عرض مشاركة واحدة
قديم 12-06-2012, 07:56 PM   #55
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه


الفصل الثالث في تعقب الجمل بالاستثناء
فإذا قال القائل‏:‏ من قذف زيدا فأضر به وأرد‏:‏ شهادته واحكم بفسقه إلا أن يتوب، أو‏:‏ إلا الذين تابوا، ومن دخل الدار وأفحش الكلام وأكل الطعام عاقبه إلا من تاب، فقال قوم‏:‏ يرجع إلى الجميع، وقال قوم‏:‏ يقصر على الاخير، وقال قوم‏:‏ يحتمل كليهما، فيجب التوقف إلى قيام دليل‏.‏ وحجج القائلين بالشمول ثلاث‏:‏ الأولى‏:‏ أنه لا فرق بين أن يقول‏:‏ اضرب الجماعة التي منها قتلة وسراق وزناة إلا من تاب، وبين قوله عاقب من قتل وزنى وسرق إلا من تاب في رجوع الاستثناء إلى الجميع‏.‏ الاعتراض‏:‏ أن هذا قياس، ولا مجال للقياس في اللغة، فلم قلتم‏:‏ أن اللفظ المتفاضل المتعدد كاللفظ المتحد‏.‏ الثانية‏:‏ قولهم أهل اللغة مطبقون على أن تكرار الاستثناء عقيب كل جملة نوع من العى واللكنة، كقوله‏:‏ إن دخل الدار فأضربه إلا أن يتوب، وإن أكل فاضربه إلا أن يتوب، وإن تكلم فاضربه إلا أن يتوب، وهذا ما لا يستنكر الخصم استقباحه، بل يقول‏.‏ ذلك واجب لتعرف شمول الاستثناء‏.‏ الثالثة‏:‏ أنه لو قال‏:‏ والله لا أكلت الطعام ولا دخلت الدار ولا كلمت زيدا إن شاء الله تعالى، يرجع الاستثناء إلى الجميع، وكذلك الشرط عقيب الجمل يرجع إليها، كقوله‏:‏ أعط العلوية والعلماء إن كانوا فقراء، وهذا مما لا تسلمه، الواقفية، بل يقولون‏:‏ هو متردد بين الشمول والاقتصار، والشك كاف في استصحاب الأصل من براءة الذمة في اليمن، ومنع الاعطاء إلا عند الاذن المستيقن، ومن سلم من المخصصة ذلك فهو مشكل عليه إلا أن يجيب بإظهار دليل فقهي يقضي في الشرط خاصة دون الاستثناء، وحجة المخصصة اثنتان‏:‏ الأولى‏:‏ قولهم أن المعممين عمموا لان كل جملة غير مستقلة فصارت جملة واحدة بالواو والعاطفة، ونحن إذا خصصنا بالاخير جعلناها مستقلة، وهذا تقرير علة للخصم واعتراض عليهم، ولعلهم لا يعللون بذلك، ثم علة عدم الاستقلال أنه لو اقتصر عليه لم يغد وهذا لا يندفع بتخصيص الاستثناء به‏.‏ الثانية‏:‏ قولهم إطلاق الكلام الأول معلوم، ودخوله تحت الاستثناء مشكوك فيه، فلا ينبغي أن يخرج منه ما دخل فيه إلا بيقين، وهذا فاسد من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أنا لا نسلم إطلاق الأول قبل تمام الكلام، وما تم الكلام حتى أردف باستثناء يرجع إليه عند المعمم، ويحتمل الرجوع إليه عند المتوقف‏.‏ الثاني‏:‏ أنه لا يتعين رجوعه إلى الاخير، بل يجوز رجوعه إلى الأول فقط فكيف نسلم اليقين‏.‏ الثالث‏:‏ أنه لا يسلم ما ذكروه في الشرط والصفة ويسلم أكثرهم عموم ذلك، ويلزمهم قصر لفظ الجمع على الاثنين أو الثلاثة لانه المستيقن‏.‏ حجة الواقفية‏:‏ أنه إذا بطل التعميم والتخصيص، لان كل واحد تحكم ورأينا العرب تستعمل كل واحد منهما لا يمكن الحكم بأن أحدهما حقيقة والآخر مجاز، فيجب التوقف لا محالة إلا أن يثبت نقل متواتر من أهل اللغة أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخرة، وهذا هو الاحق، وإن لم يكن بد من رفع التوقف، فمذهب المعممين أولى، لان الواو ظاهرة في العطف، وذلك يوجب نوعا من الاتحاديين بين المعطوف والمعطوف عليه، لكن الواو محتمل أيضا للابتداء، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى‏)‏ ‏[‏ الحج‏:‏ 5 ‏]‏ وقوله عزوجل‏:‏ ‏(‏فإن يشأ اللهه يختم على قلبك ويمح الله‏)‏ ‏[‏ الشورى‏:‏ 24 ‏]‏ والذي يدل على أن التوقف أولى أنه ورد في القرآن الاقسام كلها من الشمول والاقتصار على الاخير والرجوع إلى بعض الجمل السابقة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 4‏)‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 5‏)‏ لا يرجع إلى الجلد، ويرجع إلى الفسق، وهل يرجع إلى الشهادة‏؟‏ فيه خلاف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 29‏)‏ يرجع إلى الاخير وهو الدية، لان التصدق لا يؤثر في الاعتاق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام‏)‏ ‏[‏ المائدة‏:‏ 89 ‏]‏ فقوله‏:‏ ‏(‏فمن لم يجد‏)‏ ‏[‏ المئده‏:‏ 89 ‏]‏ يرجع إلى الخصال الثلاثة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إلا قليلا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 83‏)‏ فهذا يبعد حمله على الذي يليه لانه يؤذي إلى أن لا يتبع الشيطان بعض من لم يشمله فضل الله ورحمته، فقيل أنه محمول على قوله‏:‏ ‏(‏لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 83‏)‏ إلا قليلا منهم لتقصير وإهمال وغلط، وقيل‏:‏ إنه يرجع إلى قوله‏:‏ ‏{‏أذاعوا به‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 83‏)‏ ولا يبعد أن يرجع إلى الاخير، ومعناه‏:‏ ولولا فصل الله عليكم ورحمته ببعثة محمد عليه السلام لاتبعتم الشيطان إلا قليلا قد كان تفضل عليهم بالعصمة من الكفر قبل البعثة، كأويس القرني، وزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة وغيرهم ممن تفضل الله عليهم بتوحيده واتباع رسوله قبله‏.‏ القول في دخول الشرط على الكلام اعلم أن الشرط عبارة عما لا يوجد المشروط مع عدمه، لكن لا يلزم أن يوجد عند وجوده، وبه يفارق العلة، إذ العلة يلزم وجودها وجود المعلول، والشرط يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجوده، والشرط عقلي وشرعي ولغوي، والعقلي‏:‏ كالحياة للعلم، والعلم للارادة، والمحل للحياة، إذ الحياة تنتفي بانتفاء المحل، فإنه لا بد لها من محل، ولا يلزم وجودها بوجود المحل‏.‏ والشرعي كالطهارة للصلاة، والاحصان للرجم‏.‏ واللغوي‏:‏ كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق، وإن جئتني أكرمتك، فإن مقتضاه في اللسان باتفاق أهل اللغة اختصاص الاكرام بالمجئ، فإنه إن كان يكرمه دون المجئ لم يكن كلامه اشتراطا، فنزل الشرط منزلة تخصيص العموم ومنزلة الاستثناء إذ لا فرق بين قوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 5‏)‏ إلا أن يكونوا أهل عهد، وبين أن يقول‏:‏ اقتلوا المشركين إن كانوا حربيين، وكل واحد من الشرط والاستثناء يدخل على الكلام فيغيره عما كان يقتضيه لولا الشرط والاستثناء حتى يجعله متكلما بالباقي، لا إنه مخرج من كلامه ما دخل فيه فإنه لو دخل فيه لما خرج، نعم‏:‏ كان يقبل القطع في الدوام بطريق النسخ، فأما رفع ما سبق دخوله في الكلام فمحال، فإذا قال‏:‏ أنت طالق إن دخلت الدار، فمعناه‏:‏ أنك عند الدخول طالق، فكأنه لم يتكلم بالطلاق إلا بالاضافة إلى حال الدخول، أما أن نقول‏:‏ تكلم بالطلاق عاما مطلقا دخل أو لم يدخل، ثم أخرج ما قبل الدخول فليس هذا بصحيح‏.‏ فإن قيل‏:‏ قوله ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ إلا أهل الذمة، أو إن لم يكونوا ذميين، فلفظ المشركين متناول للجميع، ولاهل الذمة لكن خرج أهل الذمة بإخراجه بالشرط والاستثناء، قلنا‏:‏ هو كذلك لو اقتصر عليه، ولذلك يمتنع الاخراج بالشرط، والاستثناء منفصلا ولو قدر على الاخراج لم يفرق بين المنفصل والمتصل، ولكن إذا لم يقتصر وألحق به ما هو جزء منه وإتمام له غير موضوع الكلام، فجعله كالناطق بالباقي ودفع دخول البعض، ومعنى الدفع أنه كان يدخل لولا الشرط والاستثناء فإذا لحقا قبل الوقوف دفعا، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للمصلين‏}‏ ‏(‏الماعون‏:‏ 4‏)‏ لا حكم له قبل إتمام الكلام، فإذا تم الكلام كان الويل مقصورا على من وجد فيه شرط السهو والرياء، لا أنه دخل فيه كل مصل ثم خرج البعض، فهكذا ينبغي أن يفهم حقيقة الاستثناء والشرط، فاعلموه ترشدوا‏.‏ القول في المطلق والمقيد اعلم أن التقييد اشتراط والمطلق محمول على المقيد إن اتحد الموجب والموجب كما لو قال‏:‏ لا نكاح إلا بولي وشهود وقال‏:‏ لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فيحمل المطلق على المقيد، فلو قال في كفارة القتل‏:‏ ‏(‏فتحرير رقبة‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 92‏)‏ ثم قال فيها مرة أخرى‏:‏ ‏(‏فتحرير رقبة‏)‏ ‏(‏النساء‏:‏ 29‏)‏ فيكون هذا اشتراطا ينزل عليه الاطلاق، وهذا صحيح، ولكن على مذهب من لا يرى بين الخاص والعام تقابل الناسخ والمنسوخ كما نقلناه عن القاضي والقاضي مع مصيره إلى التعارض نقل الاتفاق عن العلماء على تنزيل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم، أما إذا اختلف الحكم كالظهار والقتل، فقال قوم‏:‏ يحمل المطلق على المقيد من غير حاجة إلى دليل، كما لو اتحدت الواقعة وهذا تحكم محض يخالف وضع اللغة إذ لا يتعرض القتل للظهار فكيف يرفع الاطلاق الذي فيه والاسباب المختلفة تختلف في الاكثر شروط واجباتها، كيف ويلزم من هذا تناقض، فإن الصوم مقيد بالتتابع في الظهار والتفريق في الحج، حيث قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 691‏)‏ ومطلق في اليمين، فليت شعري على أي المقيدين يحمل، فقال قوم‏:‏ لا يحمل على المقيد أصلا، وإن قام دليل القياس لانه نسخ ولا سبيل إلى نسخ الكتاب بالقياس، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، إذا جعل الزيادة على النص نسخا، وقد بينا فساد هذا في كتاب النسخ، وأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتحرير رقبة‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 92‏)‏ ليس هو نصا في أجزاء الكافرة، بل هو عام يعتقد ظهوره مع تجويز قيام الدليل على خصوصه، أما أن يعتقد عمومه قطعا، فهذا خطأ في اللغة‏.‏ وقال الشافعي رحمه الله‏:‏ إن قام دليل حمل عليه، ولم يكن فيه إلا تخصيص العموم، وهذا هو الطريق الصحيح، فإن قيل‏:‏ إنما يطلب بالقياس حكم مما ليس منطوقا به في كفارة الظهار، ومقتضاها أجزاء الكافرة، قلنا بينا أن كون الكافرة منطوقا بها مشكوك فيه، إذ ليس تناول عموم الرقبة له كالتنصيص على الكافرة، وقد كشفنا الغطاء في مسألة تخصيص عموم القرآن بالقياس‏.‏ هذا تمام القول في العموم والخصوص ولواحقه من الاستثناء والشرط والتقييد، وبه تم الكلام في الفن الأول وهو دلالة اللفظ على معناه من حيث الصيغة والوضع‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة الفن الثاني فيما يقتبس من الالفاظ لا من حيث صيغتها بل من حيث فحواها وإشارتها
وهي خمسة أضرب الضرب
