مسألة في تأخير البيان لا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا على مذهب من يجوز تكليف المحال، أما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الحق خلافا للمعتزلة، وكثير من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب الظاهر، وإليه ذهب أبو إسحق المروزي وأبو بكر الصيرفي، وفرق جماعة بين العام والمجمل فقالوا: يجوز تأخير بيان المجمل، إذ لا يحصل من المجمل جهل، وأما العام فإنه يوهم العموم، فإذا أريد به الخصوص فلا ينبغي أن يتأخر بيانه، مثل قوله: {فاقتلوا المشركين} (التوبة: 5) فإنه إن لم يقترن به البيان له أوهم جواز قتل غير أهل الحرب، وأدى ذلك إلى قتل من لا يجوز قتله، والمجمل مثل قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الانعام: 141) يجوز تأخير بيانه، لان الحق مجمل لا يسبق إلى الفهم منه شئ، وهو كما لو قال: حج في هذه السنة كما سأفصله، أو أقتل فلانا غدا بآلة سأعينها من سيف أو سكين، وفرق طوائف بين الامر والنهي، وبين الوعد والوعيد، فلم يجوزوا تأخير البيان في الوعد والوعيد. ويدل على جواز التأخير مسالك: الأول: أنه لو كان ممتنعا لكان الاستحالته في ذاته أو لافضائه إلى مجال وكل ذلك يعرف بضرورة أو نظر، وإذا انتفى المسلكان ثبت الجواز، وهذا دليل يستعمله القاضي في مسائل كثيرة وفيه نظر، لانه لا يورث العلم ببطلان الاحالة ولا بثبوت الجواز، إذ يمكن أن يكون وراء من ذكره وفصله دليل على الاحالة لم يخطر له، فلا يمكن أن يكون دليلا لا على الاحالة ولا على الجواز فعدم العلم العلم بدليل الجواز لا يثبت الاحالة، وكذلك عدم العلم بدليل الاحالة لا يثبت الجواز، بل عدم العلم بدليل الاحالة لا يكون علما لعدم الاحالة، فلعل عليه دليلا ولم نعرفه، بل لو عرفنا انتفاء دليل الاحالة لم يثبت الجواز بل لعله محال وليس عليه دليل يعرفه آدمي، فمن أين يجب أن يكون كل جائز ومحال في مقدور الآدمي معرفته؟. الثاني: أنه إنما يحتاج إلى البيان للامتثال وإمكانه، ولاجله يحتاج إلى القدرة والآلة، ثم جاز تأخير القدرة وخلق الآلة، فكذلك البيان، وهذا أيضا ذكره القاضي وفيه نظر لانه إنما ينفع، لو اعترف الخصم بأنه يحيله لتعذر الامتثال، ولعله يحيله لما من تجهيل، أو لكونه لغوا بلا فائدة، أو لسبب آخر، وليس في تسليمه تعليل القدرة والآلة بتأتي الامتثال ما يلزمه تعليل غير به. الثالث: الاستدلال على جوازه بوقوعه في القرآن والسنة، قال الله تعالى: {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه} (القيامة: 81) وثم للتأخير، وقال تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وإنما أراد بقرة معينة، ولم يفصل إلا بعد السؤال، وقال تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شئ فان الله خمسة وللرسول ولذي القربى} (الانفال: 41) الآية، وإنما أراد بذي القربى بني هاشم وبنى المطلب دون بني أمية، وكل من عدا بني هاشم، فلما منع بني أمية وبني نوفل وسئل عن ذلك قال: أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، ولم نزل هكذا وشبك بين أصابعه، وقال في قصة نوح: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} (هود: 64) بين بعد أن توهم أنه من أهله، وأما السنن فبيان المراد بقوله: وأقيموا الصلاة بصلاة جبريل في