عرض مشاركة واحدة
قديم 12-06-2012, 03:14 PM   #39
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه


الأصل الرابع‏:‏ دليل العقل والاستصحاب
اعلم أن الاحكام السمعية لا تدرك بالعقل، لكن دل العقل على براءة الذمة عن الواجبات، وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل عليهم السلام وتأييدهم بالمعجزات، وانتفاء الاحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع، ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع، فإذا ورد نبي وأوجب خمس صلوات فتبقى الصلاة السادسة غير واجبة، لا بتصريح النبي بنفيها لكن كان وجوبها منتفيا، إذ لا مثبت للوجوب فبقي على النفي الأصلي لان نطقه بالايجاب قاصر على الخمسة، فبقي على النفي في حق السادسة، وكأن السمع لم يرد، وكذلك إذا أوجب صوم رمضان بقي صوم شوال على النفي الأصلي، وإذا أوجب عبادة في وقت بقيت الذمة بعد انقضاء الوقت على البراءة الأصلية، وإذا أوجب على القادر بقي العاجز على ما كان عليه، فإذا النظر في الاحكام إما أن يكون في إثباتها أو في نفيها، أما إثباتها فالعقل قاصر عن الدلالة عليه، وأم النفي فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد الدليل السمعي بالمعنى الناقل من النفي الأصلي، فانتهض دليلا على أحد الشطرين وهو النفي، فإن قيل‏:‏ إذا كان العقل دليلا بشرط أن لا يرد سمع فبعد بعثة الرسل ووضع الشرع لا يعلم نفي السمع، فلا يكون انتفاء الحكم معلوما، ومنتهاكم عدم العلم بورود السمع وعدم العلم لا يكون حجة‏؟‏ قلنا‏:‏ انتفاء الدليل السمعي قد يعلم، وقد يظن، فإنا نعلم أنه لا دليل على وجوب صوم شوال، ولا على وجوب صلاة سادسة، إذ نعلم أنه لو كان لنقل وانتشر ولما خفي على جميع الامة، وهذا علم بعدم الدليل، وليس هو عدم العلم بالدليل، فإن عدم العلم بالدليل ليس بحجة، والعلم بعدم الدليل حجة أما الظن، فالمجتهد إذا بحث عن مدارك الأدلة في وجوب الوتر والاضحية وأمثالهما فرآها ضعيفة ولم يظهر له دليل مع شدة بحثه وعنايته بالبحث غلب على ظنه انتفاء الدليل، فنزل ذلك منزلة العلم في حق العمل، لانه ظن استند إلى بحث واجتهاد، وهو غاية الواجب على المجتهد، فإن قيل‏:‏ ولم يستحيل أن يكون واجبا ولا يكون عليه دليل، أو يكون عليه دليل لم يبلغنا‏؟‏ قلنا‏:‏ أما إيجاب ما لا دليل عليه فمحال، لانه تكليف بما لا يطاق، ولذلك نفينا الاحكام قبل ورود السمع، وأما إن كان عليه دليل ولم يبلغنا فليس دليلا في حقنا، إذ لا تكليف علينا إلا فيما بلغنا، فإن قيل‏:‏ فيقدر كل عامي أن ينفي مستندا إلى أنه لم يبلغه الدليل‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا إنما يجوز للباحث المجتهد المطلع على مدارك الأدلة القادر على الاستقصاء، كالذي يقدر على التردد في بيته لطلب متاع إذا فتش وبالغ، أمكنه أن يقطع بنفي المتاع، أو يدعي غلبة الظن، أما الاعمى الذي لا يعرف البيت ولا يبصر ما فيه فليس له أن يدعي نفي المتاع من البيت، فإن قيل‏:‏ وهل للاستصحاب معنى سوى ما ذكرتموه‏؟‏ قلنا‏:‏ يطلق الاستصحاب على أربعة أوجه يصح ثلاثة منها‏:‏ الأول‏:‏ ما ذكرناه‏.‏ والثاني‏:‏ استصحاب العموم إلى أن يرد تخصيص واستصحاب النص إلى أن يرد نسخ، أما العموم فهو دليل عند القائلين به، وأما النص فهو دليل على دوام الحكم بشرط أن لا يرد نسخ، كما دل العقل على البراءة الأصلية، بشرط أن لا يرد سمع مغير‏.‏ الثالث‏:‏ استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه، كالملك عند جريان العقد المملك وكشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام، فإن هذا وإن لم يكن حكما أصليا فهو حكم شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعا ولولا دلالة الشرع على دوامه إلى حصول براءة الذمة لما جاز استصحابه، فالاستصحاب ليس بحجة إلا فيما دل الدليل على ثبوته ودوامه بشرط عدم المغير، كما دل على البراءة العقل وعلى الشغل السمعي وعلى الملك الشرعي، ومن هذا القبيل الحكم بتكرر اللزوم والوجوب إذا تكررت أسبابها، كتكرر شهر رمضان وأوقات