خطاب رابطة الختمية بالخرطوم في هذه الذكري العطرة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الإعانة بدءاً وختماً وصلى الله على سيدنا محمد ذاتاً ووصفا واسماً
آلُ النبيَ وجدنا حبكم سبباً # يرضي الإله به عنا ويُرضينا
فلا نخاطبكم إلا بسادتِنا # ولا نناديكم إلا مَوالينا
صاحب السيادة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني
السادة الأشراف
أصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ
الآباء والأمهات الكرام
الإخوة والأخوات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أولا : يطيبُ لي في بداية هذا الخطاب أن أحيي هذا الجمع الكريم وهو يحتفل بهذه الذكرى العطرة ، ذكرى شيخ الطريقة ومعدن الحقيقة الإمام القدوة ، الشريف الحسيني المكي ، السيد محمد عثمان الميرغني ( الختم ) رضي الله عنه .
ولد صاحب هذه الذكرى أيها الإخوة والأحباب ، بالا راضى المقدسة في ربيع الأول سنة 1208 من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فحفظ القران الكريم ، ودرس العلوم الشرعية على أكابر علماء مكةِ المكرمةِ إلى أن برع فيها ، فتصدر للإفتاء والتدريس بالحرمِ المكي الشريف ، ونهل من علومه الكثيرُ من طلبة العلم ، الذين انتفع بهم الجم الغفير من الناس ، وقد وجه رضي الله عنه ، عنايته الخاصة للتأليف النافعة والضرورية للمسلم في حياته اليومية فقهاً وسلوكا وعملاً ، واتسمت مؤلفاته بالوضوح ، وسهولةِ اللفظِ ، والإيجاز البليغ ، وحسن التعبير ، نظماً ونثراً ، مما يتناسب مع إدراك العامة ، وفهم الخاصة ، وذوق خاصةِ الخاصةِ من العلماءِ والفقهاءِ ، منها على سبيل المثال لا الحصر : تفسيره للقران الكريم الذي سماه ( بتاج التفاسير ) ، والذي يدرس الآن في لأزهر الشريف ضمن مناهجه التعليمية ، ومنها كتابه ( منجية العبيد ) في علم التوحيد ، ومنها كتابه ( رحمة الأحد في اقتفاء اثر الرسول الصمد ) في الفقه ، ومنها كتابه ( مصباح الأسرار ) في السيرة والشمائل النبوية ، ومنها كتابه ( الخزانة القدسية ) في علم التصوف والسلوك ، ومنها كتابه ( شرح منظومة البيقوني ) في علم الحديث ، ومنها كتابه ( شرح ألفية ابن مالك ) في النحو ، ومنها ( المولد العثماني ) ، ومنها ( النور البراق ) ، إلى غير ذلك من المؤلفات التي بلغت العشرات ، طبع منها حتى الآن أكثرَ من خمسينَ كتاباً .
وعندما أكمل رضي الله عنه تحصيل العلوم الشرعية اتجه إلى طريق التصوفِ بعزم ٍ صادق ٍ وهمةٍ قويةٍ ، فأخذ الطريقة الشاذلية والقادرية والنقشبندية والجنيدية والميرغنية ، طريقة جده السيد عبد الله الميرغني المحجوب ، على أيدي العديد من المشايخ العارفين ، ثم اجتمع بعلامةِ عصره الدر النفيس السيد احمد ابن إدريس رضي الله عنه ، فأحبه وأخذ عنه ولازمه فأجازه بإنشاء الطريقة الختمية بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم .
بعد ذلك انصرف رضي الله عنه إلى نشر الدعوة الإسلامية وعمره آنذاك خمسوعشرون سنة ، بل دون ذلك ، حيث قام رضي الله عنه برحلاتٍ طويلةٍ وشاقةٍ في مختلفِ البلاد ، إلى مصر واليمن والسودان وإثيوبيا واريتريا وغيره من البلدان ، قاسى فيها ما قاسي من التعب والمشاق ، فشد العزم وواصل جهاده فوفقه الله تعالى ، وكتب له النجاح والظفر حيثما توجه وأينما حل ، حتى تمكن بفضل الله ورحمته من هداية كثير من النصارى والوثنيين ممن لم تبلغهم الدعوة إلى الإسلام ، والتمسك بتعاليمه ، ونشر العلم والمعرفة بينهم،بفتح الخلاوى لتحفيظ القران الكريم ، وبناء المساجد لإقامة الصلوات ، وتدريب الوعاظ والمرشدين من الفقهاء والحفاظ ، وتنظيم مجتمعاتهم على تعاليم السنة الغراء ، قال النبي صلى الله عليه كما في صحيح مسلم : ( تركت فيكم الثقلين كتاب الله حبلٌ ممدودٌ بين السماء والأرض وعترتى آل بيتي ، وإنهما أي الكتاب وآل البيت لن يفترقا حتى يردا على الحوض ) .
