عرض مشاركة واحدة
قديم 12-06-2012, 02:47 PM   #8
حسن الخليفه احمد

الصورة الرمزية حسن الخليفه احمد



حسن الخليفه احمد is on a distinguished road

إرسال رسالة عبر Skype إلى حسن الخليفه احمد
افتراضي رد: كتاب المستصفى من علم الاصول للامام الغزالى رضى الله عنه


نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة الفن الثاني من دعامة الحد في الامتحانات للقوانين بحدود مفصلة
وقد أكثرنا أمثلتها في كتاب معيار العلم ومحك النظر، ونحن الآن مقتصرون على حد الحد وحد العلم وحد الواجب، لان هذا النمط من الكلا م دخيل في علم الاصول، فلا يليق فيه الاستقصاء‏.‏ الامتحان الأول ‏(‏حد الحد‏)‏ اختلف الناس في حد الحد، فمن قائل يقول‏:‏ حد الشئ هو حقيقته وذاته، ومن قائل يقول‏:‏ حد الشئ هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يمنع ويجمع، ومن قائل ثالث يقول‏:‏ هذه المسألة خلافية، فينصر أحد الحدين على الآخر، فانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث، فلم يعلم أن الاختلاف إنما يتصور بعد التوارد على شئ واحد، وهذان قد تباعدا وتنافرا وما تواردا على شئ واحد، وإنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة الاسم المشترك على ما سنذكره، فإن من يحد العين بأنه العضو المدرك للالوان بالرؤية لم يخالف من حده بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود، بل حد هذا أمرا مباينا لحقيقة الامر الآخر، وإنما اشتركا في اسم العين، فافهم هذا، فإنه قانون كثير النفع، فإن قلت‏:‏ فما الصحيح عندك في حد الحد‏؟‏ فاعلم أن كل من طلب المعاني من الالفاظ ضاع وهلك، وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه، ومن قرر المعاني أولا في عقله، ثم أتبع المعاني الالفاظ فقد اهتدى، فلنقرر المعاني فنقول‏:‏ الشئ له في الوجود أربع مراتب‏:‏ الأولى‏:‏ حقيقته في نفسه الثانية‏:‏ ثبوت مثال حقيقته في الذهن، وهو الذي يعبر عنه بالعلم‏.‏ الثالثة‏:‏ تأليف صوت بحروف تدل عليه، وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس‏.‏ الرابعة‏:‏ تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهو الكتابة، فالكتابة تبع للفظ إذ تدل عليه، واللفظ تبع للعلم إذ يدل عليه، والعلم تبع للمعلوم، إذ يطابقه ويوافقه، وهذه الاربعة متطابقة متوازية، إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالاعصار والامم والآخرين وهو اللفظ والكتابة يختلفان بالاعصار والامم، لانهما موضوعان بالاختيار، ولكن الاوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها قصد بها مطابقة الحقيقة، ومعلوم أن الحد مأخوذ من المنع وإنما استعير لهذه المعاني لمشاركته في معنى المنع، فانظر المنع أين تجده في هذه الاربعة، فإذا ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشئ مخصوصة به إذ حقيقة كل شئ خاصيته التي له، وليست لغيره، فإذا الحقيقة جامعة مانعة وإن نظرت إلى مثال الحقيقة في الذهن وهو العلم وجدته أيضا كذلك لانه مطابق للحقيقة المانعة والمطابقة توجب المشاركة في المنع، وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها أيضا حاصرة، فإنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق، وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للفظ المطابق للعلم المطابق للحقيقة فهي أيضا مطابقة فقد وجدت المنع في الكل إلا أن العادة لم تجر بإطلاق الحد على الكتابة التي هي الرابعة، ولا على العلم الذي هو الثاني بل هو مشترك، بين الحقيقة وبين اللفظ، وكل لفظ مشترك بين حقيقتين، فلا بد أن يكون له حدان مختلفان، كلفظ العين، فإذا عند الاطلاق على نفس الشئ يكون حد الحد أنه حقيقة الشئ وذاته، وعند الاطلاق الثاني يكون حد الحد أنه اللفظ الجامع المانع إلا أن الذين أطلقوه على اللفظ أيضا اصطلاحهم مختلف، كما ذكرناه في الحد اللفظي والرسمي والحقيقي، فحد الحد عند من يقنع بتكرير اللفظ، كقولك الموجود هو الشئ، والعلم هو المعرفة، والحركة هي النقلة، هو تبديل اللفظ بما هو أوضح عند السائل، على شرط أن يجمع ويمنع‏.‏ وأما حد الحد عند من يقنع بالرسميات فإنه اللفظ الشارح للشئ بتعديد صفاته الذاتية أو اللازمة على وجه يميزه عن غيره تمييزا يطرد وينعكس‏.‏ وأما حده عند من لا يطلق اسم الحد إلا على الحقيقي فهو‏:‏ إنه القول الدال على تمام ماهية الشئ، ولا يحتاج في هذا إلى ذكر الطرد والعكس، لان ذلك تبع للماهية بالضرورة، ولا يحتاج إلى التعرض للوازم والعوارض، فإنها لا تدل على الماهية، بل لا يدل إلا على الماهية إلا الذاتيات، فقد عرفت أن اسم الحد مشترك في الاصطلاحات بين الحقيقة وشرح اللفظ والجمع بالعوارض والدلالة على الماهية، فهذه أربعة أمور مختلفة، كما دل لفظ العين على أمور مختلفة، فتعلم صناعة الحد، فإذا ذكر لك اسم وطلب منك حده فانظر، فإن كان مشتركا فاطلب عدة المعاني التي فيها الاشتراك، فإن كانت ثلاثة فاطلب لها ثلاثة حدود، فإن الحقائق إذا اختلفت فلا بد من اختلاف الحدود، فإذا قيل لك ما الانسان، فلا تطمع في حد واحد، فإن الانسان مشترك بين أمور إذ يطلق على إنسان العين وله حد، وعلى الانسان المعروف وله حد آخر، وعلى الانسان المصنوع على الحائط المنقوش، وله حد آخر، وعلى الانسان الميت وله حد آخر، فإن اليد المقطوعة، والذكر المقطوع، يسمى ذكرا، وتسمى يدا، ولكن بغير الوجه الذي كانت تسمى به حين كانت غير مقطوعة، فإنها كانت تسمى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع، وبعد القطع تسمى به من حيث أن شكلها شكل آلة البطش، حتى لو بطل بالتقطيعات الكثيرة شكلها سلب هذا الاسم عنها، ولو صنع شكلها من خشب أو حجر أعطي الاسم، وكذلك إذا قيل‏:‏ ما حد العقل‏؟‏ فلا تطمع في أن تحده بحد واحد، فإنه هوس، لان اسم العقل مشترك، يطلق على عدة معان، إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية، ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الانسان لدرك العلوم النظرية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقلا، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة، عن الهدو، فيقال‏:‏ فلان عاقل، أي في هدو، وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم حتى أن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلا فلا يقال للحجاج عاقل بل داه، ولا يقال للكافر عاقل، وإن كان محيطا بجملة العلوم الطبية والهندسية، بل إما فاضل وإما داه وإما كيس، فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود، فيقال في حد العقل باعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية، كجواز الجائزات واستحالة المتسحيلات كما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله، وبالاعتبار الثاني أنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات، وهكذا بقية الاعتبارات‏.‏ فإن قلت‏:‏ فنرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الاختلاف في الحد، أترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء‏؟‏ فاعلم أن الاختلاف في الحد يتصور في موضعين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون اللفظ في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو قول إمام من الائمة يقصد الاطلاع على مراده به، فيكون ذلك اللفظ مشتركا، فيقع النزاع في مراده به، فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل، والتباين بعد التوارد، فالخلاف تباين بعد التوارد، وإلا فلا نزاع بين من يقول السماء قديمة، وبين من يقول‏:‏ الانسان مجبور على الحركات، إذ لا توارد، فلو كان لفظ الحد في كتاب الله تعالى، أو في كتاب إمام، لجاز أن يتنازع في مراده، ويكون إيضاح ذلك من صناعة التفسير لا من صناعة النظر العقلي‏.‏ الثاني‏:‏ أن يقع الاختلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حده أمرا ثانيا لا يتحد حده على المذهبين فيختلف، كما يقول المعتزلي، حد العلم اعتقاد الشئ على ما هو به، ونحن نخالف في ذكر الشئ، فإن المعدوم عندنا ليس بشئ وهو معلوم، فالخلاف في مسألة أخرى يتعدى إلى هذا الحد، وكذلك يقول القائل‏:‏ حد العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا وكذا، و يخالف من يقول في حده إنه غريزة يتميز بها الانسان عن الذئاب وسائر الحيوانات، من حيث إن القائل الأول ينكر تميز العين بغريزة عن العقب، وتميز الانسان بغريزة عن الذئاب بها يتهيأ للنظر في العقليات، لكن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم في القلب دون العقب، وفي الانسان دون الذئاب، وخلق البصر في العين دون العقب، لا لتميزه بغريزة استعد بسببها لقبوله، فيكون منشأ الاختلاف في الحد الاختلاف في إثبات هذه الغريزة أو نفيها، فهذه أمور، وإن أوردناها في معرض الامتحان، فقد أدرجنا فيها ما يجري على التحقيق مجرى القوانين‏.‏ امتحان ثان ‏(‏حد العلم اختلف في حد العلم، فقيل‏:‏ إنه المعرفة، وهو حد لفظي وهو أضعف أنواع الحدود، فإنه تكرير، لفظ بذكر ما يرادفه، كما يقال‏:‏ حد الاسد الليث، وحد العقار الخمر وحد الموجود الشئ، وحد الحركة النقلة، ولا يخرج عن كونه لفظيا بأن يقال‏:‏ معرفة المعلوم على ما هو به، لانه في حكم تطويل وتكرير، إذ المعرفة لا تطلق إلا على ما هو كذلك، فهو كقول القائل‏:‏ حد الموجود الشئ الذي له ثبوت ووجود، فإن هذا تطويل لا يخرجه عن كونه لفظيا‏.‏ ولست أمنع من تسمية هذا حدا، فإن لفظ الحد مباح في اللغة لمن استعاره لما يريده مما فيه نوع من المنع، هذا إذا كان الحد عنده عبارة عن لفظ مانع، وإن كان عنده عبارة عن قول شارح لماهية الشئ مصور كنه حقيقته في ذهن السائل، فقد ظلم بإطلاق هذا الاسم على قوله‏:‏ العلم هو المعرفة، وقيل أيضا أنه الذي يعلم به، وأنه الذي تكون الذات به عالمة، وهذا أبعد من الأول، فإنه مساو له في الخلو عن الشرح والدلالة على الماهية، ولكن قد يتوهم في الأول شرح اللفظ، بأن يكون أحد اللفظين عند السائل أشهر من الآخر، فيشرح الاخفى بالاشهر، أما العالم ويعلم فهما مشتقان من نفس العلم، ومن أشكل عليه المصدر كيف يتضح له بالمشتق منه، والمشتق أخفى من المشتق منه، وهو كقول القائل في حد الفضة‏:‏ إنها التي تصاغ منها الاواني الفضية‏.‏ وقد قيل في حد العلم‏:‏ إنه الوصف الذي يتأتى للمتصف به إتقان الفعل وأحكامه، وهذا ذكر لازم من لوازم العلم، فيكون رسميا، وهو أبعد مما قبله، من حيث أنه أخص من العلم، فإنه لا يتناول إلا بعض العلوم، ويخرج منه العلم بالله وصفاته، إذ ليس يتأتى به إتقان فعل وأحكامه، ولكنه أقرب مما قبله بوجه، فإنه ذكر لازم قريب من الذات، ليفيد شرحا وبيانا، بخلاف قوله ما يعلم به، وما تكون الذات به عالمة، فإن قلت‏:‏ فما حد العلم عندك‏؟‏ فاعلم أنه إسم مشترك، قد يطلق على الابصار والاحساس، وله حد بحسبه، ويطلق على التخيل، وله حد بحسبه، ويطلق على الظن، وله حد آخر، ويطلق على علم الله تعالى على وجه آخر أعلى وأشرف، ولست أعني به شرفا بمجرد العموم فقط بل بالذات والحقيقة، لانه معنى واحد محيط بجميع التفاصيل، ولا تفاصيل ولا تعدد في ذاته، وقد يطلق على إدراك العقل، وهو المقصود بالبيان، وربما يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتي، فإنا بينا أن ذلك عسير في أكثر الاشياء بل أكثر المدركات الحسية يتعسر تحديدها، فلو أردنا أن نحد رائحة المسك أو طعم العسل لم نقدر عليه، وإذا عجزنا عن حد المدركات فنحن عن تحديد الادراكات أعجز، ولكنا نقدر على شرح معنى العلم بتقسيم ومثال‏:‏ أما التقسيم‏:‏ فهو أن نميزه عما يلتبس به، ولا يخفى وجه تميزه عن الارادة والقدرة وسائر صفات النفس، وإنما يلتبس بالاعتقادات، ولا يخفى أيضا وجه تميزه عن الشك والظن، لان الجزم منتف عنهما، والعلم عبارة عن أمر جزم لا تردد فيه ولا تجويز، ولا يخفى أيضا، وجه تميزه عن الجهل، فإنه متعلق بالمجهول على خلاف ما هو به والعلم مطابق للمعلوم، وربما يبقى ملتبسا باعتقاد المقلد الشئ على ما هو به عن تلقف لا عن بصيرة، وعن جزم لا عن تردد، ولاجله خفي على المعتزلة حتى قالوا في حد العلم‏:‏ إنه اعتقاد الشئ على ما هو به وهو خطأ من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ تخصيص الشئ، مع أن العلم يتعلق بالمعدوم الذي ليس شيئا عندنا‏.‏ والثاني‏:‏ إن هذا الاعتقاد حاصل للمقلد، وليس بعالم قطعا، فإنه كما يتصور أن يعتقد الشئ جزما على خلاف ما هو به لا عن بصيرة كاعتقاد اليهودي والمشرك، فإنه تصميم جازم لا تردد فيه، يتصور أن يعتقد الشئ بمجرد التلقين والتلقف على ما هو به، مع الجزم الذي لا يخطر بباله جواز غيره، فوجه تميز العلم عن الاعتقاد، هو أن الاعتقاد معناه السبق إلى أحد معتقدي الشاك، مع الوقوف عليه من غير إخطار نقيضه بالبال، ومن غير تمكين نقيضه من الحلول في النفس فإن الشاك يقول‏:‏ العالم حادث أم ليس بحادث‏؟‏ والمعتقد يقول‏:‏ حادث، ويستمر عليه ولا يتسع صدره لتجويز القدم، والجاهل يقول‏:‏ قديم، ويستمر عليه، والاعتقاد وإن وافق المعتقد فهو جنس من الجهل في نفسه، وإن خالفه بالاضافة، فإن معتقد كون زيد في الدار لو قدر استمراره عليه حتى خرج زيد من الدار بقي اعتقاده كما كان لم يتغير في نفسه، وإنما تغيرت إضافته، فإنه طابق المعتقد في حالة وخالفه في حالة، وأما العلم فيستحيل تقدير بقائه مع تغير المعلوم، فإنه كشف وانشراح، والاعتقاد عقدة على القلب، والعلم عبارة عن انحلال العقد، فهما مختلفان ولذلك لو أصغى المعتقد إلى المشكك لوجد لنقيض معتقده مجالا في نفسه، والعالم لا يجد ذلك أصلا وإن أصغى إلى الشبه المشككة، ولكن إذا سمع شبهة فإما أن يعرف حلها وإن لم تساعده العبارة في الحال، وإما أن تساعده العبارة أيضا على حلها، وعلى كل حال فلا يشك في بطلان الشبهة، بخلاف المقلد، وبعد هذا التقسيم والتمييز يكاد يكون العلم مرتسما في النفس بمعناه وحقيقته، من غير تكلف تحديد‏.‏ وأما المثال‏:‏ فهو أن إدراك البصيرة الباطنة تفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر، ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المبصر في القوة الباصرة من إنسان العين، كما يتوهم انطباع الصور في المرآة مثلا، فكما أن البصر يأخذ صور المبصرات، أي ينطبع فيها مثالها المطابق لها لا عينها، فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال يطابق صورتها، وكذلك يرى مثال النار في المرآة لا عين النار، فكذلك العقل على مثال مرآة تنطبع فيها صور المعقولات على ما هي عليها، وأعني بصور المعقولات حقائقها وماهياتها، فالعلم عبارة عن أخذ العقل صور المعقولات وهيآتها في نفسه وانطباعها فيه كما يظن من حيث الوهم انطباع الصور في المرآة، ففي المرآة ثلاثة أمور‏:‏ الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيها، فكذلك جوهر الآدمي كحديدة المرآة وعقله، هيئة، وغريزة في جوهره ونفسه بها يتهيأ للانطباع بالمعقولات، كما أن المرآة بصقالتها واستدارتها تتهيأ لمحاكاة الصور، فحصول الصور في مرآة العقل التي هي مثال الاشياء هو العلم، والغريزة التي بها يتهيأ لقبول هذه الصورة هي العقل، والنفس التي هي حقيقة الآدمي المخصوصة بهذه الغريزة المهيأة لقبول حقائق المعقولات كالمرآة، فالتقسيم الأول يقطع العلم عن مظنان الاشتباه، وهذا المثال يفهمك حقيقة العلم، فحقائق المعقولات إذا انطبع بها النفس العاقلة تسمى علما، وكما أن السماء والارض والاشجار والانهار يتصور أن ترى في المرآة حتى كأنها موجودة في المرآة وكأن المرآة حاوية لجميعها، فكذلك الحضرة الالهية بجملتها يتصور أن تنطبع بها نفس الآدمي، والحضرة الالهية عبارة عن جملة الموجودات، فكلها من الحضرة الالهية، إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وأفعاله، فإذا انطبعت بها صارت كأنها كل العالم لاحاطتها به تصورا وانطباعا، وعند ذلك ربما ظن من لا يدري الحلول، فيكون كمن ظن أن الصورة حالة في المرآة وهو غلط، لانها ليست في المرآة، ولكن كأنها في المرآة، فهذا ما نرى الاقتصار عليه في شرح حقيقة العلم في هذه المقدمة التي هي علاوة على هذا العلم‏.‏ امتحان ثالث ‏(‏تعريف الواجب‏)‏ اختلفوا في حد الواجب، فقيل‏:‏ الواجب ما تعلق به الايجاب، وهو فاسد، كقولهم‏:‏ العلم ما يعلم به، وقيل‏:‏ ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، وقيل‏:‏ ما يجب بتركه العقاب، وقيل ما لا يجوز العزم على تركه، وقيل‏:‏ ما يصير المكلف بتركه عاصيا، وقيل‏:‏ ما يلام تاركه شرعا، وأكثر هذه الحدود تعرض للوازم والتوابع، وسبيلك إن أردت الوقوف على حقيقته أن تتوصل إليه بالتقسيم كما أرشدناك إليه في حد العلم، فاعلم أن الالفاظ في هذا الفن خمسة‏:‏ الواجب، والمحظور، والمندوب، و المكروه، والمباح، فدع الالفاظ جانبا ورد النظر إلى المعنى أولا، فأنت تعلم أن الواجب اسم مشترك، إذ يطلقه المتكلم في مقابلة الممتنع ويقول‏:‏ وجود الله تعالى واجب، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وجبت جنوبها‏}‏ ‏(‏الحج‏:‏ 63‏)‏ ويقال‏:‏ وجبت الشمس، وله بكل معنى عبارة، والمطلوب الآن مراد الفقهاء، وهذه الالفاظ لا شك أنها لا تطلق على جوهر بل على عرض، ولا على كل عرض، بل من جملتها على الافعال فقط، ومن الافعال على أفعال المكلفين لا على أفعال البهائم، فإذا نظرك إلى أقسام الفعل لا من حيث كونه مقدورا وحادثا ومعلوما ومكتسبا و مخترعا، وله بحسب كل نسبة انقسامات، إذ عوارض الافعال ولوازمها كثيرة فلا نظر فيها ولكن إطلاق هذا الاسم عليها من حيث نسبتها إلى خطار الشرع فقط، فنقسم الافعال بالاضافة إلى خطاب الشرع، فنعلم أن الافعال تنقسم إلى ما لا يتعلق به خطاب الشرع كفعل المجنون وإلى ما يتعلق به، والذي يتعلق به ينقسم إلى ما يتعلق به على وجه التخيير والتسوية بين الاقدام عليه وبين الاحجام عنه ويسمى مباحا، وإلى ما ترجح فعله على تركه وإلى ما ترجح تركه على فعله، والذي ترجح فعله على تركه ينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على تركه ويسمى مندوبا، وإلى ما أشعر بأنه يعاقب على تركه ويسمى واجبا، ثم ربما خص فريق اسم الواجب بما أشعر بالعقوبة عليه ظنا، وما أشعر به قطعا، خصوه باسم الفرض، ثم لا مشاحة في الالفاظ بعد معرفة المعاني، وأما المرجح تركه فينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على فعله ويسمى مكروها، وقد يكون منه ما أشعر بعقاب على فعله في الدنيا كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه وإلى ما أشعر بعقاب في الآخرة على فعله وهو المسمى محظورا وحراما ومعصية، فإن قلت‏:‏ فما معنى قولك‏:‏ أشعر‏؟‏ فمعناه أنه عرف بدلالة من خطاب صريح أو قرينة أو معنى مستنبط أو فعل أو إشارة، فالاشعار يعم جميع المدارك، فإن قلت‏:‏ فما معنى قولك‏:‏ عليه عقاب‏؟‏ قلنا‏:‏ معناه أنه أخبر أنه سبب العقاب في الآخرة، فإن قلت‏:‏ فما المراد بكونه سببا‏؟‏ فالمراد به ما يفهم من قولنا، الاكل سبب الشبع، وحز الرقبة سبب الموت، والضرب سبب الالم، والدواء سبب الشفاء، فإن قلت‏:‏ فلو كان سببا لكان لا يتصور أن لا يعاقب، وكم من تارك واجب يعفى عنه ولا يعاقب فأقول‏:‏ ليس كذلك، إذ لا يفهم من قولنا‏:‏ الضرب سبب الالم، والدواء سبب الشفاء، أن ذلك واجب في كل شخص أو في معين مشار إليه، بل يجوز أن يعرض في المحل أمر يدفع السبب ولا يدل ذلك على بطلان السببية، فرب دواء لا ينفع، ورب ضرب لا يدرك المضروب ألمه لكونه مشغول النفس بشئ آخر كمن يجرح في حال القتال وهو لا يحس في الحال به، وكما أن العلة قد تستحكم فتدفع أثر الدواء، فكذلك قد يكون في سريرة الشخص وباطنه أخلاق رضية، وخصال محمودة عند الله تعالى مرضية توجب العفو عن جريمته، ولا يوجب ذلك خروج الجريمة عن كونها سبب العقاب، فإن قال قائل هل يتصور أن يكون للشئ الواحد حدان‏؟‏ قلنا‏:‏ أما الحد اللفظي‏:‏ فيجوز أن يكون ألفا إذ ذلك بكثرة الاسامي الموضوعة للشئ الواحد‏.‏ وأما الرسمي‏:‏ فيجوز أيضا أن يكثر لان عوارض الشئ الواحد ولوازمه قد تكثر‏.‏ وأما الحد الحقيقي‏:‏ فلا يتصور أن يكون إلا واحدا، لان الذاتيات محصورة، فإن لم يذكرها لم يكن حدا حقيقيا، وإن ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو‏.‏ فإذا هذا الحد لا يتعدد، وإن جاز أن تختلف العبارات المترادفة، كما يقال في حد الحادث أنه الموجود بعد العدم، أو الكائن بعد أن لم يكن، أو الموجود المسبوق بعدم، أو الموجود عن عدم فهذه العبارات لا تؤدي إلا معنى واحدا، فإنها في حكم المترادفة، ولنقتصر في الامتحانات على هذا القدر، فالتنبيه حاصل به إن شاء الله تعالى‏.‏

حسن الخليفه احمد غير متواجد حالياً  
عزيزنا الزائر لن تتمكن من مشاهدة التوقيع إلاَّ بتسجيل دخولك
قم بتسجيل الدخول أو قم بالتسجيل من هنا
رد مع اقتباس