الموضوع: قرأت لك
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-01-2012, 11:33 AM   #63
العوضابي

الصورة الرمزية العوضابي



العوضابي is on a distinguished road

افتراضي رد: قرأت لك (29)



(39)

بيان حقيقة الغضب :
اعلم أن الله تعالى لما خلق الحيوان معرضاً للفساد والموتان، بأسباب في داخل بدنه وأسباب خارجة عنه؛ أنعم عليه بما يحميه عن الفساد ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه.أما السبب الداخلي: فهو أنه ركبه من الحرارة والرطوبة، وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة، فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة وتجففها وتبخرها حتى تصير أجزاؤها بخاراً يتصاعد منها، فلو لم يصل بالرطوبة مدد من الغذاء بجبر ما انحل وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان، فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء؛ كالموكل به في جبر ما انكسر وسد ما انثلم ليكون ذلك حافظاً له من الهلاك بهذا السبب.
وأما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان: فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها، فافتقر إلى قوة وحمية تثور من باطنه فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطينته. فمهما صد عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثوراناً يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن، كما ترتفع النار وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين، والبشر لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها. وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، فإن صدر الغضب على من فوقه وكان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب.وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها. والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به. ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاثة في أول الفطرة من التفريط والإفراط والاعتدال.أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه إنه لا حمية له. ولذلك قال الشافعي رحمه الله من استغضب فلم يغضب فهو حمار. فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً، وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي بالشدة والحمية فقال "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقال لنبيه ﭬ "جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" الآية وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب.وأما الإفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر. وسبب غلبته أمور غريزية وأمور اعتيادية: فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان، ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب لأن الغضب من النار كما قال ﭬ. وإنما برودة المزاج تطفئه وتكسر سورته. وأما الأسباب الاعتيادية: فهو أن يخالط قوماً يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب ويسمون ذلك شجاعة ورجولية، فيقول الواحد منهم: أنا الذي لا أصبر على المكر والمحال ولا أحتمل من أحد مراً! ومعناه لا عقل في ولا حلم. ثم يذكره في معرض الفخر بجهله. فمن سمعه رسخ في نفسه حسن الغضب وحب التشبه بالقوم فيقوى به الغضب. ومهما اشتدت نار الغضب وقوى اضطرامها أعمت صاحبها وأصمته عن كل موعظة، فإذا وعظ لم يسمع بل زاده ذلك غضباً، وإذا استضاء بنور عقله وراجع نفسه لم يقدر إذ ينطفئ نور العقل وينمحي في الحال بدخان الغضب، فإن معدن الفكر الدماغ، ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان مظلم إلى الدماغ يستولي على معادن الفكر، وربما يتعدى إلى معادن الحس فتظلم عينه حتى لا يرى بعينه، وتسود عليه الدنيا بأسرها، ويكون دماغه على مثال كهف اضطرمت فيه نار. فاسود جوه وحمى مستقره وامتلأ بالدخان جوانيه وكان فيه سراج ضعيف فانمحى أو انطفأ نوره فلا تثبت فيه قدم ولا يسمع فيه كلام ولا ترى فيه صورة، ولا يقدر على إطفائه لا من داخل ولا من خارج، بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق: فكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ. وربما تقوى نار الغضب فتفني الرطوبة التي بها حياة القلب، فيموت صاحبه غيظاً كما تقوى النار في الكهف فينشق وتنهد أعاليه على أسفله، وذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه، فهكذا حال القلب عند الغضب. وبالحقيقة فالسفينة في ملتطم الأمواج عند اضطراب الرياح في لجة البحر أحسن حالاً وأرجى سلامة من النفس المضطربة غيظاً؛ إذ في السفينة من يحتال لتسكينها وتدبيرها وينظر لها ويسوسها، وأما القلب فهو صاحب السفينة وقد سقطت حيلته إذ أعماه الغضب وأصمه. ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون وشدة الرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام، حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة، ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن، وإنما قبحت صورة الباطن أولاً ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانياً، فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن فقس الثمرة بالمثمرة فهذا أثره في الجسد.وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل ويستحي منه قائله عند فتور الغضب، وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ.أما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة، فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته بسبب وعجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوب نفسه ويطلم نفسه، وقد يضرب بيده على الأرض ويعدو عدو الواله السكران والمدهوش المتحير، وربما يسقط سريعاً لا يطيق العدو والنهوض بسبب شدة الغضب ويعتريه مثل الغشية، وربما يضرب الجمادات والحيوانات فيضرب القصعة مثلاً على الأرض وقد يكسر المائدة إذا غضب عليها. ويتعاطى أفعال المجانين فيشتم البهيمة والجمادات ويخاطبها ويقول: إلى متى منك هذا يا كيت وكيت؟ كأنه يخاطب عاقلاً، حتى ربما رفسته فيرفس الدابة ويقابلها بذلك.وأما أثرة في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإضمار السوء والشماتة بالمساءات والحزن بالسرور والعزم على إفشاء السر وهتك الستر والاستهزاء وغير ذلك من القبائح، فهذه ثمرة الغضب المفرط.وأما ثمرة الحمية الضعيفة فقلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم والزوجة والأمة واحتمال الذل من الأخساء وصغر النفس والقماءة وهو أيضاً مذموم، إذ من ثمراته عدم الغيرة على الحرام وهو خنوثة قال صلى الله عليه وسلم : " إن سعداً لغيور وأنا أغير من سعد وأن الله أغير مني" وإنما خلقت الغيرة لحفظ الأنساب. ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب. ولذلك قيل : " كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها." ومن ضعف الغضب الخور والسكوت عند مشاهدة المنكرات وقد قال صلى الله عليه وسلم : " خير أمتي أحداؤها " يعني في الدين وقال تعالى : " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " بل من فقد الغضب عجز عن رياضة نفسه، إذ لا تتم الرياضة إلا بتسليط الغضب على الشهوة، حتى يغضب على نفسه عند الميل إلى الشهوات الخسيسة. ففقد الغضب مذموم، وإنما المحمود : " غضب ينتظر إشارة العقل والدين " فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث يحسن الحلم ، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده وهو الوسط الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " خير الأمور أوساطها " فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة ,وخسة النفس , في احتمال الذل والضيم في غير محله , فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه. ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور واقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب ويقف على الوسط الحق بين الطرفين؛ فهو : " الصراط المستقيم " وهو أرق من الشعرة وأحد من السيف؛ فأن عجز عنه فليطلب القرب منه قال تعالى : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " فليس كل من عجز عن الإتيان بالخير كله ينبغي أن يأتي بالشر كله ؛ ولكن بعض الشر أهون من بعض , وبعض الخير أرفع من بعض. فهذه حقيقة الغضب ودرجاته نسأله الله حسن التوفيق لما يرضيه إنه على ما يشاء قدير.
بيان الغضب هل يمكن إزالة أصله بالرياضة أم لا ؟؟؟
اعلم أنه ظن ظانون أنه يتصور محو الغضب بالكلية، وزعموا أن الرياضة إليه تتوجه وإياه تقصد، وظن آخرون أنه أصل لا يقبل العلاج. وهذا رأي من يظن أن الخلق كالخلق وكلاهما لا يقبل التغيير، وكلا الرأيين ضعيف. بل الحق فيه ما نذكره وهو أنه ما بقي الإنسان يحب شيئاً ويكره شيئاً فلا يخلو من الغيظ والغضب، وما دام يوافقه شيء ويخالفه آخر فلا بد من أن يحب ما يوافقه ويكره ما يخالفه، والغضب يتبع ذلك فإنه مهما أخذ منه محبوبه غضب لا محالة، وإذا قصد بمكروه غضب لا محالة.إلا أن ما يحبه الإنسان ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول : ما هو ضرورة في حق الكافة كالقوت والمسكن والملبس وصحة البدن، فمن قصد بدنه بالضرب والجرح فلا بد وأن يغضب، وكذلك إذا أخذ منه ثوبه الذي يستر عورته، وكذلك إذا أخرج من داره التي هي مسكنه أو أريق ماؤه الذي لعطشه، فهذه ضرورات لا يخلو الإنسان من كراهة زوالها ومن غيظ على من يتعرض لها.القسم الثاني : ما ليس ضرورياً لأحد من الخلق كالجاه والمال الكثير والغلمان والدواب، فإن هذه الأمور صارت محبوبة بالعادة والجهل بمقاصد الأمور، حتى صار الذهب والفضة محبوبين في أنفسهما فيكنزان، ويغضب على من يسرقهما وإن كان مستغنياً عنهما في القوت، فهذا الجنس مما يتصور أن ينفك الإنسان عن أصل الغيظ عليه، فإذا كانت له دار زائدة على مسكنه فهدمه ظالم فيجوز أن لا يغضب، إذ يجوز أن يكون بصيراً بأمر الدنيا فيزهد في الزيادة على الحاجة فلا يغضب بأخذها، فإنه لا يحب وجودها ولو أحب وجودها لغضب على الضرورة بأخذها وأكثر غضب الناس على ما هو غير ضروري كالجاه , والصيت , والتصدر في المجالس , والمباهاة في العلم ، فمن غلب هذا الحب عليه فلا محالة يغضب إذا زاحمه مزاحم على التصدر في المحافل، ومن لا يحب ذلك فلا يبالي ولو جلس في صف النعال، فلا يغضب إذا جلس غيره فوقه. وهذه العادات الرديئة هي التي أكثرت محاب الإنسان ومكارهه فأكثرت غضبه، وكلما كانت الإرادات والشهوات أكثر كان صاحبها أحط رتبة وأنقص، لأن الحاجة صفة نقص فمهما كثرت كثر النقص، والجاهل أبدا جهده في أن يزيد في حاجاته وفي شهواته، وهو لا يدري أنه مستكثر من أسباب الغم والحزن، حتى ينتهى بعض الجهال بالعادات الرديئة ومخالطة قرناء السوء إلى أن يغضب لو قيل له : إنك لا تحسن اللعب بالطيور واللعب بالشطرنج ولا تقدر على شرب الخمر الكثير وتناول الطعام الكثير، وما يجري مجراه من الرذائل، فالغضب على هذا الجنس ليس بضروري لأن حبه ليس بضروري.القسم الثالث : ما يكون ضرورياً في حق بعض الناس دون البعض، كالكتاب مثلاً في حق العالم لأنه مضطر إليه فيحبه فيغضب على من يحرقه ويغرقه، وكذلك أدوات الصناعات في حق المكتسب الذي لا يمكنه التوصل إلى القوت إلا بها، فإنما هو وسيلة إلى الضروري، والمحبوب يصير ضرورياً ومحبوباً، وهذا يختلف بالأشخاص وإنما الحب الضروري ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله
: " من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " ومن كان بصيراً بحقائق الأمور وسلم له هذه الثلاثة يتصور أن لا يغضب في غيرها فهذه ثلاثة أقسام فلنذكر غاية الرياضة في كل واحد منها.

...............يتبع :

العوضابي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس