مسألة (المقتضى بالتكليف)
اختلفوا في المقتضى بالتكليف، والذي عليه أكثر المتكلمين أن المقتضى به الاقدام أو الكف وكل واحد كسب العبد، فالامر بالصوم أمر بالكف، والكف فعل يثاب عليه، والمقتضى بالنهي عن الزنا والشرب التلبس بضد من وقال بعض أضداده، وهو الترك، فيكون مثابا على الترك الذي هو فعله المعتزلة: قد يقتضي الكف فيكون فعلا، وقد يقتضي أن لا يفعل ولا يقصد التلبس بضده فأنكر الأولون، هذا وقالوا: المنتهي بالنهي مثاب، ولا يثاب إلا على شئ وأن لا يفعل عدم وليس بشئ، ولا تتعلق به قدرة، إذ القدرة تتعلق بشئ، فلا يصح الاعدام بالقدرة، وإذا لم يصدر منه شئ فكيف يثاب على لا شئ؟ والصحيح أن الامر فيه منقسم، أما الصوم فالكف فيه مقصود، ولذلك تشترط فيه النية، وأما الزنا والشرب فقد نهي عن فعلهما، فيعاقب فاعلهما، ومن لم يصدر منه ذلك فلا يعاقب، ولا يثاب إلا إذا قصد كف الشهوة عنهما مع التمكن، فهو مثاب على فعله، وأما من لم يصدر منه المنهي عن فعله فلا يعاقب عليه ولا يثاب، لانه لم يصدر منه شئ، ولا يبعد أن يكون مقصود الشرع أن لا تصدر منه الفواحش، ولا يقصد منه التلبس بأضدادها.
مسألة (هل المكره مكلف؟)
فعل المكره يجوز أن يدخل تحت التكليف، بخلاف فعل المجنون والبهيمة، لان الخلل تم في المكلف لا في المكلف به، فإن شرط تكليف المكلف السماع والفهم وذلك في المجنون والبهيمة معدوم، والمكره يفهم، وفعله في حيز الامكان، إذ يقدر على تحقيقه وتركه، فإن أكره على أن يقتل جاز أن يكلف ترك القتل، لانه قادر عليه، وإن كان فيه خوف الهلاك، وإن كلف على وفق الاكراه فهو أيضا ممكن، بأن يكره بالسيف على قتل حية همت بقتل مسلم، إذ يجب قتلها، أو أكره الكافر على الاسلام، فإذا أسلم نقول: قد أدى ما كلف، وقالت المعتزلة: إن ذلك محال لانه لا يصح منه إلا فعل ما أكره عليه فلا يبقى له خيرة، وهذا محال، لانه قادر على تركه، ولذلك يجب عليه ترك ما أكره عليه إذا أكره على قتل مسلم، وكذلك لو أكره على قتل حية فيجب قتل الحية، وإذا أكره على إراقة الخمر فيجب عليه إراقة الخمر، وهذا ظاهر، ولكن فيه غور، وذلك لان الامتثال إنما يكون طاعة إذا كان الانبعاث له بباعث الامر والتكليف دون باعث الاكراه، فإن أقدم للخلاص من سيف المكره لا يكون مجيبا داعي الشرع، وإن انبعث بداعي الشرع بحيث كان يفعله لولا الاكراه، بل كان يفعله لو أكره على تركه، فلا يمتنع وقوعه طاعة، لكن لا يكون مكرها، وإن وجد صورة التخويف فليتنبه لهذه الدقيقة.
