|
Re: قرأت لك
بعدهذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل - أشرنا إلى فقرات منهافيماسبق - تتخللها دعوتهم للدخول في دين الله وما أنزله الله مصدقا لما معهم معتذكيرهمبعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى - عليه السلام -وتستغرقهذه الجولة كل هذا الجزء الأول من السورة .
ومنخلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسولهوكتابه . . لقد كانوا أول كافر به . وكانوا يلبسون الحق بالباطل . وكانوا يأمرونالناسبالبر - وهو الإيمان - وينسون أنفسهم . وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونهمنبعد ما عقلوه . وكانوا يخادعون الذين آمنوا باظهار الإيمان وإذا خلا بعضهم إلىبعضحذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته !وكانوايريدون إنيردوا المسلمين كفارا . وكانوا يدعون من أجلهذاأن المهتدين هم اليهود وحدهم - كما كان النصارى يدعون هذا أيضا - وكانوا يعلنونعداءهملجبريل - عليه السلام - بما أنه هو الذي حمل الوحي إلى محمد دونهم ! وكانوايكرهونكل خير للمسلمين ويتربصون بهم السوء . وكانوا ينتهزون كل فرصة للتشكيك فيصحةالأوامر النبوية ومجيئها من عند الله تعالى - كما فعلوا عند تحويل القبلة -وكانوامصدر إيحاء وتوجيه للمنافقين . كما كانوا مصدر تشجيع للمشركين .
ومنثم تتضمن السورة حملة قوية على أفاعيلهم هذه ; وتذكرهم بمواقفهم المماثلة مننبيهمموسى - عليه السلام - ومن شرائعهم وأنبيائهم على مدار أجيالهم . وتخاطبهم فيهذاكأنهم جيل واحد متصل , وجبلة واحدة لا تتغير ولا تتبدل .
وتنتهيهذه الحملة بتيئيس المسلمين من الطمع في إيمانهم لهم , وهم على هذهالجبلةالملتوية القصد , المؤوفة الطبع . كما تنتهي بفصل الخطاب في دعواهم أنهموحدهمالمهتدون , بما أنهم ورثة إبراهيم . وتبين أن ورثة إبراهيم الحقيقيين همالذينيمضون على سنته , ويتقيدون بعهده مع ربه ; وأن وراثة إبراهيم قد انتهت إذنإلىمحمد [ ص ] والمؤمنين به , بعد ما انحرف اليهود وبدلوا ونكلوا عن حمل أمانةالعقيدة, والخلافة في الأرض بمنهج الله ; ونهض بهذا الأمر محمد والذين معه . وأنهذاكان استجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وهما يرفعان القواعد منالبيت ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك , وأرنا مناسكنا , وتبعلينا, إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ,ويعلمهمالكتاب والحكمة ويزكيهم , إنك أنت العزيز الحكيم )
صفات الكافرينفأماالصورة الثانية فهي صورةالكافرين . وهي تمثل مقومات الكفر في كل أرض وفي كل حين:
(إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . ختم الله علىقلوبهموعلى سمعهم , وعلى أبصارهم غشاوة , ولهم عذاب عظيم). .
وهنانجد التقابل تاما بين صورة المتقين وصورة الكافرين . . فإذا كان الكتاببذاتههدى للمتقين , فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين . إنالنوافذالمفتوحة في أرواح المتقين , والوشائج التي تربطهم بالوجود وبخالق الوجود ,وبالظاهروالباطن والغيب والحاضر . . إن هذه النوافذ المفتحة كلها هناك , مغلقةكلهاهنا . وإن الوشائج الموصولة كلها هناك , مقطوعة كلها هنا:
(ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم)....... ختم عليها فلا تصل إليها حقيقة من الهدى ولاصدى .
(وعلى أبصارهم غشاوة). . فلا نور يوصوص لها ولا هدى . ! وقد طبع الله على قلوبهموعلىسمعهم وغشي على أبصارهم جزاء وفاقا على استهتارهم بالإنذار , حتى تساوى لديهمالإنذاروعدم الإنذار .
إنهاصورة صلدة , مظلمة , جامدة , ترتسم من خلال الحركة الثابتة الجازمة . حركةالختمعلى القلوب والأسماع , والتغشية على العيون والأبصار . .
(ولهم عذاب عظيم). . وهي النهاية الطبيعية للكفر العنيد , الذي لا يستجيب للنذير ; والذي يستوي عنده الإنذار وعدم الإنذار ; كما علم الله من طبعهم المطموس العنيد .
(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه , ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ,ويفسدونفي الأرض . أولئك هم الخاسرون). .
فأيعهد من عهود الله هو الذي ينقضون ? وأي أمر مما أمر الله به أن يوصل هو الذييقطعون ? وأي لون من الفساد في الأرض هو الذي يفسدون ?
لقدجاء السياق هنا بهذا الإجمال لأن المجال مجال تشخيص طبيعة , وتصوير نماذج ,لامجال تسجيل حادثة , أو تفصيل واقعة . . إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها .فكلعهد بين الله وبين هذا النموذج من الخلق فهو منقوض ; وكل ما أمر الله به أنيوصلفهو بينهم مقطوع ; وكل فساد في الأرض فهو منهم مصنوع . . إن صلة هذا النمط منالبشربالله مقطوعة , وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة ولاتتورععن فساد . إنهم كالثمرة الفجة التي انفصلت من شجرة الحياة , فتعفنت وفسدتونبذتهاالحياة . . ومن ثم يكون ضلالهم بالمثل الذي يهدي المؤمنين ; وتجيء غوايتهمبالسببالذي يهتدي به المتقون .
وننظرفي الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر الذي كانت الدعوة تواجهه فيالمدينةفي صورة اليهود والمنافقين والمشركين ; والذي ظلت تواجهه وما تزال تواجههاليومفي الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعنوانات !
(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه). .
وعهدالله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة: إنه عهد الفطرة المركوز فيطبيعةكل حي . . أن يعرف خالقه , وأن يتجه إليه بالعبادة . وما تزال في الفطرة هذهالجوعةللاعتقاد بالله , ولكنها تضل وتنحرف فتتخذ من دون الله أندادا وشركاء . .وهوعهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله على آدم :-
)الَّذِينَيَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَاأَمَرَاللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُالْخَاسِرُونَ (27
كما سيجيء : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هميحزنون . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). ........ وهوعهودهالكثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده , وأن يحكموا في حياتهممنهجهوشريعته . . وهذه العهود كلها هي التي ينقضها الفاسقون . وإذا نقض عهد اللهمنبعد ميثاقه , فكل عهد دون الله منقوض . فالذي يجرؤ على عهد الله لا يحترم بعدهعهدامن العهود .
(ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل). .
واللهأمر بصلات كثيرة . . أمر بصلة الرحم والقربى . وأمر بصلة الإنسانية الكبرى . وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية , التي لا تقوم صلة ولا وشيجةإلامعها . . وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى , وانحلت الروابط ,ووقعالفساد في الأرض , وعمت الفوضي .
(ويفسدون في الأرض). .
والفسادفي الأرض ألوان شتى , تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله , ونقض عهد الله , وقطع ما أمر الله به أن يوصل . ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه الذياختارهليحكم حياة البشر ويصرفها . هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتما ,فمايمكن أن يصلح أمر هذه الأرض , ومنهج الله بعيد عن تصريفها , وشريعة الله مقصاةعنحياتها . وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشاملللنفوسوالأحوال , وللحياة والمعاش ; وللأرض كلها وما عليها من ناس وأشياء .
إنهالهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله . . ومن ثم يستحق أهله أنيضلهمالله بما يهدي به عباده المؤمنين .
الوحدةالثالثة آياتها:40 - 74 موضوعها:قصة بني إسرائيل ونكثهم عهداللهوحرمانهم من الخلافةتقديمالوحدة الثالثة
ابتداءمن هذا المقطع في السورة يواجه السياق بني إسرائيل , وأولئك الذين واجهواالدعوةفي المدينة مواجهة نكرة ; وقاوموها مقاومة خفية وظاهرة ; وكادوا لها كيداموصولا , لم يفتر لحظة منذ أن ظهر الإسلام بالمدينة ; وتبين لهم أنه في طريقه إلىالهيمنةعلى مقاليدها , وعزلهم من القيادة الأدبية والاقتصادية التي كانت لهم , مذوحدالأوس والخزرج , وسد الثغرات التي كانت تنفذ منها يهود , وشرع لهم منهجا مستقلا , يقوم على أساس الكتاب الجديد . . هذه المعركة التي شنها اليهود على الإسلاموالمسلمينمنذ ذلك التاريخالبعيد ثم لم يخب أوارها حتى اللحظةالحاضرة , بنفس الوسائل , ونفس الأساليب , لا يتغير إلا شكلها ; أما حقيقتها فباقية , وأما طبيعتها فواحدة , وذلك على الرغم من أن العالم كله كان يطاردهم من جهة إلىجهة , ومن قرن إلى قرن , فلا يجدون لهم صدرا حنونا إلا في العالم الإسلامي المفتوح , الذي ينكر الاضطهادات الدينية والعنصرية , ويفتح أبوابه لكل مسالم لا يؤذيالإسلامولا يكيد للمسلمين !
ولقدكان المنتظر أن يكون اليهود في المدينة هم أول من يؤمن بالرسالة الجديدةويؤمنللرسول الجديد ; مذ كان القرآن يصدق ما جاء في التوراة في عمومه ; ومذ كانواهميتوقعون رسالة هذا الرسول , وعندهم أوصافه في البشارات التي يتضمنها كتابهم ;وهمكانوا يستفتحون به على العرب المشركين .
............... نواصل قصة اليهود :
|