول قريبا من سنتين عن الحائض لا تنفر حتى يكون آخر عهدها بالبيت. ثم قال بعد: أنه رخص للنساء. وله وللطحاوي من طريق عقيل عن الزهري عن طاوس أنه سمع ابن عمر يسأل عن النساء إذا حضن قبل النفر وقد أفضن يوم النحر فقال: إن عائشة كانت تذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصة لهن وذلك قبل موته بعام. وفي رواية الطحاوي قبل موت ابن عمر بعام. وروى ابن أبي شيبة أن ابن عمر كان يقيم على الحائض سبعة أيام حتى تطوف طواف الوداع، قال الشافعي: كأن ابن عمر سمع الأمر بالوداع ولم يسمع الرخصة أولا ثم بلغته الرخصة فعمل بها، وقد تقدم شيء من الكلام على هذا الحديث في أواخر الحيض. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ فَقَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ يَحِلَّ وَكَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَطَافَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ نِسَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَحَلَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْهَدْيُ فَحَاضَتْ هِيَ فَنَسَكْنَا مَنَاسِكَنَا مِنْ حَجِّنَا فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ لَيْلَةُ النَّفْرِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ أَصْحَابِكَ يَرْجِعُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ غَيْرِي قَالَ مَا كُنْتِ تَطُوفِينَ بِالْبَيْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا قُلْتُ لَا قَالَ فَاخْرُجِي مَعَ أَخِيكِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ وَمَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَخَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْرَى حَلْقَى إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا أَمَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَتْ بَلَى قَالَ فَلَا بَأْسَ انْفِرِي فَلَقِيتُهُ مُصْعِدًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ وَقَالَ مُسَدَّدٌ قُلْتُ لَا تَابَعَهُ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ فِي قَوْلِهِ لَا الشرح: قوله: (عن منصور) هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي والأسود هو خاله وهو نخعي أيضا، وقد سبق الكلام على حديث عائشة فيما يتعلق بطواف الحائض في " باب تقضي الحائض المناسك إلا الطواف " ويأتي الكلام على حديث عمرتهما في أبواب العمرة. قوله: (ليلة الحصبة) في رواية المستملي " ليلة الحصباء " وقوله بعده " ليلة النفر " عطف بيان لليلة الحصباء، والمراد بتلك الليلة التي يتقدم النفر من منى قبلها فهي شبيهة بليلة عرفة، وفيه تعقب على من قال كل ليلة تسبق يومها إلا ليلة عرفة فإن يومها يسبقها، فقد شاركتها ليلة النفر في ذلك. قوله فيه (ما كنت تطوفين بالبيت ليالي قدمنا مكة؟ قلت لا) كذا للأكثر. وفي رواية أبي ذر عن المستملي " قلت بلى " وهي محمولة على أن المراد ما كنت أطوف. قوله: (وحاضت صفية) أي في أيام منى، سيأتي في أبواب الإدلاج من المحصب أن حيضها كان ليلة النفر، زاد الحاكم عن إبراهيم عند مسلم " لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة، فقال عقرى " الحديث، وهذا يشعر بأن الوقت الذي أراد منها ما يريد الرجل من أهله كان بالقرب من وقت النفر من منى، واستشكله بعضهم بناء على ما فهمه أن ذلك كان وقت الرحيل، وليس ذلك بلازم لاحتمال أن يكون الوقت الذي أراد منها ما أراد سابقا على الوقت الذي رآها فيه على باب خبائها الذي هو وقت الرحيل، بل ولو اتحد الوقت لم يكن ذلك مانعا من الإرادة المذكورة. قوله: (عقرى حلقى) بالفتح فيهما ثم السكون وبالقصر بغير تنوين في الرواية، ويجوز في اللغة التنوين وصوبه أبو عبيد، لأن معناه الدعاء بالعقر والحلق، كما يقال سقيا ورعيا ونحو ذلك من المصادر التي يدعى بها، وعلى الأول هو نعت لا دعاء، ثم معنى عقري عقرها الله أي جرحها وقيل جعلها عاقرا لا تلد، وقيل عقر قومها. ومعنى حلقي حلق شعرها وهو زينة المرأة، أو أصابها وجع في حلقها، أو حلق قومها بشؤمها أي أهلكهم. وحكى القرطبي أنها كلمة تقولها اليهود للحائض، فهذا أصل هاتين الكلمتين، ثم اتسع العربي في قولهما بغير إرادة حقيقتهما كما قالوا قاتله الله وتربت يداه ونحو ذلك، قال القرطبي وغيره: شتان بين قوله صلى الله عليه وسلم هذا لصفية وبين قوله لعائشة لما حاضت منه في الحج " هذا شيء كتبه الله على بنات آدم " لما يشعر به من الميل لها والحنو عليها بخلاف صفية. قلت: وليس فيه دليل على اتضاع قدر صفية عنده، لكن اختلف الكلام باختلاف المقام، فعائشة دخل عليها وهي تبكي أسفا على ما فاتها من النسك فسلاها بذلك، وصفية أراد منها ما يريد الرجل من أهله فأبدت المانع فناسب كلا منهما ما خاطبها به في تلك الحالة. قوله: (فلا بأس انفري) هو بيان لقوله في الرواية الماضية أول الباب " فلا إذا " وفي رواية أبي سلمة " قال اخرجوا " وفي رواية عمرة " قال اخرجي " وفي رواية الزهري عن عروة عن عائشة في المغازي " فلتنفر " ومعانيها متقاربة، والمراد بها كلها الرحيل من منى إلى جهة المدينة. وفي أحاديث الباب أن طواف الإفاضة ركن، وأن الطهارة شرط لصحة الطواف، وأن طواف الوداع واجب وقد تقدم ذلك، واستدل به على أن أمير الحاج يلزمه أن يؤخر الرحيل لأجل من تحيض ممن لم تطف للإفاضة، وتعقب باحتمال أن تكون إرادته صلى الله عليه وسلم تأخير الرحيل إكراما لصفية كما احتبس بالناس على عقد عائشة. وأما الحديث الذي أخرجه البزار من حديث جابر وأخرجه البيهقي في فوائده من طريق أبي هريرة مرفوعا " أميران وليسا بأميرين: من تبع جنازة فليس له أن ينصرف حتى تدفن أو يأذن أهلها، والمرأة تحج أو تعتمر مع قوم فتحيض قبل طواف الركن فليس لهم أن ينصرفوا حتى تطهر أو تأذن لهم " فلا دلالة فيه على الوجوب إن كان صحيحا، فإن في إسناد كل منهما ضعفا شديدا. وقد ذكر مالك في " الموطأ " أنه يلزم الجمال أن يحبس لها إلى انقضاء أكثر مدة الحيض، وكذا على النفساء. واستشكله ابن المواز بأن فيها تعريضا للفساد كقطع الطريق، وأجاب عياض بأن محل ذلك مع أمن الطريق كما أن محله أن كون مع المرأة محرم. قوله: (وقال مسدد: قلت لا. وتابعه جرير عن منصور في قوله لا) هذا التعليق لم يقع في رواية أبي ذر وثبت لغيره، فأما رواية مسدد فرويناها كذلك في مسنده رواية أبي خليفة عنه قال " حدثنا أبو عوانة " فذكر الحديث بسنده ومتنه وقال فيه " ما كنت طفت ليالي قدمنا؟ قلت: لا " وأما رواية جرير فوصلها المصنف في " باب التمتع والقران " عن عثمان بن أبي شيبة عنه وقال فيه " ما كنت طفت ليالي قدمنا مكة؟ قلت: لا " وهذا يؤيد صحة ما وقع في رواية المستملي حيث وقع عنده بلى موضع لا كما تقدم، وتقدم توجيهه. *3*باب مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالْأَبْطَحِ الشرح: قوله: (باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح) أي البطحاء التي بين مكة ومنى، وهي ما انبطح من الوادي واتسع. وهي التي يقال لها المحصب والمعرس، وحدها ما بين الجبلين إلى المقبرة. وقد تقدم الكلام على حديث أنس الأول في " باب أين يصلي الظهر يوم التروية " وهو مطابق لما ترجم به هنا. وفي سياق حديث أنس الثاني ما يشعر بأنه صلى بالأبطح وهو المحصب مع ذلك المغرب والعشاء ورقد، ثم ركب إلى البيت فطاف به أي طواف الوداع، وأما قوله فيه " أنه صلى الظهر " فلا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم لم يرم إلا بعد الزوال لأنه رمى فنفر فنزل المحصب فصلى الظهر به. *3*باب الْمُحَصَّبِ الشرح: قوله: (باب المحصب) بمهملتين ثم موحدة بوزن " محمد " أي ما حكم النزول به؟ وقد نقل ابن المنذر الاختلاف في استحبابه مع الاتفاق على أنه ليس من المناسك. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ إِنَّمَا كَانَ مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ يَعْنِي بِالْأَبْطَحِ الشرح: قوله: (حدثنا سفيان) هو الثوري. قوله: (عن هشام) هو ابن عروة. وفي رواية الإسماعيلي من طريق يزيد بن هارون عن سفيان حدثنا هشام. قوله: (إنما كان منزلا) في رواية مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن هشام " نزول الأبطح ليس بسنه إنما نزله " الحديث. قوله: (أسمح) أي أسهل لتوجهه إلى المدينة ليستوي في ذلك البطيء والمعتدل، ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة. قوله: (تعني بالأبطح) في رواية الكشميهني " تعني الأبطح " بحذف الموحدة. وفي رواية مسلم المذكورة " كان أسمح لخروجه إذا خرج". الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيْءٍ إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (حدثنا سفيان) هو ابن عيينة (قال عمرو) هو ابن دينار، وعطاء هو ابن أبي رباح، قال الدارقطني هذا الحديث سمعه سفيان من الحسن بن صالح عن عمرو بن دينار، يعني أنه دلسه هنا عن عمرو، وتعقب بأن الحميدي أخرجه في مسنده عن سفيان قال " حدثنا عمرو " وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي خيثمة عن سفيان فانتفت تهمة تدليسه. قوله: (ليس التحصيب بشيء) أي من أمر المناسك الذي يلزم فعله قاله ابن المنذر، وقد روى أحمد من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة قالت " ثم ارتحل حتى نزل الحصبة قالت والله ما نزلها إلا من أجلي " وروى مسلم وأبو داود وغيرهما من طريق سليمان بن يسار عن أبي رافع قال " لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من منى ولكن جئت فضربت قبته فجاء فنزل " ا ه، لكن لما نزله النبي صلى الله عليه وسلم كان النزول به مستحبا اتباعا له لتقريره على ذلك. وقد فعله الخلفاء بعده كما رواه مسلم من طريق عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ينزلون الأبطح " وسيأتي للمصنف في الباب الذي يليه، لكن ليس فيه ذكر أبي بكر، ومن طريق أخرى عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنة، قال نافع " وقد حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده " فالحاصل أن من نفي أنه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك فلا يلزم بتركه شيء، ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم لا الإلزام بذلك، ويستحب أن يصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت به بعض الليل كما دل عليه حديث أنس، ويأتي نحوه من حديث ابن عمر في الباب الذي يليه. *3*باب النُّزُولِ بِذِي طُوًى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالنُّزُولِ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ الشرح: قوله: (باب النزول بذي طوى قبل أن يدخل مكة، والنزول بالبطحاء التي بذي الحليفة) أي قبل أن يدخل المدينة، والمقصود بهذه الترجمة الإشارة إلى أن اتباعه صلى الله عليه وسلم في النزول بمنازله لا يختص بالمحصب، وقد تقدم الكلام على مكان الدخول إلى مكة في أوائل الحج، والنزول ببطحاء ذي الحليفة صريح في حديث الباب. قوله: (بذي الطوى) كذا للمستملي والسرخسي بإثبات الألف واللام ولغيرهما بحذفهما. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَبِيتُ بِذِي طُوًى بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ ثُمَّ يَدْخُلُ مِنْ الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا لَمْ يُنِخْ نَاقَتَهُ إِلَّا عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ يَدْخُلُ فَيَأْتِي الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ فَيَبْدَأُ بِهِ ثُمَّ يَطُوفُ سَبْعًا ثَلَاثًا سَعْيًا وَأَرْبَعًا مَشْيًا ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَنْطَلِقُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَيَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانَ إِذَا صَدَرَ عَنْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنِيخُ بِهَا الشرح: قوله: (بين الثنيتين) أي التي بين الثنيتين. قوله: (لم ينخ ناقته إلا عند باب المسجد) أي إذا بات بذي طوى ثم أصبح ركب ناقته فلم ينخها إلا بباب المسجد. قوله: (فيصلي سجدتين) وفي رواية الكشميهني ركعتين. قوله: (وكان إذا صدر) أي رجع متوجها نحو المدينة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ سُئِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ الْمُحَصَّبِ فَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ نَزَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يُصَلِّي بِهَا يَعْنِي الْمُحَصَّبَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ أَحْسِبُهُ قَالَ وَالْمَغْرِبَ قَالَ خَالِدٌ لَا أَشُكُّ فِي الْعِشَاءِ وَيَهْجَعُ هَجْعَةً وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (سئل عبيد الله) يعني ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري. قوله: (نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو وابن عمر) هو عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل وعن عمر منقطع وعن ابن عمر موصول، ويحتمل أن يكون نافع سمع ذلك من ابن عمر فيكون الجميع موصولا ويدل عليه رواية عبد الرزاق التي قدمتها في الباب الذي قبله. قوله: (وعن نافع) هو معطوف على الإسناد الذي قبله وليس بمعلق، وقد رواه البيهقي من طريق حميد بن مسعدة عن خالد بن الحارث مثله. قوله: (يصلي بها يعني المحصب) قيل فسر الضمير المؤنث بلفظ مذكر وأراد البقعة، ولأن من أسمائها البطحاء. قوله: (قال خالد) هو ابن الحارث راوي أصل الإسناد وهو مؤيد للعطف الذي قبله. قوله: (لا أشك في العشاء) يريد أنه شك في ذكر المغرب، وقد رواه سفيان بن عيينة بغير شك في المغرب ولا غيرها عن أيوب، وعن عبيد الله بن عمر جميعا عن نافع " أن ابن عمر كان يصلي بالأبطح الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم يهجع هجعة " أخرجه الإسماعيلي، وهو عند أبي داود من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني وعن أيوب عن نافع كلاهما عن ابن عمر. *3*باب مَنْ نَزَلَ بِذِي طُوًى إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَقْبَلَ بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ دَخَلَ وَإِذَا نَفَرَ مَرَّ بِذِي طُوًى وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ الشرح: قوله: (باب من نزل بذي طوى إذا رجع من مكة) تقدم الكلام على النزول بذي طوى والمبيت بها إلى الصبح لمن أراد أن يدخل مكة في أوائل الحج، والمقصود بهذه الترجمة مشروعية المبيت بها أيضا للراجع من مكة، وغفل الداودي فظن أن هذا المبيت متحد بالمبيت بالمحصب فجعل ذا طوى هو المحصب، وهو غلط منه، وإنما يقع المبيت بالمحصب في الليلة التي تلي يوم النفر من منى فيصبح سائرا إلى أن يصل إلى ذي طوى فينزل بها ويبيت، فهذا الذي يدل عليه سياق حديث الباب. قوله: (وقال محمد بن عيسى) هو ابن الطباع أخو إسحاق البصري. حدثنا (حماد) اختلف في حماد هذا فجزم الإسماعيلي بأنه ابن سلمة، وجزم المزي بأنه ابن زيد فلم يذكر حماد بن سلمة في شيوخ محمد بن عيسى وذكر حماد بن زيد، ولم تقع في رواية محمد بن عيسى موصولة. وقد أخرج الإسماعيلي وأبو نعيم من طريق حماد بن زيد عن أيوب طرفا من الحديث وليس فيه مقصود الترجمة، وهذا الطرف تقدم في " باب الاغتسال لدخول مكة " من طريق إسماعيل بن علية عن أيوب، وأخرجه الإسماعيلي هنا عن الحسن بن سفيان عن محمد بن أبان عن حماد بن سلمة عن أيوب، ولم يذكر مقصود الترجمة، فلم يتضح لي صحة ما قال أن حمادا في التعليق عن محمد بن عيسى هذا هو ابن سلمة، بل الظاهر أنه ابن زيد والله أعلم. وليس لمحمد بن عيسى هذا في البخاري سوى هذا الموضع وآخر في كتاب الأدب سيأتي بسط القول فيه إن شاء الله تعالى. قوله: (وإذا نفر مر بذي طوى) في رواية الكشميهني " وإذا نفر مر من ذي طوى إلخ " قال ابن بطال: وليس هذا أيضا من مناسك الحج. قلت وإنما يؤخذ منه أماكن نزوله صلى الله عليه وسلم ليتأسى به فيها، إذ لا يخلو شيء من أفعاله عن حكمة. *3*باب التِّجَارَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ وَالْبَيْعِ فِي أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ الشرح: قوله: (باب التجارة أيام الموسم والبيع في أسواق الجاهلية) أي جواز ذلك، والموسم بفتح الميم وسكون الواو وكسر المهملة قال الأزهري سمي بذلك لأنه معلم يجتمع إليه الناس مشتق من السمة وهي العلامة، وذكر في حديث الباب من أسواق الجاهلية اثنين وترك اثنين سنذكرهما إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ الشرح: قوله: (قال عمرو بن دينار) في رواية إسحاق بن راهويه في مسنده عن عيسى بن يونس عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار. قوله: (عن ابن عباس) هذا هو المحفوظ، ووقع عند الإسماعيلي عن المنيعي عن عثمان بن أبي شيبة عن يحيي بن أبي زائدة عن ابن جريج عن عمرو عن ابن الزبير، قال الإسماعيلي: كذا في كتابي وعليه صح. قلت: وهو وهم من بعض رواته كأنه دخل عليه حديث في حديث، فإن حديث ابن الزبير عند ابن عيينة وابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد عنه وهو أخصر من سياق ابن عباس، وقد رواه ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس ثم لم يختلف عليه في ذلك، كذلك رواه الإسماعيلي من وجه آخر عن ابن أبي زائدة. قوله: (كان ذو المجاز) بفتح الميم وتخفيف الجيم وفي آخره زاي وهو بلفظ ضد الحقيقة، وعكاظ بضم المهملة وتخفيف الكاف وفي آخره ظاء مشالة، زاد ابن عيينة عن عمر وكما سيأتي في أوائل البيوع وفي تفسير البقرة " ومجنة " وهي بفتح الميم وكسر الجيم وتشديد النون. قوله: (متجر الناس في الجاهلية) أي مكان تجارتهم وفي رواية ابن عيينة " أسواقا في الجاهلية " فأما ذو المجاز فذكر الفاكهي من طريق ابن إسحاق أنها كانت بناحية عرفة إلى جانبها، وعند الأزرقي من طريق هشام بن الكلبي أنه كان لهذيل على فرسخ من عرفة، ووقع في شرح الكرماني أنه كان بمنى وليس بشيء، لما رواه الطبري عن مجاهد أنهم كانوا لا يبيعون ولا يبتاعون في الجاهلية بعرفة ولا منى، لكن سيأتي عن تخريج الحاكم خلاف ذلك. وأما عكاظ فعن ابن إسحاق أنها فيما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له الفتق بضم الفاء والمثناة بعدها قاف، وعن ابن الكلبي أنها كانت وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء، وكانت لقيس وثقيف. وأما مجنة فعن ابن إسحاق أنها كانت بمر الظهران إلى جبل يقال له الأصغر، وعن ابن الكلبي كانت بأسفل مكة على بريد منها غربي البيضاء وكانت لكنانة، وذكر من أسواق العرب في الجاهلية أيضا حباشة بضم المهملة وتخفيف الموحدة وبعد الألف معجمة، وكانت في ديار بارق نحو قنوني بفتح القاف وبضم النون الخفيفة وبعد الواو نون مقصورة من مكة إلى جهة اليمن على ست مراحل، قال وإنما لم يذكر هذه السوق في الحديث لأنها لم تكن من مواسم الحج، وإنما كانت تقام في شهر رجب، قال الفاكهي. ولم تزل هذه الأسواق قائمة في الإسلام إلى أن كان أول ما ترك منها سوق عكاظ في زمن الخوارج سنة تسع وعشرين ومائة وآخر ما ترك منها سوق حباشة في زمن داود بن عيسى بن موسى العباسي في سنة سبع وتسعين ومائة. ثم أسند عن ابن الكلبي أن كل شريف كان إنما يحضر سوق بلده إلا سوق عكاظ فإنهم كانوا يتوافون بها من كل جهة، فكانت أعظم تلك الأسواق. وقد وقع ذكرها في أحاديث أخرى منها حديث ابن عباس " أنطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ " الحديث في قصه الجن، وقد مضى في الصلاة ويأتي في التفسير. وروى الزبير بن بكار في " كتاب النسب " من طريق حكيم بن حزام أنها كانت تقام صبح هلال ذي القعدة إلى أن يمضي عشرون يوما، قال: ثم يقام سوق مجنة عشرة أيام إلى هلال ذي الحجة، ثم يقوم سوق ذي المجاز ثمانية أيام، ثم يتوجهون إلى منى للحج. وفي حديث أبي الزبير عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم بمجنة وعكاظ يبلغ رسالات ربه " الحديث أخرجه أحمد وغيره. قوله: (كأنهم) أي المسلمين. قوله: (كرهوا ذلك) في رواية ابن عيينة " فكأنهم تأثموا " أي خشوا من الوقوع في الإثم للاشتغال في إياها النسك بغير العبادة. وأخرج الحاكم في " المستدرك " من طريق عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس " إن الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمنى وعرفة وسوق المجاز ومواسم الحج، فخافوا البيع وهم حرم، فأنزل الله تعالى (لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم) في مواسم الحج " قال فحدثني عبيد بن عمير أنه كان يقرأها في المصحف، ولأبي داود وإسحاق بن راهويه من طريق مجاهد عن ابن عباس " كانوا لا يتجرون بمنى، فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات " وقرأ هذه الآية، وأخرجه إسحاق في مسنده من هذا الوجه بلفظ " كانوا يمنعون البيع والتجارة في أيام الموسم يقولون: إنها أيام ذكر، فنزلت " وله من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عباس " كانوا يكرهون أن يدخلوا في حجهم التجارة حتى نزلت". قوله: (حتى نزلت إلخ) سيأتي في تفسير البقرة عن ابن عمر قول آخر في سبب نزولها. قولها (في مواسم إلخ) قال الكرماني: هو كلام الراوي ذكره تفسيرا انتهى. وفاته ما زاده المصنف في آخر حديث ابن عيينة في البيوع " قرأها ابن عباس " ورواه ابن عمر في مسنده عن ابن عيينة وقال في آخره " وكذلك كان ابن عباس يقرأها " وروى الطبري بإسناد صحيح عن أيوب عن كرمة أنه كان يقرأها كذلك، فهي على هذا من القراءة الشاذة وحكمها عند الأئمة حكم التفسير، واستدل بهذا الحديث على جواز البيع والشراء للمعتكف قياسا على الحج، والجامع بينهما العبادة، وهو قول الجمهور. وعن مالك كراهة ما زاد على الحاجة كالخبز إذا لم يجد من يكفيه، وكذا كرهه عطاء ومجاهد والزهري، ولا ريب أنه خلاف الأولى، والآية إنما نفت الجناح ولا يلزم من نفيه نفي أولوية مقابله. والله أعلم. |
08-14-2013, 12:22 PM | #508 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الِادِّلَاجِ مِنْ الْمُحَصَّبِ الشرح:
قوله: (باب الإدلاج من المحصب) وقع في رواية لأبي ذر الإدلاج بسكون الدال والصواب تشديدها فإنه بالسكون سير أول الليل وبالتشديد سير آخره وهو المراد هنا، والمقصود الرحيل من مكان المبيت بالمحصب سحرا وهو الواقع في قصة عائشة، ويحتمل أن تكون الترجمة لأجل رحيل عائشة مع أخيها للاعتمار فإنها رحلت معه من أول الليل فقصد المصنف التنبيه على أن المبيت ليس بلازم وأن السير من هناك من أول الليل جائز، وسيأتي الكلام على حديث عائشة قريبا في أبواب العمرة. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ فَقَالَتْ مَا أُرَانِي إِلَّا حَابِسَتَكُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْرَى حَلْقَى أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قِيلَ نَعَمْ قَالَ فَانْفِرِي قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَزَادَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا مُحَاضِرٌ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ النَّفْرِ حَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلْقَى عَقْرَى مَا أُرَاهَا إِلَّا حَابِسَتَكُمْ ثُمَّ قَالَ كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَانْفِرِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أَكُنْ حَلَلْتُ قَالَ فَاعْتَمِرِي مِنْ التَّنْعِيمِ فَخَرَجَ مَعَهَا أَخُوهَا فَلَقِينَاهُ مُدَّلِجًا فَقَالَ مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا الشرح: قوله: (حدثنا أبي) هو حفص بن غياث والإسناد كله إلى عائشة كوفيون، وليس في المتن الذي ساقه من طريق حفص مقصود الترجمة، وإنما أشار إلى أن القصة التي في روايته وفي رواية محاضر واحدة. وقد تقدم لكلام على قصة صفية قريبا. قوله: (وزادني محمد) وقع في رواية أبي علي بن السكن " محمد بن سلام " ومحاضر بضم الميم وجاء مهملة خفيفة وبعد الألف ضاد معجمة لم يخرج عنه البخاري في كتابه إلا تعليقا، لكن هذا الموضع ظاهر الوصل، ويأتي الكلام على حديث عائشة مستوفي إن شاء الله تعالى. وقوله فيه " فخرج معها أخوها " هو عبد الرحمن بن أبي بكر كما سيأتي، وقوله فيه " فلقيناه " أي إنهما لقيا النبي صلى الله عليه وسلم (مدلجا) هو بتشديد الدال أي سائرا من آخر الليل، فإنهما لما رجعا إلى المنزل بعد أن قضت عائشة العمرة صادفا النبي صلى الله عليه وسلم متوجها إلى طواف الوداع، وقوله "موعدك كذا وكذا " أي موضع المنزلة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. (خاتمة) اشتمل كتاب الحج من أوله إلى أبواب العمرة على ثلثمائة واثني عشر حديثا، المعلق منها سبعة وخمسون حديثا والبقية موصولة المكرر منها فيه وفيما مضى مائة وأحد وتسعون حديثا والخالص منها مائة وأحد وعشرون حديثا، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث جابر في " الإهلال " " إذا استقلت الراحلة " وحديث أنس في " الحج على رحل رث " وحديث عائشة " لكن أفضل الجهاد حج مبرور " وحديث ابن عباس في نزول (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) ، وحديث عمر " حد لأهل نجد قرنا " وحديثه " وقل عمرة في حجة " وحديث ابن عباس " انطلق من المدينة بعدما ترجل وادهن " وحديثه أنه سئل عن متعة الحج، وحديث أبي سعيد " ليحجن البيت وليعتمرن بعد يأجوج ومأجوج " وحديث ابن عباس في هدم الكعبة على يد الأسود، وحديثه في ترك دخول الكعبة وفيها الأصنام، وحديث ابن عمر في استلام الحجر وتقبيله، وحديث عائشة في طوافها حجرة من الرجال، وحديث ابن عباس " مر برجل يطوف وقد خزم أنفه " وحديث الزهري المرسل " لم يطف إلا صلى ركعتين " وحديث ابن عباس " قدم فطاف وسعى " وحديث عائشة في كراهة الطواف بعد الصبح، وحديث ابن عباس في الشرب من سقاية العباس، وحديث ابن عمر في تعجيل الوقوف، وحديث ابن عباس " ليس البر بالإيضاع " وحديثه في تقديم الضعفة، وحديث عمر في إفاضة المشركين من مزدلفة، وحديث المسور ومروان في الهدي، وحديث ابن عمر في النحر في المنحر، وحديث جابر في السؤال عن الحلق قبل الذبح، وحديث ابن عمر " حلق في حجته " وحديث ابن عباس " أخر الزيارة إلى الليل " وحديث عائشة في ذلك، وحديث جابر في رمي جمرة العقبة ضحى وبعد ذلك بعد الزوال، وحديث ابن عمر في هذا المعنى، وحديثه " كان يرمي الجمرة الدنيا يسبع ويكبر مع كل حصاة " وحديثه في نزول المحصب، وحديث ابن عباس " كان ذو المجاز وعكاظ". وفيه من الآثار الموقوفة عن الصحابة والتابعين ستون أثرا أكثرها معلق. والله أعلم. الحديث: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَبْوَابُ الْعُمْرَةِ الشرح: قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم - أبواب العمرة. باب وجوب العمرة وفضلها) سقطت البسملة لأبي ذر، وثبتت الترجمة هكذا في روايته عن المستملي، وسقط عنده عن غيره " أبواب العمرة " وثبت لأبي نعيم في المستخرج " كتاب العمرة " وللأصيلي وكريمة " باب العمرة وفضلها " حسب. والعمرة في اللغة الزيارة، وقيل إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام، وجزم المصنف بوجوب العمرة، وهو متابع في ذلك للمشهور عن الشافعي وأحمد وغيرهما من أهل الأثر، والمشهور عن المالكية أن العمرة تطوع وهو قول الحنفية، واستدلوا بما رواه الحجاج بن أرطأة عن محمد بن المنكدر عن جابر " أتى أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك " أخرجه الترمذي، والحجاج ضعيف. وقد روى ابن لهيعة عن عطاء عن جابر مرفوعا " الحج والعمرة فريضتان " أخرجه ابن عدي، وابن لهيعة ضعيف ولا يثبت في هذا الباب عن جابر شيء، بل روى ابن الجهم المالكي بإسناد حسن عن جابر " ليس مسلم إلا عليه عمرة " موقوف على جابر، واستدل الأولون بما ذكر في هذا الباب وبقول صبي بن معبد لعمر " رأيت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما. فقال له: هديت لسنة نبيك " أخرجه أبو داود. وروى ابن خزيمة وغيره في حديث عمر سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام فوقع فيه " وإن تحج وتعتمر " وإسناده قد أخرجه مسلم لكن لم يسق لفظه، وبأحاديث أخر غير ما ذكر، وبقوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) أي أقيموهما. وزعم الطحاوي أن معنى قول ابن عمر " العمرة واجبة " أي وجوب كفاية، ولا يخفى بعده مع اللفظ الوارد عن ابن عمر كما سنذكره، وذهب ابن عباس وعطاء وأحمد إلى أن العمرة لا تجب على أهل مكة وإن وجبت على غيرهم. *3*باب وُجُوبِ الْعُمْرَةِ وَفَضْلِهَا وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ الشرح: قوله: (وقال ابن عمر) هذا التعليق وصله ابن خزيمة والدارقطني والحاكم من طريق ابن جريج أخبرني نافع أن ابن عمر كان يقول " ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع سبيلا، فمن زاد شيئا فهو خير وتطوع " وقال سعيد بن أبي عروبة في المناسك عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال " الحج والعمرة فريضتان". قوله: (وقال ابن عباس) هذا التعليق وصله الشافعي وسعيد بن منصور كلاهما عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت طاوسا يقول سمعت ابن عباس يقول " والله إنها لقرينتها في كتاب الله: وأتموا الحج والعمرة لله " وللحاكم من طريق عطاء عن ابن عباس " الحج والعمرة فريضتان " وإسناده ضعيف، والضمير في قوله " لقرينتها " للفريضة وكان أصل الكلام أن يقول لقرينته لأن المراد الحج. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ الشرح: قوله: (عن سمي) قال ابن عبد البر: تفرد سمي بهذا الحديث واحتاج إليه الناس فيه فرواه عنه مالك والسفيانان وغيرهما حتى أن سهيل بن أبي صالح حدث به عن سمي عن أبي صالح فكأن سهيلا لم يسمعه من أبيه، وتحقق بذلك تفرد سمي به فهو من غرائب الصحيح. قوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) أشار ابن عبد البر إلى أن المراد تكفير الصغائر دون الكبائر قال: وذهب بعض العلماء من عصرنا إلى تعميم ذلك، ثم بالغ في الإنكار عليه، وقد تقدم التنبيه على الصواب في ذلك أوائل مواقيت الصلاة. واستشكل بعضهم كون العمرة كفارة مع أن اجتناب الكبائر يكفر فماذا تكفر العمرة؟ والجواب أن تكفير العمرة مقيد بزمنها، وتكفير الاجتناب عام لجميع عمر العبد، فتغايرا من هذه الحيثية. وأما مناسبة الحديث لأحد شقي الترجمة وهو وجوب العمرة فمشكل، بخلاف الشق الآخر وهو فضلها فإنه واضح، وكأن المصنف والله أعلم أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث المذكور وهو ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعا " تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابع بينهما تنفي الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد. وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة " فإن ظاهره التسوية بين أصل الحج والعمرة فيوافق قول ابن عباس " إنها لقرينتها في كتاب الله " وأما إذا اتصف الحج بكونه مبرورا فذلك قدر زائد، وقد تقدم الكلام على المراد به في أوائل الحج. ووقع عند أحمد وغيره من حديث جابر مرفوعا " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بر الحج؟ قال إطعام الطعام وإفشاء السلام " ففي هذا تفسير المراد بالبر في الحج، ويستفاد من حديث ابن مسعود المذكور المراد بالتكفير المبهم في حديث أبي هريرة، وفي حديث الباب دلالة على استحباب الاستكثار من الاعتمار خلافا لقول من قال يكره أن يعتمر في السنة أكثر من مرة كالمالكية ولمن قال مرة في الشهر من غيرهم واستدل لهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها إلا من سنة إلى سنة، وأفعاله على الوجوب أو الندب، وتعقب بأن المندوب لم ينحصر في أفعاله، فقد كان يترك الشيء وهو يستحب فعله لرفع المشقة عن أمته، وقد ندب إلى ذلك بلفظه فثبت الاستحباب من غير تقييد. واتفقوا على جوازها في جميع الأيام لمن لم يكن متلبسا بأعمال الحج، إلا ما نقل عن الحنفية أنه يكره في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ونقل الأثرم عن أحمد: إذا اعتمر فلا بد أن يحلق أو يقصر، فلا يعتمر بعد ذلك إلى عشرة أيام ليمكن حلق الرأس فيها، قال ابن قدامة: هذا يدل على كراهة الاعتمار عنده في دون عشرة أيام. وقال ابن التين: قوله " العمرة إلى العمرة " يحتمل أن تكون إلى بمعنى مع فيكون التقدير العمرة مع العمرة مكفرة لما بينهما، وفي الحديث أيضا إشارة إلى جواز الاعتمار قبل الحج وهو من حديث ابن مسعود الذي أشرنا إليه عند الترمذي وسيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه. *3*باب مَنْ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجِّ الشرح: قوله: (باب من اعتمر قبل الحج) أي هل تجزئه العمرة أم لا؟ الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ فَقَالَ لَا بَأْسَ قَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ مِثْلَهُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلَهُ الشرح: قوله: (حدثنا أحمد بن محمد) هو المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: (أن عكرمة بن خالد) هو المخزومي. قوله: (سأل) هذا السياق يقتضي أن هذا الإسناد مرسل لأن ابن جريج لم يدرك زمان سؤال عكرمة لابن عمر، ولهذا استظهر البخاري بالتعليق عن ابن إسحاق المصرح بالاتصال ثم بالإسناد الآخر عن ابن جريج، فهو يرفع هذا الإشكال المذكور حيث قال عن ابن جريج قال " قال عكرمة " فإن قيل إن ابن جريج ربما دلس فالجواب أن ابن خزيمة أخرجه من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج قال " قال عكرمة بن خالد " فذكره. قوله: (لا بأس) زاد أحمد وابن خزيمة " فقال لا بأس على أحد أن يعتمر قبل أن يحج". قوله: (قال عكرمة) هو ابن خالد بالإسناد المذكور. قوله: (وقال إبراهيم بن سعد إلخ) وصله أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد بالإسناد المذكور ولفظه " حدثنا عكرمة بن خالد بن العاصي المخزومي قال: قدمت المدينة في نفر من أهل مكة فلقيت عبد الله بن عمر فقلت: إنا لم نحج قط، أفنعتمر من المدينة؟ قال: نعم، وما يمنعكم من ذلك؟ فقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمره كلها قبل حجه. قال فاعتمرنا " قال ابن بطال: هذا يدل على أن فرض الحج كان قد نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل اعتماره، ويتفرع عليه هل الحج على الفور أو التراخي، وهذا يدل على أنه على التراخي، قال: وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة دال على ذلك انتهى. وقد نوزع في ذلك إذ لا يلزم من صحة تقديم أحد النسكين على الآخر نفي الفورية فيه. وقد تقدم في أول الحج نقل الخلاف في ابتداء فرض الحج، وسيأتي الكلام على عدة عمر النبي صلى الله عليه وسلم في الباب الذي يليه، ومن الصريح في الترجمة الأثر المذكور في آخر الباب الذي يليه عن مسروق وعطاء ومجاهد قالوا " اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج " وحديث البراء في ذلك أيضا. *3*باب كَمْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم) أورد فيه حديث عائشة وابن عمر في أنه اعتمر أربعا، وكذا حديث أنس، وختم بحديث البراء أنه اعتمر مرتين، والجمع بينه وبين أحاديثهم أنه لم يعد العمرة التي قرنها بحجته لأن حديثه مقيد بكون ذلك وقع في ذي القعدة والتي في حجته كانت في ذي الحجة، وكأنه لم يعد أيضا التي صد عنها وإن كانت وقعت في ذي القعدة أو عدها ولم يعد عمرة الجعرانة لخفائها عليه كما خفيت على غيره كما ذكر ذلك محرش الكعبي فيما أخرجه الترمذي، وروى يونس بن بكبر في " زيادات المغازي " وعبد الرزاق جميعا عن عمر بن ذر عن مجاهد عن أبي هريرة قال " اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر في ذي القعدة " وهو موافق لحديث عائشة وابن عمر وزاد عليه تعيين الشهر، لكن روى سعيد بن منصور عن الدراوردي عن هشام عن أبيه عن عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر: عمرتين في ذي القعدة وعمرة في شوال " إسناده قوي، وقد رواه ابن مالك عن هشام عن أبيه مرسلا. لكن قولها " في شوال " مغاير لقول غيرها " في ذي القعدة " ويجمع بينهما بأن يكون ذلك وقع في آخر شوال وأول ذي القعدة، ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن مجاهد عن عائشة " لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة". الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَاةَ الضُّحَى قَالَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ فَقَالَ بِدْعَةٌ ثُمَّ قَالَ لَهُ كَمْ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعًا إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ فَكَرِهْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَيْهِ قَالَ وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحُجْرَةِ فَقَالَ عُرْوَةُ يَا أُمَّاهُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تَسْمَعِينَ مَا يَقُولُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ مَا يَقُولُ قَالَ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ قَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلَّا وَهُوَ شَاهِدُهُ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ الشرح: قوله: (حدثنا جرير) هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر. قوله: (المسجد) يعني مسجد المدينة النبوية. قوله: (جالس إلى حجرة عائشة) في رواية مفضل عن منصور عند أحمد " فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة". قوله: (وإذا أناس) في رواية الكشميهني " فإذا ناس " بغير ألف. قوله: (فقال بدعة) تقدم الكلام على ذلك والبحث فيه في أبواب التطوع. قوله: (ثم قال له) يعني عروة، وصرح به مسلم في روايته عن إسحاق بن راهويه عن جرير. قوله: (قال أربع) كذا للأكثر ولأبي ذر " قال أربعا " أي اعتمر أربعا. قال ابن مالك: الأكثر في جواب الاستفهام مطابقة اللفظ والمعنى، وقد يكتفي بالمعنى، فمن الأول قوله تعالى (قال هي عصاي) في جواب (وما تلك بيمينك يا موسى) ومن الثاني قوله عليه الصلاة والسلام " أربعين " في جواب قولهم " كم يلبث " فأضمر يلبث ونصب به أربعين، ولو قصد تكميل المطابقة لقال أربعون، لأن الاسم المستفهم به في موضع الرفع، فظهر بهذا أن النصب والرفع جائزان في مثل قوله أربع، إلا أن النصب أقيس وأكثر نظائر. قوله: (إحداهن في رجب) كذا وقع في رواية منصور عن مجاهد، وخالفه أبو إسحاق فرواه عن مجاهد عن ابن عمر، قال " اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، فبلغ ذلك عائشة فقالت: اعتمر أربع عمر " أخرجه أحمد وأبو داود فاختلفا، جعل منصور الاختلاف في شهر العمرة وأبو إسحاق الاختلاف في عدد الاعتمار، ويمكن تعدد السؤال بأن يكون ابن عمر سئل أولا عن العدد فأجاب فردت عليه عائشة فرجع إليها، فسأل مرة ثانية فأجاب بموافقتها. ثم سئل عن الشهر فأجاب بما في ظنه. وقد أخرج أحمد من طريق الأعمش عن مجاهد قال " سأل عروة بن الزبير ابن عمر في أي شهر اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: في رجب". قوله: (فكرهنا أن نرد عليه) زاد إسحاق في روايته " ونكذبه". قوله: (وسمعنا استنان عائشة) أي حس مرور السواك على أسنانها. وفي رواية عطاء عن عروة عند مسلم " وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن". قوله: (عمرات) يجوز في ميمها الحركات الثلاث. قوله: (يا أماه) كذا للأكثر بسكون الهاء، ولأبي ذر " يا أمه " بسكون الهاء أيضا بغير ألف، وقول عروة لهذا بالمعنى الأخص لكونها خالته وبالمعنى الأعم لكونها أم المؤمنين. قوله: (يرحم الله أبا عبد الرحمن) هو عبد الله بن عمر ذكرته بكنيته تعظيما له ودعت له إشارة إلى أنه نسي، و قوله: (وما اعتمر) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (عمرة إلا وهو) أي ابن عمر (شاهده) أي حاضر معه. وقالت ذلك مبالغة في نسبته إلى النسيان، ولم تنكر عائشة على ابن عمر إلا قوله إحداهن في رجب. قوله: (وما اعتمر في رجب قط) زاد عطاء عن عروة عند مسلم في آخره " قال وابن عمر يسمع، فما قال لا ولا نعم، سكت". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجَبٍ الشرح: قوله: (عن عروة بن الزبير سألت عائشة) كذا أورده مختصرا، وأخرجه مسلم من هذا الوجه مطولا ذكر فيه قصة ابن عمر وسؤاله له نحو ما رواه مجاهد، إلا أنه لم يقل فيه " كم اعتمر " وقد أشرت إلى ما فيه من فائدة زائدة، وأغرب الإسماعيلي فقال: هذا الحديث لا يدخل في باب كم اعتمر وإنما يدخل في باب متى اعتمر ا ه، وجوابه أن غرض البخاري الطريق الأولى، وإنما أورد هذه لينبه على الخلاف في السياق. الحديث: حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ حَسَّانٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ سَأَلْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعٌ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَعُمْرَةٌ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ حَيْثُ صَالَحَهُمْ وَعُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ إِذْ قَسَمَ غَنِيمَةَ أُرَاهُ حُنَيْنٍ قُلْتُ كَمْ حَجَّ قَالَ وَاحِدَةً الشرح: قوله: (وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة أراه حنين) كذا وقع هنا بنصب غنيمة بغير تنوين، وكأن الراوي طرأ عليه شك فأدخل بين المضاف والمضاف إليه لفظ " أراه " وهو بضم الهمزة أي أظنه. وقد رواه مسلم عن هدبة عن همام بغير شك فقال " حيث قسم غنائم حنين " وسقط من رواية حسان هذه العمرة الرابعة، ولهذا استظهر المصنف بطريق أبي الوليد التي ذكرها في آخر الحديث وهو قوله " وعمرة مع حجته " وكذا أخرجه مسلم من طريق عبد الصمد عن هشام، فتبين بهذا أن التقصير فيه من حسان شيخ البخاري. وقال الكرماني: العمرة الرابعة في هذا الحديث داخلة في ضمن الحج لأنه صلى الله عليه وسلم إما أن يكون قارنا أو متمتعا فالعمرة حاصلة أو مفردا، لكن أفضل أنواع الإفراد لا بد فيه من العمرة في تلك السنة، ورسول الله لا يترك الأفضل انتهى. وليس ما ادعى أنه الأفضل متفقا عليه بين العلماء، فكيف ينسب فعل ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحتج به إذا نسب لأحد فعله على ما يختار بعض المجتهدين رجحانه. قوله في رواية أبي الوليد " اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث ردوه، ومن القابل عمرة الحديبية " قال ابن التين هذا أراه وهما لأن التي ردوه فيها هي عمرة الحديبية وأما التي من قابل فلم يردوه منها. قلت: لا وهم في ذلك لأن كلا منهما كان من الحديبية، ويحتمل أن يكون قوله " عمرة الحديبية " يتعلق بقوله حيث ردوه. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ رَدُّوهُ وَمِنْ الْقَابِلِ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ حَدَّثَنَا هُدْبَةُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ وَقَالَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَّا الَّتِي اعْتَمَرَ مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَتَهُ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ وَمِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَمِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ الشرح: قوله: (حدثنا هدبة حدثنا همام و قال اعتمر) أي بالإسناد المذكور وهو " عن قتادة أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته " الحديث كذا ساقه مسلم عن هداب بن خالد وهو هدبة المذكور، وقوله "إلا التي مع حجته " استشكل ابن التين هذا الاستثناء فقال. هو كلام زائد، والصواب أربع عمر: في ذي القعدة عمرة من الحديبية الحديث، قال. وقد عد التي مع حجته في الحديث فكيف يستثنيها أولا؟ وأجاب عياض بأن الرواية صواب، وكأنه قال في ذي القعدة منها ثلاث والرابعة عمرته في حجته، أو المعنى كلها في ذي القعدة إلا التي اعتمر في حجته لأن التي في حجته كانت في ذي الحجة. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَأَلْتُ مَسْرُوقًا وَعَطَاءً وَمُجَاهِدًا فَقَالُوا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ وَقَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ الشرح: قوله: (شريح بن مسلمة) بمعجمة أوله ومهملة آخره، وإبراهيم بن يوسف أي ابن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي، ورجال هذا الحديث كلهم كوفيون إلا عطاء ومجاهدا، وقد سبق الكلام عليه وتقدم الكلام على الخلاف فيما كان صلى الله عليه وسلم به محرما في حجته والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك فأغنى عن إعادته، والمشهور عن عائشة أنه كان مفردا وحديثه هذا يشعر بأنه كان قارنا، وكذا ابن عمر أنكر على أنس كونه كان قارنا مع أن حديثه هذا يدل على أنه كان قارنا لأنه لم ينقل أنه اعتمر بعد حجته فلم يبق إلا أنه اعتمر مع حجته، ولم يكن متمتعا لأنه اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدي، واحتاج ابن بطال إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا فقال: إنما تجوز نسبة العمرة الرابعة إليه باعتبار أنه أمر الناس بها وعملت بحضرته لا أنه صلى الله عليه وسلم اعتمرها بنفسه، ومن تأمل ما تقدم من الجمع استغنى عن هذا التأويل المتعسف. وقال ابن التين: في عدهم عمرة الحديبية التي صد عنها ما يدل على أنها عمرة تامة، وفيه إشارة إلى صحة قول الجمهور إنه لا يجب القضاء على من صد عن البيت خلافا للحنفية، ولو كانت عمرة للقضية بدلا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاضي قريشا فيها لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التي صد عنها إذ لو كان كذلك لكانتا عمرة واحدة. وفيه دلالة على جواز الاعتمار في أشهر الحج بخلاف ما كان عليه المشركون. وفي هذا الحديث أن الصحابي الجليل المكثر الشديد الملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم قد يخفى عليه بعض أحواله، وقد يدخله الوهم والنسيان لكونه غير معصوم. وفيه رد بعض العلماء على بعض وحسن الأدب في الرد وحسن التلطف في استكشاف الصواب إذا ظن السامع خطأ المحدث. وقال النووي: سكوت ابن عمر على إنكار عائشة يدل على أنه كان اشتبه عليه أو نسي أو شك. وقال القرطبي: عدم إنكاره على عائشة يدل على أنه كان على وهم وأنه رجع لقولها، وقد تعسف من قال: إن ابن عمر أراد بقوله " اعتمر في رجب " عمرة قبل هجرته لأنه وإن كان محتملا لكن قول عائشة ما اعتمر في رجب يلزم منه عدم مطابقة ردها عليه لكلامه ولا سيما وقد بينت الأربع وإنها لو كانت قبل الهجرة فما الذي كان يمنعه أن يفصح بمراده فيرجع الإشكال؟ وأيضا فإن قول هذا القائل لأن قريشا كانوا يعتمرون في رجب يحتاج إلى نقل، وعلى تقديره فمن أين له أنه صلى الله عليه وسلم وافقهم؟ وهب أنه وافقهم فكيف اقتصر على مرة؟ |
08-14-2013, 12:30 PM | #509 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب عُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ الشرح:
قوله: (باب عمرة في رمضان) كذا في جميع النسخ ولم يصرح في الترجمة بفضيلة ولا غيرها، ولعله أشار إلى ما روي عن عائشة قالت " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت " الحديث أخرجه الدارقطني من طريق العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد عن أبيه عنها وقال إن إسناده حسن. وقال صاحب الهدى: إنه غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان. قلت: ويمكن حمله على أن قولها في رمضان متعلق بقولها خرجت ويكون المراد سفر فتح مكة فإنه كان في رمضان، واعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة من الجعرانة لكن في ذي القعدة كما تقدم بيانه قريبا، وقد رواه الدارقطني بإسناد آخر إلى العلاء بن زهير فلم يقل في الإسناد عن أبيه ولا قال فيه في رمضان. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُخْبِرُنَا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ سَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَنَسِيتُ اسْمَهَا مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّينَ مَعَنَا قَالَتْ كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُو فُلَانٍ وَابْنُهُ لِزَوْجِهَا وَابْنِهَا وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ قَالَ فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ أَوْ نَحْوًا مِمَّا قَالَ الشرح: قوله: (حدثنا يحيى) هو القطان، وقوله "عن عطاء " في رواية مسلم عن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج " أخبرني عطاء". قوله: (لامرأة من الأنصار سماها ابن عباس فنسيت اسمها) القائل نسيت اسمها ابن جريج، بخلاف ما يتبادر إلى الذهن من أن القائل عطاء، وإنما قلت ذلك لأن المصنف أخرج الحديث في " باب حج النساء " من طريق حبيب المعلم عن عطاء فسماها ولفظه " لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجته قال لأم سنان الأنصارية: ما منعك من الحج " الحديث، ويحتمل أن عطاء كان ناسيا لاسمها لما حدث به ابن جريج وذاكرا له لما حدث به حبيبا، وقد خالفه يعقوب بن عطاء فرواه عن أبيه عن ابن عباس قال " جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: حج أبو طلحة وابنه وتركاني. فقال: يا أم سليم عمرة في رمضان تعدل حجة معي " أخرجه ابن حبان، وتابعه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء أخرجه ابن أبي شيبة، وتابعهما معقل الجزري لكن خالف في الإسناد قال " عن عطاء عن أم سليم " فذكر الحديث دون القصة، فهؤلاء ثلاثة يبعد أن يتفقوا على الخطأ، فلعل حبيبا لم يحفظ اسمها كما ينبغي، لكن رواه أحمد بن منيع في مسنده بإسناد صحيح " عن سعيد بن جبير عن امرأة من الأنصار يقال لها أم سنان أنها أرادت الحج " فذكر الحديث نحوه دون ذكر قصة زوجها، وقد اختلف في صحابيه على عطاء اختلافا آخر يأتي ذكره في " باب حج النساء"، وقد وقع شبيه بهذه القصة لام معقل أخرجه النسائي من طريق معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث " عن امرأة من بني أسد يقال لها أم معقل قالت: أردت الحج فاعتل بعيري، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اعتمري في شهر رمضان فإن عمرة في رمضان تعدل حجة " وقد اختلف في إسناده فرواه مالك عن سمي عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال " جاءت امرأة " فذكره مرسلا وأبهمها، ورواه النسائي أيضا من طريق عمارة بن عمير وغيره عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي معقل، ورواه أبو داود من طريق إبراهيم بن مهاجر عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن رسول مروان عن أم معقل، والذي يظهر لي أنهما قصتان وقعتا لامرأتين، فعند أبي داود من طريق عيسى بن معقل عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أم معقل قالت " لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض فهلك أبو معقل، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجته جئت فقال. ما منعك أن تحجي معنا؟ فذكرت ذلك له قال: فهلا حججت عليه، فإن الحج من سبيل الله، فأما إذا فاتك فاعتمري في رمضان فإنها كحجة " ووقعت لأم طليق قصة مثل هذه أخرجها أبو علي بن السكن وابن منده في " الصحابة " والدولابي في " الكنى " من طريق طلق بن حبيب " أن أبا طليق حدثه أن امرأته قالت له - وله جمل وناقه - أعطني جملك أحج عليه، قال: جملي حبيس في سبيل الله، قالت: إنه في سبيل الله أن أحج عليه " فذكر الحديث وفيه " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقت أم طليق " وفيه " ما يعدل الحج قال عمرة في رمضان " وزعم ابن عبد البر أن أم معقل هي أم طليق لها كنيتان، وفيه نطر لأن أبا معقل مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا طليق عاش حتى سمع منه طلق ابن حبيب وهو من صغار التابعين فدل على تغاير المرأتين، ويدل عليه تغاير السياقين أيضا، ولا معدل عن تفسير المبهمة في حديث ابن عباس بأنها أم سنان أو أم سليم لما في القصة التي في حديث ابن عباس من التغاير للقصة التي في حديث غيره، ولقوله في حديث ابن عباس أنها أنصارية، وأما أم معقل فإنها أسدية، ووقعت لأم الهيثم أيضا والله أعلم. قوله: (أن تحجي) في رواية كريمة والأصيلي " أن تحجين " بزيادة النون وهي لغة. قوله: (ناضح) بضاد معجمة ثم مهملة أي بعير، قال ابن بطال: الناضح البعير أو الثور أو الحمار الذي يستقي عليه، لكن المراد به هنا البعير لتصريحه في رواية بكر بن عبد الله المزني عن ابن عباس في رواية أبي داود بكونه جملا. وفي رواية حبيب المذكورة " وكان لنا ناضحان " وهي أبين. وفي رواية مسلم من طريق حبيب " كانا لأبي فلان زوجها". قوله: (وابنه) إن كانت هي أم سنان فيحتمل أن يكون اسم ابنها سنانا، وإن كانت هي أم سليم فلم يكن لها يومئذ ابن يمكن أن يحج سوى أنس. وعلى هذا فنسبته إلى أبي طلحة بكونه ابنه مجازا. قوله: (ننضح عليه) بكسر الضاد. قوله: (فإذا كان رمضان) بالرفع وكان تامة وفي رواية الكشميهني " فإذا كان في رمضان". قوله: (فإن عمرة في رمضان حجة) وفي رواية مسلم " فإن عمرة فيه تعدل حجة " ولعل هذا هو السبب في قول المصنف " أو نحوا مما قال " قال ابن خزيمة: في هذا الحديث أن الشيء يشبه الشيء ويجعل عدله إذا أشبهه في بعض المعاني لا جميعها، لأن العمرة لا يقضى بها فرض الحج ولا النذر. وقال ابن بطال: فيه دليل على أن الحج الذي ندبها إليه كان تطوعا لإجماع الأمة على أن العمرة لا تجزئ عن حجة الفريضة. وتعقبه ابن المنير بأن الحجة المذكورة هي حجة الوداع، قال: وكانت أول حجة أقيمت في الإسلام فرضا، لأن حج أبي بكر كان إنذارا. قال: فعلى هذا يستحيل أن تكون تلك المرأة كانت قامت بوظيفة الحج. قلت: وما قاله غير مسلم، إذ لا مانع أن تكون حجت مع أبي بكر وسقط عنها الفرض بذلك، لكنه بنى على أن الحج إنما فرض في السنة العاشرة حتى يسلم مما يرد على مذهبه من القول بأن الحج على الفور. وعلى ما قاله ابن خزيمة فلا يحتاج إلى شيء مما بحثه ابن بطال. فالحاصل أنه أعلمها أن العمرة في رمضان تعدل الحجة في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض، للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن حج الفرض. ونقل الترمذي عن إسحاق بن راهويه أن معنى الحديث نظير ما جاء أن (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن. وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها. وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القصد. وقال غيره: يحتمل أن يكون المراد عمرة فريضة في رمضان كحجة فريضة عمرة نافلة في رمضان كحجة نافلة. وقال ابن التين: قوله " كحجة " يحتمل أن يكون على بابه، ويحتمل أن يكون لبركة رمضان، ويحتمل أن يكون مخصوصا بهذه المرأة. قلت: الثالث قال به بعض المتقدمين، ففي رواية أحمد بن منيع المذكورة قال سعيد بن جبير: ولا نعلم هذا إلا لهذه المرأة وحدها. ووقع عند أبي داود من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن أم معقل في آخر حديثها " قال فكانت تقول: الحج حجة والعمرة عمرة، وقد قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لي، فما أدري ألي خاصة " تعني أو للناس عامة. انتهى. والظاهر حمله على العموم كما تقدم. والسبب في التوقف استشكال ظاهره، وقد صح جوابه، والله أعلم. (فصل) لم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا في أشهر الحج كما تقدم، وقد ثبت فضل العمرة في رمضان بحديث الباب، فأيهما أفضل؟ الذي يظهر أن العمرة في رمضان لغير النبي صلى الله عليه وسلم أفضل، وأما في حقه فما صنعه هو أفضل، لأن فعله لبيان جواز ما كان أهل الجاهلية يمنعونه، فأراد الرد عليهم. بالقول والفعل، وهو لو كان مكروها لغيره لكان في حقه أفضل، والله أعلم. وقال صاحب " الهدى ": يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادة بما هو أهم من العمرة، وخشي من المشقة عل أمته إذ لو اعتمر في رمضان لبادروا إلى ذلك مع ما هم عليه من المشقة في الجمع بين العمرة والصوم، وقد كان يترك العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته وخوفا من المشقة عليهم. *3*باب الْعُمْرَةِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ وَغَيْرِهَا الشرح: قوله: (باب العمرة ليلة الحصبة وغيرها) الحصبة بالمهملتين وموحدة وزن الضربة، والمراد بها ليلة المبيت بالمحصب. وقد سبق الكلام على التحصيب في أواخر أبواب الحج، وأورد المصنف فيه حدث عائشة وفيه " فلما كان ليلة الحصبة أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم " قال ابن بطال: فقه هذا الباب أن الحاج يجوز له أن يعتمر إذا تم حجه بعد انقضاء أيام التشريق، وليلة الحصبة هي ليلة النفر الأخير لأنها آخر أيام الرمي. واختلف السلف في العمرة أيام الحج، فروى عبد الرزاق بإسناده عن مجاهد قال " سئل عمر وعلي وعائشة عن العمرة ليله الحصبة، فقال عمر: هي خير من لا شيء. وقال علي نحوه. وقالت عائشة: العمرة على قدر النفقة " انتهى وأشارت بذلك إلى أن الخروج لقصد العمرة من البلد إلى مكة أفضل من الخروج من مكة إلى أدنى الحل، وسيأتي تقرير ذلك بعد بابين، وسيأتي الكلام على الحديث بعد باب. ومحمد شيخ البخاري فيه هو ابن سلام. *3*باب عُمْرَةِ التَّنْعِيمِ الشرح: قوله: (باب عمرة التنعيم) يعني هل تتعين لمن كان بمكة أم لا؟ وإذا لم تتعين هل لها فضل على الاعتمار من غيرها من جهات الحل أو لا؟ قال صاحب " الهدي " لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر مدة إقامته بمكة قبل الهجرة، ولا اعتمر بعد الهجرة إلا داخلا إلى مكة، ولم يعتمر قط خارجا من مكة إلى الحل ثم يدخل مكة بعمرة كما يفعل الناس اليوم، ولا ثبت عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك في حياته إلا عائشة وحدها انتهى. وبعد أن فعلته عائشة بأمره دل على مشروعيته. واختلف السلف في جواز الاعتمار في السنة أكثر من مرة، فكرهه مالك، وخالفه مطرف وطائفة من أتباعه وهو قول الجمهور، واستثنى أبو حنيفة يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ووافقه أبو يوسف إلا في يوم عرفة، واستثنى الشافعي البائت بمنى لرمي أيام التشريق، وفيه وجه اختاره بعض الشافعية فقال بالجواز مطلقا كقول الجمهور والله أعلم. واختلفوا أيضا هل يتعين التنعيم لمن اعتمر من مكة؟ فروى الفاكهي وغيره من طريق محمد بن سيرين قال " بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل مكة التنعيم " ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها، وأفضل ذلك أن يأتي وقتا أي ميقاتا من مواقيت الحج. قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن كان بمكة إلا التنعيم، ولا ينبغي مجاوزته كما لا ينبغي مجاوزة المواقيت التي للحج. وخالفهم آخرون فقالوا: ميقات العمرة الحل وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بالإحرام من التنعيم لأنه كان أقرب الحل من مكة. ثم روي من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها قالت " وكان أدنانا من الحرم التنعيم فاعتمرت منه " قال فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُرْدِفَ عَائِشَةَ وَيُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً سَمِعْتُ عَمْرًا كَمْ سَمِعْتُهُ مِنْ عَمْرٍو الشرح: قوله: (عن عمرو) هو ابن دينار. قوله: (سمع عمرو بن أوس) يعني أنه سمع، ولفظ " أنه " مما يحذف من الإسناد خطأ في الغالب كما تحذف إحدى لفظتي " قال". وقد بين سفيان سماعه له من عمرو بن دينار آخره. ووقع عن الحميدي عن سفيان " حدثنا عمرو بن دينار " قال سفيان: هذا مما يعجب شعبة، يعني التصريح بالإخبار في جميع الإسناد. قوله: (ويعمرها من التنعيم) معطوف على قوله " أمره أن يردف " وهذا يدل على أن إعمارها من التنعيم كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. وأصرح منه ما أخرجه أبو داود من طريق حفصة بنت عبد الرحمن بن أبى بكر عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا عبد الرحمن أردف أختك عائشة فأعمرها من التنعيم " الحديث، ونحوه رواية مالك السابقة في أوائل الحج ابن شهاب عن عروة عن عائشة " أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن إلى التنعيم " ورواية الأسود عن عائشة السابقة في أواخر الحج " قال فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم " وسيأتي بعد باب من وجه آخر عن الأسود والقاسم جميعا عنها بلفظ " فاخرجي إلى التنعيم"، وهو صريح بأن ذلك كان عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك يفسر قوله في رواية القاسم عنها السابقة في أوائل الحج حيث أورده بلفظ " أخرج بأختك من الحرم". وأما ما رواه أحمد من طريق ابن أبي مليكة عنها في هذا الحديث قال " ثم أرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: احملها خلفك حتى تخرج من الحرم، فوالله ما قال فتخرجها إلى الجعرانة ولا إلى التنعيم " فهي رواية ضعيفة لضعف أبي عامر الخراز الراوي له عن ابن أبي مليكة، ويحتمل أن يكون قوله " فوالله إلخ " من كلام من دون عائشة قاله متمسكا بإطلاق قوله " فأخرج من الحرم " لكن الروايات المقيدة بالتنعيم مقدمة على المطلقة فهو أولى ولا سيما مع صحة أسانيدها والله أعلم. (فائدة) : زاد أبو داود في روايته بعد قوله " إلى التنعيم ": " فإذا هبطت بها من الأكمة فلتحرم فإنها عمرة متقبلة " وزاد أحمد في رواية له " وذلك ليلة الصدر " وهو بفتح المهملة والدال أي الرجوع من منى. وفي قوله " فإذا هبطت بها " إشارة إلى المكان الذي أحرمت منه عائشة. والتنعيم بفتح المثناة وسكون النون وكسر المهملة مكان معروف خارج مكة، وهو على أربعة أميال من مكة إلى جهة المدينة كما نقله الفاكهي. وقال المحب الطبري: التنعيم أبعد من أدنى الحل إلى مكة بقليل، وليس بطرف الحل بل بينهما نحو من ميل، ومن أطلق عليه أدنى الحل فقد تجوز. قلت: أو أراد بالنسبة إلى بقية الجهات. وروى الفاكهي من طريق عبيد بن عمير قال: إنما سمي التنعيم لأن الجبل الذي عن يمين الداخل يقال له ناعم، والذي عن اليسار يقال له منعم، والوادي نعمان. وروى الأزرقي من طريق ابن جريج قال: رأيت عطاء يصف الموضع الذي اعتمرت منه عائشة قال فأشار إلى الموضع الذي ابتنى فيه محمد بن علي بن شافع المسجد الذي وراء الأكمة، وهو المسجد الخرب. ونقل الفاكهي عن ابن جريج وغيره أن ثم مسجدين يزعم أهل مكة أن الخرب الأدنى من الحرم هو الذي اعتمرت منه عائشة، وقيل هو المسجد الأبعد على الأكمة الحمراء، ورجحه المحب الطبري. وقال الفاكهي: لا أعلم إلا أني سمعت ابن أبي عمر يذكر عن أشياخه أن الأول هو الصحيح عندهم. وفي هذا الحديث جواز الخلوة بالمحارم سفرا وحضرا، وإرداف المحرم محرمه معه. واستدل به على تعين الخروج إلى الحل لمن أراد العمرة ممن كان بمكة، وهو أحد قولي العلماء، والثاني تصح العمرة ويجب عليه دم لترك الميقات، وليس في حديث الباب ما يدفع ذلك، واستدل به على أن أفضل جهات الحل التنعيم، وتعقب بأن إحرام عائشة من التنعيم إنما وقع لكونه أقرب جهة الحل إلى الحرم، لا أنه الأفضل، وسيأتي إيضاح هذا في " باب أجر العمرة على قدر التعب". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَطَاءٍ حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلْحَةَ وَكَانَ عَلِيٌّ قَدِمَ مِنْ الْيَمَنِ وَمَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالَ أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا إِلَّا مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ فَقَالُوا نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ وَأَنَّ عَائِشَةَ حَاضَتْ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ قَالَ فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْطَلِقُونَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَأَنْطَلِقُ بِالْحَجِّ فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ فِي ذِي الْحَجَّةِ وَأَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْعَقَبَةِ وَهُوَ يَرْمِيهَا فَقَالَ أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّةً يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَا بَلْ لِلْأَبَدِ الشرح: قوله: (عن عطاء) هو ابن أبي رباح. قوله: (وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة) هذا مخالف لما رواه أحمد ومسلم وغيرهما من طريق الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة " إن الهدي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وذوي اليسار " وسيأتي بعد بابين للمصنف من طريق أفلح عن القاسم بلفظ " ورجال من أصحابه ذوي قوة". ويجمع بينهما بأن كلا منهما ذكر من اطلع عليه، وقد روى مسلم أيضا من طريق مسلم القري وهو بضم القاف وتشديد الراء عن ابن عباس في هذا الحديث " وكان طلحة ممن ساق الهدي فلم يحل " وهذا شاهد لحديث جابر في ذكر طلحة في ذلك وشاهد لحديث عائشة في أن طلحة لم ينفرد بذلك وداخل في قولها " وذوي اليسار " ولمسلم من حديث أسماء بنت أبي بكر أن الزبير كان ممن كان معه الهدي. قوله: (و كان على قدم من اليمن) في رواية ابن جريج عن عطاء عند مسلم " من سعايته " وسيأتي بيان ذلك في أواخر المغازي. قوله: (بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية ابن جريج عن عطاء عن جابر، وعن ابن جريج عن طاوس عن ابن عباس في هذا الحديث عند المصنف في الشركة " فقال أحدهما يقول لبيك بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر يقول لبيك بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يقيم على إحرامه وأشركه في الهدي " وقد تقدم بيان ذلك في " باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم " في أوائل الحج. قوله: (وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة) زاد ابن جريج عن عطاء فيه " وأصيبوا النساء " قال عطاء ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم، يعني إتيان النساء، لأن من لازم الإحلال إباحة إتيان النساء، وقد تقدم شرح ذلك في آخر " باب التمتع والقران". قوله: (وأن عائشة حاضت) في رواية عائشة نفسها كما تقدم أن حيضها كان بسرف قبل دخولهم مكة. وفي رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم أن دخول النبي صلى الله عليه وسلم عليها وشكواها ذلك له كان يوم التروية، ووقع عند مسلم من طريق مجاهد عن عائشة أن طهرها كان بعرفة. وفي رواية القاسم عنها " وطهرت صبيحة ليلة عرفة حتى قدمنا منى"، وله من طريقه " فخرجت في حجتي حتى نزلنا منى فتطهرت، ثم طفنا بالبيت " الحديث. واتفقت الروايات كلها حتى أنها طافت طواف الإفاضة من يوم النحر. واقتصر النووي في " شرح مسلم " على النقل عن أبي محمد بن حزم أن عائشة حاضت يوم السبت ثالث ذي الحجة وطهرت يوم السبت عاشره يوم النحر، وإنما أخذه ابن حزم من هذه الروايات التي في مسلم. ويجمع بين قول مجاهد وقول القاسم أنها رأت الطهر وهي بعرفة ولم تتهيأ للاغتسال إلا بعد أن نزلت منى، وانقطع الدم عنها بعرفة وما رأت الطهر إلا بعد أن نزلت منى، وهذا أولى والله أعلم. قوله: (وأنطلق بالحج) تمسك به من قال أن عائشة لما حاضت تركت عمرتها واقتصرت على الحج، وقد تقدم البحث فيه في " باب التمتع والقران". قوله: (وأن سراقة لقي النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة وهو يرميها) يعني وهو يرمي جمرة العقبة. وفي رواية يزيد بن زريع عن حبيب المعلم عند المصنف في كتاب التمني " وهو يرمي جمرة العقبة " هذا فيه بيان المكان الذي سأل فيه سراقة عن ذلك، ورواية مسلم من طريق ابن جريج عن عطاء عن جابر كذلك، وسياق مسلم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر يقتضي أنه قال له ذلك لما أمر أصحابه أن يجعلوا حجهم عمرة، وبذلك تمسك من قال إن سؤاله كان عن فسخ الحج عن العمرة، ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين لتعدد المكانين. قوله: (ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال: لا، بل للأبد) في رواية يزيد بن زريع " ألنا هذه خاصة " وفي رواية جعفر عند مسلم " فقام سراقة فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذه أم للأبد؟ فشبك أصابعه واحدة في الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل للأبد أبدا " قال النووي: معناه عند الجمهور أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إبطالا لما كان عليه الجاهلية، وقيل معناه جواز القران أي دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج، وقيل معناه سقط وجوب العمرة، وهذا ضعيف لأنه يقتضي النسخ بغير دليل، وقيل معناه جواز فسخ الحج إلى العمرة، قال: وهو ضعيف. وتعقب بأن سياق السؤال يقوي هذا التأويل، بل الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ والجواب وقع عما هو أعم من ذلك حتى يتناول التأويلات المذكورة إلا الثالث. والله أعلم. |
