مسألة (هل بعد انتهاء الخطر فيه إباحة؟) فإن قال قائل: قوله: افعل بعد الحظر ما موجبه، وهل لتقدم الحظر تأثير؟ قلنا: قال قوم: لا تأثير لتقدم الحظر أصلا، وقال قوم هي قرينة تصرفها إلى الاباحة، والمختار أنه ينتظر، فإن كان الحظر السابق عارضا لعلة، وعلقت صيغة افعل بزواله، كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة: 2) فعرف الاستعمال يدل على أنه لرفع الذم فقط حتى يرجع حكمه إلى ما قبله، وإن احتمل أن يكون رفع هذا الحظر بندب وإباحة لكن الاغلب ما ذكرناه، كقوله: {فانتشروا} (الجمعة: 01) وكقوله عليه السلام: كنت نهيتكم عن لحوم الاضاحي فادخروا أما إذا لم يكن الحظر عارضا لعلة ولا صيغة افعل علق بزوالها، فيبقى موجب الصيغة على أصل التردد بين الندب والاباحة، ونزيح هاهنا احتمال الاباحة، ويكون هذا قرينة تزيح هذا الاحتمال، وإن لم تعينه، إذ لا يمكن دعوى عرف الاستعمال في هذه الصيغة حتى يغلب العرف الوضع، أما إذا لم ترد صيغة افعل، لكن قال: {فإذا حللتم} (المائدة: 2) فأنتم مأمورون بالاصطياد، فهذا يحتمل الوجوب والندب ولا يحتمل الاباحة لانه عرف في هذه الصورة، وقوله: أمرتكم بكذا، يضاهي قوله: افعل في جميع المواضع إلا في هذه الصورة وما يقرب منها.
النظر الثالث: في موجب الامر ومقتضاه
في موجب الامر ومقتضاه بالاضافة إلى الفور والتراخي والتكرار وغيره، ولا يتعلق هذا النظر بصيغة مخصوصة، بل يجري في قوله، افعل، كان للندب أو للوجوب، وفي قوله: أمرتكم وأنتم مأمورون، وفي كل دليل يدل على الامر بالشئ، إشارة كانت أو لفظا أو قرينة أخرى، لكنا نتكلم في مقتضى قوله: افعل ليقاس عليه غيره، ونرسم فيه مسائل:
مسألة (أحكام الامر)
قوله: صم، كما أنه في نفسه يتردد بين الوجوب والندب، فهو بالاضافة إلى الزمان يتردد بين الفور والتراخي، وبالاضافة إلى المقدار يتردد بين المرة الواحدة و استغراق العمر، وقد قال قوم: هو للمرة، ويحتمل التكرار وقال قوم: هو للتكرار، والمختار أن المرة الواحدة معلومة وحصول براءة الذمة بمجردها مختلف فيه، واللفظ بوضعه ليس فيه دلالة على نفي الزيادة ولا على إثباتها، وقياس مذهب الواقفية التوقف فيه لتردد اللفظ، كتردده بين الوجوب والندب، لكني أقول: ليس هذا ترددا في نفس اللفظ على نحو تردد اللفظ، المشترك بل اللفظ خال عن التعرض لكمية المأمور به، لكن يحتمل الاتمام ببيان الكمية، كما أنه يحتمل أن نتممه بسبع مرات أو خمس، وليس في نفس اللفظ تعرض للعدد، ولا هو موضوع لآحاد الاعداد وضع اللفظ المشترك، وكما أن قوله: أقتل إذا لم يقل أقتل زيدا أو عمرا فهو دون زيادة كلام ناقص، فإتمامه بلفظ دال على تلك الزيادة، لا بمعنى البيان، فإن قيل: بين مسألتنا وبين القتل فرق، فإن قوله: اقتل، كلام ناقص لا يمكن امتثاله، وقوله: صم، كلام تام مفهوم يمكن امتثاله، قلنا: يحتمل أن يقال: يصير ممتثلا بقتل أي شخص كان بمجرد قوله أقتل، كما يصير ممتثلا بصوم أي يوم كان إذا قال: صم يوما بلا فرق، ويكون قوله: أقتل، كقوله: أقتل شخصا، لان الشخص القتيل من ضرورة القتل، وإن لم يذكر، كما أن اليوم من ضرورة الصوم وإن لم يصرح به، فيتحصل من هذا أنه تبرأ ذمته بالمرة، الواحدة، لان وجوبها معلوم، والزيادة لا دليل على وجوبها، إذ لم يتعرض اللفظ لها، فصار كما قبل قوله: صم، وكنا لا نشك في نفي الوجوب، بل نقطع بانتفائه، وقوله: صم دال على القطع في يوم واحد، فبقي الزائد على ما كان، هذا هو الظاهر من مطلق اللفظ المجرد عن الكمية، ويعتضد هذا باليمين، فإنه لو قال: والله لاصومن، لبر بيوم واحد، ولو قال: لله علي صوم لتفصى عن عهدة النذر بيوم واحد، لان الزائد لم يتعرض له، فإن قيل: فلو فسر التكرار بصوم العمر فقد فسره بمحتمل، أو كان ذلك الحاق زيادة، كما لو قال: أردت بقولي: اقتل. أي أقتل زيدا، وبقولي: صم، أي صم يوم السبت خاصة. فإن هذا تفسير بما لا يحتمله اللفظ، بل ليس تفسيرا، إنما ذكر زيادة لم يذكرها، ولم يوضع اللفظ المذكور لها، لا بالاشتراك ولا بالتجوز ولا بالتنصيص. قلنا: هذا فيه نظر، والاظهر عندنا أنه إن فسره بعدد مخصوص كتسعة أو عشرة، فهو إتمام بزيادة وليس بتفسير، إذ اللفظ لا يصلح للدلالة على تكرر وعدد، وإن أراد إستغراق العمر فقد أراد كلية الصوم في حقه، وكأن كلية الصوم شئ فرد أذله حد واحد وحقيقة واحدة، فهو واحد بالنوع، كما أن اليوم الواحد واحد بالعدد، واللفظ يحتمله، ويكون ذلك بيانا للمراد لا استئناف زيادة، ولهذا لو قال: أنت طالق، ولم يخطر بباله عدد كانت الطلقة الواحدة ضرورة لفظه فيقتصر عليها، ولو نوى الثلاثة بعد لانه كلية الطلاق فهو كالواحد بالجنس أو النوع، ولو نوى طلقتين، فالاغوص ما قاله أبو حنيفة، وهو أنه لا يحتمله، ووجه مذهب الشافعي قد تكلفناه في كتاب المبادئ والغايات، فإن قيل: الزيادة التي هي كالمتممة لا تبعد إرادتها في اللفظ، فلو قال: طلقت زوجتي وله أربع نسوة وقال: أردت زينب بنيتي وقع الطلاق من وقت اللفظ، ولولا احتماله لوقع من وقت التعيين، قلنا: الفرق أغوص، لان قوله: زوجتي، مشترك بين الاربع، يصلح لكل واحدة، فهو كإدارة إحدى المسميات بالمشترك، أما الطلاق فموضوع لمعنى لا يتعرض للعدد، والصوم موضوع لمعنى لا يتعرض للسبعة والعشرة، وليست الاعداد موجودات، فيكون اسم الصوم مشتركا بينهما اشتراك اسم الزوجة بين النسوة الزوجات شبه المخالفين ثلاث: الشبهة الأولى: قولهم قوله: {اقتلوا المشركين} (التوبة: 5) يعم قتل كل مشرك، فقوله: صم وصل ينبغي أن يعم كل زمان، لان إضافته إلى جميع الازمان واحد، كإضافة لفظ المشترك إلى جميع الاشخاص، قلنا: إن سلمنا صيغة العموم فليس هذا نظيرا له، بل نظيره أن يقال: صم الايام، وصل في الاوقات، أما مجرد قوله: صم، فلا يتعرض للزمان، لا بعموم ولا بخصوص، لكن الزمان من ضرورته كالمكان، ولا يجب عموم الاماكن بالفعل، وإن كان نسبة الفعل إلى كل مكان على وتيرة واحدة، وكذلك الزمان. الشبة الثانية: قولهم: إن قوله صم، كقوله: لا تصم، وموجب النهي ترك الصوم أبدا، فليكن موجب الامر فعل الصوم أبدا، وتحقيقه أن الامر بالشئ نهي عن ضده، فقوله قم، وقوله: لا تقعد، واحد وقوله تحرك، وقوله: لا تسكن واحد، ولو قال: لا تسكن، لزمت الحركة دائما، فقوله: تحرك، تضمن قوله: لا تسكن، قلنا: أما قولكم أن الامر بالشئ نهي عن ضده، فقد أبطلناه في القطب الأول، وإن سلمنا فعموم النهي الذي هو ضمن بحسب الامر المتضمن، لانه تابع له، فلو قال: تحرك مرة واحدة كان السكون المنهي عنه مقصورا على المرة، وقوله: تحرك، كقوله: تحرك مرة واحدة، كما سبق تقريره، وأما قياسهم الامر على النهي فباطل من خمسة أوجه: الأول: أن القياس باطل في اللغات لانها تثبت توقيفا. الثاني: أنا لا نسلم في النهي لزوم الانتهاء مطلقا بمجرد اللفظ، بل لو قيل للصائم لا تصم، يجوز أن تقول: نهاني عن صوم هذا اليوم أو عن الصوم أبدا، فيستفسر بل التصريح أن يقول: لا تصم أبدا، ولا تصم يوما واحدا، فإذا اقتصر على قوله: لا تصم، فانتهى يوما واحدا جاز أن يقال: قضى حق النهي ولا يغنيهم عن هذا الاسترواح إلى المناهي الشرعية والعرفية وحملها على الدوام. فإن هذا القائل يقول: عرفت ذلك بأدلة أفادت علما ضروريا بأن الشرع يريد عدم الزنا والسرقة وسائر الفواحش مطلقا، وفي كل حال: لا بمجرد صيغة النهي، وهذا كما أنا نوجب الايمان دائما لا بمجرد قوله: آمنوا لكن الأدلة دلت على أن دوام الايمان مقصود. الثالث: أنا نفرق، ولعله الاصح، فنقول: إن الامر يدل على أن المأمور ينبغي أن يوجد مطلقا، والنهي يدل على أنه ينبغي أن لا يوجد مطلقا، والنفي المطلق يعم، والوجود المطلق لا يعم، فكل ما وجد مرة فقد وجد مطلقا، وما انتفى مرة فما انتفى مطلقا، ولذلك إذا قال في اليمين: لافعلن، بر بمرة، ولو قال: لا أفعل، حنث بمرة، ومن قال: لاصومن صدق وعده بمرة، ومن قال: لا أصوم، كان كاذبا مهما صام مرة. الرابع: أنه لو حمل الامر على التكرار لتعطلت الاشغال كلها، وحمل النهي على التكرار لا يفضي إليه إذ يمكن الانتهاء في حال واحدة عن أشياء كثيرة مع الاشتغال بشغل ليس ضد المنهي عنه، وهذا فاسد، لانه تفسير للغة بما يرجع إلى المشقة والتعذر، ولو قال افعل دائما، لم يتغير موجب اللفظ بتعذره، وإن كان التعذر هو المانع فليقتصر على ما يطاق ويشق دون ما يتيسر. الخامس: أن النهي يقتضي قبح المنهي عنه، ويجب الكف عن القبيح كله، والامر يقتضي الحسن، ولا يجب الاتيان بالحسن كله، وهذا أيضا فاسد. فإن الامر والنهي لا يدلان على الحسن والقبح، فإن الامر بالقبيح تسميه العرب أمرا فتقول أمر بالقبيح، وما كان ينبغي أن يأمر به، وأما الامر الشرعي فقد ثبت أنه لا يدل على الحسن، ولا النهي على القبح فإنه لا معنى للحسن والقبح بالاضافة إلى ذوات الاشياء بل الحسن ما أمر به، والقبيح ما نهى عنه فيكون الحسن والقبح تابعا للامر والنهي لا علة ولا متبوعا. الشبهة الثالثة: أن أوامر الشرع في الصوم والصلاة والزكاة حملت على التكرار فتدل على أنه موضوع له، قلنا: وقد حمل في الحج على الاتحاد فليدل على أنه موضوع له، فإن كان ذلك بدليل فكذلك هذا بدليل وقرائن. بل بصرائح سوى مجرد الامر وقد أجاب قوم عن هذا: بأن القرينة فيه إضافتها إلى أسباب وشروط، وكل ما أضيف إلى شر وتكرر الشرط تكرر الوجوب، وسنبين ذلك في المسألة الثانية:
مسألة (تكرار الامر المضاف لشرط)
اختلف الصائرون إلى أن الامر ليس للتكرار في الامر المضاف إلى شرط، فقال قوم: لا أثر للاضافة، وقال قوم: يتكرر بتكرر الشرط، والمختار أنه لا أثر للشرط، لان قوله: اضربه، أمر ليس يقتضي التكرار، فقوله: اضربه، إن كان قائما، أو إذا كان قائما لا يقتضيه أيضا، بل لا يريد إلا اختصاص الضرب الذي يقتضيه الاطلاق بحالة للقيام، وهو كقوله لوكيله: طلق زوجتي إن دخلت الدار، لا يقتضي التكرار بتكرر الدخول، بل لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق لم يتكرر بتكرر الدخول إلا أن يقول: كلما دخلت الدار، وكذلك قوله تعالى: {من شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة: 581)، وإذا زالت الشمس.
فصل
قوله لزوجاته: فمن شهد منكن الشهر فهي طالق، ومن زالت عليها الشمس فهي طالق، ولهم شبهتان: الأولى: أن الحكم يتكرر بتكرر العلة، والشرط كالعلة، فإن علل الشرع علامات، قلنا: العلة إن كانت عقلية فهي موجبة لذاتها، ولا يعقل وجود ذاتها دون المعلول، وإن كانت شرعية فلسنا نسلم تكرر الحكم بمجرد إضافة الحكم إلى العلة ما لم تقترن به قرينة أخرى وهو التعبد بالقياس، ومعنى التعبد بالقياس الامر باتباع العلة، وكأن الشرع يقول: الحكم يثبت بها فاتبعوها. الشبهة الثانية: إن أوامر الشرع إنما تتكرر بتكرر الاسباب، كقوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} (المائدة: 6). و {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} (المائدة: 6) قلنا: ليس ذلك بموجب اللغة: ومجرد الاضافة بل بدليل شرعي في كل شرط، فقد قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران: 79) ولا يتكرر الوجوب بتكرر الاستطاعة، فإن أحالوا ذلك على الدليل أحلنا ما يتكرر أيضا على الدليل، كيف ومن قام إلى الصلاة غير محدث فلا يتكرر عليه، ومن كان جنبا فليس عليه أن يتطهر إذا لم يرد الصلاة فلم يتكرر مطلقا، لكن اتبع فيه موجب الدليل.
مسألة (هل الامر على الفور أم لا؟)
مطلق الامر يقتضي الفور عند قوم ولا يقتضيه عند قوم وتوقف فيه من الواقفية قوم، ثم منهم من قال: التوقف في المؤخر هل هو ممتثل أم لا، أما المبادر فممتثل قطعا، ومنهم من غلا وقال: يتوقف في المبادر أيضا، والمختار أنه لا يقتضي إلا الامتثال، ويستوي فيه البدار والتأخير، وندل على بطلان الوقف أولا فنقول للمتوقف: المبادر ممتثل أم لا؟ فإن توقفت فقد خالفت إجماع الامة قبلك، فإنهم متفقون على أن المسارع إلى الامتثال مبالغ في الطاعة مستوجب جميل الثناء، والمأمور إذا قيل له: قم فقام يعلم نفسه ممتثلا، ولا يعد به مخطئا باتفاق أهل اللغة قبل ورود الشرع، وقد أثنى الله تعالى على المسارعين، فقال عز من قائل: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم} (آل عمران: 331) وقال: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون: 16) وإذا بطل هذا التوقف فنقول: لا معنى للتوقف في المؤخر لان قوله: اغسل هذا الثوب: مثلا لا يقتضي إلا طلب الغسل والزمان من ضرورة الغسل كالمكان، وكالشخص في القتل والضرب والسوط والسيف في الضرب، ثم لا يقتضي الامر بالضرب مضروبا مخصوصا، ولا سوطا ولا مكانا للامر، فكذلك الزمان، لان اللافظ ساكت عن التعرض للزمان والمكان، فهما سيان، ويعتضد هذا بطريق ضرب المثال لا بطريق القياس بصدق الوعد. إذا قال: أغسل وأقتل فإنه صادق، بادر أو أخر، ولو حلف: لادخلن الدار، لم يلزمه البدار، وتحقيقه أن مدعي الفور متحكم، وهو محتاج إلى أن ينقل عن أهل اللغة أن قولهم افعل للبدار، ولا سبيل إلى نقل ذلك لا تواترا ولا آحادا. ولهم شبهتان: الأولى: أن الامر للوجوب، وفي تجويز التأخير ما ينافي الوجوب، إما بالتوسع وإما بالتخيير في فعل لا بعينه من جملة الافعال الواقعة في الاوقات والتوسع والتخيير كلاهما يناقض الوجوب. قلنا: قد بينا في القطب الأول أن الواجب المخير والموسع جائز، ويدل عليه أنه لو صرح وقال: اغسل الثوب أي وقت شئت، فقد أوجبته عليك لم يتناقض، ثم لا نسلم أن الامر للوجوب، ولو كان للوجوب أما بنفسه أو بقرينة فالتوسع لا ينافيه كما سبق. الشبهة الثانية: أن الامر يقتضي وجوب الفعل، واعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال ثم وجوب الاعتقاد والعزم على الفور، فليكن كذلك الفعل، قلنا: القياس باطل في اللغات، ثم هو منقوض بقوله: افعل أي وقت شئت، فإن الاعتقاد والعزم فيه على الفور دون الفعل، ثم نقول: وجوب الفور في العزم والاعتقاد معلوم بقرينة وأدلة دلت على التصديق للشارع، والعزم على الانقياد له ولم يحصل ذلك بمجرد الصيغة.
