فَصْلٌ فِيمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) الْجِهَادَ : دَلَّ فِي كِتَابِهِ , ثُمَّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَنْ لَيْسَ يُفْرَضُ الْجِهَادُ عَلَى مَمْلُوكٍ , أَوْ أُنْثَى بَالِغٍ ; وَلَا حُرٍّ لَمْ يَبْلُغْ . لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ; فَكَانَ حَكَمَ . أَنْ لَا مَالَ لِلْمُلُوكِ , وَلَمْ يَكُنْ مُجَاهِدٌ إلَّا : وَعَلَيْهِ فِي الْجِهَادِ , مُؤْنَةٌ مِنْ الْمَالِ ; وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَمْلُوكِ مَالٌ . وَقَالَ ( تَعَالَى ) لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم : { حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ : الذُّكُورَ , دُونَ الْإِنَاثِ لِأَنَّ الْإِنَاثَ : الْمُؤْمِنَاتُ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } , وَقَالَ { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ } , وَكُلُّ ه ذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ [ بِهِ ] : الذُّكُورَ , دُونَ الْإِنَاثِ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ إذْ أَمَرَ بِالِاسْتِئْذَانِ : { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } ; فَأَعْلَمَ أَنَّ فَرْضَ الِاسْتِئْذَانِ , إنَّمَا هُوَ عَلَى الْبَالِغِينَ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } ; فَلَمْ يَجْعَلْ لِرُشْدِهِمْ حُكْمًا : تَصِيرُ بِهِ أَمْوَالُهُمْ إلَيْهِمْ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي الْعَمَلِ , إنَّمَا هُوَ عَلَى الْبَالِغِينَ . وَدَلَّتْ السُّنَّةُ , ثُمَّ مَا لَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مِثْلِ مَا وَصَفْتُ . وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ . وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : قَالَ اللَّهُ ( جَلَّ ثَنَاؤُهُ ) فِي الْجِهَادِ : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ; إلَى : { وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } , وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقِيلَ الْأَعْرَجُ : الْمُقْعَدُ . وَالْأَغْلَبُ أَنَّ الْعَرَجَ فِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ وَقِيلَ : نَزَلَتْ [ فِي ] أَنْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُجَاهِدُوا وَهُوَ أَشْبَهُ مَا قَالُوا , وَغَيْرُ مُحْتَمِلَةٍ غَيْرَهُ وَهُمْ دَاخِلُونَ فِي حَدِّ الضُّعَفَاءِ , وَغَيْرُ خَارِجِينَ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ , وَلَا الصَّلَاةِ , وَلَا الصَّوْمِ , وَلَا الْحُدُودِ . فَلَا يَحْتَمِلُ ( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ) أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ , إلَّا : وَضْعُ الْحَرَجِ فِي الْجِهَادِ ; دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ . وَقَالَ فِيمَا بَعُدَ غَزْوُهُ عَنْ الْمَغَازِي وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى اللَّيْلَتَيْنِ فَصَاعِدًا . إنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْقَوِيَّ السَّالِمَ الْبَدَنِ كُلِّهِ : إذَا لَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا وَسِلَاحًا وَنَفَقَةً , وَيَدَعُ لِمَنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ , قُوتَهُ إلَى قَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يَلْبَثُ فِي غَزْوِهِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } . ( أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ ) , قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله ) : غَزَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) فَغَزَا مَعَهُ بَعْضُ مَنْ يُعْرَفُ نِفَاقُهُ فَانْخَزَلَ عَنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِثَلَاثِمِائَةٍ . ثُمَّ شَهِدُوا مَعَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَتَكَلَّمُوا بِمَا حَكَى اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) مِنْ قَوْلِهِمْ : { مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا } . ثُمَّ غَزَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ , فَشَهِدَهَا مَعَهُ مِنْهُمْ , عَدَدٌ فَتَكَلَّمُوا بِمَا حَكَى اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) مِنْ قَوْلِهِمْ : { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا حَكَى اللَّهُ مِنْ نِفَاقِهِمْ ثُمَّ غَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ , فَشَهِدَهَا مَعَهُ مِنْهُمْ , قَوْمٌ : نَفَرُوا بِهِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ : لِيَقْتُلُوهُ ; فَوَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمْ . وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ مِنْهُمْ فِيمَنْ بِحَضْرَتِهِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) عَلَيْهِ , فِي غَزَاةِ تَبُوكَ , أَوْ مُنْصَرَفِهِ مِنْهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي تَبُوكَ قِتَالٌ مِنْ أَخْبَارِهِمْ ; فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ } ; قَرَأَ إلَى قَوْلِهِ : { وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ } . فَأَظْهَرَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) لِرَسُولِهِ ( صلى الله عليه وسلم ) أَسْرَارَهُمْ , وَخَبَرَ السَّمَّاعِينَ لَهُمْ , وَابْتِغَاءَهُمْ أَنْ يَفْتِنُوا مَنْ مَعَهُ بِالْكَذِبِ وَالْإِرْجَافِ , وَالتَّخْذِيلِ لَهُمْ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَرِهَ انْبِعَاثَهُمْ , [ فَثَبَّطَهُمْ ] إذْ كَانُوا عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ , فَكَانَ فِيهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ ( عَزَّ وَجَلَّ ) أَمَرَ أَنْ يُمْنَعَ مَنْ عُرِفَ بِمَا عُرِفُوا بِهِ مِنْ أَنْ يَغْزُوَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ : لِأَنَّهُ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ . ثُمَّ زَادَ فِي تَأْكِيدِ بَيَانِ ذَلِكَ , بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ } ( صلى الله عليه وسلم ) [ قَرَأَ ] إلَى قوله تعالى : { فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } . وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ } . فَفَرَضَ اللَّهُ جِهَادَ الْمُشْرِكِينَ , ثُمَّ أَبَانَ مَنْ الَّذِينَ نَبْدَأُ بِجِهَادِهِمْ : مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَأَعْلَمَ أَنَّهُمْ الَّذِينَ يَلُونَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مَعْقُولًا فِي فَرْضِ جِهَادِهِمْ أَنَّ أَوْلَاهُمْ بِأَنْ يُجَاهَدَ أَقْرَبُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَارًا لِأَنَّهُمْ إذَا قَوُوا عَلَى جِهَادِهِمْ وَجِهَادِ غَيْرِهِمْ : كَانُوا عَلَى جِهَادِ مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ أَقْوَى وَكَانَ مَنْ قَرُبَ , أَوْلَى أَنْ يُجَاهَدَ : لِقُرْبِهِ مِنْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ نِكَايَةَ مَنْ قَرُبَ أَكْثَرُ مِنْ نِكَايَةِ مَنْ بَعُدَ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ , قَالَ : فَرَضَ اللَّهُ ( تَعَالَى الْجِهَادَ فِي كِتَابِهِ ) , وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) . ثُمَّ أَكَّدَ النَّفِيرَ مِنْ الْجِهَادِ فَقَالَ { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } وَقَالَ : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } ,
وَقَالَ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } الْآيَةَ ,
وَقَالَ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الْآيَةَ . وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وسلم ) : { لَا أَزَالُ أُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } الْحَدِيثَ . ثُمَّ قَالَ : [ وَقَالَ ] اللَّهُ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } الْآيَةَ ,
وَقَالَ تَعَالَى : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : فَاحْتَمَلَتْ الْآيَاتُ أَنْ يَكُونَ الْجِهَادُ كُلُّهُ , وَالنَّفِيرُ خَاصَّةً مِنْهُ : [ عَلَى ] كُلِّ مُطِيقٍ [ لَهُ ] لَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ التَّخَلُّفُ عَنْهُ . كَمَا كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ : وَجَبَ عَلَيْهِ فَرْضٌ [ مِنْهَا ] . أَنْ يُؤَدِّيَ غَيْرُهُ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ ; لِأَنَّ عَمَلَ أَحَدٍ فِي هَذَا , لَا يُكْتَبُ لِغَيْرِهِ وَاحْتَمَلَتْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَرْضِهَا , غَيْرَ مَعْنَى فَرْضِ الصَّلَاةِ . وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قُصِدَ بِالْفَرْضِ فِيهَا : قَصْدَ الْكِفَايَةِ ; فَيَكُونُ مَنْ قَامَ بِالْكِفَايَةِ فِي جِهَادِ مَنْ جُوهِدَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُدْرِكًا تَأْدِيَةَ الْفَرْضِ وَنَافِلَةَ الْفَضْلِ وَمُخْرِجًا مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ الْمَأْثَمِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ فَوَعَدَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ الْجِهَادِ : الْحُسْنَى عَلَى الْإِيمَانِ , وَأَبَانَ فَضِيلَةَ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ . وَلَوْ كَانُوا آثِمِينَ بِالتَّخَلُّفِ : إذَا غَزَا غَيْرُهُمْ . كَانَتْ الْعُقُوبَةُ بِالْإِثْمِ إنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ [ عَنْهُمْ ] أَوْلَى بِهِمْ مِنْ الْحُسْنَى .
