مسألة (تعارض القياس مع العموم) قياس نص خاص إذا قابل عموم نص آخر، فالذاهبون إلى أن العموم حجة لو انفرد والقياس حجة لو انفرد، اختلفوا فيه على خمسة مذاهب: فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأبو الحسن الاشعري إلى تقديم القياس على العموم، ذهب الجبائي وابنه وطائفة من المتكلمين والفقهاء إلى تقديم العموم، وذهب القاضي وجماعة إلى التوقف لحصول التعارض، وقال قوم: يقدم على العموم جلى القياس دون خفيه، وقال عيسى بن أبان: يقدم القياس على عموم دخله التخصيص دون ما لم يدخله. حجاج من قدم العموم ثلاث: الأولى: أن القياس فرع، والعموم أصل، فكيف يقدم فرع على أصل؟ الاعتراض من وجوه: الأول: أن القياس فرع نص آخر لا فرع النص المخصوص به، والنص تارة يخصص بنص آخر وتارة بمعقول نص آخر، ولا معنى للقياس إلا معقول النص، وهو الذي يفهم المراد من النص، والله هو الواضع لاضافة الحكم إلى معنى النص، إلا أنه مظنون نص، كما أن العموم وتناوله للمسمى الخاص مظنون نص آخر فهما ظنان في نصين مختلفين، وإذا خصصنا بقياس الارز على البر عموم قوله: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (البقرة: 572) لم نخصص الأصل بفرعه: فإن الارز فرع، حديث البر لا فرع آية إحلال البيع. الثاني: أنه يلزم أن لا يخصص القرآن بخبر الواحد لانه فرع، فإنه يثبت بأصل من كتاب وسنة فيكون فرعا له، فقد سلم التخصيص بخبر الواحد من لا يسلم التخصيص بالقياس فهذا لازم لهم، فإن قيل: خبر الواحد ثبت بالإجماع لا بالظاهر والنص، قلنا وكون القياس حجة ثبت أيضا بالإجماع، ثم لا مستند للإجماع سوى النص فهو فرع الإجماع والإجماع فرع النص الحجة الثانية: أنه إنما يطلب القياس حكم ما ليس منطوقا به، فما هو منطوق به كيف يثبت بالقياس؟. الاعتراض: أنه ليس منطوقا به كالنطق بالعين الواحدة، لان زيدا في قوله: {فاقتلوا المشركين} (التوبة: 5) ليس كقوله: اقتلوا زيدا، والارز في قوله: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (البقرة: 572) ليس كقوله: يحل بيع الارز بالارز متفاضلا ومتماثلا، فإذا كان كونه مرادا بآية إحلال البيع مشكوكا فيه كان كونه منطوقا به مشكوكا فيه لان العام إذا أريد به الخاص كان ذلك نطقا بذلك القدر، ولم يكن نطقا بما ليس بمراد، والدليل عليه جواز تخصيصه بدليل العقل القاطع، ودليل العقل لا يجوز أن يقابل النطق الصريح من الشارع، لان الأدلة لا تتعارض، فإن قيل: ما أخرجه العقل عرف أنه لم يدخل تحت العموم قلنا: تحت لفظه أو تحت الارادة، فإن قلتم تحت اللفظ، فإن الله تعالى شئ وهو داخل تحت اللفظ من قوله تعالى: {خالق كل شئ} (الانعام: 201، الرعد: 16، الزمر: 62، غافر: 62) وإن قلتم: لا يدخل تحت الارادة فكذلك دليل القياس يعرفنا ذلك ولا فرق. الحجة الثالثة: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ: بم تحكم؟ فقال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد قال: بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي فجعل الاجتهاد مؤخرا، فكيف يقدم على الكتاب؟ قلنا: كونه مذكورا في الكتاب مبني على كونه مرادا بالعموم، وهو مشكوك فيه، فكونه في الكتاب مشكوك فيه، ولذلك جاز لمعاذ ترك العموم بالخبر المتواتر وخبر الواحد، ونص الكتاب لا يترك بالسنة إلا أن تكون السنة بيانا لمعنى الكتاب، والكتاب يبين الكتاب، والسنة تبين السنة تارة بلفظ وتارة بمعقول لفظ، ثم نقول: حكم العقل الأصلي في براءة الذمة يترك بخبر الواحد وبقياس خبر الواحد: لانه ليس يحكم به العقل مع ورود الخبر فيصير مشكوكا فيه معه فكذلك العموم. حجاج القائلين بتقديم القياس اثنتان: الأولى: أن العموم يحتمل المجاز والخصوص، والاستعمال في غير ما وضع له، والقياس لا يحتمل شيئا من ذلك، ولانه يخصص العموم بالنص الخاص مع إمكان كونه مجازا ومؤولا فالقياس أولى. الاعتراض: أن احتمال الغلط في القياس ليس بأقل من احتمال ما ذكر في العموم من احتمال الخصوص والمجاز بل ذلك موجود في أصل القياس، وزيادة ضعف ما يختص به من احتمال الخصوص، والمجاز إذ القياس ربما يكون منتزعا من خبر واحد فيتطرق الاحتمال إلى أصله، وربما استنبطه من ليس أهلا للاجتهاد، فظن أنه من أهله، ولا حكم لاجتهاد غير الاهل، والعموم لا يستند إلى اجتهاد وربما يستدل على إثبات العلة بما يظنه دليلا وليس بدليل، وربما لا يستوفي جميع أوصاف الأصل فيشذ عنه وصف داخل في الاعتبار، وربما يغلط في إلحاق الفرع به لفرق دقيق بينهما لم يتنبه له، فمظنة الاحتمال والغلط في القياس أكثر. الحجة الثانية: قولهم تخصيص العموم بالقياس جمع بين القياس وبين الكتاب، فهو أولى من تعطيل أحدهما أو تعطيلهما وهذا فاسد، لان القدر الذي وقع فيه التقابل ليس فيه جمع، بل هو رفع للعموم وتجريد للعمل بالقياس. حجة الواقفية: قالوا إذا بطل كلام المرجحين كما سبق، وكل واحد من القياس والعموم دليل لو انفرد وقد تقابلا ولا ترجيح، فهل يبقى إلا التوقف، لان الترجيح إما أن يدرك بعقل أو نقل والعقل إما نظري أو ضروري، والنقل إما تواتر أو آحاد، ولم يتحقق شئ من ذلك، فيجب طلب دليل آخر، فإن قيل: هذا يخالف الإجماع، لان الامة مجمعة على تقديم أحدهما وإن اختلفوا في التعيين، ولم يذهب أحد قبل القاضي إلى التوقف، أجاب القاضي: بأنهم لم يصرحوا ببطلان التوقف قطعا ولم يجمعوا عليه، لكن كل واحد رأى ترجيحا. والإجماع لا يثبت بمثل ذلك، كيف ومن لا يقطع ببطلان مذهب مخالفه في ترجيح القياس كيف يقطع بخطئه إن توقف؟ حجة من فرق بين جلى القياس وخفيه: وهي أن جلي القياس قوي وهو أقوى من العموم والخفي ضعيف، ثم حكي عنهم أنهم فسروا الجلي بقياس العلة، والخفي بقياس الشبه، وعن بعضهم أن الجلي مثل قوله عليه السلام: " لا يقض القاضي وهو غضبان " وتعليل ذلك بما يدهش العقل عن تمام الفكر حتى يجري في الجائع والحاقن خفي. والمختار أن ما ذكروه غير بعيد، فإن العموم يفيد ظنا، والقياس يفيد ظنا، وقد يكون أحدهما أقوى في نفس المجتهد، فيلزمه اتباع الاقوى، والعموم تارة يضعف بأن لا يظهر منه قصد التعميم، ويظهر ذلك بأن يكثر المخرج منه ويتطرق إليه تخصيصات كثيرة، كقوله تعالى: (وأحل الله البيع) (البقرة: 572) فإن دلالة قوله عليه السلام: " لا تبيعوا البر بالبر "، على تحريم الارز، والتمر أظهر من دلالة هذا العموم على تحليله، وقد دل الكتاب على تحريم الخمر، وخصص به قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه} (الانعام: 541) وإذا ظهر منه التعليل بالاسكار فلو لم يرد خبر في تحريم كل مسكر لكان إلحاق النبيذ بالخمر بقياس الاسكار أغلب على الظن من بقائه تحت عموم قوله: {لا احد فيما أوحى إلى محرما} (الانعام: 541) وهذا ظاهر في هذه الآية، وآية احلال البيع لكثرة ما أخرج منهما ولضعف قصد العموم فيهما، ولذلك جوزه عيسى بن أبان في أمثاله دون ما بقي على العموم، ولكن لا يبعد ذلك عندنا أيضا فيما بقي عاما لانا لا نشك في أن العمومات بالاضافة إلى بعض المسميات تختلف في القوة لاختلافها في ظهور إرادة قصد ذلك المسمى بها، فإن تقابلا وجب تقديم أقوى العمومين، وكذلك أقوى القياسين إذا تقابلا قدمنا أجلاهما وأقواهما، فكذلك العموم والقياس إذا تقابلا، فلا يبعد أن يكون قياس قوي أغلب على الظن من عموم ضعيف أو عموم قوي أغلب على الظن من قياس ضعيف فنقدم الاقوى، وإن تعادلا فيجب التوقف كما قاله القاضي، إذ ليس كون هذا عموما أو كون ذلك قياسا مما يوجب ترجيحا لعينهما، بل لقوة دلالتهما، فمذهب القاضي صحيح بهذا الشرط، فإن قيل: فهذا الخلاف الذي في تخصيص بقياس مستنبط من الكتاب إذا خصص به عموم الكتاب، فهل يجري في قياس مستنبط من الاخبار؟ قلنا: نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر، وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد، والخلاف جار في الكل وكذا قياس الخبر المتواتر بالنسبة إلى عموم الكتاب، وقياس نص الكتاب بالاضافة إلى عموم الخبر المتواتر، أما قياس خبر الواحد إذا عارض عموم القرآن فلا يخفي ترجيح الكتاب عند من لا يقدم خبر الواحد على عموم القرآن، أما من يقدم الخبر فيجوز أن يتوقف في قياس الخبر، فإنه ازداد ضعفا وبعدا وما في معنى الأصل، والمعلوم بالنظر الجلي قريب من الأصل، فلا يبعد أن يكون أقوى في النفس في بعض الاحوال من ظن العموم، فالنظر فيه إلى المجتهد، فإن قيل الخلاف في هذه المسألة من جنس الخلاف في القطعيات أو في المجتهدات، قلنا يدل سياق كلام القاضي على أن القول في تقديم خبر الواحد على عموم الكتاب، وفي تقديم القياس على العموم مما يجب القطع بخطأ المخالف فيه، لانه من مسائل الاصول، وعندي أن إلحاق هذا بالمجتهدات أولى فإن الأدلة من سائر الجوانب فيه متقاربة غير بالغة مبلغ القطع.
الباب الرابع في تعارض العمومين ووقت جواز الحكم بالعموم
وفيه فصول:
الفصل الأول: في التعارض
اعلم أن المهم الأول معرفة محل التعارض، فنقول: كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال إذ الأدلة العقلية يستحيل نسخها وتكاذبها، فإن ورد دليل سمي على خلاف العقل، فأما لا يكون متواترا فيعلم أنه غير صحيح، وإما أن يكون متواترا فيكون مؤولا ولا يكون متعارضا، وأما نص متواتر لا يحتمل الخطأ والتأويل، وهو على خلاف دليل العقل، فذلك محال، لان دليل العقل لا يقبل النسخ والبصلان، مثال ذلك: المؤول في العقليات: قوله تعالى: {خالق كل شئ} (الانعام: 102) الرعد: 160، الزمر: 62، غافر: 62) إذ خرج بدليل العقل ذات القديم وصفاته، وقوله: {وهو بكل شئ عليم} (الانعام: 101، الحديد: 3) دل العقل على عمومه، ولا يعارضه قوله تعالى: {قل أتنبئون الله بما لا يعلم} (يونس: 81) إذ معناه ما لا يعلم له أصلا، أي يعلم أنه لا أصل له، ولا يعارضه قوله تعالى: {حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} (محمد: 13) إذا معناه أنه يعلم المجاهدة كائنة وحاصلة، وفي الازل لا يوصف علمه بتعلقه بحصول المجاهدة قبل حصولها، وكذلك قوله تعالى: {وتخلقون إفكا} (العنكبوت: 71) لا يعارض قوله: {خالق كل شئ} لان المعنى به الكذب دون الايجاد، وكذلك قوله تعالى: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير} (المائدة: 011) لان معناه: تقدر والخلق هو التقدير، وكذلك قوله: {أحسن الخالقين} (المؤمنون: 41، الصافات: 25) أي المقدرين، وهكذا أبدا تأويل ما خالف دليل العقل أو خالف دليلا شرعا دل العقل على عمومه. أما الشرعيات: فإذا تعارض فيها دليلان فأما أن يستحيل الجمع أو يمكن، فإن امتنع الجمع لكونهما متناقضين كقوله مثلا: من بدل دينه فاقتلوه من بدل دينه فلا تقتلوه، لا يصح نكاح بغير ولي، يصح نكاح بغير ولي، فمثل هذا لا بد أن يكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا فإن أشكل التاريخ فيطلب الحكم من دليل آخر، ويقدر تدافع النصين، فإن عجزنا عن دليل آخر فنتخير العمل بأيهما شئنا لان الممكنات أربعة: العمل بهما وهو متناقض، أو اطراحهما، وهو إخلاء