وفيه: فقال هرقل لصاحب شرطته: قلب الشام ظهرا لبطن حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه.
فوالله إني وأصحابي بغزة، إذ هجم علينا فساقنا جميعا.
قوله: (بإيلياء) بهمزة مكسورة بعدها ياء أخيرة ساكنة، ثم لام مكسورة ثم ياء أخيرة ثم ألف مهموزة، وحكى البكري فيها القصر، ويقال لها أيضا إليا بحذف الياء الأولى وسكون اللام حكاه البكري، وحكى النووي مثله لكن بتقديم الياء على اللام واستغربه، قيل: معناه بيت الله.
وفي الجهاد عند المؤلف: أن هرقل لما كشف الله عنه جنود فارس، مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله.
زاد ابن إسحاق عن الزهري: أنه كان تبسط له البسط وتوضع عليها الرياحين فيمشي عليها، ونحوه لأحمد من حديث ابن أخي الزهري عن عمه.
وكان سبب ذلك ما رواه الطبري وابن عبد الحكم من طرق متعاضدة ملخصها: أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل، فخربوا كثيرا من بلاده، ثم استبطأ كسرى أميره فأراد قتله وتولية غيره، فاطلع أميره على ذلك فباطن هرقل، واصطلح معه على كسرى وانهزم عنه بجنود فارس، فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكرا لله تعالى على ذلك.
واسم الأمير المذكور: شهر براز، واسم الغير الذي أراد كسرى تأميره فرحان.
قوله: (فدعاهم في مجلسه) أي: في حال كونه في مجلسه، وللمصنف في الجهاد " فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج".
قوله: (وحوله) بالنصب لأنه ظرف مكان.
قوله: (عظماء) جمع عظيم.
ولابن السكن: فأدخلنا عليه وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان والروم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم -عليهما السلام -على الصحيح، ودخل فيهم طوائف من العرب من تنوخ وبهراء وسليح وغيرهم من غسان كانوا سكانا بالشام، فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم، فاستوطنوها فاختلطت أنسابهم.
قوله: (ثم دعاهم ودعا ترجمانه) وللمستملي " بالترجمان " مقتضاه: أنه أمر بإحضارهم، فلما حضروا استدناهم لأنه ذكر أنه دعاهم ثم دعاهم فينزل على هذا، ولم يقع تكرار ذلك إلا في هذه الرواية.
والترجمان بفتح التاء المثناة وضم الجيم ورجحه النووي في شرح مسلم، ويجوز ضم التاء اتباعا، ويجوز فتح الجيم مع فتح أوله حكاه الجوهري، ولم يصرحوا بالرابعة وهي ضم أوله وفتح الجيم.
وفي رواية الأصيلي وغيره " بترجمانه " يعني: أرسل إليه رسولا أحضره صحبته، والترجمان المعبر عن لغة بلغة، وهو معرب وقيل: عربي.
قوله: (فقال: أيكم أقرب نسبا) أي قال الترجمان على لسان هرقل.
قوله: (بهذا الرجل) زاد ابن السكن: الذي خرج بأرض العرب يزعم أنه نبي.
قوله: (قلت أنا أقربهم نسبا) في رواية ابن السكن: فقالوا هذا أقربنا به نسبا، هو ابن عمه أخي أبيه.
وإنما كان أبو سفيان أقرب لأنه من بني عبد مناف، وقد أوضح ذلك المصنف في الجهاد بقوله: قال ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي.
قال أبو سفيان: ولم يكن في الركب من بني عبد مناف غيري ا ه.
وعبد مناف الأب الرابع للنبي -صلى الله عليه وسلم -وكذا لأبي سفيان، وأطلق عليه ابن عم لأنه نزل كلا منهما منزلة جده، (1/35)
فعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وعلى هذا ففيما أطلق في رواية ابن السكن تجوز، وإنما خص هرقل الأقرب لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره، ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب، وظهر ذلك في سؤاله بعد ذلك: كيف نسبه فيكم؟ وقوله: " بهذا الرجل " ضمن أقرب معنى أوصل فعداه بالباء، ووقع في رواية مسلم: " من هذا الرجل " وهو على الأصل.
وقوله: " الذي يزعم " في رواية ابن إسحاق عن الزهري " يدعي".
وزعم: قال الجوهري بمعنى قال، وحكاه أيضا ثعلب وجماعة كما سيأتي في قصة ضمام في كتاب العلم.
قلت: وهو كثير ويأتي موضع الشك غالبا.
قوله: (فاجعلوهم عند ظهره) أي: لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، وقد صرح بذلك الواقدي.
وقوله: " إن كذبني " بتخفيف الذال أي: إن نقل إلي الكذب.
قوله: (قال) أي: أبو سفيان.
وسقط لفظ قال من رواية كريمة وأبي الوقت فأشكل ظاهره، وبإثباتها يزول الإشكال.
قوله: (فوالله لولا الحياء من أن يأثروا) أي: ينقلوا على الكذب لكذبت عليه.
وللأصيلي عنه أي: عن الإخبار بحاله.
وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب إما بالأخذ عن الشرع السابق، أو بالعرف.
وفي قوله: يأثروا دون قوله يكذبوا، دليل على أنه كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه ترك ذلك استحياء وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابا.
وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك ولفظه " فوالله لو قد كذبت ما ردوا علي"، ولكني كنت امرءا سيدا أتكرم عن الكذب، وعلمت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عني ثم يتحدثوا به، فلم أكذبه.
وزاد ابن إسحاق في روايته: قال أبو سفيان فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف، يعني: هرقل.
قوله: (كان أول) هو بالنصب على الخبر، وبه جاءت الرواية، ويجوز رفعه على الاسمية.
قوله: (كيف نسبه فيكم؟) أي: ما حال نسبه فيكم، أهو من أشرافكم أم لا؟ فقال: هو فينا ذو نسب.
فالتنوين فيه للتعظيم، وأشكل هذا على بعض الشارحين، وهذا وجهه.
قوله: (فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟) وللكشميهني والأصيلي بدل قبله " مثله " فقوله: منكم أي من قومكم يعني قريشا أو العرب.
ويستفاد منه أن الشفاهي يعم، لأنه لم يرد المخاطبين فقط.
وكذا قوله: فهل قاتلتموه؟ وقوله: بماذا يأمركم؟ واستعمل قط بغير أداة النفي وهو نادر، ومنه قول عمر: " صلينا أكثر ما كنا قط وآمنه ركعتين " ويحتمل أن يقال: إن النفي مضمن فيه كأنه قال: هل قال هذا القول أحد أو لم يقله أحد قط.
قوله: (فهل كان من آبائه ملك؟) ولكريمة والأصيلي وأبي الوقت بزيادة " من " الجارة، ولابن عساكر بفتح من، وملك فعل ماض، والجارة أرجح لسقوطها من رواية أبي ذر، والمعنى في الثلاثة واحد.
قوله: (فأشراف الناس اتبعوه) فيه إسقاط همزة الاستفهام وهو قليل، وقد ثبت للمصنف في التفسير ولفظه: أيتبعه أشراف الناس؟ والمراد بالأشراف هنا أهل النخوة والتكبر منهم، لا كل شريف، حتى لا يرد مثل أبي بكر وعمر وأمثالهما ممن أسلم قبل هذا السؤال.
ووقع في رواية ابن إسحاق: تبعه منا الضعفاء والمساكين، فأما ذوو الأنساب والشرف فاتبعه منهم أحد.
وهو محمول على الأكثر الأغلب.
قوله: (سخطة) بضم أوله وفتحه.
وأخرج بهذا من ارتد مكرها، أو لا لسخط لدين الإسلام بل لرغبة في غيره كحظ نفساني، كما وقع لعبيد الله بن جحش.