الصلوات، ونفقات الاقارب عند تكرر الحاجات، إذا أفهم انتصاب هذه المعاني أسبابا لهذه الاحكام من أدلة الشرع إما بمجرد العموم عند القائلين به أو بالعموم وجملة من القرائن عند الجميع، وتلك القرائن تكريرات وتأكيدات وإمارات عرف حملة الشريعة قصد الشارع إلى نصبها أسبابا، إذا لم يمنع مانع، فلولا دلالة الدليل على كونها أسبابا لم يجز استصحابها، فإذن الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي، وليس راجعا إلى عدم العلم بالدليل، بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغير أو مع ظن انتفاء المغير عند بذل الجهد في البحث والطلب‏.‏ الرابع‏:‏ استصحاب الإجماع في محل الخلاف وهو غير صحيح ولنرسم فيه وفي افتقار النافي إلى دليل مسألتين‏:‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏استصحاب الإجماع‏)‏
لا حجة في استصحاب الإجماع في محل الخلاف خلافا لبعض الفقهاء، ومثاله المتيمم إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة، لان الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها فطريان وجود الماء، كطريان هبوب الريح، وطلوع الفجر، وسائر الحوادث، فنحن نستصحب دوام الصلاة إلى أن يدل دليل على كون رؤية الماء قاطعا للصلاة، وهذا فاسد، لان هذا المستصحب لا يخلو إما أن يقر بأنه لم يقم دليلا في المسألة لكن قال‏:‏ أنا ناف ولا دليل على النافي، وأما أن يظن أنه أقام دليلا، فإن أقر بأنه لم يدل فسنبين وجوب الدليل على النافي، وإن ظن أنه أقام دليلا فقد أخطأ، فإنا نقول‏:‏ إنما يستدام الحكم الذي دل الدليل على دوامه، فالدليل على دوام الصلاة ههنا لفظ الشارع أو إجماع، فإن كان لفظا فلا بد من بيان لذلك اللفظ، فلعله يدل على دوامها عند العدم لا عند الوجود فإن دل بعمومه على دوامها عند العدم والوجود جميعا، كان ذلك تمسكا بعموم عند القائلين به فيجب إظهار دليل التخصيص، وإن كان ذلك بإجماع، فالإجماع منعقد على دوام الصلاة عند العدم، أما حال الوجود فهو مختلف فيه، ولا إجماع مع الخلاف، ولو كان الإجماع شاملا حال الوجود لكان المخالف خارقا للإجماع، كما أن المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الفجر خارق للإجماع، لان الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب، وانعقد مشروطا بعدم الماء، فإذا وجد فلا إجماع فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه بعلة جامعة، فأما أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع فهو محال، وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يدل دليل السمع، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع، وههنا انعقد الإجماع بشرط العدم، وانتفى الإجماع عند الوجوب أيضا فهذه الدقيقة وهي أن كل دليل يضاد نفس الخلاف، فلا يمكن استصحابه مع الخلاف، والإجماع يضاده نفس الخلاف، إذ لا إجماع مع الخلاف، بخلاف العموم والنص، ودليل العقل، فإن الخلاف لا يضاده، فإن المخالف مقر بأن العموم مقر بأن العموم تناول بصيغته محل الخلاف إذ قوله صلى الله عليه وسلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل شامل بصيغته صوم رمضان، مع خلاف الخصم فيه فيقول‏:‏ أسلم شمول الصيغة، لكني أخصصه بدليل فعليه الدليل وهاهنا، المخالف لا يسلم شمول الإجماع محل الخلاف، إذ يستحيل الإجماع مع الخلاف، ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل، فهذه الدقيقة لا بد من التنبه لها، فإن قيل‏:‏ الإجماع يحرم الخلاف، فكيف يرتفع بالخلاف، قلنا‏:‏ هذا الخلاف غير محرم بالإجماع، وإنما لم يكن المخالف خارقا للإجماع، لان الإجماع إنما انعقد على حالة العدم لا على حالة الوجود، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل، فإن قيل‏:‏ فالدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلى أن يقوم دليل على انقطاعه، قلنا‏:‏ فلينظر في ذلك الدليل، أهو عموم أو نص يتناول حالة الوجود أم لا، فإن كان هو الإجماع مشروط بالعدم، فلا يكون دليلا عند الوجود، فإن قيل‏:‏ بم تنكرون على من يقول الأصل أن كل ما ثبت دام إلى وجود قاطع، فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه، بل الثبوت هو الذي يحتاج إلى الدليل، كما أنه إذا ثبت موت زيد، وثبت بناء دار أو بلد، كان دوامه بنفسه لا بسبب‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا وهم باطل، لان كل ما ثبت جاز أن يدوم، فلا بد لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت، ولولا دليل العادة على أن من مات لا يحيا، والدار إذا بنيت لا تنهدم ما لم تهدم أو يطول الزمان لما عرفنا دوامه بمجرد ثبوته، كما إذا أخبر عن قعود الامير وأكله، ودخوله الدار، ولم تدل العادة على دوام هذه الاحوال فإنا لا نقضي بدوام هذه الاحوال أصلا، فكذلك خبر الشرع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع الوجود، فيفتقر دوامها إلى دليل آخر‏.‏ فإن قيل‏:‏ ليس هو مأمورا بالشروع فقط، بل بالشروع مع الاتمام‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم، هو مأمور بالشروع مع العدم، وبالاتمام مع العدم، أما مع وجود فهو محل الخلاف، فما الدليل على أنه مأمور في حالة الوجود بالاتمام‏.‏ فإن قيل‏:‏ لانه منهي عن إبطال العمل، وفي استعمال الماء إبطال العمل، قلنا‏:‏ هذا الامر إنجرار إلى ما جررناكم إليه، وانقياد للحاجة إلى الدليل، وهذا الدليل وإن كان ضعيفا فبيان ضعفه ليس من حظ الاصولي، ثم هو ضعيف، لانه إن أردتم بالبطلان إحباط ثوابه فلا نسلم أنه لا يثاب على فعله، وإن أردتم أنه أوجب عليه مثله فليس الصحة عبارة عما لا يجب فعل مثله على ما قررناه من قبل فإن قيل‏:‏ الأصل أنه لا يجب شئ بالشك ووجوب استئناف الصلاة مشكوك فيه، فلا يرتفع به اليقين، قلنا‏:‏ هذا يعارضه أن وجوب المضي في هذه الصلاة مشكوك فيه، وبراءة الذمة بهذه الصلاة مع وجود الماء مشكوك فيه، فلا يرتفع به اليقين، ثم نقول‏:‏ من يوجب الاستئناف يوجبه بدليل يغلب على الظن، كما يرفع البراءة الأصلية بدليل يغلب على الظن، كيف واليقين قد يرفع بالشك في بعض المواضع، فالمسائل فيه متعارضة، وذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة، ورضيعة بأجنبية، وماء طاهر بماء نجس، ومن نسي صلاة من خمس صلوات احتجوا بأن الله تعالى صوب الكفار في مطالبتهم للرسل بالبرهان حين قال تعالى‏:‏ ‏{‏تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين‏}‏ ‏(‏إبراهيم‏:‏ 01‏)‏ فقد اشتغل الناس بالبراهين المغيرة للاستصحاب، قلنا‏:‏ لانهم لم يستصحبوا الإجماع، بل النفي الأصلي الذي دل العقل عليه، إذ الأصل في فطرة الآدمي أن لا يكون نبيا، وإنما يعرف ذلك بآيات وعلامات، فهم مصيبون في طلب البرهان ومخطئون في المقام على دين آبائهم بمجرد الجهل من غير برهان‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏النافي هل عليه دليل‏؟‏‏)‏
اختلفوا في أن النافي هل عليه دليل‏؟‏ فقال قوم‏:‏ لا دليل عليه، وقال قوم‏:‏ لا بد من الدليل، وفرق فريق ثالث بين العقليات والشرعيات، فأوجبوا الدليل في العقليات دون الشرعيات‏.‏ والمختار أن ما ليس بضروري فلا يعرف إلا بدليل، والنفي فيه كالاثبات، وتحقيقه أن يقال للنافي‏:‏ ما ادعيت نفيه عرفت انتفاءه، أو أنت شاك فيه، فإن أقر بالشك فلا يطالب الشاك بالدليل، فإنه يعترف بالجهل وعدم المعرفة، وإن قال‏:‏ أنا متيقن للنفي، قيل‏:‏ يقينك هذا حصل عن ضرورة أو عن دليل، ولا تعد معرفة النفي ضرورة، فإنا نعلم أنا لسنا في لجة بحر أو على جناح نسر، وليس بين أيدينا نيل ولا تعد معرفة النفي ضرورة، وإن لم يعرفه ضرورة فإنما عرفه عن تقليد أو عن نظر، فالتقليد لا يفيد العلم، فإن الخطأ جائز على المقلد والمقلد معترف بعمى نفسه، وإنما يدعي البصيرة لغيره، وإن كان عن نظر فلا بد من بيانه، فهذا أصل الدليل، ويتأيد بلزوم إشكالين بشعين على إسقاط الدليل عن النافي، وهو أن لا يجب الدليل على نافي حدوث العالم، ونافي الصانع ونافي حدوث العالم، ونافي الصانع ونافي النبوات ونافي تحريم الزنا والخمر والميتة ونكاح المحارم وهو محال، والثاني‏:‏ أن الدليل إذا سقط عن هؤلاء لم يعجز أن يعبر المثبت عن مقصود إثباته بالنفي، فيقول بدل قوله‏:‏ محدث، إنه ليس بقديم، وبدل قوله‏:‏ قادر إنه ليس بعاجز وما يجري مجراه‏.‏ ولهم في المسألة شبهتان‏:‏ الشبهة الأولى‏:‏ قولهم أنه لا دليل على المدعى عليه بالدين لانه ناف، والجواب من أربعة أوجه‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏‏:‏ أن ذلك ليس لكونه نافيا، ولا لدلالة العقل على سقوط الدليل عن النافي، بل ذلك بحكم الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ البينة على المدعي واليمين على من أنكر ولا يجوز أن يقاس عليه غيره، لان الشرع إنما قضى به للضرورة إذ لا سبيل إلى إقامة دليل على النفي، فإن ذلك إنما يعرف بأن يلازمه عدد التواتر من أول وجوده إلى وقت الدعوى، فيعلم انتفاء سبب اللزوم قولا وفعلا بمراقبة اللحظات، فكيف يكلف إقامة البرهان على ما يستحيل إقامة البرهان عليه، بل المدعي أيضا لا دليل عليه، لان قول الشاهدين لا يحصل المعرفة، بل الظن بجريان سبب اللزوم من إتلاف أو دين وذلك في الماضي، أما في الحال فلا يعلم الشاهد شغل الذمة، فإنه يجوز براءتها بأداء أو إبراء، ولا سبيل للخلق إلى معرفة شغل الذمة وبراءتها إلا بقول الله تعالى وقول الرسول المعصوم، ولا ينبغي أن يظن أن على المدعي أيضا دليلا، فإن قول الشاهد إنما صار دليلا بحكم الشرع، فإن جاز ذلك فيمين المدعى عليه أيضا لازم، فليكن ذلك دليلا‏.‏ ‏(‏والجواب الثاني‏)‏‏:‏ أن المدعى عليه يدعي علم الضرورة ببراءة ذمة نفسه، إذ يتيقن أنه لم يتلف ولم يلتزم ويعجز الخلق كلهم عن معرفته، فإنه لا يعرفه إلا الله تعالى‏:‏ فالنافي في العقليات إن ادعى معرفة إن ادعى معرفة النفي ضرورة فهو محال، وإن أقر بأنه مختص بمعرفته اختصاصا لا يمكن أن يشاركه فيه إلا الله، فعند ذلك لا يطالب بالدليل، وكذلك أنه إذا أخبر عن نفسه بنفي الجوع ونفي الخوف وما جرى مجراه، وعند ذلك يستوي الاثبات والنفي، فإنه لو ادعى وجود الجوع والخوف كان ذلك معلوما له ضرورة، ويعسر على غيره معرفته، والعقليات مشتركة النفي منها و الاثبات والمحسوسات أيضا يستوي فيها النفي والاثبات‏.‏ ‏(‏الثالث‏)‏‏:‏ أن النافي في مجلس الحكم عليه دليل وهي اليمين كما على المدعي دليل وهو البينة، وهذا ضعيف، إذ اليمين يجوز أن تكون فاجرة، فأي دلالة لها من حيث العقل، لولا حكم الشرع نعم هو كالبينة، فإن قول الشاهدين أيضا يجوز أن يكون غلطا وزورا، فاستعماله من هذا الوجه صحيح كما سبق، أو يقال‏:‏ كما وجب على النافي في مجلس القضاء أن يعضد جانبه بزيادة على دعوى النفي فليجب ذلك في الاحكام فهذا أيضا له وجه‏.‏ ‏(‏الرابع‏)‏‏:‏ أن يد المدعى عليه دليل على نفي ملك المدعي وهو ضعيف، لان اليد تسقط دعوى المدعي شرعا، وإلا فاليد قد تكون عن غصب وعارية فأي دلالة لها‏.‏ ‏(‏الشبهة الثانية‏)‏‏:‏ وهي أنه كيف يكلف الدليل على النفي، وهو متعذر كإقامة الدليل على براءة الذمة، فنقول‏:‏ تعذره غير مسلم، فإن النزاع إما في العقليات وإما في الشرعيات، أما العقليات فيمكن أن يدل على نفيها بأن إثباتها يفضي إلى المحال، وما أفضى إلى المحال فهو محال لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏}‏ ‏(‏الانبياء‏:‏ 22‏)‏ ومعلوم أنهما لم تفسدا، فدل ذلك على نفي الثاني، ويمكن إثباته بالقياس الشرطي الذي سميناه في المقدمة طريق التلازم‏:‏ فإن كل إثبات له لوازم، فانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وكذلك المتحدي ليس نبيا، إذ لو كان نبيا لكان معه معجزة، إذ تكليف المحال محال فهذا طريق وهو الصحيح‏.‏ الطريق الثاني‏:‏ أن يقال للمثبت لو ثبت ما ادعيته لعلم ذلك بضرورة أو دليل، ولا ضرورة مع الخلاف ولا دليل، فيدل ذلك على الانتفاء، وهذا فاسد، فإنه ينقلب على النافي فيقال له‏:‏ لو انتفى الحكم لعلم انتفاؤه بضرورة أو بدليل ولا ضرورة ولا دليل، ولا يمكنه أن يتمسك بالاستصحاب، بأن يقول مثلا‏:‏ الأصل عدم إله ثان، فمن ادعاه فعليه الدليل، إذ لا يسلم له أن الأصل العدم بخلاف البراءة الأصلية، فإن العقل قد دل على نفي الحكم قبل السمع من حيث دل على أن الحكم هو التكليف والخطاب من الله تعالى وتكليف المحال محال، ولو كلفناه من غير رسول مصدق بالمعجزة يبلغ إلينا تكليفه، كان ذلك تكليف محال، فاستندت البراءة الأصلية إلى دليل عقلي بخلاف عدم الاله الثاني، وأما قولهم‏:‏ لو ثبت إله ثان لكان لله تعالى عليه دليل فهو تحكم من وجهين‏:‏ ‏(‏أحدهما‏)‏‏:‏ أنه يجوز أن لا ينصب الله تعالى على بعض الاشياء دليلا، ويستأثر بعلمه‏.‏ ‏(‏الثاني‏)‏‏:‏ إنه يجوز أن ينصب عليه دليلا، ونحن لا نتنبه له، ويتنبه له بعض الخواص أو بعض الانبياء ومن خصص بحاسة سادسة وذوق أخر، بل الذي يقطع به أن الانبياء يدركون أمورا نحن لا ندركها وأن في مقدورات الله أمورا ليس في قوة البشر معرفتها، ويجوز أن يكون لله تعالى صفات لا تدرك بهذه الحواس ولا بهذا العقل، بل بحاسة سادسة أو سابعة، بل لا يستحيل أن تكون اليد والوجه عبارة عن صفات لا نفهمها ولا دليل عليها، ولو لم يرد السمع بها لكان نفيها خطأ، فلعل من الصفات من هذا القبيل ما لم يرد السمع بالتعبير عنه، ولا فينا قوة إدراكها، بل لو لم يخلق لنا السمع لانكرنا الاصوات ولم نفهمها، ولو لم يخلق لنا ذوق الشعر لانكرنا تفرقة صاحب العروض بين الموزون وغير الموزون، فما يدرينا أن في قدرة الله تعالى أنواعا من الحواس، لو خلقها لنا لادركنا بها أمورا أخر نحن ننفيها، فكان هذا إنكارا بالجهل ورميا في العماية، أما الشرعيات فقد تصادف الدليل عليها من الإجماع، كنفي وجوب صوم شوال وصلاة الضحى، أو النص، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا زكاة في الحلى، ولا زكاة في المعلوفة أو من القياس، كقياس الخضراوات على الرمان والبطيخ المنصوص على نفي الزكاة عنه، كقول الراوي‏:‏ لا زكاة في الرمان والبطيخ، بل هو عفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لا يساعد مثل هذا الدليل فنبحث عن مدارك الاثبات، فإذا لم نجد رجعنا إلى الاستصحاب للنفي الأصلي الثابت بدليل العقل، وهو دليل عند عدم ورود السمع، وحيث أوردنا في تصانيف الخلاف أن النافي لا دليل عليه أردنا به أنه ليس عليه دليل سمعي، إذ يكفيه استصحاب البراءة الأصلية التي كنا نحكم بها لولا بعثة الرسول وورود السمع، فإن قيل‏:‏ دليل العقل مشروط بانتفاء السمع، وانتفاء السمع غير معلوم، وعدم العلم به لا يدل على عدمه ولا سبيل إلى دعوى العلم بانتفائه، فإن ذلك لا يعلم‏؟‏ قلنا‏:‏ قد بينا أن انتفاءه تارة يعلم كما في انتفاء وجوب صوم شوال وصلاة الضحى، وتارة يظن بأن يبحث من هو من أهل البحث عن مدارك الشرع، والظن فيه كالعلم لانه صادر عن اجتهاد، إذ قد يقول لو كان لوجدته، فإذا لم أجده مع شدة بحثي دل على أنه ليس بكائن، كطالب المتاع في البيت إذا استقصى، فإن قيل أليس للاستقصاء غاية محدودة، بل للبحث بداية ووسط ونهاية، فمتى يحل له أن ينفي الدليل السمعي المغير‏؟‏ قلنا‏:‏ مهما رجع رجع إلى نفسه فعلم أنه بذل غاية وسعه في الطلب كطالب المتاع في البيت، فإن قيل‏:‏ البيت محصور وطلب اليقين فيه ممكن، ومدارك الشرع غير محصورة، فإن الكتاب وإن كان محصورا فالاخبار غير محصورة، وربما كان راوي الحديث مجهولا‏؟‏ قلنا‏:‏ إن كان ذلك في ابتداء الاسلام قبل انتشار الاخبار، ففرض كل مجتهد ما هو جهد رأيه إلى أن يبلغه الخبر، وإن كان بعد أن رويت الاخبار وصنفت الصحاح، فما دخل فيها محصور عند أهلها وقد انتهى إلى المجتهدين وأوردوها في مسائل الخلاف‏.‏ وعلى الجملة‏:‏ فدلالة العقل على النفي الأصلي مشروطة بنفي المغير، كما أن دلالة العموم مشروطة بنفي المخصص، وكل واحد من المخصص والمغير تارة يعلم انتفاؤه وتارة يظن وكل واحد دليل في الشرع‏.‏ هذا تمام الكلام في الأصل الرابع وهو منتهى الكلام في القطب الثاني المشتمل على أصول الأدلة المثمرة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة خاتمة لهذا القطب ببيان أن ثم ما يظن أنه من أصول الأدلة وليس منها
