أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ نَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ , قَالَ ,
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْحُجَّةُ فِيمَا وَصَفْتُ : مِنْ أَنْ يَسْتَحْلِفَ النَّاسُ : فِيمَا بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَقَامِ , وَعَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) , وَبَعْدَ الْعَصْرِ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ } , وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : [ هِيَ ] صَلَاةُ الْعَصْرِ , ثُمَّ ذَكَرَ شَهَادَةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ , وَغَيْرَهَا .
وَفِيمَا أَنْبَأَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( إجَازَةً ) عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ , أَنَّهُ قَالَ : زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } : مَا جَعَلَ لِرَجُلٍ : مِنْ أَبَوَيْنِ ; فِي الْإِسْلَامِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَاسْتَدَلَّ بِسِيَاقِ الْآيَةِ : قوله تعالى { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } . قَالَ الشَّيْخُ : قَدْ رَوَيْنَا هَذَا عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ , وَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ .
مَا يُؤْثَرُ عَنْهُ فِي الْقُرْعَةِ وَالْعِتْقِ وَالْوَلَاءِ
وَفِيمَا أَنْبَأَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ( إجَازَةً ) عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ عَنْ الرَّبِيعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ ( رحمه الله ) , قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ } ,
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إذْ أَبَقَ إلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } . فَأَصْلُ الْقُرْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : فِي قِصَّةِ الْمُقْتَرِعِينَ [ عَلَى مَرْيَمَ ] , وَالْمُقَارِعِينَ يُونُسَ ( عليه السلام ) مُجْتَمِعَةٌ وَلَا تَكُونُ الْقُرْعَةُ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) . إلَّا بَيْنَ الْقَوْمِ مُسْتَوِينَ فِي الْحُجَّةِ . وَلَا يَعْدُو ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) الْمُقْتَرِعُونَ عَلَى مَرْيَمَ ( عليها السلام ) , أَنْ يَكُونُوا : كَانُوا سَوَاءً فِي كَفَالَتِهَا ; فَتَنَافَسُوهَا لَمَّا كَانَ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ وَاحِدٍ , أَرْفَقَ بِهَا . لِأَنَّهَا لَوْ صُيِّرَتْ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ , وَعِنْدَ غَيْرِهِ مِثْلِ ذَلِكَ : أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ أَضَرَّ بِهَا ; مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْكَافِلَ إذَا كَانَ وَاحِدًا : كَانَ أَعَطَفَ لَهُ عَلَيْهَا , وَأَعْلَمَ لَهُ ] بِمَا فِيهِ مُصْلِحَتُهَا : لِلْعِلْمِ : بِأَخْلَاقِهَا , وَمَا تَقْبَلُ , وَمَا تَرُدُّ , وَ [ مَا ] يَحْسُنُ [ بِهِ ] اغْتِذَاؤُهَا . وَكُلُّ مَنْ اعْتَنَفَ كَفَالَتَهَا , كَفَلَهَا : غَيْرَ خَابِرٍ بِمَا يُصْلِحُهَا , وَلَعَلَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى صَلَاحِهَا : حَتَّى تَصِيرَ إلَى غَيْرِهِ ; فَيَعْتَنِفُ مِنْ كَفَالَتِهَا ; [ مَا اعْتَنَفَ ] غَيْرُهُ . وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ يَصِحُّ , وَذَلِكَ أَنَّ وِلَايَةَ وَاحِدٍ إذَا كَانَتْ صَبِيَّةً غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ مِمَّا يَمْتَنِعُ مِنْهُ مَنْ عَقَلَ يَسْتُرُ مَا يَنْبَغِي سِتْرُهُ كَانَ أَكْرَمَ لَهَا , وَأَسْتَرَ عَلَيْهَا أَنْ يَكْفُلَهَا وَاحِدٌ , دُونَ الْجَمَاعَةِ . وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ كَافِلٍ , وَيَغْرَمُ مَنْ بَقِيَ مُؤْنَتَهَا : بِالْحِصَصِ كَمَا تَكُونُ الصَّبِيَّةُ عِنْدَ خَالَتِهَا , وَعِنْدَ أُمِّهَا : وَمُؤْنَتُهَا : عَلَى مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهَا . قَالَ : وَلَا يَعْدُو الَّذِينَ اقْتَرَعُوا عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ عليها السلام أَنْ يَكُونُوا تَشَاحُّوا عَلَى كَفَالَتِهَا فَهُوَ : أَشْبَهُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَوْ يَكُونُوا تَدَافَعُوا كَفَالَتَهَا ; فَاقْتَرَعُوا : أَيُّهُمْ تَلْزَمُهُ ؟ فَإِذَا رَضِيَ مَنْ شَحَّ عَلَى كَفَالَتِهَا , أَنْ يَمُونَهَا لَمْ يُكَلِّفْ غَيْرَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ مُؤْنَتِهَا ; . شَيْئًا . بِرِضَاهُ بِالتَّطَوُّعِ بِإِخْرَاجِ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ قَالَ : وَأَيُّ الْمَعْنَيَيْنِ كَانَ فَالْقُرْعَةُ تُلْزِمُ أَحَدَهُمْ مَا يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ تُخَلِّصُ لَهُ مَا تَرْغَبُ فِيهِ نَفْسُهُ , وَتَقْطَعُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ . وَهَكَذَا [ مَعْنَى ] قُرْعَةِ يُونُسَ ( عليه السلام ) لَمَّا وَقَفَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ , فَقَالُوا مَا يَمْنَعُهَا أَنْ تَجْرِيَ إلَّا عِلَّةٌ بِهَا , وَمَا عِلَّتُهَا إلَّا : ذُو ذَنْبٍ فِيهَا ; فَتَعَالَوْا : نَقْتَرِعُ . فَاقْتَرَعُوا فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ ( عليه السلام ) فَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا , وَأَقَامُوا فِيهَا . وَهَذَا مِثْلُ مَعْنَى الْقُرْعَةِ فِي الَّذِينَ اقْتَرَعُوا عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ عليها السلام ; لِأَنَّ حَالَةَ الرُّكْبَانِ كَانَتْ مُسْتَوِيَةً , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا حُكْمٌ يُلْزِمُ أَحَدَهُمْ فِي مَالِهِ , شَيْئًا لَمْ يَلْزَمْهُ قَبْلَ الْقُرْعَةِ , وَيُزِيلُ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا : كَانَ يَلْزَمُهُ فَهُوَ يَثْبُتُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ , وَيُبَيِّنُ فِي بَعْضٍ : أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْهُ كَمَا كَانَ فِي الَّذِينَ اقْتَرَعُوا عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ عليها السلام : غُرْمٌ , وَسُقُوطُ غُرْمٍ . قَالَ : وَقُرْعَةُ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم ) فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَقْرَعَ فِيهِ : [ فِي ] مِثْلِ مَعْنَى الَّذِينَ اقْتَرَعُوا عَلَى كَفَالَةِ مَرْيَمَ عليها السلام , سَوَاءً : لَا يُخَالِفُهُ . وَذَلِكَ : أَنَّهُ ( عليه السلام ) أَقْرَعَ بَيْنَ مَمَالِيكَ أُعْتِقُوا مَعًا فَجَعَلَ الْعِتْقَ : تَامًّا لِثُلُثِهِمْ , وَأَسْقَطَ عَنْ ثُلُثَيْهِمْ بِالْقُرْعَةِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتِقَ فِي مَرَضِهِ أَعْتَقَ مَالَهُ وَمَالَ غَيْرِهِ فَجَازَ عِتْقُهُ فِي مَالِهِ . وَلَمْ يَجُزْ فِي مَالِ غَيْرِهِ . فَجَمَعَ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم ) الْعِتْقَ فِي ثَلَاثَةٍ , وَلَمْ يُبَعِّضْهُ كَمَا يُجْمَعُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوَارِيثِ , وَلَا يُبَعِّضُ عَلَيْهِمْ . وَكَذَلِكَ : كَانَ إقْرَاعُهُ لِنِسَائِهِ أَنْ يَقْسِمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي الْحَضَرِ ; فَلَمَّا كَانَ فِي السَّفَرِ : كَانَ مَنْزِلَةً يَضِيقُ فِيهَا الْخُرُوجُ بِكُلِّهِنَّ ; فَأَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا : خَرَجَ بِهَا , وَسَقَطَ حَقُّ غَيْرِهَا فِي غِيبَتِهِ بِهَا ; فَإِذَا حَضَرَ عَادَ لِلْقَسْمِ لِغَيْرِهَا , وَلَمْ يَحْسِبْ عَلَيْهَا أَيَّامَ سَفَرِهَا وَكَذَلِكَ : قَسَمَ خَيْبَرَ : [ فَكَانَ ] أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِمَنْ حَضَرَ ; ثُمَّ أَقْرَعَ فَأَيُّهُمْ خَرَجَ سَهْمُهُ عَلَى جُزْءٍ مُجْتَمِعٍ : كَانَ لَهُ بِكَمَالِهِ , وَانْقَطَعَ مِنْهُ حَقُّ غَيْرِهِ , وَانْقَطَعَ حَقُّهُ عَنْ غَيْرِهِ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو نَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ , قَالَ : قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا } الْآيَةَ , وَقَالَ : { وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ } ; فَنَسَبَ إبْرَاهِيمَ عليه السلام ) إلَى أَبِيهِ : وَأَبُوهُ كَافِرٌ , وَنَسَبَ [ ابْنَ ] نُوحٍ إلَى أَبِيهِ : وَابْنُهُ كَافِرٌ . وَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } ,
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } ; فَنَسَبَ الْمَوَالِيَ إلَى نَسَبَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) إلَى الْآبَاءِ ; ( وَالْآخَرُ ) إلَى الْوَلَاءِ . وَجَعَلَ الْوَلَاءَ بِالنِّعْمَةِ . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) { : إنَّمَا الْوَلَاءُ : لِمَنْ أَعْتَقَ } فَدَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ إنَّمَا يَكُونُ : لِمُتَقَدِّمِ فِعْلٍ مِنْ الْمُعْتِقِ ; كَمَا يَكُونُ النَّسَبُ بِمُتَقَدِّمِ وِلَادٍ [ مِنْ الْأَبِ ] . وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي امْتِنَاعِهِمْ مِنْ تَحْوِيلِ الْوَلَاءِ عَنْ الْمُعْتِقِ , إلَى غَيْرِهِ : بِالشَّرْطِ : كَمَا يَمْتَنِعُ تَحْوِيلُ النَّسَبِ بِالِانْتِسَابِ إلَى غَيْرِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ النَّسَبُ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ , قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . { وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ } ; دَلَالَةٌ : عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ : أَنْ يُكَاتَبَ مَنْ يَعْقِلُ ; مَا يَطْلُبُ لَا مَنْ لَا يَعْقِلُ أَنْ يَبْتَغِيَ الْكِتَابَةَ مِنْ صَبِيٍّ , وَلَا : مَعْتُوهٍ أَنَا ) أَبُو سَعِيدٍ نَا أَبُو الْعَبَّاسِ , أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَطَاءٍ مَا الْخَيْرُ ؟ الْمَالُ ؟ أَوْ الصَّلَاحُ ؟ أَمْ كُلُّ ذَلِكَ ؟ قَالَ مَا نَرَاهُ إلَّا الْمَالَ ; قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ : وَكَانَ رَجُلَ صِدْقٍ ؟ قَالَ مَا أَحْسَبُ مَا خَيْرًا إلَّا : ذَلِكَ الْمَالَ لَا : الصَّلَاحَ . قَالَ : وَقَالَ مُجَاهِدٌ { إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } الْمَالَ ; كَائِنَةً أَخْلَاقُهُمْ وَأَدْيَانُهُمْ مَا كَانَتْ
قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْخَيْرُ كَلِمَةٌ يُعْرَفُ مَا أُرِيدَ بِهَا , بِالْمُخَاطَبَةِ بِهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } ; فَعَقَلْنَا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ : بِالْإِيمَانِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ لَا بِالْمَالِ . وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } ; فَعَقَلْنَا أَنَّ الْخَيْرَ : الْمَنْفَعَةُ بِالْأَجْرِ لَا أَنَّ فِي الْبُدْنِ لَهُمْ مَالًا . وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا } ; فَعَقَلْنَا أَنَّهُ إنْ تَرَكَ مَالًا ; لِأَنَّ الْمَالَ : الْمَتْرُوكُ , وَلِقَوْلِهِ : { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } . فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } كَانَ أَظْهَرَ مَعَانِيهَا بِدَلَالَةِ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْ الْكِتَابِ . قُوَّةً عَلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ , وَأَمَانَةً لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ : قَوِيًّا فَيَكْسِبُ ; فَلَا يُؤَدِّي إذَا لَمْ يَكُنْ ذَا أَمَانَةٍ . وَأَمِينًا , فَلَا يَكُونُ قَوِيًّا عَلَى الْكَسْبِ فَلَا يُؤَدِّي . وَلَا يَجُوزُ عِنْدِي ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) فِي قوله تعالى : { إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } . إلَّا هَذَا . وَلَيْسَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ إنْ عَلِمْت فِي عَبْدِك مَالًا ; لِمَعْنَيَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْمَالَ لَا يَكُونُ فِيهِ ; إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَهُ لَا فِيهِ . وَلَكِنْ يَكُونُ فِيهِ الِاكْتِسَابُ : الَّذِي يُفِيدُهُ الْمَالَ . ( وَالثَّانِي ) أَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ لِسَيِّدِهِ : فَكَيْفَ يُكَاتِبُهُ بِمَالِهِ ؟ , إنَّمَا يُكَاتِبُهُ بِمَا يُفِيدُ الْعَبْدَ : بَعْدَ الْكِتَابَةِ . لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ , يُمْنَعُ مَا [ أَفَادَ ] الْعَبْدُ : لِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ . وَلَعَلَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْخَيْرَ : الْمَالُ ; [ أَرَادَ ] أَنَّهُ أَفَادَ بِكَسْبِهِ مَالًا لِلسَّيِّدِ فَيَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ مَالًا يُعْتِقُ بِهِ ; كَمَا أَفَادَ أَوَّلًا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِذَا جَمَعَ الْقُوَّةَ عَلَى الِاكْتِسَابِ , وَالْأَمَانَةَ : فَأَحَبُّ إلَيَّ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُكَاتِبَهُ . وَلَا يُبَيِّنُ لِي أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ أَنْ يَكُونَ إرْشَادًا , أَوْ إبَاحَةً ; [ لَا : حَتْمًا ] . وَقَدْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ , عَدَدٌ : مِمَّنْ لَقِيت مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ , وَاحْتَجَّ فِي جُمْلَةِ مَا ذَكَرَ : بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ . وَاجِبًا : لَكَانَ مَحْدُودًا بِأَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِتَابَةِ أَوْ لِغَايَةٍ مَعْلُومَةٍ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ , نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ نا الشَّافِعِيُّ : أَنَا الثِّقَةُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا لَهُ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا ; وَوَضَعَ عَنْهُ خَمْسَةَ آلَافٍ . أَحْسِبُهُ قَالَ مِنْ آخِرِ نُجُومِهِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَذَا عِنْدِي ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) مِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } . فَيُجْبَرُ سَيِّدُ الْمُكَاتَبِ عَلَى أَنْ يَضَعَ عَنْهُ مِمَّا عَقَدَ عَلَيْهِ الْكِتَابَةَ . شَيْئًا ; [ وَإِذَا وَضَعَ عَنْهُ شَيْئًا ] مَا كَانَ : [ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ ] . وَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ الْكِتَابَةَ كُلَّهَا , فَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْئًا , وَيُعْطِيَهُ مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ : لِأَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } ; يُشْبِهُ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) : آتَاكُمْ مِنْهُمْ ; فَإِذَا أَعْطَاهُ شَيْئًا غَيْرَهُ فَلَمْ يُعْطِهِ مِنْ الَّذِي أُمِرَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْهُ . وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ .