الفن الثاني في المقاصد وفيه فصلان: فصل في صورة البرهان وفصل في مادته.
الفصل الأول: في صورة البرهان
والبرهان عبارة عن مقدمتين معلومتين تؤلف تأليفا مخصوصا بشرط مخصوص فيتولد بينهما نتيجة وليس يتحد نمطه بل يرجع إلى ثلاثة أنواع مختلفة المأخذ والبقايا ترجع إليها. النمط الأول: ثلاثة أضرب، مثال الأول قولنا: كل جسم مؤلف، وكل مؤلف حادث، فلزم أن كل جسم حادث، ومن الفقه قولنا: كل نبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فلزم أن كل نبيذ حرام، فهاتان مقدمتان، إذا سلمتا على هذا الوجه لزم بالضرورة تحريم النبيذ فإن كانت المقدمات قطعية سميناها برهانا وإن كانت مسلمة سميناها قياسا جدليا وإن كانت مظنونة سميناها قياسا فقهيا، وسيأتي الفرق بين اليقين والظن، إذا ذكرنا أصل القياس، فإن كل مقدمة أصل، فإذا ازدوج أصلان حصلت النتيجة، وعادة الفقهاء في مثل هذا النظم أنهم يقولون: النبيذ مسكر، فكان حراما، قياسا على الخمر، وهذا لا تنقطع المطالبة عنه ما لم يرد إلى النظم الذي ذكرناه، فإن رد إلى هذا النظم ولم يكن مسلما فلا تلزم النتيجة إلا بإقامة الدليل حتى يثبت كونه مسكرا إن نوزع فيه بالحس والتجربة، وكون المسكر حراما بالخبر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: كل مسكر حرام وقد ذكرنا في كتاب أساس القياس أن تسمية هذا قياسا تجوز فإن حاصله راجع إلى ازدواج خصوص تحت عموم، وإذا فهمت صورة هذا النظم فاعلم أن في هذا البرهان مقدمتين، إحداهما، قولنا: كل نبيذ مسكر، والاخرى، قولنا: كل مسكر حرام، وكل مقدمة تشتمل على جزأين، مبتدأ وخبر، المبتدأ محكوم عليه والخبر حكم، فيكون مجموع أجزاء البرهان، أربعة أمور، إلا أن أمرا واحدا يتكرر في المقدمتين فيعود إلى ثلاثة أجزاء بالضرورة، لانها لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شئ واحد وبطل الازدواج بينهما، فلا تتولد النتيجة، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر، ثم لم تتعرض في المقدمة الثانية لا للنبيذ ولا للمسكر لكن قلت: والمغصوب مضمون، أو العالم حادث، فلا ترتبط إحداهما بالاخرى، فبالضرورة ينبغي أن تكرر أحد الاجزاء الاربعة، فلنصطلح على تسمية المتكرر علة، وهو الذي يمكن أن يقترن بقولك، لان في جواب المطالبة بلم، فإنه إذا قيل لك: لم قلت أن النبيذ حرام؟ قلت: لانه مسكر، ولا تقول: لانه نبيذ، ولا تقول: لانه حرام، فما يقترن به، لان هو العلة، ولنسم ما يجري مجرى النبيذ محكوما عليه، وما يجري مجرى الحرام حكما، فإنا في النتيجة نقول: فالنبيذ حرام، ولنشتق للمقدمتين اسمين منهما لا من العلة، لان العلة متكررة فيهما فنسمي المقدمة المشتملة على المحكوم المقدمة الأولى، وهي قولنا: كل نبيذ مسكر، والمشتملة على الحكم المقدمة الثانية وهي قولنا: كل مسكر حرام، أخذا من النتيجة، فإنا نقول فكل نبيذ حرام، فتذكر النبيذ أولا، ثم الحرام، وغرض هذه التسمية سهولة التعر يف عند التفصيل والتحقيق، ومهما كانت المقدمات معلومة كان البرهان قطعيا، وإن كانت مظنونة كان فقيها، وإن كانت ممنوعة فلا بد من إثباتها، وأما بعد تسليمها فلا يمكن الشك في النتيجة أصلا، بل كل عاقل صدق بالمقدمتين، فهو مضطر