القَولُ في أصْنَافِ الطَّالبْين
ولما شفاني الله من هذا المرض بفضله وسعةجوده ، أنحصرت أصناف الطالبين عندي في أربع فرق:
1. المتكلمون: وهم يدَّعون أنهم أهلالرأي والنظر.
2. الباطنية: وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالاقتباسمن الإمام المعصوم.
3. الفلاسفة: وهم يزعمون أنهم أهل المنطق والبرهان.
4. الصوفية: وهم يدعون أنهم خواص الحضرة وأهل المشاهدةوالمكاشفة.
فقلت في نفسي : الحق لا يعدو هذه الأصناف الأربعة ، فهؤلاء هم السالكون سبل طلب الحق ، فإن شذَّ الحق عنهم ، فلا يبقى في درك الحق مطمع ، إذ لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته ؛ و( من ) شرط المقلد[37] أن لا يعلم أنه مقلد ، فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده ، وهو شعب[38] لا يرأب[39] ، وشعث[40] لا يلم بالتلفيق والتأليف ، إلا أن يذاب بالنار ، ويستأنف له صنعة أخرى مستجدة.
فابتدرت لسلوك هذه الطرق ، واستقصاء ما عند هذه الفرق. مبتدئاً بعلم الكلام. ومثنياً بطريق الفلسفة ، ومثلثاً بتعلم الباطنية ، ومربعاً بطريق الصوفية.
1- عِلْمُ الكَلاَم: مَقْصُودهوحَاصِله
ثم إني ابتدأت بعلم الكلام ، فحصَّلته وعقلته ، وطالعت كتب المحققين منهم ، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف ، فصادفته علماً وافياً بمقصوده ، غير وافٍ بمقصودي ؛ وإنما المقصود منه[41] حفظ عقيدة أهل السنة [ على أهل السنة ] وحراستها عن تشويش أهل البدعة. فقد ألقى الله ( تعالى ) إلى عبادهعلى لسان رسوله عقيدة هي الحق ، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، كما نطق بمعرفتهالقرآن والأخبار ، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أموراً مخالفة للسنة ، فلهجوا[42]بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها. فأنشأ الله تعالى طائفة المتكلمين ، وحرك دواعيهم لنصرة السنةبكلام مرتب ، يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة ، على خلاف السنة المأثورة ؛ فمنهنشأ علم الكلاموأهله. ولقد قام طائفة منهم بما ندبهم الله ( تعالى ) إليه ، فأحسنوا الذب عن السنة ، والنضال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة ، والتغيير في وجهما أحدث من البدعة ؛ ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم ، واضطرهم إلى تسليمها: إما التقليد ، أو إجماع الأمة ، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار. وكان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم ، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم. وهذاقليل النفع في حق[43] من لا يسلم سوى الضروريات شيئاً ( أصلاً ) ، فلم يكن الكلام في حقي كافياً ، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافياً. نعم ، لما نشأت صنعة الكلام وكثر الخوض فيه وطالت المدة ، تشوق المتكلمون إلى محاولة الذبّ ( عن السنة ) بالبحث عن حقائق الأمور ، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض[44] وأحكامها. ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم ، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى ، فلميحصل منه ما يمحق[45] بالكلية ظلمات الحيرةفي اختلافات الخلق ؛ ولا أبعدُ أن يكون قد حصل ذلك لغيري! بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة ولكن حصولاً مشوباً بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات!
والغرض الآن حكاية حالي ، لا الإنكار على من استشفى به ، فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء. وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر!
· محصولها.
· المذموم منها وما لا يذم.
· ومايكفر به قائلة وما لا يكفر به.
· وما يبتدع فيه وما لا يبتدع.
· وبيان ما سرقه الفلاسفة من كلامأهل الحق.
· وبيان ما مزجوه بكلام أهل الحق لترويج باطلهم في درج ذلك.
· وكيفية عدم قبول البشر وحصول نفرة النفوس من ذلك الحق الممزوج بالباطل.
· وكيفية استخلاص الحق الخالصمن الزيف والبهرج من جملة كلامهم.[46]
ثم إني ابتدأت ، بعد الفراغ من علم الكلام ، بعلم الفلسفة وعلمت يقيناً ، أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم ، من لا يقف على منتهى ذلكالعلم ، حتىيساوي أعلمهم في أصل [ ذلك ] العلم ، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته ، فيطلع على ما لم يطلععليه صاحب العلم من غور[47] وغائله ، وإذا ذاك[48] يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقّاً. ولم أر أحداً من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك.
ولم يكن في كتب (( المتكلمين )) من كلامهم ، حيث اشتغلوا بالرد عليهم ، إلا كلمات معقدة مبددة ، ظاهرة التناقض والفساد ، لا يظن الاغترار بها بعاقل[49] عامي ، فضلاً عمن يدعي دقائق العلوم.فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والإطلاع على كنهه[50] رمى في عماية ، فشمرت عن ساق الجد ،في تحصيلذلك العلم من الكتب ، بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ ، وأقبلت علىذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية ، وأنا ممنو[51] بالتدريس والإفادةلثلاثمائة نفر من الطلبة ببغداد.
فأطلعني الله سبحأنه [ وتعالى ] بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة ، على منتهى علومهم في أقل من سنتين. ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة ، أعاوده وأردده وأتفقد غوائلهوأغواره ، حتى اطَّلعت على ما فيه من خداع وتلبيس ، وتحقيق وتخييل ، اطلاعاً لم أشك فيه.
فاسمع الآن حكايتهم[52]وحكاية حاصل علومهم ؛ فإني رأيتهم أصنافاً ، ورأيت علومهم أقساماً ؛ وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة[53] الكفر والإلحاد ، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين ، وبين الأواخر منهم والأوائل ، تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه.