الباب الثاني في شروط الراوي وصفته وإذا ثبت وجوب العمل بخبر الواحد، فاعلم أن كل خبر فليس بمقبول، وافهم أولا أنا لسنا نعني بالقبول التصديق، ولا بالرد التكذيب، بل يجب علينا قبول قول العدل، وربما كان كاذبا أو غالطا، ولا يجوز قبول قول الفاسق، وربما كان صادقا، بل نعني بالمقبول ما يجب العمل به، وبالمردود ما لا تكليف علينا في العمل به، والمقبول رواية كل مكلف عدل مسلم ضابط، منفردا كان بروايته أو معه غيره، فهذه خمسة أمور لا بد من النظر فيها: الأول: أن رواية الواحد تقبل، وإن لم تقبل شهادته خلافا للجبائي وجماعة، حيث شرطوا العدد، ولم يقبلوا إلا قول رجلين، ثم لا تثبت رواية كل واحد إلا من رجلين آخرين، وإلى أن ينتهي إلى زماننا يكثر كثرة عظيمة لا يقدر معها على إثبات حديث أصلا، وقال قوم: لا بد من أربعة أخذا من شهادة الزنا، ودليل بطلان مذهبهم أنا نقول: إذا ثبت قبول قول الآحاد مع أنه لا يفيد العلم، فاشتراط العدد تحكم لا يعرف إلا بنص أو قياس على منصوص، ولا سبيل إلى دعوى النص، وما نقل الصحابة من طلب استظهار فهو في واقعتين أو ثلاث لاسباب ذكرناها، أما ما قضوا فيه بقول عائشة وحدها وقول زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم، فهو خارج عن الحصر، فقد علمنا قطعا من أحوالهم قبول خبر الواحد، كما علمنا قطعا رد شهادة الواحد، وإن أخذوا من قياس الشهادة فهو قياس باطل إذ عرف من فعلهم الفرق، ولم لا يقاس عليه في شرط الحرية والذكورة، واشترط في أخبار الزنا أربعة، وفيما يتعلق برؤية الهلال، وشهادة القابلة واحد، والمصير إلى ذلك خرق للإجماع، ولا فرق إن وجب القياس. الشرط الثاني: وهو الأول تحقيقا، فإن العدد ليس عندنا من الشروط، وهو التكليف، فلا تقبل رواية الصبي لانه لا يخاف الله تعالى، فلا وازع له من الكذب، فلا تحصل الثقة بقوله، وقد اتبعوا في قبول الشهادة سكون النفس وحصول الظن، والفاسق أوثق من الصبي، فإنه يخاف الله تعالى وله وازع من دينه وعقله، والصبي لا يخاف الله تعالى أصلا، فهو مردود بطريق الأولى، والتمسك بهذا أولى من التمسك برد إقراره، وإنه إذا لم يقبل قوله فيما يحكيه عن نفسه، فبأن لا يقبل فيما يرويه عن غيره أولى، فإن هذا يبطل بالعبد، فإنه قد لا يقبل إقراره وتقبل روايته، فإن كان سببه أنه يتناول ملك السيد وملك السيد معصوم عنه، فملك الصبي أيضا محفوظ عنه لمصلحته، فما لا يتعلق به قد يؤثر فيه قوله، بل حاله حتى يجوز الاقتداء به اعتمادا على قوله أنه ظاهر، وعلى أنه لا يصلي إلا طاهر، لكنه كما يجوز الاقتداء بالبر والفاجر فكذلك بالصبي والبالغ، وشهادة الفاسق لا تقبل والصبي أجرأ على الكذب منه، أما إذا كان طفلا مميزا عند التحمل، بالغا عند الرواية، فإنه يقبل، لانه لا خلل في تحمله ولا في أدائه، ويدل على قبول سماعه إجماع الصحابة على قبول خبر ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة، من غير فرق بين ما تحملوه بعد البلوغ أو قبله، وعلى ذلك درج السلف والخلف من إحضار الصبيان مجالس الرواية، ومن قبول شهادتهم فيما تحملوه في الصغر، فإن قيل: فقد قال بعض العلماء، تقبل شهادة الصبيان في الجنايات التي تجري بينهم، قلنا: ذلك منه استدلال بالقرائن، إذا