الباب الرابع في مستند الراوي وكيفية ضبطه ومستنده إما قراءة الشيخ عليه أو قراءته على الشيخ أو إجازته أو مناولته أو رؤيته بخطه في كتاب، فهي خمس مراتب: الأولى. وهي الاعلى قراءة الشيخ في معرض الاخبار ليروى عنه، وذلك يسلط الراوي على أن يقول: حدثنا وأخبرنا وقال فلان وسمعته يقول. الثانية: أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت، فهو كقوله: هذا صحيح، فتجوز الرواية به، خلاف لبعض أهل الظاهر، إذ لو لم يكن صحيحا لكان سكوته وتقريره عليه فسقا قادحا في عدالته، ولو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكذب إذا نطق بكونه صحيحا، نعم لو كان ثم مخيلة قلة اكتراث أو غفلة فلا يكفي السكوت، وهذا يسلط الراوي على أن يقول: أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه، أما قوله: حدثنا مطلقا، أو سمعت فلانا، اختلفوا فيه، والصحيح أنه لا يجوز، لانه يشعر بالنطق، لان الخبر والحديث والمسموع كل ذلك نطق، وذلك منه كذب، إلا إذا علم بصريح قوله أو بقرينة حاله أنه يريد به القراءة على الشيخ دون سماع حديثه. الثالثة: الاجازة، وهو أن يقول: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني، أو ما صح عندك من مسموعاتي، وعند ذلك يجب الاحتياط في تعيين المسموع أما إذا اقتصر على قوله: هذا مسموعي من فلان، فلا تجوز الرواية عنه، لانه لم يأذن في الرواية فلعله لا يجوز الرواية لخلل يعرفه فيه وإن سمعه، وكذلك لو قال: عندي شهادة لا يشهد ما لم يقل أذنت لك في أن تشهد على شهادتي، أو لم تقم تلك الشهادة في مجلس الحكم، لان الرواية شهادة، والانسان قد يتساهل في الكلام، لكن عند جزم الشهادة قد يتوقف، ثم الاجازة تسلط الراوي على أن يقول: حدثنا وأخبرنا إجازة، أما قوله: حدثنا مطلقا، جوزه قوم، وهو فاسد، لانه يشعر بسماع كلامه، وهو كذب كما ذكرناه في القراءة على الشيخ. الرابعة: المناولة، وصورته أن يقول: خذ هذا الكتاب وحدث به عني، فقد سمعته من فلان ومجرد المناولة دون هذا اللفظ لا معنى له، وإذا وجد هذا اللفظ فلا معنى للمناولة فهو زيادة تكلف أحدثه بعض المحدثين بلا فائدة، كما يجوز رواية الحديث بالاجازة، فيجب العمل به، خلافا لبعض أهل الظاهر، لان المقصود معرفة صحة الخبر لا عين الطريق المعرف، وقوله: هذا الكتاب مسموعي فاروه عني في التعريف، كقراءته والقراءة عليه، وقولهم: إنه قادر على أن يحدثه به فهو كذلك، لكن أي حاجة إليه، ويلزم أن لا تصح القراءة عليه، لانه قادر على القراءة بنفسه، ويجب أن لا يروى في حياة الشيخ، لانه قادر على الرجوع إلى الأصل كما في الشهادة، فدل أن هذا لا يعتبر في الرواية. الخامسة: الاعتماد على الخط بأن يرى مكتوبا بخطه إني سمعت على فلان كذا، فلا يجوز أن يروي عنه، لان روايته شهادة عليه بأنه قاله والخط لا يعرفه هذا، نعم: يجوز أن يقول: رأيت مكتوبا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان، فإن الخط أيضا قد يشبه الخط، أما إذا قال: هذا خطي قبل قوله، ولكن لا يروي عنه ما لم يسلطه على الرواية بصريح قوله أو أما بقرينة حاله في الجلوس لرواية الحديث، أما إذا قال عدل: هذه نسخة صحيحة من صحيح البخاري مثلا فرأى فيه حديثا فليس له أن يروي عنه، لكن هل يلزمه العمل إن كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد، وإن كان مجتهدا فقال قوم: لا يجوز له العلم به ما لم يسمعه، وقال قوم: إذا علم صحة النسخة بقول عدل جاز العمل، لان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد، وكان الخلق يعتمدون تلك الصحف بشهادة حامل الصحف بصحته دون أن يسمعه كل واحد منه، فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن، وعلى الجملة: فلا ينبغي أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولا وحفظه وضبطه إلى وقت الاداء، بحيث يعلم أن ما أداه هو الذي سمعه، ولم يتغير منه حرف، فإن شك في شئ منه فليترك الرواية. ويتفرع عن هذا الأصل مسائل:
مسألة (الشك في الرواية)
إذا كان في مسموعاته عن الزهري مثلا حديث واحد شك أنه سمعه من الزهري أم لا لم يجز له أن يقول: سمعت الزهري، ولا أن يقول: قال الزهري، لان قوله قال الزهري شهادة على الزهري، فلا يجوز إلا عن علم، فلعله سمعه من غيره، فهو كمن سمع إقرارا ولم يعلم أن المقر زيد وعمرو، فلا يجوز أن يشهد على زيد، بل نقول: لو سمع مائة حديث من شيخ وفيها حديث واحد علم أنه لم يسمعه، ولكنه التبس عليه عينه فليس له روايته، بل ليس له رواية شئ من الاحاديث عنه، إذ ما من حديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي لم يسمعه، ولو غلب على ظنه في حديث أنه مسموع من الزهري لم تجز الرواية بغلبة الظن، وقال قوم: يجوز، لان الاعتماد في هذا الباب على غلبة الظن، وهو بعيد لان الاعتماد في الشهادة على غلبة الظن، ولكن في حق الحاكم، فإنه لا يعلم صدق الشاهد، أما الشاهد فينبغي أن يتحقق، لان تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم فيما تمكن فيه المشاهدة ممكن، وتكليف الحاكم أن لا يحكم إلا بصدق الشاهد محال، وكذلك الراوي لا سبيل له إلى معرفة صدق الشيخ، ولكن له طريق إلى معرفة قوله بالسماع، فإذا لم يتحقق فينبغي أن لا يروي، فإن قيل: فالواحد في عصرنا يجوز أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتحقق ذلك، قلنا: لا طريق له إلى تحقق ذلك، ولا يفهم من قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمعه، لكن يفهم منه أنه سمع هذا الحديث من غيره، أو رواه في كتاب يعتمد عليه، وكل من سمع ذلك لا يلزمه العمل به، لانه مرسل لا يدري من أين يقوله وإنما يلزم العمل إذا ذكر مستنده حتى ينظر في حاله وعدالته والله أعلم.
مسألة (تكذيب الشيخ الراوي)
إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد قاطع بكذب الراوي ولم يعمل به لم يصر الراوي مجروحا، لان الجرح ربما لا يثبت بقول واحد، ولانه مكذب شيخه، كما أن شيخه مكذب له، وهما عدلان فهما كبينتين متكاذبتين، فلا يوجب الجرح، أما إذا أنكر إنكار متوقف وقال: لست أذكره، فيعمل بالخبر، لان الراوي جازم أنه سمعه منه، وهو ليس بقاطع بتكذيبه وهما عدلان، فصدقهما إذا ممكن، وذهب الكرخي إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطل الحديث، وبنى عليه اطراح خبر الزهري أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها واستدل بأنه الأصل، ولانه ليس للشيخ أن يعمل بالحديث والراوي فرعه، فكيف يعمل به؟ قلنا: للشيخ أن يعمل به إذا روى العدل له عنه، فإن بقي شك له مع رواية العدل فليس له العمل به، وعلى الراوي العمل إذا قطع بأنه سمع وعلى غيرهما العمل جمعا بين تصديقهما، والحاكم يجب عليه العمل بقول الشاهد المزور الظاهر العدالة، ويحرم على الشاهد، ويجب على العامي العمل بفتوى المجتهد، وإن تغير اجتهاده إذا لم يعلم تغير اجتهاده، والمجتهد لا يعمل به بعد التغير، لانه علمه، فعمل كل واحد على حسب حاله، وقد ذهب إلى العمل به مالك والشافعي وجماهير المتكلمين، وهذا لان النسيان غالب على الانسان، وأي محدث يحفظ في حينه جميع ما رواه في عمره، فصار كشك الشيخ في زيادة في الحديث أو في إعراب في الحديث، فإن ذلك لما لم يبطل الحديث لكثر وقوع الشك فيه، فكذلك أصل الحديث.
مسألة (هل تقبل زيادة الثقة بالحديث؟)
انفراد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة مقبول عند الجماهير سواء كانت الزيادة من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى، لانه لو انفرد بنقل حديث عن جميع الحفاظ لقبل، فكذلك إذا انفرد بزيادة، لان العدل لا يتهم بما أمكن، فإن قيل: يبعد انفراده بالحفظ مع إصغاء الجميع، قلنا: تصديق الجميع أولى إذا كان ممكنا، وهو قاطع بالسماع والآخرون ما قطعوا بالنفي، فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذكره في مجلسين، فحيث ذكر الزيادة لم يحضر إلا الواحد، أو كرر في مجلس واحد، وذكر الزيادة في إحدى الكرتين ولم يحضر إلا الواحد، ويحتمل أن يكون راوي النقص دخل في أثناء المجلس فلم يسمع التمام، أو اشتركوا في الحضور ونسوا الزيادة، إلا واحدا، أو طرأ في أثناء الحديث سبب شاغل مدهش، فغفل به البعض عن الاصغاء، فيختص بحفظ الزيادة المقبل على الاصغاء، أو عرض لبعض السامعين خاطر شاغل عن الزيادة، أو عرض له مزعج يوجب قيامه قبل التمام فإذا احتمل ذلك فلا يكذب العدل ما أمكن.
مسألة (هل تقبل رواية بعض الخبر؟)
رواية بعض الخبر ممتنعة عند أكثر من منع نقل الحديث بالمعنى، ومن جوز النقل على المعنى جوز ذلك إن كان قد رواه مرة بتمامه، ولم يتعلق المذكور بالمتروك تعلقا يغير معناه، وأما إذا تعلق، كشرط العبادة أو ركنها أو ما به التمام، فنقل البعض تحريف وتلبيس، أما إذا روى الحديث مرة تاما ومرة ناقصا نقصانا لا يغير فهو جائز، ولكن بشرط أن لا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة، فإذا علم أنه يتهم باضطراب النقل وجب عليه الاحتراز عن ذلك.
مسألة (هل يصح رواية الحديث بالمعنى؟)
نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الالفاظ، أما العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والاظهر والعام والاعم فقد جوز له الشافعي ومالك وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء أن ينقله على المعنى إذا فهمه، وقال فريق: لا يجوز له إلا إبدال بما يرادفه ويساويه في المعنى، كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة والابصار بالاحساس بالبصر والحظر بالتحريم وسائر ما لا يشك فيه، وعلى الجملة ما لا يتطرق إليه تفاوت بالاستنباط والفهم، وإنما ذلك فيما فهمه قطعا لا فيما فهمه بنوع استدلال يختلف فيه الناظرون، ويدل على جواز ذلك للعالم الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم، فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها فلان يجوز عربية بعربية ترادفها وتساويها أولى، وكذلك كان سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد يبلغونهم أوامره بلغتهم، وكذلك من سمع شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم، فله أن يشهد على شهادته بلغة أخرى، وهذا لانا نعلم أنه لا تعبد في اللفظ، وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق، وليس ذلك، كالتشهد والتكبير وما تعبد فيه باللفظ، فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. قلنا: هذا هو الحجة، لانه ذكر العلة وهو اختلاف الناس في الفقه، فما لا يختلف الناس فيه من الالفاظ المترادفة، فلا يمنع منه، وهذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، وإن أمكن أن تكون جميع الالفاظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة، لكن الاغلب أنه حديث واحد، ونقل بألفاظ مختلفة، فإنه روى: رحم الله امرءا ونضر الله امرءا وروي: ورب حامل فقه لا فقه له وروى: حامل فقه غير فقيه وكذلك الخطب المتحدة والوقائع المتحدة رواها الصحابة رضي الله عنهم بألفاظ مختلفة فدل ذلك على الجواز.
مسألة (هل يقبل الحديث المرسل أم لا؟)
المرسل مقبول عند مالك وأبي حنيفة والجماهير، ومردود عند الشافعي والقاضي، وهو المختار، وصورته أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يعاصره، أو قال: من لم يعاصر أبا هريرة، قال أبو هريرة: والدليل أنه لو ذكر شيخه ولم يعدله وبقي مجهولا عندنا لم نقبله، فإذا لم يسمه فالجهل أتم فمن لا يعرف عينه كيف تعرف عدالته، فإن قيل: رواية العدل عنه تعديل، فالجواب من وجهين: الأول: أنا لا نسلم، فإن العدل قد يروي عمن لو سئل عنه لتوقف فيه أو جرحه، وقد رأيناهم رووا عمن إذا سئلوا عنه عدلوه مرة وجرحوه أخرى، أو قالوا، لا ندري، فالراوي عنه ساكت عن تعديله، ولو كان السكوت عن الجرح تعديلا لكان السكوت عن التعديل جرحا، ولوجب أن يكون الراوي إذا جرح من روى عنه مكذبا نفسه ولان شهادة الفرع ليس تعديلا للاصل ما لم يصرح، وافتراق الرواية والشهادة في بعض التعبدات لا يوجب فرقا في هذا المعنى كما لم يوجب فرقا في منع قبول رواية المجروح والمجهول، وإذا لم يجز أن يقال: لا يشهد العدل إلا على شهادة عدل، لم يجز ذلك في الرواية، ووجب فيها معرفة عين الشيخ والأصل حتى ينظر في حالهما، فإن قيل: العنعنة كافية في الرواية مع أن قوله: روى فلان عن فلان عن فلان يحتمل ما لم يسمعه فلان عن فلان، بل بلغه بواسطة، ومع الاحتمال يقبل، ومثل ذلك في الشهادة لا يقبل، قلنا: هذا إذا لم يوجب فرقا في رواية المجهول، والمرسل مروي عن مجهول، فينبغي أن لا يقبل، ثم العنعنة جرت العادة بها في الكتبة، فإنهم استثقلوا أن يكتبوا عند كل اسم روي عن فلان سماعا منه، وشحوا على القرطاس، والوقت أن يضيعوه فأوجزوا، وإنما يقبل في الرواية ذلك إذا علم بصريح لفظه أو عامته أنه يريد به السماع، فإن لم يرد السماع فهو متردد بين المسند والمرسل، فلا يقبل. الجواب الثاني: أنا إن سلمنا جدلا أن الرواية تعديل، فتعديله المطلق لا يقبل ما لم يذكر السبب، فلو صرح بأنه سمعه من عدل ثقة لم يلزم قبوله، وإن سلم قبول التعديل المطلق فذلك في حق شخص نعرف عينه، ولا يعرف بفسق، أما من لم نعرف عينه، فلعله لو ذكره لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل، وإنما يكتفي في كل مكلف بتعريف غيره عند العجز عن معرفة نفسه، ولا يعلم عجزه ما لم يعرفه بعينه، وبمثل هذه العلة لم يقبل تعديل شاهد الفرع مطلقا، ما لم يعرف الأصل ولم يعينه، فلعل الحاكم يعرفه بفسق وعداوة، وغيره احتجوا باتفاق الصحابة والتابعين على قبول مرسل العدل، فابن عباس مع كثرة روايته قيل أنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث لصغر سنه، وصرح بذلك في حديث الربا في النسيئة وقال: حدثني به أسامة بن زيد وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، فلما روجع قال: حدثني به أخي الفضل بن عباس، وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من صلى على جنازة فله قيراط ثم أسنده إلى أبي هريرة، وروى أبو هريرة أن: من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له وقال: ما أنا قلتها ورب الكعبة، ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم قالها، فلما روجع قال: حدثني به الفضل بن عباس، وقال البراء بن عازب ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن سمعنا بعضه، وحدثنا أصحابه ببعضه، أما التابعون فقد قال النخعي: إذا قلت حدثني فلان عن عبد الله فهو حدثني، وإذا قلت: قال عبد الله فقد سمعته من غير واحد، وكذلك نقل عن جماعة من التابعين قبول المرسل، والجواب من وجهين: الأول: أن هذا صحيح، ويدل على قبول بعضهم المراسيل، والمسألة في محل الاجتهاد، ولا يثبت فيها إجماع أصلا، وفيه ما يدل على أن الجملة لم يقبلوا المراسيل ولذلك باحثواابن عباس وابن عمر وأبا هريرة مع جلالة قدرهم لا لشك في عدالتهم ولكن للكشف عن الراوي، فإن قيل: قبل بعضهم وسكت الآخرون فكان إجماعا، قلنا: لا نسلم ثبوت الإجماع بسكوتهم، لا سيما في محل الاجتهاد، بل لعله سكت مضمرا للانكار، أو مترددا فيه. والجواب الثاني: أن من المنكرين للمرسل من قبل مرسل الصحابي لانهم يحدثون عن الصحابة وكلهم عدول، ومنهم من أضاف إليه مراسيل التابعين، لانهم يروون عن الصحابة، ومنهم من خصص كبار التابعين بقبول مرسله، والمختار على قياس رد المرسل أن التابعي والصحابي إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي قبل مرسله، وإن لم يعرف ذلك فلا يقبل لانهم قد يروون عن غير الصحابي من الاعراب الذين لا صحبة لهم، وإنما ثبتت لنا عدالة أهل الصحبة، قال الزهري بعد الارسال، حدثني به رجل على باب عبد الملك، وقال عروة بن الزبير فيما أرسله عن بسرة حدثني به بعض الحرس.
مسألة (هل يقبل خبر الواحد؟)
خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول خلافا للكرخي، وبعض أصحاب الرأي، لان كل ما نقله العدل، وصدقه فيه ممكن وجب تصديقه، فمس الذكر مثلا نقله العدل وصدقه فيه ممكن، فإنا لا نقطع بكذب ناقله، بخلاف ما لو انفرد واحد بنقل ما تحيل العادة فيه أن لا يستفيض، كقتل أمير في السوق، وعزل وزير وهجوم واقعة في الجامع منعت الناس من الجمعة، أو كخسف أو زلزلة أو انقضاض كوكب عظيم وغيره من العجائب، فإن الدواعي تتوفر على إشاعة جميع ذلك، ويستحيل انكتامه، وكذلك القرآن لا يقبل فيه خبر الواحد لعلمنا بأنه صلى الله تعبد بإشاعته، واعتنى بإلقائه إلى كافة الخلق، فإن الدواعي تتوفر على إشاعته ونقله لانه أصل الدين والمنفرد برواية سورة أو آية كاذب قطعا، فأما ما تعم به البلوى، فلا نقطع بكذب خبر الواحد فيه، فإن قيل: بم تنكرون على من يقطع بكذبه، لان خروج الخارج من السبيلين لما كان الانسان لا ينفك عنه في اليوم والليلة مرارا، وكانت الطهارة تنتقض به، فلا يحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يشيع حكمه ويناجي به الآحاد، إذ يؤدي إلى إخفاء الشرع وإلى أن تبطل صلاة العباد وهم لا يشعرون فتجب الاشاعة في مثله، ثم تتوفر الدواعي على نقله، وكذلك مس الذكر مما يكثر وقوعه فكيف يخفى حكمه؟ قلنا: هذا يبطل أولا بالوتر، وحكم الفصد والحجامة والقهقهة ووجوب الغسل من غسل الميت وإفراد الاقامة وتثنيتها، وكل ذلك مما تعم به البلوى، وقد أثبتوها بخبر الواحد، فإن زعموا أن ليس عموم البلوى فيها كعمومها في الاحداث، فنقول: فليس عموم البلوى في اللمس والمس كعمومها في خروج الاحداث فقد يمضي على الانسان مدة لا يلمس ولا يمس الذكر إلا في حالة الحدث كما لا يفتصد ولا يحتجم إلا أحيانا فلا فرق. والجواب الثاني: وهو التحقيق أن الفصد والحجامة، وإن كان لا يتكرر كل يوم، ولكنه يكثر، فكيف أخفي حكمه حتى يؤدي إلى بطلان صلاة خلق كثير وإن لم يكن هو الاكثر فكيف، وكل ذلك إلى الآحاد، ولا سبب له، إلا أن الله تعالى لم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إشاعة جميع الاحكام، بل كلفه إشاعة البعض، وجوز له رد الخلق إلى خبر الواحد في البعض، كما جوز له ردهم إلى القياس في قاعدة الربا، وكان يسهل عليه أن يقول: لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم أو المكيل بالمكيل حتى يستغنى عن الاستنباط من الاشياء الستة، فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما تقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد، ولا استحالة فيه، وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنا، فيجب تصديقه، وليس علة الاشاعة عموم الحاجة أو ندورها، بل علته التعبد والتكليف من الله، وإلا فما يحتاج إليه كثير، كالفصد والحجامة، كما يحتاج إليه الاكثر في كونه شرعا لا ينبغي أن يخفى، فإن قيل: فما الضابط لما تعبد الرسول صلى الله عليه فيه بالاشاعة قلنا إن طلبتم ضابطا لجوازه عقلا فلا ضابط، بل لله تعالى أن يفعل في تكليف رسوله من ذلك ما يشاء، وإن أردتم وقوعه، فإنما يعلم ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا استقرينا السمعيات وجدناها أربعة أقسام: الأول: القرآن، وقد علمنا أنه عني بالمبالغة في إشاعته. الثاني: مباني الاسلام الخمس، ككلمتي الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج، وقد أشاعه إشاعة اشترك في معرفته العام الخاص. الثالث: أصول المعاملات التي ليست ضرورية، مثل أصل البيع والنكاح، فإن ذلك أيضا قد تواتر، بل كالطلاق والعتاق والاستيلاد والتدبير والكتابة فإن هذا تواتر عند أهل العلم، وقامت به الحجة القاطعة إما بالتواتر وإما بنقل الآحاد في مشهد الجماعات مع سكوتهم، والحجة تقوم به، لكن العوام لم يشاركوا العلماء في العلم، بل فرض العوام فيه القبول من العلماء. الرابع: تفاصيل هذه الاصول، فما يفسد الصلاة والعبادات وينقض الطهارة من اللمس والمس والقئ وتكرار مسح الرأس فهذا الجنس منه ما شاع، ومنه ما نقله الآحاد ويجوز أن يكون مما تعم به البلوى، فما نقله الآحاد فلا استحالة فيه ولا مانع، فإن ما أشاعه كان يجوز أن لا يتعبد فيه بالاشاعة، وما وكله إلى الآحاد كان يجوز أن يتعبد فيه بالاشاعة، لكن وقوع هذه الامور يدل على أن التعبد وقع كذلك، فما كان يخالف أمر الله سبحانه وتعالى في شئ من ذلك، هذا تمام الكلام في الاخبار والله أعلم.