الفصل الثالث من السوابق في أحكام المعاني المؤلفة
قد نظرنا في مجرد اللفظ، ثم في مجرد المعنى، فننظر الآن في تأليف المعنى على وجه يتطرق إليه التصديق والتكذيب، كقولنا مثلا: العالم حادث، والباري تعالى قديم، فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين معرفتين لذاتين مفردتين بنسبة إحداهما إلى الاخرى، إما بالاثبات، كقولك: العالم حادث، أو بالسلب كقولك: العالم ليس بقديم. وقد التأم هذا من جزأين، يسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبرا، ويسمي المتكلمون أحدهما وصفا، والآخر موصوفا، ويسمي المنطقيون أحدهما موضوعا، والآخر محمولا، ويسمي الفقهاء أحدهما حكما، والآخر محكوما عليه، ويسمي المجموع قضية، وأحكام القضايا كثيرة، ونحن نذكر منها ما تكثر الحاجة إليه وتضر الغفلة عنه، وهو حكمان: الأول: إن القضية تنقسم بالاضافة إلى المقضى عليه إلى التعيين والاهمال والعموم والخصوص، فهي أربع: الأولى: قضية في عين، كقولنا: زيد كاتب وهذا السواد عرض. الثانية: قضية مطلقة خاصة، كقولنا: بعض الناس عالم، وبعض الاجسام ساكن. الثالثة: قضية مطلقة عامة، كقولنا: كل جسم متحيز وكل سواد لون. الرابعة: قضية مهملة، كقولنا: الانسان في خسر. وعلة هذه القسمة أن المحكوم عليه إما أن يكون عينا مشارا إليه أو لا يكون عينا فإن لم يكن عينا فإما أن يحصر بسور يبين مقداره بكليته، فتكون مطلقة عامة، أو بجزئيته فتكون خاصة، أو لا يحصر بسور فتكون مهملة، والسور هو قولك " كل " وبعض، وما يقوم مقامهما، ومن طرق المغالطين في النظر استعمال المهملات بدل القضايا العامة، فإن المهملات قد يراد بها الخصوص والعموم، فيصدق طرفا النقيض، كقولك: الانسان في خسر، تعني الكافر، الانسان ليس في خسر، تعني الانبياء، ولا ينبغي أن يسامح بهذا في النظريات، مثاله أن يقول الشفعوي مثلا: معلوم أن المطعوم ربوي والسفرجل مطعوم، فهو إذا ربوي، فإن قيل: لم قلت المطعوم ربوي؟ فتقول: دليله البر والشعير والتمر بمعنى، فإنها مطعومات، وهي ربوية، فينبغي أن يقال: فقولك المطعوم ربوي أردت به كل المطعومات أو بعضها، فإن أردت البعض لم تلزم النتيجة، إذ يمكن أن يكون السفرجل من البعض الذي ليس بربوي، ويكون هذا خللا في نظم القياس كما يأتي وجهه، وإن أردت الكل فمن أين عرفت هذا؟ وما عددته من البر والشعير ليس كل المطعومات؟
النظر الثاني: في شروط النقيض، وهو محتاج إليه، إذ رب مطلوب لا يقوم الدليل عليه ولكن على بطلان نقيضه، فيستبان، من إبطاله صحة نقيضه، والقضيتان المتناقضتان يعني بهما كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الاخرى بالضرورة، كقولنا: العالم حادث، العالم ليس بحادث، وإنما يلزم صدق إحداهما عند كذب الاخرى بستة شروط: الأول: أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحدا بالذات لا بمجرد اللفظ، فإن اتحد اللفظ دون المعنى لم يتناقضا، كقولك: النور مدرك بالبصر غير مدرك بالبصر، إذا أردت بأحدهما الضوء، وبالآخر العقل، ولذلك لا يتناقض قول الفقهاء المضطر مختار المضطر ليس بمختار، وقولهم: المضطر آثم المضطر ليس بآثم، إذ قد يعبر بالمضطر عن المرتعد والمحمول المطروح على غيره، وقد يعبر به عن المدعو بالسيف إلى الفعل، فالاسم متحد والمعنى مختلف. الثاني: أن يكون الحكم واحدا والاسم مختلفا، كقولك: العالم قديم العالم ليس بقديم، أردت بأحد القديمين ما أراده الله تعالى بقوله: {كالعرجون القديم} (يس: 93) ولذلك لم يتناقض قولهم: المكره مختار، المكره ليس بمختار، لان المختار عبارة عن معنيين مختلفين. الثالث: أن تتحد الاضافة في الامور الاضافية، فإنك لو قلت: زيد أب زيد ليس بأب، لم يتناقضا، إذ يكون أبا لبكر ولا يكون أبا لخالد، وكذلك تقول: زيد أب زيد ابن فلا يتعدد بالاضافة إلى شخصين، والعشرة نصف، والعشرة ليست بنصف، أي بالاضافة إلى العشرين والثلاثين، وكما يقال: المرأة مولى عليها، المرأة غير مولى عليها وهما صادقان بالاضافة إلى النكاح والبيع، لا إلى شئ واحد وإلى العصبة والاجنبي لا إلى شخص واحد. الرابع: أن يتساويا في القوة والفعل، فإنك تقول: الماء في الكوز مرو، أي بالقوة، وليس الماء بمرو أي بالفعل، والسيف في الغمد قاطع وليس بقاطع، ومنه ثار الخلاف في أن البارئ في الازل خالق أو ليس بخالق. الخامس: التساوي في الجزء والكل، فإنك تقول الزنجي أسود، الزنجي ليس بأسود، أي ليس بأسود الاسنان، وعنه نشأ الغلط، حيث قيل إن العالمية حال لزيد بجملته، لان زيدا عبارة عن جملته، ولم يعرف أنا إذا قلنا زيد في بغداد، إذ لم نعن به أنه في جميع بغداد، بل في جزء منها، وهو مكان يساوي مساحته. السادس: التساوي في المكان والزمان، فإنك تقول: العالم حادث العالم ليس بحادث، أي هو حادث عن أول وجوده وليس بحادث قبله ولا بعده، بل قبله معدوم وبعده باق، والصبي تنبت له أسنان، والصبي لا تنبت له أسنان، ونعني بأحدهما السنة الأولى وبالآخر التي بعدها، وبالجملة فالقضية المتناقضة هي التي تسلب ما أثبتته الأولى بعينه عما أثبتته بعينه، وفي ذلك الوقت والمكان والحال، وبتلك الاضافة بعينها، وبالقوة إن كان ذلك بالقوة، وبالفعل إن كان ذلك بالفعل، وكذلك في الجزء والكل وتحصيل ذلك بأن لا تخالف القضية النافية المثبتة إلا في تبادل النفي بالاثبات فقط.