كثروا وأخبروا قبل التفرق، أما إذا تفرقوا فيتطرق إليهم التلقين الباطل، ولا وازع لهم فمن قضى به، فإنما قضى به لكثرة الجنايات بينهم ولمسيس الحاجة إلى معرفته بقرائن الاحوال، فلا يكون ذلك على منهاج الشهادة. الشرط الثالث: أن يكون ضابطا، فمن كان عند التحمل غير مميز أو كان مغفلا لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه على وجهه فلا ثقة بقوله، وإن لم يكن فاسقا. الشرط الرابع: أن يكون مسلما، ولا خلاف في أن رواية الكافر لا تقبل، لانه متهم في الدين، وإن كان تقبل شهادة بعضهم على بعض عند أبي حنيفة، ولا يخالف في رد روايته، والاعتماد في ردها على الإجماع المنعقد على سلبه أهلية هذا المنصب في الدين وإن كان عدلا في دين نفسه، وهو أولى من قولنا الفاسق مردود الشهادة، والكفر أعظم أنواع الفسق، وقد قال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا} (الحجرات: 6) لان الفاسق متهم لجرأته على المعصية، والكافر المترهب قد لا يتهم، لكن التعويل على الإجماع في سلب الكافر هذا المنصب، فإن قيل: هذا يتجه في اليهود والنصارى ومن لا يؤمن بديننا، إذ لا يليق في السياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه، فما قولكم في الكافر المتأول، وهو الذي قد قال ببدعة يجب التكفير بها فهو معظم للدين، وممتنع من المعصية وغير عالم بأنه كافر، فلم لا تقبل روايته وقد قبل الشافعي رواية بعض أهل البدع، وإن كان فاسقا ببدعته، لانه متأول في فسقه؟ قلنا: في رواية المبتدع المتأول كلام سيأتي، وأما الكافر وإن كان متأولا فلا تقبل روايته، لان كل كافر متأول، فإن اليهودي أيضا لا يعلم كونه كافرا، أما الذي ليس بمتأول وهو المعاند بلسانه بعد معرفة الحق بقلبه فذلك مما يندر، وتورع المتأول عن الكذب كتورع النصراني فلا ينظر إليه بل هذا المنصب لا يتسفاد إلا بالاسلام وعرف ذلك بالإجماع لا بالقياس. الشرط الخامس: العدالة، قال الله تعالى: {لهم} (الحجرات: 6) وهذا زجر عن اعتماد قول الفاسق، ودليل على شرط العدالة في الرواية والشهادة، والعدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه، فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازغا عن الكذب، ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي، ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر، بل من الصغائر ما يرد به، كسرقة بصلة، وتطفيف في حبة قصدا، وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرئ على الكذب بالاعراض الدنيوية، كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة، نحو الاكل في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الاراذل، وإفراط المزح، والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم، فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به، وما لا فلا، وهذا يختلف بالاضافة إلى المجتهدين، وتفصيل ذلك من الفقه، لا من الاصول، ورب شخص يعتاد الغيبة، ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه، ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه، ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض، ويتفرع عن هذا الشرط مسألتان.
مسألة (تعريف العدالة)
قال بعض أهل العراق العدالة عبارة عن إظهار الاسلام فقط مع سلامته عن فسق ظاهر، فكل مسلم مجهول عنده عدل، وعندنا لا تعرف عدالته إلا بخبرة باطنة والبحث عن سيرته، وسريرته، ويدل على بطلان ما قالوه أمور: الأول: أن الفاسق مردود الشهادة والرواية بنص القرآن، ولعلمنا بأن دليل قبول خبر الواحد قبول الصحابة إياه وإجماعهم، ولم ينقل ذلك عنهم إلا في العدل والفاسق، لو قبلت روايته لقبل بدليل الإجماع أو بالقياس على العدل المجمع عليه ولا إجماع في الفاسق، ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله، فصار الفسق مانعا من الرواية، كالصبا والكفر، وكالرق في الشهادة، ومجهول الحال في هذه الخصال لا يقبل قوله، فكذلك مجهول الحال في الفسق، لانه إن كان فاسقا فهو مردود الرواية، وإن كان عدلا فغير مقبول أيضا للجهل به، كما لو شككنا في صباه ورقه وكفره ولا فرق. الثاني: أنه لا تقبل شهادة المجهول وكذلك روايته، وإن منعوا شهادة المال فقد سلموا شهادة العقوبات، ثم المجهول مردود في العقوبات وطريق الثقة في الرواية والشهادة واحد وإن اختلفا في بقية الشروط. الثالث: أن المفتي المجهول الذي لا يدري أنه بلغ رتبة الاجتهاد أم لا يجوز للعامي قبول قوله، وكذلك إذا لم يدر أنه عالم أم لا، بل سلموا أنه لو لم تعرف عدالته وفسقه فلا يقبل، وأي فرق بين حكاية المفتي عن نفسه اجتهاده وبين حكايته خبرا عن غيره. الرابع: أن شهادة الفرع لا تسمع ما لم يعين الفرع شاهد الأصل، وهو مجهول عند القاضي، فلم يجب تعيينه وتعريفه إن كان قول المجهول مقبولا، وهذا رد على من قبل شهادة المجهول ولا جواب عنه، فإن قيل: يلزمه ذكر شاهد الأصل، فلعل القاضي يعرفه بفسق فيرد شهادته؟ قلنا: إذا كان حد العدالة هو الاسلام من غير ظهور فسق فقد تحقق ذلك، فلم يجب التتبع حتى يظهر الفسق ثم يبطل ما ذكره بالخبر المرسل فإنهم لم يوجبوا ذكر الشيخ، ولعل المروي له يعرف فسقه. الخامس: أن مستندنا في خبر الواحد عمل الصحابة، وهم قد ردوا خبر المجهول، فرد عمر رضي الله عنه فاطمة بنت قيس وقال: كيف نقبل قول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت؟ ورد علي خبر الاشجعي في المفوضة وكان يحلف الراوي، وإنما يحلف من عرف من ظاهره العدالة دون الفسق، ومن رد قول المجهول منهم كان لا ينكر عليه غيره، فكانوا بين راد وساكت، وبمثله ظهر إجماعهم في قبول العدل، إذ كانوا بين قابل وساكت غير منكر ولا معترض. السادس: ما ظهر من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه العدالة والعفاف، وصدق التقوى ممن كان ينفذه للاعمال وأداء الرسالة، وإنما طلب الاشد التقوى، لانه كان قد كلفهم أن لا يقبلوا إلا قول العدل، فهذه أدلة قوية في محل الاجتهاد، قريبة من القطع، والمسألة اجتهادية لا قطعية. شبه الخصوم وهي أربع: الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الاعرابي وحده على رؤية الهلال، ولم يعرف منه إلا الاسلام، قلنا: وكونه أعرابيا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بالوحي، وإما بالخبرة، وإما بتزكية من عرف حاله، فمن يسلم لكم أنه كان مجهولا عنده. الثانية: أن الصحابة قبلوا قول العبيد والنسوان والاعراب، لانهم لم يعرفوهم بالفسق، وعرفوهم بالاسلام، قلنا: إنما قبلوا قول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواج أصحابه، وكانت عدالتهن وعدالة مواليهم مشهورة عندهم، وحيث جهلوا ردوا كرد قول الاشجعي، وقول فاطمة بنت قيس. الثالثة: قولهم: لو أسلم كافر وشهد في الحال أو روى، فإن قلتم: لا نقبل شهادته، فهو بعيد، وإن قبلتم فلا مستند للقبول إلا إسلامه وعدم معرفة الفسق منه، فإذا انقضت مدة ولم نعرف منه فسقا لطول مدة إسلامه لم نوجب رده؟ قلنا: لا نسلم قبول روايته، فقد يسلم الكذوب ويبقى على طبعه، فما لم نطلع على خوف في قلبه وازع عن الكذب لا نقبل شهادته، والتقوى في القلب، وأصله الخوف، وإنما تدل عليه أفعاله في مصادره وموارده، فإن سلمنا قبول روايته فذلك لطرق إسلامه وقرب عهده، بالدين وشتان بين من هو في طراوته وبدايته، وبين من قسا قلبه بطول الالف، فإن قيل: إذا رجعت العدالة إلى هيئة باطنة في النفس وأصلها الخوف وذلك لا يشاهد، بل يستدل عليه بما ليس بقاطع، بل هو مغلب على الظن، فأصل ذلك الخوف هو الايمان، فذلك يدل على الخوف دلالة ظاهرة فلنكتف به، قلنا: لا يدل عليه، فإن المشاهدة والتجربة دلت على أن عدد فساق المؤمنين أكثر من عدد عدولهم، فكيف نشكك نفوسنا فيما عرفناه يقينا، ثم هلا أكتفي بذلك في شهادة العقوبات وشهادة الأصل وحال المفتي في العدالة وسائر ما سلموه. الرابعة: قولهم: يقبل قول المسلم المجهول في كون اللحم لحم ذكي، وكون الماء في الحمام طاهرا وكون الجارية المبيعة رقيقة غير مزوجة ولا معتدة حتى يحل الوطئ بقوله، وقول المجهول في كونه متطهرا للصلاة عن الحدث والجنابة إذا أم الناس، وكذلك قول من يخبر عن نجاسة الماء وطهارته بناء على ظاهر الاسلام، وكذلك قول من يخبر الاعمى عن القبلة، قلنا: أما قول العاقد فمقبول، لا لكونه مجهولا، لكنه مع ظهو ر الفسق، وذلك رخصة لكثرة الفساق، ولمسيس حاجتهم إلى المعاملات، وكذلك جواز الاقتداء بالبر والفاجر، فلا يشترط الستر، أما الخبر عن القبلة وعن طهارة الماء فلم يحصل سكون النفس بقول المخبر فلا يجب قبوله، والمجهول لا تسكن النفس إليه، بل سكون النفس إلى قول فاسق جرب باجتناب الكذب أغلب منه إلى قول المجهول، وما يخص العبد بينه وبين الله تعالى، فلا يبعد أن يرد إلى سكون نفسه، فأما الرواية والشهادة فأمرهما أرفع، وخطرهما عام، فلا يقاسان على غيرهما وهذه صور ظنية اجتهادية، أما رد خبر الفاسق والمجهول فقريب من القطع.
مسألة (هل تقبل شهادة الفاسق المتأول؟)
الفاسق المتأول، وهو الذي لا يعرف فسق نفسه، اختلفوا في شهادته، وقد قال الشافعي: أقبل شهادة الحنفي وأحده، إذا شرب النبيذ، لان هذا فسق غير مقطوع به إنما المقطوع به فسق الخوارج الذين استباحوا الديار وقتلوا الذراري وهم لا يدرون أنهم فسقة، وقد قال الشافعي: تقبل شهادة أهل الاهواء، لا الخطابية من الرافضة، لانهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب، واختار القاضي أنه لا تقبل رواية المبتدع وشهادته لانه فاسق بفعله وبجهله بتحريم فعله، ففسقه مضاعف، وزعم أن جهله بفسق نفسه كجهله بكفر نفسه ورق نفسه، ومثار هذا الخلاف أن الفسق يرد الشهادة لانه نقصان منصب يسلب الاهلية كالكفر والرق أو هو مردود القول للتهمة، فإن كان للتهمة فالمبتدع متورع عن الكذب فلا يتهم، وكلام الشافعي مشير إلى هذا، وهو في محل الاجتهاد، فذهب أبي حنيفة أن الكفر والفسق لا يسلبان الاهلية، بل يوجبان التهمة، ولذلك قبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ومذهب القاضي أن كليهما نقصان منصب يسلب الاهلية، ومذهب الشافعي أن الكفر نقصان، والفسق موجب للرد للتهمة، وهذا هو الاغلب على الظن عندنا. فإن قيل: هذا مشكل على الشافعي من وجهين: أحدهما: أنه قضى بأن النكاح لا ينعقد بشهادة الفاسق وذلك لسلب الاهلية، الثاني: أنه إن كان للتهمة، فإذا غلب على ظن القاضي صدقه فليقبل. قلنا: أما الأول فأخذه قوله صلى الله عليه وسلم: لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل وللشارع أن يشترط زيادة على أهلية الشهادة، كما شرط في الولي، وكما شرط في الزنا زيادة عدد. وأما الثاني: فسببه أن الظنون تختلف، وهو أمر خفي ناطه الشرع بسبب ظاهر وهو عدد مخصوص ووصف مخصوص، وهو العدالة، فيجب اتباع السبب الظاهر دون المعنى الخفي، كما في العقوبات، وكما في رد شهادة الوالد لاحد ولديه على الآخر، فإنه قد يتهم وترد شهادته لان الابوة مظنة للتهمة، فلا ينظر إلى الحال، وإنما مظنة التهمة ارتكاب الفسق مع المعرفة دون من لا يعرف ذلك، ويدل أيضا على مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الاخبار والشهادة وكانوا فسقة متأولين، وعلى قبول ذلك درج التابعون، لانهم متورعون عن الكذب جاهلون بالفسق، فإن قيل: فهل يمكن دعوى الإجماع في ذلك؟ قلنا: لا، فإنا نعلم أن عليا والائمة قبلوا قول قتلة عثمان والخوارج، لكن لا نعلم ذلك من جميع الصحابة، فلعل فيهم من أضمر إنكارا، لكن لم يرد على الامام في محل الاجتهاد، فكيف ولو قبل جميعهم خبرهم، فلا يثبت أن جميعهم اعتقدوا فسقهم، وكيف يفرض والخوارج من جملة أهل الإجماع، وما اعتقدوا فسق أنفسهم، بل فسق خصومهم، وفسق عثمان وطلحة، ووافقهم عليه عمار بن ياسر، وعدي بن حاتم، وابن الكواء، والاشتر النخعي وجماعة من الامراء، وعلي في تقية من الانكار عليهم خوف الفتنة، فإن قيل لو لم يعتقدوا فسق الخوارج لفسقوا قلنا ليس كذلك، فليس الجهل بما يفسق ويكفر فسقا وكفرا، وعلى الجملة فقبولهم روايتهم يدل على أنهم اعتقدوا رد خبر الفاسق: للتهمة، ولم يتهموا المتأول، والله أعلم.
خاتمة جامعة للرواية والشهادة
اعلم أن التكليف والاسلام ولعدالة والضبط يشترك فيه الرواية والشهادة، فهذه أربعة، أما الحرية والذكورة والبصر والقرابة والعدد والعداوة، فهذه الستة تؤثر في الشهادة دون الرواية، لان الرواية حكمها عام لا يختص بشخص حتى تؤثر فيه الصداقة والقرابة والعداوة، فيروي أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، ويروي كل ولد عن والده، والضرير الضابط للصوت تقبل روايته، وإن لم تقبل شهادته، إذ كانت الصحابة يروون عن عائشة اعتمادا على صوتها، وهم كالضرير في حقها، ولا يشترط كون الراوي عالما فقيها، سواء خالف ما رواه القياس أو وافق، إذ رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فلا يشترط إلا الحفظ، ولا يشترط مجالسة العلماء وسماع الاحاديث، بل قبل الصحابة قول أعرابي لم يرو إلا حديثا واحدا، نعم: إذا عارضه حديث العالم الممارس ففي الترجيح نظر سيأتي، ولا تقبل رواية من عرف باللعب والهزل في أمر الحديث أو التساهل في أمر الحديث، أو بكثرة السهو فيه، إذ تبطل الثقة بجميع ذلك، أما الهزل والتساهل في حديث نفسه فقد لا يوجب الرد، ولا يشترط كون الراوي معروف النسب، بل إذا عرف عدالة شخص بالخبرة قبل حديثه، وإن لم يكن له نسب، فضلا عن أن يكون لا يعرف نسبه، ولو روى عن مجهول العين لم نقبله، بل من يقبل رواية المجهول صفته لا يقبل رواية المجهول عينه، إذ لو عرف عينه ربما عرفه بالفسق، بخلاف من عرف عينه ولم يعرفه بالفسق، فلو روى عن شخص ذكر اسمه واسمه مردد بين مجرح وعدل فلا يقبل لاجل التردد
الباب الثالث في الجرح والتعديل
وفيه أربعة فصول
الأول: في عدد المزكى
وقد اختلفوا فيه، فشرط بعض المحدثين العدد في المزكى والجارح، كما في مزكى الشاهد، وقال القاضي: لا يشترط العدد في تزكية الشاهد، ولا في تزكية الراوي، وإن كان الاحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكى، وقال قوم: يشترط في الشهادة دون الرواية، وهذه مسألة فقهية، والاظهر عندنا أنه يشترط في الشهادة دون الرواية، وهذا لان العدد الذي تثبت به الرواية لا يزيد على نفس الرواية، فإن قيل: صح من الصحابة قبول رواية الواحد، ولم يصح قبول تزكية الواحد فيرجع فيه إلى قياس الشرع؟ قلنا: نحن نعلم مما فعلوه كثيرا مما لم يفعلوه، إذ نعلم أنهم كما قبلوا حديث الصديق رضي الله عنه، كانوا يقبلون تعديله لمن روى الحديث، وكيف يزيد شرط الشئ على أصله، والاحصان يثبت بقول اثنين، وإن لم يثبت الزنا إلا بأربعة، ولم يقس عليه، وكذلك نقول: تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية، كما تقبل روايتهما، وهذه مسائل فقهية ثبتت بالمقاييس الشبيهة فلا معنى للاطناب فيها في الاصول.
الفصل الثاني في ذكر سبب الجرح والتعديل
قال االشافعي: يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل إذ قد يجرح بما لا يراه جارحا لاختلاف المذاهب فيه، وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد، وقال قوم: مطلق الجرح يبطل الثقة، ومطلق التعديل لا يحصل الثقة، لتسارع الناس إلى البناء على الظاهر، فلا بد من ذكر سببه، وقال قوم: لا بد من السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين وقال القاضي: لا يجب ذكر المسبب فيهما جميعا لانه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن فلا يصلح للتزكية، وإن كان بصيرا فأي معنى للسؤال، والصحيح عندنا أن هذا يختلف باختلاف حال المزكي، فمن حصلت الثقة ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه، ومن عرفت عدالته في نفسه ولم تعرف بصيرته بشروط العدالة فقد نراجعه إذا فقدنا عالما بصيرا به، وعند ذلك نستفصله، أما إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح، فإن الجارح أطلع على زيادة ما أطلع عليها المعدل ولا نفاها، فإن نفاها بطلت عدالة المزكي، إذ النفي لا يعلم إلا إذا جرحه بقتل إنسان، فقال المعدل: رأيته حيا بعده، تعارضا وعدد المعدل إذا زاد، قيل: إنه يقدم على الجارح، وهو ضعيف، لان سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على مزيد، ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد.