وهو أيضا أربعة‏:‏ شرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستحسان، والاستصلاح‏.‏ فهذه أيضا لا بد من شرحها‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة الأصل الأول‏:‏ من الاصول الموهومة شرع من قبلنا من الانبياء فيما لم يصرح شرعنا بنسخه
ونقدم على هذا الأصل

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة وهي أنه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه هل كان متعبدا بشرع أحد من الانبياء
منهم من قال‏:‏ لم يكن متعبدا، ومنهم من قال‏:‏ كان متعبدا، ثم منهم من نسبه إلى نوح عليه السلام، وقوم نسبوه إلى إبراهيم عليه السلام، وقوم نسبوه إلى موسى، وقوم إلى عيسى عليهما السلام، والمختار أن جميع هذه الاقسام جائز عقلا، لكن الواقع منه غير معلوم بطريق قاطع، ورجم الظن فيما لا يتعلق به الآن تعبد عملي لا معنى له، فإن قيل‏:‏ الدليل القاطع على أنه لم يكن على ملة أنه لو كان لافتخر به أولئك القوم ونسبوه إلى أنفسهم، ولكان يشتهر تلبسه بشعارهم وتتوفر الدواعي على نقله‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا يعارضه أنه لو كان منسلخا عن التكليف والتعبد بالشرائع لظهر مخالفته أصناف الخلق وتوفرت الدواعي على نقله ويشبه أن يكون اختفاء حاله قبل البعث معجزة خارقة للعادة وذلك من عجائب أموروه، وللمخالف شبهتان‏:‏ الأولي‏:‏ أن موسى وعيسى دعوا إلى دينهما كافة المكلفين من عباد الله تعالى، فكان هو داخلا تحت العموم، وهذا باطل من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه لم ينقل إلينا على التواتر عنهما عموم صيغة حتى ننظر في فحواه، فلا مستند لهذه الدعوى إلا المقايسة بدين نبينا صلى الله عليه وسلم، والمقايسة في مثل هذا باطل وإن كان عموم فلعله استثنى عنه من ينسخ شريعتهما‏.‏ الثاني‏:‏ أنه ربما كان زمانه زمان فترة الشرائع واندراسها وتعذر القيام بها، ولاجله بعث صلى الله عليه وسلم، فمن أين يعلم قيام الحجة على تفصيل شريعتهما‏.‏ الثانية‏:‏ من شبههم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ويحج ويعتمر ويتصدق ويذبح الحيوان ويجتنب الميتة، وذلك لا يرشد إليه العقل‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا فاسد من وجهين‏:‏ ‏(‏أحدهما‏)‏‏:‏ أن شيئا من ذلك لم يتواتر بنقل مقطوع به ولا سبيل إلى إثباته بالظن‏.‏ ‏(‏الثاني‏)‏‏:‏ أنه ربما ذبح الحيوان بناء على أنه لا تحريم إلا بالسمع، ولا حكم قبل ورود الشرع وترك الميتة عيافة بالطبع، كما ترك أكل الضب عيافة، والحج والصلاة إن صح فلعله فعله تبركا بما نقل جملته من أنبياء السلف وإن اندرس تفصيله، ونرجع الآن إلى الأصل المقصود وهو أنه بعد بعثته هل كان متعبدا بشريعة من قبله‏؟‏ والقول في الجواز العقلي والوقوع السمعي‏.‏ أما الجواز العقلي‏:‏ فهو حاصل، إذ لله تعالى أن يتعبد عباده بما شاء من شريعة سابقة أو مستأنفة، أو بعضها سابقة وبعضها مستأنفة، ولا يستحيل منه شئ لذاته ولا لمفسدة فيه، وزعم بعض القدرية أنه لا يجوز بعثة نبي إلا بشرع مستأنف، فإنه إن لم يجدد أمرا فلا فائدة في بعثته، ولا يرسل الله تعالى رسولا بغير فائدة، ويلزمهم على هذا تجويز بعثته بمثل تلك الشريعة إذا كانت قد اندرست، وإرساله بمثلها إذا كانت قد اشتملت على زوائد، وأن يكون الأول مبعوثا إلى قوم، والثاني مبعوثا إليهم وإلى غيرهم، ولعلهم يخالفون إذا كانت الأولى غضة طرية، ولم تشتمل الثانية على مزيد، فنقول‏:‏ يدل على جوازه ما يدل على جواز نصب دليلين وبعثة رسولين معا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث‏}‏ ‏(‏يس‏:‏ 41‏)‏ وكما أرسل موسى وهارون وداود وسليمان، بل كخلق العينين مع الاكتفاء في الابصار بإحداهما، ثم كلامهم بناء على طلب الفائدة في أفعال الله تعالى، وهو تحكم‏.‏ أما الوقوع السمعي‏:‏ فلا خلاف في أن شرعنا ليس بناسخ جميع الشرائع بالكلية، إذ لم ينسخ وجوب الايمان، وتحريم الزنا والسرقة والقتل والكفر، ولكن حرم عليه صلى الله عليه وسلم هذه المحظورات بخطاب مستأنف، أو بالخطاب الذي نزل إلى غيره وتعبد باستدامته، ولم ينزل عليه الخطاب إلا بما خالف شرعهم، فإذا نزلت واقعة لزمه اتباع دينهم، إلا إذا أنزل عليه وحي مخالف لما سبق، فإلى هذا يرجع الخلاف والمختار أنه لم يتعبد صلى الله عليه وسلم بشريعة من قبله ويدل عليه أربعة مسالك‏:‏ المسلك الأول‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له‏:‏ بم تحكم‏؟