08-14-2013, 12:31 PM | #510 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الِاعْتِمَارِ بَعْدَ الْحَجِّ بِغَيْرِ هَدْيٍ الشرح:
قوله: (باب الاعتمار بعد الحج بغير هدي) كأنه يشير بذلك إلى أن اللازم من قول من قال أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله كما هو منقول في رواية عن مالك وعن الشافعي أيضا، ومن أطلق أن التمتع هو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج كما نقل ابن عبد البر فيه الاتفاق فقال لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج أن من أحرم بالعمرة في ذي الحجة بعد الحج فعليه الهدي، وحديث الباب دال على خلافه، لكن القائل بأن ذا الحجة كله من أشهر الحج يقول إن التمتع هو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج قبل الحج فلا يلزمهم ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِينَ لِهِلَالِ ذِي الْحَجَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجَّةٍ فَلْيُهِلَّ وَلَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ فَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دَعِي عُمْرَتَكِ وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ فَفَعَلْتُ فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَرْدَفَهَا فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِهَا فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا صَوْمٌ الشرح: قوله: (خرجنا موافين لهلال ذي الحجة) أي قرب طلوعه، وقد تقدم أنها قالت " خرجنا لخمس بقين من ذي القعدة " والخمس قريبة من آخر الشهر، فوافاهم الهلال وهم في الطريق لأنهم دخلوا مكة في الرابع من ذي الحجة. قوله: (لأهللت بعمرة) في رواية السرخسي " لأحللت " بالحاء المهملة أي من الحج. قوله: (أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم، فأردفها) فيه التفات، لأن السياق يقتضي أن يقول فأردفني. قوله: (مكان عمرتها) تقدم توجيهه وأن المراد مكان عمرتها التي أرادت أن تكون منفردة عن الحج، قال عياض وغيره: الصواب في الجمع بين الروايات المختلفة عن عائشة أنها أحرمت بالحج كما هو ظاهر رواية القاسم وغيره عنها، ثم فسخته إلى العمرة لما فسخ الصحابة، وعلى هذا يتنزل قول عروة عنها " أحرمت بعمرة " فلما حاضت وتعذر عليها التحلل من العمرة لأجل الحيض وجاء وقت الخروج إلى الحج أدخلت الحج على العمرة فصارت قارنة، واستمرت إلى أن تحللت، وعليه يدل قوله لها في رواية طاوس عنها عند مسلم " طوافك يسعك لحجك وعمرتك " وأما قوله لها " هذه مكان عمرتك " فمعناه العمرة المنفردة التي حصل لغيرها التحلل منها بمكة ثم أنشؤوا الحج مفردا، فعلى هذا فقد حصل لعائشة عمرتان. وكذا قولها " يرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج " أي يرجعون بحج منفرد وعمرة منفردة، وأما قوله في هذا الحديث " فقضى الله حجها وعمرتها ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم " فظاهره أن ذلك من قول عائشة، وكذا أخرجه مسلم وابن ماجه من رواية عبدة بن سليمان ومسلم من طريق ابن نمير والإسماعيلي من طريق علي بن مسهر وغيره، لكن قد تقدم الحديث في الحيض من طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة إلخ فقال في آخره " قال هشام ولم يكن في شيء من ذلك إلخ " فتبين أنه في رواية يحيى القطان ومن وافقه مدرج، وكذا أخرجه أبو داود من طريق وهيب والحمادين عن هشام، ووقع في الحديث موضع آخر مدرج وهو قوله قبل ذلك " فقضى الله حجها وعمرتها " فقد بين أحمد في روايته عن وكيع عن هشام أنه من قول عروة، وبينه مسلم عن أبي كريب عن وكيع بيانا شافيا فإنه أخرجه عقب رواية عبدة عن هشام وقال فيه " فساق الحديث بنحوه " وقال في آخره " قال عروة فقضى الله حجها وعمرتها، قال هشام: ولم يكن في ذلك هدي ولا صيام ولا صدقة " وساقه الجوزقي من طريق مسلم بهذا الإسناد بتمامه بغير حوالة، ورواه ابن جريج عن هشام فلم يذكر الزيادة أخرجه أبو عوانة، وكذا أخرجه الشيخان من طريق الزهري وأبي الأسود عن عروة بدون الزيادة، قال ابن بطال: قوله " فقضى الله حجها وعمرتها " إلى آخر الحديث ليس من قول عائشة وإنما هو من كلام هشام بن عروة حدث به هكذا في العراق فوهم فيه، فظهر بذلك أن لا دليل فيه لمن قال إن عائشة لم تكن قارنة حيث قال: لو كانت قارنة لوجب عليها الهدي للقران، وحمل قوله لها " ارفضي عمرتك " على ظاهره، لكن طريق الجمع بين مختلف الأحاديث تقتضي ما قررناه، وقد ثبت عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر كما تقدم، وروى مسلم من حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى عنها " فيحمل على أنه صلى الله عليه وسلم أهدى عنها من غير أن يأمرها بذلك ولا أعلمها به، قال القرطبي: أشكل ظاهر هذا الحديث " ولم يكن في ذلك هدي " على جماعة، حتى قال عياض: لم تكن عائشة قارنة ولا متمتعة وإنما أحرمت بالحج ثم نوت فسخه إلى عمرة فمنعها من ذلك حيضها فرجعت إلى الحج فأكملته ثم أحرمت عمرة مبتدأة فلم يجب عليها هدي، قال: وكأن عياضا لم يسمع قولها " كنت ممن أهل بعمرة " ولا قوله صلى الله عليه وسلم لها " طوافك يسعك لحجك وعمرتك " والجواب عن ذلك أن هذا الكلام مدرج قول هشام كأنه نفى ذلك بحسب علمه، ولا يلزم من ذلك نفيه في نفس الأمر. ويحتمل أن يكون قوله " لم يكن في ذلك هدي " أي لم تتكلف له بل قام به عنها انتهى. وقال ابن خزيمة: معنى قوله " لم يكن في شيء من ذلك هدي " أي في تركها لعمل العمرة الأولى وإدراجها لها في الحج، ولا في عمرتها التي اعتمرتها من التنعيم أيضا، وهذا تأويل حسن والله أعلم. *3*باب أَجْرِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ الشرح: قوله: (باب أجر العمرة على قدر النصب) بفتح النون والمهملة أي التعب. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ قَالَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ فَقِيلَ لَهَا انْتَظِرِي فَإِذَا طَهُرْتِ فَاخْرُجِي إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي ثُمَّ ائْتِينَا بِمَكَانِ كَذَا وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أَوْ نَصَبِكِ الشرح: قوله: (وعن ابن عون) هو معطوف على الإسناد المذكور، وقد بينه أحمد ومسلم من رواية بن علية عن ابن عون بالإسنادين وقال فيه: يحدثان ذلك عن أم المؤمنين، ولم يسمها، قال فيه لا عرف حديث ذا من حديث ذا، وظهر بحديث يزيد بن زريع أنها عائشة وأنهما رويا ذلك عنها بخلاف بن يزيد. قوله: (يصدر الناس) أي يرجعون. قوله: (بمكان كذا وكذا) في رواية إسماعيل " بحبل كذا " وضبطه في صحيح مسلم وغيره بالجيم وفتح الموحدة، لكن أخرجه الإسماعيلي من طريق حسين بن حسن عن ابن عون وضبطه بالحاء المهملة يعني وإسكان الموحدة، والمكان المبهم هنا هو الأبطح كما تبين في غير هذا الطريق. قوله: (على قدر نفقتك أو نصبك) قال الكرماني " أو " إما للتنويع في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإما شك من الراوي، والمعنى أن الثواب في العبادة يكثر بكثرة النصب أو النفقة، والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع وكذا النفقة قاله النووي انتهى. ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أحمد بن منيع عن إسماعيل " على قدر نصبك أو على قدر تعبك " وهذا يؤيد أنه من شك الراوي، وفي روايته من طريق حسين بن حسن " على قدر نفقتك أو نصبك " أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الدارقطني والحاكم من طريق هشام عن ابن عون بلفظ " أن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك " بواو العطف، وهذا يؤيد الاحتمال الأول. وقوله في رواية ابن علية " لا أعرف حديث ذا من حديث ذا " قد أخرج الدارقطني والحاكم من وجه آخر ما يدل على أن السياق الذي هنا للقاسم، فإنهما أخرجا من طريق سفيان وهو الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في عمرتها " إنما أجرك في عمرتك على قدر نفقتك " واستدل به على أن الاعتمار لمن كان بمكة من جهة الحل القريبة أقل أجرا من الاعتمار من جهة الحل البعيدة وهو ظاهر هذا الحديث. وقال الشافعي في " الإملاء ": أفضل بقاع الحل للاعتمار الجعرانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها، ثم التنعيم لأنه أذن لعائشة منها. قال وإذا تنحى عن هذين الموضعين فأين أبعد حتى يكون أكثر لسفره كان أحب إلي، وحكى الموفق في " المغني " عن أحمد أن المكي كلما تباعد في العمرة كان أعظم لأجره. وقال الحنفية: أفضل بقاع الحل للاعتمار التنعيم، ووافقهم بعض الشافعية والحنابلة. ووجهه من قدمناه أنه لم ينقل أن أحدا من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة إلى الحل ليحرم بالعمرة غير عائشة. وأما اعتماره صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فكان حين رجع من الطائف مجتازا إلى المدينة، ولكن لا يلزمه من ذلك تعين التنعيم للفضل لما دل عليه هذا الخبر أن الفضل في زيادة التعب والنفقة، وإنما يكون التنعيم أفضل من جهة أخرى تساويه إلى الحل لا من جهة أبعد منه، والله أعلم. وقال النووي: ظاهر الحديث أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة، وهو كما قال، لكن ليس ذلك بمطرد، فقد يكون بعض العبادة أخف من بعض وهو أكثر فضلا وثوابا بالنسبة إلى الزمان كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام ليال من رمضان غيرها، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعات في غيره، وبالنسبة إلى شرف العبادة المالية والبدنية كصلاة الفريضة بالنسبة إلى أكثر من عدد ركعاتها أو أطول من قراءتها ونحو ذلك من صلاة النافلة، وكدرهم من الزكاة بالنسبة إلى أكثر منه من التطوع، أشار إلى ذلك ابن عبد السلام في " القواعد " قال: وقد كانت الصلاة قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم وهي شاقة على غيره، وليست صلاة غيره مع مشقتها مساوية لصلاته مطلقا. والله أعلم. *3*باب الْمُعْتَمِرِ إِذَا طَافَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ خَرَجَ هَلْ يُجْزِئُهُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ الشرح: قوله: (باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع) أورد فيه حديث عائشة في عمرتها من التنعيم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن " اخرج بأختك من الحرم فلتهل عمرة ثم افرغا من طوافكما " الحديث. قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف يخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع، كما فعلت عائشة. انتهى. وكأن البخاري لما لم يكن في حديث عائشة التصريح بأنها ما طافت للوداع بعد طواف العمرة لم يبت الحكم في الترجمة، أيضا فإن قياس من يقول إن إحدى العبادتين لا تندرج في الأخرى أن يقول بمثل ذلك هنا. ويستفاد من قصة عائشة أن السعي إذا وقع بعد طواف الركن - إن قلنا إن طواف الركن يغني عن طواف الوداع - أن تخلل السعي بين الطواف والخروج لا يقطع أجزاء الطواف المذكور عن الركن والوداع معا. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحُرُمِ الْحَجِّ فَنَزَلْنَا سَرِفَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا وَكَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ذَوِي قُوَّةٍ الْهَدْيُ فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ عُمْرَةً فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ قُلْتُ سَمِعْتُكَ تَقُولُ لِأَصْحَابِكَ مَا قُلْتَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ قَالَ وَمَا شَأْنُكِ قُلْتُ لَا أُصَلِّي قَالَ فَلَا يَضِرْكِ أَنْتِ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كُتِبَ عَلَيْكِ مَا كُتِبَ عَلَيْهِنَّ فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِهَا قَالَتْ فَكُنْتُ حَتَّى نَفَرْنَا مِنْ مِنًى فَنَزَلْنَا الْمُحَصَّبَ فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَ اخْرُجْ بِأُخْتِكَ الْحَرَمَ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا أَنْتَظِرْكُمَا هَا هُنَا فَأَتَيْنَا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَقَالَ فَرَغْتُمَا قُلْتُ نَعَمْ فَنَادَى بِالرَّحِيلِ فِي أَصْحَابِهِ فَارْتَحَلَ النَّاسُ وَمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ ثُمَّ خَرَجَ مُوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ الشرح: قوله: (فنزلنا بسرف) في رواية أبي ذر وأبي الوقت " سرف " بحذف الباء، كذا لمسلم من طريق إسحاق بن عيسى بن الطباع عن أفلح. قوله: (لأصحابه من لم يكن معه هدي) ظاهره أن أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بفسخ الحج إلى العمرة كان بسرف قبل دخولهم مكة، والمعروف في غير هذه الرواية أن قوله لهم ذلك بعد دخول مكة، ويحتمل التعدد. قوله: (قلت لا أصلي) كنت بذلك عن الحيض، وهي من لطيف الكنايات. قوله: (كتب عليك) كذا للأكثر على البناء لما لم يسم فاعله، ولأبي ذر " كتب الله عليك " وكذا لمسلم. قوله: (فكوني في حجتك) في رواية أبي ذر " في حجك " وكذا المسلم. قوله: (حتى نفرنا من منى فنزلنا المحصب) في هذا السياق اختصار بينته رواية مسلم بلفظ " حتى نزلنا منى فتطهرت ثم طفت بالبيت فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب". قوله: (فدعا عبد الرحمن) في رواية مسلم " عبد الرحمن بن أبي بكر". قوله: (اخرج بأختك الحرم) في رواية الكشميهني " من الحرم " وهي أوضح، وكذا لمسلم. قوله: (فأتينا في جوف الليل) في رواية الإسماعيلي " من آخر الليل " وهي أوفق لبقية الروايات، وظاهرها أنها أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم قبل أبواب أنها قالت " فلقيته وأنا منهبطة وهو مصعد " أو العكس، والجمع بينهما واضح كما سيأتي. قوله: (فارتحل الناس ومن طاف بالبيت) هو من عطف الخاص على العام لأن " الناس " أعم من الطائفين، ولعلها أرادت بالناس من لم يطف طواف الوداع، ويحتمل أن يكون الموصول صفة الناس من باب توسط العاطف بين الصفة والموصوف كقوله تعالى (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) وقد أجاز سيبويه نحو مررت بزيد وصاحبك إذا أراد بالصاحب زيدا المذكور وهذا كله بناء على صحة هذا السياق، والذي يغلب عندي أنه وقع فيه تحريف، والصواب فارتحل الناس ثم طاف بالبيت إلخ، وكذا وقع عند أبي داود من طريق أبي بكر الحنفي عن أفلح بلفظ " فأذن في أصحابه بالرحيل، فارتحل فمر بالبيت قبل صلاة الصبح فطاف به حين خرج، ثم انصرف متوجها إلى المدينة " وفي رواية مسلم " فأذن في أصحابه بالرحيل فخرج، فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة " وقد أخرجه البخاري من هذا الوجه بلفظ " فارتحل الناس. فمر متوجها إلى المدينة " أخرجه في " باب الحج أشهر معلومات " قال عياض: قوله في رواية القاسم يعني هذه " فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في منزله فقال: فهل فرغت؟ قلت نعم، فأذن بالرحيل " وفي رواية الأسود عن عائشة يعني التي مضت في " باب إذا حاضت بعدما أفاضت ": " فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة أو أنا مصعدة وهو منهبط منها " وفي رواية صفية عنها يعني عند مسلم " فاقبلنا حتى أتيناه وهو بالحصبة " وهذا موافق لرواية القاسم، وهما موافقان لحديث أنس يعني الذي مضى في " باب طواف الوداع " أنه صلى الله عليه وسلم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به، قال: وفي حديث الباب من الإشكال قوله " فمر بالبيت فطاف به " بعد أن قال لعائشة " أفرغت؟ قالت نعم " مع قولها في الرواية الأخرى أنه " توجه لطواف الوداع وهي راجعة إلى المنزل الذي كان به " قال فيحتمل أنه أعاد طواف الوداع لأن منزله كان بالأبطح وهو بأعلى مكة، وخروجه من مكة إنما كان من أسفلها، فكأنه لما توجه طالبا للمدينة اجتاز بالمسجد ليخرج من أسفل مكة فكرر الطواف ليكون آخر عهده بالبيت انتهى، والقاضي في هذا معذور لأنه لم يشاهد تلك الأماكن، فظن أن الذي يقصد الخروج إلى المدينة من أسفل مكة يتحتم عليه المرور بالمسجد، وليس كذلك كما شاهده من عاينه، بل الراحل من منزله بالأبطح يمر مجتازا من ظاهر مكة إلى حيث مقصده من جهة المدينة ولا يحتاج إلى المرور بالمسجد ولا يدخل إلى البلد أصلا، قال عياض: وقد وقع في رواية الأصيلي في البخاري " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن طاف بالبيت " قال فلم يذكر أنه أعاد الطواف. فيحتمل أن طوافه هو طواف الوداع وأن لقاءه لعائشة كان حين انتقل من المحصب كما عند عبد الرزاق أنه كره أن يقتدي الناس بإناخته بالبطحاء فرحل حتى أناخ على ظهر العقبة أو من ورائها ينتظرها، قال: فيحتمل أن يكون لقاؤه لها كان في هذا الرحيل، وأنه المكان الذي عنته في رواية الأسود بقوله لها " موعدك بمكان كذا وكذا " ثم طاف بعد ذلك طواف الوداع انتهى. وهذا التأويل حسن، وهو يقتضي أن الرواية التي عزاها للأصيلي مسكوت عن ذكر طواف الوداع فيها، وقد بينا أن الصواب فيها " فمر بالبيت فطاف به " بدل قوله ومن طاف بالبيت، ثم في عز وعياض ذلك إلى الأصيلي وحده نظر، فإن كل الروايات التي وقفنا عليها في ذلك سواء حتى رواية إبراهيم بن معقل النسفي عن البخاري والله أعلم. قوله: (موجها) بضم الميم وفتح الواو وتشديد الجيم. وفي رواية ابن عساكر متوجها بزيادة تاء وبكسر الجيم، وقد تقدمت مباحث هذا الحديث قريبا. *3*باب يَفْعَلُ فِي الْعُمْرَةِ مَا يَفْعَلُ فِي الْحَجِّ الشرح: قوله: (باب يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج) في رواية المستملي " يفعل في العمرة " وللكشميهني " ما يفعل في الحج " أي من التروك لا من الأفعال، أو المراد بعض الأفعال لا كلها، والأول أرجح لما يدل عليه سياق حديث يعلى بن أمية وقد تقدم تقريره في أوائل الحج مع مباحثه. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ قَالَ حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ يَعْنِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْخَلُوقِ أَوْ قَالَ صُفْرَةٌ فَقَالَ كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُتِرَ بِثَوْبٍ وَوَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَقَالَ عُمَرُ تَعَالَ أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْوَحْيَ قُلْتُ نَعَمْ فَرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ لَهُ غَطِيطٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ كَغَطِيطِ الْبَكْرِ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ الْعُمْرَةِ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ وَأَنْقِ الصُّفْرَةَ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ الشرح: قوله: (كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي، فأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم) لم أقف في شيء من الروايات على بيان المنزل حينئذ من القرآن، وقد استدل به جماعة من العلماء على أن من الوحي ما لا يتلى، لكن وقع عند الطبراني في " الأوسط " من طريق أخرى أن المنزل حينئذ قوله تعالى. (وأتموا الحج والعمرة لله) ووجه الدلالة منه على المطلوب عموم الأمر بالإتمام، فإنه يتناول الهيآت والصفات والله أعلم. قوله: (وأنق الصفرة) بفتح الهمزة وسكون النون، ووقع للمستملي هنا بهمزة وصل ومثناة مشددة من التقوى، قال صاحب " المطالع " وهي أوجه وإن رجعا إلى معنى واحد. ووقع لابن السكن " اغسل أثر الخارق وأثر الصفرة " والأول هو المشهور. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَلَا أُرَى عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ كَلَّا لَوْ كَانَتْ كَمَا تَقُولُ كَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا زَادَ سُفْيَانُ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ الشرح: حديث عائشة في قوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله) ووجه الدلالة منه اشتراك الحج والعمرة في مشروعية السعي بين الصفا والمروة لقوله تعالى (فمن حج البيت أو اعتمر) وقد تقدمت مباحثه مستوفاة في " باب وجوب الصفا والمروة " في أثناء الحج. وقوله "أن لا يطوف بهما " وفي رواية الكشميهني " بينهما". قوله: (زاد سفيان وأبو معاوية عن هشام) يعني عن أبيه عن عائشة قوله: (ما أتم الله حج امرئ إلخ) أما رواية سفيان فوصلها الطبري من طريق وكيع عنه عن هشام فذكر الموقوف فقط وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن عائشة موقوفا أيضا، وأما رواية أبي معاوية فوصلها مسلم وقد تقدم الكلام على ما فيها من فائدة وبحث في الباب المشار إليه. |
08-14-2013, 12:33 PM | #511 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب مَتَى يَحِلُّ الْمُعْتَمِرُ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا
الشرح: قوله: (باب متى يحل المعتمر) أشار بهذه الترجمة إلى مذهب ابن عباس وقد تقدم القول فيه، قال ابن بطال: لا أعلم خلافا بين أئمة الفتوى أن المعتمر لا يحل حتى يطوف ويسعى، إلا ما شذ به ابن عباس فقال " يحل من العمرة بالطواف " ووافقه إسحاق بن راهويه، ونقل عياض عن بعض أهل العلم أن بعض الناس ذهب إلى أن المعتمر إذا دخل الحرم حل وإن لم يطف ولم يسع، وله أن يفعل كل ما حرم على المحرم، ويكون الطواف والسعي في حقه كالرمي والمبيت في حق الحاج، وهذا من شذوذ المذاهب وغرائبها، وغفل القطب الحلبي فقال فيمن استلم الركن في ابتداء الطواف وأحل حينئذ: إنه لا يحصل له التحلل بالإجماع. قوله: (وقال عطاء عن جابر إلخ) هو طرف من حديث تقدم موصولا في " باب عمرة التنعيم " وبين المصنف بحديث عمرو بن دينار عن جابر - وهو ثالث أحاديث الباب - أن المراد بقوله في هذه الرواية " يطوفوا " أي بالبيت وبين الصفا والمروة، لجزم جابر بأنه لا يحل له أن يقرب امرأته حتى يطوف بين الصفا والمروة. ثم ذكر المصنف في الباب أحاديث: أولها حديث ابن أبي أوفى وهو مشتمل على ثلاثة أحاديث. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَمَرْنَا مَعَهُ فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَطُفْنَا مَعَهُ وَأَتَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ وَأَتَيْنَاهَا مَعَهُ وَكُنَّا نَسْتُرُهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ أَحَدٌ فَقَالَ لَهُ صَاحِبٌ لِي أَكَانَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ قَالَ لَا قَالَ فَحَدِّثْنَا مَا قَالَ لِخَدِيجَةَ قَالَ بَشِّرُوا خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ الشرح: قوله: (حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن جرير) إسحاق هو ابن راهويه، وقد أورده في مسنده بلفظ " أخبرنا جرير " وهو ابن عبد الحميد وإسماعيل هو ابن أبي خالد. وسيأتي الكلام على حديث عبد الله ابن أبي أوفى في المغازي وعلى ما يتعلق بخديجة في مناقبها إن شاء الله تعالى، وتقدم الكلام على قوله " أدخل الكعبة " في " باب من لم يدخل الكعبة في أثناء الحج " وقوله " لا " في جواب " أدخل الكعبة " معناه أنه لم يدخلها في تلك العمرة. الحديث: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ فَقَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قَالَ وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَا يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ الشرح: حديث عمرو بن دينار عن ابن عمر مرفوعا وعن جابر موقوفا: قوله: (عن عمرو بن دينار) تقدم هذا الحديث بهذا الإسناد عن الحميدي في كتاب الصلاة في أبواب القبلة بلفظ " حدثنا سفيان قال حدثنا عمرو بن دينار " فعبر بالحديث هناك والعنعنة هنا وساق الإسناد والمتن جميعا بغير زيادة، ووقوع مثل هذا نادر جدا. قوله: (عن رجل طاف بالبيت في عمرة) في رواية أبي ذر " عن رجل طاف في عمرته " وقد تقدم بعض الكلام على هذا الحديث في الصلاة وأن ابن عمر أشار إلى الاتباع وأن جابرا أفتاهم بالحكم وهو قول الجمهور إلا ما روي عن ابن عباس أنه يحل من جميع ما حرم عليه بمجرد الطواف. ووقع عند النسائي من طريق غندر عن شعبة عن عمر بن دينار أنه قال: وهو سنة، وكذا أخرجه أحمد عن محمد بن جعفر وهو غندر به. قوله: (أيأتي امرأته) أي يجامعها، والمراد هل حصل له التحلل من الإحرام قبل السعي أم لا؟ وقوله " لا يقربنها " بنون التأكيد المراد نهي المباشرة بالجماع ومقدماته لا مجرد القرب منها. قوله: (وطاف بين الصفا والمروة) أي سعى، وإطلاق الطواف على السعي إما للمشاكلة وإما لكونه نوعا من الطواف ولوقوعه في مصاحبة طواف البيت. قوله: (أسوة) بكسر الهمزة ويجوز ضمها. قوله: (وسألنا جابرا) القائل هو عمرو بن دينار، وقد تقدم هذا الحديث في " باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام " من طريق شعبة وفي " باب السعي " من طريق ابن جريج كلاهما عن عمرو بن دينار عن ابن عمر بالحديث دون السؤالين لابن عمر ولجابر، وفي الحديث أن السعي واجب في العمرة، وكذا صلاة ركعتي الطواف، وفي تعيينهما خلف المقام خلف سبق في بابه المشار إليه، ونقل ابن المنذر الاتفاق على جوازهما في أي موضع شاء الطائف، إلا أن مالكا كرههما في الحجر، ونقل بعض أصحابنا عن الثوري أنه كان يعينهما خلف المقام. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ وَهُوَ مُنِيخٌ فَقَالَ أَحَجَجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِمَا أَهْلَلْتَ قُلْتُ لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَحْسَنْتَ طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَحِلَّ فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ حَتَّى كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَقَالَ إِنْ أَخَذْنَا بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ وَإِنْ أَخَذْنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ الشرح: حديث أبي موسى في إهلاله كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهد الترجمة منه قوله " طف بالبيت وبالصفا والمروة ثم أحل " فإنه يقتضي تأخير الإحلال عن السعي، وقد تقدم الكلام عليه مستوفي في " باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم". قوله: (يأمرنا بالتمام) في رواية الكشميهني " يأمر". قوله: (حتى يبلغ) في رواية الكشميهني " بلغ " بلفظ الفعل الماضي، وقوله في أوله " أحججت " أي هل أحرمت بالحج أو نويت الحج؟ وهذا كقوله له بعد ذلك " بما أهللت " أي بما أحرمت " أي بحج أو عمرة. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ أَسْمَاءَ تَقُولُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالحَجُونِ صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَا هُنَا وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ خِفَافٌ قَلِيلٌ ظَهْرُنَا قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا فَاعْتَمَرْتُ أَنَا وَأُخْتِي عَائِشَةُ وَالزُّبَيْرُ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنْ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ الشرح: حديث أسماء بنت أبي بكر: قوله: (حدثنا أحمد) كذا للأكثر غير منسوب وفي رواية كريمة " حدثنا أحمد بن عيسى " وفي رواية أبي ذر " حدثنا أحمد بن صالح " وقد أخرجه مسلم عن أحمد بن عيسى عن ابن وهب. قوله: (أخبرنا عمرو) هو ابن الحارث، وعبد الله مولى أسماء تقدم له حديث عنها غير هذا في " باب من قدم ضعفة أهله " وليس له عنده غيرهما. وهذا الإسناد نصفه مصريون ونصفه مدنيون. قوله: (بالحجون) بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة: جبل معروف بمكة، وقد تكرر ذكره في الأشعار، وعنده المقبرة المعروفة بالمعلى على يسار الداخل إلى مكة ويمين الخارج منها إلى منى، وهذا الذي ذكرنا محصل ما قاله الأزرقي والفاكهي وغيرهما من العلماء، وأغرب السهيلي فقال: الحجون على فرسخ وثلث من مكة، وهو غلط واضح، فقد قال أبو عبيد البكري: الحجون الجبل المشرف بحذاء المسجد الذي يلي شعب الجرارين. وقال أبو علي القالي: الحجون ثنية المدنيين - أي من يقدم من المدينة - وهي - مقبرة أهل مكة عند شعب الجرارين انتهى. ويدل على غلط السهيلي قول الشاعر: سنبكيك ما أرسى ثبير مكانه وما دام جارا للحجون المحصب وقد تقدم ذكر المحصب وحده وأنه خارج مكة، وروى الواقدي عن أشياخه أن قصي بن كلاب لما مات دفن بالحجون فتدافن الناس بعده، وأنشد الزبير لبعض أهل مكة: كم بالحجون وبينه من سيد بالشعب بين دكادك وأكام والجرارين التي تقدم جمع جرار بجيم وراء ثقيلة ذكرها الرضي الشاطبي وكتب على الراء صح صح، وذكر الأزرقي أنه شعب أبي دب رجل من بني عامر. قلت: وقد جهل هذا الشعب الآن إلا أن بين سور مكة الآن وبين الجبل المذكور مكانه يشبه الشعب فلعله هو. قوله: (ونحن يومئذ خفاف) زاد مسلم في روايته خفاف الحقائب، والحقائب جمع حقيبة بفتح المهملة وبالقاف وبالموحدة وهي ما احتقبه الراكب خلفه من حوائجه في موضع الرديف. قوله: (فاعتمرت أنا وأختي) أي بعد أن فسخوا الحج إلى العمرة، ففي رواية صفية بنت شيبة عن أسماء " قدمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فقال: من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن لم يكن منه هدي فليحل، فلم يكن معي هدي فأحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحل " انتهى. وهذا مغاير لذكرها الزبير مع من أحل في رواية عبد الله مولى أسماء، فإن قضية رواية صفية عن أسماء أنه لم يحل لكونه ممن ساق الهدي، فإن جمع بينهما بأن القصة المذكورة وقعت لها مع الزبير في غير حجة الوداع - كما أشار إليه النووي على بعده - وإلا فقد رجح عند البخاري رواية عبد الله مولى أسماء فاقتصر على إخراجها دون رواية صفية بنت شيبة، وأخرجهما مسلم مع ما فيهما من الاختلاف. ويقوي صنيع البخاري ما تقدم في " باب الطواف على وضوء " من طريق محمد بن عبد الرحمن وهو أبو الأسود المذكور في هذا الإسناد قال: سألت عروة بن الزبير. فذكر حديثا وفي آخره " وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة، فلما مسحوا الركن حلوا " والقائل " أخبرتني " عروة المذكور، وأمه هي أسماء بنت أبي بكر، وهذا موافق لرواية عبد الله مولى أسماء عنها. وفيه إشكال آخر وهو ذكرها لعائشة فيمن طافه والواقع أنها كانت حينئذ حائضا، وكنت أولته هناك على أن المراد أن تلك العمرة كانت في وقت آخر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن سياق رواية هذا الباب تأباه، فإنه ظاهر في أن المقصود العمرة التي وقعت لهم في حجة الوداع، والقول فيما وقع من ذلك في حق الزبير كالقول في حق عائشة سواء، وقد قال عياض في الكلام عليه: ليس هو على عمومه، فإن المراد من عدا عائشة، لأن الطرق الصحيحة فيها أنها حاضت فلم تطف بالبيت ولا تحللت من عمرتها. قال: وقيل لعل عائشة أشارت إلى عمرتها التي فعلتها من التنعيم، ثم حكي التأويل السابق وأنها أرادت عمرة أخرى في غير التي في حجة الوداع، وخطأه ولم يعرج على ما يتعلق بالزبير من ذلك. قوله: (وفلان وفلان) كأنها سمت بعض من عرفته ممن لم يسق الهدي، ولم أقف على تعيينهم، فقد تقدم من حديث عائشة أن أكثر الصحابة كانوا كذلك. قوله: (فلما مسحنا البيت) أي طفنا بالبيت فاستلمنا الركن، وقد تقدم في " باب الطواف على غير وضوء " من حديث عائشة بلفظ " مسحنا الركن " وساغ هذا المجاز لأن كل من طاف بالبيت يمسح الركن فصار يطلق على الطواف كما قال عمر بن أبى ربيعة: ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح أي طاف من هو طائف، قال عياض: ويحتمل أن يكون معنى مسحوا طافوا وسعوا، وحذف السعي اختصارا لما كان منوطا بالطواف، قال: ولا حجة في هذا الحديث لمن لم يوجب السعي لأن أسماء أخبرت أن ذلك كان في حجة الوداع، وقد جاء مفسرا من طرق أخرى صحيحة أنهم طافوا معه وسعوا فيحمل ما أجمل على ما بين والله أعلم، واستدل به على أن الحلق أو التقصير استباحة محظور لقولها إنهم أحلوا بعد الطواف، ولم يذكر الحلق. وأجاب من قال بأنه نسك بأنها سكتت عنه ولا يلزم من ذلك ترك فعله، فإن القصة واحدة. وقد ثبت الأمر بالتقصير في عدة أحاديث منها حديث جابر المصدر بذكره. واختلفوا فيمن جامع قبل أن يقصر بعد أن طاف وسعى فقال الأكثر: عليه الهدي. وقال عطاء: لا شيء عليه. وقال الشافعي: تفسد عمرته وعليه المضي في فاسدها وقضاؤها. واستدل به الطبري على أن من ترك التقصير حتى يخرج من الحرم لا شيء عليه، بخلاف من قال عليه دم. *3*باب مَا يَقُولُ إِذَا رَجَعَ مِنْ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ الْغَزْوِ الشرح: قوله: (باب ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو) أورد المصنف هنا تراجم تتعلق بآداب الراجع من السفر لتعلق ذلك بالحاج والمعتمر، وهذا في حق المعتمر الآفاقي، وقد ترجم لحديث الباب حديث نافع عن ابن عمر في الدعوات ما يقول إذا أراد سفرا أو رجع، ويأتي الكلام عليه مستوفي هناك إن شاء الله تعالى. *3*باب اسْتِقْبَالِ الْحَاجِّ الْقَادِمِينَ وَالثَّلَاثَةِ عَلَى الدَّابَّةِ الشرح: قوله: (باب استقبال الحاج القادمين والثلاثة على الدابة) اشتملت هذه الترجمة على حكمين، وأورد فيها حديث ابن عباس لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم استقبله أغيلمة بني عبد المطلب أي صبيانهم، ودلالة حديث الباب على الثاني ظاهرة، وقد أفردها بالذكر قبيل كتاب الأدب وأورد فيها هذا الحديث بعينه، ويأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى، وبيان أسماء من حمله من بني عبد المطلب، وقوله "أغيلمة " تصغير غلمة بكسر الغين المعجمة وغلمة جمع غلام، وأما الحكم الأول فأخذه من حديث الباب من طريق العموم، لأن قدومه صلى الله عليه وسلم مكة أعم من أن يكون في حج أو عمرة أو غزو، وقوله "القادمين " صفة للحاج لأنه يقال للمفرد وللجمع، وكون الترجمة لتلقي القادم من الحج، والحديث دال على تلقي القادم للحج ليس بينهما تخالف لاتفاقهما من حيث المعنى. والله أعلم. *3*باب الْقُدُومِ بِالْغَدَاةِ الشرح: قوله: (باب القدوم بالغداة) أورد فيه حديث ابن عمر في خروجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة من طريق الشجرة ومبيته بذي الحليفة إذا رجع، فيه ما ترجم له. وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في أوائل الحج. *3*باب الدُّخُولِ بِالْعَشِيِّ الشرح: قوله: (باب الدخول بالعشي) قال الجوهري: العشية من صلاة المغرب إلى العتمة، وقيل هي من حين الزوال. قلت والمراد هنا الأول، وكأنه عقب الترجمة الأولى بهذه ليبين أن الدخول في الغداة لا يتعين، وإنما المنهي عنه الدخول ليلا، وقد بين علة ذلك في حديث جابر حيث قال " لتمتشط الشعثة " الحديث، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في كتاب النكاح. *3*باب لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ الشرح: قوله: (باب لا يطرق أهله) ، أي لا يدخل عليهم ليلا إذا قدم من سفر، يقال طرق يطرق بضم الراء، وأما قوله في حديث جابر في الباب الذي بعده " أن يطرق أهله ليلا " فللتأكيد لأجل رفع المجاز لاستعمال طرق في النهار، وقد حكى ابن فارس طرق بالنهار وهو مجاز. قوله: (إذا بلغ المدينة) في رواية السرخسي " إذا دخل " والمراد بالمدينة البلد الذي يقصد دخولها، والحكمة في هذا النهي مبينة في حديث جابر المذكور في الباب حيث أورده مطولا في أبواب عشرة النساء من كتاب النكاح، ويأتي الكلام عليه مستوفي هناك إن شاء الله تعالى. *3*باب مَنْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ إِذَا بَلَغَ الْمَدِينَةَ الشرح: قوله: (باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة) قال الإسماعيلي، قوله " أسرع ناقته " ليس بصحيح، والصواب أسرع بناقته يعني أنه لا يتعدى بنفسه وإنما يتعدى بالباء. وفيما قاله نظر. فقد حكى صاحب المحكم أن أسرع يتعدى بنفسه ويتعدى بحرف الجر. وقال الكرماني: قول البخاري " أسرع ناقته " أصله أسرع بناقته فنصب بنزع الخافض. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ زَادَ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ حُمَيْدٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ جُدُرَاتِ تَابَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ الشرح: قوله: (محمد بن جعفر) أي ابن أبي كثير المدني أخو إسماعيل. قوله: (فأبصرت درجات) بفتح المهملة والراء بعدها جيم جمع درجة كذا للأكثر والمراد طرقها المرتفعة، وللمستملي " دوحات " بفتح المهملة وسكون الواو بعدها مهملة جمع دوحة وهي الشجرة العظيمة. وفي رواية إسماعيل بن جعفر عن حميد " جدرات " بضم الجيم والدال كما وقع في هذا الباب، وهو جمع جدر بضمتين جمع جدار، وقد رواه الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ " جدران " بسكون الدال وآخره نون جمع جدار، له من رواية أبي ضمرة عن حميد بلفظ " جدر " قال صاحب " المطالع ": جدرات أرجح من دوحات ومن درجات. قلت: وهي رواية الترمذي من طريق إسماعيل بن جعفر أيضا. قوله: (أوضع) أي أسرع السير. قوله: (زاد الحارث بن عمير عن حميد) يعني عن أنس (من حبها) وهو يتعلق بقوله حركها أي حرك دابته بسبب حبه المدينة، ثم قال المصنف " حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل وهو ابن جعفر عن حميد عن أنس قال جدرات، تابعه الحارث بن عمير " يعني في قوله " جدرات " ورواية الحارث بن عمير هذه وصلها الإمام أحمد قال " حدثنا إبراهيم بن إسحاق حدثنا الحارث بن عمير عن حميد الطويل عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدرات المدينة أوضع ناقته، وإن كان على دابة حركها من حبها " وأخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق خالد بن مخلد عن محمد بن جعفر بن أبي كثير والحارث بن عمير جميعا عن حميد، وقد أورد المصنف طريق قتيبة المذكورة في فضائل المدينة بلفظ الحارث بن عمير، إلا أنه قال " راحلته " بدل ناقته، ووقع في نسخة الصغاني " وزاد الحارث بن عمير وغيره عن حميد " وقد نبهت على من رواه كذلك موافقا للحارث بن عمير في الزيادة المذكورة. وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه. |
08-14-2013, 12:34 PM | #512 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا الشرح:
قوله: (باب قول الله تعالى وأتوا البيوت من أبوابها) أي بيان نزول هذه الآية. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا كَانَتْ الْأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ فَنَزَلَتْ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا الشرح: قوله: (عن أبي إسحاق) هو السبيعي. قوله: (كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا) هذا ظاهر في اختصاص ذلك بالأنصار، ولكن سيأتي في حديث جابر أن سائر العرب كانوا كذلك إلا قريشا، ورواه عبد بن حميد من مرسل قتادة كما قال البراء، وكذلك أخرجه الطبري من مرسل الربيع بن أنس نحوه. قوله: (إذا حجوا) سيأتي في تفسير البقرة من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق بلفظ " إذا أحرموا في الجاهلية". قوله: (فجاء رجل من الأنصار) هو قطبة بضم القاف وإسكان المهملة بعدها موحدة ابن عامر بن حديدة بمهملات وزن كبيرة الأنصاري الخزرجي السلمي كما أخرجه ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما من طريق عمار بن زريق " عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: كانت قريش تدعي الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من الأبواب، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان فخرج من بابه فخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قطبة رجل فاجر، فإنه خرج معك من الباب فقال: ما حملك على ذلك؟ فقال رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت: قال: إني أحمسي، قال فإن ديني دينك، فأنزل الله الآية " وهذا الإسناد وإن كان على شرط مسلم لكن اختلف في وصله على الأعمش عن أبي سفيان فرواه عبد بن حميد عنه فلم يذكر جابرا أخرجه تقي وأبو الشيخ في تفسيرهما من طريقه، وكذا سماه الكلبي في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس، وكذا ذكر مقاتل بن سليمان في تفسيره. وجزم البغوي وغيره من المفسرين بأن هذا الرجل يقال له رفاعة بن تابوت، واعتمدوا في ذلك على ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير من طريق داود بن أبي هند " عن قيس بن جبير النهشلي قال: كانوا إذا أحرموا لم يأتوا بيتا من قبل بابه، ولكن من قبل ظهره، وكانت الحمس تفعله، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا فاتبعه رجل يقال له رفاعة بن تابوت ولم يكن من الحمس " فذكر القصة، وهذا مرسل، والذي قبله أقوى إسنادا فيجوز أن يحمل على التعدد في القصة، إلا أن في هذا المرسل نظرا من وجه آخر، لأن رفاعة بن تابوت معدود في المنافقين، وهو الذي هبت الريح العظيمة لموته كما وقع مبهما في صحيح مسلم ومفسرا في غيره من حديث جابر، فإن لم يحمل على أنهما رجلان توافق اسمهما واسم أبويهما وإلا فكونه قطبة بن عامر أولى، ويؤيده أن في مرسل الزهري عند الطبري " فدخل رجل من الأنصار من بني سلمة " وقطبة من بني سلمه بخلاف رفاعة، ويدل على التعدد اختلاف القول في الإنكار على الداخل، فإن في حديث جابر " فقالوا إن قطبة رجل فاجر " وفي مرسل قيس بن جبير " فقالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نافق رفاعة " لكن ليس بممتنع أن يتعدد القائلون في القصة الواحدة، وقد وقع في حديث ابن عباس عند ابن جريج أن القصة وقعت أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وفي إسناده ضعف وفي مرسل الزهري أن ذلك وقع في عمرة الحديبية، وفي مرسل السدي عند الطبري أيضا أن ذلك وقع في حجة الوداع، وكأنه أخذه من قوله " كانوا إذا حجوا " لكن وقع في رواية الطبري " كانوا إذا أحرموا " فهذا يتناول الحج والعمرة، والأقرب ما قال الزهري، وبين الزهري السبب في صنيعهم ذلك فقال: كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء فكان الرجل إذا أهل فبدت له حاجة في بيته لم يدخل من الباب من أجل السقف أن يحول بينه وبين السماء " واتفقت الروايات على نزول الآية في سبب الإحرام إلا ما أخرجه عبد بن حميد بإسناد صحيح عن الحسن قال " كان الرجل من الجاهلية يهم بالشيء يصنعه فيحبس عن ذلك فلا يأتي بيتا من قبل بابه حتى يأتي الذي كان هم به " فجعل ذلك من باب الطيرة، وغيره جعل ذلك بسبب الإحرام، وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال " كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت فنزلت " أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد ضعيف وأغرب الزجاج في معانيه فجزم بأن سبب نزولها ما روي عن الحسن، لكن ما في الصحيح أصح والله أعلم. واتفقت الروايات على أن الحمس كانوا لا يفعلون ذلك بخلاف غيرهم، وعكس ذلك مجاهد فقال " كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم ثقب كوة في ظهر بيته فدخل منها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من المشركين فدخل من الباب، وذهب المشترك ليدخل من الكوة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ فقال: إني أحمسي، فقال: وأنا أحمسي، فنزلت " أخرجه الطبري. *3*باب السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ الشرح: قوله: (باب السفر قطعة من العذاب) قال ابن المنير: أشار البخاري بإيراد هذه الترجمة في أواخر أبواب الحج والعمرة أن الإقامة في الأهل أفضل من المجاهدة انتهى، وفيه نظر لا يخفى، لكن يحتمل أن يكون المصنف أشار بإيراده في الحج إلى حديث عائشة بلفظ " إذا قضى أحدكم حجه فليعجل إلى أهله " وسيأتي بيان من أخرجه. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ الشرح: قوله: (عن سمي) كذا لأكثر الرواة عن مالك، وكذا هو في الموطأ، وصرح يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك بتحديث سمي له به، وشذ خالد بن مخلد عن مالك فقال " عن سهيل " بدله سمي أخرجه ابن عدي، وذكر الدارقطني أن ابن الماجشون رواه عن مالك عن سهيل أيضا فتابع خالد من مخلد، لكن قال الدارقطني. أن أبا علقمة القروي تفرد به عن ابن الماجشون وأنه وهم فيه، ورواه الطبراني عن أحمد عن بشير الطيالسي عن محمد بن جعفر الوركاني عن مالك عن سهيل، وخالفه موسى بن هرون فرواه عن الوركاني عن مالك عن سمي، قال الدارقطني حدثنا به دعلج عن موسى، قال: والوهم في هذا من الطبراني أو من شيخه؛ وسمي هو المحفوظ في رواية مالك قاله ابن عدي، وأخرجه الدارقطني وغيرهما ولم يروه عن سمي غير مالك قاله ابن عبد البر، ثم أسند عن عبد الملك بن الماجشون قال قال مالك: ما لأهل العراق يسألونني عن حديث " السفر قطعة من العذاب "؟ فقيل له لم يروه عن سمي أحد غيرك، فقال: لو عرفت ما حدثت به، وكان مالك ربما أرسله لذلك، ورواه عتيق بن يعقوب عن مالك عن أبي النضر عن أبي صالح، ووهم فيه أيضا على مالك أخرجه الطبراني والدارقطني، ورواه رواد بن الجراح عن مالك فزاد فيه إسنادا آخر فقال عن ربيعة عن القاسم عن عائشة، وعن سمي بإسناده فذكره، قال الدارقطني أخطأ فيه رواد بن الجراح، وأخرجه ابن عبد البر من طريق أبي مصعب عن عبد العزيز الدراوردي عن سهيل عن أبيه، هذا يدل على أن له في حديث سهيل أصلا وأن سميا لم ينفرد به، وقد أخرجه أحمد في مسنده من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة، وأخرجه ابن عدي من طريق جمهان عن أبي هريرة أيضا فلم ينفرد به أبو صالح، وأخرجه الدارقطني والحاكم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بإسناد جيد فلم ينفرد به أبو هريرة، بل في الباب عن ابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وجابر عند ابن عدي أسانيد ضعيفة. قوله: (السفر قطعة من العذاب) أي جزء منه، والمراد بالعذاب الألم الناشئ عن المشقة لما يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف. قوله: (يمنع أحدكم) كأنه فصله عما قبله بيانا لذلك بطريق الاستئناف كالجواب لمن قال كان كذلك فقال: يمنع أحدكم نومه إلخ أي وجه التشبيه الاشتمال على المشقة، وقد ورد التعليل في رواية سعيد المقبري ولفظه " السفر قطعة من العذاب، لأن الرجل يشتغل فيه عن صلاته وصيامه " فذكر الحديث، والمراد بالمنع في الأشياء المذكورة منع كمالها لا أصلها، وقد وقع عند الطبراني بلفظ " لا يهنأ أحدكم بنومه ولا طعامه ولا شرابه " وفي حديث ابن عمر عند ابن عدي " وأنه ليس له دواء إلا سرعة السير " قوله: (نهمته) بفتح النون وسكون الهاء أي حاجته من وجهه أي من مقصده وبيانه في حديث ابن عدي بلفظ " إذا قضى أحدكم وطره من سفره " وفي رواية رواد بن الجراح " فإذا فرغ أحدكم من حاجته". قوله: (فليعجل إلى أهله) في رواية عتيق وسعيد المقبري " فليعجل الرجوع إلى أهله " وفي رواية أبي مصعب " فليعجل الكرة إلى أهله " وفي حديث عائشة " فليعجل الرحلة إلى أهله " فإنه اعظم لأجره " قال ابن عبد البر: زاد فيه بعض الضعفاء عن مالك " وليتخذ لأهله هدية وإن لم يجد إلا حجرا " يعني حجر الزناد، قال: وهي زيادة منكرة، وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة، واستحباب استعجال الرجوع ولا سيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة، ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا، ولما في الإقامة من تحصيل الجماعات والقوة العبادة. قال ابن بطال: ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث ابن عمر مرفوعا " سافروا تصحوا " فإنه لا يلزم من الصحة بالسفر لما فيه من الرياضة أن لا يكون قطعة من العذاب لما فيه من المشقة، فصار كالدواء المر المعقب للصحة وإن كان في تناوله الكراهة، واستنبط منه الخطابي تغريب الزاني لأنه قد أمر بتعذيبه - والسفر من جملة العذاب - ولا يخفى ما فيه. (لطيفة) : سئل إمام الحرمين حين جلس موضع أبيه: لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: لأن فيه فراق الأحباب. *3*باب الْمُسَافِرِ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ يُعَجِّلُ إِلَى أَهْلِهِ الشرح: قوله: (باب المسافر إذا جد به السير ويعجل إلى أهله) أي ماذا يصنع؟ كذا ثبتت الواو في رواية الكشميهني وهي رواية النسفي، وأورد المصنف فيه قصة ابن عمر حين بلغه عن صفية شدة الوجع فأسرع السير، وقد تقدم الكلام عليه في أبواب تقصير الصلاة، وسيأتي من هذا الوجه في أبواب الجهاد، وبالله التوفيق. (خاتمة) : اشتملت أبواب العمرة وما في آخرها من آداب الرجوع من السفر من الأحاديث المرفوعة على أربعين حديثا، المعلق منها أربعة والبقية موصولة المكرر منها وفيها وفيما مضى أحد وعشرون حديثا وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث ابن عمر في الاعتمار قبل الحج، وحديث البراء فيه، وحديث عائشة " العمرة على قدر النصب"، وحديث ابن عباس في إرداف اثنين. وفيه من الموقوفات خمسة آثار منها ثلاثة موصولة في ضمن حديث البراء. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. |
08-21-2013, 03:51 PM | #513 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
المجلد الرابع *2*أَبْوَابُ الْمُحْصَرِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ
الشرح: قوله: (باب المحصر وجزاء الصيد) ثبتت البسملة للجميع، وذكر أبو ذر " أبواب " بلفظ الجمع، وللباقين " باب " بالإفراد. *3*وَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وَقَالَ عَطَاءٌ الْإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ حَصُورًا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ الشرح: قوله: (وقول الله تعالى: فإن أحصرتم) أي وتفسير المراد من قوله: (فإن أحصرتم) وأما قوله (ولا تحلقوا رءوسكم) فسيأتي في الباب الذي يليه. وفي اقتصاره على تفسير عطاء إشارة إلى أنه اختار القول بتعميم الإحصار، وهي مسألة اختلاف بين الصحابة وغيرهم، فقال كثير منهم: الإحصار من كل حابس حبس الحاج من عدو ومرض وغير ذلك، حتى أفتى ابن مسعود رجلا لدغ بأنه محصر، أخرجه ابن جرير بإسناد صحيح عنه. وقال النخعي والكوفيون: الحصر الكسر والمرض والخوف، واحتجوا بحديث حجاج بن عمرو الذي سنذكره في آخر الباب. وأثر عطاء المشار إليه وصله عبد بن حميد عن أبي نعيم عن الثوري عن ابن جريج عنه قال في قوله تعالى (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) قال: الإحصار من كل شيء يحبسه. وكذا رويناه في تفسير الثوري رواية أبي حذيفة عنه. وروى ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه، ولفظه " فإن أحصرتم، قال: من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدى، فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد الفريضة فلا قضاء عليه " وقال آخرون: لا حصر إلا بالعدو، وصح ذلك عن ابن عباس، أخرجه عبد الرزاق عن معمر، وأخرجه الشافعي عن ابن عيينة كلاهما عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال " لا حصر إلا من حبسه عدو فيحل بعمرة، وليس عليه حج ولا عمرة"، وروى مالك في " الموطأ " والشافعي عنه عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه قال " من حبس دون البيت بالمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت " وروى مالك عن أيوب عن رجل من أهل البصرة قال " خرجت إلى مكة حتى إذا كنت بالطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة - وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس - فلم يرخص لي أحد في أن أحل، فأقمت على ذلك الماء تسعة أشهر ثم حللت بعمرة"، وأخرجه ابن جرير من طرق وسمى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخير، وبه قال مالك والشافعي وأحمد. قال الشافعي: جعل الله على الناس إتمام الحج والعمرة، وجعل التحلل للمحصر رخصة، وكانت الآية في شأن منع العدو فلم نعد بالرخصة موضعها. وفي المسألة قول ثالث حكاه ابن جرير وغيره، وهو أنه لا حصر بعد النبي، وروى مالك في " الموطأ " عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه " المحرم لا يحل حتى يطوف". أخرجه في " باب ما يفعل من أحصر بغير عدو". وأخرج ابن جرير عن عائشة بإسناد صحيح قالت " لا اعلم المحرم يحل بشيء دون البيت " وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال " لا إحصار اليوم " وروى ذلك عن عبد الله بن الزبير، والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تفسير الإحصار، فالمشهور عن أكثر أهل اللغة - منهم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيدة وأبو عبيد وابن السكيت وثعلب وابن قتيبة وغيرهم - أن الإحصار إنما يكون بالمرض، وأما بالعدو فهو الحصر وبهذا قطع النحاس، وأثبت بعضهم أن أحصر وحصر بمعنى واحد، يقال في جميع ما يمنع الإنسان من التصرف قال تعالى (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض) وإنما كانوا لا يستطيعون من منع العدو إياهم، وأما الشافعي ومن تابعه فحجتهم في أن لا إحصار إلا بالعدو اتفاق أهل النقل على أن الآيات نزلت في قصة الحديبية حين صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت، فسمى الله صد العدو إحصارا، وحجة الآخرين التمسك بعموم قوله تعالى (فإن أحصرتم) . قوله: (قال أبو عبد الله: حصورا لا يأتي النساء) هكذا ثبت هذا التفسير هنا في رواية المستملي خاصة، ونقله الطبري عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد، وقد حكاه أبو عبيدة في " المجاز " وقال: إن له معاني أخرى فذكرها، وهو بمعنى محصور لأنه منع مما يكون من الرجال، وقد ورد فعول بمعنى مفعول كثيرا. وكأن البخاري أراد بذكر هذه الآية الإشارة إلى أن المادة واحدة، والجامع بين معانيها المنع، والله أعلم. *3*باب إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ الشرح: قوله: (باب إذا أحصر المعتمر) قيل غرض المصنف بهذه الترجمة الرد على من قال التحلل بالإحصار خاص بالحاج بخلاف المعتمر فلا يتحلل بذلك بل يستمر على إحرامه حتى يطوف بالبيت، لأن السنة كلها وقت للعمرة فلا يخشى فواتها بخلاف الحج، وهو محكي عن مالك، واحتج له إسماعيل القاضي بما أخرجه بإسناد صحيح عن أبي قلابة قال: خرجت معتمرا، فوقعت عن راحلتي فانكسرت، فأرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا: ليس لها وقت كالحج يكون على إحرامه حتى يصل إلى البيت. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ قَالَ إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الشرح: قوله: (أن عبد الله بن عمر حين خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة) هذا السياق يشعر بأنه عن نافع عن ابن عمر بغير واسطة، لكن رواية جويرية التي بعده تقتضي أن نافعا حمل ذلك عن سالم وعبيد الله ابني عبد الله بن عمر عن أبيهما حيث قال فيها: عن جويرية عن نافع أن عبيد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله أخبراه أنهما كلما عبد الله بن عمر، فذكر القصة والحديث، هكذا قال البخاري عن عبد الله بن محمد ابن أسماء، ووافقه الحسن بن سفيان وأبو يعلى كلاهما عن عبد الله، أخرجه الإسماعيلي عنهما، وتابعهم معاذ بن المثني عن عبد الله بن محمد بن أسماء، أخرجه البيهقي. لكن في رواية موسى بن إسماعيل عن جويرية عن نافع أن بعض بني عبد الله بن عمر قال له، فذكر الحديث. وظاهره أنه لنافع عن ابن عمر بغير واسطة، وقد عقب البخاري رواية عبد الله برواية موسى لينبه على الاختلاف في ذلك، واقتصر في رواية موسى هنا على الإسناد، وساقه في المغازي بتمامه. وقد رواه يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع كذلك ولفظه " أن عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله كلما عبد الله، فذكر الحديث " أخرجه مسلم، وقد أخرجه البخاري في المغازي عن مسدد عن يحيى مختصرا قال فيه عن نافع عن ابن عمر أنه أهل فذكر بعض الحديث. وفي قوله عن نافع عن ابن عمر دلالة على أنه لا واسطة بين نافع وابن عمر فيه كما هو ظاهر سياق مسلم، وأخرجه البخاري كما سيأتي بعد باب من طريق عمر بن محمد عن نافع مثل سياق يحيى عن عبيد الله سواء، وأخرجه في المغازي من طريق فليح وفيما مضى من الحج من طريق أيوب والليث كلهم عن نافع، وأعرض مسلم عن تخريج طريق جويرية ووافق على طريق تخريج الليث وأيوب عن عبيد الله ابن عمر، وكذا أخرجه النسائي من طريق أيوب بن موسى وإسماعيل بن أمية كلهم عن نافع عن ابن عمر بغير واسطة. والذي يترجح في نقدي أن ابني عبد الله أخبرا نافعا بما كلما به أباهما وأشارا عليه به من التأخير ذلك العام، وأما بقية القصة فشاهدها نافع وسمعها من ابن عمر لملازمته إياه، فالمقصود من الحديث موصول، وعلى تقدير أن يكون نافع لم يسمع شيئا من ذلك من ابن عمر فقد عرف الواسطة بينهما وهي ولدا عبد الله ابن عمر سالم وعبد الله وهما ثقتان لا مطعن فيهما، ولم أر من نبه على ذلك من شراح البخاري. ووقع في رواية جويرية المذكورة عبيد الله بن عبد الله بالتصغير. وفي رواية يحيى القطان المذكورة عبد الله بالتكبير، وكذا في رواية عمر بن محمد عن نافع، قال البيهقي: عبد الله - يعني مكبرا - أصح. قلت: وليس بمستبعد أن يكون كل منهما كلم أباه في ذلك، ولعل نافعا حضر كلام عبد الله المكبر مع أخيه سالم ولم يحضر كلام عبيد الله المصغر مع أخيه سالم أيضا بل أخبراه بذلك فقص عن كل ما انتهى إليه علمه. قوله: (معتمرا) في الموطأ من هذا الوجه " خرج إلى مكة يريد الحج. فقال: إن صددت " فذكره، ولا اختلاف، فإنه خرج أولا يريد الحج فلما ذكروا له أمر الفتنة أحرم بالعمرة ثم قال: ما شأنهما إلا واحدا فأضاف إليها الحج فصار قارنا. قوله: (في الفتنة) بينه في رواية جويرية فقال " ليالي نزل الجيش بابن الزبير " وقد مضى في " باب طواف القارن " من طريق الليث عن نافع بلفظ " حين نزل الحجاج بابن الزبير " ولمسلم رواية في يحيى القطان المذكورة " حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير " وقد تقدم في " باب من اشترى هديه من الطريق " من رواية موسى بن عقبة عن نافع " أراد ابن عمر الحج عام حج الحرورية". وتقدم طريق الجمع بينه وبين رواية الباب. قوله: (إن صددت عن البيت) هذا الكلام قاله جوابا لقول من قال له. إنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت، كما أوضحته الرواية التي بعد هذه. قوله: (كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية موسى بن عقبة " فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إذن اصنع كما صنع " زاد في رواية الليث عن نافع في " باب طواف القارن " " كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم " ونحوه في رواية أيوب عن نافع في " باب طواف القارن". قوله: (فأهل) يعني ابن عمر، والمراد أنه رفع صوته بالإهلال والتلبية، زاد في رواية جويرية التي بعد هذه " فقال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه". قوله: (من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أهل بعمرة عام الحديبية) . قال النووي: معناه أنه أراد إن صددت عن البيت وأحصرت تحللت من العمرة كما تحلل النبي صلى الله عليه وسلم من العمرة. وقال عياض: يحتمل أن المراد أهل بعمرة كما أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة، ويحتمل أنه أراد الأمرين أي من الإهلال والإحلال وهو الأظهر. وتعقبه النووي، وليس هو بمردود. قوله: (بعمرة) زاد في رواية جويرية " من ذي الحليفة " وفي رواية أيوب الماضية " فأهل بالعمرة من الدار " والمراد بالدار المنزل الذي نزله بذي الحليفة، ويحتمل أن يحمل على الدار التي بالمدينة ويجمع بأنه أهل بالعمرة من داخل بيته، ثم أعلن بها وأظهرها بعد أن استقر بذي الحليفة. قوله: (عام الحديبية) سيأتي بيان ذلك وشرحه في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى، وأورده المصنف بعد بابين عن إسماعيل - وهو ابن أبي أويس - عن مالك فزاد فيه " ثم إن عبد الله بن عمر نظر في أمره فقال: ما أمرهما إلا واحد " أي الحج والعمرة فيما يتعلق بالإحصار والإحلال، فالتفت إلى أصحابه فذكر القصة. وبين في رواية جويرية أن ذلك وقع بعد أن سار ساعة، وهو يؤيد الاحتمال الأول الماضي في أن المراد بالدار المنزل الذي نزله بذي الحليفة. ووقع في رواية الليث " أشهدكم أني قد أوجبت عمرة. ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد". ولو كان إيجابه العمرة من داره التي بالمدينة لكان ما بينها وبين ظاهر البيداء أكثر من ساعة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيَالِيَ نَزَلَ الْجَيْشُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَحُجَّ الْعَامَ وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْطَلِقُ فَإِنْ خُلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ وَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَهْدَى وَكَانَ يَقُولُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ لَوْ أَقَمْتَ بِهَذَا الشرح: قوله (فلم يحل منهما حتى حل يوم النحر) زاد في رواية الليث " فنحر وحلق " ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول. وهذا ظاهره أنه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة، وهو مشكل. ووقع في رواية إسماعيل المذكورة " ثم طاف لهما طوافا واحدا ورأى أن ذلك مجزئ عنه " وقد تقدم البحث في ذلك في آخر " باب طواف القارن". قوله في رواية جويرية (أشهدكم أني قد أوجبت) أي ألزمت نفسي ذلك، وكأنه أراد تعليم من يريد الاقتداء به، وإلا فالتلفظ ليس بشرط. قوله: (وإن حيل بيني وبينه) أي البيت - أي منعت من الوصول إليه لأطوف - تحللت بعمل العمرة، وهذا يبين أن المراد بقوله " ما أمرهما إلا واحد " يعني الحج والعمرة في جواز التحلل منهما بالإحصار أو في إمكان الإحصار عن كل منهما، ويؤيد الثاني قوله في رواية يحيى القطان المذكورة بعد قوله ما أمرهما إلا واحد " إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحج " فكأنه رأى أولا أن الإحصار عن الحج أشد من الإحصار عن العمرة لطول زمن الحج وكثرة أعماله فاختار الإهلال بالعمرة، ثم رأى أن الإحصار بالحج يفيد التحلل عنه بعمل العمرة فقال " ما أمرهما إلا واحد". وفيه أن الصحابة كانوا يستعملون القياس ويحتجون به. وفي هذا الحديث من الفوائد أن من أحصر بالعدو بأن منعه عن المضي في نسكه حجا كان أو عمرة جاز له التحلل بأن ينوي ذلك وينحر هديه ويحلق رأسه أو يقصر منه. وفيه جواز إدخال الحج على العمرة وهو قول الجمهور، لكن شرطه عند الأكثر أن يكون قبل الشروع في طواف العمرة، وقيل إن كان قبل مضي أربعة أشواط صح، وهو قول الحنفية، وقيل بعد تمام الطواف وهو قول المالكية، ونقل عبد البر أن أبا ثور شذ فمنع إدخال الحج على العمرة قياسا على منع إدخال العمرة على الحج. وفيه أن القارن يقتصر على طواف واحد، وقد تقدم البحث فيه في بابه. وفيه أن القارن يهدي، وشذ ابن حزم فقالا: لا هدي على القارن. وفيه جواز الخروج إلى النسك في الطريق المظنون خوفه إذا رجى السلامة، قاله ابن عبد البر. قوله في رواية موسى بن إسماعيل (أن بعض بني عبد الله) قد تقدم اسمه في الرواية التي قبلها وأنه سالم بن عبد الله أو أخوه عبيد الله أو عبد الله، ولم يظهر لي من الذي تولى مخاطبته منهم. (تنبيه) وقع في رواية القعنبي عن مالك في أول أحاديث الباب في آخر قصة ابن عمر زيادة وهي " وأهدى شاة " قال ابن عبد البر: هي زيادة غير محفوظة، لأن ابن عمر كان يفسر ما استيسر من الهدي بأنه بدنة دون بدنة أو بقرة دون بقرة فكيف يهدي شاة. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَجَامَعَ نِسَاءَهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا الشرح: قوله (حدثنا محمد) كذا في جميع الروايات غير منسوب، فجزم الحاكم بأنه محمد بن يحيى الذهلي، وأبو مسعود بأنه محمد بن مسلم بن وارة، وذكر الكلاباذي عن ابن أبي سعيد أنه أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، وذكر أنه رآه في أصل عتيق، ويؤيده أن الحديث وجد من حديثه عن يحيى بن صالح المذكور، كذلك أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريق أبي حاتم، ورواية البخاري عنه في باب الذبح فإنه روى عنه البخاري. قلت: ويحتمل أن يكون هو محمد بن إسحاق الصغاني فقد وجدت الحديث من روايته عن يحيى بن صالح كما سأذكره. قوله: (عن عكرمة قال فقال ابن عباس) هكذا رأيته في جميع النسخ وهو يقتضي سبق كلام يعقبه قوله " فقال ابن عباس " ولم ينبه عليه أحد من شراح هذا الكتاب ولا بينه الإسماعيلي ولا أبو نعيم لأنهما اقتصرا من الحديث على ما أخرجه البخاري، وقد بحثت عنه إلى أن يسر الله بالوقوف عليه، فقرأت في " كتاب الصحابة " لابن السكن قال " حدثني هارون بن عيسى حدثنا الصغاني هو محمد بن إسحاق أحد شيوخ مسلم حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية بن سلام عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت عكرمة فقال: قال عبد الله بن رافع مولي أم سلمة إنها سألت الحجاج بن عمرو الأنصاري عمن حبس وهو محرم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عرج أو كسر أو حبس فليجزئ مثلها وهو في حل " قال فحدثت به أبا هريرة فقال: صدق، وحدثته ابن عباس فقال: قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق ونحر هديه وجامع نساءه حتى اعتمر عاما قابلا"، فعرف بهذا السياق القدر الذي حذفه البخاري من هذا الحديث، والسبب في حذفه أن الزائد ليس على شرطه لأنه قد اختلف في حديث الحجاج بن عمرو على يحيى بن أبي كثير عن عكرمة مع كون عبد الله بن رافع ليس من شرط البخاري فأخرجه أصحاب السنن وابن خزيمة والدار قطني والحاكم من طرق عن الحجاج الصواف عن يحيى عن عكرمة عن الحجاج به. وقال في آخر " قال عكرمة فسألت أبا هريرة وابن عباس فقالا صدق". ووقع في رواية يحيى القطان وغيره في سياقه " سمعت الحجاج " وأخرجه أبو داود والترمذي من طريق معمر عن يحيى عن عكرمة عن عبد الله بن رافع عن الحجاج قال الترمذي: وتابع معمرا على زيادة عبد الله بن رافع معاوية بن سلام، وسمعت محمدا يعني البخاري يقول: رواية معمر ومعاوية أصح، انتهى. فاقتصر البخاري على ما هو من شرط كتابه، مع أن الذي حذفه ليس بعيدا من الصحة، فإنه إن كان عكرمة سمعه من الحجاج بن عمرو فذاك، وإلا فالواسطة بينهما - وهو عبد الله بن رافع - ثقة وإن كان البخاري لم يخرج له. وبهذا الحديث احتج من قال: لا فرق بين الإحصار بالعدو وبغيره كما تقدمت الإشارة إليه، واستدل به على أن من تحلل بالإحصار وجب عليه قضاء ما تحلل منه وهو ظاهر الحديث. وقال الجمهور: لا يجب، وبه قال الحنفية. وعن أحمد روايتان. وسيأتي البحث فيه بعد بابين إن شاء الله تعالى؟ |
08-21-2013, 03:56 PM | #514 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب الْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ الشرح:
قوله: (باب الإحصار في الحج) قال ابن المنير في الحاشية: أشار البخاري إلى أن الإحصار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقع في العمرة، فقاس العلماء الحج على ذلك، وهو من الإلحاق بنفي الفارق وهو من أقوى الأقيسة. قلت: وهذا ينبني على أن مراد ابن عمر بقوله " سنة نبيكم " قياس من يحصل له الإحصار وهو حاج على من يحصل له في الاعتمار، لأن الذي وقع للنبي صلى الله عليه وسلم هو الإحصار عن العمرة، ويحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله سنة نبيكم وبما بينه بعد ذلك شيئا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في حق من لم يحصل له ذلك وهو حاج، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنْ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ الشرح: قوله: (أخبرنا عبد الله) هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد وقد عقب المصنف هذا الحديث بأن قال " وعن عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري نحوه " وهو معطوف على الإسناد الأول، فكأن ابن المبارك كان يحدث به تارة عن يونس وتارة عن معمر، وليس هو بمعلق كما ادعاه بعضهم. وقد أخرجه الترمذي عن أبي كريب عن ابن المبارك عن معمر ولفظه: " أنه كان ينكر الاشتراط ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم " وهكذا أخرجه الدار قطني من طريق الحسن بن عرفة والإسماعيلي من طريقه ومن طريق أحمد ابن منيع وغيره كلهم عن ابن المبارك، وكذا أخرجه عبد الرزاق وأحمد عنه عن معمر مقتصرا على هذا القدر، وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن عبد الرزاق بتمامه، وكذا أخرجه النسائي وأما إنكار ابن عمر الاشتراط فثابت في رواية يونس أيضا إلا أنه حذف في رواية البخاري هذه، فأخرجه البيهقي من طريق السراج عن أبي كريب عن ابن المبارك عن يونس، وأخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق ابن وهب عن يونس، وأشار ابن عمر بإنكار الاشتراط إلى ما كان يفتي به ابن عباس. قال البيهقي: لو بلغ ابن عمر حديث ضباعة في الاشتراط لقال به، وقد أخرجه الشافعي عن ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بضباعة بنت الزبير فقال: أما تريدين الحج؟ فقالت: إني شاكية. فقال لها: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني " قال الشافعي: لو ثبت حديث عروة لم أعده إلى غيره، لأنه لا يحل عندي خلاف ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: قد ثبت هذا الحديث من أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ساقه من طريق عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة موصولا بذكر عائشة فيه وقال: وقد وصله عبد الجبار وهو ثقة. قال: وقد وصله أبو أسامة ومعمر كلاهما عن هشام. ثم ساقه من طريق أبي أسامة وقال: أخرجه الشيخان من طريق أبي أسامة. قلت: وطريق أبي أسامة أخرجها البخاري في كتاب النكاح ولم يخرجها في الحج، بل حذف منه ذكر الاشتراط أصلا إثباتا كما في حديث عائشة ونفيا كما في حديث ابن عمر. وأما رواية معمر التي أشار إليها البيهقي فأخرجها أحمد عن عبد الرزاق، ومسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن هشام والزهري فرقهما كلاهما عن عروة عن عائشة. ولقصة ضباعة شواهد منها حديث ابن عباس " أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة ثقيلة - أي في الضعف - وإني أريد الحج، فما تأمرني؟ قال: أهلي بالحج، واشترطي أن محلي حيث تحبسني. قال فأدركت " أخرجه مسلم وأصحاب السنن والبيهقي من طرق عن ابن عباس. قال الترمذي: وفي الباب عن جابر وأسماء بنت أبي بكر. قلت: وعن ضباعة نفسها وعن سعدي بنت عوف وأسانيدها كلها قوية. وصح القول بالاشتراط عن عمر وعثمان وعلي وعمار وابن مسعود وعائشة وأم سلمة وغيرهم من الصحابة، ولم يصح إنكاره عن أحد من الصحابة إلا عن ابن عمر، ووافقه جماعة من التابعين ومن بعدهم من الحنفية والمالكية، وحكى عياض عن الأصيلي قال: لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح، قال عياض: وقد قال النسائي لا أعلم أسنده عن الزهري غير معمر. وتعقبه النووي بأن الذي قاله غلط فاحش، لأن الحديث مشهور صحيح من طرق متعددة، انتهى وقول النسائي لا يلزم منه تضعيف طريق الزهري التي تفرد بها معمر فضلا عن بقية الطرق لأن معمرا ثقة حافظ فلا يضره التفرد، كيف وقد وجد لما رواه شواهد كثيرة. قوله: (أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن حبس أحدكم عن الحج طاف) قال عياض: ضبطناه سنة بالنصب على الاختصاص أو على إضمار فعل، أي تمسكوا وشبهه. وخبر حسبكم في قوله " طاف بالبيت " ويصح الرفع على أن سنة خبر حسبكم أو الفاعل بمعنى الفعل فيه ويكون ما بعدها تفسيرا للسنة. وقال السهيلي: من نصب سنة فإنه بإضمار الأمر كأنه قال: الزموا سنة نبيكم، وقد قدمت البحث فيه. قوله: (طاف بالبيت) أي إذا أمكنه ذلك. وقد وقع في رواية عبد الرزاق " إن حبس أحدا منكم حابس عن البيت فإذا وصل إليه طاف به " الحديث. والذي تحصل من الاشتراط في الحج والعمرة أقوال: أحدها مشروعيته، ثم اختلف من قال به فقيل: واجب لظاهر الأمر. وهو قول الظاهرية. وقيل مستحب وهو قول أحمد وغلط من حكى عنه إنكاره، وقيل جائز وهو المشهور عند الشافعية وقطع به الشيخ أبو حامد. والحق أن الشافعي نص عليه في القديم وعلق القول بصحته في الجديد فصار الصحيح عنه القول به، وبذلك جزم الترمذي عنه، وهو أحد المواضع التي علق القول بها على صحة الحديث، وقد جمعتها في كتاب مفرد مع الكلام على تلك الأحاديث. والذين أنكروا مشروعية الاشتراط أجابوا عن حديث ضباعة بأجوبة، منها: أنه خاص بضباعة، حكاه الخطابي ثم الروياني من الشافعية. قال النووي: وهو تأويل باطل. وقيل معناه محلي حيث حبسني الموت إذا أدركتني الوفاة انقطع إحرامي. حكاه إمام الحرمين، وأنكره النووي. وقال: إنه ظاهر الفساد. وقيل إن الشرط خاص بالتحلل من العمرة لا من الحج. حكاه المحب الطبري. وقصة ضباعة ترده كما تقدم من سياق مسلم. وقد أطنب ابن حزم في التعقب على من أنكر الاشتراط بما لا مزيد عليه، وسيأتي الكلام على بقية حديث ضباعة في الاشتراط حيث ذكره المصنف في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. *3*باب النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي الْحَصْرِ الشرح: قوله: (باب النحر قبل الحلق في الحصر) ذكر فيه حديث المسور " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك " وهذا طرف من الحديث الطويل الذي أخرجه المصنف في الشروط من الوجه المذكور هنا ولفظه في أواخر الحديث " فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا " فذكر بقية الحديث وفيه قول أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم " أخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، فخرج فنحر بدنه ودعا حالقه فحلقه " وعرف بهذا أن المصنف أورد القدر المذكور هنا بالمعنى، وأشار بقوله في الترجمة " في الحصر " إلى أن هذا الترتيب يختص بحال من أحصر، وقد تقدم أنه لا يجب في حال الاختيار في " باب إذا رمى بعدما أمسى أو حلق قبل أن يذبح " ولم يتعرض المصنف لما يجب على من حلق قبل أن ينحر، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: عليه دم. قال إبراهيم. وحدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ قَالَ وَحَدَّثَ نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَسَالِمًا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَمِرِينَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدْنَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ الشرح: أورد المصنف حديث ابن عمر الماضي قبل بباب مختصرا وفيه " فنحر بدنه وحلق رأسه"، وقد أورده البيهقي من طريق أبي بدر شجاع بن الوليد - وهو الذي أخرجه البخاري من طريقه بإسناده المذكور ولفظه " أن عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله كلما عبد الله بن عمر ليالي نزل الحجاج بابن الزبير وقالا: لا يضرك أن لا تحج العام، إنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت. فقال: خرجنا " فذكر مثل سياق البخاري وزاد في آخره " ثم رجع"، وكذا ساقه الإسماعيلي من طريق أبي بدر إلا أنه لم يذكر القصة التي في أوله، وساقه من طريق أخرى عن أبي بدر أيضا فقال فيها عن ابن عمر أنه قال " إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه، فأهل بالعمرة " الحديث. قال ابن التيمي: ذهب مالك إلى أنه لا هدي على المحصر، والحجة عليه هذا الحديث لأنه نقل فيه حكم وسبب، فالسبب الحصر، والحكم النحر، فاقتضى الظاهر تعلق الحكم بذلك السبب، والله أعلم. *3*باب مَنْ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ وَقَالَ رَوْحٌ عَنْ شِبْلٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلَا يَرْجِعُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَحْلِقُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلَا يَعُودُوا لَهُ وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنْ الْحَرَمِ الشرح: قوله: (باب من قال ليس على المحصر بدل) بفتح الموحدة والمهملة، أي قضاء لما أحصر فيه من حج أو عمرة، وهذا هو قول الجمهور كما تقدم قريبا. قوله: (وقال روح) يعني ابن عبادة، وهذا التعليق وصله إسحاق بن راهويه في تفسيره عن روح بهذا الإسناد وهو موقوف على ابن عباس، ومراده بالتلذذ وهو بمعجمتين الجماع. وقوله "حبسه عذر " كذا للأكثر بضم المهملة وسكون المعجمة بعدها راء، ولأبي ذر " حبسه عدو " بفتح أوله وفي آخره واو. وقوله "أو غير ذلك " أي من مرض أو نفاد نفقة. وقد ورد عن ابن عباس نحو هذا بإسناد آخر. أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه وفيه " فإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت غير الفريضة فلا قضاء عليه". وقوله "وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله " هذه مسألة اختلاف بين الصحابة ومن بعدهم، فقال الجمهور يذبح المحصر الهدي حيث يحل سواء كان في الحل أو في الحرم. وقال أبو حنيفة لا يذبحه إلا في الحرم، وفصل آخرون كما قاله ابن عباس هنا وهو المعتمد. وسبب اختلافهم في ذلك هل نحر النبي صلى الله عليه وسلم الهدي بالحديبية في الحل أو في الحرم، وكان عطاء يقول لم ينحر يوم الحديبية إلا في الحرم، ووافقه ابن إسحاق. وقال غيره من أهل المغازي: إنما نحر في الحل. وروى يعقوب بن سفيان من طريق مجمع بن يعقوب عن أبيه قال " لما حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا بالحديبية وحلقوا، وبعث الله ريحا فحملت شعورهم فألقتها في الحرم " قال ابن عبد البر في " الاستذكار ": فهذا يدل على أنهم حلقوا في الحل. قلت: ولا يخفي ما فيه، فإنه لا يلزم من كونهم ما حلقوا في الحرم لمنعهم من دخوله أن لا يكونوا أرسلوا الهدي مع من نحره في الحرم، وقد ورد ذلك في حديث ناجية بن جندب الأسلمي " قلت يا رسول الله أبعث معي بالهدي حتى أنحره في الحرم، ففعل " أخرجه النسائي من طريق إسرائيل عن مجزأة بن زاهر عن ناجية، وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن إسرائيل لكن قال " عن ناجية عن أبيه " لكن لا يلزم من وقوع هذا وجوبه، بل ظاهر القصة أن أكثرهم نحر في مكانه وكانوا في الحل وذلك دال على الجواز، والله أعلم. قوله: (وقال مالك وغيره) هو مذكور في " الموطأ " ولفظه أنه بلغه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رءوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي " ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء. وسئل مالك عمن أحصر بعدو فقال: يحل من كل شيء وينحر هديه ويحلق رأسه حيث حبس وليس عليه قضاء. وأما قول البخاري وغيره فالذي يظهر لي أنه عنى به الشافعي، لأن قوله في آخره " والحديبية خارج الحرم " هو من كلام الشافعي في " الأم"، وعنه أن بعضها في الحل وبعضها في الحرم، لكن إنما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحل استدلالا بقوله تعالى (وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) قال: ومحل الهدي عند أهل العلم الحرم، وقد أخبر الله تعالى أنهم صدوهم عن ذلك. قال: فحيث ما أحصر ذبح وحل، ولا قضاء عليه من قبل أن الله تعالى لم يذكر قضاء، والذي أعقله في أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت لأنا علمنا من متواطئ أحاديثهم أنه كان معه عام الحديبية رجال معروفون، ثم اعتمر عمرة القضية فتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال، ولو لزمهم القضاء لأمرهم بأن لا يتخلفوا عنه. وقال في موضع آخر: إنما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، لا على أنهم وجب عليهم قضاء تلك العمرة، انتهى. وقد روى الواقدي في المغازي من طريق الزهري ومن طريق أبي معشر وغيرهما قالوا " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا فلم يتخلف منهم إلا من قتل بخيبر أو مات، وخرج معه جماعة معتمرين ممن لم يشهد الحديبية وكانت عدتهم ألفين " ويمكن الجمع بين هذا إن صح وبين الذي قبله بأن الأمر كان على طريق الاستحباب، لأن الشافعي جازم بأن جماعة تخلفوا بغير عذر، وقد روى الواقدي أيضا من حديث ابن عمر قال " لم تكن هذه العمرة قضاء، ولكن كان شرطا على قريش أن يعتمر المسلمون من قابل في الشهر الذي صدهم المشركون فيه". الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ إِنْ صُدِدْتُ عَنْ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ مَا أَمْرُهُمَا إِلَّا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِيًا عَنْهُ وَأَهْدَى الشرح: قوله: (ثم طاف لهما) أي للحج والعمرة، وهذا يخالف قول الكوفيين إنه يجب لهما طوافان. قوله: (ورأى أن ذلك مجزئ عنه) كذا لأبي ذر وغيره. بالرفع على أنه خبر أن، ووقع في رواية كريمة " مجزيا " فقيل هو على لغة من ينصب بأن المبتدأ والخبر، أو هي خبر كان المحذوفة. والذي عندي أنه من خطأ الكاتب، فإن أصحاب الموطأ اتفقوا على روايته بالرفع على الصواب. |
08-21-2013, 03:57 PM | #515 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فَأَمَّا الصَّوْمُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
الشرح: قوله: (باب قول الله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) وهو مخير، فأما الصوم فثلاثة أيام) أي باب تفسير قوله تعالى كذا، وقوله "مخير " من كلام المصنف استفاده من " أو " المكررة. وقد أشار إلى ذلك في أول " باب كفارات الأيمان " فقال: وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبا في الفدية، ويذكر عن ابن عباس وعطاء وعكرمة: ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار. وسيأتي ذكر من وصل هذه الآثار هناك، وأقرب ما وقفت عليه من طرق حديث الباب إلى التصريح ما أخرجه أبو داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم " الحديث. وفي رواية مالك في " الموطأ " عن عبد الكريم بإسناده في آخر الحديث " أي ذلك فعلت أجزأ " وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى. وقوله "فأما الصوم " في رواية الكشميهني " الصيام"، والصيام المطلق في الآية مقيد بما ثبت في الحديث بالثلاث. قال ابن التين وغيره: جعل الشارع هنا صوم يوم معادلا بصاع، وفي الفطر من رمضان عدل مد، وكذا في الظهار والجماع في رمضان، وفي كفارة اليمين بثلاثة أمداد وثلث، وفي ذلك أقوى دليل على أن القياس لا يدخل في الحدود والتقديرات. وقسيم قوله " فأما الصوم " محذوف تقديره. وأما الصدقة فهي إطعام ستة مساكين، وقد أفرد ذلك بترجمة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ قَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْلِقْ رَأْسَكَ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوْ انْسُكْ بِشَاةٍ الشرح: قوله: (عن حميد بن قيس) في رواية أشهب عن مالك " أن حميد بن قيس حدثه"، أخرجها الدار قطني في " الموطآت". قوله: (مجاهد عن عبد الرحمن) صرح سيف عن مجاهد بسماعه من عبد الرحمن وبأن كعبا حدث عبد الرحمن كما في الباب الذي يليه. قال ابن عبد البر في رواية حميد بن قيس هذه: كذا رواه الأكثر عن مالك، ورواه ابن وهب وابن القاسم وابن عفير عن مالك بإسقاط عيد الرحمن بين مجاهد وكعب ابن عجرة. قلت: ولمالك فيه إسنادان آخران في " الموطأ " أحدهما عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد وفي سياقه ما ليس في سياق حميد بن قيس، وقد اختلف فيه على مالك أيضا على العكس مما اختلف فيه على طريق حميد بن قيس، قال الدار قطني: رواه أصحاب " الموطأ " عن مالك عن عبد الكريم عن عبد الرحمن لم يذكروا مجاهدا، حنى قال الشافعي: إن مالكا وهم فيه، وأجاب ابن عبد البر بأن ابن القاسم وابن وهب في " الموطأ " وتابعهما جماعة عن مالك خارج الموطأ منهم بشر بن عمر الزهراني وعبد الرحمن بن مهدي وإبراهيم بن طهمان والوليد بن مسلم أثبتوا مجاهدا بينهما، وهذا الجواب لا يرد على الشافعي. وطريق ابن القاسم المشار إليها عند النسائي وطريق ابن وهب عند الطبري وطريق عبد الرحمن بن مهدي عند أحمد وسائرها عند الدار قطني في " الغرائب". والإسناد الثالث لمالك فيه عن عطاء الخراساني عن رجل من أهل الكوفة عن كعب بن عجرة، قال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى أو عبد الله بن معقل، ونقل ابن عبد البر عن أحمد بن صالح المصري قال: حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها لم يروها من الصحابة غيره، ولا رواها عنه إلا ابن أبي ليلى وابن معقل. قال: وهي سنة أخذها أهل المدينة عن أهل الكوفة. قال الزهري: سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب فلم يبينوا كم عدد المساكين. قلت: فيما أطلقه ابن صالح نظر، فقد جاءت هذه السنة من رواية جماعة من الصحابة غير كعب، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبري والطبراني، وأبو هريرة عند سعيد بن منصور، وابن عمر عند الطبري، وفضالة الأنصاري عمن لا يتهم من قومه عند الطبري أيضا. ورواه عن كعب ابن عجرة غير المذكورين أبو وائل عن النسائي، ومحمد بن كعب القرظي عند ابن ماجة، ويحيى بن جعدة عند أحمد، وعطاء عند الطبري. وجاء عن أبي قلابة والشعبي أيضا عن كعب وروايتهما عند أحمد، لكن الصواب أن بينهما واسطة وهو ابن أبي ليلى على الصحيح. وقد أورد البخاري حديث كعب هذا في أربعة أبواب متوالية، وأورده أيضا في المغازي والطب وكفارات. الأيمان من طرق أخرى مدار الجميع على ابن أبي ليلى وابن معقل، فيقيد إطلاق أحمد بن صالح بالصحة فإن بقية الطرق التي ذكرتها لا تخلو عن مقال إلا طريق أبي وائل، وسأذكر ما في هذه الطرق من فائدة زائدة إن شاء الله تعالى. قوله: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لعلك) في رواية أشهب المقدم ذكرها " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " وفي رواية عبد الكريم " أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم فآذاه القمل " وفي رواية سيف في الباب الذي يليه " وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملا فقال: أيؤذيك هوامك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك - الحديث وفيه - قال في بزلت هذه الآية فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) زاد في رواية أبي الزبير عن مجاهد عند الطبراني أنه أهل في ذي القعدة. وفي رواية مغيرة عن مجاهد عند الطبري أنه لقيه وهو عند الشجرة وهو محرم. وفي رواية أيوب عن مجاهد في المغازي " أتى على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت برمة والقمل يتناثر على رأسي " زاد في رواية ابن عون عن مجاهد في الكفارات " فقال ادن، فدنوت. فقال: أيؤذيك". وفي رواية ابن بشر عن مجاهد فيه قال " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون وقد حصرنا المشركون، وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تتساقط على وجهي، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت. نعم. فأنزلت هذه الآية". وفي رواية أبي وائل عن كعب " أحرمت فكثر قمل رأسي فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني وأنا أطبخ قدرا لأصحابي". وفي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد بعد بابين " رآه وأنه ليسقط القمل على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم، فأمره أن يحلق " وهم بالحديبية ولم يبين لهم أنهم يحلون، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية. وأخرجه الطبراني من طريق عبد الله بن كثير عن مجاهد بهذه الزيادة، ولأحمد وسعيد بن منصور في رواية أبي قلابة: " قملت حتى ظننت أن كل شعرة في رأسي فيها القمل من أصلها إلى فرعها " زاد سعيد " وكنت حسن الشعر"، وأول رواية عبد الله بن معقل بعد باب " جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية فقال: نزلت في خاصة وهي لكن عامة، حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى"، زاد مسلم من هذا الوجه " فسألته عن هذه الآية (ففدية من صيام) الآية". ولأحمد من وجه آخر في هذه الطريق " وقع القمل في رأسي ولحيتي حتى حاجبي وشاربي، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي فدعاني، فلما رآني قال: لقد أصابك بلاء ونحن لا نشعر، ادع إلي الحجام، فحلقني " ولأبي داود من طريق الحكم بن عتيبة عن ابن أبي ليلى عن كعب " أصابتني هوام حتى تخوفت على بصري". وفي رواية أبي وائل عن كعب عند الطبري " فحك رأسي بأصبعه فانتثر منه القمل " زاد الطبري من طريق الحكم " إن هذا لأذى، قلت شديد يا رسول الله " والجمع بين هذا الاختلاف في قول ابن أبي ليلى عن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به فرآه، وفي قول عبد الله بن معقل " أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليه فرآه " أن يقال: مر به أو لا فرآه على تلك الصورة فاستدعى به إليه فخاطبه وحلق رأسه بحضرته، فنقل كل واحد منهما ما لم ينقله الآخر، ويوضحه قوله في رواية ابن عون السابقة حيث قال فيها " فقال ادن فدنوت " فالظاهر أن هذا الاستدناء كان عقب رؤيته إياه إذ مر به وهو يوقد تحت القدر. قوله: (لعلك آذاك هوامك) قال القرطبي هذا سؤال عن تحقيق العلة التي يترتب عليها الحكم، فلما أخبره بالمشقة التي نالته خفف عنه. و " الهوام " بتشديد الميم جمع هامة وهي ما يدب من الأخشاش، والمراد بها ما يلازم جسد الإنسان غالبا إذا طال عهده بالتنظيف، وقد عين في كثير من الروايات أنها القمل، واستدل به على أن الفدية مرتبة على قتل القمل، وتعقب بذكر الحلق، فالظاهر أن الفدية مرتبة عليه، وهما وجهان عند الشافعية، يظهر أثر الخلاف فيما لو حلق ولم يقتل قملا. قوله: (احلق رأسا وصم) قال ابن قدامة: لا نعلم خلافا في إلحاق الإزالة بالحلق سواء كان بموسى أو مقص أو نورة أو غير ذلك، وأغرب ابن حزم فأخرج النتف عن ذلك فقال: يلحق جميع الإزالات بالحلق إلا النتف. قوله: (أو أطعم) ليس في هذه الرواية بيان قدر الإطعام، وسيأتي البحث فيه بعد باب، وهو طاهر في التخيير بين الصوم والإطعام. وكذا قوله " أو انسك بشاة " ووقع في رواية الكشميهني " شاة " بغير موحدة، والأول تقديره تقرب بشاة ولذلك عداه بالباء، والثاني تقديره اذبح شاة. والنسك يطلق على العبادة وعلى الذبح المخصوص، وسياق رواية الباب موافق للآية، وقد تقدم أن كعبا قال إنها نزلت بهذا السبب، وقد قدمت في أول الباب أن رواية عبد الكريم صريحة في التخيير حيث قال " أي ذلك فعلت أجزأ". وكذا رواية أبي داود التي فيها " إن شئت وإن شئت " ووافقتها رواية عبد الوارث عن ابن أبي نجيح أخرجها مسدد في مسنده ومن طريقه الطبراني، لكن رواية عبد الله بن معقل - الآتية بعد باب - تقتضي أن التخيير إنما هو بين الإطعام والصيام لمن لم يجد النسك ولفظه " قال أتجد شاة؟ قال: لا. قال: فصم أو أطعم " ولأبي داود في رواية أخرى " أمعك دم؟ قال: لا. قال: فإن شئت فصم " ونحوه للطبراني من طريق عطاء عن كعب، ووافقهم أبو الزبير عن مجاهد عند الطبراني وزاد بعد قوله ما أجد هديا " قال: فأطعم. قال: ما أجد. قال: صم " ولهذا قال أبو عوانة في صحيحه: فيه دليل على أن من وجد نسكا لا يصوم، يعني ولا يطعم، لكن لا أعرف من قال بذلك من العلماء إلا ما رواه الطبري وغيره عن سعيد ابن جبير قال: النسك شاة، فإن لم يجد قومت الشاة دراهم والدراهم طعاما فتصدق به أو صام لكل نصف صاع يوما، أخرجه من طريق الأعمش عنه قال: فذكرته لإبراهيم فقال: سمعت علقمة مثله. فحينئذ يحتاج إلى الجمع بين الروايتين، وقد جمع بينهما بأوجه. منها: ما قال ابن عبد البر إن فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا لإيجابه. ومنها: ما قال النووي: ليس المراد أن الصيام أو الإطعام لا يجزئ إلا لفاقد الهدي، بل المراد أنه استخبره: هل معه هدي أو لا؟ فإن كان واجده أعلمه أنه مخير بينه وبين الصيام والإطعام، وإن لم يجده أعلمه أنه مخير بينهما. ومحصله أنه لا يلزم من سؤاله عن وجدان الذبح تعيينه لاحتمال أنه لو أعلمه أنه يجده لأخبره بالتخيير بينه وبين الإطعام والصوم. ومنها ما قال غيرهما: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن له في حلق رأسه بسبب الأذى أفتاه بأن يكفر بالذبح على سبيل الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم أو بوحي غير متلو، فلما أعلمه أنه لا يجد نزلت الآية بالتخيير بين الذبح والإطعام والصيام فخيره حينئذ بين الصيام والإطعام لعلمه بأنه لا ذبح معه، فصام لكونه لم يكن معه ما يطعمه. ويوضح ذلك رواية مسلم في حديث عبد الله بن معقل المذكور حيث قال " أتجد شاة؟ قلت: لا. فنزلت هذه الآية (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) فقال: صم ثلاثة أيام أو أطعم". وفي رواية عطاء الخراساني قال " صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين " قال " وكان قد علم أنه ليس عندي ما أنسك به". ونحوه في رواية محمد بن كعب القرظي عن كعب، وسياق الآية يشعر بتقديم الصيام على غيره، وليس ذلك لكونه أفضل في هذا المقام من غيره، بل السر فيه أن الصحابة الذين خوطبوا شفاها بذلك كان أكثرهم يقدر على الصيام أكثر مما يقدر على الذبح والإطعام. وعرف من رواية أبي الزبير أن كعبا افتدى بالصيام. ووقع في رواية ابن إسحاق ما يشعر بأنه افتدى بالذبح لأن لفظه " صم أو أطعم أو انسك شاة. قال: فحلقت رأسي ونسكت". وروى الطبراني من طريق ضعيفة عن عطاء بن كعب في آخر هذا الحديث " فقلت يا رسول الله خر لي، قال: أطعم ستة مساكين " وسيأتي البحث فيه في الباب الأخير وفيه بقية مباحث هذا الحديث إن شاء الله تعالى. *3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ صَدَقَةٍ وَهِيَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ الشرح: قوله (باب قول الله عز وجل أو صدقة وهي إطعام ستة مساكين) يشير بهذا إلى أن الصدقة في الآية مبهمة فسرتها السنة، وبهذا قال جمهور العلماء. وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الحسن قال. الصوم عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين. وروى الطبري عن عكرمة ونافع نحوه. قال ابن عبد البر: لم يقل بذلك أحد من فقهاء الأمصار. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَيْفٌ قَالَ حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلًا فَقَالَ يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَاحْلِقْ رَأْسَكَ أَوْ قَالَ احْلِقْ قَالَ فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ إِلَى آخِرِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ أَوْ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ الشرح: قوله: (حدثنا سيف) هو ابن سليمان أو ابن أبي سليمان. قوله: (يتهافت) بالفاء، أي يتساقط شيئا فشيئا. قوله: (فاحلق رأسك أو احلق) بحذف المفعول، وهو شك من الراوي. قوله: (بفرق) بفتح الفاء والراء وقد تسكن، قاله ابن فارس. وقال الأزهري: كلام العرب بالفتح، والمحدثون قد يسكنونه، وآخره قاف: مكيال معروف بالمدينة وهو ستة عشر رطلا. ووقع في رواية ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عند أحمد وغيره " الفرق ثلاثة آصع"، ولمسلم من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى " أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين " وإذا ثبت أن الفرق ثلاثة آصع اقتضى أن الصاع خمسة أرطال وثلث خلافا لمن قال إن الصاع ثمانية أرطال. قوله: (أو نسك مما تيسر) كذا لأبي ذر والأكثر. وفي رواية كريمة " أو أنسك بما تيسر " بصيغة الأمر وبالموحدة وهي المناسبة لما قبلها، وتقدير الأول أو أنسك بنسك، والمراد به الذبح. *3*باب الْإِطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ الشرح: قوله: (باب الإطعام في الفدية نصف صاع) أي لكل مسكين من كل شيء، يشير بذلك إلى الرد على من فرق في ذلك بين القمح وغيره. قال ابن عبد البر قال أبو حنيفة والكوفيون: نصف صاع من قمح وصاع من تمر وغيره. وعن أحمد رواية تضاهي قولهم. قال عياض: وهذا الحديث يرد عليهم. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْفِدْيَةِ فَقَالَ نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى تَجِدُ شَاةً فَقُلْتُ لَا فَقَالَ فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ الشرح: قوله: (عن عبد الرحمن بن الأصبهاني) هو ابن عبد الله، مر في الجنائز وأنه كوفي ثقة. ولشعبة في هذا الحديث إسناد آخر أخرجه الطبراني من طريق حفص بن عمر عنه عن أبي بشر عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب. قوله: (عن عبد الله بن معقل) في رواية أحمد " سمعت عبد الله بن معقل " أخرجه عن عفان. وعن بهز فرقهما عن شعبة حدثنا عبد الرحمن، وهو بفتح الميم وسكون المهملة وكسر القاف هو ابن مقرن بالقاف وزن محمد لكن بكسر الراء، لأبيه صحبة وهو من ثقات التابعين بالكوفة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر عن عدي بن حاتم، مات سنة ثمان وثمانين من الهجرة، يلتبس بعبد الله بن مغفل بالغين المعجمة وزن محمد ويجتمعان في أن كلا منهما مزني، لكن يفترقان بأن الراوي عن كعب تابعي والآخر صحابي، وفي التابعين من اتفق مع الراوي عن كعب في اسمه واسم أبيه ثلاثة: أحدهم يروي عن عائشة وهو محاربي، والآخر يروي عن أنس في المسح على العمامة وحديثه عند أبي داود، والثالث أصغر منهما أخرج له ابن ماجة. قوله: (جلست إلى كعب بن عجرة) زاد مسلم في روايته من طريق غندر عن شعبة وهو في المسجد، ولأحمد عن بهز " قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد " وزاد في رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني " يعني مسجد الكوفة". وفيه الجلوس في المسجد ومذاكرة العلم والاعتناء بسبب النزول لما يترتب عليه من معرفة الحكم وتفسير القرآن. قوله: (ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى) في رواية المستملي والحموي " يبلغ بك " وأرى الأولى بضم الهمزة أي أظن، وأرى الثانية بفتح الهمزة من الرؤية، وكذا في قوله " أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك " وهو شك من الراوي هل قال الوجع أو الجهد، والجهد: بالفتح المشقة، قال النووي والضم لغة في المشقة أيضا، وكذا حكاه عياض عن ابن دريد. وقال صاحب العين: بالضم الطاقة وبالفتح المشقة، قيتعين الفتح هنا بخلاف لفظ الجهد الماضي في حديث بدء الوحي حيث قال " حتى بلغ مني الجهد " فإنه محتمل للمعنيين. قوله: (فقلت لا) زاد مسلم وأحمد " فنزلت هذه الآية (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) قال: صوم ثلاث أيام " الحديث. قوله: (لكل مسكين نصف صاع) كررها مرتين وللطبراني عن أحمد بن محمد الخزاعي عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه " لكل مسكين نصف صاع تمر " ولأحمد عن بهز عن شعبة " نصف صاع طعام " ولبشر بن عمر عن شعبة " نصف صاع حنطة " ورواية الحكم عن ابن أبي ليلى تقتضي أنه نصف صاع من زبيب فإنه قال " يطعم فرقا من زبيب بين ستة مساكين". قال ابن حزم: لا بد من ترجيح إحدى هذه الروايات لأنها قصة واحدة في مقام واحد في حق رجل واحد. قلت: المحفوظ عن شعبة أنه قال في الحديث " نصف صاع من طعام " والاختلاف عليه في كونه تمرا أو حنطة لعله من تصرف الرواة، وأما الزبيب فلم أره إلا في رواية الحكم، وقد أخرجها أبو داود وفي إسنادها ابن إسحاق، وهو حجة في المغازي لا في الأحكام إذا خالف، والمحفوظ رواية التمر فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قلابة كما تقدم ولم يختلف فيه على أبي قلابة. وكذا أخرجه الطبري من طريق الشعبي عن كعب، وأحمد من طريق سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني، ومن طريق أشعث وداود الشعبي عن كعب، وكذا في حديث عبد الله بن عمرو عند الطبراني، وعرف بذلك قوة قول من قال لا فرق في ذلك بين التمر والحنطة وأن الواجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع، ولمسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد في هذا الحديث " وأطعم فرقا بين ستة مساكين " والفرق ثلاثة آصع. وأخرجه الطبري من طريق يحيى بن آدم عن ابن عيينة فقال فيه " قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع " فأشعر بأن تفسير الفرق مدرج، لكنه مقتضى الروايات الأخر، ففي رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني عند أحمد " لكل مسكين نصف صاع". وفي رواية يحيى بن جعدة عند أحمد أيضا " أو أطعم ستة مساكين مدين مدين". وأما ما وقع في بعض النسخ عند مسلم من رواية زكريا عن ابن الأصبهاني " أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين صاع " فهو تحريف ممن دون مسلم، والصواب ما في النسخ الصحيحة " لكل مسكينين " بالتثنية، وكذا أخرجه مسدد في مسنده عن أبي عوانة عن ابن الأصبهاني على الصواب. |
08-21-2013, 03:58 PM | #516 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب النُّسْكُ شَاةٌ الشرح:
