صفة صاحب الذوق السليم كتاب نادر للحافظ الإمام السيوطي
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان وفضله على جميع الحيوان بنطق اللسان وخلق كل شيء فقدره تقديراً وجعله سميعاً بصيراً ثم هداه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً كور الليل على النهار وكور النهار على الليل وخلق الخلق أطوار وجعل الثقلين فريقين فله الحكم والتدبير فريق في الجنة وفريق في السعير.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون وأما الذين شقوا فمأواهم النار جزاء بما كانوا يعملون.
أحمد حمداً يوافي نعمه وأسأله المزيد من رفده
(وإن مِن شَيءٍ إلاّ يُسَبِحُ بِحَمدِهِ)
ثم الصلاة على سيدنا محمد رسوله وعبده.
أما بعد: وفقنا الله وإياك للصواب وفتح لنا ولك من الخير أحسن باب فتدبر ما حوى هذا الكتاب من صفات أولي الألباب وأضدادهم الحائدين عن الصواب.
أعلم بأن الذوق السليم نتيجة الذكاء المفرط والذكاء المفرط نتيجة العقل الزائد والعقل الزائد سر أسكنه الله في أحب الخلق إليه وأحب الخلق إليه الأنبياء وخلاصة الأنبياء نبينا محمد ملاح منادمته آلف من الراح صاحب الأصحاب حبيب الأحباب ليس بكثيف مكمل الذات مليح الصفات ليس بقتات يواسيك ويسليك ويتوجع إليك ويعظك ويتحفك بعلمه وماله ولا يحوجك إلى سؤاله ينظر إلى المضطر بعين الفراسه ويواسيه بكياسة رجل همام والسلام.
صاحب الذكاء المفرط
جوابه مسكت يشارك العلماء من غير اشتغال ولا يتكلم بمحال على كل حال تخيله صحيح وتكلمه مليح فصيح لا يحتاج إلى المنطق ولا إلى الألفية وتلك المعالم من نفسه سجية يرتب الألغاز والأحجيات ولا يحتاج إلى العروض في تلك الأبيات يصنف مثاتيل وخزعبلات رجل دهقان صاحب ذكاء ملسان يصنف مثل الألفية وله في تلك العلوم غية يهندس ويرتب ويفصل ويديون ويحصل صاحب حساب وديونة وفراسة وعنونة يركب أطعمة وشرابات ومعاجين وعلوكات يعرف الطب والجراح وأياديه في كل صنعة ملاح.
صاحب العقل الزائد
خيره متزايد شره متباعد رضي الخلق حليم عفيف النفس كريم ليس بكذاب ولا لئيم لا يفرح بالمصيبة لأعدائه مشتغل بأدوائه لا يقصد إلا رضى الله راش بما قسم الله ينظر إلى المضطر بعين الفراسة ويواسيه بكياسة لا يحسد الأمير لإمارته ولا التاجر على تجارته مشتغل بالله فهو عبد الله كثير الصمت والسكون جعل الله لقلبه عيون فهو ضد المجنون لا يتكلم بغيبة ولا يفرح بمصيبة كيس ليس بزاعج وهو للأرواح ممازج يبذل المجهود في رضى الأصحاب وهو من أولي الألباب يفتح لكل خير باب عارف بطريق الصواب يكرم الفقراء ولا يجالس كثيف ولا يمل كل لطيف رجل همام والسلام.
وضد ذلك من الأشرار في الدرك الأسفل من النار وهو المنافق لغير دين الله موافق كلب أجرب للقلب خرب ثوب جثمانه من النفاق مضرب فهو للشيطان أقرب بالدينين يلعب زنديق مذبذب لا يأكل لحم الأضاحي ولا يبات ليلة في رمضان صاحي إن عبر كنيسة اليهود قاموا له بالجلود وإن عبر كنيسة النصارى وقع في الخسارى صلاته عوجاء لا وضوء ولا استنجاء لا يعبر جامع المسلمين إلا أن يكون يتفرج على القناديل خوان ليس بأمين يشهد بالزور في كل الأمور إن خوصم فجر وإن شهد قهر وإن استؤمن خان في كل زمان في كل الملل حيران فهو من أهل النيران.
الثاني: المسلوب الذوق الأحمق عقله ممزق وعيناه تتبحلق يعيط ويبقبق ساحله مزحلق من كثرة حمقه يزملق ولزوجته يطلق لا يهتدي لصواب ولا يتأمل رد جواب إن مدحته ازدراك وإن تركته عاداك وهجاك ما لعلته دواء والخير والشر عنده سواء لو فرشت خدك بالأرض ظن إن ذلك عليك فرض إذا لبس الشيء الحديد يظن الناس كلهم له عبيد في نفسه غلطان وَمِن البَليَّةِ عَذلُ مَن لا يرعوي عن جَهلِه وخِطابُ مَن لا يَفهَم فهو من أنكاد الدهر والخلق جميعاً منه في قهر رجل مطلاق سيىء الأخلاق سبحان الملك الخلاق.
لِكُلِ داء يَستَطِبُ بِه إلاّ الحَماقَة أعيت مَن يُداوِيها قيل للسيد المسيح صلوات الله وسلامه عليه أنت تبرىء الأكمة والأبرص وتحيى الموتى بإذن الله تعالى ولا تداوي الأحمق فقال: هذا الداء أعياني.
الثالث: النذل من الرجال قليل الوفاء مصفوح القفا قليل الغيرة مع كل خيل مغيرة قليل الأدب كثير الضحك بلا عجب كثير النوم قليل الهمة بين القوم لا يقضي حاجة كثير اللجاجة يأكل الكد الكثير ولا يرى لذلك تأثير ولو خربت الشام وسائر الثغور تراه من غير فكره في البجاقات يدور يلتذ بالكفاح كما يلتذ غيره بالنكاح يغوى الخصال القباح ويترك الخصائل الملاح كثير العيوب وهو من الذوق مسلوب وفيه أحسن من قال: يَدَعُ الذُبابُ جَميع جِسمِك سالمِاً وتَراهُ لا يأوِي لِغيرِ جَرِيحةِ كالنَذلِ يَعدِلُ عن جَميلِ صَديقِهِ وتَراهُ لا يأتِي لِغيرِ قَبيحةِ رحم الله من تأمل هذه الخصال وجعل بينه وبينها انفصال.
صاحب الذوق السليم من الملوك
قد سلك في المملكة أحسن سلوك أقامه الله لمصالح العباد بذلك أجاد وساد وعاد إلى الخير وصار بذلك لأولد الملوك أستاذ يعدل في الرعية ولا يجعل عسكره سوية بل ينزل الناس منازلهم ولا يقطع عوائدهم يستن السنة الحسنة ويعلم إن
(عدل ساعة خير من عبادة ألف سنة)
كريم سيوس لا يعجل في إتلاف النفوس يجير الخائف ويغيث الملهوف حامي دين الله بحد السيوف مجاهد مرابط فهو لدين الله ضابط يملك سائر الثغور مؤيد منصور ناصر طاهر كامل وافر رأيه سعيد فعله رشيد ورأيه سديد إذا وعد وفا قليل الجفاء لا يقرب السفهاء ولا الفساق خشية من سخط الخلاق قليل الخطاء كثير العطاء تاج الملوك مليح السلوك فهو لله مملوك كثير التواضع والسماح خصائله كلها ملاح وقد وهبه الله النصرة والنجاح والعفة والصلاح.
وضد ذلك المسلوب الذوق الأحمق من الملوك لا يفهم للملكة سلوك يتبع خطوات الشيطان يستعمل أظلم العمال لأجل جمع المال فيخرب البلاد ويهلك العباد وتصير بذلك أمراؤه جائعين ومماليكه ضائعين فما بال حال البائس الفقير المسكين تعطلت صناعته وكسدت بضاعته فلا أمير فرحان بإمارته ولا تاجر يربح في تجارته.يؤمر اللؤماء على الكرماء ويهين الفقراء ويزدري العلماء أيامه ظلام على جميع الأنام فيصير القدر مهان وكأن الخلق في زمن عبد الملك بن مروان إذ ولى الحجاج كم لها من هاج في ذلك المنهاج لما فعله بالمسلمين .
(ألا لَعنَةُ اللهِ عَلى الظالِمِين).
جبار عنيد كأنه الوليد وأعظم من ذلك في الظلم يزيد إن وعد أخلف وإن أصلح أتلف ما لمملكته رتبة وأجلابه أنحس جلبة لا يغيث ملهوف ولا له مع رافد معروف ولا يكشف كربة ولا يطلب عن الله قربة كأنه الشيخ عقبة يقتدي بآراء الفساق أحمق سيىء الأخلاق سبحان الخلاق يعجل في إتلاف النفوس برأيه المعكوس لا يتأمل كلام من كذب عنده ولا من صدق والدعوى عنده لمن سبق لا ينظر من كذب في أحوال العباد كأنه من قوم عاد يريد أن يكون ل بالصلاح سمعاً وهو كما قال الله تعالى: (وَهُم يَحسَبون أنَّهُم يُحسِنون صُنعاً).
يتبع