الدعامة الأولى: في الحد
ويجب تقديمها، لان معرفة المفردات تتقدم على معرفة المركبات، وتشتمل على فنين: فن يجري مجرى القوانين، وفن يجري مجرى الامتحانات لتلك القوانين.
الفن الأول في القوانين
وهي ستة: القانون الأول أن الحد إنما يذكر جوابا عن سؤال في المحاورات، ولا يكون الحد جوابا عن كل سؤال، بل عن بعضه، والسؤال طلب، وله لا محالة مطلوب وصيغة، والصيغ والمطالب كثيرة، ولكن أمهات المطالب أربع: المطلب الأول: ما يطلب بصيغة هل يطلب بهذه الصيغة أمران، إما أصل الوجود كقولك: هل الله تعالى موجود؟ أو يطلب حال الموجود ووصفه كقولك: هل الله تعالى خالق البشر؟ وهل الله تعالى متكلم وآمر وناه. المطلب الثاني: ما يطلب بصيغة ما ويطلق لطلب ثلاثة أمور: الأول: أن يطلب به شرح اللفظ، كما يقول: من لا يدري العقار، ما العقار، فيقال له: الخمر، إذا كان يعرف لفظ الخمر. الثاني: أن يطلب لفظ محرر جامع مانع يتميز به المسؤول عنه من غيره كيفما كان الكلام، سواء، كان عبارة عن عوارض ذاته ولوازمه البعيدة عن حقيقة ذاته، أو حقيقة ذاته، كما سيأتي الفرق بين الذاتي والعرضي كقول القائل: ما الخمر؟ فيقال: هو المائع الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة ويحفظ في الدن، والمقصود أن لا يتعرض لحقيقة ذاته بل يجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر، بحيث لا يخرج منه خمر، ولا يدخل فيه ما ليس بخمر. والثالث: أن يطلب به ماهية الشئ وحقيقة ذاته، كمن يقول: ما الخمر؟ فيقال: هو شراب مسكر معتصر من العنب، فيكون ذلك كاشفا عن حقيقته، ثم يتبعه لا محالة التمييز، واسم الحد في العادة قد يطلق على هذه الاوجه الثلاثة بالاشتراك، فلنخترع لكل واحد اسما، ولنسم الأول حدا لفظيا إذ السائل لا يطلب به إلا شرح اللفظ، ولنسم الثاني حدا رسميا، إذ هو مطلب مرتسم بالعلم، غير متشوف إلى درك حقيقة الشئ، ولنسم الثالث حدا حقيقيا، إذ مطلب الطالب منه درك حقيقة الشئ، و هذا الثالث شرطه أن يشتمل على جميع ذاتيات الشئ، فإنه لو سئل عن حد الحيوان فقيل: جسم حساس، فقد جئ بوصف ذاتي، وهو كاف في الجمع والمنع، ولكنه ناقص، بل حقه أن يضاف إليه المتحرك بالارادة، فإن كنه حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع أمرين: فأما المرتسم الطالب للتمييز فيكتفي بالحساس وإن لم يقل أنه جسم أيضا. المطلب الثالث: ما يطلب بصيغة (لم) وهو سؤال عن العلة، وجوابه بالبرهان على ما سيأتي حقيقته. المطلب الرابع: ما يطلب بصيغة (أي) وهو الذي يطلب به تمييز ما عرف جملته عما اختلط به، كما إذا قيل: ما الشجر؟ فقيل: إنه جسم فينبغي أن يقال: أي جسم هو؟ فيقول: نام، وأما مطلب (كيف) و (أين) و (متى) وسائر صيغ السؤال، فداخل في مطلب (هل) والمطلوب به صفة الوجود. القانون الثاني إن الحاد ينبغي أن يكون بصيرا بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعرضية وذلك غامض، فلا بد من بيانه فنقول: المعنى إذا نسب إلى المعنى الذي يمكن وصفه به وجد بالاضافة إلى الموصوف. إما ذاتيا: له ويسمى صفة نفس. وإما لازما: ويسمى تابعا. وإما عارضا: لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود. ولا بد من إتقان هذه النسبة، فإنها نافعة في الحد والبرهان جميعا. أما الذاتي: فإني أعني به كل داخل في ماهية الشئ وحقيقته دخولا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه، وذلك كاللونية للسواد، والجسمية للفرس والشجر، فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصا، فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولا به قوامها في الوجود والعقل، لو قدر عدمها لبطل وجود الشجرية، وكذا الفرس، ولو قدر خروجها عن الذهن لبطل فهم الشجر والفرس من الذهن وما يجري هذا المجرى، فلا بد من إدراجه في حد الشئ فمن يحد النبات يلزمه أن يقول جسم نام لا محالة. وأما اللازم: فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه، كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات والشجر عند طلوع الشمس فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعبر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده ولكنه من توابع الذات ولوازمه، وليس بذاتي له، وأعني به أن فهم حقيقته غير موقوف على فهم ذلك له، إذ الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات، بل يفهم الجسم الذي هو أعم منه وإن لم يخطر بباله ذلك، وكذلك كون الارض مخلوقة وصف لازم للارض، لا يتصور مفارقته له، ولكن فهم الارض غير موقوف على فهم كونها مخلوقة، فقد يدرك حقيقة الارض والسماء من لم يدرك بعد أنهما مخلوقتان، فإنا نعلم أولا حقيقة الجسم ثم نطلب بالبرهان كونه مخلوقا، ولا يمكننا أن نعلم الارض والسماء ما لم نعلم الجسم. وأما العارض: فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم، بل يتصور مفارقته إما سريعا، كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب وزرقة العين وسواد الزنجي، وربما لا يزول في الوجود، كزرقة العين، ولكن يمكن رفعه في الوهم، وأما كون الارض مخلوقة، وكون الجسم الكثيف ذا ظل مانع نور الشمس، فإنه ملازم لا تتصور مفارقته، ومن مثارات الاغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة، واستقصاء ذلك في هذه المقدمة التي هي كالعلاوة على هذا العلم غير ممكن، وقد استقصيناه، في كتاب معيار العلم، فإذا فهمت الفرق بين الذاتي واللازم، فلا تورد في الحد الحقيقي إلا الذاتيات، وينبغي أن تورد جميع الذاتيات، حتى يتصور بها كنه حقيقة الشئ وماهيته، وأعني بالماهية ما يصلح أن يقال في جواب ما هو، فإن القائل ما هو يطلب حقيقة الشئ، فلا يدخل في جوابه إلا الذاتي، والذاتي ينقسم إلى عام، ويسمى جنسا، وإلى خاص، ويسمى نوعا، فإن كان الذاتي العام لا أعم منه سمي جنس الاجناس، وإن كان الذاتي الخاص لا أخص منه سمي نوع الانواع، وهو اصطلاح المنطقيين ولتصالحهم عليه، فإنه لا ضرر فيه وهو كالمستعمل أيضا في علومنا، ومثاله أنا إذا قلنا: الجوهر ينقسم إلى جسم وغير جسم، والجسم ينقسم إلى نام وغير نام، والنامي ينقسم، إلى حيوان وغير حيوان، والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الانسان، وغير عاقل، فالجوهر جنس الاجناس، إذ لا أعم منه، والانسان نوع الانواع، إذ لا أخص منه، والنامي نوع بالاضافة إلى الجسم، لانه أخص منه، وجنس بالاضافة إلى الحيوان لانه أعم منه، وكذلك الحيوان بين النامي الاعم، والانسان الاخص، فإن قيل: كيف لا يكون شئ أعم من الجوهر وكونه موجودا أعم منه، وكيف لا يكون شئ أخص من الانسان، وقولنا: شيخ، وصبي، وطويل، وقصير، وكاتب، وخياط، أخص منه؟ قلنا: لم نعن في هذا الاصطلاح بالجنس الا عم فقط، بل عنينا الاعم، الذي هو ذاتي للشئ، أي داخل في جواب ما هو، بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن، وخرج عن كونه مفهوما للعقل، وعلى هذا اصطلاح، فالموجود لا يدخل في الماهية، إذ بطلانه لا يوجب زوال الماهية عن الذهن، بيانه إذا قال القائل: ما حد المثلث؟ فقلنا: شكل يحيط به ثلاثة أضلاع، أو قال: ما حد المسبع؟ فقلنا: شكل يحيط به سبعة أضلاع، فهم السائل حد المسبع، وإن لم يعلم أن المسبع موجود في العالم أصلا، فبطلان العلم بوجوده لا يبطل عن ذهنه فهم حقيقة المسبع، ولو بطل عن ذهنه الشكل لبطل المسبع، ولم يبق مفهوما عنده، وأما ما هو أخص من الانسان من كونه طويلا أو قصيرا أو شيخا أو صبيا أو كاتبا أو أبيض أو محترفا، فشئ منه لا يدخل في الماهية، إذ لا يتغير جواب الماهية بتغيره، فإذا قيل لنا: ما هذا؟ فقلنا: إنسان، وكان صغيرا فكبر، أو قصيرا فطال، فسئلنا مرة أخرى ما هو؟ لست أقول من هو؟ لكان الجواب ذلك بعينه، ولو أشير إلى ما ينفصل من الاحليل عند الوقاع وقيل: ما هو؟ لقلنا: نطفة، فإذا صار جنينا ثم مولودا فقيل: ما هو؟ تغير الجواب، ولم يحسن أن يقال: نطفة، بل يقال: إنسان، وكذلك الماء إذا سخن فقيل ما هو؟ قلنا: ماء كما في حالة البرودة، ولو استحال بالنار بخارا ثم هواء ثم قيل: ما هو؟ تغير الجواب، فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل فلنذكر في الحد الحقيقي ما يدخل في الماهية، وأما الحد اللفظي والرسمي فمؤنتهما خفيفة إذ طالبهما قانع بتبديل لفظ العقار بالخمر، وتبديل لفظ العلم بالمعرفة، أو بما هو وصف عرضي جامع مانع، وإنما العويص المتعذر هو الحد الحقيقي، وهو الكاشف عن ماهية الشئ لا غير. القانون الثالث (أصل السؤال وتعريفه الصحيح) إن ما وقع السؤال عن ماهيته و أردت أن تحده حدا حقيقيا فعليك فيه وظائف، لا يكون الحد حقيقيا إلا بها، فإن تركتها سميناه رسميا أو لفظيا، ويخرج عن كونه معربا عن حقيقة الشئ، ومصورا لكنه معناه في النفس. الأولى: أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول: فإذا قال لك مشيرا إلى ما ينبت من الارض: ما هو؟ فلا بد أن تقول: جسم، لكن لو اقتصرت عليه لبطل عليك بالحجر، فتحتاج إلى الزيادة، فتقول: نام، فتحترز به عما لا ينمو، فهذا الاحتراز يسمى فصلا، أي فصلت به المحدود عن غيره. الثانية: أن تذكر جميع ذاتياته وإن كانت ألفا ولا تبالي بالتطويل، لكن ينبغي أن تقدم الاعم على الاخص، فلا تقول: نام جسم بل بالعكس، وهذه لو تركتها لتشوش النظم، ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ، فالانكار عليك في هذا أقل مما في الأول، وهو أن تقتصر على الجسم. الثالثة: إنك إذا وجدت الجنس القريب فلا تذكر البعيد معه، فتكون مكررا، كما تقول: مائع شراب، أو تقتصر على البعيد، فتكون مبعدا، كما تقول في حد الخمر: جسم مسكر، مأخوذ من العنب، وإذا ذكرت هذا فقد ذكرت، ما هو ذاتي ومطرد ومنعكس، لكنه مختل قاصر عن تصوير كنه حقيقة الخمر، بل لو قلت: مائع مسكر، كان أقرب من الجسم، وهو أيضا ضعيف، بل ينبغي أن تقول: شراب مسكر، فإنه الاقرب الاخص، ولا تجد بعده جنسا أخص منه، فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل، إذ الشراب يتناول سائر الاشربة، فاجتهد أن تفصل بالذاتيات، إلا إذا عسر عليك ذلك، وهو كذلك عسير في أكثر الحدود، فاعدل بعد ذكر الجنس إلى اللوازم، واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة، فإن الخفي لا يعرف، كما إذا قيل: ما الاسد؟ فقلت: سبع أبخر، ليتميز بالبخر عن الكلب، فإن البخر من خواص الاسد، لنه خفي، ولو قلت: سبع شجاع عريض الاعالي، لكانت هذه اللوازم والاعراض أقرب إلى المقصود، لانها أجلى، وأكثر مما ترى في الكتب من الحدود رسمية، إذ الحقيقية عسرة جدا، وقد يسهل درك بعض الذاتيات ويعسر بعضها، فإن درك جميع الذاتيات حتى لا يشذ واحد منها عسر، والتمييز بين الذاتي واللازم عسر، ورعاية الترتيب حتى لا يبتدأ بالاخص قبل الاعم عسر، وطلب الجنس الاقرب عسر، فإنك ربما تقول في الاسد إنه حيوان شجاع، ولا يحضرك لفظ السبع، فتجمع أنواعا من العسر، وأحسن الرسميات ما وضع فيه الجنس الاقرب، وتمم بالخواص المشهورة المعروفة. الرابعة: أن تحترز من الالفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة، واجتهد في الايجاز ما قدرت، وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك، فإن أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو أشد مناسبة للغرض، واذكر مرادك للسائل، فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة للانباء عنه، ولو طول مطول واستعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة، فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في ذمه إن كان قد كشف عن الحقيقة بذكر جميع الذاتيات، فإنه المقصود، وهذه المزايا تحسينات وتزيينات كالابازير من الطعام المقصود، وإنما المتحذلقون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار، لميل طباعهم القاصرة عن المقصود الأصلي إلى الوسائل والرسوم والتوابع حتى ربما أنكروا قول القائل في حد العلم إنه الثقة بالمعلوم أو إدراك المعلوم من حيث إن الثقة مترددة بين الامانة والفهم، وهذا هوس، لان الثقة إذا قرنت بالمعلوم تعين فيها جهة الفهم، ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا، فلا ينبغي أن ينكر من حيث إن لفظ العين مشترك بين الميزان والشمس والعضو الباصر، لان قرينة الحاسة أذهبت عنه الاحتمال، وحصل التفهيم الذي هو مطلوب السؤال، واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المرتسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها وشغفه بها. القانون الرابع في طريق اقتناص الحد اعلم أن الحد لا يحصل بالبرهان، لانا إذا قلنا في حد الخمر أنه شراب مسكر، فقيل لنا: لم لكان محالا أن يقام عليه برهان فإن لم يكن معنا خصم وكنا نطلبه فكيف نطلبه بالبرهان، وقولنا: الخمر شراب مسكر دعوى هي قضية محكومها الخمر، وحكمها أنه شراب مسكر، وهذه القضية إن كانت معلومة بلا وسط فلا حاجة إلى البرهان، وإن لم تعلم، وافتقرت إلى وسط، وهو معنى البرهان، أعني طلب الوسط كان صحة ذلك الوسط للمحكوم عليه، وصحة الحكم للوسط كل واحد قضية واحدة فبماذا تعرف صحتها، فإن احتيج إلى وسط تداعى إلى غير نهاية، وإن وقف في موضع بغير وسط فبماذا تعرف في ذلك الموضع صحته؟ فليتخذ ذلك طريقا في أول الامر، مثاله: لو قلنا في حد العلم إنه المعرفة، فقيل لم؟ فقلنا: لان كل علم فهو اعتقاد مثلا، وكل اعتقاد فهو معرفة، فكل علم إذن معرفة، لان هذا طريق البرهان على ما سيأتي، فيقال: ولم قلتم كل علم فهو اعتقاد، ولم قلتم كل اعتقاد فهو معرفة، فيصير السؤال سؤالين، وهكذا يتداعى إلى غير نهاية، بل الطريق أن النزاع إن كان مع خصم أن يقال عرفنا صحته باطراده وانعكاسه، فهو الذي يسلمه الخصم بالضرورة، وأما كونه معربا عن تمام الحقيقة ربما ينازع فيه ولا يقر به، فإن منع اطراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه، وقابلنا أحد الحدين بالآخر، وعرفنا ما فيه التفاوت من زيادة أو نقصان، وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان، وجردنا النظر إلى ذلك الوصف، وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة مثاله إذا قلنا: المغصوب مضمون وولد المغصوب مغصوب فكان مضمونا، فقالوا لا نسلم أن ولد المغصوب مغصوب، قلنا: حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير، وقد وجد، فربما منع كون اليد عادية، وكونه إثباتا، بل نقول: هذا ثبوت، ولكن ليس ذلك من غرضنا، بل ربما قال نسلم أن هذا موجود في ولد المغصوب، لكن لا نسلم أن هذا حد الغصب، فهذا لا يمكن إقامة برهان عليه، إلا أنا نقول: هو مطرد منعكس، فما الحد عندك فلا بد من ذكره حتى ننظر إلى موضع التفاوت، فيقول: بل حد الغصب إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة، فنقول قد زدت وصفا وهو الازالة، فلننظر هل يمكننا أن نقدر على اعتراف الخصم بثبوت الغصب مع عدم هذا الوصف فإن قدرنا عليه بان أن الزيادة عليه محذوفة، وذلك بأن نقول الغاصب من الغصب يضمن للمالك، وقد أثبت اليد المبطلة، ولم يزل المحقة، فإنها كانت زائلة فهذا طريق قطع النزاع مع المناظر، وأما الناظر مع نفسه إذا ررت له حقيقة له حقيقة الشئ وتخلص له اللفظ الدال على ما تحرر في مذهبه علم أنه واجد للحد فلا يعاند نفسه. القانون الخامس في حصر مداخل الخلل في الحدود وهي ثلاثة فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل، وتارة من جهة أمر مشترك بينهما، أما الخلل من جهة الجنس فأن يؤخذ الفصل بدله، كما يقال في العشق: إنه إفراط المحبة، وإنما ينبغي أن يقال إنه المحبة المفرطة، فالافراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة، ومن ذلك أن يؤخذ المحل بدل الجنس، كقولك في الكرسي إنه خشب يجلس عليه، وفي السيف إنه حديد يقطع به، بل ينبغي أن يقال للسيف إنه آلة صناعية من حديد مستطيلة، عرضها كذا، ويقطع بها كذا، فالآلة جنس، والحديد محل الصورة لا جنس، وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان موجودا والآن ليس بموجود، كقولك للرماد إنه خشب محترق، وللولد أنه نطفة مستحيلة، فإن الحديد موجود في السيف في الحال، والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد، ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس، كما يقال في حد العشرة أنها خمسة وخمسة، ومن ذلك أن توضع القدرة موضع المقدور، كما يقال حد العفيف: هو الذي يقوى على اجتناب اللذات الشهوانية، وهو فاسد، بل هو الذي يترك، وإلا فالفاسق يقوى على الترك ولا يترك، ومن ذلك أن يضع اللوازم التي ليست بذاتية بدل الجنس، كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الارض مثلا، ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس، كقولك: الشر هو ظلم الناس، والظلم نوع من الشر، وأما من جهة الفصل فأن يأخذ اللوازم، والعرضيات في الاحتراز بدل الذاتيات، وأن لا يورد جميع الفصول، وأما الامور المشتركة فمن ذلك أن يحد الشئ بما هو أخفى منه، كقول القائل: حد الحادث ما به القدرة ومن ذلك حد الشئ بما هو مساو له في الخفاء، كقولك: العلم ما يعلم به، أو ما يكون الذات به عالما، ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد، فيقول: حد العلم ما ليس بظن ولا جهل، وهكذا حتى يحصر الاضداد، وحد الزوج ما ليس بفرد، ثم يمكنك أن تقول في حد الفرد: ما ليس بزوج، فيدور الامر ولا يحصل له بيان، ومن ذلك أن يأخذ المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الاضافة، كقول القائل: حد الاب من له ابن، ثم لا يعجز أن يقول: حد الابن من له أب، بل ينبغي أن يقول: الاب حيوان تولد من نطفته حيوان آخر هو من نوعه، فهو أب من حيث هو كذلك، ولا يحيل على الابن، فإنهما في الجهل والمعرفة يتلازمان، ومن ذلك أن يأخذ المعلول في حد العلة، مع أنه لا يحد المعلول إلا بأن تؤخذ العلة في حده، كما يقول في حد الشمس إنه كوكب يطلع نهارا، فيقال: وما حد النهار؟ فيلزمه أن يقول: النهار زمان من طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح، ولذلك نظائر لا يمكن إحصاؤها. القانون السادس في أن المعنى الذي لا تركيب فيه البتة لا يمكن حده إلا بطريق شرح اللفظ، أو بطريق الرسم. وأما الحد الحقيقي فلا، والمعنى المفرد مثل الموجود، فإذا قيل لك: ما حد الموجود؟ فغايتك أن تقول: هو الشئ أو الثابت، فتكون قد أبدلت اسما باسم مرادف له، ربما يتساويان في التفهيم، وربما يكون أحدهما أخفى في موضع اللسان كمن يقول: ما العقار: فيقال الخمر، وما الغضنفر؟ فيقال: الاسد، وهذا أيضا إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر من المذكور في السؤال، ثم لا يكون إلا شرحا للفظ، وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الاسد فلا يتخلص له ذلك في عقله إلا بأن يقول: هو سبع، من صفته كيت وكيت، فأما تكرار الالفاظ المترادفة فلا يغنيه، ولو قلت: حد الموجود أنه المعلوم أو المذكور وقيدته بقيد احترزت به عن المعدوم، كنت ذكرت شيئا من توابعه ولوازمه، وكان حدك رسميا غير معرب عن الذات، فلا يكون حقيقيا، فإذا الموجود لا حد له فإنه مبدأ كل شرح، فكيف يشرح في نفسه، وإنما قلنا: المعنى المفرد ليس له الحد الحقيقي، لان معنى قول القائل: ما حد الشئ؟ قريب من معنى قوله: ما حد هذه الدار؟ وللدار جهات متعددة إليها ينتهي الحد، فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المختلفة المتعددة التي الدار محصورة مسورة بها، فإذا قال: ما حد السواد، فكأنه يطلب به المعاني، والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد، فإن السواد سواد ولون، وموجود وعرض، ومرئي ومعلوم، ومذكور واحد وكثير ومشرق وبراق، وكدر وغير ذلك من الاوصاف، وهذه الاوصاف بعضها عارض يزول، وبعضها لازم لا يزول، ولكن ليست ذاتية، ككونه معلوما وواحدا وكثيرا، وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه، ككونه لونا، فطالب الحد كأنه يقول إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد؟ لتجمع له تلك المعاني المتعددة، ويتخلص بأي يبتدئ بالاعم ويختم بالاخص، ولا يتعرض للعوارض، وربما يطلب أن لا يتعرض للوازم بل للذاتيات خاصة، فإذا لم يكن المعنى مؤتلفا من ذاتيات متعددة كالموجود فكيف يتصور تحديده؟ فكان السؤال عنه، كقول القائل: ما حد الكرة، ويقدر العالم كله كرة، فكيف يذكر حده على مثال حدود الدار، إذ ليس له حدود، فإن حده عبارة عن منقطعه، ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس سطوحا مختلفة ولا هو منته إلى مختلفة حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا فهذا المثال المحسوس وإن كان بعيدا عن المقصود ربما يفهم مقصود هذا الكلام ولا يفهم من قولي السواد مركب من معنى اللونية والسوادية واللونية جنس والسوادية نوع أن في السواد ذوات متعددة متباينة متفاضلة، فلا تقل إن السواد لون وسواد، بل لون ذلك اللون بعينه هو سواد ومعناه يتركب ويتعدد للعقل حتى يعقل اللونية مطلقا، ولا يخطر له السواد مثلا، ثم يعقل السواد، فيكون العقل قد عقل أمرا زائدا لا يمكنه جحد تفاصيله في الذهن، ولكن لا يمكن أن يعتقد تفاصيله في الوجود، ولا تظنن أن منكر الحال يقدر على حد شئ البتة والمتكلمون يسمون اللونية حالا لان منكر الحال إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه الحد وإن زاد شيئا للاحتراز فيقال له: إن الزيادة عين الأول أو غيره؟ فإن كان عينه فهو تكرار فاطرحه، وأن كان غيره فقد اعترف بأمرين. وإن قال في حد الجوهر: إنه موجود بطل بالعرض، فإن زاد أنه متحيز فقيل له: قولك متحيز مفهوم الموجود أو عينه؟ فإن كان عينه فكأنك قلت موجود موجود والمترادفة كالمتكررة، فهو إذا يبطل بالعرض، وإن كان غيره حتى اندفع النقض بقولك متحيز، ولم يندفع بقولك موجود، فهو غير بالمعنى لا باللفظ، فوجب الاعتراف بتغاير المعنى في العقل، والمقصود بيان أن المفرد لا يمكن أن يكون له حد حقيقي، وإنما يحد بحد لفظي، كقولك في حد الموجود إنه الشئ، أو رسمي كقولك في حد الموجود: أنه المنقسم إلى الخالق والمخلوق، والقادر والمقدور، أو الواحد والكثير، أو القديم والحادث أو الباقي والفاني، أو ما شئت من لوازم الموجود وتوابعه، وكل ذلك ليس ينبئ عن ذات الموجود عن تابع لازم لا يفارقه البتة. واعلم أن المركب إذا حددته بذكر آحاد الذاتيات توجه السؤال عن حد الآحاد، فإذا قيل لك: ما حد الشجر؟ فقلت: نبات قائم على ساق، فقيل لك: ما حد النبات؟ فتقول: جسم نام، فيقال: ما حد الجسم؟ فتقول: جوهر مؤتلف، أو الجوهر الطويل العريض العميق، فيقال: وما حد الجوهر؟ وهكذا، فإن كل مؤلف فيه مفردات، فله حقيقة، وحقيقته أيضا تأتلف من مفردات، ولا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا تحتاج إلى طلب بصيغة الحد، كما أن العلوم التصديقية تطلب بالبرهان عليها، وكل برهان ينتظم من مقدمتين، ولا بد لكل مقدمة أيضا من برهان يأتلف من مقدمتين، وهكذا فيتمادى إلى أن ينتهي إلى أوليات، فكما أن في العلوم أوليات فكذلك في المعارف، فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة، فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى، كثبوت حقيقة الوجود في العقل، فإن طلب الحقيقة فهو معاند كمن يطلب البرهان على أن الاثنين أكثر من الواحد، فهذا بيان ما أردنا ذكره من القوانين.