قوله: (باب النسك شاة) أي النسك المذكور في الآية حيث قال (أو نسك) وروى الطبري من طريق مغيرة عن مجاهد في آخر هذا الحديث " فأنزل الله (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) والنسك شاة " ومن طريق محمد بن كعب القرظي عن كعب " أمرني أن أحلق وأفتدي بشاة". قال عياض ومن تبعه لأبي عمر: كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكروا شاة، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء. قلت: يعكر عليه ما أخرجه أبو داود من طريق نافع عن رجل من الأنصار عن كعب بن عجرة أنه أصابه أذى فحلق " فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدي بقرة " وللطبراني من طريق عبد الوهاب بن بخت عن نافع عن ابن عمر قال " حلق كعب بن عجرة رأسه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتدي، فافتدى ببقرة " ولعبد بن حميد من طريق أبي معشر عن نافع عن ابن عمر قال " افتدى كعب من أذى كان برأسه فحلقه ببقرة قلدها وأشعرها " ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى عن نافع عن سليمان بن يسار " قيل لابن كعب بن عجرة: ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه؟ قال: ذبح بقرة، فهذه الطرق كلها تدور على نافع، وقد اختلف عليه في الواسطة الذي بينه وبين كعب وقد عارضها ما هو أصح منها من أن الذي أمر به كعب وفعله في النسك إنما هو شاة. وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد من طريق المقبري عن أبي هريرة " أن كعب بن عجرة ذبح شاة لأذى كان أصابه " وهذا أصوب من الذي قبله، واعتمد ابن بطال على رواية نافع بن سليمان بن يسار فقال: أخذ كعب بأرفع الكفارات، ولم يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمره به من ذبح شاة، بل وافق وزاد. ففيه أن من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها كما فعل كعب. قلت: هو فرع ثبوت الحديث، ولم يثبت لما قدمته. والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ أَوْ يُهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ وَقَمْلُهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ مِثْلَهُ الشرح: قوله: (حدثنا إسحاق) هو ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه كما جزم به أبو نعيم، وروح هو ابن عبادة، وشبل هو ابن عباد المكي. قوله: (رآه وأنه يسقط) كذا للأكثر، ولابن السكن وأبي ذر ليسقط بزيادة لام والفاعل محذوف والمراد القمل وثبت كذلك في بعض الروايات. ورواه ابن خزيمة عن محمد بن معمر عن روح بلفظ: " رآه وقمله يسقط على وجهه"، وللإسماعيلي من طريق أبي حذيفة عن شبل " رأى قمله يتساقط على وجهه". قوله: (فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يتبين لهم أنهم يحلون الخ) هذه الزيادة ذكرها الراوي لبيان أن الحلق كان استباحة محظور بسبب الأذى لا لقصد التحلل بالحصر وهو واضح. قال ابن المنذر: يؤخذ منه أن من كان على رجاء من الوصول إلى البيت أن عليه أن يقيم حتى ييأس من الوصول فيحل. واتفقوا على أن من يئس من الوصول وجاز له أن يحل فتمادى على إحرامه ثم أمكنه أن يصل أن عليه أن يمضي إلى البيت ليتم نسكه. وقال المهلب وغيره ما معناه: يستفاد من قوله " ولم يتبين لهم أنهم يحلون " أن المرأة التي تعرف أوان حيضها والمريض الذي يعرف أوان حماه بالعادة فيهما إذا أفطرا في رمضان مثلا في أول النهار ثم ينكشف الأمر بالحيض والحمى في ذلك النهار أن عليهما قضاء ذلك اليوم لأن الذي كان في علم الله أنهم يحلون بالحديبية لم يسقط عن كعب الكفارة التي وجبت عليه بالحلق قبل أن ينكشف الأمر لهم، وذلك لأنه يجوز أن يتخلف ما عرفاه بالعادة فيجب القضاء عليهما لذلك. قوله: (فأنزل الله الفدية) قال عياض: ظاهره أن النزول بعد الحكم. وفي رواية عبد الله بن معقل أن النزول قبل الحكم. قال. فيحتمل أن يكون حكم عليه بالكفارة بوحي لا يتلى ثم نزل القرآن ببيان ذلك. قلت: وهو يؤيد الجمع المتقدم. قوله: (وعن محمد بن يوسف) الظاهر أنه عطف على " حدثنا روح " فيكون إسحاق قد رواه عن روح بإسناده، وعن محمد بن يوسف وهو الفريابي بإسناده، وكذا هو في تفسير إسحاق، ويحتمل أن تكون العنعنة. للبخاري فيكون أورده عن شيخه الفريابي بالعنعنة كما يروي تارة بالتحديث وبلفظ قال وغير ذلك، وعلى هذا فيكون شبيها بالتعليق. وقد أورده الإسماعيلي وأبو نعيم من طريق هاشم بن سعيد عن محمد بن يوسف الفريابي ولفظه مثل سياق روح في أكثره، وكذا هو في تفسير الفريابي بهذا الإسناد. وفي حديث كعب بن عجرة من الفوائد غير ما تقدم أن السنة مبينة لمجمل الكتاب لإطلاق الفدية في القرآن وتقييدها بالسنة، وتحريم حلق الرأس على المحرم، والرخصة له في حلقها إذا آذاه القمل أو غيره من الأوجاع. وفيه تلطف الكبير بأصحابه وعنايته بأحوالهم وتفقده لهم، وإذا رأى ببعض أتباعه ضررا سأل عنه وأرشده إلى المخرج منه. واستنبط منه بعض المالكية إيجاب الفدية على من تعمد حلق رأسه بغير عذر، فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى، لكن لا يلزم من ذلك التسوية بين المعذور وغيره، ومن ثم قال الشافعي والجمهور: لا يتخير العامد بل يلزمه الدم، وخالف في ذلك أكثر المالكية، واحتج لهم القرطبي بقوله في حديث كعب " أو اذبح نسكا " قال: فهذا يدل على أنه ليس بهدي. قال: فعلى هذا يجوز أن يذبحها حيث شاء. قلت: لا دلالة فيه إذ لا يلزم تسميتها نسكا أو نسيكة أن لا تسمى هديا أو لا تعطي حكم الهدي، وقد وقع تسميتها هديا في الباب الأخير حيث قال " أو تهدي شاة " وفي رواية مسلم " واهد هديا " وفي رواية للطبري " هل لك هدي؟ قلت: لا أجد " فظهر أن ذلك من تصرف الرواة. ويؤيده قوله في رواية مسلم " أو اذبح شاة " واستدل به على أن الفدية لا يتعين لها مكان، وبه قال أكثر التابعين. وقال الحسن: تتعين مكة. وقال مجاهد: النسك بمكة ومنى، والإطعام بمكة، والصيام حيث شاء. وقريب منه قول الشافعي وأبي حنيفة: الدم والإطعام لأهل الحرم، والصيام حيث شاء إذ لا منفعة فيه لأهل الحرم. وألحق بعض أصحاب أبي حنيفة وأبو بكر بن الجهم من المالكية الإطعام بالصيام، واستدل به على أن الحج على التراخي لأن حديث كعب دل على أن نزول قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) كان بالحديبية وهي في سنة ست وفيه بحث، والله أعلم. |
08-21-2013, 04:00 PM | #517 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا رَفَثَ الشرح:
قوله: (باب قول الله عز وجل: فلا رفث) ذكر فيه حديث أبي هريرة " من حج البيت فلم يرفث " أورده من طريق شعبة عن منصور عن أبي حازم عنه. ثم قال " باب قول الله عز وجل: ولا فسوق ولا جدال في الحج " وذكر الحديث بعينه لكن من طريق سفيان وهو الثوري عن منصور بهذا السند. وليس بين السياقين اختلاف إلا في قوله في رواية شعبة " كما ولدته أمه " وفي رواية سفيان " كيوم ولدته أمه". وأبو حازم المذكور في الموضعين هو سلمان مولي عزة الأشجعية، وصرح منصور بسماعه له في رواية أبي حازم من شعبة، فانتفى بذلك تعليل من أعله بالاختلاف على منصور، لأن البيهقي أورده من طريق إبراهيم بن طهمان عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي حازم زاد فيه رجلا، فإن كان إبراهيم حفظه فلعله حمله منصور عن هلال ثم لقي أبا حازم فسمعه منه فحدث به على الوجهين. وصرح أبو حازم بسماعه له من أبي هريرة كما تقدم في أوائل الحج من طريق شعبة أيضا عن يسار عن أبي حازم. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ الشرح: وقوله "كما ولدته أمه " أي عاريا من الذنوب. وللترمذي من طريق ابن عيينة عن منصور " غفر له ما تقدم من ذنبه " ولمسلم من رواية جرير عن منصور " من أتى هذا البيت " وهو أعم من قوله في بقية الروايات " من حج " ويجوز حمل لفظ حج على ما هو أعم من الحج والعمرة فتساوي رواية " من أتى " من حيث أن الغالب أن إتيانه إنما هو للحج أو للعمرة، وقد تقدمت بقية مباحثه في " باب فضل الحج المبرور " في أوائل كتاب الحج، وتقدم تفسير الرفث وما ذكر معه في آخر حديث ابن عباس المذكور في " باب قول الله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)". *3*باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ الشرح: قوله: (باب قول الله عز وجل: فلا رفث) ذكر فيه حديث أبي هريرة " من حج البيت فلم يرفث " أورده من طريق شعبة عن منصور عن أبي حازم عنه. ثم قال " باب قول الله عز وجل: " ولا فسوق ولا جدال في الحج " وذكر الحديث بعينه لكن من طريق سفيان وهو الثوري عن منصور بهذا السند. وليس بين السياقين اختلاف إلا في قوله في رواية شعبة " كما ولدته أمه " وفي رواية سفيان " كيوم ولدته أمه". وأبو حازم المذكور في الموضعين هو سلمان مولي عزة الأشجعية، وصرح منصور بسماعه له في رواية أبي حازم من شعبة، فانتفى بذلك تعليل من أعله بالاختلاف على منصور، لأن البيهقي أورده من طريق إبراهيم بن طهمان عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي حازم زاد فيه رجلا، فإن كان إبراهيم حفظه فلعله حمله منصور عن هلال ثم لقي أبا حازم فسمعه منه فحدث به على الوجهين. وصرح أبو حازم بسماعه له من أبي هريرة كما تقدم في أوائل الحج من طريق شعبة أيضا عن يسار عن أبي حازم. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ الشرح: قوله: (عن منصور) هو ابن المعتمر، والحكم هو ابن عتيبة. قوله (وقصت) بفتح القاف والصاد المهملة تقدم تفسيره في " باب كفن المحرم " ويأتي في " باب المحرم يموت بعرفة " بيان اختلاف في هذه اللفظة، والمراد هنا قوله " ولا تقربوه طينا " وهي بتشديد الراء، وسيأتي قريبا بلفظ " ولا تحنطوه " وهو من الحنوط بالمهملة والنون وهو الطيب الذي يصنع للميت. وقوله (يبعث ملبيا) أي على هيئته التي مات عليها. واستدل بذلك على بقاء إحرامه خلافا للمالكية والحنفية، وقد تمسكوا من هذا الحديث بلفظة اختلف في ثبوتها وهي قوله " ولا تخمروا وجهه " فقالوا: لا يجوز للمحرم تغطية وجهه، مع أنهم لا يقولون بظاهر هذا الحديث فيمن مات محرما، وأما الجمهور فأخذوا بظاهر الحديث وقالوا: إن في ثبوت ذكر الوجه مقالا، وتردد ابن المنذر في صحة. وقال البيهقي: ذكر الوجه غريب وهو وهم من بعض رواته، وفي كل ذلك نظر فإن الحديث ظاهره الصحة ولفظه عند مسلم من طريق إسرائيل عن منصور وأبي الزبير كلاهما سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر الحديث. قال منصور " ولا تغطوا وجهه " وقال أبو الزبير " ولا تكشفوا وجهه " وأخرجه النسائي من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير بلفظ " ولا تخمروا وجهه ولا رأسه " وأخرجه مسلم أيضا من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بلفظ " ولا يمس طيبا خارج رأسه " قال شعبة: ثم حدثني به بعد ذلك فقال " خارج رأسه ووجهه " انتهى. وهذه الرواية تتعلق بالتطيب لا بالكشف والتغطية، وشعبة احفظ من كل من روى هذا الحديث، فلعل بعض رواته انتقل ذهنه من التطيب إلى التغطية. وقال أهل الظاهر: يجوز للمحرم الحي تغطية وجهه ولا يجوز للمحرم الذي يموت عملا بالظاهر في الموضعين. وقال آخرون: هي واقعة عين لا عموم فيها لأنه علل ذلك بقوله " لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا " وهذا الأمر لا يتحقق وجوده في غيره فيكون خاصا بدلك الرجل؛ ولو استمر بقاؤه على إحرامه لأمر بقضاء مناسكه، وسيأتي ترجمة المصنف بنفي. وقال أبو الحسن بن القصار: لو أريد تعميم الحكم في كل محرم لقال " فإن المحرم " كما جاء " أن الشهيد يبعث وجرحه يثعب دما"، وأجيب بأن الحديث ظاهر في أن العلة في الأمر المذكور كونه كان في النسك وهي عامة في كل محرم، والأصل أن كل ما ثبت لواحد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت لغيره حتى يتضح التخصيص. واختلف في الصائم بموت هل يبطل صومه بالموت حتى يجب قضاء صوم ذلك اليوم عنه أو لا يبطل؟ وقال النووي: يتأول هذا الحديث على أن النهي عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز تغطية وجهه بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطي رأسه ا ه. وروى سعيد بن منصور من طريق عطاء قال: يغطي المحرم من وجهه ما دون الحاجبين أي من أعلى. وفي رواية: ما دون عينيه. وكأنه أراد مزيد الاحتياط لكشف الرأس، والله أعلم. (تكملة) : كان وقوع المحرم المذكور عند الصخرات من عرفة. وفي الحديث إطلاق الواقف على الراكب، واستحباب دوام التلبية في الإحرام، وأنها لا تنقطع بالتوجه لعرفة، وجواز غسل المحرم بالسدر ونحوه مما لا يعد طيبا. وحكى المزني عن الشافعي أنه استدل على جواز قطع سدر الحرم بهذا الحديث لقوله فيه " واغسلوه بماء وسدر " والله أعلم. (تنبيه) : لم أقف في شيء من طرق هذا الحديث على تسمية المحرم المذكور، وقد وهم بعض المتأخرين فزعم أن اسمه واقد بن عبد الله وعزاه لابن قتيبة في ترجمة عمر من كتاب المغازي، وسبب الوهم أن ابن قتيبة لما ذكر ترجمة عمر ذكر أولاده ومنهم عبد الله بن عمر، ثم ذكر أولاد عبد الله بن عمر فذكر فيهم واقد بن عبد الله بن عمر فقال: وقع عن بعيره وهو محرم فهلك، فظن هذا المتأخر أن لواقد بن عبد الله ابن عمر صحبة وأنه صاحب القصة التي وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كما ظن فإن واقدا المذكور لا صحبة له فإن أمه صفية بنت أبي عبيد إنما تزوجها أبوه في خلافة أبيه عمر واختلف في صحبتها، وذكرها العجلي وغيره في التابعين، ووجدت في الصحابة واقد بن عبد الله آخر لكن لم أر في شيء من الأخبار أنه وقع عن بعيره فهلك، بل ذكر غير واحد منهم ابن سعد أنه مات في خلافة عمر، فبطل تفسير المبهم بأنه واقد بن عبد الله من كل وجه. *3*باب جَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَإِذَا صَادَ الْحَلَالُ فَأَهْدَى لِلْمُحْرِمِ الصَّيْدَ أَكَلَهُ وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ بِالذَّبْحِ بَأْسًا وَهُوَ غَيْرُ الصَّيْدِ نَحْوُ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ وَالْخَيْلِ يُقَالُ عَدْلُ ذَلِكَ مِثْلُ فَإِذَا كُسِرَتْ عِدْلٌ فَهُوَ زِنَةُ ذَلِكَ قِيَامًا قِوَامًا يَعْدِلُونَ يَجْعَلُونَ عَدْلًا الشرح: قوله: (باب جزاء الصيد ونحوه وقول الله تعالى لا تقتلوا الصيد) كذا في رواية أبي ذر وأثبت قبل ذلك البسملة، ولغيره " باب قول الله تعالى الخ " بحذف ما قبله. قيل السبب في نزول هذه الآية أن أبا اليسر - بفتح التحتانية والمهملة - قتل حمار وحش وهو محرم في عمرة الحديبية فنزلت، حكاه مقاتل في تفسيره. ولم يذكر المصنف في رواية أبي ذر في هذه الترجمة حديثا، ولعله أشار إلى أنه لم يثبت على شرطه في جزاء الصيد حديث مرفوع. قال ابن بطال: اتفق أئمة الفتوى من أهل الحجاز والعراق وغيرهم على أن المحرم إذا قتل الصيد عمدا أو خطأ فعليه الجزاء، وخالف أهل الظاهر وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية في الخطأ، وتمسكوا بقوله تعالى (متعمدا) فإن مفهومه أن المخطئ بخلافه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وعكس الحسن ومجاهد فقالا يجب الجزاء في الخطأ دون العمد فيختص الجزاء بالخطأ والنقمة بالعمد، وعنهما يجب الجزاء على العامد أول مرة، فإن عاد كان أعظم لائمة وعليه النقمة لا الجزاء. قال الموفق في " المغني ": لا نعلم أحدا خالف في وجوب الجزاء على العامد غيرهما. واختلفوا في الكفارة فقال الأكثر: هو مخير كما هو ظاهر الآية. وقال الثوري: يقدم المثل فإن لم يجد أطعم فإن لم يجد صام. وقال سعيد بن جبير: إنما الطعام والصيام فيما لا يبلغ ثمن الصيد واتفق الأكثر على تحريم أكل ما صاده المحرم. وقال الحسن والثوري وأبو ثور وطائفة: يجوز أكله، وهو كذبيحة السارق، وهو وجه للشافعية. وقال الأكثر أيضا: إن الحكم في ذلك ما حكم به السلف لا يتجاوز ذلك، وما لم يحكموا فيه يستأنف فيه الحكم، وما اختلفوا فيه يجتهد فيه. وقال الثوري: الاختيار في ذلك للحكمين في كل زمن. وقال مالك: يستأنف الحكم، والخيار إلى المحكوم عليه، وله أن يقول للحكمين لا تحكما على إلا بالإطعام. وقال الأكثر الواجب في الجزاء نظير الصيد من النعم. وقال أبو حنيفة: الواجب القيمة ويجوز صرفها في المثل. وقال الأكثر: في الكبير كبير وفي الصغير صغير، وفي الصحيح صحيح وفي الكسير كسير. وخالف مالك فقال: في الكبير والصغير كبير وفي الصحيح والمعيب صحيح. واتفقوا على أن المراد بالصيد ما يجوز أكله للحلال من الحيوان الوحشي وأن لا شيء فيما يجوز قتله، واختلفوا في المتولد، فألحقه الأكثر بالمأكول، ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة جدا فلنقتصر على هذا القدر هنا. قوله: (ولم ير ابن عباس وأنس بالذبح بأسا، وهو في غير الصيد نحو الإبل والغنم والبقر والدجاج والخيل) المراد بالذبح ما يذبحه المحرم، والأمر ظاهره العموم، لكن المصنف خصصه بما ذكر تفقها، فإن الصحيح أن حكم ما ذبحه المحرم من الصيد حكم الميتة، وقيل يصح مع الحرمة حتى يجوز لغير المحرم أكله، وبه قال الحسن البصري. وأثر ابن عباس وصله عبد الرزاق من طريق عكرمة أن ابن عباس أمره أن يذبح جزورا وهو محرم، وأما أثر أنس فوصله ابن أبي شيبة من طريق الصباح البجلي " سألت أنس ابن مالك عن المحرم يذبح؟ قال: نعم". وقوله "وهو " أي المذبوح الخ من كلام المصنف قاله تفقها، وهو متفق عليه فيما عدا الخيل فإنه مخصوص بمن يبيح أكلها. قوله: (يقال عدل مثل، فإذا كسرت عدل فهو زنة ذلك) أما تفسير العدل بالفتح بالمثل والكسر بالزنة فهو قول أبي عبيدة في " المجاز " وغيره. وقال الطبري العدل في كلام العرب بالفتح هو قدر الشيء من غير جنسه، والعدل بالكسر قدره من جنسه. قال: وذهب بعض أهل العلم بكلام العرب إلى أن العدل مصدر من قول القائل: عدلت هذا بهذا. وقال بعضهم: العدل هو القسط في الحق، والعدل بالكسر المثل. انتهى. وقد تقدم شيء من هذا في الزكاة. قوله: (قياما: قواما) ، هو قول أبي عبيدة أيضا. وقال الطبري: أصله الواو فحولت عين الفعل ياء كما قالوا في الصوم صمت صياما وأصله صواما. قال الشاعر: قيام دنيا وقوام دين. فرده إلى أصله. قال الطبري: فالمعنى جعل الله الكعبة بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر اتباعه، يقال فلان قيام البيت وقوامه الذي يقيم شأنهم. قوله: (يعدلون: يجعلون له عدلا) هو متفق عليه بين أهل التفسير، ومناسبة إيراده هنا ذكر لفظ العدل في قوله " أو عدل ذلك صياما"؛ وفي قوله " يعدلون " فأشار إلى أنهما من مادة واحدة، وقوله "يجعلون له عدلا " أي مثلا، تعالى الله عن قولهم. الحديث: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ انْطَلَقَ أَبِي عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُحْرِمْ وَحُدِّثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَدُوًّا يَغْزُوهُ فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَمَا أَنَا مَعَ أَصْحَابِهِ تَضَحَّكَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِحِمَارِ وَحْشٍ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَطَعَنْتُهُ فَأَثْبَتُّهُ وَاسْتَعَنْتُ بِهِمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ فَطَلَبْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا وَأَسِيرُ شَأْوًا فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ قُلْتُ أَيْنَ تَرَكْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَرَكْتُهُ بِتَعْهَنَ وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَهْلَكَ يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ إِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يُقْتَطَعُوا دُونَكَ فَانْتَظِرْهُمْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حِمَارَ وَحْشٍ وَعِنْدِي مِنْهُ فَاضِلَةٌ فَقَالَ لِلْقَوْمِ كُلُوا وَهُمْ مُحْرِمُونَ الشرح: قوله: (حدثنا هشام) هو الدستوائي، ويحيى هو ابن أبي كثير. قوله: (عن عبد الله بن أبي قتادة) في رواية معاوية بن سلام عن يحيى عند مسلم أخبرني عبد الله ابن أبي قتادة. قوله: (انطلق أبي عام الحديبية) هكذا ساقه مرسلا، وكذا أخرجه مسلم من طريق معاذ بن هشام عن أبيه، وأخرجه أحمد عن ابن علية عن هشام، لكن أخرجه أبو داود الطيالسي عن هشام عن يحيى فقال " عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم". وفي رواية علي بن المبارك عن يحيى المذكورة في الباب الذي يليه أن أباه حدثه، وقوله "بالحديبية " أصح من رواية الواقدي من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة أن ذلك كان في عمرة القضية. قوله: (فأحرم أصحابه ولم يحرم) الضمير لأبي قتادة بينه مسلم " أحرم أصحابي ولم أحرم " وفي رواية علي بن المبارك " وأنبئنا بعدو بغيقة فتوجهنا نحوهم " وفي هذا السياق حذف بينته رواية عثمان بن موهب عن عبد الله بن أبي قتادة وهي بعد بابين بلفظ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجا فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة " وسيأتي الجمع هناك بين قوله في هذه الرواية " خرج حاجا " وبين قوله في حديث الباب " عام الحديبية " إن شاء الله تعالى. وبين المطلب عن أبي قتادة عند سعيد بن منصور مكان صرفهم ولفظه " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغنا الروحاء". قوله: (وحدث) بضم أوله على البناء للمجهول، وقوله "بغيقة " أي في غيقة وهو بفتح الغين المعجمة بعدها ياء ساكنة ثم قاف مفتوحة ثم هاء. قال السكوني: هو ماء لبني غفار بين مكة والمدينة. وقال يعقوب: هو قليب لبني ثعلبة يصب فيه ماء رضوى ويصب هو في البحر. وحاصل القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في عمرة الحديبية فبلغ الروحاء - وهي من ذي الحليفة على أربعة وثلاثين ميلا - أخبروه بأن عدوا من المشركين بوادي غيقة يخشى منهم أن يقصدوا غرته، فجهز طائفة من أصحابه فيهم أبو قتادة إلى جهتهم ليأمن شرهم، فلما أمنوا ذلك لحق أبو قتادة وأصحابه بالنبي صلى الله عليه وسلم فأحرموا، إلا هو فاستمر هو حلالا لأنه إما لم يجاوز الميقات وإما لم يقصد العمرة، وبهذا يرتفع الإشكال الذي ذكره أبو بكر الأثرم قال: كنت أسمع أصحابنا يتعجبون من هذا الحديث ويقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات وهو غير محرم؟ ولا يدرون ما وجهه. قال: حتى وجدته في رواية من حديث أبي سعيد فيها " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحرمنا، فلما كنا بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في وجه " الحديث. قال: فإذا أبو قتادة إنما جاز له ذلك لأنه لم يخرج يريد مكة. قلت: وهذه الرواية التي أشار إليها تقتضي أن أبا قتادة لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، وليس كذلك لما بيناه. ثم وجدت في صحيح ابن حبان والبزار من طريق عياض بن عبد الله عن أبي سعيد قال " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة على الصدقة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون حتى نزلوا بعسفان " فهذا سبب آخر، ويحتمل جمعهما. والذي يظهر أن أبا قتادة إنما أخر الإحرام لأنه لم يتحقق أنه يدخل مكة فساغ له التأخير، وقد استدل بقصة أبي قتادة على جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن لم يرد حجا ولا عمرة، وقيل كانت هذه القصة قبل أن يؤقت النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت. وأما قول عياض ومن تبعه: إن أبا قتادة لم يكن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وإنما بعثه أهل المدينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمونه أن بعض العرب قصدوا الإغارة على المدينة، فهو ضعيف مخالف لما ثبت في هذه الطريق الصحيحة طريق عثمان بن موهب الآتية بعد بابين، كما أشرت إليها قبل. قوله: (فبينما أبي مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض) في رواية علي بن المبارك " فبصر أصحابي بحمار وحش فجعل بعضهم يضحك إلى بعض " زاد في رواية أبي حازم " وأحبوا لو أني أبصرته " هكذا في جميع الطرق والروايات، ووقع في رواية العذري في مسلم " فجعل بعضهم يضحك إلى " فشددت الياء من إلي. قال عياض: وهو خطأ وتصحيف، وإنما سقط عليه لفظة " بعض"، ثم احتج لضعفها بأنهم لو ضحكوا إليه لكانت أكبر إشارة وقد قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: هل منكم أحد أمره أو أشار إليه؟ قالوا لا. وإذا دل المحرم الحلال على الصيد لم يأكل منه اتفاقا، وإنما اختلفوا في وجوب أجزاء. انتهى. وتعقبه النووي بأنه لا يمكن رد هذه الرواية لصحتها وصحة الرواية الأخرى، وليس في واحدة منهما دلالة ولا إشارة، فإن مجرد الضحك ليس فيه إشارة. قال بعض العلماء: وإنما ضحكوا تعجبا من عروض الصيد ثم ولا قدرة لهم عليه. قلت: قوله فإن مجرد الضحك ليس فيه إشارة صحيح، ولكن لا يكفي في رد دعوى القاضي، فإن قوله " يضحك بعضهم إلى بعض " هو مجرد ضحك، وقوله "يضحك بعضهم إلى " فيه مزيد أمر على مجرد الضحك، والفرق بين الموضعين أنهم اشتركوا في رؤيته فاستووا في ضحك بعضهم إلى بعض، وأبو قتادة لم يكن رآه فيكون ضحك بعضهم إليه بغير سبب باعثا له على التفطن إلى رؤيته، ويؤيد ما قال القاضي ما وقع في رواية أبي النضر عن مولي أبي قتادة كما سيأتي في الصيد بلفظ إذ رأيت الناس متشوفين لشيء فذهبت أنظر فإذا هو حمار وحش، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: لا ندري فقلت: هو حمار وحش. فقالوا: هو ما رأيت " ووقع في حديث أبي سعيد عند البزار والطحاوي وابن حبان في هذه القصة " وجاء أبو قتادة وهو حل فنكسوا رءوسهم كراهية أن يحدوا أبصارهم له فيفطن فيراه " ا ه. فكيف يظن بهم مع ذلك أنهم ضحكوا إليه؟ فتبين أن الصواب ما قال القاضي. وفي قول الشيخ قد صحت الرواية نظر، لأن الاختلاف في إثبات هذه اللفظة وحذفها لم يقع في طريقين مختلفين، وإنما وقع في سياق إسناد واحد مما عند مسلم، فكان مع من أثبت لفظ " بعض " زيادة علم سالمة من الإشكال فهي مقدمة، وبين محمد بن جعفر في روايته عن أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة كما سيأتي في الهبة أن قصة صيده للحمار كانت بعد أن اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونزلوا في بعض المنازل ولفظه " كنت يوما جالسا مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نازل أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم " وبين في هذه الرواية السبب الموجب لرؤيتهم إياه دون أبي قتادة بقوله " فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا لو أني أبصرته، والتفت فأبصرته". ووقع في حديث أبي سعيد المذكور أن ذلك وقع وهم بعسفان وفيه نظر، والصحيح ما سيأتي بعد باب من طريق صالح بن كيسان عن أبي محمد مولي أبي قتادة عنه قال " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالقاحة، ومنا المحرم وغير محرم، فرأيت أصحابي يتراءون شيئا فنظرت فإذا حمار وحش " الحديث. والقاحة بقاف ومهملة خفيفة بعد الألف، موضع قريب من السقيا كما سيأتي. قوله: (فنظرت) هذا فيه التفات، فإن السياق الماضي يقتضي أن يقول فنظر لقوله " فبينا أبي مع أصحابه " فالتقدير: قال أبي فنظرت، وهذا يؤيد الرواية الموصولة. قوله: (فإذا بحمار وحش) قد تقدم أن رؤيته له كانت متأخرة عن رؤية أصحابه، وصرح بذلك فضيل بن سليمان في روايته عن أبي حازم كما سيأتي في الجهاد ولفظه " فرأوا حمارا وحشيا قبل أن يراه أبو قتادة، فلما رأوه تركوه حتى رآه فركب". قوله: (فحملت عليه) في رواية محمد بن جعفر " فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح. فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح. فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيء، فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت " وفي رواية فضيل بن سليمان " فركب فرسا له يقال له الجرادة فسألهم أن يناولوه سوطه فأبوا فتناوله". وفي رواية أبي النضر " وكنت نسيت سوطي فقلت لهم: ناولوني سوطي، فقالوا لا نعينك عليه، فنزلت فأخذته " ووقع عند النسائي من طريق شعبة عن عثمان بن موهب، وعند ابن أبي شيبة عن طريق عبد العزيز بن رفيع. وأخرج مسلم إسنادهما كلاهما عن أبي قتادة " فاختلس من بعضهم سوطا " والرواية الأولى أقوى، ويمكن أن يجمع بينهما بأنه رأى في سوط نفسه تقصيرا فأخذ سوط غيره، واحتاج إلى اختلاسه لأنه لو طلبه منه اختيارا لامتنع. قوله: (فطعنته فأثبته) بالمثلثة ثم الموحدة ثم المثناة أي جعلته ثابتا في مكانه لا حراك به وفي رواية أبي حازم " فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات " وفي رواية أبي النضر " حتى عقرته فأتيت إليهم فقلت لهم: قوموا فاحتملوا، فقالوا لا نمسه، فحملته حتى جئتهم به". قوله: (فأكلنا من لحمه) في رواية فضيل عن أبي حازم " فأكلوا فندموا " وفي رواية محمد بن جعفر عن أبي حازم " فوقعوا يأكلون منه، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا وخبأت العضد معي". وفي رواية مالك عن أبي النضر " فأكل منه بعضهم وأبى بعضهم". وفي حديث أبي سعيد " فجعلوا يشوون منه". وفي رواية المطلب عن أبي قتادة عند سعيد بن منصور " فظللنا نأكل منه ما شئنا طبيخا وشواء ثم تزودنا منه". قوله: (وخشينا أن نقتطع) أي نصير مقطوعين عن النبي صلى الله عليه وسلم منفصلين عنه لكونه سبقهم، وكذا قوله بعد هذا " وخشوا أن يقتطعوا دونك " وبين ذلك رواية علي بن المبارك عن يحيى عند أبي عوانة بلفظ " وخشينا أن يقتطعنا العدو". وفيها عند المصنف " وأنهم خشوا أن يقتطعهم العدو دونك " وهذا يشعر بأن سبب إسراع أبي قتادة لإدراك النبي صلى الله عليه وسلم خشية على أصحابه أن ينالهم بعض أعدائهم. وفي رواية أبي النضر الآتية في الصيد " فأبى بعضهم أن يأكل، فقلت أنا أستوقف لكم النبي صلى الله عليه وسلم فأدركته فحدثته الحديث " ففي هذا أن سبب إدراكه أن يستفتيه عن قصة أكل الحمار، ويمكن الجمع بأن يكون ذلك بسبب الأمرين. قوله: (أرفع) بالتخفيف والتشديد، أي أكلفه السير، " وشأوا " بالشين المعجمة بعدها همزة ساكنة أي تارة، والمراد أنه يركضه تارة ويسير بسهولة أخرى. قوله: (فلقيت رجلا من بني غفار) لم أقف على اسمه. قوله: (تركته بتعهن، وهو قائل السقيا) السقيا بضم المهملة وإسكان القاف بعدها تحتانية مقصورة: قرية جامعة بين مكة والمدينة، وتعهن بكسر المثناة وبفتحها بعدها عين مهملة ساكنة ثم هاء مكسورة ثم نون، ورواية الأكثر بالكسر وبه قيدها البكري في معجم البلاد، ووقع عند الكشميهني بكسر أوله وثالثه، ولغيره بفتحهما، وحكى أبو ذر الهروي أنه سمعها من العرب بذلك المكان بفتح الهاء، ومنهم من يضم التاء ويفتح العين ويكسر الهاء، قيل وهو من تغييراتهم والصواب الأول، وأغرب أبو موسى المديني فضبطه بضم أوله وثانيه وبتشديد الهاء وقال: ومنهم من يكسر التاء، وأصحاب الحديث يسكنون العين، ووقع في رواية الإسماعيلي بدعهن بالدال المهملة بدل المثناة. وقوله "قائل " قال النووي: روى بوجهين أصحهما وأشهرهما بهمزة بين الألف واللام من القيلولة، أي تركته في الليل وبتعهن وعزمه أن يقيل بالسقيا، فمعنى قوله وهو قائل أي سيقيل. والوجه الثاني أنه قابل بالباء الموحدة وهو غريب وكأنه تصحيف، فإن صح فمعناه أن تعهن موضع مقابل للسقيا، فعلى الأول الضمير في قوله " وهو " للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى الثاني الضمير للموضع وهو تعهن، ولا شك أن الأول أصوب وأكثر فائدة. وأغرب القرطبي فقال: قوله " وهو قائل " اسم فاعل من القول أو من القائلة، والأول هو المراد هنا، والسقيا مفعول بفعل مضمر، وكأنه كان بتعهن وهو يقول لأصحابه اقصدوا السقيا. ووقع عند الإسماعيلي من طريق ابن علية عن هشام " وهو قائم بالسقيا " فأبدل اللام في قائل ميما وزاد الباء في السقيا، قال الإسماعيلي: الصحيح قائل باللام. قلت: وزيادة الباء توهي الاحتمال الأخير المذكور. قوله: (فقلت) في السياق حذف تقديره: فسرت فأدركته فقلت، ويوضحه رواية علي بن المبارك في الباب الذي يليه بلفظ " فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيته فقلت: يا رسول الله". قوله: (إن أهلك يقرءون عليك السلام) المراد بالأهل هنا الأصحاب بدليل رواية مسلم وأحمد وغيرهما من هذا الوجه بلفظ " أن أصحابك". قوله: (فانتظرهم) بصيغة فعل الأمر من الانتظار، زاد مسلم من هذا الوجه " فانتظرهم " بصيغة الفعل الماضي منه، ومثله لأحمد عن ابن علية. وفي رواية علي بن المبارك " فانتظرهم ففعل". قوله: (أصبت حمار وحش وعندي منه فاضله) كذا للأكثر بضاد معجمة أي فضلة. قال الخطابي: قطعة فضلت منه فهي فاضلة، أي باقية. قوله: (فقال للقوم كلوا) سيأتي الكلام عليه وعلى ما في الحديث من الفوائد بعد بابين. |
08-21-2013, 04:01 PM | #518 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب إِذَا رَأَى الْمُحْرِمُونَ صَيْدًا فَضَحِكُوا فَفَطِنَ الْحَلَالُ الشرح:
