قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : فَإِذَا فَرَّ الْوَاحِدُ مِنْ اثْنَيْنِ فَأَقَلَّ : مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ يَمِينًا , وَشِمَالًا , وَمُدْبِرًا وَنِيَّتُهُ الْعَوْدَةُ لِلْقِتَالِ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ : [ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ] : قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ , كَانَتْ بِحَضْرَتِهِ أَوْ مَبِينَةً عَنْهُ : فَسَوَاءٌ ; إنَّمَا يَصِيرُ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى نِيَّةِ الْمُتَحَرِّفِ , أَوْ الْمُتَحَيِّزِ فَإِنْ [ كَانَ ] اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) يَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا تَحَرَّفَ : لِيَعُودَ لِلْقِتَالِ , أَوْ تَحَيَّزَ لِذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) : فَأَخْرَجَهُ مِنْ سَخَطِهِ فِي التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ . وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى فَقَدْ خِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ [ عَنْهُ ] . قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ لَمْ أُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُوَلُّوا عَنْهُمْ , وَلَا يَسْتَوْجِبُونَ السَّخَطَ عِنْدِي مِنْ اللَّهِ ( عَزَّ وَجَلَّ ) : لَوْ وَلَّوْا عَنْهُمْ عَلَى غَيْرِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ , أَوْ التَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ . لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) إنَّمَا يُوجِبُ سَخَطَهُ عَلَى مَنْ تَرَكَ فَرْضَهُ , وَأَنَّ فَرْضَ اللَّهِ فِي الْجِهَادِ , إنَّمَا هُوَ عَلَى أَنْ يُجَاهِدَ الْمُسْلِمُونَ ضِعْفَهُمْ مِنْ الْعَدُوِّ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ , قَالَ : قَالَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) فِي بَنِي النَّضِيرِ حِينَ حَارَبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ } إلَى : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } فَوَصَفَ إخْرَابَهُمْ مَنَازِلَهُمْ بِأَيْدِهِمْ , وَإِخْرَابَ الْمُؤْمِنِينَ بُيُوتَهُمْ وَوَصْفُهُ إيَّاهُ [ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ] : كَالرِّضَا بِهِ . وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) بِقَطْعِ نَخْلٍ مِنْ أَلْوَانِ نَخْلِهِمْ ; فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( تَبَارَكَ وَتَعَالَى ) : رِضًا بِمَا صَنَعُوا . { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } فَرَضِيَ الْقَطْعَ , وَأَبَاحَ التَّرْكَ . وَالْقَطْعُ وَالتَّرْكُ مَوْجُودَانِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ , وَذَلِكَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَتَرَكَ , وَقَطَعَ نَخْلَ غَيْرِهِمْ وَتَرَكَ , وَمِمَّنْ غَزَا : مَنْ لَمْ يَقْطَعْ نَخْلَهُ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ , قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحَرْبِيِّ : إذَا أَسْلَمَ وَكَانَ قَدْ نَالَ مُسْلِمًا , أَوْ مُعَاهَدًا , [ أَوْ مُسْتَأْمَنًا ] : بِقَتْلٍ , أَوْ جَرْحٍ , أَوْ مَالٍ . لَمْ يَضْمَنْ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُوجَدَ عِنْدَهُ مَالُ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } ;
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَا سَلَفَ مَا تَقَضَّى وَذَهَبَ . وَقَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا } , وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا مَضَى : [ مِنْهُ ] وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضُوعٍ آخَرَ ( بِهَذَا الْإِسْنَادِ ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ : وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) بِحُكْمِ اللَّهِ كُلَّ رِبًا : أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ , وَلَمْ يُقْبَضْ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا قَبَضَ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَرُدَّهُ .
أَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ ( فِي آخَرِينَ ) ; قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَا الشَّافِعِيُّ : أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ , قَالَ : سَمِعْتُ عَلِيًّا ( رضي الله عنه ) , يَقُولُ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ . فَقَالَ : انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ; فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخَرَجْنَا تَهَادَى بِنَا خَيْلُنَا فَإِذَا نَحْنُ بِظَعِينَةٍ فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ . فَقَالَتْ مَا مَعِي كِتَابٌ فَقُلْنَا لَهَا : لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ , أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ . فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ; فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى أُنَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ : بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَقَالَ مَا هَذَا يَا حَاطِبُ ؟ فَقَالَ : لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ , وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا , وَكَانَ [ مَنْ ] مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا قِرْبَاتِهِمْ , وَلَمْ يَكُنْ لِي بِمَكَّةَ قَرَابَةٌ فَأَحْبَبْتُ إذْ فَاتَنِي ذَلِكَ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا , وَاَللَّهِ مَا فَعَلْتُهُ شَكًّا فِي دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) إنَّهُ قَدْ صَدَقَ . فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ . فَقَالَ النَّبِيُّ ( صلى الله عليه وسلم ) إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا , وَمَا يُدْرِيكَ : لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ , فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ; فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ . وَنَزَلَتْ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ }
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ , قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ : طَرْحُ الْحُكْمِ بِاسْتِعْمَالِ الظُّنُونِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ حَاطِبٌ , كَمَا قَالَ : مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ شَكًّا فِي الْإِسْلَامِ , وَأَنَّهُ فَعَلَهُ : لِيَمْنَعَ أَهْلَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ زَلَّةً لَا : رَغْبَةً عَنْ الْإِسْلَامِ وَاحْتَمَلَ الْمَعْنَى الْأَقْبَحَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا احْتَمَلَ فِعْلُهُ وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى نا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ , قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) دِينَهُ : الَّذِي بَعَثَ بِهِ ] رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَدْيَانِ بِأَنْ أَبَانَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ , وَمَا خَالَفَهُ مِنْ الْأَدْيَانِ بَاطِلٌ وَأَظْهَرَهُ بِأَنَّ جِمَاعَ الشِّرْكِ دِينَانِ : دِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَدِينُ الْأُمِّيِّينَ . فَقَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) الْأُمِّيِّينَ : حَتَّى دَانُوا بِالْإِسْلَامِ طَوْعًا وَكَرْهًا , وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَسَبَى : حَتَّى دَانَ بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ , وَأَعْطَى بَعْضٌ الْجِزْيَةَ : صَاغِرِينَ , وَجَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ ( صلى الله عليه وسلم ) وَهَذَا : ظُهُورُ الدِّينِ كُلِّهِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَدْ يُقَالُ : لَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ دِينَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ حَتَّى لَا يُدَانَ اللَّهُ إلَّا بِهِ وَذَلِكَ مَتَى شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ , قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : فَقِيلَ [ فِيهِ ] : ( فِتْنَةٌ ) : شِرْكٌ , ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ ) : وَاحِدًا ( لِلَّهِ ) . وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم ) : { لَا أَزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . وَذَكَرَ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم ) فِي الدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ , وَقَوْلَهُ : { فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا إلَى الْإِسْلَامِ فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ; فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَدَعْهُمْ , وَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ } . ثُمَّ قَالَ : وَلَيْسَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الْآيَتَيْنِ نَاسِخَةً لِلْأُخْرَى , وَلَا وَاحِدٌ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ , وَلَا مُخَالِفًا لَهُ . وَلَكِنَّ إحْدَى الْآيَتَيْنِ وَالْحَدِيثَيْنِ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي مَخْرَجُهُ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ , وَمِنْ الْجُمَلِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمُفَسِّرُ . فَأَمْرُ اللَّهِ ( تَعَالَى ) : بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ; ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) أَمْرُهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ : فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَوْثَانِ ] ; دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَفَرْضُ اللَّهِ : قِتَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ بُرَيْدَةَ : [ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ خَاصَّةً ] فَالْفَرْضُ فِيمَنْ دَانَ وَآبَاؤُهُ دِينَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . أَنْ يُقَاتَلُوا إذْ قُدِرَ عَلَيْهِمْ ; حَتَّى يُسْلِمُوا وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ ; [ بِكِتَابِ اللَّهِ , وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ] . وَالْفَرْضُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ دَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ [ كُلِّهِ ] دِينَهُمْ أَنْ يُقَاتَلُوا حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ , أَوْ يُسْلِمُوا وَسَوَاءٌ كَانُوا عَرَبًا , أَوْ عَجَمًا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلِلَّهِ ( عَزَّ وَجَلَّ ) كُتُبٌ : نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ ; [ الْمَعْرُوفُ ] مِنْهَا عِنْدَ الْعَامَّةِ : التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ . وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) أَنَّهُ أَنْزَلَ غَيْرَهُمَا ; فَقَالَ : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } . وَلَيْسَ يُعْرَفُ تِلَاوَةُ كِتَابِ إبْرَاهِيمَ وَذِكْرُ زَبُورَ دَاوُد ; فَقَالَ : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } . قَالَ : وَالْمَجُوسُ : أَهْلُ كِتَابٍ : غَيْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ; وَقَدْ نَسُوا كِتَابَهُمْ وَبَدَّلُوهُ وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) : فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَدَانَ قَوْمٌ مِنْ الْعَرَبِ . دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) مِنْ بَعْضِهِمْ , الْجِزْيَةَ وَسَمَّى مِنْهُمْ [ فِي مَوْضِعٍ ] آخَرَ : أُكَيْدِرَ دُومَةَ , وَهُوَ رَجُلٌ يُقَالُ مِنْ غَسَّانَ أَوْ كِنْدَةَ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ , قَالَ : حَكَمَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) فِي الْمُشْرِكِينَ , حُكْمَيْنِ . فَحَكَمَ أَنْ يُقَاتَلَ أَهْلُ الْأَوْثَانِ : حَتَّى يُسْلِمُوا ; وَأَهْلُ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ : إنْ لَمْ يُسْلِمُوا وَأَحَلَّ اللَّهُ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَطَعَامَهُمْ فَقِيلَ : طَعَامُهُمْ : ذَبَائِحُهُمْ فَاحْتَمَلَ : كُلَّ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَكُلَّ مَنْ دَانَ دِينَهُمْ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ . وَكَانَتْ دَلَالَةُ مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم ) , ثُمَّ [ مَا ] لَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا أَنَّهُ أَرَادَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ دُونَ الْمَجُوسِ . وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ , وَفَرَّقَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ , وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ بَنِي إسْرَائِيلَ . بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ . فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ ; وَمَا آتَاهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَهْرِهِمْ . فَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ . قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ إلَّا : لِمَعْنًى ; لَا أَهْلَ كِتَابٍ مُطْلَقٍ فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ , وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ , وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ : كَالْمَجُوسِ لِأَنَّ اللَّهَ ( عَزَّ وَجَلَّ ) إنَّمَا أَحَلَّ لَنَا ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ نَزَلَ وَذَكَرَ الرِّوَايَةَ فِيهِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهما .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَاَلَّذِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْلَالِ ذَبَائِحِهِمْ ; وَأَنَّهُ تَلَا : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } فَهُوَ لَوْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : كَانَ الْمَذْهَبُ إلَى قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ( رضي الله عنهما ) أَوْلَى , وَمَعَهُ الْمَعْقُولُ . فَأَمَّا : { مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ; فَمَعْنَاهَا عَلَى غَيْرِ حُكْمِهِمْ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَإِنْ كَانَ الصَّابِئُونَ وَالسَّامِرَةُ : مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ , وَدَانُوا دِينَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى : نُكِحَتْ نِسَاؤُهُمْ , وَأُكِلَتْ ذَبَائِحُهُمْ : وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي فَرْعٍ مِنْ دِينِهِمْ . لِأَنَّهُمْ [ فُرُوعٌ ] قَدْ يَخْتَلِفُونَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي أَصْلِ الدَّيْنُونَةِ لَمْ تُؤْكَلْ ذَبَائِحُهُمْ , وَلَمْ تُنْكَحْ نِسَاؤُهُمْ .