إلى التصديق بالنتيجة، مهما أحضرهما في الذهن وأحضر مجموعهما بالبال، وحاصل وجه الدلالة في هذا النظم أن الحكم على الصفة حكم على الموصوف، لانا إذا قلنا: النبيذ مسكر، جعلنا المسكر وصفا، فإذا حكمنا على كل مسكر بأنه حرام فقد حكمنا على الوصف، فبالضرورة يدخل الموصوف فيه، فإنه إن بطل قولنا، النبيذ حرام مع كونه مسكرا، بطل قولنا: كل مسكر حرام، إذا ظهر لنا مسكر ليس بحرام، وهذا الضرب له شرطان في كونه منتجاز شرط في المقدمة الأولى: وهو أن تكون مثبتة، فإن كانت نافية لم تنتج، لانك إذا نفيت شيئا عن شئ لم يكن الحكم على المنفي حكما على المنفي عنه، فإنك إذا قلت: لا خل واحد مسكر، وكل مسكر حرام، لم يلزم منه حكم في الخل، إذا وقعت المباينة بين المسكر والخل، فحكمك على المسكر بالنفي والاثبات لا يتعدى إلى الخل. الشرط الثاني في المقدمة الثانية: وهو أن تكون عامة كلية حتى يدخل المحكوم عليه بسبب عمومها فيها، فإنك إذا قلت: كل سفرجل مطعوم، وبعض المطعوم ربوي، لم يلزم منه كون السفرجل ربويا إذ ليس من ضرورة الحكم على بعض المطعوم أن يتناول السفرجل، نعم إذا قلت: وكل مطعوم ربوي، لزم في السفرجل، ويثبت ذلك بعموم الخبر، فإن قلت: فبماذا يفارق هذا الضرب الضربين الآخرين بعده، فاعلم أن العلة إما أن توضع محكوما عليها في المقدمتين، أو محكوما بها في المقدمتين، أو توضع حكما في إحداهما محكومة في الاخرى، وهذا الاخير هو النظم الأول، والثاني والثالث لا يتضحان غاية الاتضاح إلا بالرد إليه، فلذلك قدمنا ذكره. النظم الثاني: أن تكون العلة حكما في المقدمتين، مثاله قولنا: الباري تعالى ليس بجسم لان الباري غير مؤلف وكل جسم مؤلف، فالباري تعالى إذن ليس بجسم فههنا ثلاثة معان، الباري، والمؤلف، والجسم، والمكرر هو المؤلف، فهو العلة، وتراه خبرا في المقدمتين وحكما، بخلاف المسكر في النظم الأول إذ كان خبرا في إحداهما مبتدأ في الاخرى، ووجه لزوم النتيجة منه أن كل شيئين ثبت لاحدهما، ما انتفى عن الآخر فهما متباينان، فالتأليف ثابت للجسم منتف عن الباري تعالى، فلا يكون بين معنى الجسم وبين الباري التقاء، أي لا يكون الباري جسما، ولا الجسم هو الباري تعالى، ويمكن بيان لزوم النتيجة بالرد إلى النظم الأول بطريق العكس، كما أوضحناه في كتاب معيار العلم، وكتاب محك النظر فلا نطول الآن به، وهذا النظم هو الذي يعبر عنه الفقهاء بالفرق، إذ يقولون، الجسم مؤلف، والباري غير مؤلف، وخاصية هذا النظم أنه لا ينتج إلا قضية نافية سالبة، وأما النظم الأول فإنه ينتج النفي والاثبات جميعا، ومن شروط هذا النظم أن تختلف المقدمتان في النفي والاثبات، فإن كانتا مثبتتين لم ينتجا لان حاصل هذا النظم يرجع إلى الحكم بشئ واحد على شيئين، وليس من ضرورة كل شيئين يحكم عليهما بشئ واحد أن يخبر بأحدهما عن الآخر فإنا نحكم على السواد والبياض باللونية، ولا يلزم أن يخبر عن السواد بأنه بياض، ولا عن البياض بأنه سواد، ونظمه أن يقال كل سواد لون، وكل بياض لون، فلا يلزم كل سواد بياض، ولا كل بياض سواد، نعم كل شيئين أخبر عن أحدهما بما يخبر عن الآخر بنفيه يجب أن يكون بينهما انفصال وهو النفي. النظم الثالث: أن تكون العلة مبتدأ في المقدمتين، وهذا يسميه الفقهاء نقضا، وهذا إذا اجتمعت شروطه أنتج نتيجة خاصة لا عامة، مثاله قولنا: كل سواد عرض، وكل سواد لون، فيلزم منه أن بعض العرض لون، وكذلك لو قلت: كل بر مطعوم، وكل بر ربوي، فيلزم منه أن بعض المطعوم ربوي، ووجه دلالته أن الربوي والمطعوم شيئان، حكمنا بهما على شئ واحد وهو البر فالتقيا عليه، وأقل درجات الالتقاء أن يوجب حكما خاصا وإن لم يكن عاما فأمكن أن يقال: بعض المطعوم ربوي، وبعض الربوي مطعوم. النمط الثاني من البرهان: وهو نمط التلازم: يشتمل على مقدمتين، والمقدمة الأولى تشتمل على قضيتين، والمقدمة الثانية تشتمل على ذكر إحدى تينك القضيتين تسليما إما بالنفي أو بالاثبات، حتى تستنتج منه إحدى تينك القضيتين أو نقيضها، ولنسم هذا نمط التلازم، ومثاله قولنا: إن كان العالم حادثا فله محدث، فهذه مقدمة، ومعلوم أنه حادث وهي المقدمة الثانية، فيلزم منه أن له محدثا، والأولى اشتملت على قضيتين لو أسقط منهما حرف الشرط لانفصلتا، إحداهما قولنا: إن كان العالم حادثا، والثانية قولنا فله محدث، ولنسم القضية الأولى المقدم، ولنسم القضية الثانية اللازم والتابع، والقضية: الثانية اشتملت على تسليم عين القضية التي سميناها مقدما، وهو قولنا: ومعلوم أن العالم حادث، فتلزم منه النتيجة، وهو أن للعالم محدثا وهو عين اللازم، ومثاله في الفقه قولنا: إن كان الوتر يؤدى على الراحلة بكل حال فهو نفل، ومعلوم أنه يؤدى على الراحلة، فثبت أنه نفل، وهذا النمط يتطرق إليه أربع تسليمات تنتج منها اثنتان ولا تنتج اثنتان: أما المنتج فتسليم عين المقدم ينتج عين اللازم، مثاله قولنا: إن كانت هذه الصلاة صحيحة، فالمصلي متطهر، ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة، فيلزم أن يكون المصلي متطهرا، ومثاله من الحس، إن كان هذا سوادا فهو لون، ومعلوم أنه سواد فإذا هو لون. وأما المنتج الآخر فهو تسليم نقيض اللازم، فإنه ينتج نقيض المقدم، مثاله قولنا: إن كانت هذه الصلاة صحيحة، فالمصلي متطهر، ومعلوم أن المصلي غير متطهر، فينتج أن الصلاة غير صحيحة، وإن كان بيع الغائب صحيحا فهو يلزم بصريح الالزام، ومعلوم أنه لا يلزم بصريح الالزام فيلزم منه أنه ليس بصحيح، ووجه دلالة هذا النمط على الجملة أن ما يفضي إلى المحال فهو محال، وهذا يفضي إلى المحال، فهو إذا محال كقولنا، لو كان الباري سبحانه وتعالى مستقرا على العرش لكان إما مساويا للعرش أو أكبر أو أصغر، وكل ذلك محال، فما يفضي إليه محال، وهذا يفضي إلى المحال، فهو إذا محال. وأما الذي لا ينتج فهو تسليم عين اللازم، فإنا لو قلنا إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر، فلا يلزم منه لا صحة الصلاة، ولا فسادها إذ قد تفسد الصلاة بعلة أخرى. وكذلك تسليم نقيض المقدم لا ينتج عين اللازم ولا نقيضه، فإنا لو قلنا، ومعلوم أن الصلاة ليست صحيحة فلا يلزم من هذا كون المصلي متطهرا، ولا كونه غير متطهر، وتحقيق لزوم النتيجة من هذا النمط أنه مهما جعل شئ لازما لشئ فينبغي أن لا يكون الملزوم أعم من اللازم، بل إما أخص أو مساويا، ومهما كان أخص فثبوت الاخص بالضرورة يوجب ثبوت الاعم، إذ يلزم من ثبوت السواد ثبوت اللون، وهو الذي عنيناه بتسليم عين اللازم، وانتفاء الاعم يوجب انتفاء الاخص بالضرورة، إذ يلزم من انتفاء اللون انتفاء السواد، وهو الذي عنيناه بتسليم نقيض اللازم، وأما ثبوت الاعم فلا يوجب ثبوت الاخص، فإن ثبوت اللون لا يوجب ثبوت السواد، فلذلك قلنا: تسليم عين اللازم لا ينتج، وأما انتفاء الاخص، فلا يوجب انتفاء الاعم ولا ثبوته، فإن انتفاء السواد لا يوجب انتفاء اللون ولا ثبوته، وهو الذي عنيناه بقولنا إن تسليم نقيض المقدم لا ينتج أصلا، وإن جعل الاخص لازما للاعم فهو خطأ، كمن يقول إن كان هذا لونا فهو سواد، فإن كان اللازم مساويا للمقدم أنتج منه أربع تسليمات كقولنا إن كان زنا المحصن موجودا فالرجم واجب، لكنه موجود فإذا هو واجب لكنه واجب، فإذا هو موجود، لكن الرجم غير واجب، فالزنا غير موجود، لكن زنا المحصن غير موجود، فالرجم غير واجب، وكذلك كل معلول له علة واحدة، كقولنا: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فالنهار موجود، لكن النهار موجود، فهي إذا طالعة، لكنها غير طالعة، فالنهار غير موجود، لكن النهار غير موجود، فهي إذا غير طالعة. النمط الثالث: نمط التعاند: وهو على ضد ما قبله والمتكلمون يسمونه السبر والتقسيم، والمنطقيون يسمونه الشرطي المنفصل، ويسمون ما قبله الشرطي المتصل، وهو أيضا يرجع إلى مقدمتين ونتيجة، ومثاله، العالم إما قديم وإما حادث، وهذه مقدمة وهي قضيتان، الثانية أن تسلم إحدى القضيتين أو نقيضها، فيلزم منه لا محالة نتيجة، وينتج فيه أربع تسليمات فإنا نقول لكنه حادث فليس بقديم، لكنه قديم فليس بحادث، لكنه ليس بحادث، فهو قديم، لكنه ليس بقديم فهو حادث، وبالجملة: كل قسمين متناقضين متقابلين إذا وجد فيهما شرائط التناقض كما سبق فينتج إثبات أحدهما نفي الآخر، ونفي أحدهما إثبات الآخر، ولا يشترط أن تنحصر القضية في قسمين، بل شرطه أن تستوفي أقسامه، فإن كانت ثلاثة فإنا نقول العدد إما مساو أو أقل أو أكثر، فهذه ثلاثة لكنها حاصرة، فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين، وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث، وإثبات واحد ينتج انحصارا الحق في الآخرين في أحدهما لا بعينه، والذي لا ينتج فيه انتفاء واحد هو أن لا يكون محصورا، كقولك: زيد إما بالعراق وإما بالحجاز، فهذا مما يوجب إثبات واحد نفي الآخر، أما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر، إذ ربما يكون في صقع آخر، وقول من أثبت رؤية الله بعلة الوجود يكاد لا ينحصر كلامه، إلا أن نتكلف له وجها، فإن قول مصحح الرؤية لا يخلو إما أن يكون كونه جوهرا فيبطل بالعرض أو كونه عرضا فيبطل بالجوهر أو كونه سوادا أو لونا، فيبطل بالحركة فلا تبقى شركة لهذه المختلفات إلا في الوجود، وهذا غير حاصر، إذ يمكن أن يكون قد بقي أمر آخر مشترك سوى الوجود لم يعثر عليه الباحث مثل كونه بجهة من الرائي مثلا، فإن أبطل هذا فلعله لمعنى آخر إلا أن يتكلف حصر المعاني وينفي جميعها سوى الوجود، فعند ذلك ينتج فهذه أشكال البراهين، فكل دليل لا يمكن رده إلى واحد من هذه الانواع الخمسة فهو غير منتج البتة، ولهذا شرح أطول من هذا ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم.