الفن الأول في السوابق وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في دلالة الالفاظ على المعاني
ويتضح المقصود منه بتقسمات. التقسيم الأول: إن دلالة اللفظ على المعنى تنحصر في ثلاثة أوجه: وهي المطابقة والتضمن والالتزام، فإن لفظ البيت يدل على معنى البيت بطريق المطابقة، ويدل على السقف وحده بطريق التضمن، لان البيت يتضمن السقف لان البيت عبارة عن السقف والحيطان، وكما يدل لفظ الفرس على الجسم، إذ لا فرس إلا وهو جسم، وأما طريق الالتزام فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط فإنه غير موضوع للحائط، وضع لفظ الحائط للحائط، حتى يكون مطابقا، ولا هو متضمن، إذ ليس الحائط جزءا من السقف، كما كان السقف جزءا من نفس البيت، وكما كان الحائط جزءا من نفس البيت، لكنه كالرفيق الملازم الخارج عن ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه، وإياك أن تستعمل في نظر العقل من الالفاظ ما يدل بطريق الالتزام، لكن اقتصر على ما يدل بطريق المطابقة والتضمن، لان الدلالة بطريق الالتزام لا تنحصر في حد إذ السقف يلزم الحائط، والحائط الاس، والاس الارض، وذلك لا ينحصر. التقسيم الثاني: إن الالفاظ بالاضافة إلى خصوص المعنى وشموله تنقسم إلى لفظ يدل على عين واحدة، ونسميه معينا، كقولك: زيد، وهذه الشجرة، وهذا الفرس، وهذا السواد، وإلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد، ونسميه مطلقا. والأول: حده اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد بعينه، فلو قصدت اشتراك غيره فيه منع نفس مفهوم اللفظ منه. وأما المطلق: فهو الذي لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الاشتراك في معناه، كقولك: السواد، والحركة، والفرس، والانسان، وبالجملة الاسم المفرد في لغة العرب، إذا أدخل عليه الالف واللام للعموم، فإن قلت: وكيف يستقيم هذا وقولك: الاله، والشمس، والارض، لا يدل إلا على شئ واحد مفرد مع دخول الالف واللام؟ فاعلم أن هذا غلط، فإن امتناع الشركة ها هنا ليس لنفس مفهوم اللفظ، بل الذي وضع اللغة لو جوز في الاله عددا لكان يرى هذا اللفظ عاما في الآلهة كلها، فإن امتنع الشمول لم يكن لوضع اللفظ، بل لاستحالة وجود إله ثان، فلم يكن امتناع الشركة لمفهوم اللفظ، والمانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة، فلو فرضنا عوالم في كل واحد شمس وأرض كان قولنا: الشمس والارض، شاملا للكل، فتأمل هذا، فإنه مزلة قدم في جملة من الامور النظرية فإن من لا يفرق بين قوله السواد، وبين قوله: هذا السواد، وبين قوله: الشمس، وبين قوله: هذه الشمس، عظم سهوه في النظريات من حيث لا يدري. التقسيم الثالث: إن الالفاظ المتعددة بالاضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل ولنخترع لها أربعة ألفاظ وهي: المترادفة، والمتباينة، والمتواطئة، والمشتركة. أما المترادفة: فنعني بها الالفاظ المختلفة: والصيغ المتواردة على مسمى واحد، كالخمر، والعقار والليث والاسد، والسهم، والنشاب، وبالجملة: كل اسمين لمسمى واحد يتناوله أحدهما من حيث يتناوله الآخر، من غير فرق. وأما المتباينة: فنعني بها الاسامي المختلفة للمعاني المختلفة كالسواد والقدرة والاسد والمفتاح والسماء والارض وسائر الاسامي، وهي الاكثر. وأما المتواطئة: فهي التي تنطلق على أشياء متغايرة بالعدد، ولكنها متفقة بالمعنى الذي وضع الاسم عليها، كاسم الرجل، فإنه ينطلق على زيد وعمرو وبكر وخالد، واسم الجسم ينطلق على السماء والارض والانسان، لاشتراك هذه الاعيان في معنى الجسمية التي وضع الاسم بإزائها، وكل اسم مطلق ليس بمعين، كما سبق، فإنه ينطلق على آحاد مسمياته الكثيرة بطريق التواطؤ، كاسم اللون، للسواد والبياض والحمرة، فإنها متفقة في