باب في الإخلاصَ وإحضَار النية في جميع الأعمال الظاهرة والخفية.
فصل [في كتب الحسنات والسيئات].
[حماد بن سلمة]
أخبرنا شيخنا الحافظ أبو البقاء بقراءتي عليه، أخبرنا الحافظ عبد الغني إجازة، أخبرنا محمد بن عبد الباقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد، أخبرنا الحسين بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد أبو عبد الله التميمي، عن أبيه قال: رأيت حماد بن سلمة في النوم فقلت: ما فعل بك ربك؟ قال: خيرًا! قلت: ماذا قال؟ قال لي: طالما كددت نفسك! فاليوم أطيل راحتك وراحة المتعوبين من أجلي، بخ بخ ماذا أعددت لهم؟!.
باب في نفائس مأثورة
وروينا في صحيح البخاري رحمه الله قال: قال عمار رضي الله تعالى عنه في هذه الكلمات:
ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان:
الإنصاف من نفسك.
وبذل السلام للعالم.
والإنفاق في الإقتار.
قلت: قد جمع - رضي الله تعالى عنه - في هذه الكلمات خيرات الآخرة والدنيا.
وعلى هذه الثلاث مدار الإسلام، لأن من أنصف من نفسه فيما لله تعالى، وللخلق عليه، ولنفسه - من نصيحتها، أو صيانتها - فقد بلغ الغاية في الطاعة.
وقوله: بذل السلام للعالم هو: "بفتح اللام" [يعني الناس، وعدم التكبر عليهم، أي الارتفاع فوقهم] يعني الناس كلهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".
وهذه من أعظم مكارم الأخلاق، وهو متضمن للسلامة من العدوات والأحقاد، واحتقار الناس والتكبر عليهم، والارتفاع فوقهم، وأما "الإنفاق في الإقتار": فهو الغاية في الكرم! وقد مدح الله سبحانه وتعالى على ذلك،
فقال تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). وهذا عام في نفقة الرجل على عياله وضيفه، والسائل منه، وكل نفقة في طاعة الله عز وجل؛ وهو:
(1) متضمن للتوكل على الله تعالى، والاعتماد على سعة فضله، والثقة بضمان الرزق.
(2) ويتضمن - أيضًا - الزهد في الدنيا، وعدم ادخار متاعها، وترك الاهتمام بشأنها، والتفاخر والتكاثر بها.
(3) ويتضمن غير ما ذكرته من الخيرات، لكني أوثر في هذا الكتاب الاختصار البليغ خوفًا من الملل.
وقد روينا هذه الكلمات في "شرح السنة" للبغوي، عن عمار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وروينا في "صحيح مسلم" رحمه الله تعالى قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الله بن أبي يحيى بن أبي كثير، قال: سمعت أبي يقول: "لا يستطاع العلم براحة الجسم".
وروينا في "صحيح البخاري" رضي الله تعالى عنه قال: قال ربيعة - يعني شيخ مالك بن أنس الإمام رضي الله تعالى عنه قال -: "لا ينبغي لمن عنده شيء من العلم، أن يضع نفسه".
قلت: في معنى كلام ربيعة قولان أوضحتهما في "شرح البخاري" واختصرتهما هنا:
أحدهما: معناه من كانت فيه نجابة في العلم، وحصل طرفًا منه، وظهرت فيه أمارات التبريز فيه، فينبغي له أن يجتهد في تنمته، ولا يضيع طلبه فيضع نفسه.
والثاني: معناه من حصل له العلم، ينبغي له أن يسعى في نشره، مبتغيًا به رضا الله تعالى، ويشيعه في الناس لينتقل عنه، وينتفع به الناس، وينتفع هو، وينبغي أن يرفق في نشره بمن يأخذه منه، ويسهل طرق أخذه، ليكون أبلغ في نصيحة العلم فإن الدين النصيحة.
وقد اختلف أصحاب الشافعي رضي الله عنه وإياهم، فيمن كان بالصفة المذكورة في الأول هل يتعين عليه تنميم الطالب؟ ويحرم الترك؟ أم يبقى في حقه فرض كفاية، كما كان فلا يحرم عليه الترك إذا قام به غيره؟.
وهذا الثاني هو قول أكثرهم وهو الصحيح المختار والله أعلم.
وروينا عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: "من رق وجهه رق علمه!".
ومعناه: من استحيا في طلب العلم، كان علمه رقيقًا؛ أي: قليلًا.
وروينا في صحيح البخاري رضي الله تعالى عنه، قال مجاهد رحمه الله: "لا يتعلم العلم مستح ولا متكبر".
وروينا في صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: "نعم النساء نساء الأنصار! لم يكن يمنعهن الحياة أن يتفقهن في الدين".
باب في نفائس مأثورة.
[الحث على طلب العلم]
وروينا في صحيح البخاري قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: "تفقهوا قبل أن تسودوا".
ومعناه: احرصوا على إتقان العلم، والتمكن من تحصيله، وأنتم شبان لا أشغال لكم ولا رئاسة ولا سن؛ فإنكم إذا كبرتم وصرتم سادة متبوعين، امتنعتم من التفقه والتحصيل، لأسباب منها: كثرة الأشغال، ومنها الأنفة لكبر السن والرئاسة، ومنها: التكاسل وغير [ذلك]
وهذا نحو ما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "تفقه قبل أن ترأس، فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه".
أخبرنا شيخنا أبو البقاء، أخبرنا أبو محمد، أخبرنا أبو بكر، أخبرنا الخطيب، وأخبرنا أبو محمد الصفهاني، وأخبرنا جعفر الخلدي، قال: سمعت الجنيد رحمه الله تعالى يقول: سمعت سريًا يقول:
"وما أحب أن أموت حيث أعرف، أخاف أن لا تقبلني الأرض وأفتضح!".
وبهذا الإسناد قال الجنيد: سمعت سريًا يقول:
"إني لأنظر إلى أنفي كل يوم مرتين، مخافة أن يكون قد اسود وجهي!".