‏ قال‏:‏ بالكتاب والسنة والاجتهاد، ولم يذكر التوراة والانجيل وشرع من قبلنا، فزكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصوبه، ولو كان ذلك من مدارك الاحكام لما جاز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه، فإن قيل‏:‏ إنما لم يذكر التوراة والانجيل، لان في الكتاب آيات تدل على الرجوع إليهما‏؟‏ قلنا‏:‏ سنبين سقوط تمسكهم بتلك الآيات، بل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 84‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ثم نقول في الكتاب ما يدل على اتباع السنة والقياس، فكان ينبغي أن يقتصر على ذكر الكتاب، فإن شرع في التفصيل كانت الشريعة السابقة أهم مذكور، فإن قيل‏:‏ اندرجت التوراة والانجيل تحت الكتاب، فإنه اسم يعم كل كتاب‏؟‏ قلنا‏:‏ إذا ذكر الكتاب والسنة لم يسبق إلى فهم المسلمين شئ سوى القرآن وكيف يفهم غيره ولم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والانجيل، والعناية بتمييز المحرف عن غيره، كما عهد منه تعلم القرآن‏؟‏ ولو وجب ذلك لتعلمه جميع الصحابة، لانه كتاب منزل لم ينسخ إلا بعضه، وهو مدرك بعض الاحكام، ولم يتعهد حفظ القرآن، إلا لهذه العلة، وكيف وطالع عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة، فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت عيناه وقال‏:‏ لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي‏؟‏‏.‏ المسلك الثاني‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم لو كان متعبدا بها للزمه مراجعتها والبحث عنها، وكان لا ينتظر الوحي، ولا يتوقف في الظهار ورمي المحصنات والمواريث، ولكان يرجع أولا إليها، لا سيما أحكام هي ضرورة كل أمة، فلا تخلو التوراة عنها، فإن لم يراجعها لاندراسها وتحريفها فهذا يمنع التعبد، وإن كان ممكنا فهذا يوجب البحث والتعلم ولم يراجع قط إلا في رجم اليهود ليعرفهم أن ذلك ليس مخالفا لدينهم‏.‏ المسلك الثالث‏:‏ أن ذلك لو كان مدركا لكان تعلمها ونقلها وحفظها من فروض الكفايات، كالقرآن والاخبار، ولوجب على الصحابة مراجعتها في تعرف الاحكام، كما وجب عليهم المناشدة في نقل الاخبار ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم كمسألة العول، وميراث الجد، والمفوضة، وبيع أم الولد، وحد الشرب والربا في غير النسيئة ومتعة النساء، ودية الجنين، وحكم المكاتب إذا كان عليه شئ من النجوم، والرد بالعيب بعد الوطئ والتقاء الختانين، وغير ذلك من أحكام لا تنفك الاديان والكتب عنها، ولم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة، لا سيما وقد أسلم من أخبارهم من تقوم الحجة بقولهم، كعبد الله بن سلام، وكعب الاحبار، ووهب، وغيرهم، ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب، فكيف يحصل القياس قبل العلم‏؟‏ المسلك الرابع‏:‏ إطباق الامة قاطبة على أن هذه الشريعة ناسخة، وأنها شريعة رسولنا صلى الله عليه وسلم بجملتها، ولو تعبد بشرع غيرها لكان مخبرا لا شارعا ولكان صاحب نقل لا صاحب شرع، إلا أن هذا ضعيف لانه إضافة تحتمل المجاز، وأن معلوما بواسطته وإن لم يكن هو شارعا لجميعه‏.‏ وللمخالف التمسك بخمس آيات وثلاثة أحاديث‏:‏ ‏(‏الآية الأولى‏)‏‏:‏ أنه تعالى لما ذكر الانبياء قال‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 09‏)‏‏.‏ قلنا‏:‏ أراد بالهدى التوحيد ودلالة الأدلة العقلية على وجدانيته وصفاته بدليلين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏{‏فبهداهم اقتده‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 09‏)‏ ولم يقل بهم، وإنما هداهم الأدلة التي ليست منسوبة إليهم، أما الشرع فمنسوب إليهم فيكون اتباعهم فيه اقتداء بهم‏.‏ الثاني‏:‏ أنه كيف أمر بجميع شرائعهم وهي مختلفة وناسخة ومنسوخة ومتى بحث عن جميع ذلك وشرائعهم كثيرة فدل على أنه أراد الهدى المشترك بين جميعهم وهو التوحيد‏.‏ ‏(‏الآية الثانية‏)‏‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة ابراهيم‏}‏ ‏(‏النحل‏:‏ 321‏)‏ وهذا يتمسك به من نسبه إلى إبراهيم عليه لسلام وتعارضه الآية الأولى، ثم لا حجة فيها إذ قال‏:‏ ‏{‏أوحينا إليك‏}‏ فوجب بما أوحي إليه لا بما أوحي إلى غيره وقوله‏:‏ ‏{‏أن اتبع‏}‏ أي افعل مثل فعله، وليس معناه كن متبعا له وواحدا من أمته، كيف والملة عبارة عن أصل الدين والتوحيد والتقديس الذي تتفق فيه جميع الشرائع، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 130‏)‏ ولا يجوز تسفيه الانبياء المخالفين له ويدل عليه أنه لم يبحث عن ملة إبراهيم، وكيف كان يبحث مع اندراس كتابه وأسناد أخباره‏.‏ ‏(‏الآية الثالثة‏)‏‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 31‏)‏ وهذا يتمسك به من نسبه إلى نوح عليه السلام، وهو فاسد، إذا تعارضه الآيتان السابقتان، ثم الدين عبارة عن أصل التوحيد، وإنما خصص نوحا بالذكر تشريفا له وتخصيصا، ومتى راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيل شرع نوح، وكيف أمكن ذلك مع أنه أقدم الانبياء وأشد الشرائع اندراسا، كيف وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا‏}‏ فلو قال شرع لنوح ما وصاكم به لكان ربما دل هذا على غرضهم وأما هذا فيصرح بضده‏.‏ ‏(‏الآية الرابعة‏)‏‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 44‏)‏ الآية، وهو أحد الانبياء فليحكم بها، واستدل بهذا من نسبه إلى موسى عليه السلام وتعارضه الآيات السابقة، ثم المراد بالنور والهدى أصل التوحيد، وما يشترك فيه النبيون دون الاحكام المعرضة للنسخ، ثم لعله أراد النبيين في زمانه دون من بعدهم، ثم هو على صيغة الخبر لا على صيغة الامر فلا حجة فيه، ثم يجوز أن يكون المراد حكم النبيين بها بأمر ابتدأهم به الله تعالى وحيا إليهم لا بوحي موسى عليه السلام‏.‏ ‏(‏الآية الخامسة‏)‏‏:‏ قوله تعالى بعد ذكر التوراة وأحكامها‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 44‏)‏ قلنا‏:‏ المراد به ومن لم يحكم بما أنزل الله مكذبا به وجاحدا له لا من حكم بما أنزل الله عليه خاصة، أو من لم يحكم به ممن أوجب عليه الحكم به من أمته وأمة كل نبي إذا خالفت ما أنزل على نبيهم، أو يكون المراد به يحكم بمثلها النبيون وإن كان بوحي خاص إليهم لا بطريق التبعية‏.‏ وأما الاحاديث‏:‏ فأولها‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم طلب منه القصاص في سن كسرت فقال‏:‏ كتاب الله يقضي بالقصاص وليس في القرآن قصاص السن إلا ما حكي عن التوراة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسن بالسن‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 54‏)‏ قلنا‏:‏ بل فيه‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 491‏)‏ فدخل السن تحت عمومه‏.‏ ‏(‏الحديث الثاني‏)‏‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏)‏‏:‏ من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وقرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 41‏)‏ وهذا خطاب مع موسى عليه السلام، قلنا‏:‏ ما ذكره صلى الله عليه وسلم تعليلا للايجاب، لكن أوجب بما أوحي إليه ونبه على أنهم أمروا كما أمر موسى، وقوله‏:‏ ‏{‏لذكري‏}‏ أي لذكر إيجابي للصلاة، ولولا الخبر لكان السابق إلى الفهم أنه لذكر الله تعالى بالقلب، أو لذكر الصلاة بالايجاب‏.‏ الحديث الثالث‏:‏ مراجعته ‏(‏صلى الله عليه وسلم التوراة في رجم اليهوديين وكان ذلك تكذيبا لهم في إنكار الرجم إذ كان يجب أن يراجع الانجيل فإنه آخر ما أنزل الله فلذلك لم يراجع في واقعة سوى هذه، والله أعلم‏.‏

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً  
عزيزنا الزائر لن تتمكن من مشاهدة التوقيع إلاَّ بتسجيل دخولك
قم بتسجيل الدخول أو قم بالتسجيل من هنا
رد مع اقتباس