المعنى الذي به سمي اللون لونا، وليس بطريق الاشتراك البتة. وأما المشتركة فهي: الاسامي التي تنطلق على مسميات مختلفة لا تشترك في الحد والحقيقة البتة، كاسم العين للعضو الباصر، وللميزان، وللموضع الذي يتفجر منه الماء، وهي العين الفوارة، وللذهب، وللشمس، وكاسم المشتري لقابل عقد البيع وللكوكب المعروف، ولقد ثار من ارتباك المشتركة بالمتواطئة غلط كثير في العقليات، حتى ظن من ضعفاء العقول أن السواد لا يشارك البياض في اللونية إلا من حيث الاسم، وإن ذلك كمشاركة الذهب للمحدقة الباصرة في اسم العين، وكمشاركة قابل عقد البيع للكوكب في المشتري، وبالجملة: الاهتمام بتمييز المشتركة عن المتواطئة مهم، فلنرد له شرحا فنقول: الاسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرناه، وقد يدل على المتضادين، كالجلل للحقير والخطير، والناهل للعطشان والريان، والجون للسواد والبياض، والقرء للطهر والحيض، واعلم أن المشترك قد يكون مشكلا قريب الشبه من المتواطئ ويعسر على الذهن، وإن كان في غاية الصفاء الفرق، ولنسم ذلك متشابها، وذلك مثل اسم النور الواقع على الضوء المبصر من الشمس والنار والواقع على العقل الذي به يهتدى في الغوامض، فلا مشاركة بين حقيقة ذات العقل والضوء إلا كمشاركة السماء للانسان في كونها جسما، إذ الجسمية فيهما لا تختلف البتة، مع أنه ذاتي لهما، ويقرب من لفظ النور لفظ الحي على النبات والحيوان، فإنه بالاشتراك المحض إذ يراد به من بعض النبات المعنى الذي به نماؤه، ومن الحيوان المعنى الذي به يحس ويتحرك بالارادة، وإطلاقه على الباري تعالى إذا تأملت عرفت أنه لمعنى ثالث يخالف الامرين جميعا، ومن أمثال هذه تتابع الاغاليط مغلطة أخرى، قد تلتبس المترادفة بالمتباينة، وذلك إذا أطلقت أسام مختلفة على شئ واحد باعتبارات مختلفة، ربما ظن أنها مترادفة كالسيف والمهند والصارم، فإن المهند يدل على السيف مع زيادة نسبة إلى الهند، فخالف إذا مفهومه مفهوم السيف، والصارم يدل على السيف مع صفة الحدة والقطع، لا كالاسد والليث، وهذا كما أنا في اصطلاحاتنا النظرية نحتاج إلى تبديل الاسامي على شئ واحد عند تبدل اعتباراته، كما أنا نسمي العلم التصديقي الذي هو نسبة بين مفردين دعوى إذا تحدى به المتحدي ولم يكن عليه برهان، إن كان في مقابلة خصم، وإن لم يكن في مقابلة خصم سميناه قضية، كأنه قضى فيه على شئ بشئ، فإن خاض في ترتيب قياس الدليل عليه سميناه مطلوبا، فإن دل بقياسه على صحته سميناه نتيجة، فإن استعمله دليلا في طلب أمر آخر ورتبه في أجزاء القياس سميناه مقدمة وهذا ونظائره مما يكثر. مثال الغلط في المشترك: قول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة المكره على القتل: يلزمه القصاص، لانه مختار، ويقول الحنفي، لا يلزمه القصاص، لانه مكره، وليس بمختار، ويكاد الذهن لا ينبو عن التصديق بالامرين، وأنت تعلم أن التصديق بالضدين محال، وترى الفقهاء يتعثرون فيه ولا يهتدون إلى حله، وإنما ذلك لان لفظ المختار مشترك، إذ قد يجعل لفظ المختار مراد فاللفظ القادر ومساويا له إذ قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة كالمحمول، فيقال: هذا عاجز محمول، وهذا قادر مختار، ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل وتركه، وهو صادق على المكره، وقد يعبر بالمختار عمن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته، بلا تحرك دواعيه من خارج، وهذا يكذب على المكره، ونقيضه وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه، فإذا صدق عليه أنه مختار وأنه ليس بمختار، ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت، ولهذا نظائر في النظريات لا تحصى تاهت فيها عقول الضعفاء، فليستدل بهذا القليل على الكثير.
الفصل الثاني من الفن الأول: النظر في المعاني المفرد ة
ويظهر الغرض من ذلك بتقسيمات ثلاثة: الأول: أن المعنى إذا وصف بالمعنى ونسب إليه وجد إما ذاتيا وإما عرضيا وإما لازما وقد فصلناه. والثاني: أنه إذا نسب إليه وجد إما أعم كالوجود بالاضافة إلى الجسمية، وإما أخص كالجسمية بالاضافة إلى الوجود، وإما مساويا كالمتحيز بالاضافة إلى الجوهر عند قوم، وإلى الجسم عند قوم. الثالث: إن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة: محسوسة ومتخيلة ومعقولة، ولنصطلح على تسمية سبب الادراك قوة فنقول في حدقتك معنى به تميزت الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر بها، وإذا بطل ذلك المعنى بطل الابصار، والحالة التي تدركها عند الابصار شرطها وجود المبصر، فلو انعدم المبصر انعدم الابصار، وتبقى صورته في دماغك كأنك تنظر إليها، وهذه الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل، بل عدمه وغيبته لا تنفي الحالة المسماة تخيلا، وتنفي الحالة التي تسمى إبصارا، ولما كنت تحس بالمتخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك، فاعلم أن في الدماغ غريزة وصفة بها يتهيأ للتخيل، وبها باين البطن والفخذ، كما باين العين الجبهة والعقب في الابصار بمعنى اختص به لا محالة، والصبي في أول نشئه تقوى فيه قوة الابصار لا قوة التخيل فلذلك إذا ولع بشئ فغيبته عنه وأشغلته بغيره اشتغل به ولها عنه، وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للتخيل ولا يفسد الابصار، فيرى الاشياء، ولكنه كما تغيب عنه ينساها، وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الانسان، ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكر صورته التي كانت له في دماغه، فعرف أنه موافق له، وأنه مستلذ لديه فبادر إليه فلو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته لها ثانيا كرؤيته لها أولا حتى لا يبادر إليه ما لم يجربه بالذوق مرة أخرى، ثم فيك قوة ثالثة شريفة يباين الانسان بها البهيمة تسمى عقلا، محلها إما دماغك وإما قلبك، وعند من يرى النفس جوهرا قائما بذاته غير متحيز محلها النفس، وقوة العقل تباين قوة التخيل، مباينة أشد من مباينة التخيل للابصار إذ ليس بين قوة الابصار وقوة التخيل فرق، إلا أن وجود المبصر شرط لبقاء الابصار، وليس شرطا لبقاء التخيل، وإلا فصورة الفرس تدخل في الابصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص، وبعد منك مخصوص، ويبقى في التخيل ذلك البعد، وذلك القدر واللون، وذلك الوضع والشكل، حتى كأنك تنظر إليه، ولعمري فيك قوة رابعة تسمى: المفكرة، شأنها أن تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال، وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شئ آخر ولكن إذا حضر في الخيال صورة إنسان قدر على أن يجعلها نصفين، فيصور نصف إنسان وربما ركب شخصا نصفه من إنسان، ونصفه من فرس، وربما تصور إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الانسان، وحده وصورة الطير وحده، وهذه القوة تجمع بينهما، كما تفرق بين نصفي الانسان، وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال، بل كل تصوراتها بالتفريق والتأليف في الصور الحاصلة في الخيال، و المقصود أن مباينة إدراك العقل لادراك التخيل أشد من مباينة التخيل للابصار، إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العارية عن القرائن الغريبة التي ليست داخلة في ذاتها، أعني التي ليست ذاتية، كما سبق، فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص ووضع مخصوص منك بقب أو بعد، ومعلوم أن الشكل غير اللون، والقدر غير الشكل، فإن المثلث له شكل واحد، صغيرا كان أو كبيرا، وإنما إدراك هذه المفردات المجردة بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلا، فيدرك السواد، ويقضي بقضايا، ويدرك اللونية مجردة، ويدرك الحيوانية والجسمية مجردة، وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره الالتفات إلى العاقل وغير العاقل، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين، وحيث يستمر في نظره قاضيا على الالوان بقضية، قد لا يحضر معنى السوادية والبياضية وغيرهما، وهذه من عجيب خواصها، وبديع أفعالها، فإذا رأى فرسا واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير، والاشهب والكميت، و البعيد منه في المكان والقريب، بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة، متنزهة عن كل قرينة ليست ذاتية لها، فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتيا، بل عارضا أو لازما في الوجود، إذ مختلفات اللون والقدر تشترك في حقيقة الفرسية، وهذه المطلقات المجردة الشاملة لامور مختلفة هي التي يعبر عنها المتكلمون بالاحوال والوجوه والاحكام، ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة، ويزعمون أنها موجودة في الاذهان لا في الاعيان، وتارة يعبرون عنها بأنها غير موجودة من خارج، بل من داخل، يعنون خارج الذهن وداخله، ويقول أرباب الاحوال إنها أمور ثابتة، تارة يقولون إنها موجودة معلومة، وتارة يقولون لا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة، وقد دارت فيه رؤوسهم وحارت عقولهم، والعجب أنه أول منزل ينفصل فيه المعقول عن المحسوس، إذ من هاهنا يأخذ العقل الانساني في التصرف، وما كان قبله كان يشارك التخيل البهيمي فيه التخيل الانساني، ومن تحير في أول منزل من منازل العقل كيف يرجى فلاحه في تصرفاته.