|
الخليفة مكّي عربي ..... رحلتم أيها الرجل المُهابُ
الخليفة مكّي عربي ..... رحلتم أيها الرجل المُهابُ
يحتفل أبناء وأحفاد الخليفة مكي عربي وعموم خلفاء ومريدو الطريقة الختمية بالخرطوم مساء يوم الخميس بالذكرى السنوية للعارف بالله الخليفة مكي عربي وذلك بداره العامرة بحي الركابية بأمدرمان . وهذا ما درج على الاهتمام به ابنه وخليفته الخليفة احمد شفاه الله وأمد في أيامه , فكان هذا دأبه منذ انتقال الخليفة مكي عربي الى دار البقاء في سنة 1965 .
وحولية الخليفة مكي لها طعم خاص . فاذا اجتمعت نفحات المدائح النبوية واشراقات المولد العثماني وطبول وأصوات الذاكرين مع عبق من أصالة وتاريخ أمدرمان العتيقة وتنزلت البركات والنفحات على الذاكرين والمتزاورين في الله والمتحابين فيه فانك اذا في حولية الخليفة مكي عربي .
فإلى حى الركابية العريق بعراقة أمدرمان , ذلك الحى الذي لا يعوِّض ضيق شوارعه الا اتساع صدور قاطنيه بالترحاب والالفة والمودة واستقبال الضيوف , يتوجه في مثل هذه الليلة من كل عام جموع تربطهم بالمحتفى به عميق الذكريات .
يأتي أهل الاسرة المباركة الممتدة احتفاءا بجدهم وأبيهم وليكونوا في استقبال ضيوفهم , يتقدمهم عميد الاسرة وكبيرها خليفة السلف الماضين , الخليفة أحمد مكي .
ويأتي اهل الطريقة الختمية من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه , ويفتح الجيران أبوابهم لاستقبال حلقات الذكر , فللمكاشفية منزل وللقادرية منزل ولشباب الختمية منزل وهكذا . وحولية الخليفة مكي هي الوحيدة التي يقصدها تلاميذ الخليفة عبد الهادي عليه الرضوان في الخرطوم باعتبار أن الخليفة عبد الهادي قد تربى على يد الخليفة مكي ، أرسل الله على الجميع سحائب الرحمة والرضوان .
وللحولية نظام فريد درج عليه الخليفة أحمد منذ زمان بعيد , فالأحمدية يأتون قبل الحولية بيوم , أى مساء الأربعاء فيؤدون طبقات الذكر الأحمدي في وسط الساحة العامرة تحت بيرق الطريقة , وفي الليلة الكبيرة ( مساء الخميس ) تزدحم تلك البقعة الضّيقة بأفواج من الذكَّار والمحبين وعموم أهل الطريقة الختمية وكل من كان على صلة بالخليفة مكي أو بأحد تلاميذه . وللصلة العميقة التي كانت بين الخليفة مكي والشيخ قريب الله أبو صالح رضي الله عنهما , يكون للسَّمانية القريبية يومٌ خاص هو يوم الجمعة التي تلي المناسبة فيأتون بعد صلاة العشاء ليكون دخولهم بالتهليل وليؤدُّوا الذكر المعروف الذي ربما تواصل حتى قريب منتصف الليل . ولأنهم في رحاب قطب من أقطاب الطريقة الختمية فلا بد أن يشتمل إنشادهم على فقرات مثل ( الميرغني النفيس والسيد إبن ادريس .. الأسّسوا التأسيس ) وكذلك ( الميرغني ونجله حسن الذي بالله هام ) .
ولقد شهد هذا المكان - مسجد الخليفة مكي ومسيده - أحداثا إن جُمعت ورُويت فليس من السهل التصديق بأنها حدثت في خمسينات وستينات القرن الماضي , فزمانها الماضي السحيق حيث السلف الصالح والعبّاد والزّهّاد فكم من قصص المجاهدات والأوراد وكم من قصص الخوارق والكرامات وكم من قصص الزهد والعفاف وكم من مجنون تعافى ومكروب جاءه الفرج وكم وكم !! .
لقد اجتمع في مسجد الخليفة مكي تلاميذه الأوفياء من الذكّار والعباد الزاهدين في الدنيا حقيقة لا مظهرا فتخرجوا من مدرسته وانتشروا في الآفاق ناشرين دعوة السلوك والإرشاد الديني بالحكمة والموعظة الحسنة , منهم مثالا لا حصرا , الخليفة عبد الهادي والخليفة عمر ضيف الله والخليفة تاج الختم وغيرهم كثير .
وكان ممن يحرص على حضور هذه الليلة الخليفة محمد خليفة , ذلك الولي الشهير وخليفة السيد علي الميرغني في الدويم فما كان يغيب عنها بل يحرص على حضورها مصطحبا وفدا كبيرا بقيادة تلميذه المنشد الصدَّاح الخليفة سليمان التوم والاخوان .
ومن سمات هذه الليلة المباركة قصيدة كان ينشدها الخليفة عمر ضيف الله رحمه الله تعالى فيها بانتظام وهي مرثية للخليفة مكي يقول في مطلعها :
رحلتم أيها الرجل المهاب سكنتم في الجنان أم التراب
نأيتم أم نأينا نحن عنكم ودوني حال بينكم الحجاب
فمن أصحب أيا مكي بعدك ؟ فان العيش لي لا يستطاب
ويبكي فيُبكي الحاضرين ....
ومن سمات الليلة الثابتة حلقة الذكر الطويلة التي يقوم بها أبناء الخليفة عبد الهادي ولها روح وريحان , يصِلُونها بأذان الفجر ثم ينتقل الجميع إلى المسجد حيث صلاة الفجر ثم قراءة الراتب والتوسلات إلى الإشراق .
والكلام عن المحتفى به - الخليفة مكي - لا تسعه مثل هذه السطور , ولكن لا بأس بالشئ اليسير , ان الخليفة مكي سليل أسرة عريقة شهيرة ذات باع طويل في العلم والريادة , ركابية الأصل والمحتد , وقد كان قبل دخوله في الطريقة الختمية واتصاله بمولانا السيد علي الميرغني , شيخاً مجازاً في الطريقة القادرية , خلّفه آباؤه بحياتهم وهو لم يتجاوز العشرين , كتب حفيده الأستاذ بكري الخليفة عن فترات حياته الأولى بعد وصوله أم درمان قادما من بارا :
(( واصل الخليفة مكي طلب العلم ودرس على يد الشيخ الجليل محمد البدوي المشهور بشيخ الإسلام وكان يزامله في الدراسة الشيخ قريب الله أبو صالح والسيد عبد الرحمن المهدي والشيخ أبو القاسم هاشم والشيخ الجيلي الشيخ عبد المحمود نور الدائم. وقد قام والده الشيخ عربي وعمه الفقيه مكاوي بتخليفه في حياتهم على سجادة الطريقة القادرية وخلافة أجداده السَّادة الرّكابية الموروثة عن جدهم حبيب نسِّي المدفون في منطقة العفاض شمال السودان , وقدّموه للصلاة وعمره لم يتجاوز العشرين عاماً.
تواصلت رضي الله عنه نشأته في بيت الدين والعلم يعيش في ظلال المساجد يطلب العلم ويجاهد نفسه على العبادة والذكر, وبعد وفاة عمه الأكبر الفقيه مكاوي في عام 1905 وتبعه والده الشيخ العربي بعد أربعين يوماً, تولى خلافة سجادتهم واجتهد في طريق القوم )) وكتب عن اتصاله بمولانا السيد علي الميرغني وأخذه عنه :
(( وعندما أذن له الله بالفتح العميم ساقته العناية الإلهية لصاحب السيادة الحسيب النسيب مولانا السيد علي الميرغني خزينة الأسرار الربانية وصاحب وقته, وأخذ عليه الطريقة الختمية الطاهرة فكانت أورادها النورانية معراجه الذي فتح له أبواب المنح وأسرار النور الإلهي, فصار الخليفة من خواص خواص مولانا السيد علي الميرغني وخليفة خلفائه . وكان يتأدب عند حضرته ويجلس بجوار شيخه لا يتحدث إلا بحديث القلب ولا يرفع صوته أبداً . وكان ملتزماً بأوراد الطريقة الختمية في الجماعة ويحث التلاميذ على المواظبة عليها. وقد كان مولانا السيد علي الميرغني رضي الله عنه يرسل للخليفة مكي ليقوم بالنيابة عنه في كثير من المناسبات, خاصة في أيام المولد كما كان معروفاً عنه خروجه في زفة المولد النبوي الشريف بأم درمان كل عام, حيث كان يتقدم أهل الطرق الصوفية وقد ذكر من عاصروه أن السيد علي الميرغني كان إذا قال (يا خليفة) هكذا مجردة فإنه يعني الخليفة مكي , حتى ولو كان المجلس مليئاً بالخلفاء ))
وكتب عن اخلاقه وشمائله :
(( كان الخليفة مكي ودوداً متواضعاً باراً بأهله وجيرانه وجميع معارفه متوكلاً على الله في جميع أحواله مفوِّضاً أمره إليه زاهداً في الدنيا مقبلاً على الآخرة, لا يسأل الناس شيئاً قط, وكان رضي الله عنه كريماً سخياً ينفق كل ما يدخل عليه من الدنيا ولا يدخر شيئاً وكان يقول: لو تركنا شيئاً لباكر لحكم علينا بالحرص ولخرجنا من صفات القوم, فهذا المال من الله وإلى الله, و كان لا يغفل عن ذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رضي الله عنه ورعاً يتحسس الحلال في مأكله ومشربه على نفسه وأهل بيته وتلامذته . )) وكتب عن عبادته وأوراده :
(( وكان رضي الله عنه ذو همة عالية في الطريق يقيم الليل كله ولا ينام إلا نومة بعد العشاء, ولا يقوم من مجلس الذكر في السحر إلا لصلاة الفجر فإذا صلى الصبح جلس يقرأ الراتب مع تلامذته وبعد صلاة الإشراق يرجع فيدخل خلوته ليقرأ ورد الضحى, ولا يقابل أحداً إلا بعد الانتهاء منه وقد ألزم نفسه المجاهدة فكان يدخل كل عام الخلوة لمدة أربعين يوماً متتالية صائماً قائماً.((
انتهى من الفتح المكي في مناقب الخليفة مكي لكاتبها بكري الخليفة أحمد الخليفة مكي .
ويجدر بي أن اذكر كرامتين ثابتتين حدثتا على يد الخليفة عليه الرضوان :
الأولى أنه كان من عادة السيد على الميرغني أن يقيمه مكانه إذا غاب عن مناسبات كالمولد النبوي الشريف وغيرها , وقد حدث انه في احدي المرات سافر مولانا السيد على وأناب الخليفة مكي مكانه في خيمة الختمية بمولد أمدرمان . ولما علم المفتش الانجليزي بذلك وكان من عادته زيارة المولد والبداية بخيمة الختمية ثم الأنصار ثم باقي الطرق , قرر أن يعكس برنامجه فدخل ميدان المولد عبر البوابة واتجه مباشرة إلى خيمة الأنصار , فما أن رءاه الخليفة مكي حتى تغير ولم يزد على أن قام من مكانه و( شبَّ ) على قدميه ففي تلك اللحظة - والانجليزي على باب خيمة الأنصار - انقطع التيار في خيمة الأنصار وحدها بلا سبب !! فما كان من المفتش إلا أن استدار في سرعة شديدة وتوجه نحو خيمة الختمية , ولما وصل وتقدم ليصافح الخليفة قال له : إن أى شخص يضعه السيد علي ليقوم مقامه فهو يمثل السيد علي !!
أما الثانية فهي أن احد أعيان مدينة الخرطوم أهدى له سيارة فرفض أن يقبلها , فلما ألحّ عليه الرجل ليقبلها وأصر عليه ما كان من الخليفة إلا أن رفع فروته التي يجلس عليها في خلوته وادخل يده تحتها فجذب سلسلة طويلة من الذهب ! مبينا للرجل أن الدنيا التي يعرض عليه شيئا من زخرفها قد ملَّكها الله له ولكنه لا يأبه بها , وشهود هذه الحادثة لا زالوا على قيد الحياة وليست هذه القصة من الأساطير !
والسودانيون عموما لا يهتمون بالتدوين وإنما الاعتماد على الروايات الشفوية , ولقد كان حرى بأمثال الخليفة مكي أن تجمع أخباره ووصاياه وكراماته لتدوَّن وتدرس لتنير الطريق لمن بعده .
وربما يسأل سائل : ما فائدة الاحتفال بأمثال هؤلاء الناس والاحتفاء بهم ؟ فنجيب بان الله تعالى قد جعل من القصص عبرة فكم قص علينا من القصص في القران للعبرة والاعتبار , جعلنا الله جميعا ممن يستفيد من ذكر اخبار الصالحين ووفقنا للاهتداء والاقتداء بهم آمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم .
|