الأول‏:‏ ما يسمى اقتضاء، وهو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا به ولكن يكون من ضرورة اللفظ إما من حيث لا يمكن كون المتكلم صادقا إلا به، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إلا به، أو من حيث يمتنع نبوته عقلا إلا به‏.‏ أما المقتضى الذي هو ضرورة صدق المتكلم فكقوله عليه السلام‏:‏ لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فإنه نفى الصوم والصوم لا ينتفي بصورته، فمعناه لا صيام صحيح أو كامل فيكون حكم الصوم هو المنفي لا نفسه، والحكم غير منطوق به، لكن لا بد منه لتحقيق صدق الكلام، فعن هذا قلنا لا عموم له لانه ثبت اقتضاء لا لفظا، وهذا يصح على مذهب من ينكر الاسماء الشرعية ويقول‏:‏ لفظ الصوم باق على مقتضى اللغة، فيفتقر فيه إلى إضمار الحكم، أما من جعله عبارة عن الصوم الشرعي فيكون انتفاؤه بطريق النطق لا بطريق الاقتضاء، بل مثاله‏:‏ لا عمل إلا بنية ورفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما سبقت أمثلته في باب المجمل‏.‏ وأما مثال ما ثبت اقتضاء لتصور المنطوق به شرعا، فقول القائل‏:‏ أعتق عبدك عني فإنه يتضمن الملك ويقتضيه ولم ينطق به لكن العتق المنطوق به شرط نفوذه شرعا تقدم الملك، فكان ذلك مقتضى اللفظ وكذلك لو أشار إلى عبد الغير، وقال‏:‏ والله لاعتقن هذا العبد، يلزمه تحصيل الملك فيه إن أراد البرد، وإن لم يتعرض له لضرورة الملتزم، وأما مثال ما ثبت اقتضاء لتصور المنطوق به عقلا، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 32‏)‏ فإنه يقتضي إضمار الوطئ، أي حرم عليكم وطئ أمهاتكم لان الامهات عبارة عن الاعيان، والاحكام لا تتعلق بالاعيان، بل لا يعقل تعلقها إلا بأفعال المكلفين، فاقتضى اللفظ فعلا وصار ذلك هو الوطئ من بين سائر الافعال بعرف الاستعمال، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة والدم‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 3‏}‏ ‏(‏أحلت لكم بهيمة الانعام‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 1‏)‏ أي الاكل، ويقرب منه ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 28‏)‏ أي أهل القرية لانه لا بد من الاهل حتى يعقل السؤال فلا بد من إضماره ويجوز أن يلقب هذا بالاضمار دون الاقتضاء‏.‏ والقول في هذا قريب‏.‏ الضرب الثاني ما يؤخذ من إشارة اللفظ لا من اللفظ، ونعني به ما يتسع اللفظ من غير تجريد قصد إليه، فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه نفس اللفظ، فيسمى إشارة، فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به ويبني عليه، ومثال ذلك تمسك العلماء في تقدير أقل الطهر وأكثر الحيض بخمسة عشر يوما بقوله عليه السلام إنهن ناقصات عقل ودين فقيل‏:‏ ما نقصان دينهن فقال‏:‏ تقعد إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها لا تصلي ولا تصوم فهذا إنما سيق لبيان نقصان الدين وما وقع المنطق قصدا إلا به لكن حصل به إشارة إلى أكثر الحيض وأقل الطهر، وأنه لا يكون فوق شطر الدهر وهو خمسة عشر يوما من الشهر، إذ لو تصور الزيادة لتعرض لها عند قصد المبالغة في نقصان دينها‏.‏ ومثاله استدلال الشافعي رحمه الله في تنجس الماء القليل بنجاسة لا تغيره بقوله عليه السلام‏:‏ إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في لاناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده إذ قال‏:‏ لولا أن يقين النجاسة ينجس لكان توهمها لا يوجب الاستحباب‏.‏ ومثاله تقدير أقل مدة الحمل بستة أشهر، أخذا من قوله‏:‏ ‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏}‏ ‏(‏الاحقاف‏:‏ 51‏)‏ وقد قال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏وفصاله في عامين‏}‏ ‏(‏لقمان‏:‏ 41‏)‏ ومثاله المصير إلى من وطئ بالليل في رمضان فأصبح جنبا لم يفسد صومه، لانه قال‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 781‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏فالآن باشروهن‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 781‏)‏ ثم مد الرخصة إلى يتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر، فتشعر الآية بجواز الاكل والشرب والجماع في جميع الليل ومن فعل ذلك في آخر الليل استأخر غسله إلى النهار وإلا وجب إن يحرم الوطئ في آخر جزء من الليل بمقدار ما يتسع للغسل، فهذا وأمثاله مما يكثر ويسمى إشارة اللفظ‏.‏ الضرب الثالث فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 83‏)‏ و ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما‏}‏ ‏(‏النور‏:‏ 2‏)‏ فإنه كما فهم وجوب القطع والجلد على السارق والزاني وهو المنطوق به فهم كون السرقة والزنا علة للحكم، وكونه علة غير منطوق به، لكن يسبق إلى الفهم من فحوى الكلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الابرار لفي نعيم ئ وإن الفجار لفي جحيم‏}‏ ‏(‏الانفطار‏:‏ 13 - 14‏)‏ أي لبرهم وفجورهم، وكذلك كل ما خرج مخرج الذم والمدح، والترغيب والترهيب، وكذلك إذا قال‏:‏ ذم الفاجر وامدح المطيع وعظم العالم، فجميع ذلك يفهم منه التعليل من غير نطق به، وهذا قد يسمى إيماء وإشارة، كما يسمى فحوى الكلام ولحنه، وإليك الخيرة في تسميته بعد الوقوف على جنسه وحقيقته‏.‏ الضرب الرابع فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده، كفهم تحريم الشتم والقتل والضرب، من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 32‏)‏ وفهم تحريم مال اليتيم وإحراقه وإهلاكه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 01‏)‏ وفهم ما وراء الذرة والدينار من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‏}‏ ‏(‏الزلزلة‏:‏ 7‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 57‏)‏ وكذلك قول القائل‏:‏ ما أكلت له برة، ولا شربت له شربة، ولا أخذت من ماله حبة‏:‏ فإنه يدل على ما وراءه، فإن قيل هذا من قبيل التنبيه بالادنى على الاعلى، قلنا‏:‏ لا حجر في هذه التسمية، لكن يشترط أن يفهم أن مجرد ذكر الادنى لا يحصل هذا التنبيه ما لم يفهم الكلام وما سيق له، فلولا معرفتنا بأن الآية سيقت لتعظيم الوالدين واحترامهما لما فهمنا منع الضرب والقتل من منع التأفيف، إذ قد يقول‏:‏ السلطان إذا أمر بقتل ملك لا تقل له أف لكن اقتله، وقد يقول‏:‏ والله ما أكلت مال فلان، ويكون قد أحرق ماله فلا يحنث، فإن قيل‏:‏ الضرب حرام قياسا على التأفيف، لان التأفيف إنما حرم للايذاء، وهذا الايذاء فوقه، قلنا‏:‏ إن أردت بكونه قياسا أنه محتاج إلى تأمل واستنباط علة فهو خطأ، وإن أردت أنه مسكوت فهم من منطوق فهو صحيح بشرط أن يفهم أنه أسبق إلى الفهم من المنطوق، أو هو معه وليس متأخرا عنه، وهذا قد يسمى مفهوم الموافقة، وقد يسمى فحوى اللفظ ولكل فريق اصطلاح آخر فلا تلتفت إلى الالفاظ واجتهد في إدراك حقيقة هذا الجنس‏.‏ الضرب الخامس هو المفهوم، ومعناه الاستدلال بتخصيص الشئ بالذكر على نفي الحكم عما عداه، ويسمى مفهوما، لانه مفهوم مجرد لا يستند إلى منطوق، وإلا فما دل عليه المنطوق أيضا مفهوم، وربما سمي هذا دليل الخطاب ولا التفات إلى الاسامي، وحقيقته أن تعليق الحكم بأحد، وصفي الشئ هل يدل على نفيه عما يخالفه في الصفة‏؟‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتله منكم متعمدا‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 59‏)‏ وكقوله عليه السلام‏:‏ في سائمة الغنم الزكاة والثيب أحق بنفسها من وليها ومن باع نخلة مؤبرة فثمرتها للبائع فتخصيص العمد والسوم والثيوبة والتأبير بهذه الاحكام هل يدل على نفي الحكم عما عداها‏؟‏ فقال الشافعي وما لك والاكثرون من أصحابهما‏:‏ أنه يدل، وإليه ذهب الاشعري، إذا احتج في إثبات خبر الواحد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏ 6‏)‏ قال‏:‏ هذا يدل على أن العدل بخلافه، واحتج في مسألة الرؤية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏}‏ ‏(‏المطففين‏:‏ 51‏)‏ قال‏:‏ وهذا يدل على أن المؤمنين بخلافهم، وقال جماعة من المتكلمين ومنهم القاضي وجماعة من حذاق الفقهاء، ومنهم ابن شريح‏:‏ إن ذلك لا دلالة له وهو الاوجه عندنا‏.‏ ويدل عليه مسالك‏.‏ الأول‏:‏ أن إثبات زكاة السائمة مفهوم، أما نفيها عن المعلوفة اقتباسا من مجرد الاثبات لا يعلم إلا بنقل من أهل اللغة متواترا وجار مجرى المتواتر والجاري مجرى المتواتر، كعلمنا بأن قولهم‏:‏ ضروب وقتول وأمثاله للتكثير وأن قولهم‏:‏ عليم وأعلم وقدير وأقدر للمبالغة، أعني الافعل، أما نقل الآحاد فلا يكفي، إذ الحكم على لغة ينزل عليها كلام الله تعالى بقول الآحاد مع جواز الغلط لا سبيل إليه، فإن قيل‏:‏ فمن نفي المفهوم افتقر إلى نقل متواترا أيضا‏؟‏ قلنا‏:‏ لا حاجة إلى حجة، فيما لم يضعوه فإن ذلك لا يناهي، إنما الحجة على من يدعي الوضع‏.‏ الثاني‏:‏ حسن الاستفهام‏.‏ فإن من قال‏:‏ إن ضربك زيد عامدا فاضربه، حسن أن يقول‏:‏ فإن ضربني خاطئا أفأضربه‏؟‏ وإذا قال أخرج الزكاة من ما شيتك السائمة حسن أن يقول‏:‏ هل أخرجها من المعلوفة، وحسن الاستفهام يدل على أن ذلك غير مفهوم، فإنه لا يحسن في المنطوق وحسن في المسكوت عنه، فإن قيل‏:‏ حسن لانه قد لا يراد به النفي مجازا، قلنا‏:‏ الأصل أنه إذا احتمل ذلك كان حقيقة، وإنما يرد إلى المجاز بضرورة دليل ولا دليل‏.‏ المسلك الثالث أنا نجدهم يعلقون الحكم على الصفة تارة مع مساواة المسكوت عنه للمنطوق، وتارة مع المخالفة، فالثبوت للموصوف معلوم منطوق، والنفي عن المسكوت محتمل، فليكن على الوقف إلى البيان بقرينة زائدة، ودليل آخر أما دعوى كونه مجازا عند الموافقة حقيقة عند المخالفة فتحكم بغير دليل يعارضه عكسه من غير ترجيح‏.‏ المسلك الرابع أن الخبر عن ذي الصفة لا ينفي غير الموصوف، فإذا قال‏:‏ قام الاسود، أو خرج أو قعد، لم يدل على نفيه عن الابيض، بل هو سكوت عن الابيض، وإن منع ذلك مانع وقد قيل به لزمه تخصيص اللقب والاسم العلم، حتى يكون قولك‏:‏ رأيت زيدا نفيا للرؤية عن غيره، وإذا قال‏:‏ ركب زيد، دل على نفي الركوب عن غيره، وقد تبع هذا بعضهم، وهو بهت واختراع على اللغات كلها، فإن قولنا‏:‏ رأيت زيدا لا يوجب نفي رؤيته عن ثوب زيد ودابته وخادمه، ولا عن غيره، إذ يلزم أن يكون قوله‏:‏ زيد عالم كفرا، لانه نفي للعلم عن الله وملائكته ورسله، وقوله عيسى نبي الله كفرا لانه نفي النبوة عن محمد عليه السلام وعن غيره من الانبياء‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذا قياس الوصف على اللقب ولا قياس في اللغة، قلنا ما قصدنا به إلا ضرب مثال ليتنببه به حتى يعلم أن الصفة لتعريف الموصوف فقط كما أن أسماء الاعلام لتعريف الاشخاص، ولا فرق بين قوله‏:‏ في الغنم زكاة في نفي الزكاة عن البقر والابل، وبين قوله‏:‏ في سائمة الغنم زكاة في نفي الزكاة عن المعلوفة‏.‏ المسلك الخامس أنا كما أنا لا نشك في أن للعرب طريقا إلى الخبر عن مخبر واحد واثنين وثلاثة اقتصارا عليه مع السكوت عن الباقي فلها طريق أيضا في الخبر عن الموصوف بصفة، فتقول، رأيت الظريف، وقام الطويل، ونكحت الثيب، واشتريت السائمة، وبعت النخلة المؤبرة، فلو قال بعد ذلك‏:‏ نكحت البكر أيضا، واشتريت المعلوفة أيضا، لم يكن هذا مناقضا للاول ورفعا له وتكذيبا لنفسه، كما لو قال‏:‏ ما نكحت الثيب وما اشتريت السائمة، ولو فهم النفي كما فهم الاثبات لكان الاثبات بعده تكذيبا ومضادا لما سبق‏.‏ وقد احتج القائلون بالمفهوم بمسالك‏:‏ الأول‏:‏ أن الشافعي رحمه الله من جملة العرب ومن علماء اللغة وقد قال بدليل الخطاب، وكذلك أبو عبيدة من أئمة اللغة، وقد قال في قوله عليه السلام‏:‏ لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته فقال‏:‏ دليله أن من ليس بواجد لا يحل ذلك منه، وفي قوله‏:‏ لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خيرمن أن يمتلئ شعرا فقيل‏:‏ أنه أراد الهجاء والسب، أو هجو الرسول عليه السلام فقال‏:‏ ذلك حرام قليله وكثيره امتلا به الجوف أو قصر، فتخصيصه بالامتلاء يدل على أن ما دونه بخلافه، وأن من لم يتجرد للشعر ليس مرادا بهذا الوعيد، والجواب، أنهما‏:‏ ما إن قالاه عن اجتهاد فلا يجب تقليدهما، وقد صرحا بالاجتهاد إذ قالا‏:‏ لو لم يدل على النفي لما كان للتخصيص بالذكر فائدة، وهذا الاستدلال معرض للاعتراض كما سيأتي، فليس على المجتهد قبول قول من لم يثبت عصمته عن الخطأ فيما يظنه بأهل اللغة أو بالرسول، وإن كان ما قالاه عن نقل فلا يثبت هذا بقول الآحاد، ويعارضه أقوال جماعة أنكروه، وقد قال قوم‏:‏ لا تثبت اللغة بنقل أرباب المذاهب والآراء فإنهم يميلون إلى نصرة مذاهبهم، فلا تحصل الثقة بقولهم‏.‏ المسلك الثاني أن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 08‏)‏ فقال عليه السلام‏:‏ لازيدن على السبعين فهذا يدل على أن حكم ما عدا السبعين بخلافه، والجواب من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن هذا خبر واحد لا تقوم به الحجة في إثبات اللغة، والاظهر أنه غير صحيح لانه عليه السلام أعرف الخلق بمعاني الكلام، وذكر السبعين جرى مبالغة في اليأس وقطع الطمع عن الغفران، كقول القائل‏:‏ أشفع أو لا تشفع، وإن شفعت لهم سبعين مرة لم أقبل منك شفاعتك‏.‏ الثاني‏:‏ أنه قال‏:‏ لازيدن على السبعين ولم يقل ليغفر لهم، فما كان ذلك لانتظار الغفران، بل لعله كان لاستمالة قلوب الاحياء منهم لما رأى من المصلحة فيهم ولترغيبهم في الدين، لا لانتظار غفران الله تعالى للموتى مع المبالغة في اليأس وقطع الطمع‏.‏ الجواب الثالث‏:‏ أن تخصيص نفي المغفرة بالسبعين أدل على جواز المغفرة بعد السبعين أو على وقوعه، فإن قلتم‏:‏ على وقوعه فهو خلاف الإجماع، وإن قلتم على جوازه فقد كان الجواز ثابتا بالعقل قبل الآية، فانتفى الجواز المقدر بالسبعين والزيادة ثبت جوازها بدليل العقل، لا بالمفهوم‏.‏ المسلك الثالث أن الصحابة قالوا‏:‏ الماء من الماء منسوخ بقول عائشة رضي الله عنها إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل فلو لم يتضمن نفي الماء عن غير الماء لما كان وجوبه بسبب آخر نسخا له، فإنه لم ينسخ وجوبه بالماء، بل انحصاره عليه واختصاصه به، والجواب من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن هذا نقل آحاد ولا تثبت به اللغة‏.‏ الثاني‏:‏ أنه إنما يصح عن قوم مخصوصين لا عن كافة الصحابة، فيكون ذلك مذهبا لهم بطريق الاجتهاد ولا يجب تقليدهم‏.‏ الثالث‏:‏ أنه يحتمل أنهم فهموا منه أن كل الماء من الماء ففهموا من لفظ الماء المذكور أولا، العموم والاستغراق لجنس استعمال الماء، وفهموا أخيرا، كون خبر التقاء الختانين نسخا لعموم، الأول لا لمفهومه ودليل خطابه، وكل عام أريد به الاستغراق، فالخاص بعده يكون نسخا لبعضه ويتقابلان إن اتحدث الواقعة‏.‏ الرابع‏:‏ أنه نقل عنه عليه السلام أنه قال‏:‏ لا ماء إلا من الماء وهذا تصريح بطرفي النفي والاثبات، كقوله عليه السلام‏:‏ لا نكاح إلا بولي ولا صلاة إلا بطهور وروي أنه أتى باب رجل من الانصار فصاح به فلم يخرج ساعة ثم خرج ورأسه يقطر ماء فقال عليه السلام‏:‏ عجلت عجلت ولم تنزل فلا تغتسل فالماء من الماء وهذا تصريح بالنفي فرأوا خبر التقاء الختانين ناسخا لما فهم من هذه الأدلة‏.‏ الخامس‏:‏ أنه قال في رواية إنما الماء من الماء وقد قال بعض منكري المفوم أن هذا للحصر والنفي والاثبات ولا مفهوم للقب والماء اسم لقب فدل أنه مأخوذ من الحصر الذي دل عليه الالف واللام وقوله‏:‏ إنما ولم يقل أحد من الصحابة أن المنسوخ مفهوم هذا اللفظ فلعل المنسوخ عمومه أو حصره المعلو لا بمجرد التخصيص والكلام في مجرد التخصيص‏.‏ المسلك الرابع قولهم أن يعلى بن أمية قال لعمر رضي الله عنه‏:‏ ما بالنا نقصر وقد أمنا‏؟‏ فقال تعجبت مما تعجبت منه، فسألت النبي عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ هي صدقة تصدق الله بها عليكم أو على عباده، فاقبلوا صدقته وتعجبهما من بطلان مفهوم تخصيص قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن خفتم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 101‏)‏ قلنا‏:‏ لان الأصل الاتمام، واستثنى حالة الخوف، فكان الاتمام واجبا عند عدم الخوف بحكم الأصل لا بالتخصيص‏.‏ المسلك الخامس أن ابن عباس رضي الله عنهما فهم من قوله‏:‏ إنما الربا في النسيئة نفي ربا الفضل، وكذلك عقل من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان له إخوة فلامه السدس‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 11‏)‏ إنه إن كان له إخوان فلامه الثلث، وكذلك قال الاخوات لا يرثن مع الأولاد‏:‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 671‏)‏ فإنه لما جعل لها النصف بشرط عدم الولد دل على انتفائه عند وجود الولد، والجواب عن هذا من أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن هذا غايته أن يكون مذهب ابن عباس ولا حجة فيه‏.‏ الثاني‏:‏ أن جميع الصحابة خالفوه في ذلك، فإن دل مذهبه عليه دل مذهبهم على نقيضه‏.‏ الثالث‏:‏ أنه لم يثبت أنه دفع ربا الفضل بمجرد هذا اللفظ بل ربما دفعه بدليل آخر وقرينة أخرى‏.‏ الرابع‏:‏ أنه لعله اعتقد أن البيع أصله على الاباحة بدليل العقل، أو عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأحل الله البيع وحرم الربا‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 572‏)‏ فإذا كان النهي قاصرا على النسيئة كان الباقي حلالا بالعموم، ودليل العقل لا بالمفهوم‏.‏ الخامس‏:‏ أنه روي أنه قال‏:‏ لا ربا إلا في النسيئة، وهذا نص في النفي والاثبات، وقوله‏:‏ إنما الربا في النسيئة أيضا قد أقربه بعض منكري المفهوم لما فيه من الحصر‏.‏ المسلك السادس أنه إذا قال‏:‏ اشتر لي عبدا أسود، يفهم نفي الابيض، وإذا قال أضربه إذا قام، يفهم المنع إذا لم يقم، قلنا‏:‏ هذا باطل، بل الأصل منع الشراء والضرب إلا فيما أذن والاذن قاصر فبقي الباقي على النفي، وتولد منه درك الفرق بين الابيض والاسود وعماد الفرق إثبات ونفي، ومستندا لنفي الأصل، ومستند الاثبات الاذن القاصر، والذهن إنما ينتبه للفرق عند الاذن القاصر على الاسود فإنه يذكر الابيض، فيسبق إلى الاوهام العامية أن إدراك الذهن هذا الاختصاص، والفرق من الذكر القاصر لا بل هو عند الذكر القاصر لكن أحد طرفي الفرق حصل من الذكر والآخر كان حاصلا في الأصل فيذكره عند التخصيص فكان حصول الفرق عنده لا به، فهذا مزلة القدم، وهو دقيق، ولاجله غلط الاكثرون، ويدل عليه أيضا أنه لو عرض على البيع شاة وبقرة وغانما وسالما وقال‏:‏ اشتر غانما والشاة لسبق إلى الفهم الفرق بين غانم وسالم، وبين البقرة والشاة، واللقب لا مفهوم له بالاتفاق عند كل محصل إذ قوله‏:‏ لا تبيعوا البر بالبر لم يدل على نفي الربا من غير الاشياء الستة بالاتفاق، ولو دل لا نحسم باب القياس، وإن القياس فائدته إبطال التخصيص، وتعدية الحكم من المنصوص إلى غيره، لكن مزلة القدم ما ذكرناه، وهو جار في كل ما يتضمن الاقتطاع من أصل ثابت، كقوله‏:‏ أنت طالق إن دخلت الدار، فإن لم تدخل لم تطلق، لان الأصل عدم الطلاق، لا لتخصيص الدخول، بدليل أنه لو قال‏:‏ إن دخلت فلست بطالق، فلا يقع إذا لم تدخل، لانه ليس الأصل وقوع الطلاق حتى يكون تخصيص النفي بالدخول موجبا للرجوع إلى الأصل عند عدم الدخول، وهذا واضح‏.‏ المسلك الرابع وعليه تعويل الاكثرين، وهو السبب الاعظم في وقوع هذا الوهم، أن تخصيص الشئ بالذكر لا بد أن تكون له فائدة، فإن استوت السائمة والمعلوفة والثيب والبكر، والعمد والخطأ فلم خصص البعض بالذكر والحكم شامل، والحاجة إلى البيان تعم القسمين، فلا داعي له إلى اختصاص الحكم، وإلا صار الكلام لغوا‏؟‏ والجواب من أربعة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن هذا عكس الواجب، فإنكم جعلتم طلب الفائدة طريقا إلى معرفة وضع اللفظ، وينبغي أن يفهم أولا الوضع، ثم ترتب الفائدة عليه، والعلم بالفائدة ثمرة معرفة الوضع أما أن يكون الوضع تبع معرفة الفائدة فلا‏.‏ الثاني‏:‏ وأن عماد هذا الكلام أصلان‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه لا بد من فائدة التخصيص‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لا فائدة إلا اختصاص الحكم، والنتيجة أنه الفائدة إذا، ومسلم أنه لا بد من فائدة، لكن الأصل الثاني وهو أنه لا فائدة إلا هذا فغير مسلم، فلعل فيه فائدة فليست الفائدة محصورة في هذا، بل البواعث على التخصيص كثرة واختصاص الحكم أحد البواعث، فإن قيل‏:‏ فلو كان له فائدة أو عليه باعث سوى اختصاص الحكم لعرفناه قلنا ولم قلتم أن كل فائدة ينبغي أن تكون معلومة لكم، فلعلها حاضرة ولم تعثروا عليها، فكأنكم جعلتم عدم علم الفائدة علما بعدم الفائدة، وهذا خطأ فعماد هذا الدليل هو الجهل بفائدة أخرى‏.‏ الثالث‏:‏ وهو قاصمة الظهر على هذا المسلك، أن تخصيص اللقب لا يقول به محصل، فلم لم تطلبوا الفائدة فيه، فإذا خصص الاشياء الستة في الربا، وعمم الحكم في المكيلات والمطعومات كلها، وخصص الغنم بالزكاة مع وجوبها في الابل والبقر، فما سببه مع استواء الحكم‏؟‏ فيقال‏:‏ لعل إليه داعيا من سؤال أو حاجة أو سبب لا نعرفه، فليكن كذلك في تخصيص الوصف‏.‏ الرابع‏:‏ أن في تخصيص الحكم بالصفة الخاصة فوائد‏:‏ الأولى‏:‏ أنه لو استوعب جميع محل الحكم لم يبق للاجتهاد مجال فأراد بتخصيص بعض الالقاب والاوصاف بالذكر أن يعرض المجتهدين لثواب جزيل في الاجتهاد إذ بذلك تتوفر دواعيهم على العلم ويدوم العلم محفوظا بإقبالهم ونشاطهم في الفكر والاستنباط، ولولا هذا لذكر لكل حكم رابطة عامة جامعة لجميع مجاري الحكم، حتى لا يبقى للقياس مجال‏.‏ الثانية‏:‏ أنه لو قال‏:‏ في الغنم زكاة ولم يخصص السائمة لجاز للمجتهد إخراج السائمة عن العموم بالاجتهاد الذي ينقدح له، فخص السائمة بالذكر لتقاس المعلوفة عليها إن رأى أنها في معناها أو لا تلحق بها فتبقى السائمة بمعزل عن محل الاجتهاد، وكذلك لو قال‏:‏ لا تبيعوا الطعام بالطعام، ربما أدى اجتهاد مجتهد إلى إخراج البر والتمر فنص على ما لا وجه لاخراجه، وترك ما هو موكول إلى الاجتهاد، لا سيما ولو ذكر الطعام أو الغنم، وهو لفظ عام، لصار عند الواقفية محتملا للعموم وللبر خاصة أو التمر خاصة وللمعلوفة خاصة، وللسائمة خاصة، فأخرج المخصوص عن محل الوقف والشك، ورد الباقي إلى الاجتهاد لما رأى فيه من اللطف والصلاح‏.‏ الثالثة‏:‏ أن يكون الباعث على التخصيص للاشياء الستة عموم وقوع أو خصوص سؤال أو وقوع واقعة أو اتفاق معاملة فيها خاصة أو غير ذلك من أسباب لا نطلع عليها، فعدم علمنا بذلك لا ينزل بمنزلة علمنا بعدم ذلك، بل نقول‏:‏ لعل إليه داعيا لم نعرفه، فكذلك في الاوصاف‏.