قوله: (باب إذا رأى المحرمون صيدا فضحكوا ففطن الحلال) أي لا يكون ذلك منهم إشارة له إلى الصيد فيحل لهم أكل الصيد، ويجوز كسر الطاء من فطن وفتحها. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ أُحْرِمْ فَأُنْبِئْنَا بِعَدُوٍّ بِغَيْقَةَ فَتَوَجَّهْنَا نَحْوَهُمْ فَبَصُرَ أَصْحَابِي بِحِمَارِ وَحْشٍ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الْفَرَسَ فَطَعَنْتُهُ فَأَثْبَتُّهُ فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي فَأَكَلْنَا مِنْهُ ثُمَّ لَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَشِينَا أَنْ نُقْتَطَعَ أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا وَأَسِيرُ عَلَيْهِ شَأْوًا فَلَقِيتُ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَقُلْتُ أَيْنَ تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَرَكْتُهُ بِتَعْهَنَ وَهُوَ قَائِلٌ السُّقْيَا فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَصْحَابَكَ أَرْسَلُوا يَقْرَءُونَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ وَبَرَكَاتِهِ وَإِنَّهُمْ قَدْ خَشُوا أَنْ يَقْتَطِعَهُمْ الْعَدُوُّ دُونَكَ فَانْظُرْهُمْ فَفَعَلَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا اصَّدْنَا حِمَارَ وَحْشٍ وَإِنَّ عِنْدَنَا فَاضِلَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا وَهُمْ مُحْرِمُونَ الشرح: قوله: (عن يحيى) هو ابن أبي كثير. قوله: (وأنبئنا) بضم أوله أي أخبرنا. قوله: (فبصر) بفتح الموحدة وضم المهملة. وفي رواية الكشميهني " فنظر " بنون وظاء مشالة، وعلى هذا فدخول الباء في قوله " بحمار وحش " مشكل إلا أن يقال ضمن نظر معنى بصر، أو الباء بمعنى إلى على مذهب من يقول إنها تتناوب. قوله: (إنا اصدنا) بتشديد المهملة والدال للأكثر بالإدغام وأصله اصطدنا فأبدلت الطاء مثناة ثم أدغمت، ولبعضهم بتخفيف الصاد وسكون الدال، أي أثرنا من الاصاد وهو الإثارة. ولبعضهم " صدنا " بغير ألف. وحدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا صالح بن كيسان عن أبي محمد عن أبي قتادة رضي الله عنه قال " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالقاحة، ومنا المحرم ومنا غير المحرم فرأيت أصحابي يتراءون شيئا، فنظرت فإذا حمار وحش - يعني وقع سوطه - فقالوا لا نعينك عليه بشيء، إنا محرمون، فتناولته فأخذته، ثم أتيت الحمار من وراء أكمة فعقرته، فأتيت به أصحابي، فقال بعضهم: كلوا. وقال بعضهم: لا تأكلوا. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمامنا فسألته فقال: كلوه حلال". قال لنا عمرو: اذهبوا إلى صالح فسلوه عن هذا وغيره. وقدم علينا ها هنا. *3*باب لَا يُعِينُ الْمُحْرِمُ الْحَلَالَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ الشرح: قوله: (باب لا يعين المحرم الحلال في قتل الصيد) أي بفعل ولا قول، قيل أراد بهذه الترجمة الرد على من فرق من أهل الرأي بين الإعانة التي لا يتم الصيد إلا بها فتحرم، وبين الإعانة التي يتم الصيد بدونها فلا تحرم. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَاحَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَلَاثٍ ح و حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَاحَةِ وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ فَرَأَيْتُ أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ يَعْنِي وَقَعَ سَوْطُهُ فَقَالُوا لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إِنَّا مُحْرِمُونَ فَتَنَاوَلْتُهُ فَأَخَذْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ الْحِمَارَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَعَقَرْتُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ كُلُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَأْكُلُوا فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَمَامَنَا فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ كُلُوهُ حَلَالٌ قَالَ لَنَا عَمْرٌو اذْهَبُوا إِلَى صَالِحٍ فَسَلُوهُ عَنْ هَذَا وَغَيْرِهِ وَقَدِمَ عَلَيْنَا هَا الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله) هو ابن محمد الجعفي المسندي، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: (عن صالح) في رواية كريمة وغيرها " حدثنا صالح". قوله: (بالقاحة) بالقاف والمهملة: واد على نحو ميل من السقيا إلى جهة المدينة، ويقال لواديها وادي العباديد. وقد بين المصنف في الطريق الأولى أنها من المدينة على ثلاث أي ثلاث مراحل، قال عياض: رواه الناس بالقاف إلا القابسي فضبطوه عنه بالفاء، وهو تصحيف. قلت: ووقع عند الجوزقي من طريق عبد الرحمن بن بشر عن سفيان " بالصفاح " بدل القاحه، والصفاح بكسر المهملة بعدها فاء وآخره مهملة وهو تصحيف فإن الصفاح موضع بالروحاء، وبين الروحاء وبين السقيا مسافة طويلة، وقد تقدم أن الروحاء هو المكان الذي ذهب أبو قتادة وأصحابه منه إلى جهة البحر ثم التقوا بالقاحة وبها وقع له الصيد المذكور، وكأنه تأخر هو ورفقته للراحة أو غيرها وتقدمهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى السقيا حتى لحقوه. قوله: (وحدثنا علي بن عبد الله) هو ابن المديني، هكذا حول المصنف الإسناد إلى رواية علي للتصريح فيه عن سفيان بقوله " حدثنا صالح بن كيسان " وقد اعتبرته فوجدته ساق المتن على لفظ على خاصة، وهذه عاده المصنف غالبا إذا تحول إلى إسناد ساق المتن على لفظ الثاني. قوله: (عن أبي محمد) هو نافع مولى أبي قتادة الذي روى عنه أبو النضر، وسيأتي في كتاب الصيد من طريق مالك وغيره عنه، ووقع عند مسلم عن ابن عمر عن سفيان عن صالح " سمعت أبا محمد مولى أبي قتادة"، وكذا وقع هنا في رواية كريمة، ولأحمد من طريق سعد بن إبراهيم " سمعت رجلا كان يقال له مولى أبي قتادة ولم يكن مولى " أي لأبي قتادة. وفي رواية ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي سلمة أن نافعا مولى بني غفار، فتحصل من ذلك أنه لم يكن مولى لأبي قتادة حقيقة، وقد صرح بذلك ابن حبان فقال: هو مولى عقيلة بنت طلق الغفارية، وكان يقال له مولى أبي قتادة نسب إليه ولم يكن مولاه. قلت: فيحتمل أنه نسب إليه لكونه كان زوج مولاته، أو للزومه إياه أو نحو ذلك، كما وقع لمقسم مولى ابن عباس وغيره، والله أعلم. قوله: (يتراءون) يتفاعلون من الرؤية. قوله: (فإذا حمار وحش يعني وقع سوطه فقالوا لا نعينك) كذا وقع هنا والشك فيه من البخاري، فقد رواه أبو عوانة عن أبي داود الحراني عن علي بن المديني بلفظ " فإذا حمار وحش، فركب فرسي وأخذت الرمح والسوط، فسقط مني السوط فقلت: ناولوني، فقالوا: ليس نعينك عليه بشيء، إنا محرمون " وفي قولهم إنا محرمون دلالة على أنهم كانوا قد علموا أنه يحرم على المحرم الإعانة على قتل الصيد. قوله: (فتناولته) زاد أبو عوانة " بشيء " وبهذا يندفع إشكال من قال ذكر التناول بعد الأخذ تكرار، أو معناه تكلفت الأخذ فأخذته. قوله: (من وراء أكمة) بفتحات هي التل من حجر واحد، وقد تقدم ذكرها في الاستسقاء. قوله: (فقال بعضهم كلوا) قد تقدم من عدة أوجه أنهم أكلوا، والظاهر أنهم أكلوا أول ما أتاهم به، ثم طرأ عليهم الشك كما في لفظ عثمان بن موهب في الباب الذي يليه " فأكلنا من لحمها ثم قلنا: أنأكل من لحم صيد ونحن محرمون " وأصرح من ذلك رواية أبي حازم في الهبة بلفظ " ثم جئت به فوقعوا فيه يأكلون، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم " وفي حديث أبي سعيد " فجعلوا يشوون منه ثم قالوا: رسول الله بين أظهرنا، وكان تقدمهم فلحقوه فسألوه". قوله: (وهو أمامنا) بفتح أوله. قوله: (فقال كلوه حلال) كذا وقع بحذف المبتدأ، وبين ذلك أبو عوانة فقال " كلوه فهو حلال " وفي رواية مسلم فقال " هو حلال فكلوه". قوله: (قال لنا عمرو) أي ابن دينار، وصرح به أبو عوانة في روايته، والقائل سفيان، والغرض بذلك تأكيد ضبطه له وسماعه له من صالح وهو ابن كيسان، وقوله "هاهنا " يعني مكة. والحاصل أن صالح ابن كيسان كان مدنيا فقدم مكة فدل عمرو بن دينار أصحابه عليه ليسمعوا منه. وقرأت بخط بعض من تكلم على هذا الحديث ما نصه: في قول سفيان " قال لنا عمرو الخ " إشكال، فإن سفيان روى ذلك عن صالح فكيف يقول له عمرو ولمن معه اذهبوا إلى صالح؟ فيحتمل أنه قال ذلك تأكيدا في تجديد سماع سفيان ذلك منه مرة بعد أخرى، ويؤخذ منه أن سفيان حدث بذلك عن صالح في حال حياته. انتهى. وهو احتمال بعيد جدا. وزعم أن عمرو بن دينار قال لهم ذلك حين قدم عليهم الكوفة. قال: وكأنه سمع سفيان يحدث به عن صالح فصدقه وأكده بما قال. وقوله اذهبوا إليه أي إلى صالح بالمدينة ا ه. وهذا أبعد من الأول، وما سمعه سفيان من صالح إلا بمكة، ولم يقدم عمرو الكوفة وإنما قال ذلك لسفيان وهما بمكة، وما حدث به سفيان لعلي إلا بعد موت صالح وعمرو بمدة طويلة، وأراد بقوله قال لنا عمرو اذهبوا الخ كيفية تحمله له من صالح وأنه بدلالة عمرو، والله أعلم. *3*باب لَا يُشِيرُ الْمُحْرِمُ إِلَى الصَّيْدِ لِكَيْ يَصْطَادَهُ الْحَلَالُ الشرح: قوله: (باب لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال) أشار المصنف إلى تحريم ذلك، ولم يتعرض لوجوب الجزاء في ذلك، وهي مسألة خلاف: فاتفقوا - كما تقدم - على تحريم الإشارة إلى الصيد ليصطاد، وعلى سائر وجوه الدلالات على المحرم، لكن قيده أبو حنيفة بما إذا لم يمكن الاصطياد بدونها، واختلفوا في وجوب الجزاء على المحرم إذا دل الحلال على الصيد بإشارة أو غيرها أو أعان عليه، فقال الكوفيون وأحمد وإسحاق: يضمن المحرم ذلك. وقال مالك والشافعي: لا ضمان عليه كما لو دل الحلال حلالا على قتل صيد في الحرم. قالوا: ولا حجة في حديث الباب، لأن السؤال عن الإعانة والإشارة إنما وقع ليبين لهم هل يحل لهم أكله أو لا؟ ولم يتعرض لذكر الجزاء. واحتج الموفق بأنه قول علي وابن عباس ولا نعلم لهما مخالفا من الصحابة. وأجيب بأنه اختلف فيه علي ابن عباس، وفي ثبوته عن علي نظر، ولأن القاتل انفرد بقتله باختياره مع انفصال الدال عنه فصار كمن دل محرما أو صائما على امرأة فوطئها فإنه يأثم بالدلالة ولا يلزمه كفارة ولا يفطر بذلك. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجُوا مَعَهُ فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى نَلْتَقِيَ فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا مِنْ لَحْمِهَا وَقَالُوا أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِ الْأَتَانِ فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا أَحْرَمْنَا وَقَدْ كَانَ أَبُو قَتَادَةَ لَمْ يُحْرِمْ فَرَأَيْنَا حُمُرَ وَحْشٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَبُو قَتَادَةَ فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا ثُمَّ قُلْنَا أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا قَالَ أَمِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا قَالُوا لَا قَالَ فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا الشرح: قوله: (حدثنا عثمان هو ابن موهب) بفتح الهاء وموهب جده، وهو عثمان بن عبد الله التيمي مدني تابعي ثقة، روى هنا عن تابعي أكبر منه قليلا. قوله: (خرج حاجا) قال الإسماعيلي: هذا غلط، فإن القصة كانت في عمرة، وأما الخروج إلى الحج فكان في خلق كثير وكان كلهم على الجادة لا على ساحل البحر. ولعل الراوي أراد خرج محرما فعبر عن الإحرام بالحج غلطا. قلت: لا غلط في ذلك، بل هو من المجاز السائغ. وأيضا فالحج في الأصل قصد البيت فكأنه قال خرج قاصدا للبيت، ولهذا يقال للعمرة الحج الأصغر. ثم وجدت الحديث من رواية محمد بن أبي بكر المقدمي عن أبي عوانة بلفظ " خرج حاجا أو معتمرا " أخرجه البيهقي، فتبين أن الشك فيه من أبي عوانة، وقد جزم يحيى بن أبي كثير بأن ذلك كان في عمرة الحديبية وهذا هو المعتمد. قوله: (إلا أبا قتادة) كذا للكشميهني، ولغيره " إلا أبو قتادة " بالرفع، ووقع بالنصب عند مسلم وغيره من هذا الوجه، قال ابن مالك في " التوضيح ": حق المستثني بإلا من كلام تام موجب أن ينصب مفردا كان أو مكملا معناه بما بعده، فالمفرد نحو قوله تعالى (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) والمكمل نحو (إنا لمنجوهم أجمعين، إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين) ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين في هذا النوع إلا النصب، وقد أغفلوا وروده مرفوعا بالابتداء مع ثبوت الخبر ومع حذفه، فمن أمثلة الثابت الخبر قول أبي قتادة " أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم " فإلا بمعنى لكن، وأبو قتادة مبتدأ ولم يحرم خبره، ونظيره من كتاب الله تعالى (ولا يلتفت منكم أحد، إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم) فإنه لا يصح أن يجعل امرأتك بدلا من أحد لأنها لم تسر معهم فيتضمنها ضمير المخاطبين. وتكلف بعضهم بأنه وإن لم يسر بها لكنها شعرت بالعذاب فتبعتهم ثم التفتت فهلكت. قال: وهذا على تقدير صحته لا يوجب دخولها في المخاطبين، ومن أمثلة المحذوف الخبر قوله صلى الله عليه وسلم "كل أمتي معافى إلا المجاهرون " أي لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، ومنه من كتاب الله تعالى قوله تعالى (فشربوا منه إلا قليل منهم) أي لكن قليل منهم لم يشربوا. قال: وللكوفيين في هذا الثاني مذهب آخر وهو أن يجعلوا " إلا " حرف عطف وما بعدها معطوف على ما قبلها ا ه. وفي نسبة الكلام المذكور لابن أبي قتادة دون أبي قتادة نظر، فإن سياق الحديث ظاهر في أن قوله قول أبي قتادة حيث قال " إن أباه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجا فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة - إلى أن قال - أحرموا كلهم إلا أبو قتادة". وقول أبي قتادة " فيهم أبو قتادة " من باب التجريد، وكذا قوله " إلا أبو قتادة " ولا حاجة إلى جعله من قول ابنه لأنه يستلزم أن يكون الحديث مرسلا. ومن توجيه الرواية المذكورة وهي قوله إلا أبو قتادة أن يكون على مذهب من يقول: علي بن أبو طالب. قوله: (فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا) في هذا السياق زيادة على جميع الروايات لأنها متفقة على إفراد الحمار بالرؤية، وأفادت هذه الرواية أنه من جملة الحمر وأن المقتول كان أتانا أي أنثى، فعلى هذا في إطلاق الحمار عليها تجوز. قوله: (فحملنا ما بقي من لحم الأتان) وفي رواية أبي حازم الآتية للمصنف في الهبة " فرحنا وخبأت العضد معي " وفيه " معكم منه بشيء؟ فناولته العضد فأكلها حتى تعرقها " وله في الجهاد قال " معنا رجله، فأخذها فأكلها " وفي رواية المطلب " قد رفعنا لك الذراع، فأكل منها". قوله: (قال أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا لا) وفي رواية مسلم " هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء " وله من طريق شعبة عن عثمان " هل أشرتم أو أعنتم أو اصطدتم " ولأبي عوانة من هذا الوجه " أشرتم أو اصطدتم أو قتلتم". قوله: (قال فكلوا ما بقي من لحمها) صيغة الأمر هنا للإباحة لا للوجوب، لأنها وقعت جوابا عن سؤالهم عن الجواز لا عن الوجوب، فوقعت الصيغة على مقتضى السؤال، ولم يذكر في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم أكل من لحمها، وذكره في روايتي أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة كما تراه ولم يذكر ذلك أحد من الرواة عن عبد الله بن أبي قتادة غيره، ووافقه صالح بن حسان عند أحمد وأبي داود الطيالسي وأبي عوانة ولفظه " فقال كلوا وأطعموني " وكذا لم يذكرها أحد من الرواة عن أبي قتادة نفسه إلا المطلب عن سعيد بن منصور، ووقع لنا من رواية أبي محمد وعطاء بن يسار وأبي صالح كما سيأتي في الصيد، ومن رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عند إسحاق، ومن رواية عبادة بن تميم وسعد بن إبراهيم عند أحمد، وتفرد معمر عن يحيى بن أبي كثير بزيادة مضادة لروايتي أبي حازم كما أخرجه إسحاق وابن خزيمة والدار قطني من طريقه وقال في آخره " فذكرت شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: إنما اصطدته لك " فأمر أصحابه فأكلوه، ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له. قال ابن خزيمة وأبو بكر النيسابوري والدار قطني والجوزقي: تفرد بهذه الزيادة معمر. قال ابن خزيمة: إن كانت هذه الزيادة محفوظة احتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أكل من لحم ذلك الحمار قبل أن يعلمه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله، فلما أعلمه امتنع ا ه. وفيه نطر لأنه لو كان حراما ما أقر النبي صلى الله عليه وسلم على الأكل منه إلى أن أعلمه أبو قتادة بأنه صاده لأجله، ويحتمل أن يكون ذلك لبيان الجواز، فإن الذي يحرم على المحرم إنما هو الذي يعلم أنه صيد من أجله، وأما إذا أتى بلحم لا يدري ألحم صيدا أو لا فحمله على أصل الإباحة فأكل منه لم يكن ذلك حراما على الآكل. وعندي بعد ذلك فيه وقفة، فإن الروايات المتقدمة ظاهرة في أن الذي تأخر هو العضد، وأنه صلى الله عليه وسلم أكلها حتى تعرقها أي لم يبق منها إلا العظم، ووقع عند البخاري في الهبة " حتى نفدها " أي فرغها، فأي شيء يبقى منها حينئذ حتى يأمر أصحابه بأكله. لكن رواية أبي محمد الآتية في الصيد " أبقى معكم شيء منه؟ قلت: نعم قال: كلوا، فهو طعمة أطعمكموها الله " فأشعر بأنه بقي منها غير العضد، والله أعلم. وسيأتي البحث في حكم ما يصيده الحلال بالنسبة إلى المحرم في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. وفي حديث أبي قتادة من الفوائد أن تمنى المحرم أن يقع من الحلال الصيد ليأكل المحرم منه لا يقدح في إحرامه، وأن الحلال إذا صاد لنفسه جاز للمحرم الأكل من صيده، وهذا يقوي من حمل الصيد في قوله تعالى (وحرم عليكم صيد البر) على الاصطياد، وفيه الاستيهاب من الأصدقاء وقبول الهدية من الصديق. وقال عياض: عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من أبي قتادة ذلك تطييبا لقلب من أكل منه بيانا للجواز بالقول والفعل لإزالة الشبهة التي حصلت لهم، وفيه تسمية الفرس، وألحق المصنف به الحمار فترجم له في الجهاد. وقال ابن العربي: قالوا تجوز التسمية لما لا يعقل، وإن كان لا يتفطن له ولا يجيب إذا نودي، مع أن بعض الحيوانات ربما أدمن على ذلك بحيث يصير يميز اسمه إذا دعي به. وفيه إمساك نصيب الرفيق الغائب ممن يتعين احترامه أو ترجى بركته أو يتوقع منه ظهور حكم تلك المسألة بخصوصها. وفيه تفريق الإمام أصحابه للمصلحة، واستعمال الطليعة في الغزو، وتبليغ السلام عن قرب وعن بعد، وليس فيه دلالة على جواز ترك رد السلام ممن بلغه لأنه يحتمل أن يكون وقع وليس في الخبر ما ينفيه. وفيه أن عقر الصيد ذكاته، وجواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن العربي: هو اجتهاد بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم لا في حضرته. وفيه العمل بما أدى إليه الاجتهاد ولو تضاد المجتهدان ولا يعاب واحد منهما على ذلك لقوله " فلم يعب ذلك علينا " وكأن الآكل تمسك بأصل الإباحة، والممتنع نظر إلى الأمر الطارئ. وفيه الرجوع إلى النص عند تعارض الأدلة، وركض الفرس في الاصطياد، والتصيد في الأماكن الوعرة، والاستعانة بالفارس، وحمل الزاد في السفر، والرفق بالأصحاب والرفقاء في السير، واستعمال الكناية في الفعل كما تستعمل في القول لأنهم استعملوا الضحك في موضع الإشارة لما اعتقدوه من أن الإشارة لا تحل. وفيه جواز سوق الفرس للحاجة والرفق به مع ذلك لقوله " وأسير شأوا " ونزول المسافر وقت القائلة، وفيه ذكر الحكم مع الحكمة في قوله " إنما هي طعمة أطعمكموها الله". (تكملة) لا يجوز للمحرم قتل الصيد إلا إن صال عليه فقتله دفعا فيجوز، ولا ضمان عليه. والله أعلم. *3*باب إِذَا أَهْدَى لِلْمُحْرِمِ حِمَارًا وَحْشِيًّا حَيًّا لَمْ يَقْبَلْ الشرح: قوله: (باب إذا أهدى) أي الحلال (للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل) كذا قيده في الترجمة بكونه حيا، وفيه إشارة إلى أن الرواية التي تدل علي أنه كان مذبوحا موهمة، وسأبين ما في ذلك إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ الشرح: قوله: (عن ابن شهاب الخ) لم يختلف على مالك في سياقه معنعنا وأنه من مسند الصعب إلا ما وقع في " موطأ ابن وهب " فإنه قال في روايته عن ابن عباس " أن الصعب بن جثامة أهدى " فجعله من مسند ابن عباس، نبه على ذلك الدار قطني في " الموطآت " وكذا أخرجه مسلم من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال " أهدى الصعب " والمحفوظ في حديث مالك الأول، وسيأتي للمصنف في الهبة من طريق شعيب عن الزهري قال " أخبرني عبيد الله أن ابن عباس أخبره أنه سمع الصعب - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يخبر أنه أهدى " والصعب بفتح الصاد وسكون العين المهملتين بعدها موحدة، وأبوه جثامة بفتح الجيم وتثقيل المثلثة وهو من بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وكان ابن أخت أبي سفيان بن حرب، أمه زينب بنت حرب بن أمية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخي بينه وبين عوف بن مالك. قوله: (حمارا وحشيا) لم تختلف الرواة عن مالك في ذلك، وتابعه عامة الرواة عن الزهري، وخالفهم ابن عيينة عن الزهري فقال " لحم حمار وحش " أخرجه مسلم، لكن بين الحميدي صاحب سفيان أنه كان يقول في هذا الحديث " حمار وحش " ثم صار يقول " لحم حمار وحش " فدل على اضطرابه فيه، وقد توبع على قوله " لحم حمار وحش " من أوجه فيها مقال، منها ما أخرجه الطبراني من طريق عمرو بن دينار عن الزهري لكن إسناده ضعيف. وقال إسحاق في مسنده. : أخبرنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة عن الزهري فقال " لحم حمار " وقد خالفه خالد الواسطي عن محمد بن عمرو فقال " حمار وحش " كالأكثر، وأخرجه الطبراني من طريق ابن إسحاق عن الزهري فقال " رجل حمار وحش " وابن إسحاق حسن الحديث إلا أنه لا يحتج به إذا خولف، ويدل على وهم من قال فيه عن الزهري ذلك ابن جريج قال " قلت للزهري الحمار عقير؟ قال لا أدري " أخرجه ابن حزيمة وابن عوانة في صحيحيهما، وقد جاء عن ابن عباس من وجه آخر أن الذي أهداه الصعب لحم حمار فأخرجه مسلم من طريق الحاكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال " أهدى الصعب إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل حمار " وفي رواية عنده " عجز حمار وحش يقطر دما " وأخرجه أيضا من طريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد قال تارة " حمار وحش " وتارة " شق حمار " ويقوى ذلك ما أخرجه مسلم أيضا من طريق طاوس عن ابن عباس قال " قدم زيد بن أرقم، فقال له عبد الله بن عباس يستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام؟ قال: أهدى له عضو من لحم صيد فرده وقال: إنا لا نأكله، إنا حرم". وأخرجه أبو داود وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال " يا زيد بن أرقم، هل علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكره. واتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه، إلا ما رواه ابن وهب والبيهقي من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية " أن الصعب أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش وهو بالجحفة فأكل منه وأكل القوم " قال البيهقي: إن كان هذا محفوظا فلعله رد الحي وقبل اللحم، قلت وفي هذا الجمع نظر لما بينته، فإن كانت الطرق كلها محفوظة فلعله رده حيا لكونه صيد لأجله ورد اللحم تارة لذلك وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصد لأجله، وقد قال الشافعي في " الأم ": إن كان الصعب أهدى له حمارا حيا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حي وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له. ونقل الترمذي عن الشافعي أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه. ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر وهو حال رجوعه صلى الله عليه وسلم من مكة، ويؤيده أنه جازم فيه بوقوع ذلك بالجحفة وفي غيرها من الروايات بالأبواء أو بودان. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقدمه له، فمن قال أهدى حمارا أراد بتمامه مذبوحا حيا، ومن قال لحم حمار أراد ما قدمه للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: ويحتمل أن يكون من قال حمارا أطلق وأراد بعضه مجازا. قال ويحتمل أنه أهداه له حيا فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظانا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء من الصيد حكم الكل، قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الروايات. وقال النووي: ترجم البخاري بكون الحمار حيا، وليس في سياق الحديث تصريح بذلك، وكذا نقلوا هذا التأويل عن مالك، وهو باطل لأن الروايات التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح. انتهى. وإذا تأملت ما تقدم لم يحسن إطلاقه بطلان التأويل المذكور ولا سيما في رواية الزهري التي هي عمدة هذا الباب، وقد قال الشافعي في " الأم ": حديث مالك أن الصعب أهدى حمارا أثبت من حديث من روى أنه أهدى لحم حمار. وقال الترمذي: روى بعض أصحاب الزهري في حديث الصعب " لحم حمار وحش " وهو غير محفوظ. قوله: (بالأبواء) بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمد: جبل من عمل الفرع بضم الفاء والراء بعدها مهملة، قيل سمى الأبواء لوبائه على القلب، وقيل لأن السيول تتبوؤه أي تحمله. قوله: (أو بودان) شك من الراوي، وهو بفتح الواو وتشديد الدال وآخرها نون موضع بقرب الجحفة، وقد سبق في حديث عمرو بن أمية أنه كان بالجحفة، وودان أقرب إلى الجحفة من الأبواء فإن من الأبواء إلى الجحفة للآتي من المدينة ثلاثة وعشرين ميلا، ومن ودان إلى الجحفة ثمانية أميال، وبالشك جزم أكثر الرواة، وجزم ابن إسحاق وصالح بن كيسان عن الزهري بودان، وجزم معمر وعبد الرحمن ابن إسحاق ومحمد بن عمرو بالأبواء، والذي يظهر لي أن الشك فيه من ابن عباس لأن الطبراني أخرج الحديث من طريق عطاء عنه على الشك أيضا. قوله: (فلما رأى ما في وجهه) في رواية شعيب " فلما عرف في وجهي رده هديتي". وفي رواية الليث عن الزهري عند الترمذي " فلما رأى ما في وجهه من الكراهية " وكذا لابن خزيمة من طريق ابن جريج المذكورة. قوله: (إنا لم نرده عليك) في رواية شعيب وابن جريج " ليس بنا رد عليك " وفي رواية عبد الرحمن ابن إسحاق عن الزهري عند الطبراني " إنا لم نرده عليك كراهية له ولكنا حرم " قال عياض: ضبطناه في الروايات " لم نرده " بفتح الدال، وأبى ذلك المحققون من أهل العربية وقالوا: الصواب أنه بضم الدال لأن المضاعف من المجزوم يراعى فيه الواو التي توجبها له ضمة الهاء بعدها. قال: وليس الفتح بغلط بل ذكره ثعلب في الفصيح. نعم تعقبوه عليه بأنه ضعيف، وأوهم صنيعه أنه فصيح، وأجازوا أيضا الكسر وهو أضعف الأوجه. قلت: ووقع في رواية الكشميهني بفك الإدغام " لم نردده " بضم الأولى وسكون الثانية ولا إشكال فيه. قوله: (إلا أنا حرم) زاد صالح بن كيسان عند النسائي " لا نأكل الصيد". وفي رواية سعيد عن ابن عباس " لولا أنا محرمون لقبلناه منك". واستدل بهذا الحديث على تحريم الأكل من لحم الصيد على المحرم مطلقا لأنه اقتصر في التعليل على كونه محرما فدل على أنه سبب الامتناع خاصة، وهو قول علي وابن عباس وابن عمر والليث والثوري وإسحاق لحديث الصعب هذا، ولما أخرجه أبو داود وغيره من حديث علي " أنه قال لناس من أشجع: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى له رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله؟ قالوا: نعم " لكن يعارض هذا الظاهر ما أخرجه مسلم أيضا من حديث طلحة أنه " أهدى له لحم طير وهو محرم، فوقف من أكله وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". وحديث أبي قتادة المذكور في الباب قبله وحديث عمير بن سلمة " أن البهزي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ظبيا وهو محرم، فأمر أبا بكر أن يقسمه بين الرفاق"؛ أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره، وبالجواز مطلقا قال الكوفيون وطائفة من السلف، وجمع الجمهور بين ما اختلف من ذلك بأن أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه ثم يهدي منه للمحرم، وأحاديث الرد محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم. قالوا والسبب في الاقتصار على الإحرام عند الاعتذار للصعب أن الصيد لا يحرم على المرء إذا صيد له إلا إذا كان محرما، فبين الشرط الأصلي وسكت عما عداه فلم يدل على نفيه، وقد بينه في الأحاديث الأخر. ويؤيد هذا الجمع حديث جابر مرفوعا " صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم " أخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة. قلت: وقد تقدم أن عند النسائي من رواية صالح ابن كيسان " إنا حرم لا نأكل الصيد " فبين العلتين جميعا، وجاء عن مالك تفصيل آخر بين ما صيد للمحرم قبل إحرامه يجوز له الأكل منه أو بعد إحرامه فلا، وعن عثمان التفصيل بين ما يصاد لأجله من المحرمين فيمتنع عليه ولا يمتنع على محرم آخر. وقال ابن المنير في الحاشية: حديث الصعب يشكل على مالك لأنه يقول: ما صيد من أجل المحرم يحرم على المحرم وعلى غير المحرم، فيمكن أن يقال قوله " فرده عليه " لا يستلزم أنه أباح له أكله، بل يجوز أن يكون أمره بإرساله إن كان حيا وطرحه إن كان مذبوحا فإن السكوت عن الحكم لا يدل على الحكم بضده، وتعقب بأنه وقت البيان فلو لم يجز له الانتفاع به لم يرده عليه أصلا إذ لا اختصاص له به. وفي حديث الصعب الحكم بالعلامة لقوله " فلما رأى ما في وجهي". وفيه جواز رد الهدية لعلة، وترجم له المصنف " من رد الهدية لعلة " وفيه الاعتذار عن رد الهدية تطييبا لقلب المهدي، وأن الهبة لا تدخل في الملك إلا بالقبول، وأن قدرته على تملكها لا تصيره مالكا لها، وأن على المحرم أن يرسل ما في يده من الصيد الممتنع عليه اصطياده. |
08-21-2013, 04:03 PM | #519 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنْ الدَّوَابِّ الشرح:
قوله: (باب ما يقتل المحرم من الدواب) أي مما لا يجب عليه فيه الجزاء، وذكر المصنف فيه ثلاثة أحاديث، الأول منها: اختلف فيه علي ابن عمر، فساقه المصنف على الاختلاف كما سأبينه. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ حَفْصَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَا حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ الشرح: قوله: (خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح) كذا أورده مختصرا وأحال به على طريق سالم، وهو في الموطأ وتمامه " الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور". قوله: (وعن عبد الله بن دينار) هو معطوف على الطريق الأولى، وهو في الموطأ كذلك عن نافع عن ابن عمر، وعن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. وقد أورده المصنف في بدء الخلق عن القعنبي عن مالك وساق لفظه مثله سواء. وكذا أخرجه مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار، وأخرجه أحمد من طريق شعبة عن عبد الله بن دينار فقال " الحية " بدل العقرب. قوله: (عن زيد بن جبير) هو الطائي الكوفي، ليس له في الصحيح رواية عن غير ابن عمر، ولا له فيه إلا هذا الحديث وآخر تقدم في المواقيت، وقد خالف نافعا وعبد الله بن دينار في إدخال الواسطة بين ابن عمر وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ووافق سالما، إلا أن زيدا أبهمها وسالما سماها. قوله: (حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقتل المحرم) كذا ساق منه هذا القدر وأحال به على الطريق التي بعده، وفيه إشارة منه إلى تفسير المبهمة فيه بأنها المسماة في الرواية الأخرى، فقد وصله أبو نعيم في المستخرم من طريق أبي خليفة عن مسدد بإسناد البخاري، وبقيته كرواية حفصة إلا أن فيه تقديما وتأخيرا في بعض الأسماء. وأخرجه مسلم عن شيبان عن أبي عوانة فزاد فيه أشياء ولفظه " سأل رجل ابن عمر ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم؟ فقال: حدثتني إحدى نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحدأة والغراب والحية " قال " وفي الصلاة أيضا " فلم يقل في أوله خمسا وزاد الحية، وزاد في آخره ذكر الصلاة لينبه بذلك على جواز قتل المذكورات في جميع الأحوال وسأذكر البحث في ذلك، ولم أر هذه الزيادة في غير هذه الطريق فقد أخرجه مسلم من طريق زهير بن معاوية والإسماعيلي من طريق إسرائيل كلاهما عن زيد بن جبير بدونها. قوله: (عن يونس) هو ابن يزيد. قوله: (عن سالم) في رواية مسلم " أخبرني سالم " أخرجه عن حرملة عن ابن وهب. قوله: (قال عبد الله) في رواية مسلم " قال لي عبد الله " وفي رواية الإسماعيلي عن سالم عن أبيه أخرجه من طريق إبراهيم بن المنذر عن ابن وهب. قوله: (قالت حفصة) في رواية الإسماعيلي " عن حفصة " وهذا والذي قبله قد يوهم أن عبد الله ابن عمر ما سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن وقع في بعض طرق نافع عنه " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم " أخرجه مسلم من طريق ابن جريج قال " أخبرني نافع " وقال مسلم بعده: لم يقل أحد عن نافع عن ابن عمر سمعت إلا ابن جريج، وتابعه محمد بن إسحاق، ثم ساقه من طريق ابن إسحاق عن نافع كذلك، فالظاهر أن ابن عمر سمعه من أخته حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه أيضا من النبي صلى الله عليه وسلم يحدث به حين سئل عنه، فقد وقع عند أحمد من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال " نادى رجل " ولأبي عوانة في المستخرج من هذا الوجه " أن أعرابيا نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نقتل من الدواب إذا أحرمنا " والظاهر أن المبهمة في رواية زيد بن جبير هي حفصة، ويحتمل أن تكون عائشة، وقد رواه ابن عيينة عن ابن شهاب فأسقط حفصة من الإسناد والصواب إثباتها في رواية سالم، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ يَقْتُلُهُنَّ فِي الْحَرَمِ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ الشرح: قوله: (أخبرني يونس) هو ابن يزيد أيضا، وظهر بهذا أن لابن وهب عنه عن الزهري فيه إسنادين: سالم عن أبيه عن حفصة، وعروة عن عائشة، وقد كان ابن عيينة ينكر طريق الزهري عن عروة، قال الحميدي عن سفيان " حدثنا والله الزهري عن سالم عن أبيه " فقيل له إن معمرا يرويه عن الزهري عن عروة عن عائشة، فقال " حدثنا والله الزهري لم يذكر عروة". قلت: وطريق معمر المشار إليها أوردها المصنف في بدء الخلق من طريق يزيد بن زريع عنه، ورواها النسائي من طريق عبد الرزاق قال عبد الرزاق: ذكر بعض أصحابنا أن معمرا كان يذكره عن الزهري عن سالم عن أبيه، وعن عروة عن عائشة، وطريق الزهري عن عروة رواها أيضا شعيب بن أبي حمزة عند أحمد وأبان بن صالح عند النسائي، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وقد تابع الزهري عن عروة هشام بن عروة، أخرجه مسلم أيضا. قوله: (خمس) التقييد بالخمس وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك لكنه مفهوم عدد، وليس بحجة عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره فيحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم أولا ثم بين بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها في الحكم، فقد ورد في بعض طرق عائشة بلفظ " أربع " وفي بعض طرقها بلفظ " ست " فأما طريق أربع فأخرجها مسلم من طريق القاسم عنها فأسقط العقرب، وأما طريق ست فأخرجها أبو عوانة في " المستخرج " من طريق المحاربي عن هشام عن أبيه عنها فأثبتها وزاد الحية، ويشهد لها طريق شيبان التي تقدمت من عند مسلم وإن كانت خالية عن العدد، وأغرب عياض فقال: وفي غير كتاب مسلم ذكر الأفعى فصارت سبعا. وتعقب بأن الأفعى داخلة في مسمى الحية. والحديث الذي ذكرت فيه أخرجه أبو عوانة في " المستخرج " من طريق ابن عون عن نافع في آخر حديث الباب قال: قلت لنافع فالأفعى؟ قال ومن يشك في الأفعى؟ ا ه. وقد وقع في حديث أبي سعيد عند أبي داود نحو رواية شيبان وزاد السبع العادي فصارت سبعا. وفي حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة وابن المنذر زيادة ذكر الذئب والنمر على الخمس المشهورة فتصير بهذا الاعتبار تسعا، لكن أفاد ابن خزيمة عن الذهلي أن ذكر الذئب والنمر من تفسير الراوي للكلب العقور. ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود من طريق سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقتل المحرم الحية والذئب " ورجاله ثقات. وأخرج أحمد من طريق حجاج بن أرطاة عن وبرة عن ابن عمر قال " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب للمحرم " وحجاج ضعيف. وخالفه مسعر عن وبرة فرواه موقوفا أخرجه ابن أبي شيبة، فهذا جميع ما وقفت عليه في الأحاديث المرفوعة زيادة على الخمس المشهورة، ولا يخلو شيء من ذلك من مقال، والله أعلم. قوله: (من الدواب) بتشديد الموحدة، جمع دابة وهو ما دب من الحيوان. وقد أخرج بعضهم منها الطير لقوله تعالى (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) الآية، وهذا الحديث يرد عليه، فإنه ذكر في الدواب الخمس الغراب والحدأة، ويدل على دخول الطير أيضا عموم قوله تعالى (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) ؛ وقوله تعالى (وكأين من دابة لا تحمل رزقها) الآية، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم في صفة بدء الخلق " وخلق الدواب يوم الخميس " ولم يفرد الطير بذكر. وقد تصرف أهل العرف في الدابة، فمنهم من يخصها بالحمار، ومنهم من يخصها بالفرس، وفائدة ذلك تظهر في الحلف. قوله: (كلهن فاسق يقتلن) قيل فاسق صفة لكل، وفي يقتلن ضمير راجع إلى معنى كل. ووقع في رواية مسلم من هذا الوجه " كلها فواسق". وفي رواية معمر التي في بدء الخلق " خمس فواسق " قال النووي: هو بإضافة خمس لا بتنوينه، وجوز ابن دقيق العيد الوجهين وأشار إلى ترجيح الثاني فإنه قال: رواية الإضافة تشعر بالتخصيص فيخالفها غيرها في الحكم من طريق المفهوم، ورواية التنوين تقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى فيشعر بأن الحكم المرتب على ذلك وهو القتل معلل بما جعل وصفا وهو الفسق فيدخل فيه كل فاسق من الدواب، ويؤيده رواية يونس التي في حديث الباب. قال النووي وغيره: تسمية هذه الخمس فواسق تسمية صحيحة جارية في وفق اللغة، فإن أصل الفسق لغة الخروج، ومنه فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها. وقوله تعالى (ففسق عن أمر ربه) أي خرج، وسمى الرجل فاسقا لخروجه عن طاعة ربه، فهو خروج مخصوص. وزعم ابن الأعرابي أنه لا يعرف في كلام الجاهلية ولا شعرهم فاسق، يعني بالمعنى الشرعي. وأما المعنى في وصف الدواب المذكورة بالفسق فقيل: لخروجها عن حكم غيرها من الحيوان في تحريم قتله، وقيل في حل أكله لقوله تعالى (أو فسقا أهل لغير الله به) . وقوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) وقيل: لخروجها عن حكم غيرها بالإيذاء والإفساد وعدم الانتفاع، ومن ثم اختلف أهل الفتوى: فمن قال بالأول ألحق بالخمس كل ما جاز قتله للحلال في الحرم وفي الحل، ومن قال بالثاني ألحق ما لا يؤكل إلا ما نهى عن قتله وهذا قد يجامع الأول، ومن قال بالثالث يخص الإلحاق بما يحصل منه الإفساد. ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن ماجة: قيل له لم قيل للفأرة فويسقة؟ فقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ لها وقد أخذت الفتيلة لتحرق بها البيت. فهذا يومئ إلى أن سبب تسمية الخمس بذلك لكون فعلها يشبه فعل الفساق، وهو يرجح القول الأخير، والله أعلم. قوله: (يقتل في الحرم) تقدم في رواية نافع بلفظ " ليس على المحرم في قتلهن جناح " وعرف بذلك أن لا إثم في قتلها على المحرم ولا في الحرم، ويؤخذ منه جواز ذلك للحلال، وفي الحل من باب الأولى. وقد وقع ذكر الحل صريحا عند مسلم من طريق معمر عن الزهري عن عروة بلفظ " يقتلن في الحل والحرم " ويعرف حكم الحلال بكونه لم يقم به مانع وهو الإحرام فهو بالجواز أولى، ثم إنه ليس في نفي الجناح - وكذا الحرج في طريق سالم - دلالة على أرجحية الفعل على الترك، لكن ورد في طريق زيد ابن جبير عند مسلم بلفظ " أمر " وكذا في طريق معمر، ولأبي عوانة من طريق ابن نمير عن هشام عن أبيه بلفظ " ليقتل المحرم " وظاهر الأمر الوجوب، ويحتمل الندب والإباحة، وروى البزار من طريق أبي رافع قال " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته إذ ضرب شيئا، فإذا هي عقرب فقتلها، وأمر بقتل العقرب والحية والفأرة والحدأة للمحرم، لكن هذا الأمر ورد بعد الحظر لعموم نهي المحرم عن القتل فلا يكون للوجوب ولا للندب، ويؤيد ذلك رواية الليث عن نافع بلفظ " أذن " أخرجه مسلم والنسائي عن قتيبة، لكن لم يسق مسلم لفظه. وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود وغيره " خمس قتلهن حلل للمحرم". قوله: (الغراب) زاد في رواية سعيد بن المسيب عن عائشة عند مسلم " الأبقع " وهو الذي في ظهره أو بطنه بياض، وأخذ بهذا القيد بعض أصحاب الحديث كما حكاه ابن المنذر وغيره، ثم وجدت ابن خزيمة قد صرح باختياره، وهو قضية حمل المطلق على المقيد. وأجاب ابن بطال بأن هذه الزيادة لا تصح لأنها من رواية قتادة عن سعيد، وهو مدلس وقد شذ بذلك. وقال ابن عبد البر: لا تثبت هذه الزيادة. وقال ابن قدامة: الروايات المطلقة أصح. وفي جميع هذا التعليل نظر، أما دعوى التدليس فمردودة بأن شعبة لا يروي عن شيوخه المدلسين إلا ما هو مسموع لهم وهذا من رواية شعبة، بل صرح النسائي في روايته من طريق النضر بن شميل عن شعبة بسماع قتادة. وأما نفي الثبوت فمردود بإخراج مسلم. وأما الترجيح فليس من شرط قبول الزيادة بل الزيادة مقبولة من الثقة الحافظ وهو كذلك هنا. نعم قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شاركه في الإيذاء وتحريم الأكل. وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك ويقال له غراب الزرع ويقال له الزاغ، وأفتوا بجواز أكله، فبقي ما عداه من الغربان ملتحقا بالأبقع. ومنها الغداف على الصحيح في " الروضة " بخلاف تصحيح الرافعي، وسمى ابن قدامة الغداف غراب البين، والمعروف عند أهل اللغة أنه الأبقع، قيل سمي غراب البين لأنه بان عن نوح لما أرسله من السفينة ليكشف خبر الأرض، فلقي جيفة فوقع عليها ولم يرجع إلى نوح، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون به فكانوا إذا نعب مرتين قالوا: آذن بشر، وإذا نعب ثلاثا قالوا: آذن بخير، فأبطل الإسلام ذلك، وكان ابن عباس إذا سمع الغراب قال: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك. وقال صاحب الهداية: المراد بالغراب في الحديث الغداف والأبقع لأنهما يأكلان الجيف، وأما غراب الزرع قلا. وكذا استثناه ابن قدامة، وما أظن فيه خلافا، وعليه يحمل ما جاء في حديث أبي سعيد عند أبي داود إن صح حيث قال فيه " ويرمي الغراب ولا يقتله " وروى ابن المنذر وغيره نحوه عن علي ومجاهد، قال ابن المنذر: أباح كل من يحفظ عنه العلم قتل الغراب في الإحرام إلا ما جاء عن عطاء قال في محرم كسر قرن غراب فقال: إن أدماه فعليه الجزاء وقال الخطابي: لم يتابع أحد عطاء على هذا، انتهى. ويحتمل أن يكون مراده غراب الزرع. وعند المالكية اختلاف آخر في الغراب والحدأة هل يتقيد. جواز قتلهما بأن يبتدئا بالأذى، وهل يختص ذلك بكبارها؟ والمشهور عنهم - كما قال ابن شاس - لا فرق وفاقا للجمهور ومن أنواع الغربان الأعصم، وهو الذي في رجليه أو في جناحيه أو بطنه بياض أو حمرة، وله ذكر في قصة حفر عبد المطلب لزمزم، وحكمه حكم الأبقع. ومنها العقعق وهو قدر الحمامة على شكل الغراب، قيل سمي بذلك لأنه يعق فراخه فيتركها بلا طعم، وبهذا ظهر أنه نوع من الغربان، والعرب تتشاءم به أيضا. ووقع في فتاوى قاضي خان الحنفي: من خرج لسفر فسمع صوت العقعق فرجع كفر، وحكمه حكم الأبقع على الصحيح، وقيل حكم غراب الزرع. وقال أحمد: إن أكل الجيف وإلا فلا بأس به. قوله: (والحدأ) بكسر أوله وفتح ثانيه بعدها همزة بغير مد، وحكى صاحب " المحكم " المد فيه ندورا، ووقع في رواية الكشميهني في حديث عائشة " الحدأة " بزيادة هاء بلفظ الواحدة وليست للتأنيث بل هي كالهاء في التمرة، وحكى الأزهري فيها " حدوة " بواو بدل الهمزة، وسيأتي في بدء الخلق من حديثها بلفظ " الحديا " بضم أوله وتشديد التحتانية مقصور، ومثله لمسلم في رواية هشام بن عروة عن أبيه قال: قال قاسم بن ثابت: الوجه فيه الهمزة، وكأنه سهل ثم أدغم، وقيل هي لغة حجازية، وغيرهم يقول " حدية " وقد تقدم ذكرها في الكلام على الغراب. ومن خواص الحدأة أنها تقف في الطيران، ويقال إنها لا تختطف إلا من جهة اليمين، وقد مضى لها ذكر في الصلاة قصة صاحبة الوشاح. (تنبيه) : يلتبس بالحدأ الحدأة بفتح أوله: فأس له رأسان. قوله (والعقرب) هذا اللفظ للذكر والأنثى، وقد يقال عقربة وعقرباء، وليس منها العقربان بل هي دويبة طويلة كثيرة القوائم. قال صاحب " المحكم " ويقال إن عينها في ظهرها وإنها لا تضر ميتا ولا نائما حتى يتحرك. ويقال لدغته العقرب بالغين المعجمة ولسعته بالمهملتين. وقد تقدم اختلاف الرواة في ذكر الحية بدلها في حديث الباب ومن جمعهما، والذي يظهر لي أنه صلى الله عليه وسلم نبه بإحداهما على الأخرى عند الاقتصار وبين حكمهما معا حيث جمع. قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب. وقال نافع لما قيل له: فالحية؟ قال: لا يختلف فيها وفي رواية: ومن يشك فيها؟ وتعقبه ابن عبد البر بما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شعبة أنه سأل الحكم وحمادا فقالا: لا يقتل المحرم الحية ولا العقرب. قال: ومن حجتهما أنهما من هوام الأرض فيلزم من أباح قتلهما مثل ذلك في سائر الهوام، وهذا اعتلال لا معنى له، نعم عند المالكية خلاف في قتل صغير الحية والعقرب التي لا تتمكن من الأذى. قوله: (والفأر) بهمزة ساكنة ويجوز فيها التسهيل، ولم يختلف العلماء في جواز قتلها للمحرم إلا ما حكى عن إبراهيم النخعي فإنه قال: فيها جزاء إذا قتلها المحرم أخرجه ابن المنذر. وقال: هذا خلاف السنة وخلاف قول جميع أهل العلم. وروى البيهقي بإسناد صحيح حماد بن زيد قال لما ذكروا له هذا القول: ما كان بالكوفة أفحش ردا للآثار من إبراهيم النخعي لقلة ما سمع منها، ولا أحسن اتباعا لها من الشعبي لكثرة ما سمع. ونقل ابن شاس عن المالكية خلافا في جواز قتل الصغير منها الذي لا يتمكن من الأذى. والفأر أنواع، منها الجرذ بالجيم بوزن عمر، والخلد بضم المعجمة وسكون اللام، وفأرة الإبل، وفأرة المسك، وفأرة الغيط، وحكمها في تحريم الأكل وجواز القتل سواء، وسيأتي في الأدب إطلاق الفويسقة عليها من حديث جابر، وتقدم سبب تسميتها بذلك من حديث أبي سعيد. وقيل إنما سميت بذلك لأنها قطعت حبال سفينة نوح، والله أعلم. قوله: (والكلب العقور) الكلب معروف والأنثى كلبة والجمع أكلب وكلاب وكليب بالفتح، كأعبد وعباد وعبيد. وفي الكلب بهيمية سبعية كأنه مركب. وفيه منافع للحراسة والصيد كما سيأتي في بابه. وفيه من اقتفاء الأثر وشم الرائحة والحراسة وخفة النوم والتودد وقبول التعليم ما ليس لغيره. وقيل إن أول من اتخذه للحراسة نوح عليه السلام وقد سبق البحث في نجاسته في كتاب الطهارة ويأتي في بدء الخلق جملة من خصاله. واختلف العلماء في المراد به هنا، وهل لوصفه بكونه عقورا مفهوم أو لا؟ فروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: الكلب العقور الأسد. وعن سفيان عن زيد بن أسلم أنهم سألوه عن الكلب العقور فقال: وأي كلب أعقر من الحية؟ وقال زفر: المراد بالكلب العقور هنا الذئب خاصة. وقال مالك في الموطأ: كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد والنمر والفهد والذئب هو العقور. وكذا نقل أبو عبيد عن سفيان، وهو قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا الكلب خاصة، ولا يلتحق به في هذا الحكم سوى الذئب. واحتج أبو عبيد للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " فقتله الأسد. وهو حديث حسن أخرجه الحاكم من طريق أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه، واحتج بقوله تعالى (وما علمتم من الجوارح مكلبين) فاشتقها من اسم الكلب، فلهذا قيل لكل جارح عقور. واحتج الطحاوي للحنفية بأن العلماء اتفقوا على تحريم قتل البازي والصقر وهما من سباع الطير فدل ذلك على اختصاص التحريم بالغراب والحدأة، وكذلك يختص التحريم بالكلب وما شاركه في صفته وهو الذئب. وتعقب برد الاتفاق، فإن مخالفيهم أجازوا قتل كل ما عدا وافترس، فيدحل فيه الصقر وغيره، بل معظمهم قال: يلتحق بالخمس كل ما نهى عن أكله إلا ما نهي عن قتله. واختلف العلماء في غير العقور مما لم يؤمر باقتنائه، فصرح بتحريم قتله القاضيان حسين والماوردي وغيرهما، ووقع في " الأم " للشافعي الجواز، واختلف كلام النووي فقال في البيع من " شرح المهذب ": لا خلاف بين أصحابنا في أنه محترم لا يجوز قتله. وقال في التيمم والغصب: إنه غير محترم. وقال في الحج: يكره قتله كراهة تنزيه. وهذا اختلاف شديد، وعلى كراهة قتله اقتصر الرافعي وتبعه في " الروضة " وزاد: أنها كراهة تنزيه، والله أعلم. وذهب الجمهور كما تقدم إلى إلحاق غير الخمس بها في هذا الحكم، إلا أنهم اختلفوا في المعنى فقيل: لكونها مؤذية فيجوز قتل كل مؤذ، وهذا قضية مذهب مالك. وقيل: لكونها مما لا يؤكل، فعلى هذا كل ما يجوز قتله لا فدية على المحرم فيه، وهذا قضية مذهب الشافعي. وقد قسم هو وأصحابه الحيوان بالنسبة للمحرم إلى ثلاثة أقسام: قسم يستحب كالخمس وما في معناها مما يؤذي، وقسم يجوز كسائر ما لا يؤكل لحمه وهو قسمان: ما يحصل منه نفع وضرر فيباح لما فيه من منفعة الاصطياد ولا يكره لما فيه من العدوان، وقسم ليس فيه نفع ولا ضرر فيكره قتله ولا يحرم. والقسم الثالث ما أبيح أكله أو نهى عن قتله فلا يجوز ففيه الجزاء إذا قتله المحرم. وخالف الحنفية فاقتصروا على الخمس إلا أنهم ألحقوا بها الحية لثبوت الخبر، والذئب لمشاركته للكلب في الكلبية، وألحقوا بذلك من ابتدأ بالعدوان والأذى من غيرها، وتعقب بظهور المعنى في الخمس وهو الأذى الطبيعي والعدوان المركب، والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه تعدي الحكم إلى كل ما وجد فيه ذلك المعنى، كما وافقوا عليه في مسائل الربا. قال ابن دقيق العيد: والتعدية بمعنى الأذى إلى كل مؤذ قوي بالإضافة إلى تصرف أهل القياس، فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق وهو الخروج عن الحد، وأما التعليل بحرمة الأكل ففيه إبطال لما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق. انتهى. وقال غيره: هو راجع إلى تفسير الفسق، فمن فسره بأنه الخروج عن بقية الحيوان بالأذى علل به، ومن قال بجواز القتل وتحريم الأكل علل به. وقال من علل بالأذى: أنواع الأذى مختلفة، وكأنه نبه بالعقرب على ما يشاركها في الأذى باللسع ونحوه من ذوات السموم كالحية والزنبور، وبالفأرة على ما يشاركها في الأذى بالنقب والقرض كابن عرس، وبالغراب والحدأ على ما يشاركهما بالاختطاف كالصقر، وبالكلب العقور على ما يشاركه في الأذى بالعدوان والعقر كالأسد والفهد. وقال: من علل بتحريم الأكل وجواز القتل إنما اقتصر على الخمس لكثرة ملابستها للناس بحيث يعم أذاها، والتخصيص بالغلبة لا مفهوم له. (تكملة) : نقل الرافعي عن الإمام أن هذه الفواسق لا ملك فيها لأحد ولا اختصاص، ولا يجب ردها على صاحبها، ولم يذكر مثل ذلك في غير الخمس مما يلتحق بها في المعنى، فليتأمل. واستدل به على جواز قتل من لجأ إلى الحرم ممن وجب عليه القتل لأن إباحة قتل هذه الأشياء معلل بالفسق والقاتل فاسق فيقتل بل هو أولى، لأن فسق المذكورات طبيعي، والمكلفة إذا ارتكب الفسق هاتك لحرمة نفسه فهو أولى بإقامة مقتضى الفسق عليه. وأشار ابن دقيق العيد إلى أنه بحث قابل للنزاع، وسيأتي بسط القول فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ بِمِنًى إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لَأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا إِذْ وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتُلُوهَا فَابْتَدَرْنَاهَا فَذَهَبَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا الشرح: قوله (حدثني إبراهيم) هو ابن يزيد النخعي، والأسود هو النخعي خاله، وعبد الله هو ابن مسعود. وقد اختلف على الأعمش في إسناد هل الحديث كما سيأتي بيانه في بدء الخلق. قوله (في غار بمنى) وقع عند الإسماعيلي من طريق ابن نمير عن حفص بن غياث أن ذلك كان ليلة عرفة، وبذلك يتم الاحتجاج به على مقصود الباب من جواز قتل الحية للمحرم، كما يدل قوله " بمنى " على أن ذلك كان في الحرم، وعرف بذلك الرد على من قال ليس في حديث عبد الله ما يدل على أنه أمر بقتل الحية في حال الإحرام، لاحتمال أن يكون ذلك بعد طواف الإفاضة، وقد رواه مسلم وابن خزيمة واللفظ له عن أبي كريب عن حفص بن غياث مختصرا ولفظه " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر محرما بقتل حية في الحرم بمنى " ووقع في رواية أبي الوقت عقب حديث الباب: قال أبو عبد الله وهو المصنف: إنما أردنا بهذا أن منى من الحرم، وأنهم لم يروا بقتل الحية - يعني فيه - بأسا ووقع هذا الكلام عند أبي ذر في آخر الباب، ومحله عقب حديث ابن مسعود. قوله (رطبة) أي لم يجف ريقه بها. قوله (كما وقيتم شرها) بالنصب لأنه مفعول ثان، وكذلك قوله " وقيت شركم " أي أن الله سلمها منكم كما سلمكم منها، وهو من مجاز المقابلة. قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه من أهل العلم على أن للمحرم قتل الحية، وتعقب بما تقدم عن الحكم وحماد وبما عند المالكية من استثناء ما صغر منها بحيث لا يتمكن من الأذى. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْوَزَغِ فُوَيْسِقٌ وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ إِنَّمَا أَرَدْنَا بِهَذَا أَنَّ مِنًى مِنْ الْحَرَمِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بِقَتْلِ الْحَيَّةِ بَأْسًا الشرح: قوله (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس. قوله (قال للوزغ فويسق) اللام بمعنى عن، والمعنى أنه سماه فويسقا، وهو تصغير تحقير مبالغة في الذم. قوله (ولم أسمعه أمر بقتله) هو مقول عن عائشة والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، وقضية تسميته إياه فويسقا أن يكون قتله مباحا، وكونها لم تسمعه لا يدل على منع ذلك فقد سمعه غيرها كما سيأتي في بدء الخلق عن سعد بن أبي وقاص وغيره، ونقل ابن عبد البر الاتفاق على جواز قتله في الحل والحرم، لكن نقل ابن عبد الحكم وغيره عن مالك: لا يقتل المحرم الوزغ، زاد ابن القاسم: وإن قتله يتصدق لأنه ليس من الخمس المأمور بقتلها. وروى ابن أبي شيبة أن عطاء سئل عن قتل الوزغ في الحرم فقال: إذا آذاك فلا بأس بقتله. وهذا يفهم توقف قتله على أذاه. |
08-21-2013, 04:04 PM | #520 |
|
رد: فتح كتاب فتح البارى على شرح البخارى للاحافظ ابن حجر العسقلانى رضى الله عنه
باب لَا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ
الشرح: قوله (باب لا يعضد شجر الحرم) بضم أوله وفتح الضاد المعجمة، أي لا يقطع. قوله (وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعضد شوكه) سيأتي موصولا بعد باب ويأتي البحث فيه هناك. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا وَلَا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا لَهُ إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ مَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو قَالَ أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخُرْبَةٍ خُرْبَةٌ بَلِيَّةٌ الشرح: قوله (عن سعيد) في رواية عبد الله بن يوسف عن الليث حدثني سعيد كما تقدم في العلم. قوله (عن أبي شريح العدوي) كذا وقع هنا، وفيه نظر لأنه خزاعي من بني كعب بن ربيعة ابن لحي، بطن من خزاعة، ولهذا يقال له الكعبي أيضا، وليس هو من بني عدي، لا عدي قريش ولا عدي مضر، فلعله كان حليفا لبني عدي بن كعب من قريش، وقيل في خزاعة بطن يقال ثم لهو بنو عدي، وقد وقع في رواية ابن أبي ذئب عن سعيد " سمعت أبا شريح " أخرجه أحمد. واختلف في اسمه فالمشهور أنه خويلد بن عمرو، وقيل ابن صخر، وقيل هانئ بن عمرو، وقيل عبد الرحمن، وقيل كعب، وقيل عمرو بن خويلد، وقيل مطر، أسلم قبل الفتح، وحمل بعض ألوية قومه، وسكن المدينة ومات بها سنة ثمان وستين، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وحديثين آخرين. قوله: (لعمرو بن سعيد) أي ابن أبي العاص بن سعيد بن العاص بن أمية المعروف بالأشدق، وقد تقدم ذلك مع شرح بعض الحديث في " باب تبليغ العلم " من كتاب العلم. ووقع عند أحمد من طريق ابن إسحاق عن سعيد المقبري زيادة في أوله توضح المقصود وهي " لما بعث عمرو بن سعيد إلى مكة بعثه لغزو ابن الزبير أتاه أبو شريح فكلمه وأخبره بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى نادى قومه فجلس فيه، فقمت إليه فجلست معه فحدث قومه قال: قلت له يا هذا إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا " فذكر الحديث. وأخرج أحمد أيضا من طريق الزهري عن مسلم بن يزيد الليثي عن أبي شريح الخزاعي أنه سمعه يقول " أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في قتال بني بكر حتى أصبنا منهم ثأرنا وهو بمكة، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع السيف، فلقي الغد رهط منا رجلا من هذيل في الحرم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان وترهم في الجاهلية وكانوا يطلبونه فقتلوه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضبا شديدا ما رأيته غضب أشد منه، فلما صلى قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإن الله حرم مكة " انتهى. وقد ذكر أبو هريرة في حديثه هذه القصة مختصرة وتقدم الكلام عليها في " باب كتابة العلم " من كتاب العلم، وذكرنا أن عمرو بن سعيد كان أميرا على المدينة من قبل يزيد بن معاوية وأنه جهز إلى مكة جيشا لغزو عبد الله بن الزبير بمكة، وقد ذكر الطبري القصة عن مشايخه فقالوا: كان قدوم عمرو بن سعيد واليا علي المدينة من قبل يزيد بن معاوية في ذي القعدة سنة ستين، وقيل قدمها في رمضان منها وهي السنة التي ولى فيها يزيد الخلافة، فامتنع ابن الزبير من بيعته وأقام بمكة، فجهز إليه عمرو بن سعيد جيشا وأمر عليهم عمرو بن الزبير وكان معاديا لأخيه عبد الله، وكان عمرو بن سعيد قد ولاه شرطته ثم أرسله إلى قتال أخيه، فجاء مروان إلى عمرو بن سعيد فنهاه فامتنع، وجاء أبو شريح فذكر القصة، فلما نزل الجيش ذا طوى خرج إليهم جماعة من أهل مكة فهزموهم وأسر عمرو بن الزبير فسجنه أخوه بسجن عارم، وكان عمرو بن الزبير قد ضرب جماعة من أهل المدينة ممن اتهم بالميل إلى أخيه فأقادهم عبد الله منه حتى مات عمرو من ذلك الضرب. (تنبيه) : وقع في السيرة لابن إسحاق ومغازي الواقدي أن المراجعة المذكورة وقعت بين أبي شريح وبين عمرو بن الزبير، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون أبو شريح راجع الباعث والمبعوث، والله أعلم. قوله (وهو يبعث البعوث) هي جمع بعث بمعنى مبعوث وهو من تسمية المفعول بالمصدر والمراد به الجيش المجهز للقتال. قوله (إيذن) أصله ائذن بهمزتين فقلبت الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. قوله (أيها الأمير) الأصل فيه يا أيها الأمير فحذف حرف النداء، ويستفاد منه حسن التلطف في مخاطبة السلطان ليكون أدعى لقبولهم النصيحة وأن السلطان لا يخاطب إلا بعد استئذانه ولا سيما إذا كان في أمر يعترض به عليه، فترك ذلك والغلظة له قد يكون سببا لإثارة نفسه ومعاندة من يخاطبه، وسيأتي في الحدود قول والد العسيف " وائذن لي". قوله (قام به) صفة للقول، والمقول هو حمد الله تعالى الخ. وقوله "الغد " بالنصب أي ثاني يوم الفتح وقد تقدم بيانه. قوله (سمعته أذناي الخ) فيه إشارة إلى بيان حفظه له من جميع الوجوه، فقوله " سمعته " أي حملته عنه بغير واسطة، وذكر الأذنين للتأكيد، وقوله "ووعاه قلبي " تحقيق لفهمه وتثبته، وقوله "وأبصرته عيناي " زيادة في تحقيق ذلك وأن سماعه منه ليس اعتمادا على الصوت فقط بل مع المشاهدة، وقوله "حين تكلم به " أي بالقول المذكور، ويؤخذ من قوله " ووعاه قلبي " أن العقل محله القلب. قوله: (إنه حمد الله) هو بيان لقوله تكلم، ويؤخذ منه استحباب الثناء بين يدي تعليم العلم وتبيين الأحكام والخطبة في الأمور المهمة وقد تقدم من رواية ابن إسحاق أنه قال فيها " أما بعد". قوله: (إن الله حرم مكة) أي حكم بتحريمها وقضاه، وظاهره أن حكم الله تعالى في مكة أن لا يقاتل أهلها ويؤمن من استجار بها ولا يتعرض له، وهو أحد أقوال المفسرين في قوله تعالى (ومن دخله كان آمنا) وقوله (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) ، وسيأتي بعد باب في حديث ابن عباس بلفظ " هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض"، ولا معارضة بين هذا وبين قوله الآتي في الجهاد وغيره من حديث أنس " أن إبراهيم حرم مكة " لأن المعنى أن إبراهيم حرم مكة بأمر الله تعالى لا باجتهاده، أو أن الله قضى يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة، أو المعنى أن إبراهيم أول من أظهر تحريمها بين الناس، وكانت قبل ذلك عند الله حراما، أو أول من أظهره بعد الطوفان. وقال القرطبي: معناه أن الله حرم مكة ابتداء من غير سبب ينسب لأحد ولا لأحد فيه مدخل قال: ولأجل هذا أكد المعنى بقوله " ولم يحرمها الناس " والمراد بقوله ولم يحرمها الناس أن تحريمها ثابت بالشرع لا مدخل للعقل فيه، أو المراد أنها من محرمات الله فيجب امتثال ذلك، وليس من محرمات الناس يعني في الجاهلية كما حرموا أشياء من عند أنفسهم فلا يسوغ الاجتهاد في تركه. وقيل معناه أن حرمتها مستمرة من أول الخلق، وليس مما اختصت به شريعة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (فلا يحل الخ) فيه تلبيه على الامتثال لأن من آمن بالله لزمته طاعته، ومن آمن باليوم الآخر لزمه امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه خوف الحساب عليه، وقد تعلق به من قال: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، والصحيح عند الأكثر خلافه، وجوابهم بأن المؤمن هو الذي ينقاد للأحكام وينزجر عن المحرمات فجعل الكلام معه وليس فيه نفي ذلك عن غيره. وقال ابن دقيق العيد: الذي أراه أنه من خطاب التهييج، نحو قوله تعالى (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) فالمعنى أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر بل ينافيه، فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف، ولو قيل لا يحل لأحد مطلقا لم يحصل منه هذا الغرض وإن أفاد التحريم. قوله (أن يسفك بها دما) تقدم ضبطه في العلم، واستدل به على تحريم القتل والقتال بمكة، وسيأتي البحث فيه بعد باب في الكلام على حديث ابن عباس. قوله (ولا يعضد بها شجرة) أي لا يقطع. قال ابن الجوزي: أصحاب الحديث يقولون " يعضد " بضم الضاد. وقال لنا ابن الخشاب هو بكسرها، والمعضد بكسر أوله الآلة التي يقطع بها. قال الخليل: المعضد الممتهن من السيوف في قطع الشجر. وقال الطبري: أصله من عضد الرجل إذا أصابه بسوء في عضده، ووقع في رواية لعمر بن شبة بلفظ " لا يخضد " بالخاء المعجمة بدل العين المهملة، وهو راجع إلى معناه فإن أصل الخضد الكسر ويستعمل في القطع. قال القرطبي: خص الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما ينبته الله تعالى من غير صنع آدمي، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فاختلف فيه والجمهور عل الجواز. وقال الشافعي: في الجميع الجزاء، ورجحه ابن قدامة. واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول فقال مالك: لا جزاء فيه بل يأثم. وقال عطاء: يستغفر. وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي. وقال الشافعي: في العظيمة بقرة وفيما دونها شاة. واحتج الطبري بالقياس على جزاء الصيد، وتعقبه ابن القصار بأنه كان يلزمه أن يجعل الجزاء على المحرم إذا قطع شيئا من شجر الحل ولا قائل به. وقال ابن العربي: اتفقوا على تحريم قطع شجر الحرم، إلا أن الشافعي أجاز قطع السواك من فروع الشجرة، كذا نقله أبو ثور عنه، وأجاز أيضا أخذ الورق والثمر إذا كان لا يضرها ولا يهلكها وبهذا قال عطاء ومجاهد وغيرهما، وأجازوا قطع الشوك لكونه يؤذي بطبعه فأشبه الفواسق، ومنعه الجمهور كما سيأتي في حديث ابن عباس بعد باب بلفظ " ولا يعضد شوكه " وصححه المتولي من الشافعية، وأجابوا بأن القياس المذكور في مقابلة النص. فلا يعتبر به، حتى ولو لم يرد النص على تحريم الشوك لكان في تحريم قطع الشجر دليل على تحريم قطع الشوك لأن غالب شجر الحرم كذلك، ولقيام الفارق أيضا فإن الفواسق المذكورة تقصد بالأذى بخلاف الشجر. قال ابن قدامة: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشجر بغير صنع آدمي ولا بما يسقط من الورق نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا. قوله (فإن أحد) هو فاعل بفعل مضمر يفسره ما بعده، وقوله "ترخص " مشتق من الرخصة. وفي رواية ابن أبي ذئب عند أحمد " فإن ترخص مترخص فقال: أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله أحلها لي ولم يحلها للناس " وفي مرسل عطاء بن يزيد عند سعيد بن منصور " فلا يستن بي أحد فيقول قتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: (وإنما أذن لي) بفتح أوله والفاعل الله، ويروي بضمه على البناء للمفعول. قوله (ساعة من نهار) تقدم في العلم أن مقدارها ما بين طلوع الشمس وصلاة العصر، ولفظ الحديث عند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " لما فتحت مكة قال: كفوا السلاح، إلا خزاعة عن بني بكر. فأذن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: كفوا السلاح، فلقي رجل من خزاعة رجلا من بني بكر من غد بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خطيبا فقال، ورأيته مسندا ظهره إلى الكعبة " فذكر الحديث. ويستفاد منه أن قتل من أذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتلهم - كابن خطل - وقع في الوقت الذي أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم فيه القتال، خلافا لمن حمل قوله " ساعة من النهار " على ظاهره فاحتاج إلى الجواب عن قصة ابن خطل. قوله (وقد عادت حرمتها) أي الحكم الذي في مقابلة إباحة القتال المستفادة من لفظ الإذن. وقوله (اليوم) المراد به الزمن الحاضر، وقد بين غايته في رواية ابن أبي ذئب المذكورة بقوله " ثم هي حرام إلى يوم القيامة". وكذا في حديث ابن عباس الآتي بعد باب بقوله " فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة". قوله: (فليبلغ الشاهد الغائب) قال ابن جرير: فيه دليل على جواز قبول خبر الواحد، لأنه معلوم أن كل من شهد الخطبة قد لزمه الإبلاغ، وأنه لم يأمرهم بإبلاغ الغائب عنهم إلا وهو لازم له فرض العمل بما أبلغه كالذي لزم السامع سواء، وإلا لم يكن للأمر بالتبليغ فائدة. قوله: (فقيل لأبي شريح) لم أعرف اسم القائل، وظاهر رواية ابن إسحاق أنه بعض قومه من خزاعة. قوله: (لا يعيذ) بالذال المعجمة أى لا يجير ولا يعصم. قوله: (ولا فارا) بالفاء وتثقيل الراء أي هاربا، والمراد من وجب عليه حد القتل فهرب إلى مكة مستجيرا بالحرم، وهي مسألة خلاف بين العلماء، وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الحكم مساق الدليل وفي تخصيصه العموم بلا مستند. قوله (بخربة) تقدم تفسيره في العلم، وأشار ابن العربي إلى ضبطه بكسر أوله وبالزاي بدل الراء والتحتانية بدل الموحدة جعله من الخزي، والمعنى صحيح لكن لا تساعد عليه الرواية. وأغرب الكرماني لما حكى هذا الوجه فأبدل الخاء المعجمة جيما جعله من الجزية، وذكر الجزية وكذا الذم بعد ذكر العصيان من الخاص بعد العام. قوله (خربة بلية) هو تفسير من الراوي، والظاهر أنه المصنف، فقد وقع في المغازي في آخره " قال أبو عبد الله: الخربة البلية " وسبق في العلم في آخره " يعني المسرقة " وهي أحد ما قيل في تأويلها، وأصلها سرقة الإبل ثم استعملت في كل سرقة. وعن الخليل: الخربة الفساد في الإبل، وقيل العيب، وقيل بضم أوله العورة وقيل الفساد، وبفتحه الفعلة الواحدة من الخرابة وهي السرقة. وقد وهم من عد كلام عمرو بن سعيد هذا حديثا واحتج بما تضمنه كلامه. قال ابن حزم: لا كرامة للطيم الشيطان يكون أعلم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأغرب ابن بطال فزعم أن سكوت أبي شريح عن جواب عمرو بن سعيد دال على أنه رجع إليه في التفصيل المذكور، ويعكر عليه ما وقع في رواية أحمد أنه قال في آخره: قال أبو شريح فقلت لعمرو قد كنت شاهدا وكنت غائبا. وقد أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا، وقد بلغتك. فهذا يشعر بأنه لم يوافقه، وإنما ترك مشاققته لعجزه عنه لما كان فيه من قوة الشوكة. وقال ابن بطال أيضا: ليس قول عمرو جوابا لأبي شريح، لأنه لم يختلف معه في أن من أصاب حدا في غير الحرم ثم لجأ إليه أنه يجوز إقامة الحد عليه في الحرم، فإن أبا شريح أنكر بعث عمرو الجيش إلى مكة ونصب الحرب عليها فأحسن في استدلاله بالحديث، وحاد عمرو عن جوابه وأجابه عن غير سؤاله. وتعقبه الطيبي بأنه لم يحد في جوابه، وإنما أجاب بما يقتضي القول بالموجب كأنه قال له: صح سماعك وحفظك، لكن المعنى المراد من الحديث الذي ذكرته خلاف ما فهمته منه، فإن ذلك الترخص كان بسبب الفتح وليس، بسبب قتل من استحق القتل خارج الحرم ثم استجار بالحرم، والذي أنا فيه من القبيل الثاني. قلت: لكنها دعوى من عمرو بغير دليل، لأن ابن الزبير لم يجب عليه حد فعاذ بالحرم فرارا منه حتى يصح جواب عمرو، نعم كان عمرو يرى وجوب طاعة يزيد الذي استنابه، وكان يزيد أمر ابن الزبير أن يبايع له بالخلافة ويحضر إليه في جامعة يعني مغلولا فامتنع ابن الزبير وعاذ بالحرم فكان يقال له بذلك عائذ الله، وكان عمرو يعتقد أنه عاص بامتناعه من امتثال أمر يزيد ولهذا صدر كلامه بقوله " إن الحرم لا يعيذ عاصيا " ثم ذكر بقية ما ذكر استطرادا، فهذه شبهة عمرو وهي واهية. وهذه المسألة التي وقع فيها الاختلاف بين أبي شريح وعمرو فيها اختلاف بين العلماء أيضا كما سيأتي بعد باب في الكلام على حديث ابن عباس. وفي حديث أبي شريح من الفوائد غير ما تقدم جواز إخبار المرء عن نفسه بما يقتضى ثقته وضبطه لما سمعه ونحو ذلك، وإنكار العالم على الحاكم ما يغيره من أمر الدين والموعظة بلطف وتدريج، والاقتصار في الإنكار على اللسان إذا لم يستطع باليد، ووقوع التأكيد في الكلام البليغ، وجواز المجادلة في الأمور الدينية، وجواز النسخ، وأن مسائل الاجتهاد لا يكون فيها مجتهد حجة على مجتهد. وفيه الخروج عن عهدة التبليغ والصبر على المكاره لمن لا يستطيع بدا من ذلك، وتمسك به من قال: إن مكة فتحت عنوة. قال النووي: تأول من قال فتحت صلحا بأن القتال كان جائزا له لو فعله لكن لم يحتج إليه، وتعقب بأنه خلاف الواقع، وسيأتي البحث فيه في المغازي. وقد تقدمت تسمية القاتل والمقتول في قصة أبي شريح في الكلام على حديث أبي هريرة. *3*باب لَا يُنَفَّرُ صَيْدُ الْحَرَمِ الشرح: قوله (باب لا ينفر صيد الحرم) بضم أوله وتشديد الفاء المفتوحة، قيل هو كناية عن الاصطياد، وقل هو على ظاهره كما سيأتي. قال النووي: يحرم التنفير - وهو الإزعاج - عن موضعه، فإن نفره عصى سواء تلف أو لا، فإن تلف في نفاره قبل سكونه ضمن وإلا فلا. قال العلماء: يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بالأولى. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ وَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ إِلَّا الْإِذْخِرَ وَعَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا هُوَ أَنْ يُنَحِّيَهُ مِنْ الظِّلِّ يَنْزِلُ مَكَانَهُ الشرح: قوله (حدثنا عبد الوهاب) هو الثقفي، وخالد هو الحذاء. قوله (إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد بعدي) في رواية الكشميهني " فلا تحل " وهو أليق بقصد الأمر الآتي، وقد ذكره في الباب الذي بعده بلفظ " وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي " وهو عند المصنف في أوائل البيع من طريق خالد الطحان عن خالد الحذاء بلفظ " فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي " ومثله لأحمد من طريق وهيب عن خالد. قال ابن بطال: المراد بقوله " ولا تحل لأحد بعدي " الإخبار عن الحكم في ذلك لا الإخبار بما سيقع لوقوع خلاف ذلك في الشاهد كما وقع من الحجاج وغيره. انتهى. ومحصله أنه خبر بمعنى النهي، بخلاف قوله " فلم تحل لأحد قبلي " فإنه خبر محض، أو معنى قوله " ولا تحل لأحد بعدي " أي لا يحلها الله بعدي، لأن النسخ ينقطع بعده لكونه خاتم النبيين. قوله (وعن خالد) هو بالإسناد المذكور، وسيأتي في أوائل البيوع بأوضح مما هنا. قوله: (هل تدري ما لا ينفر صيدها الخ) قيل نبه عكرمة بذلك على المنع من الإتلاف وسائر أنواع الأذى تنبيها بالأدنى على الأعلى، وقد خالف عكرمة عطاء ومجاهد فقالا: لا بأس بطرده ما لم يفض إلى قتله. أخرجه ابن أبي شيبة. وروى ابن أبي شيبه أيضا من طريق الحكم عن شيخ من أهل مكة أن حماما كان على البيت فذرق على يد عمر، فأشار عمر بيده فطار فوقع على بعض بيوت مكة، فجاءت حية فأكلته، فحكم عمر على نفسه بشاة. وروى من طريق أخرى عن عثمان نحوه. |
مواقع النشر (المفضلة) |
كاتب الموضوع | حسن الخليفه احمد | مشاركات | 538 | المشاهدات | 90119 | | | | انشر الموضوع |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|