الواقعة عن الحكم وهو متناقض أو استعمال واحد بغير مرجح وهو تحكم، فلا يبقى إلا التخير الذي يجوز ورود التعبدية ابتداء فإن الله تعالى لو كلفنا واحدا بعينه لنصب عليه دليلا، ولجعل لنا إليه سبيلا، إذ لا يجوز تكليف بالمحال، وفي التخيير بين الدليلين المتعارضين مزيد غور سنذكره في كتاب الاجتهاد عند تخير المجتهد وتحيره، أما إذا أمكن الجمع بوجه ما فهو على مراتب: المرتبة الأولى: عام وخاص، كقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر مع قوله لا صدقة فيما دون خمسة أوسق فقد ذكرنا من مذهب القاضي أن التعارض واقع لامكان كون أحدهما نسخا بتقدير إرادة العموم بالعام، والمختار أن يجعل بيانا ولا يقدر النسخ إلا لضرورة فإن فيه تقدير دخول ما دون النصاب تحت وجوب العشر ثم خروجه منه وذلك لا سبيل إلى إثباته بالتوهم من غير ضرورة. المرتبة الثانية: وهي قريبة من الأولى أن يكون اللفظ المؤول قويا في الظهور بعيدا عن التأويل لا ينقدح تأويله إلا بقرينة، فكلام القاضي فيه أوجه، ومثاله قوله عليه السلام: إنما الربا في النسيئة كما رواه ابن عباس، فإنه كالصريح في نفي ربا الفضل، ورواية عبادة بن الصامت في قوله: الحنطة بالحنطة مثلا بمثل صريح في إثبات ربا الفضل، فيمكن أن يكون أحدهما ناسخا للآخر، ويمكن أن يكون قوله: إنما الربا في النسيئة أي في مختلفي الجنس، ويكون قد خرج على سؤال خاص عن المختلفين أو حاجة خاصة حتى ينقدح الاحتمال، والجمع بهذا التقدير ممكن، والمختار أنه وإن بعد أولى من تقدير النسخ، وللقاضي أن يقول: قطعكم بأنه أراد به الجنسين تحكم لا يدل عليه قاطع، ويخالف ظاهر اللفظ المفيد للظن، والتحكم بتقدير ليس يعضده دليل قطعي ولا ظني لا وجه له، قلنا: يحملنا عليه ضرورة الاحتراز عن النسخ، فيقول: فما المانع من تقدير النسخ، وليس في إثباته اتركاب محال ولا مخالفة دليل قطعي ولا ظني، وفيما ذكرتم مخالفة صيغة العموم ودلالة اللفظ وهو دليل ظني، فما هو الخوف والحذر من النسخ وإمكانه كإمكان البيان، فليس أحدهما بأولى من الآخر، فإن قلنا البيان أغلب على عادة الرسول عليه السلام من النسخ وهو أكثر وقوعا فله أن يقول: وما الدليل على جواز الاخذ بالاحتمال الاكثر وإذا اشتبهت رضيعة بعشر نسوة فالاكثر حلال، وإذا اشتبه إناء نجس بعشر أوان طاهرة فلا ترجيح للاكثر بل لا بد من الاجتهاد والدليل ولا يجوز أن يأخذوا واحدا ويقدر حله أو طهارته، لان جنسه أكثر، لكنا نقول: الظن عبارة عن أغلب الاحتمالين، ولكن لا يجوز إتباعه إلا بدليل فخبر الواحد لا يورث إلا غلبة الظن من حيث إن صدق العدل أكثر وأغلب من كذبه، وصيغة العموم تتبع، لان إرادة ما يدل عليه الظاهر أغلب، وأكثر من وقوع غيره والفرق بين الفرع والأصل ممكن غير مقطوع ببطلائه في الاقيسة الظنية، لكن الجمع أغلب على الظن، واتباع الظن في هذه الاصول لا لكونه ظنا، لكن لعمل الصحابة به واتفاقاتهم عليه، فكذا نعلم من سيرة الصحابة إنهم ما اعتقدوا كون غير القرآن منسوخا من أوله إلى آخره، ولم يبق فيه عام لم يخصص إلا قوله تعالى: {وهو بكل شئ عليم} (البقرة: 92) وألفاظ نادرة، بل قدروا جملة ذلك بيانا، وورد العام والخاص في الاخبار، ولا يتطرق النسخ إلى الخبر، كقوله تعالى: {وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون} (القلم: 03) وتخصيصا لقوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون} (المرسلات: 53) وتخصيص قوله تعالى: {وأوتيت من كل شئ} (النمل: 32) و {تدمر كل شئ بأمر ربها} (الاحقاف: 52) و {ويحيى إليه ثمرات كل شئ) (القصص: 75) وكانوا لا ينسخون إلا بنص وضرورة، أما بالتوهم فلا، ولعل