قَالَ الشَّافِعِيُّ ( رحمه الله ) : وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } فَأَخْبَرَ اللَّهُ ( عَزَّ وَجَلَّ ) أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ; قَالَ : { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا } ; فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّفِيرَ عَلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ [ وَ ] أَنَّ التَّفَقُّهَ إنَّمَا هُوَ عَلَى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) , وَغَزَا مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ , وَخَلَّفَ آخَرِينَ : حَتَّى خَلَّفَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ( رضي الله عنه ) فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ , وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ , وَجَعَلَ نَظِيرَ ذَلِكَ : الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ , وَالدَّفْنَ : وَرَدَّ السَّلَامِ .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ , وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو ; ( قَالَا : نا أَبُو الْعَبَّاسِ هُوَ الْأَصَمُّ : ) أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ , قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } ; [ إلَى ] : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ; فَكَانَتْ غَنَائِمُ بَدْرٍ , لِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) يَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ . وَإِنَّمَا نَزَلَتْ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } ; بَعْدَ بَدْرٍ . وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) كُلَّ غَنِيمَةٍ بَعْدَ بَدْرٍ عَلَى مَا وَصَفْتُ لَكَ يَرْفَعُ خُمُسَهَا ثُمَّ يَقْسِمُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا : وَافِرًا عَلَى مَنْ حَضَرَ الْحَرْبَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا : السَّلَبَ ; فَإِنَّهُ سُنَّ : لِلْقَاتِلِ [ فِي الْإِقْبَالِ ] فَكَانَ السَّلَبُ خَارِجًا مِنْهُ . وَإِلَّا : الصَّفِيَّ فَإِنَّهُ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ) يَأْخُذُهُ : خَارِجًا مِنْ الْغَنِيمَةِ وَقِيلَ : كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ سَهْمِهِ مِنْ الْخُمُسِ . وَإِلَّا : الْبَالِغِينَ مِنْ السَّبْيِ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وسلم ) سَنَّ فِيهِمْ سُنَنًا : فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ , وَفَادَى بِبَعْضِهِمْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَأَمَّا وَقْعَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ , وَابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَذَلِكَ قَبْلَ بَدْرٍ , وَقَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ( يَعْنِي فِي الْغَنِيمَةِ ) . وَكَانَتْ وَقْعَتُهُمْ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ; فَتَوَقَّفُوا فِيمَا صَنَعُوا [ حَتَّى نَزَلَتْ ] : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } الْآيَةَ .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو نا أَبُو الْعَبَّاسِ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ : أَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } ; فَكُتِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَفِرَّ الْعِشْرُونَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } ; فَخَفَّفَ عَنْهُمْ , وَكَتَبَ أَنْ لَا يَفِرَّ مِائَةٌ مِنْ مِائَتَيْنِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذَا : كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُسْتَغْنًى فِيهِ بِالتَّنْزِيلِ عَنْ التَّأْوِيلِ . لَمَّا كَتَبَ اللَّهُ : أَنْ لَا يَفِرَّ الْعِشْرُونَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ ; فَكَانَ هَكَذَا : الْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ . ثُمَّ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَصَيَّرَ الْأَمْرَ إلَى أَنْ لَا يَفِرَّ الْمِائَةُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ وَذَلِكَ . أَنْ لَا يَفِرَّ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلَيْنِ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ آخَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ : مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ : فَلَمْ يَفِرَّ , وَمَنْ فَرَّ مِنْ اثْنَيْنِ : فَقَدْ فَرَّ .