يومين بين الوقتين. وقوله عليه السلام: ليس في الخضروات صدقة ثم قال بعد ذلك، ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وقال: في أربعين شاة شاة وخذوا عني مناسككم كله ورد متأخرا عن قوله: {وآتوا الزكاة} (النساء: 77} (ولله على الناس حج البيت من استطاع} (آل عمران: 79) الآية وقال: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم} (التوبة: 14) وهو عام، ثم ورد بعده: {إذا} (النور: 16) وكذلك جميع الاعذار، وكذلك أمر النكاح والبيع والارث ورد أولا أصلها، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم بالتدريج من يرث ومن لا يرث ومن يحل نكاحه ومن لا يحل، وما يصح بيعه وما لا يصح، وكذلك كل عام ورد في الشرع، فإنما ورد دليل خصوصه بعده، وهذا مسلك لا سبيل إلى إنكاره، وإن تطرق الاحتمال، إلى أحد هذه الاستشهادات بتقدير اقتران البيان، فلا يتطرق إلى الجميع. الرابع: أنه يجوز تأخير النسخ بالاتفاق، بل يجب تأخيره، لا سيما عند المعتزلة، فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة، ويجوز أن يرد لفظ يدل على تكرر الافعال على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام، لكن بشرط أن لا يرد نسخ، وهذا أيضا واقع، فهذه الأدلة واقعة دالة على جواز تأخير البيان عن كل ما يحتاج إلى البيان، من عام ومجمل ومجاز وفعل متردد وشرط مطلق غير مقيد، وهو أيضا دليل على من جوز في الامر دون الوعيد، وعلى من قال بعكس ذلك. وللمخالف أربع شبه: الأولى: قالوا: إن جوزتم خطاب العربي بالعجمية والفارسي بالزنجية، فقد ركبتم بعيدا وتعسفتم، وإن منعتم فما الفرق بينه وبين مخاطبة العربي بلفظ مجمل لا يفهم معناه، ولكن يسمع لفظه ويلزم منه جواز خطابه بلغة هو واضعها وحده إلى أن يبين، والجواب من وجهين: أحدهما: وهو الأولى أنهم لم قالوا قوله: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الانعام: 141) كالكلام بلغة لا تفهم مع أنه يفهم أصل الايجاب ويعزم على أدائه وينتظر بيانه وقت الحصاد فالتسوية بينهما تعسف وظلم. الجواب الثاني: أنا نجوز للنبي عليه السلام أن يخاطب جميع أهل الارض من الزنج والترك بالقرآن، ويشعرهم أنه يشتمل على أوامر يعرفهم بها المترجم، وكيف يبعد هذا ونحن نجوز كون المعدوم مامورا على تقدير الوجود، فأمر العجم على تقدير البيان أقرب؟ نعم: لا يحصل ذلك خطابا، بل إنما يسمى خطابا إذا فهمه المخاطب، والمخاطب في مسألتنا فهم أصل الامر بالزكاة، وجهل قدر الحق الواجب عند الحصاد، وكذلك قوله تعالى: {أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح} (البقرة: 732) مفهوم وتردده بين الزوج والولي معلوم والتعيين منتظر، فإن قيل: فليجز خطاب المجنون والصبي؟ قلنا: أما من لا يفهم فلا يسمى مخاطبا ويسمى مأمورا، كالمعدوم على تقدير الوجود وكذك لا لصبي مأمور على تقدير البلوغ، أعني من علم الله أنه سيبلغ، أما الذي يفهم ويعلم الله ببلوغه فلا نحيل أن يقال له: إذا بلغت فأنت مأمور بالصلاة والزكاة، والصبا لا ينافي مثل هذا الخطاب، وإنما ينافي خطابا يعرضه للعقاب في الصبا. الثانية: قولهم الخطاب يراد لفائدة وما لا فائدة فيه، فيكون وجوده كعدمه، ولا يجوز أن يقول: أبجد هوز، ويريد به وجوب الصلاة والصوم ثم يبينه من بعد، لانه لغو من الكلام، وكذلك المجمل الذي لا يفيد؟ قلنا: إنما يجوز الخطاب بمجمل يفيد فائدة ما لان قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الانعام: 141) يعرف منه وجوب الايتاء ووقته، وأنه حق في المال، فيمكن العزم فيه على الامتثال والاستعداد له، ولو عزم على تركه عصى، وكذلك مطلق الامر إذا ورد ولم يتبين أنه للايجاب أو الندب، أو أنه على الفور أو التراخي، أو أنه للتكرار أو للمرة الواحدة أفاد علم اعتقاد الأصل ومعرفة التردد بين الجهتين، وكذلك: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) [ البقر: 237 ] يعرف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي، فلا يخلو عن أصل الفائدة، وإنما يخلو عن كمالها وذلك غير مستنكر، بل هو واقع في الشريعة والعادة، بخلاف قوله: أبجد هوز، فإن ذلك لا فائدة له أصلا. الثالثة: أنه لا خلاف في أنه لو قال: في خمس من الابل شاة وأراد خمسا من الافراس لا يجوز ذلك، وإن كان بشرط البيان بعده، لانه تجهيل في الحال وإيهام لخلاف المراد فكذلك قوله: {(9) فاقتلوا المشركين} (التوبة: 5) يوهم قتل كل مشرك وهو خلاف المراد، فهو تجهيل في الحال، ولو أراد بالعشرة سبعة كان ذلك تجهيلا، وإن كان ذلك جائزا إن اتصل الاستثناء به بأن يقول: عشرة إلا ثلاثة، وكذلك العموم للاستغراق في الوضع إنما يراد به الخصوص، بشرط قرينة متصلة مبينة، فأما إرادة الخصوص دون القرينة فهو تغيير للوضع، وهذا حجة من فرق بين العام والمجمل، والجواب: أن العموم لو كان نصا في الاستغراق لكان كما ذكرتموه، وليس كذلك، بل هو مجمل عند أكثر المتكلمين، متردد بين الاستغراق والخصوص، وهو ظاهر عند أكثر الفقهاء في الاستغراق، وإرادة الخصوص به من كلام العرب، فإن الرجل قد يعبر بلفظ العموم عن كل ما تمثل في ذهنه وحضر في فكره، فيقول مثلا ليس للقاتل من الميراث شئ، فإذا قيل له: فالجلاد والقاتل قصاصا لم يرث. فيقول: ما أردت هذا ولم يخطر لي بالبال، ويقول: للبنت النصف من الميراث، فيقال: فالبنت الرقيقة والكافرة لا ترث شيئا؟ فيقول: ما خطر ببالي هذا، وإنما أردت غير الرقيقة والكافرة، ويقول الاب، إذا انفرد يرث المال أجمع، فيقال: والاب الكافر أو الرقيق لا يرث. فيقول: إنما خطر ببالي الاب غير الرقيق والكافر، فهذا من كلام العرب، وإذا أراد السبعة بالعشرة فليس من كلام العرب، فإذا اعتقد العموم قطعا فذلك لجهله، بل ينبغي أن يعتقد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص، وعليه الحكم بالعموم إن خلي والظاهر، وينتظر أن ينبه على الخصوص أيضا. الرابعة: أنه إن جاز تأخير البيان إلى مدة مخصوصة طويلة كانت أو قصيرة فهو تحكم، وإن جاز إلى غير نهاية فربما يخترم لنبي صلى الله عليه وسلم قبل البيان، فيبقى العامل بالعموم في ورطة الجهل، متمسكا بعموم ما أريد به الخصوص؟ قلنا: النبي عليه السلام لا يؤخر البيان إلا إذا جوز له التأخير، أو أوجب وعين له وقت البيان وعرف أنه يبقى إلى ذلك الوقت، فإن اخترم قبل البيا ن بسبب من الاسباب فيبقى العبد مكلفا بالعموم عند من يرى العموم ظاهرا ولا يلزمه حكم ما لم يبلغه، كما لو اخترم قبل النسخ لما أمر بنسخه، فإنه يبقى مكلفا به دائما، فإن أحالوا اخترامه قبل تبليغ النسخ فيما أنزل عليه النسخ فيه فيستحيل أيضا اخترامه قبل بيان الخصوص فيما أريد به الخصوص ولا فرق.