السبب أن في جعلهما متضادين إسقاطهما ذا لم يظهر التاريخ، وفي جعله بيانا استعمالها، وإذا تخيرنا بين الاستعمال والاسقاط فالاستعمال هو الأصل ولا يجوز الاسقاط إلا لضرورة. تنبيه: أعلم أن القاضي أيضا إنما يقدر النسخ بشرط أن لا يظهر دلالة على إرادة البيان، مثاله قوله: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، عام يعارضه خصوص قوله صلى الله عليه وسلم: إهاب دبغ فقد طهر لكن القاضي يقدره نسخا بشرطين: أحدهما: أن لا ينبت في اللسان اختصاص اسم الاهاب بغير المدبوغ، فقد قيل ما لم يدبغ الجلد يسمى إهابا، فإذا دبغ فأديم وصرم وغيره، فإن صح هذا فلا تعارض بين اللفظين. الثاني: أنه روي عن ابن عباس أنه عليه السلام مر بشاة لميمونة ميتة فقال: ألا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفعوا به وكانوا قد تركوها لكونها ميتة ثم كتب: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، فساق الحديث سياقا يشعر بأنه جرى متصلا، فيكون بيانا ناسخا لان شرط النسخ التراخي. المرتبة الثالثة: من التعارض أن يتعارض عمومان، فيزيد أحدهما على الآخر من وجه وينقص عنه من وجه، مثاله قوله عليه السلام من بدل دينه فاقتلوه فإنه يعم النساء مع قوله: نهيت عن قتل النساء فإنه يعم المرتدات، وكذلك قوله: نهيت عن الصلاة بعد العصر فإنه يعم الفائتة أيضا مع قوله: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإنه يعم المستيقظ بعد العصر، وكذلك قوله: {تعلمون} (النساء: 32) فإنه يشمل جمع الاختين في ملك اليمين أيضا مع قوله: {أو ما ملكت أيمانكم} (النساء: 3) فإنه يحل الجمع بين الاختين بعمومه فيمكن أن يخصص قوله: {وأن تجمعوا بني الاختين} (النساء: 32) بجمع الاختين في النكاح دون ملك اليمين لعموم قوله: {أو ما ملكت أيمانكم} فهو على مذهب القاضي تعارض وتدافع بتقدير النسخ، ويشهد له قول علي وعثمان رضي الله عنهما لما سئلا عن هذه المسألة، أعني جمع أختين في ملك اليمين، فقالا: حرمتهما آية وحللتهما آية، أما على مذهبنا في حمله على البيان ما أمكن ليس أيضا أحدهما، بأولى من الآخر ما لم يظهر ترجيح، وقد ظهر فنقول: حفظ عموم قوله: {وأن تجمعوا بين الاختين} أولى لمعنيين: أحدهما: إنه عموم لم يتطرق إليه تخصيص متفق عليه، فهو أقوى من عموم تطرق إليه التخصيص بالاتفاق إذ قد استثنى عن تحليل ملك اليمن المشتركة والمستبرأة والمجوسية والاخت من الرضاع والنسب وسائر المحرمات أما الجمع بين الاختين فحرام على العموم. الثاني: أن قوله: {وأن تجمعوا بين الاختين} (النساء: 32) سيق بعد ذكر المحرمات وعدها على الاستقصاء إلحاقا لمحرمات تعم الحرائر والاماء، وقوله: {أو ما ملكت أيمانكم} (النساء: 3) ما سيق لبيان المحللات قصدا بل في معرض الثناء على أهل التقوى الحافظين فروجهم عن غير الزوجات والسراري فلا يظهر منه قصد البيان. فإن قيل: هل يجوز أن يتعارض عمومان ويخلوا عن دليل الترجيح؟ قلنا: قال قوم: لا يجوز ذلك، لانه يؤدي إلى التهمة ووقوع الشبهة لتناقض الكلامين، وهو منفر عن الطاعة والاتباع والتصديق، وهذا فاسد بل، ذلك جائز ويكون ذلك مبينا لاهل العصر الأول، وإنما خفي علينا لطول المدة واندراس القرائن والأدلة ويكون ذلك محنة وتكليفا علينا لنطلب الدليل من وجه آخر من ترجيح أو نتخير، ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا فليس فيه محال، وأما ما ذكروه من التنفير والتهمة فباطل، فإن ذلك قد نفر طائفة من الكفار في ورود النسخ حتى قال تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر} (النحل: 101) الآية، ثم ذلك لم يدل على استحالة النسخ.