مسألة (الامر بالشرط والمشروط)
ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلا حالة الامر، بل يتوجه الامر بالشرط، والمشروط، ويكون مأمورا بتقديم الشرط، فيجوز أن يخاطب الكفار بفروع الاسلام، كما يخاطب المحدث بالصلاة، بشرط تقديم الوضوء، والملحد بتصديق الرسول، بشرط تقديم الايمان بالمرسل، وذهب أصحاب الرأي إلى إنكار ذلك، والخلاف إما في الجواز وإما في الوقوع. أما الجواز العقلي: فواضح. إذ لا يمتنع أن يقول الشارع: بني الاسلام على خمس وأنتم مأمورون بجميعها، وبتقديم الاسلام من جملتها، فيكون الايمان مأمورا به لنفسه ولكونه شرطا لسائر العبادات، كما في المحدث والملحد، فإن منع مانع الجميع وقال: كيف يؤمر بما لا يمكن امتثاله، والمحدث لا يقدر على الصلاة، فهو مأمور بالوضوء، فإذا توضأ توجه عليه حينئذ الامر بالصلاة قلنا: فينبغي أن يقال: لو ترك الوضوء والصلاة جميع عمره لا يعاقب على ترك الصلاة، لانه لم يؤمر قط بالصلاة، وهذا خلاف الإجماع، وينبغي أن لا يصح أمره بعد الوضوء بالصلاة بل بالتكبير، فإنه يشترط تقديمه، ولا بالتكبير بل بهمزة التكبير أولا، ثم بالكاف ثانيا، وعلى هذا الترتيب، وكذلك السعي إلى الجمعة، ينبغي أن لا يتوجه الامر به إلا بالخطوة الأولى ثم بالثانية. وأما الوقوع الشرعي فنقول: كان يجوز أن يخصص خطاب الفروع بالمؤمنين كما خصص وجوب العبادات بالاحرار و المقيمين والاصحاء والطاهرات دون الحيض، ولكن وردت الأدلة بمخاطبتهم، وأدلته ثلاثة: الأول: قوله تعالى: {ما سلككم في سقر ئ قالوا لم نك من المصلين} (المدثر: 24، 34) الآية. فأخبر أنه عذبهم بترك الصلاة وحذر المسلمين به، فإن قيل: هذه حكاية قول الكفار فلا حجة فيها قلنا ذكره الله تعالى في معرض التصديق لهم بإجماع الامة، وبه يحصل التحذير، إذ لو كان كذبا لكان كقولهم، عذبنا لانا مخلوقون وموجودون، كيف وقد عطف عليه قوله: {وكنا نكذب بيوم الدين} (المدثر: 64) فكيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه فإن قيل: العقاب بالتكذيب، لكن غلظ بإضافة ترك الطاعات إليه؟ قلنا: لا يجوز أن يغلظ بترك الطاعات، كما لا يجوز أن يغلظ بترك المباحات التي لم يخاطبوا بها، فإن قيل: عوقبوا إلا بترك الصلاة، لكن لاخراجهم أنفسهم بترك الايمان عن العلم بقبح ترك الصلاة قلنا: هذا باطل من أوجه: أحدها: أنه ترك للظاهر من غير ضرورة، ولا دليل، فإن ترك العلم بقبح ترك الصلاة غير ترك الصلاة، وقد قالوا: {لم نك من المصلين} (المدثر: 34). الثاني: أن ذلك يوجب التسوية بين كافر باشر القتل وسائر المحظورات وبين من اقتصر على الكفر، لان كليهما استويا في إخراج النفس بالكفر عن العلم بقبح المحظورات، والتسوية بينهما خلاف الإجماع. الثالث: أن من ترك النظر والاستدلال ينبغي أن لا يعاقب على ترك الايمان، لانه أخرج نفسه بترك النظر عن أهلية العلم بوجوب المعرفة والايمان، فإن قيل: لم نك من المصلين أي من المؤمنين، لكن عرفوا أنفسهم بعلامة المؤمنين، كما قال صلى الله عليه وسلم: نهيت عن قتل المصلين أي المؤمنين، لكن عرفهم بما هو شعارهم؟ قلنا: هذا محتمل لكن الظاهر لا يترك إلا بدليل، ولا دليل للخصم الدليل الثاني: قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله} (الفرقان: 86) إلى قوله تعالى: {يضاعف له العذاب} (الفرقان: 96)، فالآية نص في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزنا، لا كمن جمع بين الكفر والاكل والشرب. والدليل الثالث: إنعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرسول، كما يعذب على الكفر بالله تعالى، وهذا يهدم معتمدهم إذ قالوا: لا تتصور العبادة مع الكفر، فكيف يؤمر بها؟ احتجوا بأنه لا معنى لوجوب الزكاة وقضاء الصلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر، ومع انتفاء وجوبه لو أسلم، فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله؟ قلنا: وجب حتى لو مات على الكفر لعوقب على تركه، لكن إذا أسلم عفى له عما سلف، فالاسلام يجب ما قبله، ولا يبعد نسخ الامر قبل التمكن من الامتثال، فكيف يبعد سقوط الوجوب بالاسلام؟ فإن قيل إذا لم تجب الزكاة إلا بشرط الاسلام، والاسلام الذي هو شرط الوجوب هو بعينه مسقط، فالاستدلال بهذا على أنه لم يجب أولى من إيجابه، ثم الحكم بسقوطه؟ قلنا: لا بعد في قولنا: استقر الوجوب بالاسلام وسقط بحكم العفو، فليس في ذلك مخالفة نص، ونصوص القرآن دلت على عقاب الكافر المتعاطي للفواحش، وكذا الإجماع دل على الفرق بين كافر قتل الانبياء والأولياء وشوش الدين، وبين كافر لم يرتكب شيئا من ذلك، فما ذكرناه أولى، فإن قيل: فلم أوجبتم القضاء على المرتد دون الكافر الأصلي؟ قلنا: القضاء إنما وجب بأمر مجدد، فيتبع فيه موجب الدليل ولا حجة فيه، إذ قد يجب القضاء على الحائض ولم تؤمر بالاداء، وقد يؤمر بالاداء من لا يؤمر بالقضاء، وقد اعتذر الفقهاء بأن المرتد قد التزم بالاسلام القضاء، والكافر لم يلتزم وهذا ضعيف، فإن ما ألزمه الله تعالى فهو لازم التزمه العبد أو لم يلتزمه، فإن كان يسقط بعدم التزامه فالكافر الأصلي لم يلتزم العبادات، وترك المحظورات فينبغي أن لا يلزمه ذلك.
الفن الرابع من القطب الأول فيما يظهر الحكم به
وهو الذي يسمى سببا، وكيفية نسبة الحكم إليه، وفيه أربعة فصول
الفصل الأول في الاسباب إعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الله تعالى في كل حال لا سيما بعد انقطاع الوحي، أظهر الله سبحانه خطابه لخلقه بأمور محسوسة نصبها أسبابا لاحكامه، وجعلها موجبة ومقتضية للاحكام على مثال اقتضاء العلة الحسية معلولها، ونعني بالاسباب ها هنا أنها هي التي أضاف الاحكام إليها، كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} وقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة: 581) وقوله صلى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وهذا ظاهر فيما يتكرر من العبادات، كالصلاة والصوم والزكاة، فإن ما يتكرر الوجوب بتكرره، فجدير بأن يسمى سببا، أما ما لا يتكرر كالاسلام والحج فيمكن أن يقال ذلك معلوم بقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} (آل عمران: 79) وكذا وجوب المعرفة على كل مكلف يعلم بالعمومات فلا حاجة إلى إضافتها إلى سبب، ويمكن أن يقال سبب وجوب الايمان والمعرفة الأدلة المنصوبة، وسبب وجوب الحج البيت دون الاستطاعة، ولما كان البيت واحدا لم يجب الحج إلا مرة واحدة، والايمان معرفة، فإذا حصلت دامت، والامر فيه قريب. هذا قسم العبادات، وأما قسم الغرامات والكفارات والعقوبات، فلا تخفى أسبابها، وأما قسم المعاملات فلحل الاموال والابضاع وحرمتها أيضا أسباب ظاهرة من نكاح وبيع وطلاق وغيره، وهذا ظاهر، وإنما المقصود أن نصب الاسباب أسبابا للاحكام أيضا، حكم من الشرع، فلله تعالى في الزاني حكمان. أحدهما: وجوب الحد عليه. والثاني: نصب الزنا سببا للوجوب في حقه، لان الزنا لا يوجب الرجم لذاته وعينه، بخلاف العلل العقلية، وإنما صار موجبا بجعل الشرع إياه موجبا، فهو نوع من الحكم، فلذلك أوردناه في هذا القطب، ولذلك يجوز تعليله، ونقول: نصب الزنا علة للرجم. والسرقة علة للقطع لكذا وكذا، فاللواط في معناه فينتصب أيضا سببا، والنباش في معنى السارق، وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب القياس. وأعلم أن اسم السبب مشترك في اصطلاح الفقهاء، وأصل اشتقاقه من الطريق، ومن الحبل الذي به ينزح الماء من البئر وحده ما يحصل الشئ عنده لا به، فإن الوصول بالسير لا بالطريق، ولكن لا بد من الطريق، ونزح الماء بالاستقاء لا بالحبل، ولكن لا بد من الحبل، فاستعار الفقهاء لفظ السبب من هذا الموضع، وأطلقوه على أربعة أوجه: الوجه الأول وهو أقربها إلى المستعار منه ما يطلق في مقابلة المباشرة، إذ يقال: إن حافر البئر مع المردي فيه صاحب سبب، والمردي صاحب علة، فإن الهلاك بالتردية لكن عند وجود البئر، فما يحصل الهلاك عنده لا به يسمى سببا. الثاني: تسميتهم الرمي سببا للقتل، من حيث أنه سبب للعلة، وهو على التحقيق علة العلة، ولكن لما حصل الموت لا بالرمي بل بالواسطة أشبه ما لا يحصل الحكم إلا به. الثالث: تسميتهم ذات العلة مع تخلف وصفها سببا، كقولهم: الكفارة تجب باليمين دون الحنث، فاليمين هو السبب، وملك النصاب هو سبب الزكاة دون الحول مع أنه لا بد منهما في الوجوب ويريدون بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه، ويقابلون هذا بالمحل والشرط فيقولون: ملك النصاب سبب والحول شرط. الرابع: تسميتهم الموجب سببا، فيكون السبب بمعنى العلة، وهذا أبعد الوجوه عن وضع اللسان: فإن السبب في الوضع عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به، ولكن هذا يحسن في العلل الشرعية، لانها لا توجب الحكم لذاتها، بل بإيجاب الله تعالى، ولنصبه هذه الاسبابعلامات لاظهارالحكم فالعلل الشرعية فى معنى العلامات الظاهرة فشابهت مايحصل الحكم عنده.