عرض مشاركة واحدة
قديم 12-06-2012, 03:10 PM   #36
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه


نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة الأصل الثالث من أصول الأدلة‏:‏ الإجماع
وفيه أبواب
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة الباب الأول في إثبات كونه حجة على منكريه
ومن حاول إثبات كون الإجماع حجة افتقر إلى تفهيم لفظ الإجماع أولا، وبيان تصوره ثانيا، وبيان إمكان الاطلاع عليه ثالثا، وبيان الدليل على كونه حجة رابعا‏.‏ أما تفهيم لفظ الإجماع‏:‏ فإنما نعني به اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة على أمر من الامور الدينية، ومعناه في وضع اللغة‏:‏ الاتفاق والازماع، وهو مشترك بينهما، فمن أزمع وصمم العزم على إمضاء أمر يقال أجمع، والجماعة إذا اتفقوا يقال‏:‏ أجمعوا، وهذا يصلح لإجماع اليهود والنصارى، وللاتفاق في غير أمر الدين، لكن العرف خصص اللفظ بما ذكرناه، وذهب النظام إلى أن الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته، وإن كان قول واحد، وهو على خلاف اللغة والعرف، لكنه سواه على مذهبه، إذ لم ير الإجماع حجة، وتواتر إليه بالتسامع تحريم مخالفة الإجماع، فقال‏:‏ هو كل قول قامت حجته‏.‏ أما الثاني‏:‏ وهو تصوره‏:‏ فدليل تصوره وجوده، فقد وجدنا الامة مجمعة على أن الصلوات خمس وأن صوم رمضان واجب، وكيف يمتنع تصوره والامة كلهم متعبدون باتباع النصوص والأدلة القاطعة، ومعرضون للعقاب بمخالفتها، فكما لا يمتنع اجتماعهم على الاكل والشرب لتوافق الدواعي، فكذلك على اتباع الحق واتقاء النار، فإن قيل‏:‏ الامة مع كثرتها واختلاف دواعيها في الاعتراف بالحق والعناد فيه، كيف تتفق آراؤها فذلك محال منها، كاتفاقهم على أكل الزبيب مثلا في يوم واحد، قلنا‏:‏ لا صارف جميعهم إلى تناول الزبيب خاصة ولجميعهم باعث على الاعتراف بالحق، كيف وقد تصور إطباق اليهود مع كثرتهم على الباطل، فلم لا يتصور إطباق المسلمين على الحق، والكثرة إنما تؤثر عند تعارض الاشباه والدواعي والصوارف ومستند الإجماع في الاكثر نصوص متواترة وأمور معلومة ضرورة بقرائن الاحوال، والعقلاء كلهم فيه على منهج واحد، نعم‏:‏ هل يتصور الإجماع عن اجتهاد أو قياس‏؟‏ ذلك فيه كلام سيأتي إن شاء الله‏.‏ أما الثالث‏:‏ وهو تصور الاطلاع على الإجماع‏:‏ فقد قال قوم‏:‏ لو تصور إجماعهم فمن الذي يطلع عليهم مع تفرقهم في الاقطار‏؟‏ فنقول‏:‏ يتصور معرفة ذلك بمشافهتهم إن كانوا عددا يمكن لقاؤهم، وإن لم يمكن عرف مذهب قوم بالمشافهة، ومذهب الآخرين بأخبار التواتر عنهم، كما عرفنا أن مذهب جميع أصحاب الشافعي منع قتل المسلم بالذمي، وبطلان النكاح بلا ولي، ومذهب جميع النصارى التثليث، ومذهب جميع المجوس التثنية، فإن قيل‏:‏ مذهب أصحاب الشافعي وأبي حنيفة مستند إلى قائل واحد وهو الشافعي وأبو حنيفة، وقول الواحد يمكن أن يعلم، وكذلك مذهب النصارى يستند إلى عيسى عليه السلام، أما قول جماعة لا ينحصرون كيف يعلم‏؟‏ قلنا‏:‏ وقول أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أمور الدين يستند إلى ما فهموه من محمد صلى الله عليه وسلم وسمعوه منه، ثم إذا انحصر أهل الحل والعقد فكما يمكن أن يعلم قول واحد أمكن أن يعلم قول الثاني إلى العشرة والعشرين، فإن قيل‏:‏ لعل أحدا منهم في أسر الكفار وبلاد الروم‏؟‏ قلنا‏:‏ تجب مراجعته، ومذهب الاسير ينقل كمذهب غيره، وتمكن معرفته فمن شك في موافقته للآخرين لم يكن متحققا للإجماع، فإن قيل‏:‏ فلو عرف مذهبه ربما يرجع عنه بعده‏؟‏ قلنا‏:‏ لا أثر لرجوعه بعد انعقاد الإجماع، فإنه يكون محجوجا به ولا يتصور رجوع جميعهم إذ يصير أحد الإجماعين خطأ، وذلك ممتنع بدليل السمع‏.‏ أما الرابع‏:‏ وهو إقامة الحجة على استحالة الخطأ على الامة‏:‏ وفيه الشأن كله، وكونه حجة إنما يعلم بكتاب أو سنة متواترة أو عقل أما الإجماع فلا يمكن إثبات الإجماع به، وقد طمعوا في التلقي من الكتاب والسنة والعقل وأقواها السنة، ونحن نذكر المسالك الثلاثة‏:‏ المسلك الأول‏:‏ التمسك بالكتاب وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 341‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 011‏)‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏ ‏(‏الاعراف‏:‏ 181‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 301‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 011‏)‏ ومفهومه أن ما اتفقتم فيه فهو حق، وقوله عزوجل‏:‏ ‏{‏فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 95‏)‏ مفهومه إن اتفقتهم فهو حق فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض، بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر، وأقواها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 511‏)‏ فإن ذلك يوجب اتباع سبيل المؤمنين، وهذا ما تمسك به الشافعي وقد أطنبنا في كتاب تهذيب الاصول في توجيه الاسئلة على الآية ودفعها، والذي نراه أن الآية ليست نصافي الغرض، بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الاعداء عنه نوله ما تولى، فكأنه لم يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهي، وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم، فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل، ولو فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية بذلك لقبل، ولم يجعل ذلك رفعا للنص، كما لو فسر المشاقة بالموافقة واتباع سبيل المؤمنين بالعدول عن سبيلهم‏.‏ المسلك الثاني‏:‏ وهو الاقوى التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تجتمع أمتي على الخطأ وهذا من حيث اللفظ أقوى وأدل على المقصود ولكن ليس بالمتواتر، كالكتاب، والكتاب متواتر، لكن ليس بنص، فطريق تقرير الدليل أن نقول تظاهرت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الامة من الخطأ، واشتهر على لسان المرموقين والثقات من الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم ممن يطول ذكره من نحو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تجتمع أمتي على الضلالة، ولم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة وسألت الله تعالى أن لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيها ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم، وإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يد الله مع الجماعة، ولا يبالي الله بشذوذ من شذ ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم وروي‏:‏ لا يضرهم خلاف من خالفهم إلا ما أصابهم من لاواء ومن خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه، ومن فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية‏.‏ وهذه الاخبار لم تزل ظاهرة في الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا، لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الامة وخلفها، بل هي مقبولة من موافقي الامة ومخالفيها، ولم تزل الامة تحتج بها في أصول الدين وفروعه، فإن قيل‏:‏ فما وجه الحجة ودعوى التواتر في آحاد هذه الاخبار غير ممكن ونقل الآحاد لا يفيد العلم، قلنا في تقرير وجه الحجة طريقان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن ندعي العلم الضروري بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عظم شأن هذه الامة، وأخبر عن عصمتها عن الخطأ، بمجموع هذه الاخبار المتفرقة، وإن لم تتواتر آحادها، وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى العلم بشجاعة علي، وسخاوة حاتم، وفقه الشافعي وخطابة الحجاج، وميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه، وتعظيمه صحابته وثنائه عليهم، وإن لم تكن آحاد الاخبار فيها متواترة، بل يجوز الكذب على كل واحد منها لو جردنا النظر إليه، ولا يجوز على المجموع، وذلك يشبه ما يعلم من مجموع قرائن آحادها لا ينفك عن الاحتمال، ولكن ينتفي الاحتمال عن مجموعها حتى يحصل العلم الضروري‏.‏ الطريق الثاني‏:‏ أن لا ندعي علم الاضطرار، بل علم الاستدلال من وجهين‏:‏ الأول‏:‏ أن هذه الاحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع، ولا يظهر أحد فيها خلافا وإنكارا إلى زمان النظام، ويستحيل في مستقر العادة توافق الامم في أعصار متكررة على التسليم لما لم تقم الحجة بصحته، مع اختلاف الطباع، وتفاوت الهمم والمذاهب في الرد والقبول، ولذلك لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف وإبداء تردد فيه‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أن المحتجين بهذه الاخبار أثبتوا بها أصلا مقطوعا به وهو الإجماع الذي يحكم به على كتاب الله تعالى وعلى السنة المتواترة، ويستحيل في العادة التسليم لخبر يرفع به الكتاب المقطوع به، إلا إذا استند إلى مستند مقطوع به، فأما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلوما، حتى لا يتعجب متعجب ولا يقول قائل‏:‏ كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستند إلى خبر غير معلوم الصحة‏؟‏ وكيف تذهل عنه جميع الامة إلى زمان النظام فيختص بالتنبه له هذا وجه الاستدلال‏؟‏ وللمنكرين في معارضته ثلاثة مقامات‏:‏ الرد، والتأويل، والمعارضة‏:‏ المقام الأول‏:‏ في الرد‏.