الفصل الثاني في جواز إسماع العموم من لم يسمع الخصوص
وقد اختلفوا في جوازه فقيل: لا يجوز ذلك، لان فيه الباسا وتجهيلا، ونحن نقول: يجب على الشارع أن يذكر دليل الخصوص إما مقترنا وإما متراخيا على ما ذكرناه من تأخير البيان، وليس من ضرورة كل مجتهد بلغه العموم أن يبلغه دليل الخصوص، بل يجوز أن يغفل عنه، ويكون حكم الله عليه العمل بالعموم، وهذا القدر الذي بلغه لا يكلف ما لم يبلغه، ودليل جوازه وقوعه بالإجماع فإن من الأدلة المخصصة ما هي عقلية غامضة عجز عنها الاكثرون إلا الراسخون في العلم وغلطوا فيها، فالالفاظ المتشابهة في القرآن الموهمة للتشبيه بلغت الجميع والأدلة العقلية الغامضة لم ينتبه لها الجميع، ولم يرد الشرع صريحا بنفي التشبيه وقطع الوهم، وذلك سبب للجهل، والدليل عليه وقوع الجهل للمشبهة، فإن قيل: العقل الذي يدل على التخصيص عتيد لكل عاقل، فالحوالة عليه ليس بتجهيل، قلنا وأي شئ ينفع كونه عتيدا ولم يزل به جهل الاكثرين وكان يزول بالتصريح، والنص الذي لا يوهم التشبيه أصلا، احتجوا بشبهتين: الأولى: إنه لو جاز ذلك لجاز أن يسمعهم المنسوخ دون الناسخ، والمستثنى دون الاستثناء. قلنا: ذلك جائز في النسخ، وعليه العمل بالمنسوخ إلى أن يبلغه الناسخ، وليس عليه إلا تجويز النسخ والتصفح عن دليله، فإذا لم يبلغه فلا تكليف عليه بما لم يبلغه، كما إذا عجز من معرفة التخصيص بعد البحث عمل بالعموم، وأما الاستثناء فيشترط إتصاله، فكيف لا يبلغه؟ نعم: يجوز أن يسمعه الأول فينزعج عن المكان لعارض قبل سماع الاستثناء فلا يسمعه فلا يكون مكلفا بما لم يبلغه. الشبهة الثانية: قولهم تبليغ العام دون دليل الخصوص تجهيل فإنه يعتقد العموم وهو جهل، قلنا جهل من جهته إن اعتقد جزما عمومه، بل ينبغي أن يعتقد أن ظاهره العموم وهو محتمل للخصوص ومكلف بطلب دليل الخصوص إلى أن يبلغه أو يظهر له انتفاؤه، لانه إن اعتقد أنه عام قطعا أو خاص قطعا أو لا عام ولا خاص، أو هو عام وخاص معا، فكل ذلك جهل، فإذا بطل الكل لم يبق إلا اعتقاد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص، وبهذا يتبين بطلان مذهب أبي حنيفة حيث قال: قوله: {فتحرير رقبة} (النساء: 92، المجادلة: 3) يجب أن يعتقد عمومه قطعا حتى يكون إخراج الكافرة نسخا، وقوله: {وليطوفوا بالبيت العتيق} (الحج: 92) يجب اعتقاد إجزائه قطعا، حتى يكون اشتراط الطهارة بدليل آخر نسخا، وهو خطأ بل يعتقده ظاهرا محتملا، أو يتوقف عن القطع والجزم نفيا وإثباتا، فإنه ليس بقاطع.