ومما يحمد للإمام الختم رضي الله عنه بالإضافة إلى ما ذكرنا ، أنه وضع فى بلادنا هذه مبادئ تحقيق الوحدة الوطنية الحقة ، وذلك بنبذ العصبية البغيضة المبنية على العرق واللون والجهة ، والتي كانت متفشية في هذه البلاد وما زالت ، حيث أشار إلى هذا المعنى في آخر توسله بأسماءِ الله الحسنى ، جامعاً لكبار خلفائهبقوله :
تعم نقيباً صادقاً عربي # ويعقوب حماداً وأهل الطريقة
فالنقيب من شمال السودان ، وحمد الصادق والقاضي عربي من كردفان ، ويعقوب الحلنقي من شرق السودان ، وحماد البيتى من مساليت دارفور .
ومن الحقائق التاريخية التي يجب على الناس الإلمام بها ، أن الإمام الختم رضي الله عنه ، هو أول من أسس معهداً لتعليم النساء في هذه البلاد في مدينة سواكن ، كما أشار إلى ذلك الشيخ بابكر بدري في مذكراته ، في وقت كانت المرأة محرومة من أبسطِ حقوقها الدينية والمدنية .
وعلى درب هذا السيد العظيم سار خلفاؤُه من بعده ، ابنه السيد الحسن أب جلابية ، صاحب الكرامات الباهرة والبركات الظاهرة ، وحفيده السيد محمد عثمان الأقرب دفين مصر ، وابنه سلطان العارفين مولانا السيد على الميرغني ، وآرث مقامهم في الحس والمعنى ، ذلك الرجل الذي مدحه أكابر أهل اللهِ ، من أمثال الشريف يوسف الهندي ، والشيخ قريب الله ، والشيخ عبد الباقي المكاشفي ، والشيخ عبد الرحيم البرعي ، وغيرهم ، وقال عنه الرئيس الراحل السيد إسماعيل الأزهري : ( لولا الأسد الرابض في حلة خوجلى ، لما نال السودان استقلاله ) ، ولم يأتي كلام الزعيم الأزهري عبثاً أو مجاملة ، وإنما جاء نتيجة لما وجده من مولانا السيد على ، جزاه الله عنا خير الجزاء ، من دورٍ مقدرٍ ومعروفٍ في رعاية مؤتمر الخريجين ، ونتيجة لإسهامه الفعال في توحيد الأحزاب الاتحادية ، ونتيجة لرعايته ودعمه للحزب الوطني الاتحادي، حزب الحركة الوطنية ، الذي تحقق على يديه استقلال هذه البلاد .
وكما قام مولانا السيد على بدوره كاملاً تجاه الحركة الوطنية ، كان له أيضا دوره المقدر والمعتبر في قيادة الطرق الصوفية ، وتوحيد كلمتها ، وحل المشاكل التي تواجهها ، ووقوفه بصلابة ضد مخططات الاستعمار ، التي أرادت أن تعزل الإسلام ورجالات الطرق الصوفية من حركة المجتمع السوداني .
كما يشهد التاريخ بأن مولانا السيد على الميرغني رضي الله عنه ، هو من كان ينظم القوافل ، ويرسل العلماء والدعاة ، إلى جبال النوبة ، والى جبال الأنقسنا ، والى جنوب السودان ، ومساجده وزواياه وخلاويه التي بناها في تلك الأصقاع ، لا تزال تقفُ شاهدة ، إلى يومنا هذا ، تدل على عظمة هذا الرجل ، ودوره المقدر في نشر الإسلام ، وتثبيت أركانه في هذه البلاد القارة ولا عجب من بعد ذلك إن قلنا أنه أول من دعا إلى قيام الجمهورية الإسلامية في السودان ، وذلك عبر بيانه المشهور في نوفمبر سنة 1965م .
تجيء هذه الذكرى أيها الإخوة والأحباب ، وبلادنا تمر بمنعطفٍ خطيرٍ في مسيرتها ، وذلك من خلال تقول قوى الظلم والعدوان الداخلية والخارجية على تاريخها ومقدساتها ووحدتها ، وهذا يدعو إلى حزم الأمر ، ووحدة الصف ، وتوحيد الكلمة ، والوقوف بصلابة أمام هذه التحديات الكبرى ، ونحن بحمد الله مؤهلين للقيام بمثل هذا الدور ، وذلك لأن تاريخنا البعيد والقريب مشرف وناصع ويشهد بذلك ، وهذا ما يهم مولانا السيد محمد عثمان الميرغني حفظه الله في هذه الأيام ، حيث أطلق مبادراته للحوار والوفاق الوطني ، والتي يدعو فيها الكافة ، حكومة ومعارضة ، إلى الارتفاع إلى مستوى المسئولية الوطنية ، والعمل على المحافظة على وحدة البلاد ، ووقف التدخلات الأجنبية ، وإعمال الحوار الوطني ، الجاد المخلص ، لإيجاد مخرج لمشكلات هذه البلاد المتفاقمة يوماً بعد يوم .
أيها الإخوة والأحباب ، إن هذه الرابطة ، رابطة الختمية بالخرطوم التي تقوم بإحياء هذه الذكرى العطرة ، نشأت في سنة 1949م من القرن المنصرم بموجب لائحة اتحاد الحضرات التي أصدرها مولانا السيد على الميرغني طيب الله ثراه ، وهى تهدف إلى توحيد كلمة الختمية ، وتقوية أواصر الإخاء فيما بينهم ، وتهذيبهم وترقيتهم من الناحية الدينية والاجتماعية ، ولقد ظلت هذه الرابطة منذ نشأتها ، برئاسة الخليفة ميرغني محجوب ، رحمه الله رحمة واسعة وشمل أصحابه بذلك ، تؤدى رسالتها حتى اليوم على الوجه الأكمل في خدمة الدين والوطن ، ومن هنا فإننا ندعو إخواننا في الطريقة الختمية قاطبة ، إلى الالتفاف حول روابطهم وتنظيماتهم ، والسعي بجد في تنظيم صفوفهم ، وترتيب رواتبهم وأورادهم ، وتنشيط حضراتهم ، التي يكون بها المدد وتتنزلُ الرحماتُ والبركات .
هذا ولا يفوتنا في ختام هذه الكلمة ، ونحن نحتفل بذكرى إمام من أئمة التصوف ، أن ندعو كافة إخواننا في الطرق الصوفية ، الذين يجمعنا معهم الكثيرُ الطيب ، إلى الانتباه والتيقظ التام ، وذلك من الجماعات الدينية المنحرفة ، التي تشوه صورة الإسلام السمحة ، وتقود الحملة الموجهة ضد منهج التصوف الإسلامي ، وضد آل البيت ، وضد المذاهب الإسلاميةِ المعتبرة ، وهي كما تعلمون مدعومة من جهات خارجية مشبوهة ، ويكون ذلك بالتواصل فيما بيننا وبينهم ، والتنسيق لإقامة البرامج والدروس والمحاضرات والندوات والوسائل الأخرى ، التي تبين للناس الحق من الباطل ، ويكون ذلك بالمحافظة على المساجد والزوايا من هؤلاء القوم الضالين المضلين .
ولا يفوتنا في هذه السانحة أيضاً ، أن نتوجه بالدعوة الخالصة إلى إخواننا في قيادة الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل ، إلى تحمل المسئوليةِ التاريخيةِ وذلك بتوحيد كلمتهم ، وتنظيم قواعدهم ، وتنقية صفوفهم ، وذلك خلفَ قيادة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني الصادقة الأمينة .
ثقتنا في شخصكم سيادة مولانا لا تحدها حدود ، تحملتم الأمانة التاريخية ، التي ألقاها علي عاتقكم السلف الصالح ، مولانا السيد علي الميرغني ، طيب الله ثراه ، والرعيل الأول من رجال الحركة الوطنية ، بصدق وجدٍ وتجردٍ ونكران ذات ، فكان ما كان من خدمتكم للدين والوطن ، حفظ ذلك من حفظه وجحده من جحده ، حسداً وظلماً وعدواناً .
أخيراً سيادة مولانا وليس أخيراً ، نحن اليوم هنا في هذا المحفل المبارك ، شيباً وشباباً ، رجالاً ونساءً ، لتجديد البيعة والعهد ، في الطريقة وفي الحزب ، نحن رهن الإشارة الي كل ما فيه صلاح ديننا ودنيانا .
مرة أخري أيها الإخوة والأحباب ، يسعدني جدا أصالة عن نفسي ونيابة عن إخوتي وآبائي في رابطة الختمية بالخرطوم ، وعلي رأسهم الخليفة إبراهيم محمدعبدالرحمن بلاص رئيس المكتب التنفيذي والخليفة محمد احمد علي حامد الفقيِّر رئيس الهيئة العامة ، أن أرحب بكم جميعاً وأنتم في داركم ومنزلكم تحتفلون بهده الذكرى العطرة ، راجياً من الله العلى القدير ، أن يعيد علينا هذه المناسبة عاماً بعد عام بالخير واليمن والبركات .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحمد عبد الله عثمان كرموش
عضو المكتب التنفيذي للرابطة وأمين أمانة الدعوة والاشاد