وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } . فَكَانَ شَيْئَانِ حَلَالَانِ ; فَأَثْبَتَ تَحْلِيلَ أَحَدِهِمَا وَهُوَ : صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَالِحُهُ وَكُلُّ مَا قَذَفَهُ : [ وَهُوَ ] حَيٌّ ; مَتَاعًا لَهُمْ يَسْتَمْتِعُونَ بِأَكْلِهِ . وَحَرَّمَ صَيْدَ الْبَرِّ أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِأَكْلِهِ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم . يَعْنِي فِي حَالِ الْإِحْرَامِ . قَالَ : وَهُوَ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فِي الْإِحْرَامِ إلَّا مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ , قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ [ فِيمَا حُرِّمَ , وَلَمْ يَحِلَّ بِالذَّكَاةِ ] : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } ,
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ } الْآيَةَ , , وَقَالَ فِي ذِكْرِ مَا حُرِّمَ : { فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَيَحِلُّ مَا حُرِّمَ : مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ; وَكُلُّ مَا حُرِّمَ : مِمَّا لَا يُغَيِّرُ الْعَقْلَ : مِنْ الْخَمْرِ لِلْمُضْطَرِّ . وَالْمُضْطَرُّ : الرَّجُلُ يَكُونُ بِالْمَوْضِعِ : لَا طَعَامَ مَعَهُ فِيهِ , وَلَا شَيْءَ يَسُدُّ فَوْرَةَ جُوعِهِ مِنْ لَبَنٍ , وَمَا أَشْبَهَهُ . وَيُبَلِّغُهُ الْجُوعُ مَا يَخَافُ مِنْهُ الْمَوْتَ , أَوْ الْمَرَضَ : وَإِنْ لَمْ يَخَفْ الْمَوْتَ أَوْ يُضْعِفُهُ , أَوْ يَضُرُّهُ أَوْ يَعْتَلُّ أَوْ يَكُونُ مَاشِيًا : فَيَضْعُفُ عَنْ بُلُوغِ حَيْثُ يُرِيدُ أَوْ رَاكِبًا فَيَضْعُفُ عَنْ رُكُوبِ دَابَّتِهِ ; أَوْ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ الضَّرَرِ الْبَيِّنِ . فَأَيُّ هَذَا نَالَهُ : فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ الْمُحَرَّمِ , وَكَذَلِكَ يَشْرَبُ مِنْ الْمُحَرَّمِ : غَيْرِ الْمُسْكِرِ ; مِثْلِ : الْمَاءِ : [ تَقَعُ ] فِيهِ الْمَيْتَةُ , وَمَا أَشْبَهَهُ . وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ آكِلُهُ إنْ أَكَلَ , وَشَارِبُهُ إنْ شَرِبَ أَوْ جَمَعَهُمَا : فَعَلَى مَا يَقْطَعُ عَنْهُ الْخَوْفَ , وَيَبْلُغُ [ بِهِ ] بَعْضَ الْقُوَّةِ . وَلَا يَبِينُ : أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْبَعَ وَيَرْوَى , وَإِنْ أَجْزَأَهُ دُونَهُ : لِأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ زَالَ عَنْهُ بِالضَّرُورَةِ . وَإِذَا بَلَغَ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ فَلَيْسَ لَهُ مُجَاوَزَتُهُ ; لِأَنَّ مُجَاوَزَتَهُ : حِينَئِذٍ إلَى الضَّرَرِ , أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى النَّفْعِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَمَنْ خَرَجَ سَفَرًا : عَاصِيًا لِلَّهِ ; لَمْ يَحِلَّ لَهُ شَيْءٌ : مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ . بِحَالٍ : لِأَنَّ اللَّهَ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) إنَّمَا أَحَلَّ مَا حَرَّمَ , بِالضَّرُورَةِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُضْطَرُّ : غَيْرَ بَاغٍ , وَلَا عَادٍ , وَلَا مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ . وَلَوْ خَرَجَ : عَاصِيًا ; ثُمَّ تَابَ , فَأَصَابَتْهُ الضَّرُورَةُ بَعْدَ التَّوْبَةِ : رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَهُ أَكْلُ الْمُحَرَّمِ وَشُرْبُهُ . وَلَوْ خَرَجَ : غَيْرَ عَاصٍ ; ثُمَّ نَوَى الْمَعْصِيَةَ ; ثُمَّ أَصَابَتْهُ ضَرُورَةٌ : وَنِيَّتُهُ الْمَعْصِيَةُ خَشِيتُ أَنْ لَا يَسَعَهُ الْمُحَرَّمُ ; لِأَنِّي أَنْظُرُ إلَى نِيَّتِهِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ لَا فِي حَالٍ تَقَدَّمَتْهَا , وَلَا تَأَخَّرَتْ عَنْهَا .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : وَالْحُجَّةُ فِي أَنَّ مَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ , يَحْرُمُ : بِمَالِكِهِ ; حَتَّى يَأْذَنَ فِيهِ مَالِكُهُ . ( يَعْنِي : وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ ) أَنَّ اللَّهَ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) قَالَ : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } , وَقَالَ : { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } , وَقَالَ : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } الْآيَةَ . مَعَ آيٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : قَدْ حُظِرَ فِيهَا أَمْوَالُ النَّاسِ , إلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ إلَّا : بِمَا فَرَضَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ , ثُمَّ سَنَّهُ نَبِيُّهُ ( صلى الله عليه وسلم ) وَجَاءَتْ بِهِ حُجَّةٌ .
قَالَ : وَلَوْ اُضْطُرَّ رَجُلٌ , فَخَافَ الْمَوْتَ ; ثُمَّ مَرَّ بِطَعَامٍ لِرَجُلٍ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ مَا يَرُدُّ مِنْ جُوعِهِ , وَيَغْرَمُ لَهُ ثَمَنَهُ وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي شَرْحِهِ .
قَالَ : وَقَدْ قِيلَ إنَّ مِنْ الضَّرُورَةِ : أَنْ يَمْرَضَ الرَّجُلُ , الْمَرَضَ : يَقُولُ لَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ أَوْ يَكُونُ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ : قَلَّمَا يَبْرَأُ مَنْ كَانَ بِهِ مِثْلُ هَذَا , إلَّا : أَنْ يَأْكُلَ كَذَا , أَوْ يَشْرَبَهُ أَوْ يُقَالُ [ لَهُ ] إنَّ أَعْجَلَ مَا يُبْرِيكَ أَكْلُ كَذَا , أَوْ شُرْبُ كَذَا . فَيَكُونُ لَهُ أَكْلُ ذَلِكَ وَشُرْبُهُ مَا لَمْ يَكُنْ خَمْرًا إذَا بَلَغَ مِنْهَا أَسْكَرَتْهُ . أَوْ شَيْئًا يُذْهِبُ الْعَقْلَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ غَيْرِهَا ; فَإِنَّ إذْهَابَ الْعَقْلِ مُحَرَّمٌ . وَذَكَرَ حَدِيثَ الْعُرَنِيِّينَ فِي بَوْلِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا , وَإِذْنَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فِي شُرْبِهَا , لِإِصْلَاحِهِ لِأَبْدَانِهِمْ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ , قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ } الْآيَةَ , وَقَالَ : { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } يَعْنِي ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) : طَيِّبَاتٍ : كَانَتْ أُحِلَّتْ لَهُمْ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }
قَالَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : الْحَوَايَا مَا حَوَى الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ , فِي الْبَطْنِ . فَلَمْ يَزَلْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) عَلَى بَنِي إسْرَائِيلٍ : الْيَهُودِ خَاصَّةً , وَغَيْرِهِمْ عَامَّةً . مُحَرَّمًا مِنْ حِينَ حَرَّمَهُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ ( تَبَارَكَ وَتَعَالَى ) مُحَمَّدًا ( صلى الله عليه وسلم ) فَفَرَضَ الْإِيمَانَ بِهِ , وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) وَطَاعَةِ أَمْرِهِ : وَأَعْلَمَ خَلْقَهُ أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَتُهُ وَأَنَّ دِينَهُ : الْإِسْلَامُ الَّذِي نَسَخَ بِهِ كُلَّ دِينٍ كَانَ قَبْلَهُ : وَجَعَلَ مَنْ أَدْرَكَهُ وَعَلِمَ دِينَهُ فَلَمْ يَتْبَعْهُ . كَافِرًا بِهِ فَقَالَ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } . وَأَنْزَلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } الْآيَةَ إلَى : { مُسْلِمُونَ } , وَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا , وَأَنْزَلَ فِيهِمْ : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } الْآيَةَ . فَقِيلَ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) أَوْزَارَهُمْ , وَمَا مُنِعُوا بِمَا أَحْدَثُوا . قَبْلَ مَا شُرِعَ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَبْقَ خَلْقٌ يَعْقِلُ مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كِتَابِيٌّ , وَلَا وَثَنِيٌّ , وَلَا حَيٌّ بِرُوحٍ مِنْ جِنٍّ , وَلَا إنْسٍ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وسلم ) إلَّا قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ اللَّهِ بِاتِّبَاعِ دِينِهِ , وَكَانَ مُؤْمِنًا : بِاتِّبَاعِهِ , وَكَافِرًا بِتَرْكِ اتِّبَاعِهِ . وَلَزِمَ كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ : آمَنَ بِهِ , أَوْ كَفَرَ . تَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم : كَانَ مُبَاحًا قَبْلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمِلَلِ أَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ . وَإِحْلَالُ مَا أَحَلَّ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وسلم ) : كَانَ حَرَامًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمِلَلِ ; [ أَوْ غَيْرَ حَرَامٍ ] وَأَحَلَّ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَقَدْ وَصَفَ ذَبَائِحَهُمْ , وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهَا شَيْئًا . فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَحْرُمَ ذَبِيحَةُ كِتَابِيٍّ , وَفِي الذَّبِيحَةِ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ : مِمَّا كَانَ حَرُمَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ) . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ شَحْمِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ . وَكَذَلِكَ : لَوْ ذَبَحَهَا كِتَابِيٌّ لِنَفْسِهِ , وَأَبَاحَهَا لِمُسْلِمٍ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى مُسْلِمٍ مِنْ شَحْمِ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ مِنْهَا , شَيْءٌ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَلَالًا مِنْ جِهَةِ الذَّكَاةِ . لِأَحَدٍ , حَرَامًا عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ اللَّهَ ( عَزَّ وَجَلَّ ) أَبَاحَ مَا ذُكِرَ عَامَّةً لَا خَاصَّةً .
وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ , مَا حَرُمَ عَلَيْهِمْ [ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ] : مِنْ هَذِهِ الشُّحُومِ وَغَيْرِهَا إذَا لَمْ يَتَّبِعُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم ؟
قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَدْ قِيلَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُؤْمِنُوا . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُحَرِّمًا عَلَيْهِمْ وَقَدْ نُسِخَ مَا خَالَفَ دِينَ مُحَمَّدٍ ( صلى الله عليه وسلم ) بِدِينِهِ . كَمَا لَا يَجُوزُ إذَا كَانَتْ الْخَمْرُ حَلَالًا لَهُمْ , إلَّا أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ إذْ حُرِّمَتْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِهِ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو نَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ , قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : حَرَّمَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ : مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَشْيَاءَ أَبَانَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) : أَنَّهَا لَيْسَتْ حَرَامًا بِتَحْرِيمِهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ : الْبَحِيرَةِ , وَالسَّائِبَةِ , وَالْوَصِيلَةِ , وَالْحَامِ كَانُوا : يَتْرُكُونَهَا فِي الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ : كَالْعِتْقِ ; فَيُحَرِّمُونَ أَلْبَانَهَا , وَلُحُومَهَا , وَمِلْكَهَا . وَقَدْ فَسَّرْتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ }
وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } , وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : وَهُوَ يَذْكُرُ مَا حَرَّمُوا : { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } , وَقَالَ : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } , وَالْآيَةَ بَعْدَهَا . [ فَأَعْلَمَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ] أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ بِمَا حَرَّمُوا . قَالَ : وَيُقَالُ : نَزَلَ فِيهِمْ : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } . فَرَدَّ إلَيْهِمْ مَا أَخْرَجُوا مِنْ الْبَحِيرَةِ , وَالسَّائِبَةِ , وَالْوَصِيلَةِ , وَالْحَامِ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ مَا حَرَّمُوا : بِتَحْرِيمِهِمْ .