‏ وفيه أربعة أسئلة‏:‏ السؤال الأول‏:‏ قولهم‏:‏ لعل واحدا خالف هذه الاخبار وردها ولم ينقل إلينا‏؟‏ قلنا‏:‏ هذا أيضا تحيله العادة إذ الإجماع أعظم أصول الدين، فلو خالف فيه مخالف لعظم الامر فيه واشتهر الخلاف، إذ لم يندرس خلاف الصحابة في دية الجنين ومسألة الحرام وحد الشرب، فكيف اندرس الخلاف في أصل عظيم يلزم فيه التضليل والتبديع لمن أخطأ في نفيه وإثباته‏؟‏ وكيف اشتهر خلاف النظام مع سقوط قدره وخسة رتبته وخفي خلاف أكابر الصحابة والتابعين‏؟‏ هذا مما لا يتسع له عقل أصلا‏.‏ السؤال الثاني‏:‏ قالوا قد استدللتم بالخبر على الإجماع، ثم استدللتم بالإجماع على صحة الخبر، فهب أنهم أجمعوا على الصحة، فما الدليل على أن ما أجمعوا على صحته فهو صحيح وهل النزاع إلا فيه‏؟‏ قلنا‏:‏ لا، بل استدللنا على الإجماع بالخبر، وعلى صحة الخبر بخلو الاعصار عن المدافعة والمخالفة له، مع أن العادة تقتضي إنكار إثبات أصل قاطع يحكم به على القواطع بخبر غير معلوم الصحة، فعلمنا بالعادة كون الخبر مقطوعا به، لا بالإجماع، والعادة أصل يستفاد منها معارف، فإن بها يعلم بطلان دعوى معارضة القرآن واندراسها، وبها يعلم بطلان دعوى نص الامامة، وإيجاب صلاة الضحى وصوم شوال، وإن ذلك لو كان لاستحال في العادة الكسوت عنه‏.‏ السؤال الثالث‏:‏ قالوا‏:‏ بم تنكرون على من يقول‏:‏ لعلهم أثبتوا الإجماع، لا بهذه الاخبار، بل بدليل آخر، قلنا‏:‏ قد ظهر منهم الاحتجاج بهذه الاخبار في المنع من مخالفة الجماعة وتهديد من يفارق الجماعة ويخالفها، وهذا أولى من أن يقال‏:‏ لو كان لهم فيه مستند لظهر وانتشر، فإنه قد نقل تمسكهم أيضا بالآيات‏.‏ السؤال الرابع‏:‏ قولهم‏:‏ لما علمت الصحابة صحة هذه الاخبار لم لم يذكروا طريق صحتها للتابعين، حتى كان ينقطع الارتياب ويشاركونهم في العلم‏؟‏ قلنا‏:‏ لانهم علموا تعريفه عليه السلام عصمة هذه الامة بمجموع قرائن وأمارات وتكريرات ألفاظ وأسباب دلت ضرورة على قصده إلى بيان نفي الخطأ عن هذه الامة، وتلك القرائن لا تدخل تحت الحكاية ولا تحيط بها العبارات، ولو حكوها لتطرق إلى آحادها احتمالات، فاكتفوا بعلم التابعين بأن الخبر المشكوك فيه لا يثبت به أصل مقطوع به، ويقع التسليم في العادة به، فكانت العادة في حق التابعين أقوى من الحكاية‏.‏ المقام الثاني‏:‏ في التأويل ولهم تأويلات ثلاثة‏:‏ الأول‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تجتمع أمتي على ضلالة ينبئ عن الكفر والبدعة فلعله أراد عصمة جميعهم عن الكفر بالتأويل والشبهة، وقوله‏:‏ على الخطأ لم يتواتر وإن صح، فالخطأ عام يمكن حمله على الكفر‏؟‏ قلنا‏:‏ الضلال في وضع اللسان لا يناسب الكفر، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ووجدك ضالا فهدى‏}‏ ‏(‏الضحى‏:‏ 7‏)‏ وقال تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏فعلتها إذا وأنا من الضالين‏}‏ ‏(‏الشعراء‏:‏ 02‏)‏ وما أراد من الكافرين، بل أراد من المخطئين، يقال‏:‏ ضل فلان عن الطريق، وضل سعي فلان، كل ذلك الخطأ، كيف وقد فهم ضرورة من هذه الالفاظ تعظيم شأن هذه الامة وتخصيصها بهذه الفضيلة، أما العصمة عن الكفر فقد أنعم بها في حق علي وابن مسعود وأبي وزيد على مذهب النظام، لانهم ماتوا على الحق، وكم من آحاد عصموا عن الكفر حتى ماتوا، فأي خاصية للامة، فدل أنه أراد ما لم يعصم عنه الآحاد من سهو وخطأ وكذب ويعصم عنه الامة تنزيلا لجميع الامة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في العصمة عن الخطأ في الدين، أما في غير الدين من إنشاء حرب وصلح وعمارة بلدة فالعموم يقتضي العصمة للامة عنه أيضا، ولكن ذلك مشكوك فيه، وأمر الدين مقطوع بوجوب العصمة فيه، كما في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أخطأ في أمر تأبير النخل ثم قال‏:‏ أنتم أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم‏.‏ التأويل الثاني‏:‏ قولهم‏:‏ غاية هذا أن يكون عاما يوجب العصمة عن كل خطأ، ويحتمل أن يكون المراد به بعض أنواع الخطأ من الشهادة في الآخرة أو ما يوافق النص المتواتر، أو يوافق دليل العقل دون ما يكون بالاجتهاد والقياس، قلنا‏:‏ لا ذاهب من الامة إلى هذا التفصيل إذ ما دل من العقل على تجويز الخطأ عليهم في شئ دل على تجويزه في شئ آخر، وإذا لم يكن فارق لم يكن تخصيص بالتحكم دون دليل، ولم يكن تخصيص أولى من تخصيص، وقد ذم من خالف الجماعة، وأمر بالموافقة، فلو لم يكن ما فيه العصمة معلوما استحال الاتباع إلا أن ثبت العصمة مطلقا، وبه ثبتت فضيلة الامة وشرفها، فأما العصمة عن البعض دون البعض فهذا يثبت لكل كافر، فضلا عن المسلم، إذ ما من شخص يخطئ في كل شئ بل كل إنسان فإنه يعصم عن الخطأ في بعض الاشياء التأويل الثالث‏:‏ أن أمته صلى الله عليه وسلم كل من آمن به إلى يوم القيامة، فجملة هؤلاء من أول الاسلام إلى آخر عمر الدنيا، لا يجتمعون على خطأ، بل كل حكم انقضى على اتفاق أهل الاعصار كلها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو حق، إذ الامة عبارة عن الجميع كيف والذين ماتوا في زماننا هم من الامة، وإجماع من بعدهم ليس إجماع جميع الامة بدليل أنهم لو كانوا قد خالفوا ثم ماتوا لم ينعقد بعدهم إجماع، وقبلنا من الامة من خالف وإن كان قد مات، فكذلك إذا لم يوافقوا‏؟‏ قلنا‏:‏ كما لا يجوز أن يراد بالامة المجانين والاطفال والسقط والمجتن وإن كانوا من الامة، فلا يجوز أن يراد به الميت والذي لم يخلق بعد، بل الذي يفهم قوم يتصور منهم اختلاف واجتماع، ولا يتصور الاجتماع والاختلاف من المعدوم، والميت، والدليل عليه أنه أمر باتباع الجماعة، وذم من شذ عن الموافقة، فإن كان المراد به ما ذكروه فإنما يتصور الاتباع والمخالفة في القيامة لا في الدنيا، فيعلم قطعا أن المراد به إجماع يمكن خرقه ومخالفته، في الدنيا، وذلك هم الموجودن في كل عصر، أما إذا مات فيبقى أثر خلافه فإن مذهبه لا يموت بموته، وسيأتي فيه كلام شاف إن شاء الله تعالى‏.‏ المقام الثالث‏:‏ المعارضة بالآيات والاخبار أما الآيات‏:‏ فكل ما فيها منع من الكفر والردة والفعل الباطل، فهو عام مع الجميع، فإن لم يكن ذلك ممكنا فكيف نهوا عنه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ ‏(‏الاعراف‏:‏ 33‏}‏ ‏(‏ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 712‏}‏ ‏(‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 881‏)‏ وأمثال ذلك، قلنا‏:‏ ليس هذا نهيا لهم عن الاجتماع، بل نهي للآحاد، وإن كان كل واحد على حياله داخلا في النهي وإن سلم، فليس من شرط النهي وقوع المنهي عنه ولا جواز وقوعه، فإن الله تعالى علم أن جميع المعاصي لا تقع منهم ونهاهم عن الجميع وخلاف المعلوم غير واقع، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ ‏(‏الزمر‏:‏ 56‏)‏ وقال‏:‏ ‏{‏فلا تكونن من الجاهلين‏}‏ ‏(‏الانعام‏:‏ 53‏)‏ وقد علم أنه قد عصمه منهم وأن ذلك لا يقع، وأما الاخبار فقوله عليه السلام‏:‏ بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وقوله عليه السلام‏:‏ خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف وما يستحلف، ويشهد وما يستشهد وكقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي قلنا‏:‏ هذا وأمثاله يدل على كثرة العصيان والكذب، ولا يدل على أنه لا يبقى متمسك بالحق، ولا يناقض قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال كيف ولا تجري هذه الاخبار في الصحة والظهور مجرى الاحاديث التي تمسكنا بها‏.‏ المسلك الثالث‏:‏ التمسك بالطريق المعنوي وبيانه أن الصحابة إذا قضوا بقضية وزعموا أنهم قاطعون بها، فلا يقطعون بها إلا عن مستند قاطع، وإذا كثروا كثرة تنتهي إلى حد التواتر، فالعادة تحيل عليهم قصد الكذب، وتحيل عليهم الغلط حتى لا يتنبه واحد منهم للمحق في ذلك، وإلى أن القطع بغير دليل قاطع، خطأ، فقطعهم في غير محل القطع محال في العادة، فإن قضوا عن اجتهاد واتفقوا عليه فيعلم أن التابعين كانوا يشددون النكير على مخالفيهم ويقطعون به وقطعهم بذلك قطع في غير محل القطع فلا يكون ذلك أيضا إلا عن قاطع، وإلا فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم الحق مع كثرتهم حتى لا يتنبه واحد منهم للحق، وكذلك نعلم أن التابعين لو أجمعوا على شئ أنكر تابعوا التابعين على المخالف وقطعوا بالانكار، وهو قطع في غير محل القطع، فالعادة تحيل ذلك إلا عن قاطع، وعلى مساق هذا قالوا‏:‏ لو رجع أهل الحل والعقد إلى عدد ينقص عن عدد التواتر، فلا يستحيل عليهم الخطأ في العاد ولا تعمد الكذب لباعث عليه، فلا حجة فيه، وهذه الطريقة ضعيفة عندنا، لان منشأ الخطأ إما تعمد الكذب، وإما ظنهم ما ليس بقاطع قاطعا، والأول غير جائز على عدد التواتر، وأما الثاني فجائز، فقد قطع اليهود ببطلان نبوة عيسى ومحمد عليهما السلام، وهم أكثر من عدد التواتر، وهو قطع في غير محل القطع، لكن ظنوا ما ليس بقاطع قاطعا‏:‏ والمنكرون لحدوث العالم والنبوات والمرتكبون لسائر أنواع البدع والضلالات، عددهم بالغ مبلغ عدد التواتر ويحصل الصدق بإخبارهم، ولكن أخطؤوا بالقطع في غير محل القطع، وهذا القائل يلزمه أن يجعل إجماع اليهود والنصارى حجة ولا تخصيص لهذه الامة، وقد أجمعوا على بطلان دين الاسلام، فإن قيل‏:‏ هذا تمسك بالعادة، وأنتم في نصرة المسلك الثاني استروحتم إلى العادة وهذا عين الأول‏؟‏ قلنا‏:‏ العادة لا تحيل على عدد التواتر أن يظنوا ما ليس بقاطع قاطعا، وعن هذا قلنا‏:‏ شرط خبر التواتر أن يستند إلى محسوس، والعادة تحيل الانقياد والسكوت عمن دفع الكتاب والسنة المتواترة بإجماع دليله خبر مظنون غير مقطوع به، وكل ما هو ضروري يعلم بالحس أو بقرينة الحال أو بالبديهة، فمنهاجه واحد، ويتفق الناس على دركه، والعادة تحيل الذهول عنه على أهل التواتر، وما هو نظري فطرقه مختلفة، فلا يستحيل في العادة أن يجتمع أهل التواتر على الغلط فيه، فهذا هو الفرق بين المسلكين، فإن قيل‏:‏ اعتمادكم في هذا المسلك الثاني أن ما أجمعوا عليه حق وليس بخطأ، فما الدليل على وجوب اتباعه وكل مجتهد مصيب للحق، ولا يجب على مجتهد آخر اتباعه، والشاهد المزور مبطل، ويجب على القاضي اتباعه، فوجوب الاتباع شئ، وكون الشئ حقا غير ه‏؟‏ قلنا‏:‏ أجمعت الامة على وجوب اتباع الإجماع، وأنه من الحق الذي يجب اتباعه، وبحسب كونهم محقين في قولهم يجب اتباع الإجماع، ثم نقول‏:‏ كل حق علم كونه حقا، فالأصل فيه وجوب الاتباع والمجتهد يجب اتباعه إلا على المجتهد الذي هو محق أيضا، فقدم حق حصل باجتهاده على ما حصل باجتهاد غيره في حقه، والشاهد المزور لو علم كونه مزورا لم يتبع، ويدل عليه أيضا ذمة من خالف الجماعة، وأنه ذكر هذا في معرض الثناء على الامة ولا يتحقق ذلك إلا بوجوب الاتباع، وإلا فلا يبقى له معنى، إلا أنهم محقون إذا أصابوا دليل الحق، وذلك جائز في حق كل واحد من أفراد المؤمنين، فليس فيه مدح وتخصيص البتة

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة الباب الثاني في بيان أركان الإجماع
وله ركنان‏:‏ المجمعون ونفس الإجماع‏:‏ الركن الأول‏:‏ المجمعون‏:‏ وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وظاهر هذا يتناول كل مسلم، لكن لكل ظاهر طرفان واضحان في النفي والاثبات وأوساط متشابهة، أما الواضح في الاثبات فهو كل مجتهد مقبول الفتوى فهو أهل الحل والعقد قطعا، ولا بد من موافقته في الإجماع، وأما الواضح في النفي، فالاطفال والمجانين والاجنة، فإنهم وإن كانوا من الامة، فنعلم أنه عليه الصلاة والسلام ما أراد بقوله‏:‏ لا تجتمع أمتي على الخطأ إلا من يتصور منه الوفاق والخلاف في المسألة بعد فهمهما فلا يدخل فيه من لا يفهمها، وبين الدرجتين العوام المكلفون، والفقيه الذي ليس بأصولي، والاصولي الذي ليس بفقيه والمجتهد الفاسق والمبتدع والناشئ من التابعين، مثلا‏:‏ إذا قارب رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة، فنرسم في كل واحد مسألة‏:‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏إجماع أهل الحل والعقد‏)‏
يتصور دخول العوام في الإجماع، فإن الشريعة تنقسم إلى ما يشترك في دركه العوام والخواص، كالصلوات الخمس ووجوب الصوم والزكاة والحج، فهذا مجمع عليه والعوام وافقوا الخواص في الإجماع، وإلى ما يختص بدركه الخواص كتفصيل أحكام الصلاة والبيع والتدبير والاستيلاد، فما أجمع عليه الخواص، فالعوام متفقون على أن الحق فيه ما أجمع عليه أهل الحل والعقد، لا يضمرون فيه خلافا أصلا، فهم موافقون أيضا فيه، ويحسن تسمية ذلك إجماع الامة قاطبة، كما أن الجند إذا حكموا جماعة من أهل الرأي والتدبير في مصالحة أهل قلعة فصالحوهم على شئ يقال‏:‏ هذا باتفاق جميع الجند، فإذا كل مجمع عليه من المجتهدين، فهو مجموع عليه من جهة العوام وبه يتم إجماع الامة، فإن قيل‏:‏ فلو خالف عامي في واقعة أجمع عليها الخواص من أهل العصر، فهل ينعقد الإجماع دونه إن كان ينعقد، فكيف خرج العامي من الامة، وإن لم ينعقد فكيف يعتد بقول العامي‏؟‏ قلنا‏:‏ قد اختلف الناس فيه، فقال قوم‏:‏ لا ينعقد، لانه من الامة، فلا بد من تسليمه بالجملة أو بالتفصيل، وقال آخرون، وهو الاصح‏:‏ إنه ينعقد بدليلين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن العامي ليس أهلا لطلب الصواب، إذ ليس له آلة هذا الشأن، فهو كالصبي والمجنون في نقصان الآلة، ولا يفهم من عصمة الامة من الخطأ إلا عصمة من يتصور منه الاصابة لاهليته‏.‏ والثاني‏:‏ وهو الاقوى أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام في هذا الباب، أعني خواص الصحابة وعوامهم، ولان العامي إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل، وأنه ليس يدري ما يقول وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه، وعن هذالا يتصور صدور هذا من عامي عاقل، لان العاقل يفوض ما لا يدري إلى من يدري، فهذه صورة فرضت، ولا وقوع لها أصلا، ويدل على انعقاد الإجماع أن العامي يعصي بمخالفته العلماء ويحرم ذلك عليه، ويدل على عصيانه ما ورد من ذم الرؤساء الجهال إذا ضلوا وأضلوا بغير علم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏(‏4‏)‏ لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 38‏)‏ فردهم عن النزاع إلى أهل الاستنباط، وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب المراجعة للعلماء وتحريم فتوى العامة بالجهل والهوى وهذا لا يدل على انعقاد الإجماع دونهم، فإنه يجوز أن يعصي بالمخالفة، كما يعصي من يخالف خبر الواحد، ولكن يمتنع وجود الإجماع لمخالفته والحجة في الإجماع فإذا امتنع بمعصية أو بما ليس بمعصية فلا حجة، وإنما الدليل ما ذكرنا من قبل‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏يعتد بقول الاصولي والفقيه المبرز‏)‏
إذا قلنا لا يعتبر قول العوام لقصور آلتهم فرب متكلم ونحوي ومفسر ومحدث هو ناقض الآلة في درك الاحكام، فقال قوم‏:‏ لا يعتد إلا بقول أئمة المذاهب المستقلين بالفتوى، كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وأمثالهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من ضم إلى الائمة الفقهاء الحافظين لاحكام الفروع الناهضين بها، لكن أخرج الاصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع ولا يحفظها، والصحيح أن الاصولي العارف بمدارك الاحكام وكيفية تلقيها من المفهوم والمنظوم، وصيغة الامر والنهي، والعموم وكيفية تفهيم النصوص، والتعليل أولى بالاعتداد بقوله من الفقيه الحافظ للفروع، بل ذو الآلة، من هو متمكن من درك الاحكام إذا أراد، وإن لم يحفظ الفروع، والاصولي قادر عليه، والفقيه الحافظ للفروع لا يتمكن منه، وآية أنه لا يعتبر حفظ الفروع أن العباس والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبا عبيدة بن الجراح وأمثالهم ممن لم ينصب نفسه للفتوى ولم يتظاهر بها تظاهر العبادلة، وتظاهر علي وزيد بن ثابت ومعاذ، كانوا يعتدون بخلافهم لو خالفوا، وكيف لا وكانوا صالحين للامامة العظمى، ولا سيما لكون أكثرهم في الشورى، وما كانوا يحفظون الفروع، بل لم تكن الفروع موضوعة بعد، لكن عرفوا الكتاب والسنة، وكانوا أهلا لفهمهما، والحافظ لفروع قد لا يحفظ دقائق فروع الحيض، والوصايا، فأصل هذه الفروع كهذه الدقائق، فلا يشترط حفظها، فينبغي أن يعتد بخلاف الاصولي وبخلاف الفقيه المبرز، لانهما ذوا آلة على الجملة، يقولان ما يقولان عن دليل، أما النحوي والمتكلم فلا يعتد بهما، لانهما من العوام في حق هذا العلم، إلا أن يقع الكلام في مسألة تنبني على النحو أو على الكلام، فإن قيل‏:‏ فهذه المسألة قطعية أم اجتهادية‏؟‏ قلنا‏:‏ هي اجتهادية، ولكن إذا جوزنا أن يكون قوله معتبرا صار الإجماع مشكوكا فيه عند مخالفته فلا يصير حجة قاطعة، إنما يكون حجة قاطعة إذا لم يخالف هؤلاء، أما خلاف العوام فلا يقع، ولو وقع فهو قول باللسان، وهو معترف بكونه جاهلا بما يقول، فبطلان قوله مقطوع به، كقول الصبي، فأما هذا فليس كذلك، فإن قيل‏:‏ فإذا قلد الاصولي الفقهاء فيما اتفقوا عليه في الفروع وأقر بأنه حق هل ينعقد الإجماع، قلنا‏:‏ نعم، لانه لا مخالفة، وقد وافق الاصولي جملة وإن لم يعرف التفصيل، كما أن الفقهاء اتفقوا على أن ما أجمع عليه المتكلمون في باب الاستطاعة والعجز والاجسام والاعراض والضد والخلاف، فهو صواب، فيحصل الإجماع بالموافقة الجملية، كما يحصل من العوام، لان كل فريق كالعامي، بالاضافة إلى ما لم يحصل علمه، وإن حصل علما آخر‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏عدم انعقاد الإجماع بالمجتهد الفاسق المبتدع‏)‏
إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر، بل هو كمجتهد فاسق وخلاف المجتهد الفاسق معتبر، فإن قيل‏:‏ لعله يكذب في إظهار الخلاف وهو لا يعتقده‏.‏ قلنا‏:‏ لعله يصدق، ولا بد من موافقته ولو لم نتحقق موافقته، كيف وقد نعلم اعتقاد الفاسق بقرائن أحواله في مناظراته واستدلالاته، والمبتدع ثقة يقبل قوله، فإنه ليس يدري أنه فاسق، أما إذا كفر ببدعته فعند ذلك لا يعتبر خلافه وإن كان يصلي إلى القبلة ويعتقد نفسه مسلما‏.‏ لان الامة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة، بل عن المؤمنين وهو كافر، وإن كان لا يدري أنه كافر، نعم‏:‏ لو قال بالتشبيه والتجسيم وكفرناه فلا يستدل على بطلان مذهبه بإجماع مخالفيه على بطلان التجسيم مصيرا إلى أنهم كل الامة دونه، لان كونهم كل الامة موقوف على إخراج هذا من الامة والاخراج من الامة موقوف على دليل التكفير، فلا يجوز أن يكون دليل تكفيره ما هو موقوف على تكفيره، فيؤدي إلى إثبات الشئ بنفسه، نعم‏:‏ بعد أن كفرناه بدليل عقلي لو خالف في مسألة أخرى لم يلتفت إليه، فلو تاب وهو مصر على المخالفة في تلك المسألة التي أجمعوا عليها في حال كفره، فلا يلتفت إلى خلافه بعد الاسلام، لانه مسبوق بإجماع كل الامة وكان المجمعون في ذلك الوقت كل الامة دونه، فصار كما لو خالف كافر كافة الامة ثم أسلم وهو مصر على ذلك الخلاف، فإن ذلك لا يلتفت إليه إلا على قول من يشترط انقراض العصر في الإجماع، فإن قيل‏:‏ فلو ترك بعض الفقهاء الإجماع بخلاف المبتدع المكفر إذا لم يعلم أن بدعته توجب الكفر وظن أن الإجماع لا ينعقد دونه، فهل يعذر من حيث أن الفقهاء لا يطلعون على معرفة ما يكفر به من التأويلات‏؟‏ قلنا‏:‏ للمسألة صورتان‏:‏ إحداهما‏:‏ أن يقول الفقهاء‏:‏ نحن لا ندري أن بدعته توجب الكفر أم لا، ففي هذه الصورة لا يعذرون فيه إذ يلزمهم مراجعة علماء الاصول، ويجب على العلماء تعريفهم، فإذا أفتوا بكفره فعليهم التقليد، فإن لم يقنعهم التقليد فعليهم السؤال عن الدليل، حتى إذا ذكر لهم دليله فهموه لا محالة، لان دليله قاطع، فإن لم يدركه فلا يكون معذورا كمن لا يدرك دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا عذر مع نصب الله تعالى الأدلة القاطعة‏.‏ الصورة الثانية‏:‏ أن لا يكون قد بلغته بدعته وعقيدته، فترك الإجماع لمخالفته، فهو معذور في خطئه وغير مؤاخذ به، وكان الإجماع لم ينتهض حجة في حقه، كما إذا لم يبلغه الدليل الناسخ لانه غير منسوب إلى تقصير، بخلاف الصورة الأولى، فإنه قادر على المراجعة والبحث فلا عذر له في تركه، فهو كمن قبل شهادة الخوارج وحكم بها فهو مخطئ، لان الدليل على تكفير الخوارج على علي عثمان رضي الله عنهما، والقائلين بكفرهما المعتقدين استباحة دمهما ومالهما ظاهر يدرك على القرب، فلا يعذر من لا يعرفه بخلاف من حكم بشهادة الزور، وهو لا يعرف، لانه لا طريق له إلى معرفة صدق الشاهد وله طريق إلى معرفة كفره، فإن قيل وما الذي يكفر به‏؟‏ قلنا‏:‏ الخطب في ذلك طويل، وقد أشرنا إلى شئ منه في كتاب

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة فصل التفرقة بين الاسلام والزندقة
والقدر الذي نذكره الآن أنه يرجع إلى ثلاثة أقسام‏:‏ الأول‏:‏ ما يكون نفس اعتقاده كفرا، كإنكار الصانع وصفاته وجحد النبوة‏.‏ الثاني‏:‏ ما يمنعه اعتقاده من الاعتراف بالصانع وصفاته وتصديق رسله، ويلزمه إنكار ذلك من حيث التناقض‏.‏ الثالث‏:‏ ما ورد التوقيف بأنه لا يصدر إلا من كافر كعبادة النيران والسجود للصنم، وجحد سورة من القرآن، وتكذيب بعض الرسل، واستحلال الزنا والخمر وترك الصلاة، وبالجملة إنكار ما عرف بالتواتر والضرورة من الشريعة‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة
قال قوم، لا يعتد بإجماع غير الصحابة وسنبطله، وقال قوم‏:‏ يعتد بإجماع التابعين بعد الصحابة، ولكن لا يعتد بخلاف التابعي في زمان الصحابة ولا يندفع إجماع الصحابة بخلافه، وهذا فاسد مهما بلغ التابعي رتبة الاجتهاد قبل تمام الإجماع، لانه من الامة، فإجماع غيره لا يكون إجماع جميع الامة، بل إجماع البعض، والحجة في إجماع الكل، نعم‏:‏ لو أجمعوا ثم بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم فهو مسبوق بالإجماع، فليس له الآن أن يخالف، كمن أسلم بعد تمام الإجماع، ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 10‏)‏ وهذا مختلف فيه، ويدل عليه إجماع الصحابة على تسويغ الخلاف للتابعي وعدم إنكارهم عليه، فهو إجماع منهم على جواز الخلاف، كيف وقد علم أن كثيرا من أصحاب عبد الله كعلقمة والاسود وغيرهما كانوا يفتون في عصر الصحابة، وكذا الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، فكيف لا يعتد بخلافهم، وعلى الجملة فلا يفضل الصحابي التابعي إلا بفضيلة الصحبة، ولو كانت هذه الفضيلة تخصص الإجماع لسقط قول الانصار بقول المهاجرين، وقول‏:‏ المهاجرين بقول العشرة وقول العشرة بقول الخلفاء الاربعة، وقولهم بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فإن قيل‏:‏ روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن مجاراة الصحابة، وقالت‏:‏ فروج يصقع مع الديكة، قلنا‏:‏ ما ذكرناه مقطوع به، ولم يثبت عن عائشة ما ذكرتم إلا بقول الآحاد، وإن ثبت فهو مذهبها، ولا حجة فيه، ثم لعلها أرادت منعه من مخالفتهم فيما سبق إجماعهم عليه، أو لعلها أنكرت عليه خلافه في مسألة لا تحتمل الاجتهاد في اعتقادها، كما أنكرت على زيد بن أرقم في مسألة العينة، وظنت أن وجوب حسم الذريعة قطعي، واعلم أن هذه المسألة يتصور الخلاف فيها مع من يوافق على أن إجماع الصحابة يندفع بمخالفة واحد من الصحابة، أما من ذهب إلى أنه لا يندفع خلاف الاكثر بالاقل كيفما كان فلا يختص كلامه بالتابعي‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏هل ينعقد إجماع الاكثر أم لا‏؟‏‏)‏