مسألة (قضاء العبادات)
مذهب بعض الفقهاء أن وجوب القضاء لا يفتقر إلى أمر مجدد، ومذهب المحصلين أن الامر بعبادة في وقت لا يقتضي القضاء، لان تخصيص العبادة بوقت الزوال أو شهر رمضان، كتخصيص الحج بعرفات، وتخصيص الزكاة بالمساكين، وتخصيص الضرب والقتل بشخص، وتخصيص الصلاة بالقبلة، فلا فرق بين الزمان والمكان والشخص فإن جميع ذلك تقييد للمأمور بصفة، والعاري عن تلك الصفة لا يتناوله اللفظ، بل يبقى على ما كان قبل الامر، فإن قيل: الوقت للعبادة كالاجل للدين، فكما لا يسقط الدين بانقضاء الاجل لا تسقط الصلاة الواجبة في الذمة بانقضاء المدة، قلنا: مثال الاجل الحول في الزكاة لا جرم لا تسقط الزكاة بانقضائه، لان الاجل مهلة لتأخير المطالبة حتى ينجز بعد المدة، وأما الوقت فقد صار وصفا للواجب، كالمكان والشخص، ومن أوجب عليه شئ بصفة، فإذا أتى به لا على تلك الصفة لم يكن ممتثلا، نعم يجب القضاء في الشرع إما بنص، كقوله: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها أو بقياس، فإنا نقيس الصوم، إذا نسيه على الصلاة إذا نسيها، ونراه في معناها، ولا نقيس عليه الجمعة ولا الاضحية، فإنهما لا يقضيان في غير وقتهما، وفي رمي الجمار تردد أنه بأي الأصلين أشبه، ولا نقيس صلاة الحائض على صومها في القضاء، لفرق النص، ولا نقيس صلاة الكافر وزكاته على صلاة المرتد وإن تساويا في أصل الامر والوجوب عندها.
مسألة (في موضوع القضاء أيضا)
ذهب بعض الفقهاء إلى أن الامر يقتضي وقوع الاجزاء بالمأمور به إذا امتثل، وقال بعض المتكلمين: لا يدل على الاجزاء لا بمعنى أنه لا يدل على كونه طاعة وقربة وسبب ثواب وامتثالا، لكن بمعنى أنه لا يمنع الامتثال من وجوب القضاء، ولا يلزم حصول الاجزاء بالاداء، بدليل أن من أفسد حجه فهو مأمور بالاتمام، ولا يجزئه، بل يلزمه القضاء، ومن ظن أنه متطهر فهو مأمور بالصلاة وممتثل إذا صلى ومطيع ومتقر ب ويلزمه القضاء، فلا يمكن إنكار كونه مأمورا ولا إنكار كونه ممتثلا حتى يسقط العقاب، ولا إنكار كونه مأمورا بالقضاء، فهذه أمور مقطوع بها، والصواب عندنا أن نفصل ونقول: إذا ثبت أن القضاء يجب بأمر متجدد وأنه مثل الواجب الأول فالامر بالشئ لا يمنع إيجاب مثله بعد الامتثال، وهذا لا شك فيه، ولكن ذلك المثل إنما يسمى قضاء. إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها، وإن لم يكن فوات وخلل استال تسميته قضاء فنقول الامر يدل على أجزاء المأمور. إذا أدى بكمال وصفه وشرطه من غير خلل، وإن تطرق إليه خلل كما في الحج الفاسد والصلاة على غير الطهارة فلا يدل الامر على أجزائه بمعنى منع إيجاب القضاء، فإن قيل: فالذي ظن أنه متطهر مأمور بالصلاة على تلك الحالة أو مأمور بالطهارة، فإن كان مأمور بالطهارة مع تنجز الصلاة، فينبغي أن يكون عاصيا، وإن كان مأمورا بالصلاة على حالته فقد امتثل من غير خلل، فبم عقل إيجاب القضاء؟ وكذلك المأمور بإتمام الحج الفاسد أتم كما أمر، قلنا: هذا مأمور بالصلاة مع الخلل بضرورة نسيانه، فقد أتى بصلاة مختلة فاقدة شرطها لضرورة حاله، فعقل الامر لتدارك الخلل، أما إذا لم يكن الخلل لا عن قصد ولا عن نسيان فلا تدارك فيه، فلا يعقل إيجاب قضائه، وهو المعني بأجزائه، وكذلك مفسد الحج مأمور بحج خال عن فساد، وقد فوت على نفسه ذلك فيقضيه.