‏ المسلك الثامن‏:‏ قولهم إن التعليق بالصفة كالتعليق بالعلة وذلك يوجب الثبوت بثبوت العلة والانتفاء بانتفائها، والجواب‏:‏ أن الخلاف في العلة والصفة واحد فتعليق الحكم بالعلة يوجب ثبوته بثبوتها، أما انتفاؤه بانتفائها فلا، بل يبقى بعد انتفاء العلة على ما يقتضيه الأصل، وكيف ونحن نجوز تعليل الحكم بعلتين، فلو كان إيجاب القتل بالردة نافيا للقتل عند انتفائها لكان إيجاب القصاص نسخا لذلك النفي، بل فائدة ذكر العلة معرفة الرابطة فقط، وليس من فائدته أيضا تعدية العلة من محلها إلى غير محلها، فإن ذلك عرف بورود التعبد بالقياس، ولولاه لكان قوله‏:‏ حرمت عليكم الخمر لشدتها لا يوجب تحريم النبيذ المشتد بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة إلى أن يرد دليل، وتعبد باتباع العلة وترك الالتفات إلى المحل‏.‏ المسلك التاسع‏:‏ استدلالهم بتخصيصات في الكتاب والسنة خالف الموصوف فيها غير الموصوف بتلك الصفات، وسبيل الجواب عن جميعها إما لبقائها على الأصل أو معرفتها بدليل آخر أو بقرينة، ولو دل ما ذكروه لدلت تخصيصات في الكتاب والسنة لا أثر لها على نقيضه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتله منكم متعمدا‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 59‏)‏ في جزاء الصيد إذ يجب على الخاطئ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏(‏4‏)‏ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 29‏)‏ إذ تجب على العامد عند الشافعي رحمه الله، وقوله‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 101‏)‏ الآية، وقوله في الخلع‏:‏ ‏{‏وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 53‏)‏ وقوله عليه السلام‏:‏ أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها إلى أمثال له لا تحصى‏.‏ القول في درجات دليل الخطاب اعلم أن توهم النفي من الاثبات على مراتب ودرجات، وهي ثمانية‏:‏ الأولى‏:‏ وهي أبعدها، وقد أقر ببطلانها كل محصل من القائلين بالمفهوم وهو مفهوم اللقب، كتخصيص الاشياء الستة في الربا‏.‏ الثانية‏:‏ الاسم المشتق الدال على جنس، كقوله‏:‏ لا تبيعوا الطعام بالطعام وهذا أيضا يظهر إلحاقه باللقب، لان الطعام لقب لجنسه، وإن كان مشتقا مما يطعم، إذ لا تدرك تفرقة بين قوله‏:‏ في الغنم زكاة وفي الماشية زكاة، وإن كانت الماشية مشتقة مثلا‏.‏ الثالثه‏:‏ تخصيص الاوصاف التي تطرأ و تزول، كقوله‏:‏ الثيب أحق بنفسها والسائمة تجب فيها الزكاة، فلاجل أن السوم يطرأ ويزول ربما يتقاضى الذهن طلب سبب التخصيص، وإذا لم يجد حمله على انتفاء الحكم، وهو أيضا ضعيف ومنشؤه الجهل بمعرفة الباعث على التخصيص‏.‏ الرابعة‏:‏ أن يذكر الاسم العام ثم تذكر الصفة الخاصة في معرض الاستدراك والبيان، كما لو قال‏:‏ في الغنم السائمة زكاة، وكقوله‏:‏ من باع نخلة مؤبرة فثمرها للبائع و اقتلوا المشركين الحربيين، فإنه ذكر الغنم والنخلة والمشركين، وهي عامة، فلو كان الحكم يعمها لما أنشأ بعده استدراكا، لكن الصحيح أن مجرد هذا التخصيص من غير قرينة لا مفهوم له فيرجع حاصل الكلام إلى طلب سبب الاستدراك، ويجوز أن يكون له سبب سوى اختصاص الحكم لم نعرفه، ووجه التفاوت بين هذه الصور أن تخصيص اللقب يمكن حمله على أنه لم يحضره ذكر المسكوت عنه، ولذلك ذكر الاشياء الستة، فهذا احتمال وهو الغفلة عن غير المنطوق به، والغفلة البكر عند التعرض للثيب أبعد، لان ذكر الصفة بذكر ضدها يضعف هذا الاحتمال، فصار احتمال المفهوم أظهر، وعند الاستدراك بعد التعميم انقطع هذا الاحتمال بالكلية، فظهر احتمال المفهوم لانحسام أحد الاحتمالات الباعثة على التخصيص، لكن وراء هذه احتمالات داعية إلى التخصيص، وإن لم نعرفها فلا يحتج بما لا يعلم فينظر إلى لفظه، ومن تعرض للغنم السائمة والنخلة المؤبرة فهو ساكت، عن المعلوفة وغير المؤبرة، كما لو قال‏:‏ في السائمة وفي المؤبرة، وكما قال‏:‏ في سائمة الغنم زكاة‏.‏ الخامسة‏:‏ الشرط، وذلك أن يقول‏:‏ إن كان كذا فافعل كذا، وإن جاءكم كريم قوم فأكرموه، وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن، وقد ذهب ابن شريح وجماعة من المنكرين للمفهوم إلى أن هذا يدل على النفي، والذي ذهب إليه القاضي إنكاره وهو الصحيح عندنا على قياس ما سبق، لان الشرط يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط فقط، فيقصر عن الدلالة على الحكم عند عدم الشرط، أما أن يدل على عدم عنذ العدم فلا‏.‏ وفرق بين أن لا يدل على الوجود فيبقى على ما كان قبل الذكر وبين أن يدل على النفي فيتغير عما كان، والدليل عليه أنه يجوز تعليق الحكم بشرطين، كما يجوز بعلتين، فإذا قال‏:‏ احكم بالمال للمدعي إن كانت له بينة، واحكم له بالمال إن شهد له شاهدان، لا يدل على نفي الحكم بالاقرار واليمين والشاهد، ولا يكون الامر بالحكم بالاقرار والشاهد واليمين نسخا له ورفعا للنص أصلا، ولهذا المعنى جوزناه بخبر الواحد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن‏}‏ ‏(‏الطلاق‏:‏ 6‏)‏ أنكر أبو حنيفة مفهومه لما ذكرناه، ويجوز أن نوافق الشافعي في هذه المسألة، وإن خالفناه في المفهوم من حيث أن انقطاع ملك النكاح يوجب سقوط النفقة إلا ما استثنى، والحامل هي المستثنى، فيبقى الحائل على أصل النفي، وانتفت نفقتها إلا بالشرط، لكن بانتفاء النكاح الذي كان علة النفقة‏.‏ السادسة‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ إنما الماء من الماء وإنما الشفعة فيما لم يقسم وإنما الولاء لمن أعتق وإنما الربا بالنسيئة إنما الاعمال بالنيات وهذا قد أصر أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم على إنكاره وقالوا إنه إثبات فقط، ولا يدل على الحصر، وأقر القاضي بأنه ظاهر في الحصر محتمل للتأكيد، إذ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الله إله واحد‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 171‏)‏ و ‏{‏إنما يخشى الله من عباده العلماء‏}‏ ‏(‏فاطر‏:‏ 82‏)‏ يشعر بالحصر، ولكن قد يقول‏:‏ إنما النبي محمد، وإنما العالم في البلد زيد يريد به الكمال والتأكيد، وهذا هو المختار عندنا أيضا، ولكن خصص القاضي هذا بقوله إنما، ولم يطرده في قوله‏:‏ الاعمال بالنيات، والشفعة فيما لم يقسم وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، والعالم في البلد زيد، وعندنا أن هذا يلحق بقوله‏:‏ إنما وإن كان دونه في القوة لكنه ظاهر في الحصر أيضا، فإنا ندرك التفرقة بين قول القائل، زيد صديقي وبين قوله‏:‏ صديقي زيد، وبين قوله‏:‏ زيد عالم وبين قوله‏:‏ العالم زيد وهذا التحقيق، وهو أن الخبر لا يجوز أن يكون أخص من المبتدأ، بل ينبغي أن يكون أعم منه أو مساويا له، فلا يجوز أن تقول الحيوان إنسان، ويجوز أن تقول‏:‏ الانسان حيون، فإذا جعل زيدا مبتدأ وقال‏:‏ زيد صديقي جاز أن تكون الصداقة أعم من زيد، وزيد أخص من الصديق، لان المبتدأ يجوز أن يكون أخص من الخبر، أما إذا جعل الصديق مبتدأ فقال‏:‏ صديقي زيد، فلو كان له صديق آخر كان المبتدأ أعم من الخبر والخبر أخص، وكان كقوله‏:‏ اللون سواد، والحيوان إنسان، وذلك ممتنع، وإن كان عكسه جائزا‏.‏، فإن قيل‏:‏ يجوز أن يقول‏:‏ صديقي زيد وعمرو أيضا، والولاء لمن أعتق ولمن كاتب، ولمن باع بشرط العتق، ولو كان للحصر لكان هذا نقضا له، قلنا‏:‏ هو للحصر بشرط أن لا يقترن به قبل الفراغ من الكلام ما يغيره، كما أن العشرة لمعناها بشرط أن لا يتصل بها الاستثناء، وقوله‏:‏ ‏{‏اقتلوا المشركين‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 5‏)‏ ظاهر في الجميع بشرط أن لا يقول‏:‏ إلا زيدا‏.‏ السابعة‏:‏ مد الحكم إلى غاية بصيغة إلى وحتى، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏(‏2‏)‏ ولا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 222‏}‏ ‏(‏فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 032‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 9‏)‏ وقد أصر على إنكار هذا أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم وقالوا‏:‏ هذا نطق بما قبل الغاية وسكوت عما بعد الغاية، فيبقى على ما كان قبل النطق، وأقر القاضي بهذا، لان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تنكح زوجا غيره‏}‏ و ‏{‏حتى يطهرن‏}‏ ليس كلاما مستقلا، فإن لم يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقربوهن‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تحل له‏}‏ فيكون لغوا من الكلام، وإنما صح لما فيه من إضمار، وهو قوله‏:‏ حتى يطهرن فأقربوهن، وحتى تنكح فتحل، ولهذا يقبح الاستفهام إذا قال‏:‏ لا تعط زيدا حتى يقوم، ولو قال‏:‏ أعطه، إذا قام فلا يحسن، إذ معناه، أعطه إذا قام، ولان الغاية نهاية، ونهاية الشئ مقطعة، فإن لم يكن مقطع فلا يكون نهاية، فإنه إذا قال‏:‏ اضربه حتى يتوب، فلا يحسن معه أن يقول‏:‏ وهل أضربه، وإن تاب، وهذا وإن كان له ظهور ما ولكن لا ينفك عن نظر، إذ يحتمل أن يقال‏:‏ كل ماله ابتداء، فغايته مقطع لبدايته فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية، فيكون الاثبات مقصورا أو ممدودا إلى الغاية المذكورة، ويكون ما بعد الغاية كما قبل البداية، فإذا هذه الرتبة أضعف في الدلالة على النفي مما قبلها‏.‏ الرتبة الثامنة‏:‏ لا عالم في البلد إلا زيد، وهذا قد أنكره غلاة منكري المفهوم وقالوا‏:‏ هذا نطق بالمستثنى عنه، وسكوت عن المستثنى، فما خرج بقوله إلا فمعناه أنه لم يدخل في الكلام، فصار الكلام مقصورا على الباقي، وهذا ظاهر البطلان، لان هذا صريح في النفي والاثبات، فمن قال‏:‏ لا إله إلا الله، لم يقتصر على النفي، بل أثبت لله تعالى الالوهية ونفاها عن غيره، ومن قال‏:‏ لا عالم إلا زيد، ولا فتى إلا علي، ولا سيف إلا ذو الفقار، فقد نفى وأثبت قطعا وليس كذلك، قوله‏:‏ لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بولي ولا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء هذا صيغة الشرط، ومقتضاها نفي المنفى عند انتفاء الشرط، فليس منطوقا به، بل تفسد الصلاة مع الطهارة لسبب آخر، وكذلك‏:‏ النكاح مع الولي والبيع مع المساواة، وهذا على وفق قاعدة المفهوم، فإن إثبات الحكم عند ثبوت وصف لا يدل على إبطاله عند انتفائه، بل يبقى على ما كان قبل النطق، وكذلك نفيه عند انتفاء شئ لا يدل على إثباته عند ثبوت ذلك الشئ، بل يبقى على ما كان قبل النطق، وكذلك نفيه عند انتقاء شئ لا يدل على إثباته عند ثبوت ذلك الشئ بل يبقى على ما كان قبل النطق ويكون المنطوق به النفي عند الانتقاء فقط بخلاف قوله‏:‏ لا إله إلا الله، ولا عالم إلا زيد، لانه إثبات ورد على النفي والاستثناء من النفي إثبات، ومن الاثبات نفي، وقوله لا صلاة ليس فيه تعرض للطهارة بل للصلاة فقط، وقوله‏:‏ إلا بطهور ليس إثباتا للصلاة، بل للطهور الذي لم يتعرض له في الكلام فلا يفهم منه إلا الشرط‏.‏

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً  
عزيزنا الزائر لن تتمكن من مشاهدة التوقيع إلاَّ بتسجيل دخولك
قم بتسجيل الدخول أو قم بالتسجيل من هنا
رد مع اقتباس