الإجماع من الاكثر ليس بحجة مخالفة الاقل، وقال قوم‏:‏ إن بلغ عدد الاقل عدد التواتر اندفع الإجماع، وإن نقص فلا يندفع، والمعتمد عندنا أن العصمة إنما تثبت للامة بكليتها، وليس هذا إجماع الجميع، بل هو مختلف فيه، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله‏}‏ ‏(‏الشورى‏:‏ 01‏)‏ فإن قيل‏:‏ قد تطلق الامة ويراد بها الاكثر كما يقال بنو تميم يحمون الجار، ويكرمون الضيف، ويراد الاكثر‏؟‏ قلنا‏:‏ من يقول بصيغة العموم يحمل ذلك على الجميع، ولا يجوز التخصيص بالتحكم، بل بدليل وضرورة، ولا ضرورة ههنا، ومن لا يقول به فيجوز أن يريد به الاقل، وعند ذلك لا يتميز البعض المراد عما ليس بمراد، ولا بد من إجماع الجميع ليعلم أن البعض المراد داخل فيه، كيف وقد وردت أخبار تدل على قلة أهل الحق حيث قال صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ الاقلون، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ سيعود الدين غريبا كما بدا غريبا وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أكثرهم لا يعقلون‏}‏ ‏(‏المائدة‏:‏ 301‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقليل من عبادي الشكور‏}‏ ‏(‏سبأ‏:‏ 13‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كم من فئة قليلة‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 942‏)‏ الآية وإذا لم يكن ضابط، ولا مرد فلا خاص إلا باعتبار قول الجميع‏.‏ الدليل الثاني‏:‏ إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد، فكم من مسألة قد انفرد فيها الآحاد بمذهب كانفراد ابن عباس بالعول فإنه أنكره، فإن قيل‏:‏ لا بل أنكروا على ابن عباس القول بتحليل المتعة، وأن الربا في النسيئة، وأنكرت عائشة على ابن أرقم مسألة العينة، وأنكروا على أبي موسى الاشعري قوله‏:‏ النوم لا ينقض الوضوء، وعلى أبي طلحة القول بأن أكل البرد لا يفطر، وذلك لانفرادهم به، قلنا‏:‏ لا، بل لمخالفتهم السنة الواردة فيه المشهورة بينهم، أو لمخالفتهم أدلة ظاهرة قامت عندهم، ثم نقول‏:‏ هب أنهم أنكروا انفراد المنفرد والمنكر منكر عليهم إنكارهم، ولا ينعقد الإجماع فلا حجة في إنكارهم مع مخالفة الواحد‏.‏ ولهم شبهتان‏:‏ الشبهة الأولى‏:‏ قولهم‏:‏ قول الواحد فيما يخبر عن نفسه لا يورث العلم، فكيف يندفع به قول عدد حصل العلم بإخبارهم عن أنفسهم لبلوغهم عدد التواتر، وعن هذا قال قوم‏:‏ عدد الاقل إلى أن يبلغ مبلغ التواتر يدفع الإجماع، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ إن صدق الاكثر وإن علم فليس ذلك صدق جميع الامة، واتفاقهم والحجة في اتفاق الجميع، فسقطت الحجة، لانهم ليسوا كل الامة‏.‏ الثاني‏:‏ إن كذب الواحد ليس بمعلوم، فلعله صادق، فلا تكون المسألة اتفاقا من جميع الصادقين إن كان صادقا‏.‏ الثالث‏:‏ إنه لا نظر إلى ما يضمرون، بل التعبد متعلق بما يظهرون، فهو مذهبهم، وسبيلهم لا ما أضمروه، فإن قيل‏:‏ فهل يجوز أن تضمر الامة خلاف ما تظهر‏؟‏ قلنا‏:‏ ذلك إن كان إنما يكون عن تقية وإلجاء، وذلك يظهر ويشتهر وإن لم يشتهر فهو محال، لانه يؤدي إلى اجتماع الامة على ضلالة وباطل، وهو ممتنع، بدليل السمع‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ إن مخالفة الواحد شذوذ عن الجماعة، وهو منهي عنه، فقد ورد ذم الشاذ، وأنه كالشاذ من الغنم عن القطيع، قلنا‏:‏ الشاذ عبارة عن الخارج عن الجماعة بعد الدخول فيها ومن دخل في الإجماع لا يقبل خلافه بعده، وهو الشذوذ، أما الذي لم يدخل أصلا فلا يسمى شاذا، فإن قيل‏:‏ فقد قال عليه السلام‏:‏ عليكم بالسواد الاعظم فإن الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد قلنا‏:‏ أراد به الشاذ الخارج على الامام بمخالفة الاكثر على وجه يثير الفتنة، وقوله‏:‏ وهو عن الاثنين أبعد أراد به الحث على طلب الرفيق في الطريق، ولهذا قال عليه السلام‏:‏ والثلاثة ركب، وقد قال بعضهم‏:‏ قول الاكثر حجة، وليس بإجماع، وهو متحكم بقوله أنه حجة إذ لا دليل عليه‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ مرادي به أن اتباع الاكثر أولى، قلنا‏:‏ هذا يستقيم في الاخبار، وفي حق المقلد إذا لم يجد ترجيحا بين المجتهدين سوى الكثرة، وأما المجتهد فعليه اتباع الدليل دون الاكثر، لانه إن خالفه واحد لم يلزمه اتباعه وإن انضم إليه مخالف آخر لم يلزمه الاتباع‏.‏

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً  
عزيزنا الزائر لن تتمكن من مشاهدة التوقيع إلاَّ بتسجيل دخولك
قم بتسجيل الدخول أو قم بالتسجيل من هنا
رد مع اقتباس