عرض مشاركة واحدة
قديم 12-06-2012, 03:07 PM   #33
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه


مسألة ‏(‏هل شهادة الاربعة فيها غلبة الظن‏؟‏‏)‏
قطع القاضي رحمه الله بأن قول الاربعة قاصر عن العدد الكامل، لانها بينة شرعية يجوز بالإجماع للقاضي وقفها على المزكين لتحصل غلبة الظن، ولا يطلب الظن فيما علم ضرورة، وما ذكره صحيح إذا لم تكن قرينة، فإنا لا نصادف أنفسنا مضطرين إلى خبر الاربعة، أما إذا فرضت قرائن مع ذلك فلا يستحيل حصول التصديق لكن لا يكون ذلك حاصلا عن مجرد الخبر بل عن القرائن مع الخبر والقاضي رحمه الله يحيل ذلك مع القرائن أيضا‏.‏

مسألة ‏(‏هل شهادة الخمسة تفيد العلم‏؟‏‏)‏
قال القاضي علمت بالإجماع أن الاربعة ناقص أما الخمس فأتوقف فيها لانه لم يقم فيها دليل الإجماع، وهذا ضعيف لانا نعلم بالتجربة ذلك فكم من أخبار نسمعها من خمسة أو ستة ولا يحصل لنا العلم بها فهو أيضا ناقص لا نشك فيه‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏العدد الذي يفيد التواتر‏)‏
إذا قدرنا انتفاء القرائن فأقل عدد يحصل به العلم الضروري معلوم لله تعالى وليس معلوما لنا، ولا سبيل لنا إلى معرفته، فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود مكة ووجود الشافعي ووجود الانبياء عليهم السلام عند تواتر الخبر إلينا، وأنه كان بعد خبر المائة والمائتين ويعسر علينا تجربة ذلك وإن تكلفناها، وسبيل التكلف أن نراقب أنفسنا إذا قتل رجل في السوق مثلا وانصرف جماعة عن موضع القتل ودخلوا علينا يخبرونا عن قتله، فإن قول الأول يحرك الظن، وقول الثاني والثالث يؤكده، ولا يزال يتزايد تأكيده إلى أن يصير ضروريا لا يمكننا أن نشكك فيه أنفسنا، فلو تصور الوقوف على اللحظة التي يحصل العلم فيها ضرورة وحفظ حساب المخبرين وعددهم لامكن الوقوف، ولكن درك تلك اللحظة عسير، فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدا خفي التدريج، نحو تزايد عقل الصبي المميز إلى أن يبلغ حد التكليف، ونحو تزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال، فلذلك بقي هذا في غطاء من الاشكال، وتعذر على القوة البشرية إدراكه، فأما ما ذهب إليه قوم التخصيص بالاربعين أخذا من الجمعة، وقوم إلى التخصيص بالسبعين أخذا من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا‏}‏ ‏(‏الاعراف‏:‏ 551‏)‏ وقوم إلى التخصيص بعدد أهل بدر فكل ذلك تحكمات فاسدة باردة لا تناسب الغرض ولا تدل عليه، ويكفي تعارض أقوالهم دليلا على فسادها، فإذا لا سبيل لنا إلى حصر عدده، لكنا بالعلم الضروي نستدل على أن العدد الذي هو الكامل عند الله تعالى قد توافقوا على الاخبار، فإن قيل، فكيف علمتم حصول العلم بالتواتر وأنتم لا تعلمون أقل عدده‏؟‏ قلنا‏:‏ كما نعلم أن الخبز يشبع والماء يروي والخمر يسكر، وإن كنا لا نعلم أقل مقدار منه، ونعلم أن القرائن تفيد العلم وإن لم نقدر على حصر أجناسها وضبط أقل درجاتها‏.‏

مسألة ‏(‏هل يكذب العدد الكامل‏؟‏‏)‏
العدد الكامل إذا أخبروا ولم يحصل العلم بصدقهم فيجب القطع بكذبهم، لانه لا يشترط في حصول العلم إلا شرطان‏:‏ أحدهما‏:‏ كمال العدد‏.‏ والثاني‏:‏ أن يخبروا عن يقين ومشاهدة، فإذا كان العدد كاملا كان امتناع العلم لفوات الشرط الثاني‏:‏ فنعلم أنهم بجملتهم كذبوا أو كذب بعضهم في قوله‏:‏ إني شاهدت ذلك، بل بناه على توهم وظن أو كذب متعمدا، لانهم لو صدقوا وقد كمل عددهم حصل العلم ضرورة، وهذا أيضا أحد الأدلة على أن الاربعة ليسوا عدد التواتر إذ القاضي لم يحصل له العلم بصدقهم، وجاز له القضاء بغلبة الظن بالإجماع، ولو تمر عددهم لكان انتفاء العلم بصدقهم دليلا قاطعا على كذب جميعهم أو كذب واحد منهم، ولقطعنا بأن فيهم كاذبا أو متوهما، ولا يقبل شهادة أربعة يعلم أن فيهم كاذبا أو متوهما فإن قيل فإن لم يحصل العلم بقولهم وقد كثروا كثرة يستحيل بحكم العادة توافقهم على الكذب عن اتفاق، ويستحيل دخولهم تحت ضابط وتساعدهم على الكذب، بحيث ينكتم ذلك على جميعهم، ولا يتحدث به واحد منهم، فعلى ماذا يحمل كذبهم، وكيف يتصور ذلك‏؟‏ قلنا‏:‏ إنما يمكن ذلك بأن يكونوا منقسمين إلى صادقين وكاذبين، أما الصادقون فعددهم ناقص عن المبلغ الذي يستقل بإفادة العلم، وأما الكاذبون فيحتمل أن يقع منهم التواطؤ لنقصان عددهم عن مبلغ يستحيل عليهم التواطؤ مع الانكتام، فإن كانوا مبلغا لا يستحيل التواطؤ عليهم مع الانكتام فلا يستحيل الانكتام في الحال إلى أن يتحدث به في ثاني الحال ونقل الشيعة نص الامامة مع كثرتها إنما لم يفد العلم لانهم لم يخبروا عن المشاهدة والسماع، بل لو سمعوا عن سلف فهم صادقون، لكن السلف الواضعون لهذا الكذب يكون عددهم ناقصا عن مبلغ يستحيل منهم التواطؤ مع الانكتام، وربما ظن الخلف أن عددهم كامل لا يستحيل عليهم التواطؤ فيخطئون في الظن فيقطعون بالحكم، ويكون هذا منشأ غلطهم‏.‏

خاتمة لهذا الباب في بيان شروط فاسدة ذهب إليها قوم
وهي خمسة‏:‏ الأول‏:‏ شرط قوم في عدد التواتر أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد، وهذا فاسد، فإن الحجيج بأجمعهم إذا أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج ومنعتهم من عرفات حصل العلم بقولهم وهم محصورون، وأهل الجامع إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت الناس من الصلاة علم صدقهم، مع أنهم يحويهم مسجد، فضلا عن بلد، وكذلك أهل المدينة إذا أخبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ حصل العلم وقد حواهم بلد‏.‏ الثاني‏:‏ شرط قوم أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد وتختلف أوطانهم فلا يكونوا في محلة واحدة وتختلف أديانهم، فلا يكونوا أهل مذهب واحد، وهذا فاسد لان كونهم من محلة واحدة ونسب واحد لا يؤثر إلا في إمكان تواطئهم، والكثرة إلى كمال العدد تدفع هذا الامكان، وإن لم تكن كثرة أمكن التواطؤ من بني الاعمام، كما يمكن من الاخوة ومن أهل بلد، كما يمكن من أهل محلة وكيف يعتبر اختلاف الدين ونحن نعلم صدق المسلمين إذا أخبروا عن قتل وقتنة وواقعة، بل نعلم صدق أهل قسطنطينية إذا أخبروا عن موت قيصر‏.‏ فإن قيل‏:‏ فلنعلم صدق النصارى في نقل التثليث عن عيسى عليه السلام وصدقهم في صلبه‏؟‏ قلنا‏:‏ لم ينقلوا التثليث توقيفا وسماعا عن عيسى بنص صريح لا يحتمل التأويل، لكن توهموا ذلك بألفاظ موهمة لم يقفوا على مغزاها كما فهم المشبهة التشبيه من آيات وأخبارلم يفهموا معناها، والتواتر ينبغي أن يصدر عن محسوس، فأما قتل عيسى عليه السلام فقد صدقوا في أنهم شاهدوا شخصا يشبه عيسى عليه السلام مقتولا ولكن شبه لهم، فإن قيل‏:‏ فهل يتصور التشبيه في المحسوس، فإن تصور فليشك كل واحد منا إذا رأى زوجته وولده فلعله شبه له‏؟‏ قلنا‏:‏ إن كان الزمان زمان خرق العادة يجوز التشبيه في المحسوس، وذلك زمان النبوة لاثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يوجب الشك في غير ذلك الزمان، إذ لا خلاف في قدرة الله تعالى على قلب العصا ثعبانا وخرق العادة به لتصديق النبي عليه السلام، ومع ذلك إذا أخذنا العصا في زماننا لم نخف من انقلابها ثعبانا ثقة بالعادات في زماننا‏.‏ فإن قيل‏:‏ خرق العادة في زماننا هذا جائز كرامة للاولياء، فلعل وليا من الأولياء دعا الله تعالى بذلك فأجابه، فلنشك لامكان ذلك‏؟‏ قلنا‏:‏ إذا فعل الله تعالى ذلك نزع عن قلوبنا العلم الضروري الحاصل بالعادات، فإذا وجدنا من أنفسنا علما ضروريا بأنه لم تنقلب العصا ثعبانا ولا الجبل ذهبا، ولا الحصى في الجبال جواهر ويواقيت قطعنا بأن الله تعالى لم يخرق العادة، وإن كان قدارا عليها‏.‏ الثالث‏:‏ شرط قوم أن يكونوا أولياء مؤمنين، وهو فاسد، إذ يحصل العلم بقول الفسقة والمرجئة والقدرية، بل بقول الروم إذا أخبروا بموت ملكهم حصل العلم‏.‏ الرابع‏:‏ شرط قوم أن لا يكونوا محمولين بالسيف على الاخبار، وهو فاسد، لانهم إن حملوا على الكذب لم يحصل العلم لفقد الشرط وهو الاخبار عن العلم الضروري وإن صدقوا حصل العلم، فلو أن أهل بغداد حملهم الخليفة بالسيف على الاخبار عن محسوس شاهدوه أو شهادة كتموها فأخبروا حصل العلم بقولهم‏.‏ فإن قيل‏:‏ هل يتصور عدد يحصل العلم بقولهم إذا أخبروا عن اختيار ولا يحصل لو أخبروا عن إكراه‏؟‏ قلنا‏:‏ أجاب القاضي رحمه الله ذلك من حيث أنه لم يجعل للقرائن مدخلا، وذلك غير محال عندنا، فإنا بينا أن النفس تشعر بأن هؤلاء على كثرتهم لا يجمعهم على الكذب جامع ثم تصدق، فإذا ظهر كون السيف جامعا لم يبعد أن لا يحصل العلم‏.‏ الخامس‏:‏ شرط الروافض أن يكون الامام المعصوم في جملة المخبرين، وهذا يوجب العلم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، لانه معصوم، فأي حاجة إلى أخبار غيره، ويجب أن لا يحصل العلم بنقلهم على التواتر النص على علي رضي الله عنه، إذ ليس فيهم معصوم، وأن لا تلزم حجة الامام إلا على من شاهده من أهل بلده وسمع منه دون سائر البلاد، وأن لا تقوم الحجة بقول أمرائه ودعاته ورسله وقضاته، إذ ليسوا معصومين، وأن لا يعلم موت أمير وقتله ووقوع فتنة وقتال في غير مصر، وكل ذلك لازم على هذيانهم‏.‏

الباب الثالث‏:‏ في تقسيم الخبر إلى ما يجب تصديقه وإلى ما يجب تكذيبه وإلى ما يجب التوقف فيه
وهي ثلاثة أقسام‏:‏
القسم الأول‏:‏ ما يجب تصديقه
وهي سبعة‏.‏ الأول‏:‏ ما أخبر عنه عدد التواتر، فإنه يجب تصديقه ضرورة وإن لم يدل عليه دليل آخر، فليس في الاخبار ما يعلم صدقه بمجرد الاخبار إلا المتواتر، وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس الخبر‏.‏ الثاني‏:‏ ما أخبر الله تعالى عنه، فهو صدق بدليل استحالة الكذب عليه، ويدل عليه دليلان، أقواهما إخبار الرسول عليه السلام عن امتناع الكذب عليه تعالى، والثاني أن كلامه تعالى قائم بنفسه، ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل، إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم، والجهل على الله تعالى محال‏.‏ الثالث‏:‏ خبر الرسول عليه السلام ودليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة إظهار المعجزة على أيدي الكاذبين، لان ذلك لو كان ممكنا لعجز الباري عن تصديقه رسله والعجز عليه محال‏.‏ الرابع‏:‏ ما أخبر عنه الامة إذ ثبت عصمتها بقول الرسول عليه السلام المعصوم عن الكذب، وفي معناه كل شخص أخبر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عنه بأنه صادق لا يكذب‏.‏ الخامس‏:‏ كل خبر يوافق ما أخبر الله تعالى عنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو الامة أو من صدقه هؤلاء أو دل العقل عليه والسمع، فإنه لو كان كاذبا لكان الموافق له كذبا‏.‏ السادس‏:‏ كل خبر صح أنه ذكره المخبر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه ولم يكن غافلا عنه فسكت عليه، لانه لو كان كذبا لما سكت عنه ولا عن تكذيبه، ونعني به ما يتعلق بالدين‏.‏ السابع‏:‏ كل خبر ذكر بين يدي جماعة أمسكوا عن تكذيبه والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وامتناع السكوت لو كان كذبا، وذلك بأن يكون للخبر وقع في نفوسهم، وهم عدد يمتنع في مستقر العادة التواطؤ عليهم بحيث ينكتم التواطؤ ولا يتحدثون به، وبمثل هذه الطريقة ثبتت أكثر أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان ينقل بمشهد جماعات وكانوا يسكتون عن التكذيب مع استحالة السكوت عن التكذيب على مثلهم، فمهما كمل الشرط وترك النكير كما سبق نزل منزلة قولهم صدقت، فإن قيل، لو ادعى واحد أمرا بمشهد جماعة وادعى علمهم به فسكتوا عن تكذيبه فهل يثبت صدقه‏؟‏ قلنا‏:‏ إن كان ذلك في محل النظر والاجتهاد فلا يثبت صدقه، لاحتمال أنهم اعتقدوا عن النظر ما ادعاه، وإن كان يسنده إلى مشاهدة وكانوا عددا يستحيل عليهم الدخول تحت داع واحد، فالسكوت عن تكذيبه تصديق من جهتهم، فإن قيل‏:‏ وهل يدل على الصدق تواتر الخبر عن جماعة لا يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب قصدا ولا التوافق على اتفاق‏؟‏ قلنا‏:‏ أحال القاضي رحمه الله ذلك، وقال قولهم يورث العلم ضرورة إن بلغوا عدد التواتر في علم الله، فإن لم يورث العلم الضروري دل على نقصان العدد ولا يجوز الاستدلال على صدقهم بالنظر في أحوالهم، بل نعلم قطعا كذبهم أو اشتمالهم على كاذب أو متوهم، وهذا على مذهبه إن لم ينظر إلى القرائن لازم، أما من نظر إلى القرائن فلا يبعد أن يعلم صدقهم بنوع من النظر، فإن قيل خبر الواحد الذي عمل به الامة هل يجب تصديقه‏؟‏ قلنا‏:‏ إن عملوا على وفقه فلعلهم عملوا عن دليل آخر، وإن عملوا به أيضا فقد أمروا بالعمل بخبر الواحد وإن لم يعرفوا صدقه، فلا يلزم الحكم بصدقه، فإن قيل لو قدر الراوي كاذبا لكان عمل الامة بالباطل، وهو خطأ، ولا يجوز ذلك على الامة، قلنا‏:‏ الامة ما تعبدوا إلا بالعمل بخبر يغلب على الظن صدقهم فيه، وقد غلب على ظنهم، كالقاضي إذ قضى بشهادة عدلين فلا يكون مخطئا، وإن كان الشاهد كاذبا بل يكون محقا، لانه لم يؤمر إلا به‏.‏

القسم الثاني من الاخبار ما يعلم كذبه
وهي أربعة‏:‏ الأول‏:‏ ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر، وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة المذكورة، كمن أخبر عن الجمع بين الضدين وإحياء الموتى في الحال وأنا على جناح نسر أو في لجة بحر وما يحس خلافه‏.‏ الثاني‏:‏ ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الامة، فإنه ورد مكذبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللامة‏.‏ الثالث‏:‏ ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إذا قالوا حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلا‏.‏ الرابع‏:‏ ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله، كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلدة قتل في السوق على ملا من الناس ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله، ولا حالت العادة اختصاصه بحكايته، وبمثل هذه الطريقة عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن ونص الرسول على نبي آخر بعده، وأنه أعقب جماعة من الأولاد الذكور، ونصه على إمام بعينه على ملا من الناس وفرضه صوم شوال وصلاة الضحى وأمثال ذلك مما إذا كان أحالت العادة كتمانه، فإن قيل‏:‏ فقد تفرد الآحاد بنقل ما تتوفر الدواعي عليه حتى وقع الخلاف فيه، كإفراده صلى الله عليه وسلم الحج أو قرانه، وكدخوله الكعبة وصلاته فيها، وأنه عليه السلام نكح ميمونة وهو حرام، وأنه دخل مكة عنوة، وقبوله شهادة الاعرابي وحده على رؤية الهلال، وانفراد الاعرابي بالرؤية حتى لم يشاركه أحد فيه وانشقاق القمر، ولم ينقله إلا ابن مسعود رضي الله عنه وعدد يسير معه، وكان ينبغي أن يراه كل مؤمن وكافر وباد وحاضر، ونقل النصارى معجزات عيسى عليه السلام ولم ينقلوا كلامه في المهد، وهو من أعظم العلامات، ونقلت الامة القرآن ولم ينقلوا بقية معجزات الرسول عليه السلام كنقل القرآن في الشيوع، ونقل الناس أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام شعيب عليه السلام، ونقلت الامة سور القرآن ولم تنقل المعوذتين نقل غيرهما، حتى خالف ابن مسعود رضي الله عنه في كونهما من القرآن، وما تعم به البلوى من اللمس والمس أيضا، فكل هذا نقض على هذه القاعدة، والجواب أن إفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرانه ليس مما يجب أن ينكشف وأن ينادي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكافة، بل لا يطلع عليه إلا من أطلعه عليه أو على نيته بإخباره إياه، نعم ظهر على الاستفاضة تعليمه الناس الافراد والقران جميعا، وأما دخوله الكعبة وصلاته فيها فقد يكون ذلك مع نفر يسير ومع واحد واثنين ولا يقع شائعا، كيف ولو وقع شائعا لم تتوفر الدواعي على دوام نقله، لانه ليس من أصول الدين ولا من فرائضه ومهماته، وأما دخوله مكة عنوة فقد صح على الاستفاضة دخوله متسلحا مع الالوية والاعلام وتمام التمكن والاستيلاء وبذله الامان لمن دخل دار أبي سفيان ولمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة، وكل ذلك غير مختلف فيه، ولكن استدل بعض الفقهاء بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ودى قوما قتلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه على أنه كان صلحا، ووقوع مثل هذه الشبهة للآحاد ممكن، إلى أن تزال بالنظر وأن يكون ذلك بنهي خاص عن قوم مخصوصين، ولسبب مخصوص، وأما انفراد الاعرابي برؤية الهلال فممكن، وقد يقع مثل ذلك في زماننا في الليلة الأولى لخفاء الهلال ودقته، فينفرد به من يتحد بصره، وتصدق في الطلب رغبته، ويقع على موضع الهلال بصره عن معرفة أو اتفاق، وأما انشقاق القمر فهي آية ليلية وقعت والناس نيام، غافلون، وإنما كان في لحظة، فرآه من ناظره النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ونبهه على النظر له، وما انشق منه إلا شعبة ثم عاد صحيحا في لحظة، فكم من انقضاض كوكب وزلزلة وأمور هائلة من ريح وصاعقة بالليل لا يتنبه له إلا الآحاد على أن مثل هذا، إنما يعمله من قيل له انظر إليه فانشق عقيب القول والتحدي، ومن لم يعلم ذلك ووقع عليه بصره ربما توهم أنه خيال انقشع أو كوكب كان تحت القمر فانجلى القمر عنه، أو قطعة سحاب سترت قطعة من القمر، فلهذا لم يتواتر نقله، وأما نقلهم القرآن دون سائر الاعلام فذلك لامرين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الدواعي لا تتوفر بعد ثبوت النبوة بالقرآن واستقلالها به على نقل ما يقع بعده، بحيث تقع المداومة عليه اكتفاء بثبوتها بالقرآن الذي هو أعظم الآيات، ولان غير القرآن إنما ظهر في عمر كل واحد مرة واحدة، وربما ظهر بين يدي نفر يسير، والقرآن كان يردده طول عمره مرة بعد أخرى، ويلقيه على كافتهم قصدا، ويأمرهم بحفظه والتلاوة له والعمل بموجبه، وأما المعوذتان فقد ثبت نقلهما شائعا من القرآن كسائر السور، وابن مسعود رضي الله عنه لم ينكر كونهما من القرآن لكن أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد أيضا، لانه كانت السنة عنده أن لا يثبت إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإثباته وكتبته ولما لم يجده كتب ذلك ولا سمع أمره به أنكره، وهذا تأويل وليس جحدا لكونه قرآنا، ولو جحد ذلك لكان فسقا عظيما لا يضاف إلى مثله، ولا إلى أحد من الصحابة، وأما ترك النصارى نقل كلام عيسى عليه السلام في المهد ، فلعله لم يتكلم إلا بحضرة نفر يسير ومرة واحدة لتبرئة مريم عليها السلام عما نسبوها إليه، فلم ينتشر ذلك ولم يحصل العلم بقول من سمع ذلك منهم فاندرس فيما بينهم، وأما شعيب ومن يجري مجراه من الرسل عليهم السلام، فلم يكن لهم شريعة ينفردون بها بل كانوا يدعون إلى شريعة من قبلهم، فلم تتوفر الدواعي على نقل معجزاتهم، إذ لم يكن لهم معجزات ظاهرة، لكن ثبت صدقهم بالنص والتوقيف من نبي ذي معجزة، وأما الخبر عن اللمس والمس للذكر وما تعم به البلوى، فيجوز أن يخبر به الرسول عليه السلام عددا يسيرا ثم ينقلونه آحادا ولا يستفيض، وليس ذلك مما يعظم في الصدور وتتوفر الدواعي على التحدث به دائما‏.‏

القسم الثالث‏:‏ ما لا يعلم صدقه ولا كذبه
فيجب التوقف فيه، وهو جملة الاخبار الواردة في أحكام الشرع والعبادات مما عدا القسمين المذكورين، وهو كل خبر لم يعرف صدقه ولا كذبه، فإن قيل‏:‏ عدم قيام الدليل على صدقه يدل على كذبه، إذ لو كان صدقا لما أخلانا الله تعالى عن دليل على صدقه، قلنا‏:‏ ولم يستحيل أن يخلينا عن دليل قاطع على صدقه، ولو قلب هذا وقيل يعلم صدقه لانه لو كان كذبا لما أخلانا الله تعالى عن دليل قاطع على كذبه، لكان مقاوما لهذا الكلام، وكيف يجوز ذلك، ويلزم منه أن يقطع بكذب كل شاهد لا يقطع بصدقه وكفر كل قاض ومفت وفجوره، إذا لم يعلم إسلامه وورعه بقاطع، وكذا كل قياس ودليل في الشرع لا يقطع بصحته فليقطع ببطلانه، وهذا بخلاف التحدي بالنبوة إذا لم تظهر معجزة، فإنا نقطع بكذبه، لان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كلفنا تصديقه وتصديقه بغير دليل محال وتكليف المحال محال فبه علمنا، أنا لم نكلف تصديقه، فلم يكن رسولا إلينا قطعا، أما خبر الواحد، وشهادة الاثنين فلم نتعبد فيه بالتصديق بل بالعمل عند ظن الصدق والظن حاصل، والعمل ممكن ونحن مصيبون وإن كان هو كاذبا ولو عملنا بقول شاهد واحد، فنحن مخطئون وإن كان هو صادقا، فإن قيل‏:‏ إنما وجب إقامة المعجزة لنعرف صدقه فنتبعه فيما يشرعه فليجب عليه إزالة الشك فيما يبلغ من الشرع بالمشافهة والاشاعة إلى حد التواتر ليحصل العلم في حق من لم يشافهه به، قلنا لا استحالة في أن يقسم الشارع شرعه إلى ما يتعبد فيه بالعلم والعمل فيجب فيه، ما ذكرتموه وإلى ما يتعبد فيه بالعمل دون العلم‏:‏ فيكون فرض من يسمع من الرسول العلم والعمل جميعا، وفرض من غاب العمل دون العلم، ويكون العمل منوطا بظن الصدق في الخبر، وإن كان هو كاذبا عند الله تعالى، وكذا الظن الحاصل من قياس وقول شاهد، ويمين المدعى عليه أو يمين المدعي مع النكول، فلا نحيل شيئا من ذلك‏.‏

القسم الثاني من هذا الأصل في أخبار الآحاد
وفيه أبواب
الباب الأول في إثبات التعبد به مع قصوره عن إفادة العلم
وفيه أربع مسائل‏:‏
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏هل خبر الواحد يفيد العلم‏؟‏‏)‏
اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الاخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد، وأما قول الرسول عليه السلام مما علم صحته فلا يسمى خبر الواحد، وإذا عرفت هذا فنقول‏:‏ خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضرورة، إنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين، وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل، إذ يسمى الظن علما، ولهذا قال بعضهم‏:‏ يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن، وإنما هو الظن، ولا تمسك لهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن علمتموهن مؤمنات‏}‏ ‏(‏الممتحنة‏:‏ 01‏)‏ وأنه أراد الظاهر، لان المراد به العلم الحقيقي بكلمة الشهادة التي هي ظاهر الايمان دون الباطن الذي لم يكلف به، والايمان باللسان يسمى إيمانا مجازا، ولا تمسك لهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 63‏)‏ وأن الخبر لو لم يفد العلم لما جاز العمل به، لان المراد بالآية منع الشاهد عن جزم الشهادة إلا بما يتحقق، وأما العلم بخبر الواحد فمعلوم الوجوب بدليل قاطع أوجب العمل عند ظن الصدق، والظن حاصل قطعا، ووجوب العمل عنده معلوم قطعا، كالحكم بشهادة اثنين، أو يمين المدعي مع نكول المدعى عليه‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏هل يتعبد بخبر الواحد‏؟‏‏)‏
أنكر منكرون جواز التعبد بخبر الواحد عقلا، فضلا عن وقوعه سمعا، فيقال لهم‏:‏ من أين عرفتم استحالته‏؟‏ أبالضرورة ونحن نخالفكم فيه، ولا نزاع في الضرورة، أو بدليل ولا سبيل لهم إلى إثباته، لانه لو كان محالا لكان يستحيل، إما لذاته أو لمفسدة تتولد منه، ولا يستحيل لذاته ولا التفات إلى المفسدة، ولا نسلم أيضا لو التفتنا إليها، فلا بد من بيان وجه المفسدة، فإن قيل‏:‏ وجه المفسدة أن يروي الواحد خبرا في سفك دم أو في استحلال بضع، وربما يكذب، فيظن أن سفك الدم هو بأمر الله تعالى، ولا يكون بأمره، فكيف يجوز الهجوم بالجهل‏؟‏ ومن شككنا في إباحة بضعه وسفك دمه، فلا يجوز الهجوم عليه بالشك، فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل واقتحام الباطل بالتوهم، بل إذا أمر الله تعالى بأمر فليعرفنا أمره لنكون على بصيرة، إما ممتثلون أو مخالفون، والجواب‏:‏ أن هذا السؤال إن صدر ممن ينكر الشرائع فنقول له‏:‏ أي استحالة في أن يقول الله تعالى لعباده إذا طار بكم طائر وظننتموه غرابا فقد أوجبت عليكم كذا وكذا، وجعلت ظنكم علامة وجوب العمل كما جعلت زوال الشمس علامة وجوب الصلاة فيكون نفس الظن علامة الوجوب والظن مدرك بالحس وجوده، فيكون الوجوب معلوما، فمن أتى بالواجب عند الظن فقد امتثل قطعا وأصاب، فإذا جاز أن يجعل الزوال أو ظن كونه غرابا علامة، فلم لا يجوز أن يجعل ظنه علامة‏؟‏ ويقال له‏:‏ إذا ظننت صدق الراوي والشاهد والحالف، فاحكم به ولست متعبدا بمعرفة صدقه، ولكن بالعمل عند ظن صدقه، وأنت مصيب وممتثل صدق أو كذب، ولست متعبدا بالعلم بصدقه، ولكن بالعمل عند ظنك الذي تحسه من نفسك، وهذا ما نعتقده في القياس وخبر الواحد والحكم بالشاهد واليمين وغير ذلك، وأما إذا صدر هذا من مقر بالشرع فلا يتمكن منه، لانه تعبد بالعمل بالشهادة والحكم والفتوى ومعاينة الكعبة وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه خمسة، ثم الشهادة، قد يقطع بها كشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادة خزيمة بن ثابت حين صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادة موسى وهارون والانبياء صلوات الله عليهم، وقد يظن ذلك كشهادة غيرهم، ثم ألحق المظنون بالمقطوع به في وجوب العمل، وكذلك فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه مقطوع به وفتوى سائر الائمة وحكم سائر القضاة مظنون وألحق بالمعلوم، والكعبة تعلم قطعا بالعيان وتظن بالاجتهاد، وعند الظن يجب العمل، كما يجب عند المشاهدة، فكذلك خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يجب العمل به عند التواتر، فلم يستحيل أن يلحق المظنون بالمعلوم في وجوب العمل خاصة، ومن أراد أن يفرق بين هذه الخمسة في مفسدة أو مصلحة لم يتمكن منه أصلا، فإن قيل‏:‏ فهل يجوز التعبد بالعمل بخبر الفاسق‏؟‏ قلنا‏:‏ قال قوم‏:‏ يجوز بشرط ظن الصدق، وهذا الشرط عندنا فاسد، بل كما يجوز أن تجعل حركة الفلك علامة التعبد بالصلاة فحركة لسان الفاسق يجوز أن تجعل علامة، فتكليف العمل عند وجود الخبر شئ، وكون الخبر صدقا أو كذبا شئ آخر‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏هل يجب العمل بخبر الواحد‏؟‏‏)‏
ذهب قوم إلى أن العقل يدل على وجوب العمل بخبر الواحد دون الأدلة السمعية، واستدلوا عليه بدليلين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المفتي إذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب أو إجماع أو سنة متواترة ووجد خبر الواحد، فلو لم يحكم به لتعطلت الاحكام، ولان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مبعوثا إلى أهل العصر يحتاج إلى إنفاذ الرسل، إذ لا يقدر على مشافهة الجميع ولا إشاعة جميع أحكامه على التواتر إلى كل أحد، إذ لو أنفذ عدد التواتر إلى كل قطر لم يف بذلك أهل مدينته، وهذا ضعيف، لان المفتي إذا فقد الأدلة القاطعة يرجع إلى البراءة الأصلة والاستصحاب، كما لو فقد خبر الواحد أيضا، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فليقتصر على من يقدر على تبليغه، فمن الناس في الجزائر من لم يبلغه الشرع فلا يكلف به، فليس تكليف الجميع واجبا، نعم لو تعبد نبي بأن يكلف جميع الخلق ولا يخلي واقعة عن حكم الله تعالى ولا شخصا عن التكليف، فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد ضرورة في حقه‏.‏ والدليل الثاني‏:‏ إنهم قالوا‏:‏ صدق الراوي ممكن، فلو لم نعمل بخبر الواحد لكنا قد تركنا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فالاحتياط والحزم في العمل وهو باطل من ثلاثة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن كذبه ممكن، فربما يكون عملنا بخلاف الواجب‏.‏ الثاني‏:‏ أنه كان يجب العمل بخبر الكافر والفاسق، لان صدقه ممكن‏.‏ الثالث‏:‏ هو أن براءة الذمة معلومة بالعقل والنفي الأصلي فلا ترفع بالوهم، وقد استدل به قوم في نفي خبر الواحد، وهو وإن كان فاسدا فهو أقوم من قوله إن الصدق إذا كان ممكنا يجب العمل به‏.‏

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة مسألة ‏(‏هل يتعبد بخبر الواحد‏؟‏‏)‏
الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير من سلف الامة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا، ولا يجب التعبد به عقلا، وأن التعبد به واقع سمعا، وقال جماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاساني بتحريم العمل به سمعا، ويدل على بطلان مذهبهم مسلكان قاطعان‏:‏ أحدهما‏:‏ إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد‏.‏ والثاني‏:‏ تواتر الخبر بإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة والرسل إلى البلاد وتكليفه إياهم تصديقهم فيما نقلوه من الشرع ونحن نقرر هذين المسلكين‏:‏ المسلك الأول‏:‏ ما تواتر و اشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر، وإن لم تتواتر آحادها، فيحصل العلم بمجموعها، ونحن نشير إلى بعضها‏:‏ فمنها‏:‏ ما روي عن عمر رضي الله عنه في وقائع كثيرة، من ذلك قصة الجنين وقيامه في ذلك يقول‏:‏ أذكر الله امرءاسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا في الجنين، فقام إليه حمل بن مالك بن النابغة وقال‏:‏ كنت بين جارتين ‏(‏يعني ضرتين‏)‏ فضربت إحداهما الاخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة، فقال عمر، لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، أي لم نقض بالغرة أصلا، وقد انفصل الجنين ميتا للشك في أصل حياته‏.‏ ومن ذلك أنه كان رضي الله عنه لا يرى توريث المرأة من دية زوجها، فلما أخبره الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته رجع إلى ذلك‏.‏ ومن ذلك ما تظاهرت به الاخبار عنه في قصة المجوس أنه قال‏:‏ ما أدري ما الذي أصنع في أمرهم وقال‏:‏ أنشد الله امرءا سمع فيهم شيئا إلا رفعه إلينا، فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأخذ الجزية منهم وأقرهم على دينهم‏.‏ ومنها‏:‏ ما ظهر منه ومن عثمان رضي الله عنهما وجماهير الصحابة رضي الله عنهم من الرجوع عن سقوط فرض الغسل من التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها وقولها‏:‏ فعلت ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا‏.‏ ومن ذلك ما صح عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى في السكنى بخبر فريعة بنت مالك بعد أن أرسل إليها وسألها‏.‏ ومنها‏:‏ ما ظهر من علي رضي الله عنه من قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين، حتى قال في الخبر المشهور‏:‏ كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني غيره أحلفته، فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما من عبد يصيب ذنبا الحديث‏.‏‏.‏‏.‏ فكان يحلف المخبر لا لتهمة بالكذب، ولكن للاحتياط في سياق الحديث على وجهه والتحرز والتحرز من تغيير لفظه نقلا بالمعنى، ولئلا يقدم على الرواية بالظن بل عند السماع المحقق‏.‏ ومنها‏:‏ ما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان يرى أن الحائض لا يجوز لها أن تصدر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت، وأنكر على ابن عباس خلافه في ذلك، فقيل له‏:‏ إن ابن عباس سأل فلانة الانصارية‏:‏ هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأخبرته، فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول لابن عباس‏:‏ ما أراك إلا قد صدقت‏:‏ ورجع إلى موافقته بخبر الانصارية‏.‏ ومنها‏:‏ ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال‏:‏ كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ تمر، إذا أتانا آت فقال‏:‏ إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة‏:‏ قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت‏.‏ ومنها‏:‏ ما اشتهر من عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد، وأنهم أتاهم آت فأخبرهم بنسخ القبلة، فانحرفوا إلى الكعبة بخبره‏.‏ ومنها‏:‏ ما ظهر من ابن عباس رضي الله عنه، وقد قيل أن فلانا رجلا من المسلمين يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى نبي إسرائيل عليه السلام، فقال ابن عباس‏:‏ كذب عدو الله‏:‏ أخبرني أبي بن كعب قال‏:‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر موسى والخضر بشئ يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل، فتجاوز ابن عباس العمل بخبر الواحد وبادر إلى التكذيب بأصله، والقطع بذلك لاجل خبر أبي بن كعب‏.‏ ومنها‏:‏ أيضا ما روي عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من آنية الذهب والورق بأكثر من وزنه، فقال له أبو الدرداء‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك، فقال له معاوية‏:‏ إني لا أرى بذلك بأسا، فقال أبو الدرداء‏:‏ من يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه‏:‏ لا أساكنك بأرض أبدا‏.‏ ومنها‏:‏ ما اشتهر عن جميعهم في أخبار لا تحصى الرجوع إلى عائشة وأم سلمة وميمونة وحفصة رضوان الله عليهن وإلى فاطمة بنت أسد، وفلانة وفلانة ممن لا يحصى كثرة، وإلى زيد وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم من الرجال والنساء والعبيد والموالي، وعلى ذلك جرت سنة التابعين بعدهم، حتى قال الشافعي رحمه الله وجدنا علي بن الحسين رضي الله عنه يعول على أخبار الآحاد، وكذلك محمد بن علي، وجبير بن مطعم، ونافع بن جبير وخارجة بن زيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، وكذلك كان حال طاوس، وعطاء، ومجاهد، وكان سعيد بن المسيب يقول‏:‏ أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصرف، فيثبت حديثه سنة ويقول‏:‏ حدثني أبو هريرة، وعروة ابن الزبير يقول‏:‏ حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان ويعترض بذلك على قضية عمر بن عبد العزيز فينقض عمر قضاءه لاجل ذلك، وكذلك ميسرة باليمن ومكحول بالشام، وعلى ذلك كان فقهاء البصرة كالحسن وابن سيرين وفقهاء الكوفة وتابعوهم، كعلقمة والاسود والشعبي ومسروق، وعليه جرى من بعدهم من الفقهاء، ولم ينكر عليهم أحد في عصر، ولو كان نكير لنقل، ولوجب في مستقر العادة اشتهاره، وتوفرت الدواعي على نقله، كما توفرت على نقل العمل به، فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه من السلف، وإنما الخلاف، حدث بعدهم، فإن قيل‏:‏ لعلهم عملوا، بها مع قرائن أو بأخبار أخر صاحبتها أو ظواهر ومقاييس وأسباب قارنتها لا بمجرد هذه الاخبار كما زعمتم كما قلتم عملهم بالعموم، وصيغة الامر والنهي ليس نصا صريحا على أنهم عملوا بمجردها بل بها مع قرائن قارنتها‏؟‏ قلنا‏:‏ لانهم لم ينقل عنهم لفظ، إنما عملنا بمجرد الصيغة من أمر ونهي وعموم، وقد قالوا هاهنا‏:‏ لولا هذا لقضينا بغير هذا، وصرح ابن عمر رضي الله عنهما برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع بن خديج، ورجوعهم في التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها، كيف وصيغة العموم والامر والنهي قط لا تنفك عن قرينة من حال المأمور والمأمور به والآمر، أما ما يرويه الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا يقترن به حتى يكون دليلا بسببه‏؟‏ فتقدير ذلك كتقدير قرائن في عملهم بنص الكتاب، وبالخبر المتواتر وبالإجماع وذلك يبطل جميع الأدلة، وبالجملة فمناشدتهم في طلب الاخبار لا داعي لها إلا بالعمل بها، فإن قيل‏:‏ فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة أيضا‏؟‏ قلنا‏:‏ ذلك لفقدهم شرط قبولها كما سيأتي، وكما تركوا العمل بنص القرآن وبأخبار متواترة، لاطلاعهم على نسخها أو فوات الامر وانقراض من كان الخطاب متعلقا به‏.‏ الدليل الثاني‏:‏ ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الاطراف، وهم آحاد، ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات، وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع، فمن ذلك تأميره أبا بكر الصديق على الموسم سنة تسع، وإنفاذه سورة براءة مع علي، وتحميله فسخ العهود والعقود التي كانت بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم ومن ذلك توليته عمر رضي الله عنه على الصدقات، وتوليته معاذا قبض صدقات اليمن والحكم على أهلها، ومن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة متحملا ورسولا مؤديا عنه، حتى بلغه أن قريشا قتلته، فقلق لذلك، وبايع لاجله بيعة الرضوان، وقال‏:‏ والله لئن كانوا قتلوه لاضرمنها عليهم نارا ومن ذلك توليته صلى الله عليه وسلم على الصدقات والجبايات قيس بن عاصم، ومالك بن نويرة، والزبرقان بن بدر، وزيد بن حارثة وعمرو بن العاص، وعمرو بن حزم، وأسامة بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم ممن يطول ذكرهم، وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه كان صلى الله عليه وسلم يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه، ولو احتاج في كل رسول إلى تنفيذ عدد التواتر معه لم يف بذلك جميع أصحابه، وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره، وتمكن منه أعداؤه من اليهود وغيرهم، وفسد النظام والتدبير، وذلك وهم باطل قطعا، فإن قيل‏:‏ كان قد أعلمهم صلى الله عليه وسلم تفصيل الصدقات شفاها وبأخبار متواترة، وإنما بعثهم لقبضها‏؟‏ قلنا‏:‏ ولم وجب تصديقهم في دعوى القبض وهم آحاد، ثم لم يكن بعثه صلى الله عليه وسلم في الصدقات فقط بل كان في تعليمهم الدين والحكم بين المتخاصمين وتعريف وظائف الشرع، فإن قيل‏:‏ فليجب عليهم قبول أصل الصلاة والزكاة، بل أصل الدعوة والرسالة والمعجزة‏؟‏ قلنا‏:‏ أما أصل الزكاة والصلاة فكان يجب قبوله، لانهم كانوا ينفذون لشرح وظائف الشرع بعد انتشار أصل الدعوة، وأما أصل والرسالة والايمان وأعلام النبوة فلا، إذ كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجب عليكم تصديقي وهم لم يعرفوا برسالته، أما بعد التصديق به فيمكن الاصغاء إلى رسله بإيجابه الاصغاء إليهم، فإن قيل‏:‏ فإنما يجب قبول خبر الواحد إذا دل قاطع على وجوب العمل به، كما دل الإجماع والتواتر عندكم، فأولئك بماذا صدقوا الولاة في قولهم يجب عليكم العمل بقولنا‏:‏ قلنا‏:‏ قد كان تواتر إليهم من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ينفذ الولاة والرسل آحادا، كسائر الاكابر والرؤساء، ولولا علمهم بذلك لجاز للمتشكك، أن يجادل فيه إذ عرض له شك، ولكن قل ما يعرض الشك فيه مع القرائن، فإن الذي يدخل بلادنا مع منشور القضاء قد لا يخالجنا ريب في صدقه وإن لم يتواتر إلينا، ولكن بقرائن الاحوال والمعرفة لخط الكاتب وببعد جرأته على الكذب مع تعريضه للخطر في أمثال ذلك‏.‏ الدليل الثالث‏:‏ إن العامي بالإجماع مأمور باتباع المفتي وتصديقه، مع أنه ربما يخبر عن ظنه، فالذي يخبر بالسماع الذي لا يشك فيه أولى بالتصديق، والكذب والغلط جائزان على المفتي كما على الراوي، بل الغلط على الراوي أبعد، لان كل مجتهد وإن كان مصيبا فإنما يكون مصيبا، إذا لم يقصر في إتمام النظر، وربما يظن أنه لم يقصر ويكون قد قصر، وهذا على مذهب من يجوز تقليد مقلد الشافعي رحمه الله إذا نقل مذهبه أوقع لانه يروي مذهب غيره فكيف لا يروي قول غيره‏؟‏ فإن قيل‏:‏ هذا قياس لا يفيد إلا الظن، ولا يجوز إثبات الاصول بالظن والقياس، والعمل بخبر الواحد أصل، كيف ولا ينقدح وجه الظن، فإن المجتهد مما يضطر إليه ولو كلف آحاد العوام درجة الاجتهاد تعذر ذلك، فهو مضطر إلى تقليد المفتي‏؟‏ قلنا‏:‏ لا ضرورة في ذلك، بل ينبغي أن يرجع إلى البراءة الأصلية، إذ لا طريق له إلى المعرفة، كما وجب على المفتي بزعمكم إذا بلغه خبر الواحد أن يرد الخبر فيرجع إلى البراءة الأصلية إذا تعذر عليه التواتر، ثم نقول‏:‏ ليس هذا قياسا مظنونا، بل هو مقطوع به بأنه في معناه، لانه لو صح العمل بخبر الواحد في الانكحة لقطعنا به في البياعات ولم يختلف الامر باختلاف المروي وهاهنا لم يختلف إلا المخبر عنه، فإن المفتي يخبر عن ظن نفسه، والراوي عن قول غيره، كما لم يفرق في حق الشاهدين بين أن يخبرا عن أنفسهما أو عن غيرهما إذا شهدا على عدالة غيرهما، أو يخبرا عن ظن أنفسهما العدالة في غيرهما الدليل الرابع‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم‏}‏ ‏(‏التوبة‏:‏ 221‏)‏ فالطائفة نفر يسير كالثلاثة، ولا يحصل العلم بقولهم، وهذا فيه نظر، لانه إن كان قاطعا فهو في وجوب الانذار لا في وجوب العمل على المنذر عنه اتحاد المنذر كما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة، لا ليعمل بها وحدها لكن إذا انضم غيرها إليها، وهذا الاعتراض هو الذي يضعف أيضا التمسك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 951‏)‏ وبقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث وأمثالهما، ثم اعلم أن المخالف في المسألة له شبهتان‏:‏ الشبهة الأولى‏:‏ قولهم‏:‏ لا مستند في إثبات خبر الواحد إلا الإجماع، فكيف يدعي ذلك، وما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الواحد، فمن ذلك توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبول خبر ذي اليدين حيث سلم عن اثنتين، حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وشهدا بذلك وصدقاه ثم قبل، وسجد للسهو، ومن ذلك رد أبي بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة من ميراث الجد حتى أخبره معه محمد بن مسلمة، ومن ذلك رد أبي بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم فيما رواه من استئذانه الرسول في رد الحكم بن أبي العاص وطالباه بمن يشهد معه بذلك، ومن ذلك ما اشتهر من رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الاشعري في الاستئذان حتى شهد له أبو سعد الخدري رضي الله عنه، ومن ذلك رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الاشجعي في قصة بروع بنت واشق وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث، ومن ذلك رد عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وظهر من عمر نهيه لابي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك مما يكثر، وأكثر هذه الاخبار تدل على مذهب من يشترط عددا في الراوي لا على مذهب من يشترط التواتر، فإنهم لم يجتمعوا فينتظروا التواتر، لكنا نقول في الجواب عما سألوا عنه‏:‏ الذي رويناه قاطع في عملهم، وما ذكرتموه رد لاسباب عارضة تقتضي الرد، ولا تدل على بطلان الأصل، كما أن ردهم بعض نصوص القرآن وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل، ونحن نشير إلى جنس المعاذير في رد الاخبار والتوقف فيها، أما توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور‏:‏ أحدها‏:‏ أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع وبعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع، إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير، وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف‏.‏ الثاني‏:‏ أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله، ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية، فحسم سبيل ذلك‏.‏ الثالث‏:‏ أنه قال قولا لو علم صدقا لظهر أثره في حق الجماعة، واشتغلت ذمتهم، فألحق بقبيل الشهادة، فلم يقبل فيه قول الواحد، والاقوى ما ذكرناه من قبل، نعم‏:‏ لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة، فيلزمه اشتراط ثلاثة، ويلزمه أن تكون في جمع يسكت عليه الباقون، لانه كذلك كان‏.‏ أما توقف أبي بكر في حديث المغيرة في توريث الجدة فلعله كان هناك وجه اقتضى التوقف، وربما لم يطلع عليه أحد، أو لينظر أنه حكم مستقر أو منسوخ، أو ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده، ليكون الحكم أوكدا أو خلافه فيندفع، أو توقف في انتظار استظهار بزيادة، كما يتسظهر الحاكم بعد شهادة اثنين على جزم الحكم إن لم يصادف الزيادة لا على عزم الرد أو أظهر التوقف لئلا يكثر الاقدام على الرواية عن تساهل، ويجب حمله على شئ من ذلك إذ ثبت منه قطعا قبول خبر الواحد وترك الانكار على القائلين به‏.‏ وأما رد حديث عثمان في حق الحكم بن أبي العاص فلانه خبر عن إثبات حق لشخص فهو كالشهادة لا تثبت بقول واحد، أو توقف لاجل قرابة عثمان من الحكم، وقد كان معروفا بأنه كلف بأقاربه، فتوقف تنزيها لعرضه ومنصبه من أن يقول‏:‏ متعنت، إنما قال ذلك لقرابته حتى ثبت ذلك بقول غيره، أو لعلهما توقفا ليسنا للناس التوقف في حق القريب الملاطف ليتعلم منهما التثبت في مثله‏.‏ وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به سياسة عمر عن نفسه لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثا، كالمترفع عن المثول ببابه فخاف أن يصير ذلك طريقا لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه، بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر‏:‏ إني لم أتهمك، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز للامام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة، كيف ومثل هذه الاخبار لا تساوي في الشهرة والصحة أحاديثنا في نقل القبول عنهم‏.‏ وأما رد علي خبر الاشجعي فقد ذكر علته وقال‏:‏ كيف نقبل قول أعرابي بوال على عقبيه بين أنه لم يعرف عدالته وضبطه، ولذلك وصفه بالجفاء وترك التنزه عن البول كما قال عمر في فاطمة بنت قيس في حديث السكنى لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، فهذا سبيل الكلام على ما ينقل من التوقف في الاخبار‏.‏ الشبهة الثانية‏:‏ تمسكهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم‏}‏ ‏(‏الاسراء‏:‏ 63‏}‏ ‏(‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 961‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما شهدنا إلا بما علمنا‏}‏ ‏(‏يوسف‏:‏ 18‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة‏}‏ ‏(‏الحجرات‏:‏ 6‏)‏ والجهالة في قول العدل حاصلة، وهذا باطل من أوجه‏.‏ الأول‏:‏ أن إنكارهم القول بخبر الواحد غير معلوم ببرهان قاطع، بل يجوز الخطأ فيه، فهو إذا حكم بغير علم‏.‏ الثاني‏:‏ أن وجوب العمل به معلوم بدليل قاطع من الإجماع فلا جهالة فيه‏.‏ الثالث‏:‏ إن المراد من الآيات منع الشاهد عن جزم الشهادة بما لم يبصر ولم يمسع والفتوى بما لم يرو ولم ينقله العدول‏.‏ الرابع‏:‏ إن هذا لو دل على رد خبر الواحد لدل على شهادة الاثنين والاربعة، والرجل والمرأتين، والحكم باليمين، فكما علم بالنص في القرآن وجوب الحكم بهذه الامور مع تجويز الكذب، فكذلك بالاخبار‏.‏ الخامس‏:‏ أنه يجب تحريم نصب الخلفاء والقضاة، لانا لا نتيقن إيمانهم فضلا عن ورعهم، ولا نعلم طهارة إمام الصلاة عن الجنابة والحدث فليمتنع الاقتداء‏.‏

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً  
عزيزنا الزائر لن تتمكن من مشاهدة التوقيع إلاَّ بتسجيل دخولك
قم بتسجيل الدخول أو قم بالتسجيل من هنا
رد مع اقتباس