الفصل الثالث في نفس التزكية
وذلك إما بالقول أو بالرواية عنه، أو بالعمل بخبره أو بالحكم بشهادته، فهذه أربعة: أعلاها: صريح القول، وتمامه أن يقول، هو عدل رضا، لاني عرفت منه كيت وكيت، فإن لم يذكر السبب وكان بصيرا بشروط العدالة كفى. الثانية: أن يروي عنه خبرا، وقد اختلفوا في كونه تعديلا، والصحيح أنه إن عرف من عادته أو بصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا من عدل كانت الرواية تعديلا، وإلا فلا، إذ من عادة أكثرهم الرواية من كل من سمعوه، ولو كلفوا الثناء عليهم سكتوا، فليس في روايته ما يصرح بالتعديل، فإن قيل: لو عرفه بالفسق ثم روى عنه كان غاشا في الدين؟ قلنا: لم نوجب على غيره العمل، لكن قال: سمعت فلانا، قال كذا وصدق فيه، ثم لعله لم يعرفه بالفسق ولا العدالة، فروى ووكل البحث إلى من أراد القبول. الثالثة: العمل بالخبر إن أمكن حمله على الاحتياط أو على العمل بدليل آخر وافق الخبر، فليس بتعديل، وإن عرفنا يقينا أنه عمل بالخبر، فهو تعديل، إذ لو عمل بخبر غير العدل لفسق وبطلت عدالته، فإن قيل: لعله ظن أن مجرد الاسلام مع عدم الفسق عدالة قلنا: هذا يتطرق إلى التعديل بالقول ونحن نقول: العمل كالقول، وهذا الاحتمال ينقطع بذكر سبب العدالة، وما ذكرناه تفريع على الاكتفاء بالتعديل المطلق، إذ لو شرط ذكر السبب لشرط في شهادة البيع والنكاح عد جميع شرائط الصحة، وهو بعيد، فإن قيل: لعله عرفه عدلا ويعرفه غيره بالفسق؟ قلنا: من عرفه لا جرم لا يلزمه العمل به، كما لو عدل جريحا. الرابعة: أن يحكم بشهادته، فذلك أقوى من تزكيته بالقول، أما ترك الحكم بشهادته وبخبره فليس جرحا، إذ قد يتوقف في شهادة العدل وروايته لاسباب سوى الجرح، كيف وترك العمل لا يزيد على الجرح المطلق، وهو غير مقبول عند الاكثرين، وبالجملة: إن لم ينقدح وجه لتزكية العمل من تقديم أو دليل آخر فهو كالجرح المطلق.
الفصل الرابع في عدالة الصحابة رضي الله عنهم
والذي عليه سلف الامة وجماهير الخلف أن عدالتهم معلومة بتعديل الله عزوجل إياهم وثنائه عليهم في كتابه، فهو معتقدنا فيهم، إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به، وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل، قال الله تعالى: {بصير} (آل عمران: 011) وقال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} (البقرة: 341) وهو خطاب مع الموجودين في ذلك العصر، وقال تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح: 81) وقال عزوجل: {والسابقون الأولون} (التوبة: 100) وقد ذكر الله تعالى: المهاجرين والانصار في عدة مواضع، وأحسن الثناء، عليهم، وقال صلى الله عليه وسلم: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، وقال صلى الله عليه وسلم: لو أنفق أحدكم مل ء الارض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله اختار لي أصحابا وأصهارا وأنصارا فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب سبحانه وتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والاموال وقتل الآباء والاهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته، كفاية في القطع بعدالتهم، وقد زعم قوم أن حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث، وقال قوم حالهم العدالة في بداية الامر إلى ظهور الحرب والخصومات ثم تغير الحال وسفكت الدماء، فلا بد من البحث، وقال جماهير المعتزلة: عائشة وطلحة والزبير وجميع أهل العراق والشام فساق بقتال الامام الحق، وقال قوم من سلف القدرية: يجب رد شهادة علي وطلحة والزبير مجتمعين ومفترقين، لان فيهم فاسقا لا نعرفه بعينه، وقال قوم: نقبل شهادة كل واحد إذا انفرد، لانه لم يتعين فسقه، أما إذا كان مع مخالفه فشهدا ردا إذ نعلم أن أحدهما فاسق، وشك بعضهم في فسق عثمان وقتلته، وكل هذا جراءة على السلف على خلاف السنة، بل قال قوم: ما جرى بينهم ابتنى على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد والمخطئ معذور لا ترد شهادته، وقال قوم: ليس ذلك مجتهدا فيه، ولكن قتلة عثمان والخوارج مخطئون قطعا، لكنهم جهلوا خطأهم وكانوا متأولين، والفاسق المتأول لا ترد روايته، وهذا أقرب من المصير إلى سقوط تعديل القرآن مطلقا، فإن قيل: القرآن أثنى على الصحابة، فمن الصحابة من عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من لقيه مرة أو من صحبه ساعة أو من طالت صحبته وما حد طولها قلنا: الاسم لا يطلق إلا على من صحبه، ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة، ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته ويعرف ذلك بالتواتر والنقل الصحيح وبقول الصحابي: كثرت صحبتي، ولا حد لتلك الكثرة بتقدير بل بتقريب.