الموضوع: قرأت لك
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-11-2013, 01:28 PM   #87
العوضابي

الصورة الرمزية العوضابي



العوضابي is on a distinguished road

افتراضي Re: قرأت لك


(60)
فقه الخلاف والمناظرة عند الامام الشافعى :

إن الله سبحانه وتعالى قيض لهذه الأمة أعلاما أجلاء، وعلماء ربانيين، أفنوا أعمارهم في سبيل خدمة هذا الدين، وجعل الله لهم بذلك لسان صدق في الآخرين، ومن أولئك الأعلام الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي، أحد أئمة المذاهب الأربعة الفقهية السنية المتبوعة، وأحد أبرز أعلام السنة المصونة، وصاحب كبرى مدرسة فقهية عرفتها الأمة الاسلامية.
والناظر في سير أولئك الأعلام يستفيد منهم علما ومنهجا ومسلكا، وقد تناولت الدراسات الكثيرة شخصية الإمام الشافعي فكتبت عنه مسالكه الفقهية والأصولية، وأبرزت علمه الحديثي والتفسيري، وبرز في أروقة القضايا النقدية أقوال للإمام الشافعي صارت مثلا عليا يقتدى بها ويستشهد بها من أمثال قوله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" ومثل قوله: "ما ناظرت أحدا إلا وودت أن يظهر الله الحق على لسانه"
فاق الإمام الشافعي في المقدرة النقدية علماء زمانه، وألم بأساليب النقد البناء وأخلاقياته، يقول هارون بن سعيد: "لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة بأنه من خشب لغلب لاقتداره على المناظرة" ومن مقدرته تلك أفاد الأمة الإسلامية في حياته، وأفادت منه الأمة من تراثه بعد وفاته.
لقد كانت حياة الإمام الشافعي في نهاية القرن الثاني الهجري، حين ظهرت الفرق والبدع في الساحة الإسلامية، وبرز في المدارس الفقهية مدرستان عظيمتان كان بين أتباعهما تشاجر يصل إلى العداوة في بعض الأحيان: (1) مدرسة الأثر والحديث برئاسة الإمام مالك في الحجاز، (2) مدرسة الفقهاء أو أصحاب الرأي بالعراق برئاسة الإمام أبي حنيفة وتلامذته، فجمع الله به بين الطائفتين، فقه مع العناية بالآثار والرواية، فرد على الطائفتين، رد على الإمام مالك وأهل الحجاز في تجريد السنة عن الفقه، ورد على الأحناف في تقديم القياس على النص، ووضع القواعد للأصول الفقهية وهو أول من دون في أصول الفقه لضبط الخلافات الفقهية، يقول الإمام أحمد: "ما عرفنا العموم من الخصوص، وناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي" فكان في العلماء بالمنزلة التي قال عنه الإمام أحمد"كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلف، أو منهما من عوض" ومع أن مناظراته في العقيدة ومع أصحاب البدع قليلة بالنظر إلى مناظراته الفقهية فإن كتب التراجم والسير حفظت لنا الكثير من مناظراته العقدية أيضا، فرحم الله الإمام الشافعي وأدخله فسيح جناته.
منهجية النقد والخلاف لدى الإمام الشافعي :
أثر الخلاف على الأخوة والمودة :
قد يعتقد البعض أن المخالف لا بد وأن يبغضك، وأن البغض هو الذي حمله على المخالفة، ولكننا نقرأ في منهجية الإمام الشافعي النقدية خلاف ذلك، فقد ردّ على الإمام أبي حنيفة والإمام مالك وغيرهما مع ما أثبته من حبه لهما، واحتوى ديوانه الشعري على أبيات في مدح الإمامين، كما احتوى كتابه الأم على رد وافر لهما أيضا، يقول يونس الصدفي: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة" يعلق الذهبي على هذا فيقول: "هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون" وهكذا كان الإمام الشافعي واسع الأفق في القضايا النقدية، فهو وأن اختلف مع زميله في مسألة تبقى مسائل أخرى كثيرة يتفقون عليها يحافظ بها على أواصر الصداقة والأخوة والمحبة، ولو أننا التزمنا هذه المنهجية في نقدنا المعاصر لاحتوينا على الخلاف بين الأخوان، ولقل النزاع والشقاق بين الأخوة المتحابين.
منهجية اعتبار حجم الخلاف:
إن الخلاف على درجات متفاوتة، وليس الخلاف في العقيدة كالخلاف في الفروع الفقهية، وليس الخلاف على أمر مجمع عليه كالخلاف في مسائل يسوغ الخلاف فيها يقول محمد بن الحكم: "كان الشافعي بعد أن ناظر حفصا الفرد يكره الكلام، وكان يقول لأن يفتي العالم فيقال أخطأ العالم خير له من أن يتكلم فيقال زنديق، وما شيء أبغض علي من الكلام وأهله" ويعلق عليها الذهبي فيقول: "وهذا دال على أن مذهب أبي عبد الله أن الخطأ في الأصول ليس كالخطأ في الاجتهاد في الفروع" ويقول المزني: "سألت الشافعي عن مسألة من الكلام، فقال سلني عن شيء إذا أخطأت فيه قلت أخطأت، ولا تسألني عن شيء إذا أخطأت فيه قلت كفرت" كما أنه ليست كل قضية تستحق النقد، ولا كل ما يطرح من أفكار ورؤى تستحق المناقشة، ولا كل صاحب قضية أهلا للنقاش، فمن القضايا ما نقده السكوت عنه، وفي ذلك يقول الشافعي:
قل بما شئت في مسبة عرضي فسكوتي عن اللئيم جواب
ما أنا عادم الجواب ولكن ما من الأسد أن تجيب الكلاب.
ويقول:
يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا
ومن هذا نستفيد أهمية أن يعرف العالم مكانته، ويصون علمه وما امتن الله عليه من الفقه أن يجاري بها السفهاء، وقد كانت عزة النفس من غير تكبر سمة أهل العلم فقد أخرج البخاري معلقا عن ربيعة بن عبد الرحمن " ربيعة الرأي" قوله: "لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه"
منهجية التثبت العلمي:
يقول الإمام الشافعي: "اجتمع علي أصحاب الحديث فسألوني أن أضع على كتاب أبي حنيفة، فقلت لا أعرف قولهم حتى أنظر في كتبهم، فأمرت فكتب لي كتب محمد بن الحسن، فنظرت فيها سنة حتى حفظتها ثم وضعت الكتاب البغدادي يعني الحجة" ويقول الإمام الشافعي: "أنفقت على كتب محمد بن الحسن ستين دينارا، ثم تدبرتها فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثا" يقول ابن حجرا يعني ردا عليه ومن التروي وعدم العجلة في الرد: قول الشافعي: " استخرت الله في الرد على مالك سنة" وهذا كله احتياط لجانب النقد، وإبراز لمكانة التثبت في النقد.
سمو الهدف للنقد، فليس النقد من أجل النقد، ولا من أجل الرياء والشهرة يقول الساجي " أن الشافعي إنما وضع الكتب على مالك أنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يستسقى بها، وكان يقال لهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون قال مالك، فقال الشافعي إن مالكا بشر يخطئ فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه" ويقول عن نفسه رحمه الله: "يقولون إنما أخالفهم للدنيا، وكيف يكون ذلك والدنيا معهم، وإنما يريد الإنسان الدنيا لبطنه وفرجه، وقد منعت ما ألذ من المطاعم، ولا سبيل إلى النكاح، -يعني لما كان به من البواسير-، ولكن لست أخالف إلا من خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"
منهجية الحرص على صواب المخالف: وهذه قل أن نجدها في غير أعلام الإسلام كالشافعي، فالحرص على توصيل الحق قد يوجد، ولكن الحرص على أن المخالف هو المصيب منهجية فريدة من الإمام، يروي الخلال عن الشافعي قوله: "ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطئ" يقول حسن الكرابيسي وهو أحد رواة المذهب القديم قال الإمام الشافعي: "ما ناظرت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق أو يسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحدا إلا ولم أبال بين الله الحق على لساني أو على لسانه"
يقول الربيع سمعت الشافعي يقول: "ما عرضت الحجة على أحد فيقبلها إلا عظم في عيني، ولا عرضتها على أحد فردّها إلا سقط من عيني" ويقول: "ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته، واعتقدت مودته، ولا كابرني على الحق أحد ودافع الحجة إلا سقط من عيني" ويقول: " ما ضحك من خطأ رجل إلا ثبت صوابه في قلبه"

……………نواصل:

(61)

العوضابي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس