الشرح:
قوله: (باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس) أي الشرار منهم، وراعى في الترجمة لفظ الحديث، وقرينة إرادة الشرار من الناس ظاهرة من التشبيه الواقع في الحديث، والمراد بالنفي الإخراج، ولو كانت الرواية تنقي بالقاف لحمل لفظ الناس على عمومه.
وقد ترجم المصنف بعد أبواب " المدينة تنفي الخبث".
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ
الشرح:
قوله: (عن يحيى بن سعيد) هو الأنصاري وشيخه أبو الحباب بضم المهملة وبالموحدتين الأولى خفيفة، والإسناد كله مدنيون إلا شيخ البخاري، قال ابن عبد البر: اتفق الرواة عن مالك على إسناده إلا إسحاق بن عيسى الطباع فقال " عن مالك عن يحيى عن سعيد بن المسيب " بدل سعيد بن يسار، وهو خطأ.
قلت: وتابعه أحمد بن عمر عن خالد السلمي عن مالك، وأخرجه الدار قطني في " غرائب مالك " وقال هذا وهم والصواب عن يحيى عن سعيد بن يسار.
قوله: (أمرت بقرية) أي أمرني ربي بالهجرة إليها أو سكناها فالأول محمول على أنه قاله بمكة، والثاني على أنه قاله بالمدينة.
قوله: (تأكل القرى) أي تغلبهم.
وكنى بالأكل عن الغلبة لأن الآكل غالب على المأكول.
ووقع في " موطأ ابن وهب ": قلت لمالك ما تأكل القرى؟ قال: تفتح القرى.
وبسطه ابن بطال فقال: معناه يفتح أهلها القرى فيأكلون أموالهم ويسبون ذراريهم.
قال: وهذا من فصيح الكلام.
تقول العرب: أكلنا بلد كذا إذا ظهروا عليها.
وسبقه الخطابي إلى معنى ذلك أيضا.
وقال النووي: ذكروا في معناه وجهين، أحدهما هذا والآخر أن أكلها وميرتها من القرى المفتتحة وإليها تساق غنائمها.
وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون المراد بأكلها القرى غلبة فضلها على فضل غيرها، ومعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عدما.
قلت: والذي ذكره احتمالا ذكره القاضي عبد الوهاب فقال: لا معنى لقوله تأكل القرى إلا رجوح فضلها عليها وزيادتها على غيرها، كذا قال.
ودعوى الحصر مردودة لما مضى، ثم قال ابن المنير: وقد سميت مكة أم القرى، قال: والمذكور للمدينة أبلغ منه لأن الأمومة لا تنمحي إذا وجدت ما هي له أم، لكن يكون حق الأم أظهر وفضلها أكثر.
قوله: (يقولون يثرب وهي المدينة) أي أن بعض المنافقين يسميها يثرب، واسمها الذي يليق بها المدينة.
وفهم بعض العلماء من هذا كراهة تسمية المدينة يثرب وقالوا: ما وقع في القرآن إنما هو حكاية عن قول غير المؤمنين.
وروى أحمد من حديث البراء بن عازب رفعه " من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة هي طابة " وروى عمر بن شبة من حديث أبي أيوب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقال للمدينة يثرب " ولهذا قال عيسى بن دينار من المالكية: من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة.
قال: وسبب هذه الكراهة لأن يثرب إما من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة، أو من الثرب وهو الفساد، وكلاهما مستقبح، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح.
وذكر أبو إسحاق الزجاج في مختصره وأبو عبيد البكري في " معجم ما استعجم " أنها سميت بترب باسم يثرب بن قانية ابن مهلايل بن عيل بن عيص بن إرم بن سام بن نوح لأنه أول من سكنها بعد العرب، ونزل أخوه خيبور خيبر فسميت به، وسقط بعض الأسماء من كلام البكري.
قوله: (تنفي الناس) قال عياض: وكأن هذا مختص بزمنه لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه.
وقال النووي: ليس هذا بظاهر، لأن عند مسلم " لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد " وهذا والله أعلم زمن الدجال.
انتهى.
ويحتمل أن يكون المراد كلا من الزمنين، وكان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم كذلك للسبب المذكور، ويؤيده قصة الأعرابي الآتية بعد أبواب فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث معللا به خروج الأعرابي وسؤاله الإقالة عن البيعة، ثم يكون ذلك أيضا في آخر الزمان عندما ينزل بها الدجال فترجف بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه كما سيأتي بعد أبواب أيضا، وأما ما بين ذلك فلا.
قوله: (كما ينفي الكير) بكسر الكاف وسكون التحتانية، وفيه لغة أخرى كور بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ فيه لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد والصائغ.
قال ابن التين: وقيل الكير هو الزق والحانوت هو الكور.
وقال صاحب " المحكم ": الكير الزق الذي ينفخ فيه الحداد.
ويؤيد الأول ما رواه عمر بن شبة في " أخبار المدينة " بإسناد له إلى أبي مودود قال: رأى عمر بن الخطاب كير حداد في السوق فضربه برجله حتى هدمه.
والخبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة أي وسخه الذي تخرجه النار، والمراد أنها لا تترك فيها من في قلبه دغل، بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده.
ونسبة التمييز للكير لكونه السبب الأكبر في اشتعال النار التي يقع التمييز بها.
واستدل بهذا الحديث على أن المدينة أفضل البلاد.
قال المهلب: لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها، ولأنها تنفي الخبث وأجيب عن الأول بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين، وعن الثاني بأن ذلك إنما هو في خاص من الناس ومن الزمان بدليل قوله تعالى (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) والمنافق خبيث بلا شك، وقد خرج من المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود وطائفة ثم علي وطلحة والزبير وعمار وآخرون وهم من أطيب الخلق، فدل على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس ووقت دون وقت.
قال ابن حزم: لو فتحت بلد من بلد فثبت بذلك الفضل للأولى للزم أن تكون البصرة أفضل من خراسان وسجستان وغيرهما مما فتح من جهة البصرة وليس كذلك، وسيأتي مزيد لهذا في كتاب الاعتصام.
*3*
باب الْمَدِينَةُ طَابَةٌ
الشرح:
قوله: (باب المدينة طابة) أي من أسمائها إذ ليس في الحديث أنها لا تسمى بغير ذلك، وذكر فيه طرفا من حديث أبي حميد الساعدي وقد مضى مطولا في أواخر الزكاة، ووقع في بعض طرقه طابة وفي بعضها طيبة، وروى مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعا " أن الله سمى المدينة طابة " ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن سماك بلفظ " كانوا يسمون المدينة يثرب، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم طابة " وأخرجه أبو عوانة، والطاب والطيب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيب، وقيل لطهارة تربتها، وقيل لطيبها لساكنها، وقيل من طيب العيش بها.
وقال بعض أهل العلم: وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية، لأن من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها.
وقرأت بخط أبي على الصدفي في هامش نسخته من صحيح البخاري بخطه: قال الحافظ أمر المدينة في طيب ترابها وهوائها يجده من أقام بها، ويجد لطيبها أقوى رائحة، ويتضاعف طيبها فيها عن غيرها من البلاد، وكذلك العود وسائر أنواع الطيب.
وللمدينة أسماء غير ما ذكر، منها ما رواه عمر بن شبة في " أخبار المدينة " من رواية زيد بن أسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " للمدينة عشرة أسماء، هي: المدينة، وطابة، وطيبة، والمطيبة، والمسكينة، والدار، وجابرة، ومجبورة، ومنيرة، ويثرب".
ومن طريق محمد بن أبي يحيى قال " لم أزل أسمع أن للمدينة عشرة أسماء، هي: المدينة، وطيبة، وطابة، والمطيبة، والمسكينة، والمدري، والجابرة، والمجبورة، والمحببة، والمحبوبة".
ورواه الزبير في " أخبار المدينة " من طريق ابن أبي يحيى مثله وزاد " والقاصمة " ومن طريق أبي سهل بن مالك عن كعب الأحبار قال: نجد في كتاب الله الذي أنزل على موسى: أن الله قال للمدينة يا طيبة ويا طابة ويا مسكينة لا تقبلي الكنوز، أرفع أجاجيرك على القرى.
وروى الزبير في " أخبار المدينة " من حديث عبد الله بن جعفر قال: سمى الله المدينة الدار والإيمان.
ومن طريق عبد العزيز الدراوردي قال: بلغني أن لها أربعين اسما.
*3*
باب لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ
الشرح:
قوله: (باب لابتي المدينة) ذكر فيه حديث أبي هريرة " لو رأيت الظباء ترتع - أي تسعى أو ترعى - بالمدينة ما ذعرتها " أي ما قصدت أخذها فأخفتها بذلك، وكنى بذلك عن عدم صيدها.
واستدل أبو هريرة بقوله صلى الله عليه وسلم "ما بين لابتيها - أي المدينة - حرام " لأن المراد بذلك المدينة لأنها بين لابتين شرقية وغربية، ولها لابتان أيضا من الجانبين الآخرين إلا أنهما يرجعان إلى الأولين لاتصالهما بهما.
والحاصل أن جميع دورها كلها داخل ذلك، وقد تقدم شرح الحديث في الباب الأول.
وقوله "ترتع " أي ترعى وقيل تنبسط، وفي قول أبي هريرة هذا إشارة إلى قوله في الحديث الماضي " لا ينفر صيدها"، ونقل ابن خزيمة الاتفاق على أن الإجزاء في صيد المدينة بخلاف صيد مكة.
*3*
باب مَنْ رَغِبَ عَنْ الْمَدِينَةِ
الشرح:
قوله: (باب من رغب عن المدينة) أي فهو مذموم، أو باب حكم من رغب عنها.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ لَا يَغْشَاهَا إِلَّا الْعَوَافِ يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا
الشرح:
قوله: (تتركون المدينة) كذا للأكثر بتاء الخطاب، والمراد بذلك غير المخاطبين، لكنهم من أهل البلد أو من نسل المخاطبين أو من نوعهم، وروى " يتركون " بتحتانية ورجحه القرطبي.
قوله: (على خير ما كانت) أي على أحسن حال كانت عليه من قبل، قال القرطبي تبعا لعياض: قد وجد ذلك حيث صارت معدن الخلافة ومقصد الناس وملجأهم، وحملت إليها خيرات الأرض وصارت من أعمر البلاد، فلما انتقلت الخلافة عنها إلى الشام ثم إلى العراق وتغلبت عليها الأعراب تعاورتها الفتن وخلت من أهلها فقصدتها عوافي الطير والسباع.
والعواني جمع عافية وهي التي تطلب أقواتها، ويقال للذكر عاف.
قال ابن الجوزي: اجتمع في العوافي شيئان أحدهما أنها طالبة لأقواتها من قولك عفوت فلانا أعفوه فأنا عاف والجمع عفاة، أي أتيت أطلب معروفه، والثاني من العفاء وهو الموضع الخالي الذي لا أنيس به فإن الطير والوحش تقصده لأمنها على نفسها فيه.
وقال النووي: المختار أن هذا الترك يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة، ويؤيده قصة الراعيين فقد وقع عند مسلم بلفظ " ثم يحشر راعيان " وفي البخاري أنهما آخر من يحشر.
قلت: ويؤيده ما روى مالك عن ابن حماس بمهملتين وتخفيف عن عمه عن أبي هريرة رفعه " لتتركن المدينة على أحسن ما كانت حتى يدخل الذئب فيعوي على بعض سواري المسجد أو على المنبر.
قالوا: فلمن تكون ثمارها؟ قال: للعوافي الطير والسباع " أخرجه معن بن عيسى في " الموطأ " عن مالك ورواه جماعة من الثقات خارج الموطأ، ويشهد له أيضا ما روى أحمد والحاكم وغيرهما من حديث محجن بن الأدرع الأسلمي قال " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة، ثم لقيني وأنا خارج من بعض طرق المدينة فأخذ بيدي حتى أتينا أحدا، ثم أقبل على المدينة فقال: ويل أمها قرية يوم يدعها أهلها كأينع ما يكون.
قلت يا رسول الله من يأكل ثمارها؟ قال: عافية الطير والسباع".
وروى عمر بن شبة بإسناد صحيح عن عوف بن مالك قال " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ثم نظر إلينا فقال: أما والله ليدعنها أهلها مذللة أربعين عاما للعوافي، أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع".
قلت: وهذا لم يقع قطعا.
وقال المهلب: في هذا الحديث أن المدينة تسكن إلى يوم القيامة وإن خلت في بعض الأوقات لقصد الراعيين بغنمهما إلى المدينة.
قوله: (وآخر من يحشر راعيان من مزينة) هذا يحتمل أن يكون حديثا آخر مستقلا لا تعلق له بالذي قبله، ويحتمل أن يكون من تتمة الحديث الذي قبله، وعلى هذين الاحتمالين يترتب الاختلاف الذي حكيته عن القرطبي والنووي، والثاني أظهر كما قال النووي.
قوله: (ينعقان) بكسر المهملة بعدها قاف، النعيق زجر الغنم، يقال نعق ينعق بكسر العين وفتحها نعيقا ونعاقا ونعقانا إذا صاح بالغنم، وأغرب الداودي فقال: معناه يطلب الكلأ، وكأنه فسره بالمقصود من الزجر لأنه يزجرها عن المرعى الوبيل إلى المرعى الوسيم.
قوله: (فيجدانها وحوشا) أو يجدانها ذات وحش، أو يجدان أهلها قد صاروا وحوشا، وهذا على أن الرواية بفتح الواو أي يجدانها خالية وفي رواية مسلم " فيجدانها وحشا " أي خالية ليس بها أحد، والوحش من الأرض الخلاء، أو كثرة الوحش لما خلت من سكانها.
قال النووي: الصحيح أن معناه يجدانها ذات وحوش، قال: وقد يكون وحشا بمعنى وحوش، وأصل الوحش كل شيء توحش من الحيوان وجمعه وحوش، وقد يعبر بواحده عن جمعه.
وحكى عن ابن المرابط أن معناه أن غنم الراعيين المذكورين تصير وحوشا إما بأن تنقلب ذاتها وإما أن تتوحش وتنفر منهما، وعلى هذا فالضمير في يجدانها يعود على الغنم والظاهر خلافه.
قال النووي: الصواب الأول.
وقال القرطبي: القدرة صالحة لذلك.
انتهى.
ويؤيده أن في بقية الحديث أنهما يخران على وجوههما إذا وصلا إلى ثنية الوداع، وذلك قبل دخولهما المدينة بلا شك، فيدل على أنهما وجدا التوحش المذكور قبل دخول المدينة فيقوى أن الضمير يعود على غنمهما وكأن ذلك من علامات قيام الساعة.
ويوضح هذا رواية عمر بن شبة في " أخبار المدينة " من طريق عطاء بن السائب عن رجل من أشجع عن أبي هريرة موقوفا قال " آخر من يحشر رجلان رجل من مزينة وآخر من جهينة، فيقولان: أين الناس؟ فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعالب، فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس".
قوله "وآخر من يحشر " في رواية مسلم من طريق عقيل عن الزهري " ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة " لم يذكر في الحديث حشرهما، وإنما ذكر مقدمته، لأن الحشر إنما يقع بعد الموت، فذكر سبب موتهما والحشر يعقبه.
وقوله على هذا " خرا على وجوههما " أي سقطا ميتين، أو المراد بقوله خرا على وجوههما أي سقطا بمن أسقطهما، وهو الملك كما تقدم في رواية عمر بن شبة.
وفي رواية للعقيلي " أنهما كانا ينزلان بجبل ورقان"، وله من حديث حذيفة ابن أسيد " أنهما يفقدان الناس فيقولان: ننطلق إلى بني فلان، فيأتيانهم فلا يجدان أحدا فيقولان: ننطلق إلى المدينة، فينطلقان فلا يجدان بها أحدا، فينطلقان إلى البقيع فلا يريان إلا السباع والثعالب " وهذا يوضح أحد الاحتمالات المتقدمة، وقد روى ابن حبان من طريق عروة عن أبي هريرة رفعه " آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة"، وهو يناسب كون آخر من يحشر يكون منها.
(تنبيه) : أنكر ابن عمر على أبي هريرة تعبيره في هذا الحديث بقوله " خير ما كانت " وقال: إن الصواب أعمر ما كانت، أخرج ذلك عمر بن شبة في " أخبار المدينة " من طريق مساحق بن عمرو أنه كان جالسا عند ابن عمر " فجاء أبو هريرة فقال له: لم ترد على حديثي؟ فوالله لقد كنت أنا وأنت في بيت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منها أهلها خبر ما كنت.
فقال ابن عمر: أجل ولكن لم يقل خير ما كانت، إنما قال أعمر ما كانت، ولو قال خير ما كانت لكان ذلك وهو حي وأصحابه، فقال أبو هريرة: صدقت والذي نفسي بيده".
وروى مسلم من حديث حذيفة أنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يخرج أهل المدينة من المدينة، ولعمر بن شبة من حديث أبي هريرة " قيل يا أبا هريرة من يخرجهم؟ قال أمراء السوء".
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
الشرح:
قوله: (عن أبيه) هو عروة بن الزبير، وعبد الله بن الزبير أخوه.
وفي الإسناد صحابي عن صحابي وتابعي عن تابعي لأن هشاما قد لقي بعض الصحابة.
قوله: (عن سفيان بن أبي زهير) كذا للأكثر ورواه حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه كذلك وقال في آخره " قال عروة ثم لقيت سفيان بن أبي زهير عند موته فأخبرني بهذا الحديث " وذكر علي بن المديني أنه اختلف فيه على هشام اختلافا آخر، فقال وهيب وجماعة كما قال مالك.
وقال ابن عيينة عن هشام بسنده: عن سفيان بن الغوث.
وقال أبو معاوية عن هشام بسنده: عن سفيان بن عبد الله الثقفي قلت: قد رواه الحميدي عن سفيان على الصواب، ورواه أبو خيثمة عن جرير فقال: سفيان بن أبي قلابة، كأنه عرف خطأ جرير فكني عنه، واسم أبي زهير القرد بفتح القاف وكسر الراء بعدها مهملة وقيل نمير، وهو الشنوئي من أزد شنوءة بفتح المعجمة وضم النون وبعد الواو همزة مفتوحة وفي النسب كذلك، وقيل بفتح النون بعدها همزة مكسورة بلا واو، وشنوءة هو عبد الله بن كعب بن مالك بن نضر ابن الأزد، وسمي شنوءة لشنآن كان بينه وبين قومه.
قوله: (فتح اليمن) قال ابن عبد البر وغيره: افتتحت اليمن في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي أيام أبي بكر، وافتتحت الشام بعدها، والعراق بعدها.
وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد وقع على وفق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ترتيبه، ووقع تفرق الناس في البلاد لما فيها من السعة والرخاء، ولو صبروا على الإقامة بالمدينة لكان خيرا لهم.
وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة وهو أمر مجمع عليه.
وفيه دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض، ولم يختلف العلماء في أن للمدينة فضلا على غيرها، وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة.
قوله: (يبسون) بفتح أوله وضم الموحدة وبكسرها من بس يبس.
قال ابن عبد البر: في رواية يحيى بن يحيى بكسر الموحدة، وقيل إن ابن القاسم رواه بضمها، قال أبو عبيد: معناه يسوقون دوابهم، والبس سوق الإبل تقول بس بس عند السوق وإرادة السرعة.
وقال الداودي: معناه يزجرون دوابهم فيبسون ما يطؤونه من الأرض من شدة السير فيضير غبارا.
قال تعالى (وبست الجبال بسا) أي سالت سيلا، وقيل معناه سارت سيرا.
وقال ابن القاسم: البس المبالغة في الفت ومنه قيل للدقيق المصنوع بالدهن بسيس، وأنكر ذلك النووي وقال إنه ضعيف أو باطل.
قال ابن عبد البر: وقيل معنى يبسون يسألون عن البلاد ويستقرئون أخبارها ليسيروا إليها.
قال: وهذا لا يكاد يعرفه أهل اللغة.
وقيل معناه يزينون لأهلهم البلاد التي تفتح ويدعونهم إلى سكناها فيتحملون بسبب ذلك من المدينة راحلين إليها، ويشهد لهذا حديث أبي هريرة عند مسلم " يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، والمدينة خبر لهم لو كانوا يعلمون " وعلى هذا فالذين يتحملون غير الذين يبسون، كأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن البلد ورخاؤها فدعا قريبه إلى المجيء إليها لذلك فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه.
قال ابن عبد البر: وروى يبسون بضم أوله وكسر ثانيه من الرباعي من أبس إبساسا ومعناه يزينون لأهلهم البلد التي يقصدونها، وأصل الإبساس للتي تحلب حتى تدر باللبن، وهو أن يجري يده على وجهها وصفحة عنقها كأنه يزين لها ذلك ويحسنه لها، وإلى هذا ذهب ابن وهب، وكذا رواه ابن حبيب عن مطرف عن مالك يبسون من الرباعي وفسره بنحو ما ذكرنا، وأنكر الأول غاية الإنكار.
وقال النووي: الصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملا بأهله باسا في سيره مسرعا إلى الرخاء والأمصار المفتتحة.
قلت: ويؤيده رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام عن عروة في هذا الحديث بلفظ " تفتح الشام، فيخرج الناس من المدينة إليها يبسون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " ويوضح ذلك ما روى أحمد من حديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاء، ثم يأتون فيتحملون بأهليهم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".
وفي إسناده ابن لهيعة ولا بأس به في المتابعات، وهو يوضح ما قلناه، والله أعلم.
وروى أحمد في أول حديث سفيان هذا قصة أخرجها من طريق بشر بن سعيد أنه سمع في مجلس الليثيين يذكرون " أن سفيان بن أبي زهير أخبرهم أن فرسه أعيت بالعقيق وهو في بعث بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إليه يستحمله، فخرج معه يبتغي له بعيرا فلم يجده إلا عند أبي جهم بن حذيفة العدوي، فسامه له، فقال له أبو جهم: لا أبيعكها يا رسول الله، ولكن خذه فاحمل عليه من شئت.
ثم خرج حتى إذا بلغ بئر إهاب قال: يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان، ويوشك الشام أن يفتح، فيأتيه رجال من أهل هذا البلد فيعجبهم ريعه ورخاؤه، والمدينة خير لهم " الحديث.
قوله: (لو كانوا يعلمون) أي بفضلها من الصلاة في المسجد النبوي وثواب الإقامة فيها وغير ذلك، ويحتمل أن يكون " لو " بمعنى ليت فلا يحتاج إلى تقدير، وعلى الوجهين ففيه تجهيل لمن فارقها وآثر غيرها، قالوا والمراد به الخارجون من المدينة رغبة عنها كارهين لها، وأما من خرج لحاجة أو تجارة أو جهاد أو نحو ذلك فليس بداخل في معنى الحديث.
قال الطيبي: الذي يقتضيه هذا المقام أن ينزل ما لا يعلمون منزلة اللازم لتنتفي عنهم المعرفة بالكلية، ولو ذهب مع ذلك إلى التمني لكان أبلغ، لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله، أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظا وتشديدا.
وقال البيضاوي: المعنى أنه يفتح اليمن فيعجب قوما بلادها وعيش أهلها فيحملهم ذلك على المهاجرة إليها بأنفسهم وأهلهم حتى يخرجوا من المدينة، والحال أن الإقامة في المدينة خير لهم لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات، لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الدينية بالعوائد الأخروية التي يستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها.
وقواه الطيبي لتنكير قوم ووصفهم بكونهم يبسون، ثم توكيده بقوله " لو كانوا يعلمون " لأنه يشعر بأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية والحطام الفاني وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول، ولذلك كرر قوما ووصفه في كل قرينة بقوله يبسون استحضارا لتلك الهيئة القبيحة، والله أعلم.