مسألة (هل يجوز منع التدرج في البيان؟)
ذهب بعض المجوزين لتأخير البيان في العموم إلى منع التدريج في البيان فقالوا: إذا ذكر إخراج شئ من العموم فينبغي أن يذكر جميع ما يخرج وإلا أوهم ذلك استعمال العموم في الباقي، وهذا أيضا غلط، بل من توهم ذلك فهو المخطئ فإنه كما كان يجوز الخصوص فإنه ينبغي أن يبقى مجوزا له في الباقي، وإن أخرج البعض، إذ ليس في إخراج البعض تصريح بحسم سبيل لشئ آخر، كيف وقد نزل قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران: 79) فسئل النبي عليه السلام عن الاستطاعة فقال: الزاد والراحلة ولم يتعرض لامن الطريق والسلامة وطلب الخفارة، وذلك يجوز أن يتبين بدليل آخر بعده وقال تعالى: {والسارق والسارقة} (المائدة: 83) ثم ذكر النصاب بعده ثم ذكر الحرز بعد ذلك، وكذلك كان يخرج شيئا شيئا من العموم على قدر وقوع الوقائع، وكذلك يخرج من قوله: {فاقتلوا المشركين} (التوبة: 5) أهل الذمة مرة والعسيف مرة والمرأة مرة أخرى، وكذلك على التدريج ولا إحالة في شئ من ذلك، فإن قيل: فإذا كان كذلك فمتى يجب على المجتهد الحكم بالعموم ولا يزال منتظرا لدليل بعده؟ قلنا: سيأتي ذلك في كتاب العموم والخصوص إن شاء الله.
مسألة (هل يصح تخصيص المتواتر بخبر الآحاد)
لا يشترط أن يكون طريق البيان للمجمل والتخصيص للعموم، كطريق المجمل والعموم، حتى يجوز بيان مجمل القرآن وعمومه، وما ثبت بالتواتر بخبر الواحد خلافا لاهل العراق، فإنهم لم يجوزوا التخصيص في عموم القرآن والمتواتر بخبر الواحد، وأما المجمل فيما تعم به البلوى كأوقات الصلاة وكيفيتها وعدد ركعاتها ومقدار واجب الزكاة وجنسها فإنهم قالوا: لا يجوز أن يبين إلا بطريق قاطع، وأما ما لا تعم به البلوى كقطع يد السارق وما يجب على الائمة من الحد وذكر أحكام المكاتب والمدبر فيجوز أن يبين بخبر الواحد، وهذا يتعلق طرف منه بطريق التخصيص، وسيأتي في القسم الرابع، وطرف يتعلق بما تعم به البلوى، وقد ذكرناه في كتاب الاخبار.
القسم الثاني من الفن الأول في الظاهر والمؤول
إعلم أنا بينا أن اللفظ الدال الذي ليس بمجمل إما أن يكون نصا وإما أن يكون ظاهرا، والنص هو الذي لا يحتمل التأويل، والظاهر هو الذي يحتمله، فهذا القدر قد عرفته على الجملة، وبقي عليك الآن أن تعرف الاختلاف في إطلاق لفظ النص، وأن تعرف حده وحد الظاهر، وشرط التأويل المقبول، فنقول: النص إسم مشترك يطلق في تعارف العلماء على ثلاثة أوجه: الأول: ما أطلقه الشافعي رحمه الله، فإنه سمى الظاهر نصا، وهو منطبق على اللغة، ولا مانع منه في الشرع، والنص في اللغة بمعنى الظهور، تقول العرب: نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته، وسمي الكرسي منصة إذ تظهر عليه العروس، وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد فرجة نص، فعلى هذا حده حد الظاهر هو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع، فهو بالاضافة إلى ذلك المعنى الغالب ظاهر ونص. الثاني: وهو الاشهر، ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا، لا على قرب ولا على بعد، كالخمسة مثلا، فإنه نص في معناه لا يحتمل الستة ولا الاربعة وسائر الاعداد، ولفظ الفرس لا يحتمل الحمار والبعير وغيره، فكل ما كانت دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالاضافة إلى معناه نصا في طرفي الاثبات والنفي، أعني في إثبات المسمى ونفي ما لا ينطلق عليه الاسم، فعلى هذا حده اللفظ الذي يفهم منه على القطع معنى، فهو بالاضافة إلى معناه المقطوع به نص، ويجوز أن يكون اللفظ الواحد نصا ظاهرا مجملا، لكن بالاضافة إلى ثلاثة معان لا إلى معنى واحد. الثالث: التعبير بالنص عما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل، أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصا، فكان شرط النص بالوضع الثاني أن لا يتطرق إليه احتمال أصلا، وبالوضع الثالث أن لا يتطرق إليه احتمال مخصوص، وهو المعتضد بدليل، ولا حجر في إطلاق اسم النص على هذه المعاني الثلاثة، لكن الاطلاق الثاني أوجه وأشهر، وعن الاشتباه بالظاهر أبعد، هذا هو القول في النص والظاهر. أما القول في التأويل فيستدعي تمهيد أصل وضرب أمثلة: أما التمهيد: فهو أن التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر، ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز، وكذلك تخصيص العموم يرد اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز، فإنه إن ثبت أن وضعه وحقيقته للاستغراق فهو مجاز في الاقتصار على البعض، فكأنه رد له إلى المجاز، إلا أن الاحتمال تارة يقرب وتارة يبعد، فإن قرب كفى في إثباته دليل قريب، وإن لم يكن بالغا في القوة، وإن كان بعيدا افتقر إلى دليل قوي يجبر بعده حتى يكون ركوب ذلك الاحتمال البعيد أغلب على الظن من مخالفة ذلك الدليل، وقد يكون ذلك الدليل قرينة وقد يكون قياسا، وقد يكون ظاهرا آخر أقوى منه، ورب تأويل لا ينقدح إلا بتقدير قرينة وإن لم تنقل القرينة، كقوله عليه السلام: إنما الربا في النسيئة فإنه يحمل على مختلفي الجنس، ولا ينقدح هذا التخصيص إلا بتقدير واقعة وسؤال عن مختلفي الجنس ولكن يجوز تقدير مثل هذه القرينة إذا اعتضد بنص، وقوله عليه السلام: لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء نص في إثبات ربا الفضل، وقوله: إنما الربا في النسيئة حصر للربا في النسيئة، ونفي لربا الفضل، فالجمع بالتأويل البعيد الذي ذكرناه أولى من مخالفة النص، ولهذا المعنى كان الاحتمال البعيد كالقريب في العقليات، فإن دليل العقل لا تمكن مخالفته بوجه ما، والاحتمال البعيد يمكن أني يكون مرادا باللفظ بوجه ما، فلا يجوز التمسك في العقليات إلا بالنص بالوضع الثاني، وهو الذي لا يتطرق إليه احتمال قريب ولا بعيد، ومهما كان الاحتمال قريبا وكان الدليل أيضا قريبا وجب على المجتهد الترجيح والمصير إلى ما يغلب على ظنه.، فليس كل تأويل مقبولا بوسيلة كل دليل، بل ذلك يختلف، ولا يدخل تحت ضبط، إلا أنا نضرب أمثلة فيما يرتضي من التأويل وما لا يرتضي ونرسم في كل مثال مسألة ونذكر لاجل المثال عشر مسائل خمسة في تأويل العموم وخمسة في تخصيص العموم.