وَقَالَ تَعَالَى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } ; [ يَعْنِي ] ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) مِنْ الْمَيْتَةِ . وَيُقَالُ أُنْزِلَتْ فِي ذَلِكَ : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } . وَهَذَا يُشْبِهُ مَا قِيلَ يَعْنِي : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ } مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ . مُحَرَّمًا , إلَّا مَيْتَةً , أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا مِنْهَا : وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ ذَبِيحَةَ [ كَافِرٍ ] , وَذَكَرَ تَحْرِيمَ الْخِنْزِيرِ مَعَهَا وَقَدْ قِيلَ مِمَّا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ إلَّا كَذَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } . وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مِثْلِ مَعْنَى الْآيَةِ قَبْلَهَا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ عَنْهُ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فَاحْتَمَلَ ذَلِكَ : الذَّبَائِحَ , وَمَا سِوَاهَا مِنْ طَعَامِهِمْ الَّذِي لَمْ نَعْتَقِدْهُ مُحَرَّمًا عَلَيْنَا . فَآنِيَتُهُمْ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي النَّفْسِ مِنْهَا , شَيْءٌ إذَا غُسِلَتْ . ثُمَّ بَسَطَ الْكَلَامَ : فِي إبَاحَةِ طَعَامِهِمْ الَّذِي يَغِيبُونَ عَلَى صَنْعَتِهِ إذَا لَمْ نَعْلَمْ فِيهِ حَرَامًا , وَكَذَلِكَ الْآنِيَةُ إذَا لَمْ نَعْلَمْ نَجَاسَةً ثُمَّ قَالَ فِي هَذَا , وَفِي مُبَايَعَةِ الْمُسْلِمِ : يَكْتَسِبُ الْحَرَامَ وَالْحَلَالَ ; وَالْأَسْوَاقِ : يَدْخُلُهَا ثَمَنُ الْحَرَامِ وَلَوْ تَنَزَّهَ امْرُؤٌ عَنْ هَذَا , وَتَوَقَّاهُ مَا لَمْ يَتْرُكْهُ عَلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ كَانَ حَسَنًا . لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ لَهُ تَرْكُ مَا لَا يَشُكُّ فِي حَلَالِهِ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَيَكُونُ جَهْلًا بِالسُّنَّةِ أَوْ رَغْبَةً عَنْهَا .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ , أَخْبَرَنِي أَبُو أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ( يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ ) ; أَخْبَرَنِي أَبِي , قَالَ : سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى , يَقُولُ : قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } . قَالَ : لَا يَكُونُ فِي هَذَا الْمَعْنَى , إلَّا : هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْأَحْكَامُ وَمَا عَدَاهَا فَهُوَ : الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ ; عَلَى الْمَرْءِ فِي مَالِهِ فَرْضٌ مِنْ اللَّهِ ( عَزَّ وَجَلَّ ) لَا يَنْبَغِي لَهُ [ التَّصَرُّفُ ] فِيهِ ; وَشَيْءٌ يُعْطِيهِ يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ صَاحِبِهِ وَمِنْ الْبَاطِلِ , أَنْ يَقُولَ : اُحْرُزْ مَا فِي يَدِي , وَهُوَ لَكَ . وَفِيمَا أَنْبَأَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ( إجَازَةً ) أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ مُحَمَّدَ بْنَ يَعْقُوبَ , حَدَّثَهُمْ أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ , قَالَ : الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : جِمَاعُ مَا يَحِلُّ : أَنْ يَأْخُذَهُ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ ; ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا ) مَا وَجَبَ عَلَى النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ مِمَّا لَيْسَ لَهُمْ دَفْعُهُ مِنْ جِنَايَاتِهِمْ , وَجِنَايَاتِ مَنْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ . وَمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ بِالزَّكَاةِ , وَالنُّذُورِ , وَالْكَفَّارَاتِ , وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَ [ ثَانِيهَا ] مَا أَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّا أَخَذُوا بِهِ الْعِوَضَ : مِنْ الْبُيُوعِ , وَالْإِجَارَاتِ , وَالْهِبَاتِ : لِلثَّوَابِ , وَمَا فِي مَعْنَاهَا . وَ [ ثَالِثُهَا ] مَا أَعْطَوْا مُتَطَوِّعِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الْتِمَاسَ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : طَلَبُ ثَوَابِ اللَّهِ ( وَالْآخَرُ ) : طَلَبُ الِاسْتِحْمَادِ إلَى مَنْ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ . وَكِلَاهُمَا مَعْرُوفٌ حَسَنٌ , وَنَحْنُ نَرْجُو عَلَيْهِ : الثَّوَابَ ; إنْ شَاءَ اللَّهُ . ثُمَّ مَا أَعْطَى النَّاسُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ , وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَاحِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : حَقٌّ ; ( وَالْآخَرُ ) بَاطِلٌ فَمَا أَعْطَوْهُ مِنْ الْبَاطِلِ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُمْ , وَلَا لِمَنْ أَعْطَوْهُ وَذَلِكَ : قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } . فَالْحَقُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ : الَّذِي هُوَ خَارِجٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي وَصَفْتُ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ ; وَعَلَى الْبَاطِلِ فِيمَا خَالَفَهُ . وَأَصْلُ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ , وَالسُّنَّةِ , وَالْآثَارِ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا نَدَبَ بِهِ أَهْلَ دِينِهِ : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } ; فَزَعَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ [ بِالتَّفْسِيرِ ] أَنَّ الْقُوَّةَ هِيَ : الرَّمْيُ . وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ , ثُمَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي السَّبْقِ وَذَكَرَ مَا يَحِلُّ مِنْهُ وَمَا يَحْرُمُ .